فصل: الكلام في محمد صلى الله عليه وسلم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الفصل في الملل والنحل **


 الكلام في محمد صلى الله عليه وسلم

قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى ‏"‏ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ عبس وتولى إن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك إلا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى ‏"‏ وبالحديث الكاذب الذي لم يصح قط في قراءته عليه السلام في والنجم إذا هوى وذكروا تلك الزيادة المفتراة التي تشبه من وضعها من قولهم وإنها لهي الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجي وذكروا قول الله تعالى ‏"‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله ‏"‏ وإن الوحي امتسك عنه عليه السلام لتركه الاستثناء إذ سأله اليهود عن الروح وعن ذي القرنين وأصحاب الكهف وبقوله تعالى ‏"‏ وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ‏"‏ وبما روى من قوله عليه السلام لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة إذ قبل الفداء وترك قتل السرى ببدر وبما روى من قوله عليه السلام لو نزل عذاب ما نجى منه إلا عمر لأن عمر أشار بقتلهم وذكروا أنه عليه السلام مال إلى رأي أبي بكر في الفدا والاستبقاء وبقوله تعالى ‏"‏ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ‏"‏ قال وا فإن لم يكن له ذنب فماذا غفر له وبأي شيء أمتن الله عليه في ذلك وبقوله صلى الله عليه وسلم لو دعيت إلى ما دعي إليه يوسف لأجبت فإنما هذا إذ دعي إلى الخروج من السجن فلم يجب إلى الخروج حتى قال للرسول ‏"‏ ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم ‏"‏ فأمسك عن الخروج من السجن وقد دعي إلى الخروج عنه حتى اعترف النسوة بذنبهن وبراءته وتيقن بذلك ما كان شك فيه فأخبر محمد صلى الله عليه وسلم أنه لو دعي إلى الخروج من السجن لأجاب وهذا التفسير منصوص في الحديث نفسه كما ذكرنا من كلامه عليه السلام لو لبث في السجن ما لبث يوسف عليه السلام ثم دعيت لأجبت الداعي أو كلاماً هذا معناه وأما قول الله عز وجل ‏"‏ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ‏"‏ فقد بينا أن ذنوب الأنبياء عليهم السلام ليست إلا ما وقع بنسيان أو بقصد إلى ما يظنون خيراً مما لا يوافقون مراد الله تعالى منهم فهذان الوجهان هما اللذان غفر الله عز وجل له وأما قوله ‏"‏ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏"‏ فإنما الخطاب في ذلك للمسلمين لا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما كان ذلك إذ تنازعوا في غنائم بدر فكانوا هم المذنبين المتشتتين عليه يبين ذلك قوله تعالى ‏"‏ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ‏"‏ وقوله تعالى في هذه السورة نفسها النازلة في هذا المعنى ‏"‏ يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ‏"‏ وقوله تعالى قبل ذكره الوعيد بالعذاب الذي احتج به من خالفنا ‏"‏ تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ‏"‏ فهذا نص القرآن وقد رد الله عز وجل الأمر في الأنفال المأخوذة يومئذ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الخبر المذكور الذي فيه لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة ولو نزل عذاب ما نجى منه إلا عمر فهذا خبر لا يصح لأن المنفرد بروايته عكرمة بن عمار اليمامي وهو ممن قد صح عليه وضع الحديث أو سوء الحفظ أو الخطأ الذي لا يجوز معهما الرواية عنه ثم لو صح لكان القول فيه كما قلنا من انه قصد الخير بذلك وأما قوله تعالى ‏"‏ عبس وتولى ‏"‏ الآيات فإنه كان عليه السلام قد جلس إليه عظيم من عظماء قريش ورجا إسلامه وعلم عليه السلام أنه لو أسلم لأسلم بإسلامه ناس كثير وأظهر الدين وعلم أن هذا الأعمى الذي يسأله عن أشياء من أمور الدين لا يفوته وهو حاضر معه فاشتغل عنه عليه السلام بما خاف فوته من عظيم الخير عما لا يخاف فوته وهذا غاية النظر للدين والاجتهاد في نصرة القرآن في ظاهر الأمر ونهاية التقرب إلى الله الذي لو فعله اليوم منا فاعل لأجر فعاتبه الله عز وجل على ذلك إذ كان الأولى عند الله تعالى أن يقبل على ذلك الأعمى الفاضل البر التقي وهذا نفس ما قلناه وكما سهى عليه السلام من اثنتين ومن ثلاث وقام من اثنتين ولا سبيل إلى أن يفعل من ذلك شيئاً تعمداً أصلاً نعم ولا يفعل ذلك تعمداً إنساناً منا فيه خير وأما الحديث الذي فيه وأنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتها لترتجى فكذب بحت موضوع لأنه لم يصح قط من طريق النقل ولا معنى للاشتغال به إذ وضع الكذب لا يعجز عنه أحد وأما قوله تعالى ‏"‏ وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ‏"‏ الآية فلا حجة لهم فيها لأن الأماني الواقعة في النفس لا معنى لها وقد تمنى النبي صلى الله عليه وسلم إسلام عمه أبي طالب ولم يرد الله عز وجل كون ذلك فهذه الأماني التي ذكرها الله عز وجل لا سواها وحاشا لله أن يتمنى نبي معصية وبالله تعالى التوفيق وهذا الذي قلنا هو ظاهر الآية دون مزيد تكلف ولا يحل خلاف الظاهر إلا بظاهر آخر وبالله تعالى التوفيق وأما قوله ‏"‏ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا إن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت ‏"‏ فقد كفى الله عز وجل الكلام في ذلك ببيانه في أخر الآية أن ذلك كان نسياناً فعوتب عليه السلام في ذلك وأما قوله تعالى ‏"‏ وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ‏"‏ فقد انفنا من ذلك إذ لم يكن فيه معصية أصلاً ولا خلاف فيما أمره الله تعالى به وأن ما كان أراده زواج مباح له فعله ومباح له تركه ومباح له طيه ومباح له إظهاره وإنما خشى النبي صلى الله عليه وسلم الناس في ذلك خوف أن يقولوا قولاً ويظنوا ظناً فيهلكوا كما قال عليه السلام للأنصاريين إنها صفية فاستعظما ذلك فأخبرهما النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما أخشى أن يلقي الشيطان في قلوبهما شيئاً وهذا الذي خشيه عليه السلام على الناس من هلاك أديانهم بظن يظنونه به عليه السلام هو الذي يحققه هؤلاء المخذولون المخالفون لنا في هذا الباب من نسبتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم تعمد المعاصي فهلكت أديانهم وضلوا ونعوذ بالله من الخذلان وكان مراد الله عز وجل أن يبدي ما في نفسه لما كان سلف في علمه من السعادة لأمنا زينب رضي الله عنها‏.‏

قال أبو محمد فإن قال قائل أنكم تحتجون كثيراً بقول الله عز وجل ‏"‏ وما ينطق عن الهوى أن هو إلا وحي يوحى ‏"‏ وبقوله ‏"‏ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ‏"‏ وبقوله تعالى ‏"‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً ‏"‏ وبقوله عليه السلام إني لأتقاكم لله وأعلمكم بما آتي وآذر وتقولون من أجل هذه النصوص إن كل قول قال ه عليه السلام فبوحي من الله قال ه وكل عمل عمله فبإذن من الله تعالى ورضي منه عمله فأخبرونا عن سلامه صلى الله عليه وسلم من ركعتين ومن ثلاث وقيامه من اثنتين وصلاته الظهر خمساً وإخباره بأنه يحكم بالحق في الظاهر لمن لا يحل له أخذه ممن يعلم أنه في باطن الأمر بخلاف ما حكم له به من ذلك أو بوحي من الله تعالى وبرضاه فعل كل ذلك أم كيف تقولون وهل يلزم المحكوم عليه والمحكوم له الرضا بحكمه ذلك وهما يعلمان أن الأمر بخلاف ذلك أم لا‏.‏

قال أبو محمد فجوابنا وبالله تعالى التوفيق أن كل ما ذكر هاهنا فبوحي من الله تعالى فعله وكل من قدر ولم يشك في أنه قد أتم صلاته فالله تعالى أمره بأن يسلم فإذا علم بعد ذلك أنه سهى فقد لزمته شريعة الاتمام وسجود السهو برهان ذلك أنه لو تمادى ولم يسلم قاصداً إلى الزيادة في صلاته على تقديره أنه قد أتمها لبطلت صلاته كلها بلا شك باطناً وظاهراً ولاستحق اسم الفسق والمعصية وكذلك من قدر أنه لم يصل إلا ركعة واحدة وأنه لم يتم صلاته فإن الله أمره بالزيادة في صلاته يقيناً حتى لا يشك في الإتمام وبأن يقوم إلى ثانية عنده فمتى علم بأن الأمر كان بخلاف ذلك فصلاته تامة ولزمته حينئذ شريعة سجود السهو وبرهان ذلك أنه لو قعد من واحدة عنده متعمداً مستهزئاً أو سلم من ثلاث عنده متعمداً لبطلت صلاته جملة ولاستحق اسم الفسق والمعصية لأنه فعل خلاف ما أمره الله تعالى به وكذلك أمره الله وأمرنا بالحكم بالبينة العدلة عندنا وباليمين من المنكر وباقرار المقر وإن كانت البينة عامدة للكذب في غير علمنا وكانت اليمين والإقرار كاذبين في الباطن وافترض الله علينا بذلك سفك الدماء التي لو علمنا الباطن لحرمن علينا وهكذا في الفروج والأموال برهان ذلك أن حاكماً لو شهد عنده بينة عدل عنده فلم يقض بها وقضى باليمين على المنكر الذي لا بينة عليه فحلف ثم قضى عليه لكان القاضي فاسقاً بلا خلاف عاصياً لله عز وجل لخلافه ما أمره الله سبحانه وتعالى به وإن وافق حقاً لم يكن علم به وفرض على المحكوم عليه والمحكوم له أن يرضيا بالحكم بالبينة واليمين وأن يصيرا في أنفسهما إلى حقيقة علمهما في أخذ الحق وإعطائه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد وذكروا قول الله تعالى ‏"‏ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا ‏"‏ بتخفيف الذال وليس هذا على ما ظنه الجهال وإنما معناه أن الرسل عليهم السلام ظنوا بمن وعدهم النصر من قومهم أنهم كذبوهم فيما وعدهم من نصرهم ومن المحال البين أن يدخل في عقل من له أدنى رمق أن الله تعالى يكذب فكيف بصفوة الله تعالى من خلقه وأتمهم علما وأعرفهم بالله عز وجل ومن نسب هذا إلى نبي فقد نسب إليه الكفر ومن أجار إلى نبي الكفر فهو المرتد بلا شك والذي قلنا هو ظاهر الآية وليس فيها أن الله تعالى كذبهم حاشا لله من هذا وذكروا أيضاً قول الله تعالى ‏"‏ فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قال أبو محمد إنما عهدنا هذا الاعتراض من أهل الكتاب وغيرهم وأما من يدعى أنه مسلم فلا ولا يمكن البتة أن يكون مسلم يظن أن رسول الله صلى الله عليه السلام كان شاكا في صحة الوحي إليه ولنا في هذه الآية رسالة مشهودة وجملة حل هذا الشك إن في هذه الآية المذكورة بمعنى ما التي للجحد بمعنى ‏"‏ وما كنت في شك مما أنزلنا إليك ‏"‏ ثم أمره أن يسأل أهل الكتاب تقريراً لهم على أنهم يعلمون أنه نبي مرسل مذكور عندهم في التوراة والانجيل وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد هذا كل ما موهوا به قد تقصيناه وبيناه وأرينا أنه موافق لقولنا ولا يشهد شيء منه لقول مخالفنا وبالله التوفيق ونحن الآن نأخذ بحول الله وقوته في الإتيان بالبراهين الضرورية الواضحة على صحة قولنا وبطلان قول مخالفنا قال الله تعالى ‏"‏ وما كان لنبي أن يغل ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامةمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ /C_QURAN> ‏"‏ فوجدنا الله تعالى وهو أصدق القائلين قد نفى عن الأنبياء عليهم السلام الغلول والكفر ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن حكم الغلول كحكم سائر الذنوب قد صح الإجماع بذلك وأن من جوز على الأنبياء عليهم السلام شيئاً من تعمد الذنب جوز عليهم الغلول ومن نفى عنهم الغلول نفى عنهم سائر الذنوب وقد صح نفي الغلول عنهم بكلام الله تعالى فوجب انتفاء تعمد الذنوب عنهم بصحة الإجماع على أنها سواء الغلول و قال عز وجل ‏"‏ أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد فلا يخلو مخالفنا الذي يجيز أن يكون الأنبياء عليهم السلام قد اجترحوا السيئآت من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يقول في سائر الناس من لم يعص ولا اجترح سيئة قيل له فمن هؤلاء الذين نفي الله عنهم أن يكون الذين اجترحوا السيئآت مثلهم إذ كانوا غير موجودين في العالم فلا بد من أن يجعل كلام الله عز وجل هذا فارغاً لا معنى له وهذا كفر من قائله أو يقول هم الملائكة فإن قال ذلك رد قوله هذا قول الله تعالى في الآية نفسها ‏"‏ سواء محياهم ومماتهم سآء ما يحكمون ‏"‏ ولا نص ولا إجماع على أن الملائكة تموت ولو جاء بذلك نص لقلنا به بل البرهان موجب أن لا يموتوا لأن الجنة دار لا موت فيها والملائكة سكان الجنان فيها خلقوا وفيها يخلدون أبداً وكذلك الحور العين وأيضاً فإن الموت إنما هو فراق النفس للجسد المراكب وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الملائكة خلقوا من نور فليس فيهم شيء يفارق شيئاً فيسمى موتاً فإن اعترض معترض بقوله ‏"‏ كل نفس ذائقة الموت ‏"‏ لزمه أن حمل هذه الآية على عمومها أن الحور العين يمتن فيجعل الجنة دار موت وقد أبعدها الله تعالى عنه قال الله تعالى ‏"‏ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون ‏"‏ فعلمنا بهذا النص أن قوله تعالى ‏"‏ كل نفس ذائقة الموت ‏"‏ إنما عنى به من كان في غير الجنة من الجن والأنس وسائر الحيوان المركب الذي يفارق روحه جسده وبالله تعالى التوفيق ويرد أيضاً قوله أن قال بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد إلا وقد ألم أو كاد إلا يحيى بن زكريا أو يقول إن في الناس من لم يجترح سيئة قط وإن من اجترح السيئات لا يساويهم كما قال هز وجل فإن قال ذلك فإن الأنبياء عليهم السلام عنده يجترحون السيئات وفي سائر الناس من لا يجترحها فوجب أن يكون في الناس من هو أفضل من الأنبياء عليهم السلام وهذا كفر وما قدرنا أن أحداً ممن ينتمي إلى أهل الإسلام ولا إلى أهل الكتاب ينطلق لسانه بهذا حتى رأينا المعروف بابن الباقلاني فيما ذكر عنه صاحبه أبو جعفر السمناني قاضي الموصل أنه قد يكون في الناس بعد النبي صلى الله عليه وسلم من هو أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم من حين يبعث إلى حين يموت فاستعظمنا ذلك وهذا شرك مجرد وقدح في النبوة لا خفاء به وقد كنا نسمع عن قوم من الصوفية أنهم يقولون أن الولي أفضل من النبي وكنا لا نحقق هذا على أحد يدين بدين الإسلام إلى أن وجدنا هذا الكلام كما أوردنا فنعوذ بالله من الارتداد‏.‏

قال أبو محمد ولو أن هذا الضال المضل يدري ما معنى لفظة أفضل ويدري فضيلة النبوة لما انطلق لسانه بهذا الكفر وهذا التكذيب للنبي صلى الله عليه وسلم إذ يقول أني لأتقاكم لله وإني لست كهيئتكم وإني لست مثلكم فإذ قد صح بالنص أن في الناس من لم يجترح السيئة وإن من اجترح السيئآت لا يساويهم عند الله عز وجل فالأنبياء عليهم السلام أحق بهذه الدرجة وبكل فضيلة بلا خلاف من أحد من أهل الإسلام بقول الله عز وجل ‏"‏ الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس ‏"‏ فأخبر تعالى أن الرسل صفوته من خلقه وقد اعترض علينا بعض المخالفين بأن قال فما تقول فيمن بلغ فآمن وذكر الله مرات ومات أثر ذلك أو في كافر أسلم وقاتل مجاهداً وقتل فجوابنا وبالله التوفيق أن نقول أما من كان كافراً ثم أسلم فقد اجترح من السيئآت بكفره ما هو أعظم من السموات والأرض وإن كان قد غفر له بإيمانه ولكن قد حصل بلا شك من جملة من فد اجترح السيئآت وأما من بلغ فآمن وذكر الله تعالى ثم مات فقد كان هذا ممكنا في طبيعة العالم وفي بنيته لولا قول الله عز وجل ‏"‏ أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون ‏"‏ فإن الله تعالى قطع قطعاً لا يرده إلا كافر بأنه لا يجعل من اجتراح السيئآت كمن لم يجترحها ونحن نوقن أن الصحابة رضي الله عنهم وهم أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم السلام ليس منهم أحد إلا وقد اجترح سيئة فكان يلزم على هذا أن يكون من أسلم أثر بلوغه ومات أفضل من الصحابة رضي الله عنهم وهذا خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو كان لأحدنا مثل أحد ذهبا فأنفقه لم يبلغ مد أحدهم ولا نصفه فإذ هذا كما قلنا فقول الله عز وجل وقول رسوله صلى الله عليه وسلم أحق بالتصديق لا سيما مع قوله عليه السلام ما من أحد إلا ألم بذنب أو كاد إلا يحيى بن زكريا فنحن نقطع قطعاً بما ذكرنا أنه لا سبيل إلى أن يبلغ أحد حد التكليف إلا ولا بد له من أن يجترح سيئآت الله أعلم بها وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو محمد ومن البرهان على أنه لم يكن البتة أن يعصي نبي قوله صلى الله عليه وسلم ما كان لنبي أن تكون له خائنة إلا عين لما قال له الأنصاري هلا أو مأت إلى في قصة عبد الله بن سعد بن أبي سرح فنفي عليه السلام عن جميع الأنبياء عليهم السلام أن تكون لهم خائنة إلا عين وهو أخف ما يكون من الذنوب ومن خلاف الباطن للظاهر فدخل في هذا جميع المعاصي صغيرها وكبيرها سرها وجهرها‏.‏

قال أبو محمد وأيضاً فإننا مندوبون إلى الإقتداء بالأنبياء عليهم السلام وإلى الإيتساء بهم في أفعالهم كلها قال الله تعالى ‏"‏ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏"‏ فصح يقيناً أنه لو جاز أن يقع من أحد من الأنبياء عليهم السلام ذنب تعمد صغيراً وكبيراً كان الله عز وجل قد حضنا على المعاصي وندبنا إلى الذنوب وهذا كفر مجرد ممن أجازه فقد صح يقيناً أن جميع أفعال الأنبياء التي يقصدونها خير وحق‏.‏

قال أبو محمد وأيضاً فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم عظيم إنكاره على ذي الخويصرة لعنه الله ولعن أمثاله إذ قال الكافر اعدل يا محمد إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله ف قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحك من يعدل إذا أنا لم أعدل ايأمنيني الله ولا تأمنوني وقوله عليه السلام لأم سلمة أم المؤمنين إذ سألته عن الذي قبل امرأته في رمضان إلا أخبرتها أني فعلت ذلك وغضب عليه السلام إذ قال له لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فأنكر عليه السلام إذ جعل له ذنباً بعمد وإن صغر و قال عليه السلام إني والله لأعلمكم بالله وأتقاكم لله أو كلاماً هذا معناه فإن قال قائل فهلا نفيتم عنهم عليهم السلام السهو بدليل الندب إلى الايتساء بهم عليهم السلام قلنا وبالله تعالى التوفيق إنكار ما ثبت كإجازة ما لم يثبت سواء ولا فرق والسهو منهم قد ثبت بيقين وأيضاً فإن ندب الله تعالى لنا إلى الايتساء بهم عليهم السلام لا يمنع من وقوع السهو منهم لأن الايتساء بالسهو لا يمكن إلا بسهو منا ومن المحال أن نندب إلى السهو أو نكلف السهو لأننا لو قصدنا إليه لم يكن حينئذ سهواً ولا يجوز أيضاً أن ننهي عن السهو لأن الانتهاء عن السهو ليس في بنيتنا ولا في وسعنا وقد قال تعالى ‏"‏ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ‏"‏ ونقول أيضاً إننا مأمورون إذا سهونا أن نفعل كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سها وأيضاً فإن الله تعالى لا يقر الأنبياء عليهم السلام على السهو بل ينبههم في الوقت ولو لم يفعل ذلك تعالى لكان لم يبين لنا مراده منا في الدين وهذا تكذيب لله عز وجل إذ يقول تعالى ‏"‏ تبياناً لكل شيء ‏"‏ وإذ يقول ‏"‏ اليوم أكملت لكم دينكم ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ وقد فصل لكم ما حرم عليكم ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد فسقط قول من نسب إلى الأنبياء عليهم السلام شيئاً من الذنوب بالعمد صغيرها وكبيرها إذا لم يبق لهم شبهة يموهون بها أصلاً وإذ قد قامت البراهين على بطلانها ولحقوا بذي الخويصرة‏.‏

قال أبو محمد ولو جاز من الأنبياء عليهم السلام شيء من المعاصي وقد ندبنا إلى الايتساء بهم وبأفعالهم لكنا قد أبيحت لنا المعاصي وكنا لا ندري لعل جميع ديننا ضلال وكفر ولعل كل ما عمله عليه السلام معاص ولقد قلت يوماً لبعضهم ممن كان يجيز عليهم الصغائر بالعمد أليس من الصغائر تقبيل المرأة الأجنبية وقرصها ف قال نعم قلت تجوز أنه يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه يقبل امرأة غيره متعمداً ف قال معاذ الله من هذا ورجع إلى الحق من حينه والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبوم محمد قال الله تعالى ‏"‏ إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطاً مستقيماً ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد ومن الباطل المحال أن يتم الله نعمته على عبد ويعصى الله بما كبر وما صغر إذ لو كان ذلك لما كانت نعمة الله تعالى عليه تامة بل ناقصة إذ خذله فيما عصى فيه و قال تعالى ‏"‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏"‏ و قال الله تعالى ‏"‏ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد وما وقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد بلغ الغاية القصوى في الاستهزاء برسل الله صلى الله عليهم وسلم من جوز أن يكونوا سراقا زناة ولاطة وبغائين ووالله ما نعلم كفراً أعظم من هذا ولا استهزاء بالله تعالى وبرسله وبالدين أعظم من كفر أهل هذه الم قال ة وليت شعري ما الذي أمنهم من كذبهم في البليغ لأنا لا ندري لعلهم بلغوا إلينا الكذب عن الله تعالى‏.‏

قال أبو محمد فنقول لهم ولعل أفعاله التي نأتى بها تبديل للدين ومعاص لله عز وجل ولا فرق‏.‏

قال أبو محمد وما نعلم أهل قرية أشد سعياً في إفساد الإسلام وكيده من الرافضة وأهل هذه الم قال ة فإن كلتا الطائفتين الملعونتين أجازتا تبديل الدين وتحريفه وصرحت هذه الفئة مع ما أطلقت على الأنبياء من المعاصي بأن الله تعالى إنما تعبدنا في دينه بغالب ظنوننا وأنه لا حكم الله إلا ما غلب عليه ظن المرء منا وإن كان مختلفاً متناقضاً وما نمتري في أنهم ساعون في إفساد أغمار المسلمين المحسنين بهم الظن نعوذ بالله من الضلال‏.‏

قال أبو محمد فإن قائل قائل إنكم تقولون أن الأنبياء عليهم السلام مؤاخذون بما أتوا على سبيل السهو والقصد إلى الخير إذا لم يوافق مراد الله تعالى فهلا أوخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهوه في الصلاة قلنا له وبالله تعالى التوفيق قد عفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهذه فضيلة مما فضل به على جميع النبيين عليهم السلام وهكذا نص عليه السلام في حديث الشفاعة يوم القيامة ومصير الناس من نبي إلى نبي فكل ذكر خطيئة أو سكت فلما ذكروا النبي صلى الله عليه وسلم قال قائلهم عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فبطل أن يؤاخذ بما غفره الله وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد فإن قال قائل أيجوز أن يكون نبي من الأنبياء عليهم السلام يأتي معصية قبل أن يتنبأ قلنا لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون متعبداً بشريعة نبي أتى قبله كما كان عيسى عليه السلام وإما أن يكون قد نشأ في قوم درست شريعتهم ودثرت ونسيت كما في بعثة محمد صلى الله عليه وسلم في قوم قد نسوا شريعة إسماعيل وإبراهيم عليهما السلام قال تعالى ‏"‏ ووجدك ضالا فهدى ‏"‏ و قال تعالى ‏"‏ لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم ‏"‏ فإن كان النبي متعبداً بشريعة ما فقد أبطلنا آنفاً أن يكون نبي يعصى ربه أصلاً وإن كان نشأ في قوم دثرت شريعتهم فهو غير متعبد ولا مأمور بما لم يأته أمر الله تعالى به فليس عاصياً لله تعالى في شيء يفعله أو يتركه إلا أننا ندري أن الله عز وجل قد طهر أنبياءه وصانهم من كل ما يعابون به لأن العيب أذى وقد حرم الله عز وجل أن يؤذى رسوله قال تعالى ‏"‏ إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا ‏"‏‏.‏

قال أبو محمد فبيقين ندري أن الله تعالى صان أنبياءه عن أن يكونوا لبغية أو من أولاد بغى أو من بغايا بل بعثهم الله تعالى في حسب قومهم فإذ لا شك في هذا فبيقين ندري أن الله تعالى عصمهم قبل النبوة من كل ما يؤذون به بعد النبوة فدخل في ذلك السرقة والعدوان والقسوة والزنا واللياطة والبغي وأذى الناس في حريمهم وأموالهم وأنفسهم وكل ما يعاب به المرء ويتشكى منه ويؤذى بذكره وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا ما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي أنا ابن فرج انا إبراهيم بن أحمد بن فراس أنبأنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري انا إسحاق بن راهويه انا وهب بن جرير بن حازم انا أبي أنبأنا محمد بن إسحاق حدثني محمد بن عبد الله بن قيس بن مخرمة عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما هممت بقبيح مما كان أهل الجاهلية يهمون به إلا مرتين من الدهر كلتاهما يعصمني الله منها قلت لفتى كان معي من قريش بأعلى مكة في أغنام لها ترعى أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان قال نعم فلما خرجت فجئت أدني دار من دور مكة سمعت غناء وصوت دفوف وزمير فقلت ما هذا قال وا فلان تزوج فلانة لرجل من قريش فلهوت بذلك الغناء وبذلك الصوت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي ف قال لي ما فعلت فأخبرته ثم قلت له ليلة أخرى مثل ذلك ففعل فخرجت فسمعت مثل ذلك فقيل لي مثل ما قيل لي فلهوت بما سمعت حتى غلبتني عيني فما أيقظني إلا مس الشمس فرجعت إلى صاحبي ف قال لي ما فعلت قلت ما فعلت شيئاً فو الله ما هممت بعدها بسوء مما يعمل أهل الجاهلية حتى أكرمني الله بنبوته‏.‏

قال أبو محمد فصح أنه عليه السلام لم يعص قط بكبيرة ولا بصغيرة لا قبل النبوة ولا بعدها ولا هم قط بمعصية صغرت أو كبرت لا قبل النبوة ولا بعدها إلا مرتين بالسمر حيث ربما كان بعض ما لم يكن نهى عنه بعد والهم حينئذ بالسمر ليس هماً بزنا ولكنه بما يحذوا إليه طبع البرية من استحسان منظر حسن فقط وبالله تعالى التوفيق تم الكلام في الأنبياء عليهم السلام‏.‏

قال أبو محمد قد ذكرنا قبل أمر هاروت وماروت وتزيدها هنا بيناً في ذلك وبالله تعالى التوفيق إن قوماً نسبوا إلى الله تعالى ما لم يأت به قط أثر يجب أن يشتغل به وإنما هو كذب مفترى من أنه تعالى أنزل إلى الأرض ملكين وهما هاروت وماروت وأنهما عصيا الله تعالى وشربا الخمر وحكما بالزور وقتلا النفس وزنيا وعلما زانية اسم الله الأعظم فطارت به إلى السماء فمسخت كوكباً وهي الزهرة وأنهما عذبا في غار ببابل وأنهما يعلمان الناس السحر وحجتهم على ما في هذا الباب خبر رويناه من طريق عمير بن سعيد وهو مجهول مرة ي قال له النخعى ومرة ي قال له الحنفي ما نعلم له رواية إلا هذه الكذبة وليس أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه أوقفها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكذبة أخرى في أن حد الخمر ليس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو شيء فعلوه وحاشا لهم رضي الله عنهم من هذا‏.‏

قال أبو محمد ومن البرهان على بطلان هذا كله قول الله تعالى ‏"‏ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ‏"‏ فقطع الله عز وجل أن الملائكة لا تنزل إلا بالحق وليس شرب الخمر ولا الزنا ولا قتل النفس المحرمة ولا تعليم العواهر أسماءه عز وجل التي يرتفع بها إلى السماء ولا السحر من الحق بل كا ذلك من الباطل ونحن نشهد أن الملائكة ما نزلت قط بشيء من هذه الفواحش والباطل وإذا لم تنزل به فقد بطل أن تفعله لأنها لو فعلته في الأرض لنزلت به وهذا باطل وشهد عز وجل أنه لو أنزل علينا الملائكة لما نظرنا فصح أنه لم ينزل قط ملك ظاهر إلا النبي بالوحي فقط وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد وكذلك قوله تعالى ‏"‏ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا ‏"‏ فأبطل عز وجل أنه يمكن ظهور ملك إلى الناس و قال تعالى ‏"‏ ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ‏"‏ فكذب الله عز وجل كل من قال أن ملكا نزل قط من السماء ظاهراً إلا إلى الأنبياء بالحق من عند الله عز وجل فقط و قال عز وجل ‏"‏ وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوًّا كَبِيرًا ‏"‏ الآية فرفع الله تعالى الأشكال بهذا النص في هذه المسألة وقرن عز وجل نزول الملائكة في الدنيا برؤيته عز وجل فيها فصح ضرورة أن نزولهم في الدنيا إلى غير الأنبياء ممتنع البتة لا يجوز وأن من قال ذلك فقد قال حجراً محجوراً أي ممتنعاً وظهر بها كذب من ادعى أن ملكين نزلا إلى الناس فعلماهم السحر وقد استعظم الله عز وجل ذلك من رغبة من رغب نزول الملائكة إلى الناس وسمى هذا الفعل استكباراً وعتواً وأخبر عز وجل أننا لا نرى الملائكة أبداً إلى يوم القيامة فقط وأنه لا بشرى يومئذ للمجرمين فإذ لا شك في هذا كله فقد علمنا ضرورة أنه لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما كما قدمنا قبل إما أن هاروت وماروت لم يكونا ملكين وأن ما في قوله ‏"‏ وما أنزل على الملكين ‏"‏ نفى لأن ينزل على الملكين ويكون هاروت وماروت حينئذٍ بدلاً من الشياطين كأنه قال ولكن الشياطين هاروت وماروت ويكون هاروت وماروت قبيلتان من قبائل الجن كانتا يعلمان الناس السحر وقد روينا هذا القول عن خالد ابن أبي عمران وغيره وروي عن الحسن البصري أنه كان يقرأ على الملكين بكسر اللام وكان يقول أن هاروت وماروت علجان من أهل بابل إلا أن الذي لا شك فيه على هذا القول أنهما لم يكونا ملكين وقد اعترض بعض الجهال ف قال لي أبلغ من رفق الشيطان أن يقول للذي يتعلم السحر لا تكفر فقلت له هذا الاعتراض يبطل من ثلاث جهات أحدهما أن نقول لك وما المانع من أن يقول الشيطان ذلك أما سخرياً وأما لما شاء الله فلا سبيل لك إلى دليل مانع من هذا والثاني أنه قد نص الله عز وجل على أن الشيطان قال إني أخاف الله فقال تعالى ‏"‏ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ إلى قوله تعالى ‏"‏ إني أخاف الله والله شديد العقاب ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال أني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين ‏"‏ فقد أمر الشيطان الإنسان بالكفر ثم تبرأ منه وأخبره أنه يخاف الله وغر الكفار ثم تبرأ منهم و قال أني أخاف الله فأي فرق بين أن يقول الشيطان للإنسان اكفر ويغره ثم يتبرأ منه ويقول أني أخاف الله وبين أن يعلمه السحر ويقول له لا تكفر والثالث أن معلم السحر بنص الآية قد قال للذي يتعلم منه لا تكفر فسواء كان ملكاً أو شيطاناً قد علمه على قولك ما لا يحل و قال له لا تكفر فلم تنكر هذا من الشيطان ولا تنكره بزعمك من الملك وأنت تنسب إليه أنه يعلم السحر الذي عندك ضلال وكفر وأما أن يكون هاروت وماروت ملكين نزلا بشريعة حق بعلم ما على أنبياء فعلماهم الدين و قال ا لهم لا تكفروا نهياً عن الكفر بحق وأخبراهم أنهم فتنة يضل الله تعالى بهما وبما أتيا به من كفر ويهدي بهما من آمن به قال تعالى عن موسى أنه قال له ‏"‏ إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء ‏"‏ وكما قال تعالى ‏"‏ الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ‏"‏ ثم نسخ ذلك الذي أنزل على الملكين فصار كفراً بعد أن كان إيماناً كما نسخ تعالى شرائع التوراة والانجيل فتمادت الجن على تعليم ذلك المنسوخ وبالجملة فما في الآية من نص ولا دليل على أن الملكين علما السحر وإنما هو إقحام أقحم بالآية بالكذب والافك بل وفيها بيان أنه لم يكن سحرا بقوله تعالى ‏"‏ ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل ‏"‏ ولا يجوز أن يجعل المعطوف عليه شيئاً واحد ببرهان من نص أو إجماع أو ضرورة وإلا فلا أصلا وأيضاً فإن بابل هي الكوفة وهي بلد معروف بقربها محدودة معلومة ليس فيها غار فيه ملك فصح أنه خرافة موضوعة إذ لو كان ذلك لما خفى مكانهما على أهل الكوفة فبطل التعليق بهاروت وماروت والحمد لله رب العالمين‏.‏

قال أبو محمد وقد ادعى قوم أن إبليس كان ملكاً فعصا وحاشا لله من هذا لأن الله تعالى قد أكذب هذا القول بقوله تعالى ‏"‏ إلا إبليس كان من الجن ‏"‏ وبقوله ‏"‏ افتتخذونه وذريته أولياء من دوني ‏"‏ ولا ذرية للملائكة وبقوله تعالى ‏"‏ إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ‏"‏ وبإخباره أنه خلق إبليس من نار السموم وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال خلقت الملائكة من نور والنور غير النار بلا شك فصح أن الجن غير الملائكة والملائكة كلهم خيار مكرمون بنص القرآن والجن والأنس فيهما مذموم ومحمود فإن قال قائل أن الله عز وجل ذكر أنهم قال وا ‏"‏ أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ‏"‏ وهذا تزكية لأنفسهم وقد قال تعالى ‏"‏ فلا تزكوا أنفسكم ‏"‏ قلنا وبالله تعالى التوفيق مدح المرء نفسه ينقسم قسمين أحدهما ما قصد به المرء افتخاراً بغياً وانتقاصاً لغيره فهذه هي التزكية وهو مذموم جداً والآخر ما خرج مخرج الإخبار بالحق كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا سيد ولد آدم ولا فخر وفضلت على الأنبياء وكقول يوسف عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم ولا يسمى هذا تزكية ومن هذا الباب قول الملائكة ههنا برهان هذا أنه لو كان قولهم مذموماً لأنكره الله عز وجل عليهم فإذ لم ينكره الله تعالى فهو صدق ومن هذا الباب قولنا نحن المسلمون ونحن خير أمة أخرجت للناس وكقول الحواريين نحن أنصار الله فكل هذا إذا قصد به الحض على الخير لا الفخر فهو خير فإن قال قائل أن الله تعالى قال لهم ‏"‏ إني أعلم ما لا تعلمون ‏"‏ قلنا نعم وما شك الملائكة قط أن الله تعالى يعلم ما لا يعلمون وليس هذا إنكاراً وأما الجن فقد قلنا أنهم متعبدون بملة الإسلام وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الروث والعظام طعام إخواننا من الجن وهذا بخلاف حكمنا فقد يخصهم الله عز وجل بأوامر خلاف أوامرنا كما للنساء شرائع ليست للرجال من الحيض وقطع الصلاة وغير ذلك وكما لقريش الإمامة وليست لغيرهم وكل ذلك دين الإسلام وبالله تعالى التوفيق وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏