فصل: الفصل السَّابِعُ: فِي تَخْصِيصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ، أَوْ سَلَّمَ مِنَ الْأَنَامِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشفا بتعريف حقوق المصطفى ***


الفصل السَّابِعُ‏:‏ فِي تَخْصِيصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَبْلِيغِ صَلَاةِ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ، أَوْ سَلَّمَ مِنَ الْأَنَامِ

‏[‏حَدَّثَنَا الْقَاضِي عَبْدُ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا ابْنُ دَاسَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْفٍ، حَدَّثَنَا الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ حُمَيْدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ‏]‏، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ»‏.‏

وَذَكَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ عِنْدَ قَبْرِي سَمِعْتُهُ، وَمَنْ صَلَّى عَلِيَّ نَائِيًا بُلِّغْتُهُ»‏.‏

وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ‏:‏ «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي عَنْ أُمَّتِي السَّلَامَ»‏.‏ وَنَحْوُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ ‏:‏ «أَكْثِرُوا مِنَ السَّلَامِ عَلَى نَبِيِّكُمْ كُلَّ جُمُعَةٍ، فَإِنَّهُ يُؤْتَى بِهِ مِنْكُمْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ «فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا عُرِضَتْ صَلَاتُهُ عَلَيَّ حِينَ يَفْرُغُ مِنْهَا»‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ، عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «حَيْثُمَا كُنْتُمْ فَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏:‏ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ إِلَّا بَلَغَهُ‏.‏

وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَ عَلَيْهِ اسْمُهُ‏.‏

وَعَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ‏:‏ إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَسَلِّمْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «لَا تَتَّخِذُوا بَيْتِي عِيدًا، وَلَا تَتَّخِذُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ حَيْثُ كُنْتُمْ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَوْسٍ‏:‏ «أَكْثِرُوا عَلَيَّ مِنَ الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ مَعْرُوضَةٌ عَلَيَّ»‏.‏

وَعَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ سُحَيْمٍ‏:‏ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْتُونَكَ فَيُسَلِّمُونَ عَلَيْكَ، أَتَفْقَهُ سَلَامَهُمْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «نَعَمْ، وَأَرُدُّ عَلَيْهِمْ»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ‏:‏ بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «أَكْثِرُوا مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فِي اللَّيْلَةِ الزَّهْرَاءِ، وَالْيَوْمِ الْأَزْهَرِ، فَإِنَّهُمَا يُؤَدِّيَانِ عَنْكُمْ، وَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ أَجْسَادَ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصَلِّي عَلَيَّ إِلَّا حَمَلَهَا مَلَكٌ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إِلَيَّ، وَيُسَمِّيهِ حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ‏:‏ إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ كَذَا، وَكَذَا»‏.‏

الفصل الثَّامِنُ‏:‏ فِي الِاخْتِلَافِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ

قَالَ الْقَاضِي- وَفَّقَهُ اللَّهُ-‏:‏ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ‏:‏ لَا تَنْبَغِي الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا النَّبِيِّينَ‏.‏

وَقَالَ سُفْيَانُ ‏:‏ يُكْرَهُ أَنْ يُصَلَّى إِلَّا عَلَى نَبِيٍّ‏.‏

وَوَجَدْتُ بِخَطِّ بَعْضِ شُيُوخِي‏:‏ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ سِوَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطَةِ لِيَحْيَى بْنِ إِسْحَاقَ ‏:‏ أَكْرَهُ الصَّلَاةَ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَا يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَعَدَّى مَا أُمِرْنَا بِهِ‏.‏

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ‏:‏ لَسْتُ آخُذُ بِقَوْلِهِ، وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ، وَبِمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ‏:‏ وَعَلَى أَزْوَاجِهِ، وَعَلَى آلِهِ‏.‏

وَقَدْ وَجَدْتُ مُعَلَّقًا عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ‏:‏ رَوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ وَبِهِ نَقُولُ‏.‏ وَلَمْ يَكُنْ يُسْتَعْمَلُ فِيمَا مَضَى‏.‏

وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «صَلُّوا عَلَى أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ بَعَثَهُمْ كَمَا بَعَثَنِي»‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَالْأَسَانِيدُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيِّنَةٌ، وَالصَّلَاةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ بِمَعْنَى التَّرَحُّمِ، وَالدُّعَاءِ، وَذَلِكَ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتَّى يَمْنَعَ مِنْهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ أَوْ إِجْمَاعٌ‏.‏

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ، وَمَلَائِكَتُهُ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 43‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 103‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 157‏]‏‏.‏

وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ أَبِي أَوْفَى» وَكَانَ إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ‏:‏ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلَانٍ»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ الصَّلَاةِ‏:‏ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى أَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ»‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ‏:‏ «وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ»، قِيلَ‏:‏ أَتْبَاعُهُ، وَقِيلَ‏:‏ آلُ بَيْتِهِ، وَقِيلَ‏:‏ أُمَّتُهُ، وَقِيلَ‏:‏ الْأَتْبَاعُ، وَالرَّهْطُ، وَالْعَشِيرَةُ، وَقِيلَ‏:‏ آلُ الرَّجُلِ وَلَدُهُ، وَقِيلَ‏:‏ قَوْمُهُ، وَقِيلَ‏:‏ أَهْلُهُ الَّذِينَ حَرُمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ‏:‏ سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ مَنْ آلُ مُحَمَّدٍ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «كُلُّ تَقِيٍّ»‏.‏

وَيَجِيءُ عَلَى مَذْهَبِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمُرَادَ بِآلِ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدٌ نَفْسُهُ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي صِلَاتِهِ عَلَى النَّبِيِّ‏:‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْ صَلَوَاتِكَ وَبَرَكَاتِكَ عَلَى آلِ مُحَمَّدٍ يُرِيدُ نَفْسَهُ، لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُخِلُّ بِالْفَرْضِ، وَيَأْتِي بِالنَّفْلِ، لِأَنَّ الْفَرْضَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ هُوَ الصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَفْسِهِ‏.‏

وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَقَدْ أُوتِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ» يُرِيدُ مِنْ مَزَامِيرِ دَاوُدَ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ فِي الصَّلَاةِ‏:‏ «اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَأَزْوَاجِهِ، وَذُرِّيَّتِهِ»‏.‏

وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى الْأَنْدَلُسِيِّ‏.‏

وَالصَّحِيحُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِ‏:‏ وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ‏:‏ كُنَّا نَدْعُو لِأَصْحَابِنَا بِالْغَيْبِ، فَنَقُولُ‏:‏ اللَّهُمَّ اجْعَلْ مِنْكَ عَلَى فُلَانٍ صَلَوَاتِ قَوْمٍ أَبْرَارٍ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِاللَّيْلِ، وَيَصُومُونَ بِالنَّهَارِ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي ‏:‏ وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَأَمِيلُ إِلَيْهِ مَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَسُفْيَانُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ ذِكْرِهِمْ، بَلْ هُوَ شَيْءٌ يَخْتَصُّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ، تَوْقِيرًا لَهُمْ، وَتَعْزِيزًا، كَمَا يُخَصُّ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ ذِكْرِهِ بِالتَّنْزِيهِ، وَالتَّقْدِيسِ، وَالتَّعْظِيمِ، وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، كَذَلِكَ يَجِبُ تَخْصِيصُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ بِالصَّلَاةِ، وَالتَّسْلِيمِ، وَلَا يُشَارَكُهُ فِيهِ سِوَاهُمْ، كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 56‏]‏‏.‏

وَيُذْكَرُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَغَيْرِهِمْ بِالْغُفْرَانِ وَالرِّضَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ‏}‏ ‏[‏الْحَشْرِ‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 100‏]‏‏.‏

وَأَيْضًا فَهُوَ أَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ أَبُو عِمْرَانَ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ الرَّافِضَةُ وَالْمُتَشَيِّعَةُ فِي بَعْضِ الْأَئِمَّةِ، فَشَارَكُوهُمْ عِنْدَ الذِّكْرِ لَهُمْ بِالصَّلَاةِ، وَسَاوَوْهُمْ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ التَّشْبِيهَ بِأَهْلِ الْبِدَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَتَجِبُ مُخَالَفَتُهُمْ فِيمَا الْتَزَمُوهُ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَذِكْرُ الصَّلَاةِ عَلَى الْآلِ وَالْأَزْوَاجِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ التَّتَبُّعِ، وَالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ لَا عَلَى التَّخْصِيصِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَصَلَاةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَجْرَاهَا مَجْرَى الدُّعَاءِ، وَالْمُوَاجَهَةُ لَيْسَ فِيهَا مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّوْقِيرِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا‏}‏ ‏[‏النُّورِ‏:‏ 61‏]‏، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الدُّعَاءُ لَهُ مُخَالِفًا لِدُعَاءِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ‏.‏

وَهَذَا اخْتِيَارُ الْإِمَامِ أَبِي الْمُظَفَّرِ الْإِسْفَرَائِينِيِّ مِنْ شُيُوخِنَا، وَبِهِ قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ‏.‏

الفصل التَّاسِعُ‏:‏ فِي حُكْمِ زِيَارَةِ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَضِيلَةِ مَنْ زَارَهُ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، وَكَيْفَ يُسَلِّمُ، وَيَدْعُو

وَزِيَارَةُ قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ الْمُسْلِمِينَ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَفَضِيلَةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا‏.‏

‏[‏حَدَّثَنَا الْقَاضِي أَبُو عَلِيٍّ ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ خَيْرُونَ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْقَاضِي الْمُحَامِلِيُّ، قَالَا‏:‏ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ هِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ‏]‏، عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، قَالَ‏:‏ قَالَ‏:‏ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ زَارَ قَبْرِي، وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي»‏.‏

وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَنْ زَارَنِي فِي الْمَدِينَةِ مُحْتَسِبًا كَانَ فِي جِوَارِي، وَكُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ‏:‏ «مَنْ زَارَنِي بَعْدَ مَوْتِي فَكَأَنَّمَا زَارَنِي فِي حَيَاتِي»‏.‏

وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ‏:‏ زُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَقِيلَ‏:‏ كَرَاهِيَةُ الِاسْمِ، لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَعَنَ اللَّهُ زَوَّارَاتِ الْقُبُورِ»‏.‏

وَهَذَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ‏:‏ «نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا»‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «مَنْ زَارَ قَبْرِي»، فَقَدْ أَطْلَقَ اسْمَ الزِّيَارَةِ، وَقِيلَ لِأَنَّ ذَلِكَ لِمَا قِيلَ‏:‏ إِنَّ الزَّائِرَ أَفْضَلُ مِنَ الْمَزُورِ‏.‏ وَهَذَا أَيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إِذْ لَيْسَ كُلُّ زَائِرٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَلَيْسَ هَذَا عُمُومًا‏.‏

وَقَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَهْلِ الْجَنَّةِ‏:‏ «زِيَارَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ»، وَلَمْ يُمْنَعْ هَذَا اللَّفْظُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى‏.‏

وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ-‏:‏ إِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُقَالَ‏:‏ طَوَافُ الزِّيَارَةِ، وَزُرْنَا قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِاسْتِعْمَالِ النَّاسِ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، وَكَرِهَ تَسْوِيَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ النَّاسِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَأَحَبَّ أَنْ يُخَصَّ بِأَنْ يُقَالَ‏:‏ سَلَّمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ الزِّيَارَةَ مُبَاحَةٌ بَيْنَ النَّاسِ، وَوَاجِبٌ شَدُّ الْمَطِيِّ إِلَى قَبْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرِيدُ بِالْوُجُوبِ هُنَا وُجُوبَ نَدْبٍ، وَتَرْغِيبٍ، وَتَأْكِيدٍ، لَا وُجُوبَ فَرْضٍ‏.‏

وَالْأَوْلَى عِنْدِي أَنَّ مَنْعَهُ، وَكَرَاهَةَ مَالِكٍ لَهُ لِإِضَافَتِهِ إِلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ‏:‏ زُرْتُ النَّبِيَّ لَمْ يَكْرَهْهُ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي، وَثَنًا يُعْبَدُ بَعْدِي، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»‏.‏

فَحَمَى إِضَافَةَ هَذَا اللَّفْظِ إِلَى الْقَبْرِ، وَالتَّشَبُّهَ بِفِعْلِ أُولَئِكَ، قَطْعًا لِلذَّرِيعَةِ، وَحَسْمًا لِلْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْفَقِيهُ ‏:‏ وَمِمَّا لَمْ يَزَلْ مِنْ شَأْنِ مَنْ حَجَّ الْمُرُورُ بِالْمَدِينَةِ، وَالْقَصْدُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّبَرُّكُ بِرُؤْيَةِ رَوْضَتِهِ، وَمِنْبَرِهِ، وَقَبْرِهِ، وَمَجْلِسِهِ، وَمَلَامِسِ يَدَيْهِ، وَمَوَاطِئِ قَدَمَيْهِ، وَالْعَمُودِ الَّذِي كَانَ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ، وَيَنْزِلُ جِبْرِيلُ بِالْوَحْي فِيهِ عَلَيْهِ، وَبِمَنْ عَمَرَهُ، وَقَصَدَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالِاعْتِبَارِ بِذَلِكَ كُلِّهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ ‏:‏ سَمِعْتُ بَعْضَ مَنْ أَدْرَكْتُ يَقُولُ‏:‏ بَلَغَنَا أَنَّهُ مَنْ وَقَفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 56‏]‏ ثُمَّ قَالَ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ مَنْ يَقُولُهَا سَبْعِينَ مَرَّةً نَادَاهُ مَلَكٌ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْكَ يَا فُلَانُ وَلَمْ تَسْقُطْ لَهُ حَاجَةٌ‏.‏

وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَهْرِيِّ ‏:‏ قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَلَمَّا وَدَّعْتُهُ قَالَ‏:‏ لِي إِلَيْكَ حَاجَةٌ، إِذَا أَتَيْتَ الْمَدِينَةَ سَتَرَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْرِهِ مِنِّي السَّلَامَ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ وَكَانَ يُبْرِدُ إِلَيْهِ الْبَرِيدَ مِنَ الشَّامِ‏.‏

قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ رَأَيْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَتَى قَبْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَقَفَ فَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ، فَسَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ انْصَرَفَ‏.‏

وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ‏:‏ إِذَا سَلَّمَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَا، يَقِفُ وَوَجْهُهُ إِلَى الْقَبْرِ الشَّرِيفِ لَا إِلَى الْقِبْلَةِ، وَيَدْنُو، وَيُسَلِّمُ، وَلَا يَمَسُّ الْقَبْرَ بِيَدِهِ‏.‏

وَقَالَ فِي الْمَبْسُوطِ ‏:‏ لَا أَرَى أَنْ يَقِفَ عِنْدَ قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو، وَلَكِنْ يُسَلِّمُ، وَيَمْضِي‏.‏

قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ ‏:‏ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقُومَ، وِجَاهَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَجْعَلِ الْقِنْدِيلَ الَّذِي عِنْدَ الْقَبْرِ عَلَى رَأْسِهِ‏.‏

وَقَالَ نَافِعٌ ‏:‏ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يُسَلِّمُ عَلَى الْقَبْرِ، رَأَيْتُهُ مِائَةَ مَرَّةٍ وَأَكْثَرَ يَجِيءُ إِلَى الْقَبْرِ فَيَقُولُ‏:‏ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، السَّلَامُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَى أَبِي، ثُمَّ يَنْصَرِفُ‏.‏

وَرُئِيَ ابْنُ عُمَرَ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى مَقْعَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى وَجْهِهِ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ قُسَيْطٍ، وَالْعُتْبِيِّ‏:‏ كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خَلَا الْمَسْجِدُ حَسُّوا رُمَّانَةَ الْمِنْبَرِ الَّتِي تَلِي الْقَبْرَ بِمَيَامِنِهِمْ، ثُمَّ اسْتَقْبَلُوا الْقِبْلَةَ يَدْعُونَ‏.‏

وَفِي الْمُوَطَّأِ مِنْ رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ يَحْيَى اللَّيْثِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ، وَعَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْقَعْنَبِيِّ‏:‏ وَيَدْعُو لِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ‏.‏

قَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ‏:‏ يَقُولُ الْمُسْلِمُ‏:‏ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ، وَبَرَكَاتُهُ‏.‏

قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ ‏:‏ وَيُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ‏:‏ وَعِنْدِي أَنَّهُ يَدْعُو لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظِ الصَّلَاةِ، وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ مِنَ الْخِلَافِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ ‏:‏ وَيَقُولُ إِذَا دَخَلَ مَسْجِدَ الرَّسُولِ‏:‏ بِسْمِ اللَّهِ، وَسَلَامٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، وَصَلَّى اللَّهُ، وَمَلَائِكَتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ‏.‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَجَنَّتِكَ، وَاحْفَظْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، ثُمَّ اقْصِدْ إِلَى الرَّوْضَةِ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ، وَالْمِنْبَرِ فَارْكَعْ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ وُقُوفِكَ بِالْقَبْرِ تَحْمَدُ اللَّهَ فِيهِمَا، وَتَسْأَلُهُ تَمَامَ مَا خَرَجْتَ إِلَيْهِ، وَالْعَوْنَ عَلَيْهِ‏.‏

وَإِنْ كَانَتْ رَكْعَتَاكَ فِي غَيْرِ الرَّوْضَةِ أَجْزَأَتَاكَ، وَفِي الرَّوْضَةِ أَفْضَلُ‏.‏

وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَا بَيْنَ مِنْبَرِي، وَقَبْرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ»‏.‏

ثُمَّ تَقِفُ مُتَوَاضِعًا مُتَوَقِّرًا، فَتُصَلِّي عَلَيْهِ، وَتُثْنِي بِمَا يَحْضُرُكَ، وَتُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَتَدْعُو لَهُمَا‏.‏

وَأَكْثِرْ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّيْلِ، وَالنَّهَارِ، وَلَا تَدَعْ أَنْ تَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَاءٍ، وَقُبُورَ الشُّهَدَاءِ‏.‏

قَالَ مَالِكٌ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ‏:‏ وَيُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ، وَخَرَجَ يَعْنِي فِي الْمَدِينَةِ، وَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ‏.‏

قَالَ مُحَمَّدٌ ‏:‏ وَإِذَا خَرَجَ جَعَلَ آخِرَ عَهْدِهِ الْوُقُوفَ بِالْقَبْرِ، وَكَذَلِكَ مَنَ خَرَجَ مُسَافِرًا‏.‏

وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «إِذَا دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ فَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ‏.‏ وَإِذَا خَرَجْتَ فَصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ذُنُوبِي، وَافْتَحْ لِي أَبْوَابَ فَضْلِكَ»‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى‏:‏ فَلْيُسَلِّمْ مَكَانَ فَلْيُصَلِّ فِيهِ، وَيَقُولُ إِذَا خَرَجَ‏:‏ «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ»‏.‏

وَفِي أُخْرَى‏:‏ «اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»‏.‏

وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ ‏:‏ كَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ إِذَا دَخَلُوا الْمَسْجِدَ‏:‏ صَلَّى اللَّهُ، وَمَلَائِكَتُهُ عَلَى مُحَمَّدٍ‏.‏ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ، بِاسْمِ اللَّهِ دَخَلْنَا، وَبِاسْمِ اللَّهِ خَرَجْنَا، وَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا‏.‏ وَكَانُوا يَقُولُونَ إِذَا خَرَجُوا مِثْلَ ذَلِكَ‏.‏

وَعَنْ فَاطِمَةَ أَيْضًا‏:‏ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ‏:‏ «صَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَسَلَّمَ»‏.‏ ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ فَاطِمَةَ قَبْلَ هَذَا‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ حَمِدَ اللَّهَ، وَسَمَّى، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ مِثْلَهُ‏.‏

وَفِي رِوَايَةٍ‏:‏ بِاسْمِ اللَّهِ، وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَعَنْ غَيْرِهَا‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ‏:‏ «اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ، وَيَسِّرْ لِي أَبْوَابَ رِزْقِكَ»‏.‏

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ‏:‏ إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ فَلْيُصَلِّ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلْيَقُلِ‏:‏ اللَّهُمَّ افْتَحْ لِي‏.‏

وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمَبْسُوطِ ‏:‏ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، وَخَرَجَ مِنْهُ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ الْوُقُوفُ بِالْقَبْرِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِلْغُرَبَاءِ‏.‏

وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا‏:‏ لَا بَأْسَ لِمَنْ قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ أَنْ يَقِفَ عَلَى قَبْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ، وَيَدْعُوَ لَهُ، وَلِأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ‏.‏

فَقِيلَ لَهُ‏:‏ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَا يَقْدِمُونَ مِنْ سَفَرٍ، وَلَا يُرِيدُونَهُ، يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَرُبَّمَا وَقَفُوا فِي الْجُمُعَةِ أَوْ فِي الْأَيَّامِ الْمَرَّةَ، وَالْمَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ عِنْدَ الْقَبْرِ فَيُسَلِّمُونَ، وَيَدْعُونَ سَاعَةً‏!‏‏.‏

فَقَالَ‏:‏ لَمْ يَبْلُغْنِي هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ بِبَلَدِنَا، وَتَرْكُهُ وَاسِعٌ، وَلَا يُصْلِحُ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا مَا أَصْلَحَ أَوَّلَهَا، وَلَمْ يَبْلُغْنِي عَنْ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَصَدْرِهَا أَنَّهُمْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وَيُكْرَهُ إِلَّا لِمَنْ جَاءَ مِنْ سَفَرٍ أَوْ أَرَادَهُ‏.‏

قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ ‏:‏ وَرَأَيْتُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ إِذَا خَرَجُوا مِنْهَا أَوْ دَخَلُوهَا أَتَوُا الْقَبْرَ فَسَلَّمُوا، قَالَ‏:‏ وَذَلِكَ رَأْيٌ‏.‏

قَالَ الْبَاجِيُّ ‏:‏ فَفَرْقٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْغُرَبَاءِ، لِأَنَّ الْغُرَبَاءَ قَصَدُوا لِذَلِكَ، وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ مُقِيمُونَ بِهَا لَمْ يَقْصِدُوهَا مِنْ أَجْلِ الْقَبْرِ وَالتَّسْلِيمِ‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا»‏.‏

وَمِنْ كِتَابِ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الْهِنْدِيِّ فِيمَنْ وَقَفَ بِالْقَبْرِ‏:‏ لَا يَلْصَقُ بِهِ، وَلَا يَمَسُّهُ، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهُ طَوِيلًا‏.‏

وَفِي الْعُتْبِيَّةِ‏:‏ يَبْدَأُ بِالرُّكُوعِ قَبْلَ السَّلَامِ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَحَبُّ مَوَاضِعِ التَّنَفُّلِ فِيهِ مُصَلَّى النَّبِيِّ حَيْثُ الْعَمُودُ الْمُخَلَّقُ‏.‏

وَأَمَّا فِي الْفَرِيضَةِ فَالتَّقَدُّمُ إِلَى الصُّفُوفِ، وَالتَّنَفُّلُ فِيهِ لِلْغُرَبَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ التَّنَفُّلِ فِي الْبُيُوتِ‏.‏

الفصل الْعَاشِرُ‏:‏ آدَابُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ، وَفَضْلِهِ

فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَدَبِ سِوَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَفَضْلِهِ، وَفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِي مَسْجِدِ مَكَّةَ، وَذِكْرِ قَبْرِهِ، وَمِنْبَرِهِ، وَفَضْلِ سُكْنَى الْمَدِينَةِ، وَمَكَّةَ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 108‏]‏‏.‏ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ‏:‏ أَيُّ مَسْجِدٍ هُوَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «مَسْجِدِي هَذَا»‏.‏

وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَغَيْرِهِمْ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ مَسْجِدُ قُبَاءٍ‏.‏

حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ النَّمِرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دَاسَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ‏:‏ «لَا تُشَدُّ الرَّحَّالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ‏:‏ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى»‏.‏

وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْآثَارُ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ‏.‏

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ‏:‏ «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ، وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ، مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ»‏.‏

وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ-‏:‏ سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- صَوْتًا فِي الْمَسْجِدِ، فَدَعَا بِصَاحِبِهِ، فَقَالَ‏:‏ مِمَّنْ أَنْتَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ‏.‏ قَالَ‏:‏ لَوْ كُنْتَ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَرْيَتَيْنِ لَأَدَّبْتُكَ، إِنَّ مَسْجِدَنَا لَا يُرْفَعُ فِيهِ الصَّوْتُ‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ‏:‏ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَمِدَ الْمَسْجِدَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ، وَلَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَذَى، وَأَنْ يُنَزَّهَ عَمَّا يُكْرَهُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي ‏:‏ حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ فِي مَبْسُوطِهِ ، فِي بَابِ فَضْلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَالْعُلَمَاءُ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ هَذَا الْحُكْمُ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ ‏:‏ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ ‏:‏ وَيُكْرَهُ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَهْرُ عَلَى الْمُصَلِّينَ فِيمَا يُخَلِّطُ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتِهِمْ، وَلَيْسَ مِمَّا يُخَصُّ بِهِ الْمَسَاجِدُ رَفْعُ الصَّوْتِ، وَقَدْ كُرِهَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَنَا‏.‏

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»‏.‏

قَالَ الْقَاضِي ‏:‏ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ عَنْهُ، وَقَالَهُ ابْنُ نَافِعٍ صَاحِبُهُ، وَجَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِدُونِ الْأَلْفِ‏.‏

وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-‏:‏ صَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، فَتَأْتِي فَضِيلَةُ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتِسْعِمِائَةٍ، وَعَلَى غَيْرِهِ بِأَلْفٍ‏.‏

وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَ مَالِكٍ ، وَأَكْثَرِ الْمَدَنِيِّينَ‏.‏

وَذَهَبَ أَهْلُ الْكُوفَةِ إِلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَابْنِ وَهْبٍ، وَابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، وَحَكَاهُ الْبَاجِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَحَمَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِيهِ‏:‏ «وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِي هَذَا بِمِائَةِ صَلَاةٍ»‏.‏

وَرَوَى قَتَادَةُ مِثْلَهُ، فَيَأْتِي فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى هَذَا عَلَى الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِمِائَةِ أَلْفٍ‏.‏

وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَوْضِعَ قَبْرِهِ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ ‏:‏ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ مُخَالَفَةُ حُكْمِ مَسْجِدِ مَكَّةَ لِسَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ حُكْمُهَا مَعَ الْمَدِينَةِ‏.‏

وَذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ‏.‏

وَذَهَبَ مُطَرِّفٌ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ أَيْضًا، قَالَ‏:‏ وَجُمُعَةٌ خَيْرٌ مِنْ جُمُعَةٍ، وَرَمَضَانُ خَيْرٌ مِنْ رَمَضَانَ‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْضِيلِ رَمَضَانَ بِالْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا حَدِيثًا نَحْوَهُ‏.‏

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَا بَيْنَ بَيْتِي، وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ»‏.‏

وَمِثْلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَزَادَ‏:‏ «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي»‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ‏:‏ «مِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ»‏.‏

قَالَ الطَّبَرِيُّ ‏:‏ فِيهِ مَعْنَيَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ بَيْتٌ سُكْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ، مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ مَا يُبَيِّنُهُ‏:‏ «بَيْنَ حُجْرَتِي وَمِنْبَرِي»‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْبَيْتَ هُنَا الْقَبْرُ، وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كَمَا رُوِيَ‏:‏ «بَيْنَ قَبْرِي، وَمِنْبَرِي»‏.‏ قَالَ الطَّبَرِيُّ ‏:‏ وَإِذَا كَانَ قَبْرُهُ فِي بَيْتِهِ اتَّفَقَتْ مَعَانِي الرِّوَايَاتِ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا خِلَافٌ، لِأَنَّ قَبْرَهُ فِي حُجْرَتِهِ، وَهُوَ بَيْتُهُ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» قِيلَ‏:‏ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْبَرُهُ بِعَيْنِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ أَظْهَرُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنْ يَكُونَ لَهُ هُنَاكَ مِنْبَرٌ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ قَصْدَ مِنْبَرِهِ، وَالْحُضُورَ عِنْدَهُ لِمُلَازِمَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ يُورِدُ الْحَوْضَ، وَيُوجِبُ الشُّرْبَ مِنْهُ، قَالَهُ الْبَاجِيُّ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ «رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّهُ مُوجِبٌ لِذَلِكَ، وَأَنَّ الدُّعَاءَ، وَالصَّلَاةَ فِيهِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ، كَمَا قِيلَ‏:‏ الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ قَدْ يَنْقُلُهَا اللَّهُ فَتَكُونُ فِي الْجَنَّةِ بِعَيْنِهَا، قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ‏.‏

وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْمَدِينَةِ‏:‏ «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا، وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏

وَقَالَ فِيمَنْ تَحَمَّلَ عَنِ الْمَدِينَةِ‏:‏ «وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ طِيبُهَا»‏.‏

وَقَالَ‏:‏ «لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَهَا اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ»‏.‏

وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ، وَلَا عَذَابَ»‏.‏

وَفِي طَرِيقٍ آخَرَ‏:‏ «بُعِثَ مِنَ الْآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ‏:‏ «مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا»‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ، وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا‏}‏- إِلَى قَوْلِهِ-‏:‏ ‏{‏آمَنَّا‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 96‏]‏‏.‏

قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ‏:‏ آمِنًا مِنَ النَّارِ، وَقِيلَ‏:‏ كَانَ يَأْمَنُ مِنَ الطَّلَبِ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا خَارِجًا عَنِ الْحَرَمِ، وَلَجَأَ إِلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 125‏]‏ عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ‏.‏

وَحُكِيَ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا سَعْدُونَ الْخَوْلَانِيَّ بِالْمُنَسْتِيرِ فَأَعْلَمُوهُ أَنَّ كُتَامَةَ قَتَلُوا رَجُلًا، وَأَضْرَمُوا عَلَيْهِ النَّارَ طُولَ اللَّيْلِ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيهِ شَيْئًا، وَبَقِيَ أَبْيَضَ اللَّوْنِ، فَقَالَ‏:‏ لَعَلَّهُ حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ‏؟‏ قَالُوا‏:‏ نَعَمْ‏.‏ قَالَ‏:‏ حُدِّثْتُ أَنَّ مَنْ حَجَّ حَجَّةً أَدَّى فَرْضَهُ، وَمَنْ حَجَّ ثَانِيَةً دَايَنَ رَبَّهُ، وَمَنْ حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ حَرَّمَ اللَّهُ شَعْرَهُ، وَبَشَرَهُ عَلَى النَّارِ‏.‏

وَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ قَالَ‏:‏ «مَرْحَبًا بِكِ مِنْ بَيْتٍ، مَا أَعْظَمَكِ، وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ»‏.‏

وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ»، وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْمِيزَابِ‏.‏

وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «مَنْ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تَأَخَّرَ، وَحُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْآمِنِينَ»‏.‏

قَالَ الْفَقِيهُ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ قَرَأْتُ عَلَى الْقَاضِي الْحَافِظِ أَبِي عَلِيٍّ ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْعُذْرِيُّ، قَالَ‏:‏ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ رَشِيقٍ، سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ إِدْرِيسَ، سَمِعْتُ الْحُمَيْدِيَّ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ قَالَ‏:‏ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ‏:‏ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ‏:‏ «مَا دَعَا أَحَدٌ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ»‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ‏:‏ وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي‏.‏

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ‏:‏ وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ تَعَالَى بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي‏.‏

وَقَالَ سُفْيَانُ ‏:‏ وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ عَمْرٍو إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي‏.‏

قَالَ الْحُمَيْدِيُّ ‏:‏ وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سُفْيَانَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي‏.‏

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنَ الْحُمَيْدِيِّ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي‏.‏

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ‏:‏ وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي‏.‏

قَالَ أَبُو أُسَامَةَ ‏:‏ وَمَا أَذْكُرُ الْحَسَنَ بْنَ رَشِيقٍ قَالَ فِيهِ شَيْئًا‏:‏ وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنَ الْحَسَنِ بْنِ رَشِيقٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُسْتَجَابَ لِي مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ‏.‏

قَالَ الْعُذْرِيُّ ‏:‏ وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ أَبِي أُسَامَةَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي‏.‏

قَالَ أَبُو عَلِيٍّ ‏:‏ وَأَنَا فَقَدَ دَعَوْتُ اللَّهَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ اسْتُجِيبَ لِي بَعْضُهَا، وَأَرْجُو مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِي بَقِيَّتَهَا‏.‏

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ ‏:‏ ذَكَرْنَا نُبَذًا مِنْ هَذِهِ النُّكَتِ فِي هَذَا الْفَصْلِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْبَابِ، لِتَعَلُّقِهَا بِالْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ حِرْصًا عَلَى تَمَامِ الْفَائِدَةِ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ بِرَحْمَتِهِ‏.‏

الْقِسْمُ الثَّالِثُ‌‌‌‌‌‌‌‏:‏ فِيمَا يَجِبُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِ، وَمَا يَمْتَنِعُ أَوْ يَصِحُّ مِنَ الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ

مُقَدِّمَةُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 144‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 75‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ‏}‏ ‏[‏الْفَرْقَانِ‏:‏ 20‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ ‏[‏الْكَهْفِ‏:‏ 110‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْبَشَرِ أُرْسِلُوا إِلَى الْبَشَرِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا أَطْلَقَ النَّاسُ مُقَاوَمَتَهُمْ، وَالْقَبُولَ عَنْهُمْ، وَمُخَاطَبَتَهُمْ‏.‏

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 9‏]‏، أَيْ لَمَا كَانَ إِلَّا فِي صُورَةِ الْبَشَرِ الَّذِينَ يُمْكِنُهُمْ مُخَالَطَتَهُمْ، إِذْ لَا تُطِيقُونَ مُقَاوَمَةَ الْمَلَكِ، وَمُخَاطَبَتَهُ، وَرُؤْيَتَهُ إِذَا كَانَ عَلَى صُورَتِهِ‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 95‏]‏، أَيْ لَا يُمْكِنُ فِي سُنَّةِ اللَّهِ إِرْسَالُ الْمَلَكِ إِلَّا لِمَنْ هُوَ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاصْطَفَاهُ، وَقَوَّاهُ عَلَى مُقَاوَمَتِهِ، كَالْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ‏.‏

فَالْأَنْبِيَاءُ، وَالرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، وَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَيْنَ خَلْقِهِ يُبَلِّغُونَهُمْ أَوَامِرَهُ، وَنَوَاهِيَهُ، وَوَعْدَهُ، وَوَعِيدَهُ، وَيُعَرِّفُونَهُمْ بِمَا لَمْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَمْرِهِ، وَخَلْقِهِ، وَجَلَالِهِ، وَسُلْطَانِهِ وَجَبَرُوتِهِ، وَمَلَكُوتِهِ، فَظَوَاهِرُهُمْ، وَأَجْسَادُهُمْ، وَبِنْيَتُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بِأَوْصَافِ الْبَشَرِ، طَارِئٌ عَلَيْهَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْأَعْرَاضِ، وَالْأَسْقَامِ، وَالْمَوْتِ، وَالْفَنَاءِ، وَنُعُوتِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَأَرْوَاحُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ مُتَّصِفَةٌ بِأَعْلَى مِنْ أَوْصَافِ الْبَشَرِ، مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى، مُتَشَبِّهَةٌ بِصِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ، سَلِيمَةٌ مِنَ التَّغَيُّرِ، وَالْآفَاتِ، لَا يَلْحَقُهَا غَالِبًا عَجْزُ الْبَشَرِيَّةِ، وَلَا ضَعْفُ الْإِنْسَانِيَّةِ، إِذْ لَوْ كَانَتْ بَوَاطِنُهُمْ خَالِصَةً لِلْبَشَرِيَّةِ كَظَوَاهِرِهِمْ لَمَا أَطَاقُوا الْأَخْذَ عَنِ الْمَلَائِكَةِ، وَرُؤْيَتَهُمْ، وَمُخَاطَبَتَهُمْ، وَمُخَالَّتَهُمْ، كَمَا لَا يُطِيقُهُ غَيْرُهُمْ مِنَ الْبَشَرِ‏.‏

وَلَوْ كَانَتْ أَجْسَامُهُمْ، وَظَوَاهِرُهُمْ مُتَّسِمَةً بِنُعُوتِ الْمَلَائِكَةِ، وَبِخِلَافِ صِفَاتِ الْبَشَرِ، لَمَا أَطَاقَ الْبَشَرُ، وَمَنْ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ مُخَالَطَتَهُمْ، كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَجُعِلُوا مِنْ جِهَةِ الْأَجْسَامِ وَالظَّوَاهِرِ مَعَ الْبَشَرِ، وَمِنْ جِهَةِ الْأَرْوَاحِ وَالْبَوَاطِنِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَوْ كُنْتُ مْتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ، لَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ»‏.‏

وَكَمَا قَالَ‏:‏ «تَنَامُ عَيْنَايَ، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ، إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي، وَيَسْقِينِي»‏.‏

فَبَوَاطِنُهُمْ مُنَزَّهَةٌ مِنَ الْآفَاتِ، مُطَهَّرَةٌ مِنَ النَّقَائِصِ، وَالِاعْتِلَالَاتِ‏.‏

وَهَذِهِ جُمْلَةٌ لَنْ يَكْتَفِيَ بِمَضْمُونِهَا كُلُّ ذِي هِمَّةٍ، بَلِ الْأَكْثَرُ يَحْتَاجُ إِلَى بَسْطٍ وَتَفْصِيلٍ عَلَى مَا نَأْتِي بِهِ بَعْدَ هَذَا فِي الْبَابَيْنِ بِعَوْنِ اللَّهِ، وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ‏.‏

الباب الْأَوَّلُ‏:‏ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ، وَالْكَلَامُ فِي عِصْمَةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ

تَمْهِيدٌ

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ-‏:‏ اعْلَمْ أَنَّ الطَّوَارِئَ مِنَ التَّغَيُّرَاتِ عَلَى آحَادِ الْبَشَرِ لَا يَخْلُو أَنْ تَطْرَأَ عَلَى جِسْمِهِ، أَوْ عَلَى حَوَاسِّهِ بِغَيْرِ قَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، كَالْأَمْرَاضِ، وَالْأَسْقَامِ، أَوْ تَطْرَأَ بِقَصْدٍ وَاخْتِيَارٍ، وَكُلُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ عَمَلٌ وَفِعْلٌ، وَلَكِنْ جَرَى رَسْمُ الْمَشَايِخِ بِتَفْصِيلِهِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ‏:‏ عَقْدٍ بِالْقَلْبٍ، وَقَوْلٍ بِاللِّسَانِ، وَعَمَلٍ بِالْجَوَارِحِ‏.‏

وَجَمِيعُ الْبَشَرِ تَطْرَأُ عَلَيْهِمُ الْآفَاتُ، وَالتَّغَيُّرَاتُ بِالِاخْتِيَارِ، وَبِغَيْرِ الِاخْتِيَارِ فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ كُلِّهَا‏.‏

وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْبَشَرِ، وَيَجُوزُ عَلَى جِبِلَّتِهِ مَا يَجُوزُ عَلَى جِبِلَّةِ الْبَشَرِ، فَقَدْ قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْقَاطِعَةُ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ الْإِجْمَاعِ عَلَى خُرُوجِهِ عَنْهُمْ، وَتَنْزِيهِهِ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ الْآفَاتِ الَّتِي تَقَعُ عَلَى الِاخْتِيَارِ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا نَأْتِي بِهِ مِنَ التَّفَاصِيلِ‏.‏

الفصل الْأَوَّلُ‏:‏ فِي حُكْمِ عَقْدِ قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ نُبُوَّتِهِ

اعْلَمْ- مَنَحَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ تَوْفِيقَهُ-، أَنَّ مَا تَعَلَّقَ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّوْحِيدِ، وَالْعِلْمِ بِاللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ فَعَلَى غَايَةِ الْمَعْرِفَةِ، وَوُضُوحِ الْعِلْمِ، وَالْيَقِينِ، وَالِانْتِفَاءِ عَنِ الْجَهْلِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوِ الشَّكِّ أَوِ الرَّيْبِ فِيهِ، وَالْعِصْمَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُضَادُّ الْمَعْرِفَةَ بِذَلِكَ وَالْيَقِينَ‏.‏

هَذَا مَا وَقَعَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ بِالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ أَنْ يَكُونَ فِي عُقُودِ الْأَنْبِيَاءِ سِوَاهُ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ إِذْ لَمْ يَشُكَّ إِبْرَاهِيمُ فِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَلَكِنْ أَرَادَ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ، وَتَرْكَ الْمُنَازَعَةِ لِمُشَاهَدَةِ الْإِحْيَاءِ، فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ الْأَوَّلُ بِوُقُوعِهِ، وَأَرَادَ الْعِلْمَ الثَّانِيَ بِكَيْفِيَّتِهِ، وَمُشَاهَدَتِهِ‏.‏

الْوَجْهُ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا أَرَادَ اخْتِبَارَ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ، وَعَلِمَ إِجَابَتَهُ دَعَوْتَهُ بِسُؤَالِ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تُؤْمِنْ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 60‏]‏، أَيْ تُصَدِّقْ بِمَنْزِلَتِكَ مِنِّي، وَخُلَّتِكَ، وَاصْطِفَائِكَ‏؟‏‏.‏

الْوَجْهُ الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ سَأَلَ زِيَادَةَ يَقِينٍ، وَقُوَّةَ طُمَأْنِينَةٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَوَّلِ شَكٌّ، إِذِ الْعُلُومُ الضَّرُورِيَّةُ وَالنَّظَرِيَّةُ قَدْ تَتَفَاضَلُ فِي قُوَّتِهَا، وَطَرَيَانُ الشُّكُوكِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ مُمْتَنِعٌ، وَمُجَوَّزٌ فِي النَّظَرِيَّاتِ، فَأَرَادَ الِانْتِقَالَ مِنَ النَّظَرِ، وَالْخَبَرِ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ، وَالتَّرَقِّي مِنْ عِلْمِ الْيَقِينِ إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ، فَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ، وَلِهَذَا قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏:‏ سَأَلَ كَشْفَ غِطَاءِ الْعِيَانِ لِيَزْدَادَ بِنُورِ الْيَقِينِ تَمَكُّنًا فِي حَالِهِ‏.‏

الْوَجْهُ الرَّابِعُ‏:‏ أَنَّهُ لَمَّا احْتَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ رَبَّهُ يُحْيِي، وَيُمِيتُ طَلَبَ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ، لِيَصِحَّ احْتِجَاجُهُ عِيَانًا‏.‏

الْوَجْهُ الْخَامِسُ‏:‏ قَوْلُ بَعْضِهِمْ‏:‏ هُوَ سُؤَالٌ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ، وَالْمُرَادُ‏:‏ أَقْدِرْنِي عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي‏}‏ عَنْ هَذِهِ الْأُمْنِيَةِ‏.‏

الْوَجْهُ السَّادِسُ‏:‏ أَنَّهُ أَرَى مِنْ نَفْسِهِ الشَّكَّ، وَمَا شَكَّ، لَكِنْ لِيُجَاوَبَ فَيَزْدَادَ قُرْبُهُ‏.‏

وَقَوْلُ نَبِيِّنَا‏:‏ «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ» نَفْيٌ لِأَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ شَكَّ، وَإِبْعَادٌ لِلْخَوَاطِرِ الضَّعِيفَةِ أَنْ تَظُنَّ هَذَا بِإِبْرَاهِيمَ، أَيْ نَحْنُ مُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ، وَإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى، فَلَوْ شَكَّ إِبْرَاهِيمُ لَكُنَّا أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْهُ، إِمَّا عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ، أَوْ أَنْ يُرِيدَ أُمَّتَهُ الَّذِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الشَّكُّ، أَوْ عَلَى طَرِيقِ التَّوَاضُعِ، وَالْإِشْفَاقِ إِنْ حَمَلَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى اخْتِبَارِ حَالِهِ، أَوْ زِيَادَةِ يَقِينِهِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 94‏]‏الْآيَتَيْنِ‏.‏

فَاحْذَرْ ثَبَّتَ اللَّهُ قَلْبَكَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِكَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ إِثْبَاتِ شَكِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنَ الْبَشَرِ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ جُمْلَةً، بَلْ قَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَغَيْرُهُ‏:‏ لَمْ يَشُكَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَسْأَلْ‏.‏

وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنِ‏.‏

وَحَكَى قَتَادَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ‏:‏ «مَا أَشُكُّ، وَلَا أَسْأَلُ» وَعَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذَا‏.‏

وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ‏:‏ فَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلشَّاكِّ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 94‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَفِي السُّورَةِ نَفْسِهَا مَا دَلَّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 104‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ الْعَرَبُ، وَغَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزُّمَرِ‏:‏ 65‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ الْخِطَابُ لَهُ، وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ‏.‏

وَمِثْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 109‏]‏، وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ‏.‏

قَالَ بَكْرُ بْنُ الْعَلَاءِ‏:‏ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 95‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمُكَذَّبَ فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكُونُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِهِ‏؟‏‏.‏

فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ‏.‏

وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الْفُرْقَانِ‏:‏ 59‏]‏ الْمَأْمُورُ هَاهُنَا غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِيَسْأَلَ النَّبِيَّ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الْخَبِيرُ الْمَسْئُولُ، لَا الْمُسْتَخْبِرُ السَّائِلُ‏.‏

وَقَالَ‏:‏ إِنَّ هَذَا الشَّكَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسُؤَالِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ، لَا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ، وَالشَّرِيعَةِ‏.‏

وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا‏}‏ ‏[‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 45‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ الْمُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَالْخِطَابُ مُوَاجَهَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَهُ الْقُتَيْبِيُّ‏.‏

وَقِيلَ مَعْنَاهُ‏:‏ سَلْنَا عَمَّنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ، فَحُذِفَ الْخَافِضُ، وَتَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ ابْتَدَأَ‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ‏}‏ ‏[‏الزُّخْرُفِ‏:‏ 45‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ، أَيْ مَا جَعَلْنَا، حَكَاهُ مَكِّيٌّ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْأَلَ الْأَنْبِيَاءَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَنْ ذَلِكَ، فَكَانَ أَشَدَّ يَقِينًا مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى السُّؤَالِ‏.‏

فَرُوِيَ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ «لَا أَسْأَلُ، قَدِ اكْتَفَيْتُ» قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ سَلْ أُمَمَ مَنْ أَرْسَلْنَا، هَلْ جَاءُوهُمْ بِغَيْرِ التَّوْحِيدِ‏؟‏، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ، وَالضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ‏.‏

وَالْمُرَادُ بِهَذَا، وَالَّذِي قَبْلَهُ إِعْلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي عِبَادَةِ غَيْرِهِ لِأَحَدٍ، رَدًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَغَيْرِهِمْ، فِي قَوْلِهِمْ‏:‏ إِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 114‏]‏، أَيْ فِي عَمَلِهِمْ بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يُقِرُّوا بِذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ شَكَّهُ فِيمَا ذُكِرَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ‏.‏

وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا عَلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنِ امْتَرَى فِي ذَلِكَ‏:‏ لَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْآيَةِ‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 114‏]‏، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطِبُ بِذَلِكَ غَيْرَهُ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هُوَ تَقْرِيرٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 116‏]‏، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ مَا كُنْتَ فِي شَكٍّ فَاسْأَلْ تَزْدَدْ طُمَأْنِينَةً، وَعِلْمًا إِلَى عِلْمِكَ وَيَقِينِكَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنْ كُنْتَ تَشُكُّ فِيمَا شَرَّفْنَاكَ، وَفَضَّلْنَاكَ بِهِ فَسَلْهُمْ عَنْ صِفَتِكَ فِي الْكُتُبِ، وَنَشْرِ فَضَائِلِكَ‏.‏

وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَنَّ الْمُرَادَ‏:‏ إِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِنْ غَيْرِكَ فِيمَا أَنْزَلْنَا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 110‏]‏ عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ‏؟‏

قُلْنَا‏:‏ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏:‏ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ تَظُنَّ ذَلِكَ الرُّسُلُ بِرَبِّهَا، وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا اسْتَيْأَسُوا ظَنُّوا أَنَّ مَنْ وَعَدَهُمُ النَّصْرَ مِنْ أَتْبَاعِهِمْ كَذَّبُوهُمْ، وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ إِنَّ الضَّمِيرَ فِي ‏[‏ظَنُّوا‏]‏ عَائِدٌ عَلَى الْأَتْبَاعِ، وَالْأُمَمِ، لَا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالنَّخَعِيِّ، وَابْنِ جُبَيْرٍ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ‏.‏

وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَرَأَ مُجَاهِدٌ ‏[‏كَذَبُوا‏]‏ بِالْفَتْحِ، فَلَا تَشْغَلْ بَالَكَ مِنْ شَاذِّ التَّفْسِيرِ بِسِوَاهُ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ الْعُلَمَاءِ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ‏؟‏‏!‏‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ السِّيرَةِ، وَمُبْتَدَأِ الْوَحْيِ، مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَدِيجَةَ‏:‏ «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي» لَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّكَّ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ، وَلَكِنْ لَعَلَّهُ خَشِيَ أَلَّا تَحْتَمِلَ قُوَّتُهُ مُقَاوَمَةَ الْمَلَكِ، وَأَعْبَاءِ الْوَحْيِ، فَيَنْخَلِعَ قَلْبُهُ، أَوْ تَزْهَقَ نَفْسُهُ‏.‏

وَهَذَا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ ‏:‏ أَنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ لِقَائِهِ الْمَلَكَ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ لُقْيَاهُ، وَإِعْلَامِ اللَّهِ لَهُ بِالنُّبُوَّةِ لِأَوَّلِ مَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ، وَبَدَأَتْهُ الْمَنَامَاتُ وَالتَّبَاشِيرُ، كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ‏:‏ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ أَوَّلًا فِي الْمَنَامِ، ثُمَّ أُرِيَ فِي الْيَقَظَةِ مِثْلَ ذَلِكَ، تَأْنِيسًا لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الْأَمْرُ مُشَاهَدَةً، وَمُشَافَهَةً، فَلَا يَحْتَمِلُهُ لِأَوَّلِ حَالَةٍ بِنْيَةُ الْبَشَرِيَّةِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-‏:‏ أَوَّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ، قَالَتْ‏:‏ ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَقَالَتْ‏:‏ إِلَى أَنْ جَاءَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ‏.‏‏.‏‏.‏ الْحَدِيثَ‏.‏

وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ‏:‏ مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَسْمَعُ الصَّوْتَ، وَيَرَى الضَّوْءَ سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى شَيْئًا، وَثَمَانِ سِنِينَ يُوحَى إِلَيْهِ‏.‏

وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ، وَذَكَرَ جِوَارَهُ بِغَارِ حِرَاءٍ، قَالَ‏:‏ «فَجَاءَنِي وَأَنَا نَائِمٌ فَقَالَ‏:‏ اقْرَأْ، فَقُلْتُ مَا أَقْرَأُ‏؟‏»، وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي غَطِّهِ لَهُ، وَإِقْرَائِهِ لَهُ‏:‏ ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ‏}‏ ‏[‏الْعَلَقِ‏:‏ 1‏]‏ السُّورَةَ‏.‏

قَالَ‏:‏ «فَانْصَرَفَ عَنِّي، وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي كَأَنَّمَا صُوِّرَتْ فِي قَلْبِي، وَلَمْ يَكُنْ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ مَجْنُونٍ»‏.‏

قُلْتُ‏:‏ «لَا تَحَدَّثُ عَنِّي قُرَيْشٌ بِهَذَا أَبَدًا، لِأَعْمِدَنَّ إِلَى حَالِقٍ مِنَ الْجَبَلِ فَلَأَطْرَحَنَّ نَفْسِي مِنْهُ، فَلَأَقْتُلَنَّهَا فَبَيْنَا أَنَا عَامِدٌ لِذَلِكَ إِذْ سَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي مِنَ السَّمَاءِ‏:‏ يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا جِبْرِيلُ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ»‏.‏‏.‏‏.‏ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ‏.‏

فَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا قَالَ، وَقَصْدَهُ لِمَا قَصَدَ، إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ لِقَاءِ جِبْرِيلَ- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ-، وَقَبْلَ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَإِظْهَارِهِ وَاصْطِفَائِهِ لَهُ بِالرِّسَالَةِ‏.‏

وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ‏:‏ «إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، وَقَدْ خَشِيتُ، وَاللَّهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا لِأَمْرٍ»‏.‏

وَمِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَدِيجَةَ‏:‏ «إِنِّي لَأَسْمَعُ صَوْتًا، وَأَرَى ضَوْءًا، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جُنُونٌ»‏.‏

وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّلُ لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ‏:‏ إِنَّ الْأَبْعَدَ شَاعِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، وَأَلْفَاظًا يُفْهَمُ مِنْهَا مَعَانِي الشَّكِّ فِي تَصْحِيحِ مَا رَآهُ، وَأَنَّهُ كَانَ كُلُّهُ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ، وَقَبْلَ لِقَاءِ الْمَلَكِ لَهُ، وَإِعْلَامِ اللَّهِ أَنَّهُ رَسُولُهُ، فَكَيْفَ وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا تَصِحُّ طُرُقُهَا‏.‏

وَأَمَّا بَعْدَ إِعْلَامِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ، وَلِقَائِهِ الْمَلَكَ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ رَيْبٌ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَكٌّ فِيمَا أُلْقِيَ إِلَيْهِ‏.‏

وَقَدْ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ شُيُوخِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُرْقَى بِمَكَّةَ مِنَ الْعَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا نَزَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَصَابَهُ نَحْوُ مَا كَانَ يُصِيبُهُ، فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ‏:‏ أُوَجِّهُ إِلَيْكَ مَنْ يَرْقِيكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «أَمَّا الْآنُ فَلَا»‏.‏

وَحَدِيثُ خَدِيجَةَ، وَاخْتِبَارُهَا أَمْرَ جِبْرِيلَ بِكَشْفِ رَأْسِهَا‏.‏ ‏[‏الْحَدِيثَ‏]‏ إِنَّمَا ذَلِكَ فِي حَقِّ خَدِيجَةَ لِتَتَحَقَّقَ صِحَّةُ نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّ الَّذِي يَأْتِيهِ مَلَكٌ، وَيَزُولُ الشَّكُّ عَنْهَا، لَا أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِيَخْتَبِرَ هُوَ حَالَهُ بِذَلِكَ‏.‏

بَلْ قَدْ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ وَرَقَةَ أَمَرَ خَدِيجَةَ أَنْ تَخْبُرَ الْأَمْرَ بِذَلِكَ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي حَكِيمٍ أَنَّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «يَا ابْنَ عَمِّ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِكَ إِذَا جَاءَكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، فَلَمَّا جَاءَ جِبْرِيلُ أَخْبَرَهَا، فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ اجْلِسْ إِلَى شِقِّي‏.‏‏.‏»‏.‏ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى آخِرِهِ، وَفِيهِ‏:‏ قَالَتْ‏:‏ مَا هَذَا بِشَيْطَانٍ هَذَا الْمَلَكُ يَا ابْنَ عَمِّ، فَاثْبُتْ، وَأَبْشِرْ، وَآمَنَتْ بِهِ‏.‏

فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُسْتَثْبِتَةٌ بِمَا فَعَلَتْهُ لِنَفْسِهَا، وَمُسْتَظْهِرَةٌ لِإِيمَانِهَا، لَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏

وَقَوْلُ مَعْمَرٍ فِي فَتْرَةِ الْوَحْيِ‏:‏ فَحَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَادَ يَتَرَدَّى مِنْ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ‏.‏ لَا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْأَصْلِ، لِقَوْلِ مَعْمَرٍ عَنْهُ فِيمَا بَلَغَنَا، وَلَمْ يُسْنِدْهُ، وَلَا ذَكَرَ رُوَاتَهُ، وَلَا مَنْ حَدَّثَ بِهِ، وَلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَهُ، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُ هَذَا إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ تَكْذِيبِ مَنْ بَلَّغَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْفِ‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَيُصَحِّحُ مَعْنَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثٌ رَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اجْتَمَعُوا بِدَارِ النَّدْوَةِ لِلتَّشَاوُرِ فِي شَأْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولُوا‏:‏ إِنَّهُ سَاحِرٌ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَتَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ، وَتَدَثَّرَ فِيهَا، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏ ‏[‏الْمُزَّمِّلِ‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏ ‏[‏الْمُدَّثِّرِ‏:‏ 1‏]‏‏.‏

أَوْ خَافَ أَنَّ الْفَتْرَةَ لِأَمْرٍ أَوْ سَبَبٍ مِنْهُ، فَخَشِيَ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةً مِنْ رَبِّهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، وَلَمْ يَرِدْ بَعْدُ شَرْعٌ بِالنَّهْي عَنْ ذَلِكَ، فَيُعْتَرَضَ بِهِ‏.‏

وَنَحْوُ هَذَا فِرَارُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَشْيَةَ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ لَهُ، لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَقَوْلُ اللَّهِ فِي يُونُسَ‏:‏ ‏{‏فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 87‏]‏ مَعْنَاهُ أَنْ لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ‏.‏

قَالَ مَكِّيٌّ ‏:‏ طَمِعَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأَنْ لَا يُضَيِّقَ عَلَيْهِ مَسْلَكَهُ فِي خُرُوجِهِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ حَسَّنَ ظَنَّهُ بِمَوْلَاهُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ نُقَدِّرُ عَلَيْهِ مَا أَصَابَهُ‏.‏

وَقَدْ قُرِئَ‏:‏ نُقَدِّرُ عَلَيْهِ بِالتَّشْدِيدِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ نُؤَاخِذُهُ بِغَضَبِهِ، وَذَهَابِهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ أَفَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ‏؟‏ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ‏.‏

وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُظَنَّ بِنَبِيٍّ أَنَّهُ يَجْهَلُ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ رَبِّهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا‏}‏ ‏[‏الْأَنْبِيَاءِ‏:‏ 87‏]‏ الصَّحِيحُ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ لِكُفْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمَا، لَا لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، إِذْ مُغَاضِبَةُ اللَّهِ مُعَادَاةٌ لَهُ، وَمُعَادَاةُ اللَّهِ كُفْرٌ لَا يَلِيقُ بِالْمُؤْمِنِينَ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ‏؟‏‏!‏

وَقِيلَ‏:‏ مُسْتَحْيِيًا مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَسِمُوهُ بِالْكَذِبِ أَوْ يَقْتُلُوهُ، كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مُغَاضِبًا لِبَعْضِ الْمُلُوكِ فِيمَا أَمَرَهُ بِهِ مِنَ التَّوَجُّهِ إِلَى أَمْرٍ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ آخَرَ، فَقَالَ لَهُ يُونُسُ‏:‏ غَيْرِي أَقْوَى عَلَيْهِ مِنِّي، فَعَزَمَ عَلَيْهِ فَخَرَجَ لِذَلِكَ مُغَاضِبًا‏.‏

وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ إِرْسَالَ يُونُسَ، وَنُبُوَّتَهُ إِنَّمَا كَانَ بَعْدَ أَنْ نَبَذَهُ الْحُوتُ، وَاسْتَدَلَّ مِنَ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 145- 147‏]‏‏.‏

وَيُسْتَدَلُّ أَيْضًا بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ ‏[‏الْقَلَمِ‏:‏ 48‏]‏، وَذَكَرَ الْقِصَّةَ‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏الْقَلَمِ‏:‏ 50‏]‏، فَتَكُونُ هَذِهِ الْقِصَّةُ إِذًا قَبْلَ نُبُوَّتِهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ كُلَّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ»‏.‏

وَفِي طَرِيقٍ‏:‏ «فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً»‏.‏

فَاحْذَرْ أَنْ يَقَعَ بِبَالِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغَيْنُ، وَسْوَسَةً أَوْ رَيْبًا، وَقَعَ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بَلْ أَصْلُ الْغَيْنِ فِي هَذَا‏:‏ مَا يَتَغَشَّى الْقَلْبَ، وَيُغَطِّيهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَأَصْلُهُ مِنْ غَيْنِ السَّمَاءِ، وَهُوَ إِطْبَاقُ الْغَيْمِ عَلَيْهَا‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ وَالْغَيْنُ شَيْءٌ يُغَشِّي الْقَلْبَ، وَلَا يُغَطِّيهِ كُلَّ التَّغْطِيَةِ، كَالْغَيْمِ الرَّقِيقِ الَّذِي يَعْرِضُ فِي الْهَوَاءِ، فَلَا يَمْنَعُ ضَوْءَ الشَّمْسِ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُغَانُ عَلَى قَلْبِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً فِي الْيَوْمِ، إِذْ لَيْسَ يَقْتَضِيهِ لَفْظُهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ، وَإِنَّمَا هَذَا عَدَدٌ لِلِاسْتِغْفَارِ لَا لِلْغَيْنِ، فَيَكُونُ الْمُرَادُ بِهَذَا الْغَيْنِ إِشَارَةً إِلَى غَفَلَاتِ قَلْبِهِ، وَفَتَرَاتِ نَفْسِهِ، وَسَهْوِهَا عَنْ مُدَاوَمَةِ الذِّكْرِ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِّ بِمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ مُقَاسَاةِ الْبَشَرِ، وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَمُعَانَاةِ الْأَهْلِ، وَمُقَاوَمَةِ الْوَلِيِّ، وَالْعَدُوِّ، وَمَصْلَحَةِ النَّفْسِ، وَكُلِّفَهُ مِنْ أَعْبَاءِ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَحَمْلِ الْأَمَانَةِ، وَهُوَ فِي كُلِّ هَذَا فِي طَاعَةِ رَبِّهِ، وَعِبَادَةِ خَالِقِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْفَعَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ مَكَانَةً، وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً، وَأَتَمَّهُمْ بِهِ مَعْرِفَةً، وَكَانَتْ حَالُهُ عِنْدَ خُلُوصِ قَلْبِهِ، وَخُلُوِّ هِمَّتِهِ، وَتَفَرُّدِهِ بِرَبِّهِ، وَإِقْبَالِهِ بِكُلِّيَّتِهِ عَلَيْهِ، وَمُقَامِهِ هُنَالِكَ أَرْفَعَ حَالَيْهِ رَأَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ فَتْرَتِهِ عَنْهَا، وَشُغْلِهِ بِسِوَاهَا، غَضًّا مِنْ عَلِيِّ حَالِهِ، وَخَفْضًا مِنْ رَفِيعِ مَقَامِهِ، فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ‏.‏ هَذَا أَوْلَى وُجُوهِ الْحَدِيثِ، وَأَشْهَرِهَا‏.‏

وَإِلَى مَعْنَى مَا أَشَرْنَا بِهِ مَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَحَامَ حَوْلَهُ، فَقَارَبَ، وَلَمْ يَرِدْ‏.‏

وَقَدْ قَرَّبْنَا غَامِضَ مَعْنَاهُ، وَكَشَفْنَا لِلْمُسْتَفِيدِ مُحَيَّاهُ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ الْفَتَرَاتِ، وَالْغَفَلَاتِ، وَالسَّهْوِ فِي غَيْرِ طَرِيقِ الْبَلَاغِ، عَلَى مَا سَيَأْتِي‏.‏

وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ، وَمَشْيَخَةِ الْمُتَصَوِّفَةِ، مِمَّنْ قَالَ بِتَنْزِيهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذَا جُمْلَةً، وَأَجَّلَهُ أَنْ يَجُوزَ عَلَيْهِ فِي حَالٍ سَهْوٌ أَوْ فَتْرَةٌ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ‏:‏ مَا يُهِمُّ خَاطِرَهُ، وَيَغُمُّ فِكْرَهُ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِاهْتِمَامِهِ بِهِمْ، وَكَثْرَةِ شَفَقَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَقَدْ يَكُونُ الْغَيْنُ هُنَا عَلَى قَلْبِهِ السَّكِينَةَ تَتَغَشَّاهُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَةِ‏:‏ 40‏]‏، وَيَكُونُ اسْتِغْفَارُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهَا إِظْهَارًا لِلْعُبُودِيَّةِ، وَالِافْتِقَارِ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ ‏:‏ اسْتِغْفَارُهُ وَفِعْلُهُ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْأُمَّةِ بِحَمْلِهِمْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ‏.‏

وَقَالَ غَيْرُهُ‏:‏ وَيَسْتَشْعِرُونَ الْحَذَرَ، وَلَا يَرْكَنُونَ إِلَى الْأَمْنِ‏.‏

وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْإِعَانَةُ حَالَةَ خَشْيَةٍ، وَإِعْظَامٍ تَغْشَى قَلْبَهُ، فَيَسْتَغْفِرَ حِينَئِذٍ شُكْرًا لِلَّهِ، وَمُلَازَمَةً لِعُبُودِيَّتِهِ، كَمَا قَالَ فِي مُلَازَمَةِ الْعِبَادَةِ‏:‏ «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»‏.‏

وَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الْأَخِيرَةِ يُحْمَلُ مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً، فَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ»‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ لِنُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ ‏{‏مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 46‏]‏‏؟‏‏.‏

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ فِي ذَلِكَ إِلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ فِي آيَةِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ لَا تَكُونُنَّ مِمَّنْ يَجْهَلُ أَنَّ اللَّهَ لَوْ شَاءَ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى‏.‏ وَفِي آيَةِ نُوحٍ‏:‏ لَا تَكُونُنَّ مِمَّنْ يَجْهَلُ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ، لِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ‏}‏ إِذْ فِيهِ إِثْبَاتُ الْجَهْلِ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ، وَعْظُهُمْ أَلَّا يَتَشَبَّهُوا فِي أُمُورِهِمْ بِسِمَاتِ الْجَاهِلِينَ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنِّي أَعِظُكَ‏}‏‏.‏ وَلَيْسَ فِي آيَةٍ مِنْهُمَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِمْ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنِ الْكَوْنِ عَلَيْهَا، فَكَيْفَ‏؟‏، وَآيَةُ نُوحٍ قَبْلَهَا‏:‏ ‏{‏مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 46‏]‏‏.‏ فَحَمْلُ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا أَوْلَى، لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ‏.‏

وَقَدْ تَجُوزُ إِبَاحَةُ السُّؤَالِ فِيهِ ابْتِدَاءً، فَنَهَاهُ اللَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا طَوَى عَنْهُ عِلْمَهُ، وَأَكَنَّهُ مِنْ غَيْبِهِ مِنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَلَاكِ ابْنِهِ‏.‏

ثُمَّ أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ بِإِعْلَامِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ‏}‏‏.‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 46‏]‏ حَكَى مَعْنَاهُ مَكِّيٌّ ‏.‏

كَذَلِكَ أُمِرَ نَبِيُّنَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِالْتِزَامِ الصَّبْرِ عَلَى إِعْرَاضِ قَوْمِهِ، وَلَا يُحْرَجُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَيُقَارِبُ حَالَ الْجَاهِلِ بِشِدَّةِ التَّحَسُّرِ‏.‏ حَكَاهُ ابْنُ فُورَكٍ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَى الْخِطَابِ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، أَيْ فَلَا تَكُونُوا مِنَ الْجَاهِلِينَ‏.‏ حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ، وَقَالَ‏:‏ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ‏.‏

فَبِهَذَا الْفَضْلِ وَجَبَ الْقَوْلُ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ بَعْدَ النُّبُوَّةِ قَطْعًا‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَإِذَا قَرَّرْتَ عِصْمَتَهُمْ مِنْ هَذَا، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَمَا مَعْنَى إِذًا وَعِيدِ اللَّهِ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ إِنْ فَعَلَهُ، وَتَحْذِيرِهِ مِنْهُ، كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزُّمَرِ‏:‏ 65‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏}‏ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 106‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 75‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ‏}‏ ‏[‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 45‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 116‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 24‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 1‏]‏‏.‏

فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ، وَإِيَّاكَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَصِحُّ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، أَلَّا يُبَلِّغَ وَأَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَلَا أَنْ يُشْرِكَ بِهِ، وَلَا يَتَقَوَّلَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا يُحِبُّ، أَوْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ، أَوْ يَضِلَّ أَوْ يَخْتِمَ عَلَى قَلْبِهِ، أَوْ يُطِيعَ الْكَافِرِينَ، لَكِنْ يَسَّرَ أَمْرَهُ بِالْمُكَاشَفَةِ وَالْبَيَانِ فِي الْبَلَاغِ لِلْمُخَالِفِينَ، وَأَنَّ إِبْلَاغَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ السَّبِيلِ فَكَأَنَّهُ مَا بَلَّغَ‏.‏

وَطَيَّبَ نَفْسَهُ، وَقَوَّى قَلْبَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَةِ‏:‏ 67‏]‏، كَمَا قَالَ لِمُوسَى، وَهَارُونَ‏:‏ ‏{‏لَا تَخَافَا‏}‏ ‏[‏طَهَ‏:‏ 45‏]‏، لِتَشْتَدَّ بَصَائِرُهُمْ فِي الْإِبْلَاغِ، وَإِظْهَارِ دِينِ اللَّهِ، وَيَذْهَبَ عَنْهُمْ خَوْفُ الْعَدُوِّ الْمُضْعِفِ لِلنَّفْسِ‏.‏

وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ‏}‏ ‏[‏الْحَاقَّةِ‏:‏ 44‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ‏}‏ ‏[‏الْإِسْرَاءِ‏:‏ 75‏]‏ فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا جَزَاءُ مَنْ فَعَلَ هَذَا وَجَزَاؤُكَ لَوْ كُنْتَ مِمَّنْ يَفْعَلُهُ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 116‏]‏، فَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 139‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 24‏]‏، وَ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزُّمَرِ‏:‏ 65‏]‏، وَمَا أَشْبَهَهُ، فَالْمُرَادُ غَيْرُهُ، وَأَنَّ هَذِهِ حَالُ مَنْ أَشْرَكَ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ هَذَا‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 1‏]‏ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَطَاعَهُمْ، وَاللَّهُ يَنْهَاهُ عَمَّا يَشَاءُ، وَيَأْمُرُهُ بِمَا يَشَاءُ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 52‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَمَا كَانَ طَرَدَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا كَانَ مِنَ الظَّالِمِينَ‏.‏

الفصل الثَّانِي‏:‏ عِصْمَتُهُمْ مِنْ هَذَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ

وَأَمَّا عِصْمَتُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَنِّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ فَلِلنَّاسِ فِيهِ خِلَافٌ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ قَبْلَ النُّبُوَّةِ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَالتَّشَكُّكِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الْأَخْبَارُ، وَالْآثَارُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ بِتَنْزِيهِهِمْ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ مُنْذُ وُلِدُوا، وَنَشْأَتِهِمْ عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، بَلْ عَلَى إِشْرَاقِ أَنْوَارِ الْمَعَارِفِ، وَنَفَحَاتِ أَلْطَافِ السَّعَادَةِ، كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا‏.‏

وَلَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَخْبَارِ أَنَّ أَحَدًا نُبِّئَ، وَاصْطُفِيَ مِمَّنْ عُرِفَ بِكُفْرٍ وَإِشْرَاكٍ قَبْلَ ذَلِكَ‏.‏ وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْبَابِ النَّقْلُ، وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْقُلُوبَ تَنْفِرُ عَمَّنْ كَانَتْ هَذِهِ سَبِيلُهُ‏.‏

وَأَنَا أَقُولُ إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ رَمَتْ نَبِيَّنَا بِكُلِّ مَا افْتَرَتْهُ، وَعَيَّرَ كُفَّارُ الْأُمَمِ أَنْبِيَاءَهَا بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهَا، وَاخْتَلَقَتْهُ، مِمَّا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، أَوْ نَقَلَتْهُ إِلَيْنَا الرُّوَاةُ، وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِيرًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ بِرَفْضِهِ آلِهَتَهُ، وَتَقْرِيعِهِ بِذَمِّهِ بِتَرْكِ مَا كَانَ قَدْ جَامَعَهُمْ عَلَيْهِ‏.‏

وَلَوْ كَانَ هَذَا لَكَانُوا بِذَلِكَ مُبَادِرِينَ، وَيَتْلُونَهُ فِي مَعْبُودِهِ مُحْتَجِّينَ، وَلَكَانَ تَوْبِيخُهُمْ لَهُ بِنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ قَبْلُ أَفْظَعَ وَأَقْطَعَ فِي الْحُجَّةِ مِنْ تَوْبِيخِهِ بِنَهْيِهِمْ عَنْ تَرْكِهِمْ آلِهَتَهُمْ، وَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ‏.‏

فَفِي إِطْبَاقِهِمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا إِلَيْهِ، إِذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ، وَمَا سَكَتُوا عَنْهُ، كَمَا لَمْ يَسْكُتُوا عِنْدَ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ، وَقَالُوا‏:‏ ‏{‏مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا‏}‏ كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ‏.‏

وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَاضِي الْقُشَيْرِيُّ عَلَى تَنْزِيهِهِمْ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ‏}‏ ‏[‏الْأَحْزَابِ‏:‏ 7‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 81‏]‏- إِلَى قَوْلِهِ-‏:‏ ‏{‏لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 81‏]‏‏.‏

قَالَ‏:‏ وَطَهَّرَهُ اللَّهُ فِي الْمِيثَاقِ‏.‏

وَبَعِيدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الْمِيثَاقَ قَبْلَ خَلْقِهِ، ثُمَّ يَأْخُدَ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَنَصْرِهِ قَبْلَ مَوْلِدِهِ بِدُهُورٍ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ الشِّرْكُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ‏.‏ هَذَا مَا لَا يُجَوِّزُهُ إِلَّا مُلْحِدٌ‏.‏

هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ‏.‏

وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ، وَقَدْ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَشَقَّ قَلْبَهُ صَغِيرًا، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، وَقَالَ‏:‏ هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ، وَمَلَأَهُ حِكْمَةً، وَإِيمَانًا، كَمَا تَظَاهَرَتْ بِهِ أَخْبَارُ الْمَبْدَأِ‏.‏

وَلَا يُشَبَّهُ عَلَيْكَ بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ فِي الْكَوْكَبِ، وَالْقَمَرِ، وَالشَّمْسِ‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبِّي‏}‏ فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ‏:‏ كَانَ هَذَا فِي سَنِّ الطُّفُولِيَّةِ، وَابْتِدَاءِ النَّظَرِ، وَالِاسْتِدْلَالِ، وَقَبْلَ لُزُومِ التَّكْلِيفِ‏.‏

وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْحُذَّاقِ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّهُ إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُبَكِّتًا لِقَوْمِهِ، وَمُسْتَدِلًّا عَلَيْهِمْ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ مَعْنَاهُ الِاسْتِفْهَامُ الْوَارِدُ مَوْرِدَ الْإِنْكَارِ، وَالْمُرَادُ‏:‏ فَهَذَا رَبِّي‏.‏

قَالَ الزَّجَّاجُ ‏:‏ قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏هَذَا رَبِّي‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 76‏]‏ أَيْ عَلَى قَوْلِكُمْ، كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِيَ‏}‏ ‏[‏الْقَصَصِ‏:‏ 74‏]‏ أَيْ عِنْدَكُمْ‏.‏

وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا أَشْرَكَ قَطُّ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ‏:‏ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْهُ‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 70‏]‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 75- 77‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 74‏]‏، أَيْ مِنَ الشِّرْكِ‏.‏

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ‏}‏ ‏[‏إِبْرَاهِيمَ‏:‏ 35‏]‏‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الْأَنْعَامِ‏:‏ 77‏]‏‏.‏

قِيلَ‏:‏ إِنَّهُ إِنْ لَمْ يُؤَيِّدْنِي اللَّهُ بِمَعُونَتِهِ أَكُنْ مِثْلَكُمْ فِي ضَلَالَتِكُمْ، وَعِبَادَتِكُمْ، عَلَى مَعْنَى الْإِشْفَاقِ، وَالْحَذَرِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَعْصُومٌ فِي الْأَزَلِ مِنَ الضَّلَالِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏}‏ ثُمَّ قَالَ بَعْدُ عَنِ الرُّسُلِ‏:‏ ‏{‏قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الْأَعْرَافِ‏:‏ 89‏]‏، فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْكَ لَفْظَةُ الْعَوْدِ، وَأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعُودُونَ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ مِلَّتِهِمْ، فَقَدْ تَأْتِي هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِغَيْرِ مَا لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْجَهَنَّمِيِّينَ‏:‏ ‏[‏عَادُوا حُمَمًا‏]‏، وَلَمْ يَكُونُوا قَبْلُ كَذَلِكَ‏.‏

وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ‏:‏

تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ *** شِيبَا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا

وَمَا كَانَ قَبْلُ كَذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى‏}‏ ‏[‏الضُّحَى‏:‏ 7‏]‏، فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي هُوَ الْكُفْرُ، قِيلَ‏:‏ ضَالًّا عَنِ النُّبُوَّةِ فَهَدَاكَ إِلَيْهَا، قَالَهُ الطَّبَرِيُّ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ وَجَدَكَ بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ، فَعَصَمَكَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَدَاكَ لِلْإِيمَانِ وَإِلَى إِرْشَادِهِمْ‏.‏

وَنَحْوُهُ عَنِ السُّدِّيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ ضَالًّا عَنْ شَرِيعَتِكَ، أَيْ لَا تَعْرِفُهَا فَهَدَاكَ إِلَيْهَا‏.‏

وَالضَّلَالُ هُنَا التَّحَيُّرُ، وَلِهَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فِي طَلَبِ مَا يَتَوَجَّهُ بِهِ إِلَى رَبِّهِ، وَيَتَسَرَّعُ بِهِ حَتَّى هَدَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ مَعْنَاهُ الْقُشَيْرِيُّ ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ لَا تَعْرِفُ الْحَقَّ، فَهَدَاكَ إِلَيْهِ‏.‏ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏النِّسَاءِ‏:‏ 113‏]‏ الْآيَةَ‏.‏ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ عِيسَى‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ‏:‏ لَمْ تَكُنْ لَهُ ضَلَالَةُ مَعْصِيَةٍ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ هَدَى، أَيْ بَيَّنَ أَمْرَكَ بِالْبَرَاهِينِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ وَجَدَكَ ضَالًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَهَدَاكَ إِلَى الْمَدِينَةِ‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ الْمَعْنَى، وَجَدَكَ فَهَدَى بِكَ ضَالًّا‏.‏

وَعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ ‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَ ضَالًّا‏}‏ عَنْ مَحَبَّتِي لَكَ فِي الْأَزَلِ، أَيْ لَا تَعْرِفُهَا، فَمَنَنْتُ عَلَيْكَ بِمَعْرِفَتِي‏.‏

وَقَرَأَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ ‏:‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، أَيِ اهْتَدَى بِكَ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ ‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالًّا‏}‏ مُحِبًّا لِمَعْرِفَتِي‏.‏ وَالضَّالُّ الْمُحِبُّ كَمَا قَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيِمِ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 95‏]‏، أَيْ مَحَبَّتِكَ الْقَدِيمَةِ، وَلَمْ يُرِيدُوا هَاهُنَا فِي الدِّينِ، إِذْ لَوْ قَالُوا ذَلِكَ فِي نَبِيِّ اللَّهِ لَكَفَرُوا‏.‏

وَمِثْلُهُ عِنْدَ هَذَا قَوْلُهُ‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ‏}‏ أَيْ مَحَبَّةٍ بَيِّنَةٍ‏.‏

وَقَالَ الْجُنَيْدُ ‏:‏ وَوَجَدَكَ مُتَحَيِّرًا فِي بَيَانِ مَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ فَهَدَاكَ لِبَيَانِهِ كَقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ‏}‏ ‏[‏النَّحْلِ‏:‏ 44‏]‏ الْآيَةَ‏.‏‏.‏

وَقِيلَ‏:‏ وَوَجَدَكَ لَمْ يَعْرِفْكَ أَحَدٌ بِالنُّبُوَّةِ حَتَّى أَظْهَرَكَ، فَهَدَى بِكَ السُّعَدَاءَ، وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا‏:‏ ضَالًّا عَنِ الْإِيمَانِ‏.‏

وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاءِ‏:‏ 20‏]‏، أَيْ مِنَ الْمُخْطِئِينَ الْفَاعِلِينَ شَيْئًا بِغَيْرِ قَصْدٍ، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ‏.‏

وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ ‏:‏ مَعْنَاهُ مِنَ النَّاسِينَ‏.‏

وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى‏}‏ أَيْ نَاسِيًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَةِ‏:‏ 282‏]‏‏.‏ فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ‏}‏ ‏[‏الشُّورَى‏:‏ 52‏]‏‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ السَّمَرْقَنْدِيَّ قَالَ‏:‏ مَعْنَاهُ‏:‏ مَا كُنْتَ تَدْرِي قَبْلَ الْوَحْيِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَلَا كَيْفَ تَدْعُو الْخَلْقَ إِلَى الْإِيمَانِ‏.‏

وَقَالَ بَكْرٌ الْقَاضِي نَحْوَهُ، قَالَ‏:‏ وَلَا الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ الْفَرَائِضُ، وَالْأَحْكَامُ، قَالَ‏:‏ فَكَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا بِتَوْحِيدِهِ، ثُمَّ نَزَلَتِ الْفَرَائِضُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِيهَا قَبْلُ، فَزَادَ بِالتَّكْلِيفِ إِيمَانًا، وَهُوَ أَحْسَنُ وُجُوهِهِ‏.‏

فَإِنْ قُلْتَ‏:‏ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَإِنْ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 3‏]‏‏؟‏ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 7‏]‏، بَلْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ لَمِنَ الْغَافِلِينَ عَنْ قِصَّةِ يُوسُفَ، إِذْ لَمْ تَعْلَمْهَا إِلَّا بِوَحْيِنَا‏.‏

وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَرْوِيهِ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ جَابِرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَشْهَدُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ، فَسَمِعَ مَلَكَيْنِ خَلْفَهُ، أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ‏:‏ اذْهَبْ حَتَّى تَقُومَ خَلْفَهُ‏.‏ فَقَالَ الْآخَرُ‏:‏ كَيْفَ أَقُومُ خَلْفَهُ، وَعَهْدُهُ بِاسْتِلَامِ الْأَصْنَامِ‏؟‏ فَلَمْ يَشْهَدْهُمْ بَعْدُ‏.‏

فَهَذَا حَدِيثٌ أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ جِدًّا، وَقَالَ‏:‏ هُوَ مَوْضُوعٌ، أَوْ شَبِيهٌ بِالْمَوْضُوعِ‏.‏

وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ ‏:‏ يُقَالُ إِنَّ عُثْمَانَ وَهِمَ فِي إِسْنَادِهِ‏.‏

وَالْحَدِيثُ بِالْجُمْلَةِ مُنْكَرٌ غَيْرُ مُتَّفَقٌ عَلَى إِسْنَادِهِ، فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ‏.‏

وَالْمَعْرُوفُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خِلَافُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قَوْلِهِ‏:‏ «بُغِّضَتْ إِلَيَّ الْأَصْنَامُ»‏.‏

وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَتْهُ أُمُّ أَيْمَنَ حِينَ كَلَّمَهُ عَمُّهُ، وَآلُهُ فِي حُضُورِ بَعْضِ أَعْيَادِهِمْ، وَعَزَمُوا عَلَيْهِ فِيهِ بَعْدَ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ، وَرَجَعَ مَرْعُوبًا، فَقَالَ‏:‏ كُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْهَا مِنْ صَنَمٍ تَمَثَّلَ لِي شَخْصٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ يَصِيحُ بِي‏:‏ وَرَاءَكَ، لَا تَمَسَّهُ، فَمَا شَهِدَ بَعْدُ لَهُمْ عِيدًا‏.‏

وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ بَحِيرَا حِينَ اسْتَحْلَفَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى إِذْ لَقِيَهُ بِالشَّامِ فِي سَفْرَتِهِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ صَبِيٌّ، وَرَأَى فِيهِ عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ، فَاخْتَبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏:‏ «لَا تَسْأَلْنِي بِهِمَا، فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضَهُمَا»‏.‏

فَقَالَ لَهُ بَحِيرَا ‏:‏ فَبِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ‏.‏ فَقَالَ‏:‏ «سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ»‏.‏

وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ مِنْ سِيرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَوْفِيقِ اللَّهِ لَهُ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ يُخَالِفُ الْمُشْرِكِينَ فِي وُقُوفِهِمْ بِمُزْدَلِفَةَ فِي الْحَجِّ، فَكَانَ يَقِفُ هُوَ بِعَرَفَةَ، لِأَنَّهُ كَانَ مَوْقِفَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

الفصل الثَّالِثُ‏:‏ مَعْرِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا

قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ-‏:‏ قَدْ بَانَ بِمَا قَدَّمْنَاهُ عُقُودُ الْأَنْبِيَاءِ فِي التَّوْحِيدِ، وَالْإِيمَانِ وَالْوَحْيِ، وَعِصْمَتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَاهُ‏.‏

فَأَمَّا مَا عَدَا هَذَا الْبَابَ مِنْ عُقُودِ قُلُوبِهِمْ فَجِمَاعُهَا أَنَّهَا مَمْلُوءَةٌ عِلْمًا، وَيَقِينًا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَأَنَّهَا قَدِ احْتَوَتْ مِنَ الْمَعْرِفَةِ، وَالْعِلْمِ بِأُمُورِ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا مَا لَا شَيْءَ فَوْقَهُ‏.‏

وَمَنْ طَالَعَ الْأَخْبَارَ، وَاعْتَنَى بِالْحَدِيثِ، وَتَأَمَّلَ مَا قُلْنَاهُ، وَجَدَهُ‏.‏

وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهُ فِي حَقِّ نَبِيِّنَا فِي الْبَابِ الرَّابِعِ أَوَّلَ قِسْمٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مَا يُنَبِّهُ عَلَى مَا وَرَاءَهُ إِلَّا أَنَّ أَحْوَالَهُمْ فِي هَذِهِ الْمَعَارِفِ تَخْتَلِفُ‏.‏

فَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ مِنْهَا بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذِهِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ الْعِصْمَةُ مِنْ عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِبَعْضِهَا أَوِ اعْتِقَادِهَا عَلَى خِلَافِ مَا هِيَ عَلَيْهِ، وَلَا وَصْمَ عَلَيْهِمْ فِيهِ، إِذْ هِمَمُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْآخِرَةِ، وَأَنْبَائِهَا، وَأَمْرِ الشَّرِيعَةِ، وَقَوَانِينِهَا‏.‏ وَأُمُورُ الدُّنْيَا تُضَادِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا الَّذِينَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ، كَمَا سَنُبَيِّنُ هَذَا فِي الْبَابِ الثَّانِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلَكِنَّهُ لَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى الْغَفْلَةِ، وَالْبَلَهِ، وَهُمُ الْمُنَزَّهُونَ عَنْهُ، بَلْ قَدْ أُرْسِلُوا إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا، وَقُلِّدُوا سِيَاسَتَهُمْ، وَهِدَايَتَهُمْ، وَالنَّظَرَ فِي مَصَالِحِ دِينِهِمْ، وَدُنْيَاهُمْ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِأُمُورِ الدُّنْيَا بِالْكُلِّيَّةِ، وَأَحْوَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَسِيَرُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ مَعْلُومَةٌ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِذَلِكَ كُلِّهِ مَشْهُورَةٌ‏.‏

وَأَمَّا إِنْ كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ فَلَا يَصِحُّ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْعِلْمُ بِهِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِ جَهْلُهُ جُمْلَةً، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ حَصَلَ عِنْدَهُ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ مِنَ اللَّهِ، فَهُوَ لَا يَصِحُّ الشَّكُّ مِنْهُ فِيهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، فَكَيْفَ الْجَهْلُ، بَلْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ الْيَقِينُ‏.‏ أَوْ يَكُونُ فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ عَلَى الْقَوْلِ بِتَجْوِيزِ وُقُوعِ الِاجْتِهَادِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ الْمُحَقِّقِينَ، وَعَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ‏:‏ إِنِّي إِنَّمَا أَقْضِي بَيْنَكُمْ بِرَأْيِي فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيَّ فِيهِ شَيْءٌ‏.‏ خَرَّجَهُ الثِّقَاتُ ‏.‏

وَكَقِصَّةِ أَسْرَى بَدْرٍ، وَالْإِذْنِ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَلَى رَأْيِ بَعْضِهِمْ، فَلَا يَكُونُ أَيْضًا مَا يَعْتَقِدُهُ مِمَّا يُثْمِرُهُ اجْتِهَادُهُ إِلَّا حَقًّا، وَصَحِيحًا‏.‏

هَذَا هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يُلْتَفَتُ إِلَى خِلَافِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ مِمَّنْ أَجَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأَ فِي الِاجْتِهَادِ، لَا عَلَى الْقَوْلِ بِتَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ الَّذِي هُوَ الْحَقُّ وَالصَّوَابُ عِنْدَنَا، وَلَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ لِعِصْمَةِ نَبِيٍّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ فِي الشَّرْعِيَّاتِ، وَلِأَنَّ الْقَوْلَ فِي تَخْطِئَةِ الْمُجْتَهِدِينَ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الشَّرْعِ، وَنَظَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاجْتِهَادُهُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ فِيهِ شَيْءٌ، وَلَمْ يُشْرَعْ لَهُ قَبْلُ، هَذَا فِيمَا عَقَدَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلْبَهُ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَعْقِدْ عَلَيْهِ قَلْبَهُ مِنْ أَمْرِ النَّوَازِلِ الشَّرْعِيَّةِ، فَقَدْ كَانَ لَا يَعْلَمُ مِنْهَا أَوَّلًا إِلَّا مَا عَلَّمَهُ اللَّهُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى اسْتَقَرَّ عِلْمُ جَمِيعِهَا عِنْدَهُ، إِمَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ أَوْ إِذْنٍ لَهُ أَنْ يَشْرَعَ فِي ذَلِكَ، وَيَحْكُمَ بِمَا أَرَاهُ اللَّهُ‏.‏

وَقَدْ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ فِي كَثِيرٍ مِنْهَا، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى اسْتَقَرَّ عِلْمُ جَمِيعِهَا عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَقَرَّرَتْ مَعَارِفُهَا لَدَيْهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَرَفْعِ الشَّكِّ، وَالرَّيْبِ، وَانْتِفَاءِ الْجَهْلِ‏.‏

وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْجَهْلُ بِشَيْءٍ مِنْ تَفَاصِيلِ الشَّرْعِ الَّذِي أُمِرَ بِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، إِذْ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ إِلَى مَا لَا يَعْلَمُهُ‏.‏

وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِعَقْدِهِ مِنْ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَعْيِيِنِ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَآيَاتِهِ الْكُبْرَى وَأُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَشْرَاطِ السَّاعَةِ وَأَحْوَالِ السُّعَدَاءِ وَالْأَشْقِيَاءِ، وَعَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْهُ إِلَّا بِوَحْيٍ فَعَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ، لَا يَأْخُذُهُ فِيمَا أَعْلَمُ مِنْهُ شَكٌّ وَلَا رَيْبٌ، بَلْ هُوَ فِيهِ عَلَى غَايَةِ الْيَقِينِ، لَكِنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ لَهُ الْعِلْمَ بِجَمِيعِ تَفَاصِيلِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ ذَلِكَ مَا لَيْسَ عِنْدَ جَمِيعِ الْبَشَرِ، لِقَوْلِهِ‏:‏ «إِنِّي لَا أَعْلَمُ إِلَّا مَا عَلَّمَنِي رَبِّي»‏.‏ وَلِقَوْلِهِ‏:‏ «وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» ‏{‏فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ‏}‏ ‏[‏السَّجْدَةِ‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وَقَوْلِ مُوسَى لِلْخَضِرِ‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْفِ‏:‏ 66‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ‏:‏ «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، وَاسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ»‏.‏

وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏يُوسُفَ‏:‏ 76‏]‏ قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، وَغَيْرُهُ‏:‏ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْعِلْمُ إِلَى اللَّهِ‏.‏

وَهَذَا مَا لَا خَفَاءَ بِهِ، إِذْ مَعْلُومَاتُهُ لَا يُحَاطُ بِهَا، وَلَا مُنْتَهَى لَهَا‏.‏

هَذَا حُكْمُ عَقْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْحِيدِ، وَالشَّرْعِ، وَالْمَعَارِفِ، وَالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ‏.‏