فصل: باب ما جاء في منكري القدر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **


باب ما جاء في منكري القدر

قوله‏:‏ ‏"‏ منكري ‏"‏‏.‏ أصله منكرين جمع مذكر سالم فحذفت النون للإضافة كما يحذف التنوين أيضًا، قال الشاعر‏:‏

كأني تنوين وأنت إضافة ** فأين تراني لا تحل جوارحي

وقيل‏:‏ ‏(‏مكاني‏)‏ بدل ‏(‏جواري‏)‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ القدر ‏"‏‏.‏ هو تقدير الله عز وجل للكائنات، وهو سر مكتوم لا يعلمه إلا الله أو من شاء من خلقه‏.‏

قال بعض أهل العلم‏:‏ القدر سر الله عز وجل في خلقه، ولا نعلمه إلا بعد وقوعه سواء كان خيرًا أو شرًا‏.‏

والقدر يطلق على معنيين‏.‏

الأول‏:‏ التقدير، أي‏:‏ إرادة الله الشيء عز وجل‏.‏

الثاني‏:‏ المقدر، أي‏:‏ ما قدره الله عز وجل‏.‏

والتقدير يكون مصاحبًا للفعل وسابقًا له، فالمصاحب للفعل هو الذي يكون به الفعل، والسابق هو الذي قدره الله عز وجل في الأزل، مثال ذلك‏:‏

خلق الجنين في بطن الأم فيه تقدير سابق علمي قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وفيه تقدير مقارن للخلق والتكوين، وهذا الذي يكون به الفعل، أي‏:‏ تقدير الله لهذا الشيء عند خلقه‏.‏

والإيمان بالقدر يتعلق بتوحيد الربوبية خصوصًا، وله تعلق بتوحيد الأسماء والصفات، لأنه من صفات الكمال لله عز وجل‏.‏

والناس في القدر ثلاث طوائف‏:‏

الأولى‏:‏ الجبرية الجهمية، أثبتوا قدر الله تعالى وغلوا في إثباته حتى سلبوا العبد اختياره وقدرته، وقالوا‏:‏ ليس للعبد اختيار ولا قدرة في ما يفعله أو يتركه، فأكله وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها بغير اختيار منها ولا قدرة، ولا فرق بين أن ينزل من السطح عبر الدرج مختارًا وبين أن يلقي من السطح مكرهًا‏.‏

الطائفة الثانية‏:‏ القدرية المعتزلة، أثبتوا للعبد اختيارا وقدرة في عمله وغلوا في ذلك حتى نفوا أن يكون لله تعالى في عمل العبد مشيئة أو خلق، ونفي غلاتهم علم الله به قبل وقوعه، فأكل العبد وشربه ونومه ويقظته وطاعته ومعصيته كلها واقعة باختياره التام وقدرته التامة وليس لله تعالى في ذلك مشيئة ولا خلق، بل ولا علم قبل وقوعه عند غلاتهم‏.‏

استدل الأولون الجبرية‏:‏

بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏، والعبد وفعله من الأشياء، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏، فنفي الله الرمي عن نبيه حين رمي وأثبته لنفسه، وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا ولا حرمنا من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏‏.‏

ولهم شبه أخري تركناها خوف الإطالة‏.‏

والرد على شبهاتهم بما يلي‏.‏

أما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ فاستدلالهم بها معارض بالنصوص الكثيرة التي فيها إثبات إرادة العبد وإضافة عمله إليه وإنابته عليه كرامة أو إهانة، وكلها من عند الله، ولو كان مجبرًا عليها ما كان لإضافة عمله إليه وإثابته عليه فائدة‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خلقكم وما تعملون‏}‏، فهو حجة عليهم، لأنه أضاف العمل إليهم، وأما كون الله تعالى خالقه، فلأن عمل العبد حاصل بإرادته الجازمة وقدرته التامة، والإرادة والقدرة مخلوقان لله عز وجل فكان الحاصل بهما مخلوقًا لله‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى‏}‏، فهو حجة عليهم، لأن الله تعالى أضاف الرمي إلى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لكن الرمي في الآية له معنيان‏:‏

أحدهما‏:‏ حذف المرمي، وهو فعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي أضافه الله إليه‏.‏

والثاني‏:‏ إيصال المرمي إلى أعين الكفار الذين رماهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتراب يوم بدر فأصاب عين كل واحد منهم، وهذا من فعل الله، إذ ليس بمقدور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يوصل التراب إلى عين كل واحد منهم‏.‏

وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ‏}‏، فلعمر الله، إنه الحجة على هؤلاء الجبرية، فقد أبطل الله تعالى حجة هؤلاء المشركين الذي احتجوا بالقدر على شركهم حين قال في الآية نفسها‏:‏ ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا‏}‏، وما كان الله ليذيقهم بأسه وهم على حق فيما احتجوا به‏.‏

ثم نقول‏:‏ القول بالجبر باطل بالكتاب والسنة والعقل والحس وإجماع السلف، ولا يقول به من قدر الله حق قدره وعرف مقتضى حكمته ورحمته‏.‏

فمن أدلة الكتاب‏:‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 167‏]‏، وقال‏:‏‏{‏إنه خبير بما تفعلون‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 11‏]‏، فأثبت للعبد إرادة وقولًا وفعلًا وعملًا‏.‏

ومن أدلة السنة‏:‏ قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امريء ما نوي‏)‏ ، وقوله‏:‏ ‏(‏ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به، فأتوا منه ما أستطعتم‏)‏ ‏.‏

ولهذا إذا أكره المرء على قول أو فعل وقلبه مطمئن بخلاف ما أكره عليه، لم يكن لقوله أو فعله الذي أكره عليه حكم فاعله اختيارًا‏.‏

وأما إجماع السلف على بطلان القول بالجبر‏:‏ فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال به، بل رد من أدرك منهم بدعته موروث معلوم‏.‏

وأما دلالة العقل على بطلانه‏:‏ فلأنه لو كان العبد مجبرًا على عمله، لكانت عقوبة العاصي ظلمًا ومثوبة الطائع عبثًا، والله تعالى منزه عن هذا وهذا، ولأنه لو كان العبد مجبرًا على عمله لم تقم الحجة بإرسال الرسل، لأن القدر باق مع إرسال الرسل، وما كان الله ليقيم على العباد حجة مع انتفاء كونها حجة

وأما دلالة الحس على بطلانه‏:‏ فإن الإنسان يدرك الفرق بين ما فعله باختياره، كأكله وشربه وقيامه وقعوده، وبين ما فعله بغير اختياره، كارتعاشه من البرد والخوف ونحو ذلك‏.‏

واستدل الطائفة الثانية ‏(‏القدرية‏)‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏منكم من يريد الدنيا‏}‏ ‏{‏من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 46‏]‏، ونحوها من النصوص القرآنية والنبوية الدالة على أن للعبد إرادة، وأنه هو العامل الكاسب الراكع الساجد ونحو ذلك‏.‏

والرد عليهم من وجوه‏:‏

الأول‏:‏ أن الآيات والأحاديث التي استدلوا بها نوعان‏:‏

نوع مقيد لإرادة العبد وعمله بأنه بمشيئة الله، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 28-29‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلًا * وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليمًا حكيمًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 29-30‏]‏، وكقوله تعالى‏:‏ في العمل‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن يفعل ما يريد‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ مطلق، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 223‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 29‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏من كان يريد العاجلة‏.‏‏.‏‏}‏ إلى قوله ‏{‏ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 18-19‏]‏‏.‏

وهذا النوع المطلق يحمل على المقيد كما هو معلوم عند أهل العلم‏.‏

الثاني‏:‏ أن إثبات استقلال العبد بعمله من كونه مملوكًا لله تعالى يقتضي إثبات شيء في ملك الله لا يريده الله، وهذا نوع إشراك به، ولهذا سمي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏القدرية مجوس هذه الأمة‏)‏ ‏.‏

الثالث‏:‏ أن نقول لهم‏:‏ هل تقرون بأن الله تعالى عالم بما سيقع من أفعال العباد‏؟‏ فسيقول غير الغلاة منهم‏:‏ نعم، نقر بذلك فنقول‏:‏ هل وقع فعلهم على وفق علم الله أو علي خلافه‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ على وفقه، قلنا‏:‏ إذن قد أرادة، وإن قالوا‏:‏ على خلافه، فقد أنكروا علمه، وقد قال الأئمة رحمهم الله في القدرية‏:‏ ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به، خصموا، وإن أنكروه، كفروا‏.‏

وهاتان الطائفتان الجبرية والقدرية ضالتان طريق الحق، لأنهما بين مفرط غال ومفرط مقصر، فالجبرية غلوا في إثبات القدر وقصروا في إرادة العبد وقدرته، والقدرية غلوا في إثبات إرادة العبد وقدرته وقصروا في القدر‏.‏

ولهذا كان الأسعد بالدليل والأوفق للحكمة والتعليل هم‏:‏

الطائفة الثالثة‏:‏ أهل السنة والجماعة، الطائفة الوسط، الذين جمعوا بين الأدلة وسلكوا في طريقهم خير ملة، فآمنوا بقضاء الله وقدره، وبأن للعبد اختيارًا وقدرة، فكل ما كان في الكون من حركة أو سكون أو وجود أو عدم، فإنه كائن بعلم الله تعالى ومشيئته، وكل ما كان في الكون فمخلوق لله تعالى، لا خالق إلا الله ولا مدبر للخلق إلا الله عز وجل، وآمنوا بأن للعبد مشيئة وقدرة، لكن مشيئته مربوطة بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لمن شاء منكم أن يستقيم * وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين‏}‏، فإذا شاء العبد شيئًا وفعله، علمنا أن مشيئة الله تعالى قد سبقت تلك المشيئة‏.‏

وهؤلاء هم الذين جمعوا بين الدليل المنقول والمعقول، فأدلتهم على إثبات القدر هي أدلة المثبتين له من الجبرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاه القدر‏.‏

وأدلتهم على إثبات مشيئة العبد وقدرته هي أدلة المثبتين لذلك من القدرية، لكنهم استدلوا بها على وجه العدل والجمع بينها وبين الأدلة التي استدل بها نفاه مشيئة العبد وقدرته‏.‏

وبهذا نعرف أن كلًا من الجبرية والقدرية نظروا إلى النصوص بعين الأعور الذي لا يبصر إلا من جانب واحد، فهدي الله أهل السنة والجماعة لما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏

* حكاية‏:‏

مما يحكي أن القاضي عبد الجبار الهمذاني المعتزلي دخل على الصاحب ابن عباد وكان معتزليًا أيضًا، وكان عنده الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، فقال عبد الجبار على الفور‏:‏ سبحان من تنزه عن الفحشاء ‏!‏ فقال أبو إسحاق فورًا‏:‏ سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء ‏!‏ فقال عبد الجبار وفهم أنه قد عرف مراده‏:‏ أيريد ربنا أن يعصى‏؟‏ فقال أبو إسحاق‏:‏ أيعصى ربنا قهرًا‏؟‏ فقال له عبد الجبار‏:‏ أرأيت إن منعني الهدي وقضي علي بالردي، أحسن إلى أم أساء‏؟‏

فقال له أبو إسحاق‏:‏ إن كان منعك ما هو لك، فقد أساء، وإن كان منعك ما هو له، فيختص برحمته من يشاء‏.‏ فأنصرف الحاضرون وهم يقولون‏:‏ والله، ليس عن هذا جواب‏.‏ ا‏.‏ هـ‏.‏

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن أهل السنة والجماعة وسط بين فرق المبتدعة في خمسة أصول ذكرها في ‏"‏ العقيدة الواسطية ‏"‏، فلتراجع هناك‏.‏

مراتب القدر‏:‏

المرتبة الأولى‏:‏ العلم، وذلك بأن تؤمن بأن الله تعالى علم كل شيء جملة وتفصيلًا، فعلم ما كان وما يكون، فكل شيء معلوم لله، سواء كان دقيقًا أم جليلًا من أفعاله أو أفعال خلقه‏.‏

وأدلة ذلك في الكتاب كثير، منها‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏، فالأوراق التي تتساقط ميتة أي ورقة كانت صغيرة أو كبيرة في بر أو بحر، فإن الله تعالى يعلمها، والورقة التي تخلق يعلمها من باب أولي‏.‏

ولاحظ سعة علم الله عز وجل وإحاطته، فلو فرض أنه في ليلة مظلمة ليس فيها قمر وفيها سحاب متراكم ممطر وحبة في قاع البحر المائج العميق، فهذه ظلمات متعددة‏:‏ ظلمة الطبقة الأرضية وظلمة البحر وظلمة السحاب وظلمة المطر وظلمة الأمواج وظلمة الليل، فكل هذا داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا حبة في ظلمات الأرض‏}‏، ثم جاء العموم المطلق‏:‏ ‏{‏ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين‏}‏، ولا كتابة إلا بعد علم‏.‏ ففي هذه الآيات غثبات العلم وإثبات الكتابة‏.‏

ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 70‏]‏، ففي الآية أيضًا إثبات العلم وإثبات الكتابة‏.‏

المرتبة الثانية‏:‏ الكتابة، وقد دلت عليها الآيتان السابقتان‏.‏

المرتبة الثالثة‏:‏ المشيئة، وهي عامة، ما من شيء في السماوات والأرض إلا وهو كائن بإرادة الله ومشيئته، فلا يكون في ملكه ما لا يريد أبدًا، سواء كان ذلك فيما يفعله بنفسه أو يفعله المخلوق، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 112‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم‏.‏‏.‏ ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 253‏]‏‏.‏

المرتبة الرابعة‏:‏ الخلق، فما من شيء في السماوات ولا في الأرض إلا الله خالقه ومالكه ومدبره وذو سلطانه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كل شيء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 62‏]‏، وهذا العموم لا مخصص له، حتى فعل المخلوق مخلوق لله، لأن فعل المخلوق من صفاته، وهو صفاته مخلوقان، ولأن فعله ناتج عن أمرين‏:‏

1‏.‏ إرادة جازمة‏.‏

2‏.‏ قدرة تامة‏.‏

والله هو الذي خلق في الإنسان الإرادة الجازمة والقدرة التامة، ولهذا قيل لأعرابي‏:‏ بم عرفت ربك‏؟‏ قال‏:‏ بنقض العزائم، وصرف الهمم‏.‏

والعبد يتعلق بفعله شيئان‏:‏

1‏.‏ خلق، وهذا يتعلق بالله‏.‏

2‏.‏ مباشرة، وهذا يتعلق بالعبد وينسب إليه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏جزاء بما كانوا يعملون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 24‏]‏، وقال تعالى ‏{‏ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 32‏]‏ ولولا نسبة الفعل إلى العبد ما كان للثناء على المؤمن المطيع وإثابته فائدة، وكذلك عقوبة العاصي وتوبيخه‏.‏

وأهل السنة والجماعة يؤمنون بجميع هذه المراتب الأربع، وقد جمعت في بيت‏:‏

علم كتابه مولانا مشيئته ** وخلقه وهو إيجاد وتكوين

وهناك تقديرات أخري نسبية‏:‏

منها‏:‏ تقدير عمري‏:‏ حين يبلغ الجنين في بطن أمة أربعة أشهر يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح، ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد‏.‏

ومنها‏:‏ التقدير الحولي، وهو الذي يكون في ليلة القدر، يكتب فيها ما يكون في السنة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ومنها التقدير اليومي‏:‏ كما ذكره بعض أهل العلم واستدل له بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏، فهو كل يوم يغني فقيرًا، ويفقر غنيًا‏:‏ ويوجد معدومًا، ويعدم موجودًا، ويبسط الرزق ويقدره، وينشئ السحاب والمطر، وغير ذلك‏.‏

فإن قيل هل الإيمان بالقدر ينافي ما علم بالضرورة من أن الإنسان يفعل الشيء باختياره‏؟‏

الجواب‏:‏ لا ينافيه، لأن ما يفعله الإنسان باختياره من قدر الله، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أقبل على الشام، وقالوا له‏:‏ إن في الشام طاعونًا يفتك بالناس، فجمع الصحابة وشاورهم، فقال بعضهم‏:‏ نرجع‏.‏ فعزم على الرجوع، فجاء أمين هذه الأمة أبو عبيده عامر بن الجراح، فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أفرارًا من قدر الله‏؟‏ فأجاب عمر‏:‏ نفر من قدر الله إلى قدر الله ‏.‏

يعني‏:‏ أن مضينا في السفر بقدر الله ورجوعنا بقدر الله، ثم ضرب له مثلًا قال‏:‏ أرأيت لو كان لك إبل فهبطت واديًا له شعبتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة فبقدر الله، وإن رعيت الجدبة فبقدر الله‏؟‏

وقال أيضًا‏:‏ أرايت لو رعي الجدبة وترك الخصبة، أكنت معجِّزه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فسر إذن‏.‏ ومعني معجزه‏:‏ ناسبًا إياه إلى العجز‏.‏

فالإنسان وإن كان يفعل، فإنما يفعل بقدر الله‏.‏

فإن قيل‏:‏ إذا تقرر ذلك، لزم أن يكون العاصي معذورًا بمعصيته، لأنه عصي بقدر الله‏؟‏

أجيب‏:‏ إن احتجاج العاصي بالقدر باطل بالشرع والنظر‏.‏

أما بطلانه بالشرع‏:‏ فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا لا حرمنا من شيء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، فهم قالوا هذا على سبيل الاحتجاج بالقدر على معصية الله، فرد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا‏}‏، ولو كانت حجتهم صحيحة ما أذاقهم الله بأسه، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 148‏]‏، وهذا دليل واضح على بطلان احتجاجهم بالقدر على معصية الله، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏، فأبطل الله الحجة على الناس بإرسال الرسل، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل، لأن القدر باق حتى مع إرسال الرسل، وهذا يدل على بطلان احتجاج العاصي على معصيته بقدر الله‏.‏

وأما بطلانه بالنظر، فنقول‏:‏ لو فرض أنه نشر في جريدة ما عن وظيفة مرتبها كذا وكذا، ووظيفة أخري أقل منها، فإنك سوف تطلب الأعلى، فإن لم يكن، طلبت الأخرى، فإذا لم يحصل له شيء منها، فإنه يلوم نفسه على تفريطه بعدم المسارعة إليها مع أول الناس‏.‏

وعندنا وظائف دينية الصلوات الخمس كفارة لما بينها، وهي كنهر على باب أحدنا يغتسل منه في كل يوم خمس مرات، وصلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، فلماذا تترك هذه الوظائف وتحتج بالقدر وتذهب إلى الوظائف الدنيوية الرفيعة، فكيف لا تحتج بالقدر فيما يتعلق بأمور الدنيا وتحتج به فيما يتعلق بأمور الآخرة‏؟‏ ‏!‏

مثال آخر‏:‏ رجل قال‏:‏ عسي ربي أن يرزقني بولد صالح عالم عابد، وهو لم يتزوج، فنقول‏:‏ تزوج حتى يأتيك‏.‏ فقال‏:‏ لا، فلا يمكن أن يأتيه الولد، لكن إذا تزوج، فإن الله بمشيئته قد يرزقه الولد المطلوب‏.‏

وكذلك من يسأل الله الفوز بالجنة والنجاة من النار، ولا يعمل لذلك، فلا يمكن أن ينجو من النار ويفوز بالجنة لأنه لم يعمل لذلك‏.‏

فبطل الاحتجاج بالقدر على معاصي الله بالأثر والنظر، ولهذا قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلمة جامعة مانعة نافعة‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعدة من النار‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ أفلا ندع العمل ونتكل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اعملوا، فكل ميسر لما خلق له‏)‏ ‏.‏ فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطانا كلمة واحدة فقال اعملوا وهذا فعل أمر فكل ميسرٌ لما خلق له‏.‏

وللإيمان بالقدر فوائد عظيمة، منها‏:‏

1‏.‏ أنه من تمام توحيد الربوبية‏.‏

2‏.‏ أنه يوجب صدق الاعتماد على الله عز وجل، لأنك إذا علمت أن كل شيء بقضاء الله وقدره صدق اعتمادك على الله‏.‏

3‏.‏ أنه يوجب للقلب الطمأنينة، إذا علمت أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطاك لم يكن ليصيبك، اطمأننت بما يصيبك بعد فعل الأسباب النافعة‏.‏

4‏.‏ منع إعجاب المرء بعمله إذا عمل عملًا يشكر عليه، لأن الله هو الذي من عليه وقدره له، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22-23‏]‏، أي‏:‏ فرح بطر وإعجاب بالنفس

5‏.‏ عدم حزنه على ما أصابه، لأنه من ربه، فهو صادر عن رحمة وحكمة‏.‏

6‏.‏ أن الإنسان يفعل الأسباب، لأنه يؤمن بحكمة الله عز وجل وأنه لا يقدر الأشياء إلا مربوطة بأسبابها‏.‏

وقال ابن عمر‏:‏ ‏(‏والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا، ثم أنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه، حتى يؤمن بالقدر، ثم استدل بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الأخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ والذي نفس ابن عمر بيده ‏"‏‏.‏ الصيغة هنا قسم، جوابه‏:‏ جملة ‏"‏ لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا، ثم أنفقه في سبيل الله، ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ‏"‏

وابن عمر رضي الله عنه وعن أبيه ذكر حكمهم بالنسبة لقبول عملهم ولم يقل هم كفار، لكن حكمه بأن إنفاقهم في سبيل الله لا يقبل يستلزم الحكم بكفرهم، وإنما قال ابن عمر ذلك جوابًا على ما نقل إليه من أن أناسًا من البصرة يقولون‏:‏ إن الله عز وجل لم يقدر فعل العبد وإن الأمر أنف، وأنه لا يعلم بأفعال العبد حتى يعملها وتقع منه، فابن عمر حكم بكفرهم اللازم من قوله‏:‏ ‏"‏ ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ‏"‏، والذي لا تقبل منه النفقات هو الكافر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏، ثم استدل ابن عمر بقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏الإيمان‏:‏ أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏، فتؤمن بالجميع، فإن كفرت بواحد من هذه الستة، فأنت كافر بالجميع لأن الإيمان كل لا يتجزأ، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا أولئك هم الكافرون حقًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 150-151‏]‏‏.‏

ووجه استدلال ابن عمر‏:‏ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل الإيمان مبنيًا على هذه الأركان الستة، وإذا فات ركن من الأركان، سقط البنيان، فإذا أنكر الإنسان شيئًا واحدًا من هذه الأركان الستة، صار كافرًا، وإذا كان كافرًا، فإن الله لا يقبل منه‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ أن تؤمن بالله ‏"‏‏.‏ والإيمان بالله عز وجل يتضمن أربعة أمور‏:‏

1‏.‏ الإيمان بوجوده‏.‏

2‏.‏ وبربو بيته‏.‏

3‏.‏ وبألوهيته‏.‏

4‏.‏ وبأسمائه وصفاته‏.‏

فمن أنكر وجود الله، فليس بمؤمن، ومن أقر بوجوده وأنه رب كل شيء، لكنه أنكر أسماءه وصفاته، أو أنكر أن يكون مختصًا بها، فهو غير مؤمن بالله‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ وملائكته ‏"‏‏.‏ والإيمان بالملائكة يتضمن أربعة أمور‏:‏

1‏.‏ الإيمان بوجودهم‏.‏

2‏.‏ الإيمان باسم من علمنا اسمه منهم‏.‏

3‏.‏ الإيمان بأفعالهم‏.‏

4‏.‏ الإيمان بصفاتهم‏.‏

فممن علمنا صفاته جبريل عليه السلام، علمناه على خلقته التي خلق عليها له ستمائة جناح، قد سد الأفق، كما أخبرنا بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا يدل على عظمته، وأنه كبير جدًا، فهو فوق ما نتصور، ومع ذلك يأتي أحيانًا بصورة بسر فأترة مرة بصورة دحية الكلبي وأترى مرة رجل شديد سواد الشعر شديد بياض الثياب لا يري عليه أثر سفر ولا يعرفه من الصحابة أحد، فجلس إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جلسة المتعلم المتأدب ‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ وكتبه ‏"‏‏.‏ أي‏:‏ الكتب التي أنزلها على رسله‏.‏

والإيمان بالكتب يتضمن ما يلي‏:‏

1‏.‏ الإيمان بأنها حق من عند الله‏.‏

2‏.‏ تصديق أخبارها‏.‏

3‏.‏ التزام أحكامها ما لم تنسخ، وعلي هذا، فلا يلزمنا أن نلتزم بأحكام الكتب السابقة، لأنها كلها منسوخة بالقرآن، إلا ما أقره القرآن‏.‏

وكذلك لا يلزمنا العمل بما نسخ في القرآن، لأن القرآن فيه أشياء منسوخة‏.‏

4‏.‏الإيمان بما علمناه معينًا منها، مثل‏:‏ التوراة، والإنجيل، والقرآن، والزبور، وصحف إبراهيم وموسى‏.‏

5‏.‏الإيمان بأن كل رسول أرسله الله معه كتاب، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏، وقال عيسى‏:‏ ‏{‏إني عبد الله آتاني الكتاب‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 30‏]‏ وقال عن يحيي ‏{‏يا يحيي خذ الكتاب بقوة‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏

* تنبيه‏:‏

الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى اليوم قد دخلها التحريف والكتمان، فلا يوثق بها، والمراد بما سبق الإيمان بأصل الكتب‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ ورسله ‏"‏‏.‏ هم الذين أوحي الله إليهم وأرسلهم إلى الخلق ليبلغوا شريعة الله‏.‏

والإيمان بالرسل يتضمن ما يلي‏:‏

1‏.‏ أن نؤمن بأنهم حق صادقون مصدقون‏.‏

2‏.‏ أن نؤمن بما صح عنهم من الأخبار، وبما ثبت عنهم من الأحكام، ما لم تنسخ‏.‏

3‏.‏ أن نؤمن بأعيان من علمنا أعيانهم، وما لم نعلمه، فنؤمن بهم على سبيل الإجمال، ونعلم أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وأن الله سبحانه وتعالى أرسل لكل أمة رسولًا تقوم به الحجة عليهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏رسلًا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏‏.‏

والبشر إذا لم يأتهم رسول يبين لهم فهم معذورن، لأنهم يقولون‏:‏ يا ربنا ‏!‏ ما أرسلت إلينا رسولًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 134‏]‏، فلابد من رسول يهدي به الله الخلق‏.‏

فإن قيل‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏على فترة من الرسل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ يدل على أنه فيه فترة ليس فيها رسول، فهل قامت عليهم الحجة‏؟‏

الجواب‏:‏ إن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام طويلة، وقد قامت عليهم الحجة، لأن فيها بقايا، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏‏:‏ ‏(‏إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب‏)‏ ، وكما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلًا ممن أنجينا منهم‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 116‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ واليوم الآخر ‏"‏‏.‏ اليوم النهائي الأبدي الذي لا يوم بعده، وهو يوم القيامة الكبري‏.‏

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله‏:‏ يدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مما يكون بعد الموت، ذكر هذا في ‏"‏العقيدة الواسطية‏"‏، وهو كتاب مختصر، لكنه مبارك من أفيد ما كتب في بابه‏.‏

وعلى هذا، فالإيمان بفتنة القبر وعذابه ونعيمه من الإيمان باليوم الآخر‏.‏

والإيمان بالنفخ في الصور وقيام الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلًا بهما من الإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالموازين والصحف والصراط والحوض والشفاعة والجنة وما فيها من النعيم والنار وما فيها من العذاب الأليم، كل هذا من الإيمان باليوم الآخر‏.‏

ومنها ما هو معلوم بالقرآن، ومنه ما هو معلوم بالسنة بالتواتر وبالآحاد فكل ما صحت به الأخبار عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أمر اليوم الآخر، فإنه يجب علينا أن نؤمن به‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وتؤمن بالقدر خيره وشره‏)‏‏.‏ هنا أعاد الفعل ولم يكتف بواو العطف، لأن الإيمان بالقدر مهم، فكأنه مستقل برأسه‏.‏

والإيمان بالقدر‏:‏ هو أن تؤمن بتقدير الله عز وجل للأشياء كلها، سواء ما يتعلق بفعله أو ما يتعلق بفعل غيره، وأن الله عز وجل قدرها وكتبها عنده قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ومعلوم أنه لا كتابة إلا بعد علم، فالعلم سابق على الكتابة، ثم إنه ليس كل معلوم الله سبحانه وتعالى مكتوبًا، لأن الذي كتب إلى يوم القيامة، وهناك أشياء بعد يوم القيامة كثيرة أكثر مما في الدنيا هي معلومة عند الله عز وجل، ولكنه لم يرد في الكتاب والسنة أنه مكتوبة‏.‏

وهذا القدر، قال بعض العلماء‏:‏ إنه سر من أسرار الله، وهو كذلك لم يطلع الله عليه أحدًا، لا ملكًا مقربًا، ولا نبيًا مرسلًا، إلا ما أوحاه الله عز وجل إلى رسله أو وقع فعلم به الناس، وإلا فإنه سر مكتوم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما تدري نفس ماذا تكسب غدًا‏}‏ الآية ‏[‏لقمان‏:‏ 34‏]‏، وإذا قلنا‏:‏ إنه سر مكتوم، فإن هذا القول يقطع احتجاج العاصي بالقدر على معصيته، لأننا نقول لهذا الذي عصي الله عز وجل وقال‏:‏ هذا مقدر على‏:‏ ما الذي أعلمك أنه مقدر عليك حتى أقدمت، أفلا كان الأجدر بك أن تقدر أن الله تعالى قد كتب لك السعادة وتعمل بعمل أهل السعادة لأنك لا تستطيع أن تعلم أن الله كتب عليك الشقاء إلا بعد وقوعه منك‏؟‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏ ‏[‏الصف‏:‏ 5‏]‏، فالقول بأن القدر سر من أسرار الله مكتوم لا يطلع عليه إلا بعد وقوع المقدور تطمئن له النفس، وينشرح له الصدر، وتنقطع به حجة البطالين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ خير وشره ‏"‏‏.‏ الخير‏:‏ ما يلائم العبد، والشر‏:‏ ما لا يلائمه‏.‏

ومعلوم أن المقدورات خير و شر، فالطاعات خير، والمعاصي شر، والغني خير، والفقر شر، والصحة خير، والمرض شر، وهكذا‏.‏

وإذا كان القدر من الله، فكيف يقال‏:‏ الإيمان بالقدر خيره وشره والشر لا ينسب إلى الله‏؟‏

فالجواب‏:‏ أن الشر لا ينسب إلى الله، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏والشر ليس إليك‏)‏، فلا ينسب إليه الشر لا فعلًا ولا تقديرًا ولا حكمًا، بل الشر في مفعولات الله لا في فعله، ففعله كله خير وحكمة، فتقدير الله لهذه الشرور له حكمة عظيمة، وتأمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏، تجد أن هذا الفساد الذي ظهر في البر والبحر كان لما يرجى به من العاقبة الحميدة، وهي الرجوع إلى الله عز وجل، ويظهر الفرق بين الفعل والمفعول في المثال التالي‏:‏

ولدك حينما يشتكي ويحتاج إلى كي تكويه بالنار، فالكي شر، لكن الفعل خير، لأنك تريد مصلحته، ثم إن ما يقدره الله لا يكون شرًا محضًا، بل في محله وزمانه فقط، فإذا أخذ الله الظالم أخذ عزيز مقتدر، صار ذلك شرًا بالنسبة له، وقد يكون خيرًا له من وجه آخر، أما لغيره ممن يتعظ بما صنع الله به، فيكون خيرًا، قال تعالى في القرية التي اعتدت في السبت‏:‏ ‏{‏فجعلناها نكالًا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وكذا إذا استمرت النعم على الإنسان حمله ذلك على الأشر والبطر، بل إذا استمرت الحسنات ولم تحصل منه سيئة تكسر من حدة نفسه، فقد يغفل عن التوبة وينساها ويغتر بنفسه ويعجب بعمله‏.‏

وكم من إنسان أذنب ذنبًا ثم تذكر واستغفر وصار بعد التوبة خيرًا منه قبلها، لأنه كلما تذكر معصيته هانت عليه نفسه وحد من عليائها، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له الاجتباء والتوبة والهداية إلا بعد أن أكل من الشجرة وحصل منه الندم، وقال‏:‏ ‏{‏ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 23‏]‏، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 122‏]‏‏.‏

والثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك فخلفوا ماذا كانت حالهم بعد المعصية وبعد المصيبة التي أصابتهم، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وصار ينكرهم الناس حتى أقاربهم صار قريبه يشاهده وكأنه أجنبي منه، ومن شدة ما في نفسه تنكرت نفسه عليه، فبعد هذا الضيق العظيم صار لهم بعد التوبة فرح ليس له نظير أبدًا، وصارت حالهم أيضًا بعد أن تاب الله عليهم أكمل من قبل، وصار ذكرهم بعد التوبة أكبر من قبل، فقد ذكروا بأعيانهم، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 118‏]‏، فهذه آيات عظيمة تتلي في محاريب المسلمين ومنابرهم إلى يوم القيامة ويتقرب العبد إلى ربه بقراءة خبرهم واستماعه، وهذا شيء عظيم‏.‏

وسواء كان ذلك في الأمور الشرعية أو في الأمور الكونية، ولكن ها هنا أمر يجب معرفته، وهو أن الخيرية والشرية ليست باعتبار قضاء الله سبحانه وتعالى، فقضاء الله تعالى كله خير، حتى ما يقضيه الله من شر هو في الواقع خير، وإنما الشر في المقضي، أما قضاء الله نفسه، فهو خير، والدليل قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏الخير بيديك، والشر ليس إليك‏)‏ ، ولم يقل‏:‏ والشر بيديك، فلا ينسب الشر إلى الله أبدًا، فضلًا عن أن يكون بيديه، فلا ينسب الشر إلى الله لا إرادة ولا قضاء، فالله لا يريد بقضاء الشر شرًا، لكن الشر يكون في المقضي، وقد يلائم الإنسان وقد لا يلائمه، وقد يكون طاعة وقد يكون معصية، فهذا في المقضي، ومع ذلك، فهو وإن كان شرًا في محله فهو خير في محل آخر، ولا يمكن أن يكون شرًا محضًا، حتى المقضي وإن كان شرًا ليس شرًا محضًا، بل هو شر من وجه خير من وجه، أو شر في محل خير في محل آخر‏.‏

ولنضرب لذلك مثلًا‏:‏ الجدب والفقر شر، لكنهما خير باعتبار ما ينتج عنهما، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 41‏]‏ والرجوع إلى الله عز وجل من معصيته إلى طاعته لا شك أنه خير وينتج خيرًا كثيرًا، فألم الفقر وألم الجدب وألم المرض وألم فقد الأنفس كله ينقلب إلى لذة إذا كان يعقبه الصلاح، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏، وكم ما أناس طغوا بكثرة المال وزادوا ونسوا الله عز وجل واشتغلوا بالمال، فإذا أصيبوا بفقر، رجعوا إلى الله، وعرفوا أنهم ضالون، فهذا الشر صار خيرًا باعتبار آخر‏.‏

كذلك قطع يد السارق لا شك أنه شر عليه، لكنه خير بالنسبة له وبالنسبة لغيره، أما بالنسبة له، فلأن قطعها يسقط عنه العقوبة في الآخرة وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهو أيضًا خير في غير السارق، فإن فيه ردعًا لمن أراد أن يسرق، وفيه أيضًا حفظ للأموال، لأن السارق إذا عرف أنه إذا سرق ستقطع يده، امتنع من السرقة، فصار في ذلك حفظ لأموال الناس، ولهذا قال بعض الزنادقة‏:‏

يد بخمس مئين عسجدًا وديت ** ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض مالنا إلا السكوت له ** ونستجير بمولانا من النار

لكنه أجيب في الرد عليه ردًا مفحمًا، فقيل فيه‏:‏

قل للمعري عار أيما عاري ** جهل الفتي وهو من ثوب التقي عاري

يد بمخس مئين عسجدًا وديت ** لكنها قطعت في ربع دينار

حماية النفس أغلاها وأرخصها ** حماية المال فافهم حكمة الباري

وعن عبادة بن الصامت، أنه قال لابنه‏:‏ يا بني ‏!‏ إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أم ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطاك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏إن أول ما خلق الله القلم، فقال له‏:‏ أكتب‏.‏ فقال رب ‏!‏ وماذا أكتب‏؟‏ قال‏:‏ أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة‏)‏ يا بني ‏!‏ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏من مات على غير هذا، فليس مني‏)‏ ‏.‏

* قوله في حديث عبادة‏:‏ أنه قال لابنه‏:‏ يابني ‏!‏‏.‏‏.‏ ‏"‏ إلخ‏.‏

أفاد حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه ينبغي للأب أن يسدي النصائح لأبنائه ولأهله، وأن يختار العبارات الرقيقة التي تلين القلب، حيث قال ‏"‏ يا بني ‏!‏‏"‏، وفي هذا التعبير من اللطافة وجذب القلب ما هو ظاهر‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لن تجد طعم الإيمان‏)‏‏.‏ هذا يفيد أن للإيمان طعمًا كما جاءت به السنة، طعم الإيمان ليس كطعم الأشياء المحسوسة، فطعم الأشياء المحسوسة إذا أتي بعدها طعم آخر أزالها، لكن طعم الإيمان يبقي مدة طويلة، حتى إن الإنسان أحيانًا يفعل عبادة في صفاء وحضور قلب وخشوع لله عز وجل، فتجده يتطعم بتلك العبادة مدة طويلة، فالإيمان له حلاوة وله طعم لا يدركه إلا من أسبغ الله عليه نعمته بهذه الحلاوة وهذا الطعم‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك‏)‏‏.‏ قد تقول‏:‏ ما أصابني لم يكن ليخطئني، هذا تحصيل حاصل، لأن الذي أصاب الإنسان أصابه، فلابد أن نعرف معني هذه العبارة، فتحمل هذه العبارة على أحد معنيين أو عليهما جميعًا‏:‏

الأول‏:‏ أن المعني ‏(‏ما أصابك‏)‏، أي‏:‏ ما قدر الله أن يصيبك، فعبر عن التقدير بالإصابة، لأن ما قدر الله سوف يقع، فما قدر الله أن يصيبك لم يكن ليخطئك مهما عملت من أسباب‏.‏

الثاني‏:‏ ما أصابك، فلا تفكر أن يكون مخطئًا لك، فلا تقل‏:‏ لو أنني فعلت كذا ما حصل كذا، لأن الذي أصابك الآن لا يمكن أن يخطئك، فكل التقديرات التي تقدرها وتقول‏:‏ لو أني فعلت كذا ما حصل كذا هي تقديرات يائسة، لا تؤثر شيئًا، وأيًا كان، فالمعني صحيح على الوجهين، فما قدره الله أن يصيب العبد فلابد أن يصيبه ولا يمكن أن يخطئه، وما وقع مصيبًا للإنسان، فإنه لن يمنعه شيء، فإذا آمنت هذا الإيمان ذقت طعم الإيمان، لأنك تطمئن وتعلم أن الأمر لابد أن يقع على ما وقع عليه، ولا يمكن أن يتغير أبدًا‏.‏

مثال ذلك‏:‏ رجل خرج بأولاده للنزهة، فدب بعض الأولاد إلى بركة عميقة، فسقط، فغرق، فمات، فلا يقول‏:‏ لو أنني ما خرجت لما مات الولد، بل لابد أن تجري الأمور على ما جرت عليه، ولا يمكن أن تتغير، فما أصابك لم يكن ليخطئك، فحينئذ يطمئن الإنسان ويرضي، ويعرف أنه لا مفر وأن كل التقدير أو التخيلات التي تقع في ذهنه كلها من الشيطان فلا تقل‏:‏ لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن ‏"‏ لو‏"‏ تفتح عمل الشيطان، وحينئذ يرضي ويسلم، وقد أشار الله إلى هذا المعني في قوله‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22-23‏]‏‏.‏

فأنت إذا علمت هذا العلم وتيقنته بقلبك، ذقت حلاوة الإيمان، واطمأننت، واستقر قلبك، وعرفت أن الأمر جار على ما هو عليه لا يمكن أن يتغير، ولهذا كثيرًا ما يجد الإنسان أن الأمور سارت ليصل إلى هذه المصيبة، فتجده يعمل أعمالًا لم يكن من عادته أن يعملها حتى يصل إلى ما أراد الله عز وجل مما يدل على أن الأمور بقضاء الله وقدره‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وما أخطأك لم يكن ليصيبك‏)‏‏.‏ نقول فيه مثل الأول، يعني‏:‏ ما قدر أن يخطئك فلن يصيبك، فلو أن أحدًا سمع بموسم تجارة في بلد ما وسافر بأمواله لهذا الموسم، فلما وصل وجد أن الموسم قد فات، نقول له‏:‏ ما أخطاك من هذا الريح الذي كنت تعد له لم يكن ليصيبك مهما كان ومهما عملت، أو نقول‏:‏ لم يكن ليصيبك، لأن الأمر لابد أن يجري على ما قضاه الله وقدره، وأنت جرب نفسك تجد أنك إذا حصلت على هذا اليقين ذقت حلاوة الإيمان‏.‏

ثم استدل لما يقول بقوله‏:‏ ‏(‏سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏إن أول ما خلق الله القلم‏)‏‏.‏ القلم بالرفع، وروي بالنصب‏.‏

فعلي رواية الرفع يكون المعني‏:‏ أن أول ما خلق الله هو القلم، لكن ليس من كل المخلوقات، كما سنبينه إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما على رواية النصب، فيكون المعني‏:‏ أن الله أمر القلم أن يكتب عند أول خلقه له، يعني‏:‏ خلقه ثم أمره أن يكتب، وعلي هذا المعني لا إشكال فيه، لكن على المعني الأول الذي هو الرفع‏:‏ هل المراد أن أول المخلوقات كلها هو القلم‏؟‏

الجواب‏:‏ لا، لأننا لو قلنا‏:‏ إن القلم أول المخلوقات، وإنه أمر بالكتابة عندما خلق، لكنا نعلم ابتداء خلق الله للأشياء، وأن أول بدء خلق الله كان قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، ونحن نعلم أن الله عز وجل خلق أشياء قبل هذه المدة بأزمنة لا يعلمها إلا الله عز وجل، لأن الله عز وجل لم يزل ولا يزال خالقًا، وعلى هذا، فيكون‏:‏ إن أول ما خلق الله القلم يحتاج إلى تأويل ليطابق ما علم بالضرورة من أن الله تعالى له مخلوقات قبل هذا الزمن‏.‏

قال أهل العلم‏:‏ وتأويله‏:‏ إن المعني‏:‏ أن أول ما خلق الله القلم بالنسبة لما نشاهده فقط من المخلوقات، كالسموات والأرض‏.‏‏.‏ فهي أولية نسبية، وقد قال ابن القيم في نونيته‏:‏

والناس مختلفون في القلم الذي ** كتب القضاء به من الديان

هل كان قبل العرش أو هو بعده ** قولان عن أبي العلا الهمذاني

والحق أن العرش قبل لأنه ** قبل الكتابة كان ذا أركان

قوله‏:‏ ‏"‏ فقال له‏:‏ أكتب ‏"‏ القائل هو الله عز وجل‏:‏ يخاطب القلم، والقلم جماد، لكن كل جماد أمام الله مدرك وعاقل ومريد، والدليل على هذا قوله تعالى في سورة فصلت‏:‏ ‏{‏قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادًا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض أئتيا طوعًا أو كرهًا‏}‏، أي لابد أن تنقادا لأمر الله طوعًا أو كرهًا، فكان الجواب‏:‏ ‏{‏قالتا أتينا طائعين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9-11‏]‏ فقد خاطب الله السموات والأرض وأجابتها ودل قوله طائعين على أن لها إرادة وأنها تطيع، فكل شيء أمام الله، فهو مدرك مريد ويجيب ويمتثل‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ قال‏:‏ ربي وماذا أكتب‏؟‏ ‏"‏‏.‏ ‏"‏ ماذا ‏"‏‏:‏ اسم استفهام مفعول مقدم، و ‏"‏ اكتب ‏"‏‏:‏ فعل مضارع مرفوع بالضمة الظاهرة، هذا إذا ألغيت ‏"‏ ذا ‏"‏، أما إذا لم تلغ، فنقول‏:‏ ‏"‏ ما ‏"‏ اسم استفهام مبتدأ، و ‏"‏ ذا ‏"‏‏:‏ خبره، أي‏:‏ ما الذي أكتب‏؟‏ والعائد على الموصول محذوف تقديره‏:‏ ما الذي أكتبه‏؟‏

وفي هذا دليل على أن الأمر المجمل لا حرج على المأمور في طلب استبانته، وعلى هذا، فإننا نقول‏:‏ إذا كان الأمر مجملًا، فإن طلب استبانته لا يكون معصية، فالقلم لا شك أنه ممتثل لأمر الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك قال ‏"‏ رب وماذا أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، فكتب المقادير‏.‏

فإن قيل‏:‏ هل القلم يعلم الغيب‏؟‏

فالجواب‏:‏ لا، لكن الله أمره، ولابد أن يمتثل لأمر الله، فكتب هذا القلم الذي يعتبر جمادًا بالنسبة لمفهومنا، كتب كل شيء أمره الله أن يكتبه، لأن الله إذا أراد شيئًا قا له‏:‏ كن، فيكون على حسب مراد الله‏.‏

و‏"‏ كل ‏"‏‏:‏ من صيغ العموم، فتعم كل شيء مما يتعلق بفعل الله أو بفعل المخلوقين‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ حتى تقوم الساعة ‏"‏‏.‏ الساعة هي القيامة، وأطلق عليها لفظ الساعة، لأن كل شيء عظيم من الدواهي له ساعة، يعني‏:‏ الساعة المعهودة التي تذهل الناس وتحيق بهم وتغشاهم حين تقوم، وذلك عند النفخ في الصور‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏يابني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول‏:‏ ‏(‏من مات على غير هذا‏)‏‏.‏ أي‏:‏ الإيمان بأن الله كتب مقادير كل شيء‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فليس مني‏)‏‏.‏ تبرأ منه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه كافر، والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ برىء من كل كافر‏.‏

ويستفاد من هذا الحديث‏:‏

1‏.‏ ملاطفة الأبناء بالموعظة، وتؤخذ من قوله‏:‏ ‏"‏ يا بني ‏"‏‏.‏

2‏.‏ أنه ينبغي أن يلقن الأبناء الأحكام بأدلتها، وذلك أنه لم يقل‏:‏ إن الله كتب‏.‏‏.‏ وسكت، ولكنه أسند إلى رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فمثلًا‏:‏ إذا أردت أن تقول لابنك‏:‏ سم الله على الأكل، واحمد الله إذا فرغت، فإنك إذا قلت ذلك يحصل به المقصود، لكن إذا قلت‏:‏ سم الله على الأكل، واحمد الله إذا فرغت، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر بالتسمية عند الأكل، وقال‏:‏ ‏(‏إن الله ليرضي عن العبد يأكل الأكلة ويحمده عليها، ويشرب الشربة ويحمده عليها‏)‏ ، أذا فعلت ذلك استفدت فائدتين‏:‏

الأولى‏:‏ أن تعود ابنك على اتباع الأدلة‏:‏

الثانية‏:‏ أن تربيه على محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ هو الإمام المتبع الذي يجب الأخذ بتوجيهاته، وهذه في الحقيقة كثيرًا ما يغفل عنها، فأكثر الناس يوجه ابنه إلى الأحكام فقط، لكنه لا يربط هذه التوجيهات بالمصدر الذي هو الكتاب والسنة‏.‏

وفي رواية لأحمد‏:‏ ‏(‏إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له‏:‏ اكتب، فجري في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة‏)‏ ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏وفي رواية لأحمد‏:‏ إن أول ما خلق الله القلم، فقال له‏:‏ اكتب‏.‏‏.‏ ‏)‏‏.‏

هذه الرواية تفيد أمرًا زائدًا على ما سبق، وهو قوله‏:‏ ‏(‏فجرى في تلك الساعة‏)‏، فإنه صريح في أن القلم امتثل، والحديث الأول ليس فيه أنه كتب إلا عن طريق اللزوم بأنه سيكتب امتثالًا لأمر الله تعالى، فيستفاد منه ما سبق من كتابة الله سبحانه وتعالى كل شيء إلى قيام الساعة، وهذا مذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 70‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها‏}‏، أي‏:‏ من قبل أن نبرأ الخليقة، ‏{‏إن ذلك على الله يسير‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ إلى يوم القيامة ‏"‏‏.‏ هو يوم البعث، وسمي يوم القيامة، لقيام أمور ثلاثة فيه‏:‏

الأول قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ليوم عظيم * يوم يقوم الناس لرب العالمين‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 5-6‏]‏‏.‏

الثاني‏:‏ قيام الأشهاد الذين يشهدون للرسل وعلى الأمم، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏]‏‏.‏

الثالث‏:‏ قيام العدل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونضع الموازين القسط ليوم القيامة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏‏.‏

وفي رواية لابن وهب‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏{‏فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره، أحرقه الله بالنار‏}‏ ‏.‏

وفي ‏"‏ المسند ‏"‏ و‏"‏ السنن ‏"‏ عن ابن الديلمي، قال‏:‏ ‏"‏ أتيت أبي بن كعب، فقلت‏:‏ في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء، لعل الله أن يذهبه من قلبي‏.‏ فقال‏:‏ لو أنفقت مثل أحد ذهبًا، ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا، لكنت من أهل النار‏.‏ قال‏:‏ فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏حديث صحيح رواه الحاكم في ‏"‏ صحيحه ‏"‏ ‏(‏2‏)‏

قوله‏:‏ ‏"‏ وفي رواية لابن وهب ‏"‏‏.‏ ظاهره أن هذا في حديث عبادة، وابن وهب أحد حفاظ الحديث‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار‏)‏‏.‏ في هذا دليل على أن الإيمان بالقدر واجب ولا يتم الإيمان إلا به، وأما من لم يؤمن به، فإنه يحرق بالنار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ أحرقه الله بالنار ‏"‏ بعد قوله‏:‏ ‏"‏ فمن لم يؤمن ‏"‏ يدل على أن من أنكر أو شك فإنه يحرق بالنار، لأن لدينا ثلاث مقامات‏:‏

الأول‏:‏ الإيمان والجزم بالقدر بمراتبه الأربع‏.‏

الثاني‏:‏ إنكار ذلك‏.‏

وهذان واضحان، لأن الأول إيمان والثاني كفر‏.‏

الثالث‏:‏ الشك والتردد‏.‏

فهذا يلحق بالكفر، ولهذا قال‏:‏ ‏"‏ فمن لم يؤمن ‏"‏، ودخل في هذا النفي من أنكر ومن شك‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏"‏ أحرقه الله بالنار ‏"‏ دليل على أن عذاب النار محرق، وأن أهلها ليس كما زعم بعض أهل البدع يتكيفون لها حتى لا يحسون لها بألم، بل هم يحسون بألم وتحرق أجسامهم، وقد ثبت في حديث الشفاعة أن الله يخرج من النار من كان من المؤمنين حتى صاروا حمما ‏(‏1‏)‏، يعني‏:‏ فحمًا أسود، وقد دل عليه القرآن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وذوقوا عذاب الحريق‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 22‏]‏، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ في نفسي شيء من القدر ‏"‏‏.‏ لم يفصح عن هذا الشيء لكن لعله لمَّا حَدَثَت بدعة القدر، وهي أول البدع حدوثًا صار الناس يتشككون فيها ويتكلمون فيها، وإلا، فإن الناس قبل حدوث هذه البدعة كانوا على الحق، ولا سيما أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خرج على أصحابه ذات يوم وهم يتكلمون في القدر، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك، وأمرهم بأن لا يتنازعوا وأن لا يختلفو، فكف الناس عن هذا ، حتى قامت بدعة القدرية وحصل ما حصل من الشبه، فلهذا يقول ابن الديلمي‏:‏ ‏"‏ في نفسي شيء من القدر‏.‏‏.‏ ‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ فحدثني بشيء لعل الله أن يذهبه من قلبى ‏"‏‏.‏ أي‏:‏ يذهب هذا الشيء، وهكذا يجب على الإنسان إذا أصيب بمرض أن يذهب إلى أطباء ذلك المرض، وأطباء مرض القلوب هم العلماء، ولا سيما مثل الصحابة رضي الله عنهم، كأبي بن كعب، فلكل داء طبيب‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو أنفقت مثل أحد ذهبًا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر‏)‏‏.‏ هذا يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر، لأن الذي لا تقبل منهم النفقات هم الكفار، وسبق نحوه عن ابن عمر رضي الله عنهما‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ‏"‏‏.‏ قد سبق الكلام على هذه الجملة‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ولو مت‏"‏‏.‏ ‏"‏مت‏"‏ بالضم، لأنها من مات يموت، وفيه لغة أخري بالكسر ‏"‏ مت ‏"‏، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن متم أو قتلتم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 158‏]‏ في إحدي القراءتين، وهي على هذه القراءة من مات يميت بالياء‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ علي غير هذا، لكنت من أهل النار ‏"‏‏.‏ جزم أبي بن كعب رضي الله عنه بأنه إذا مات على غير هذا كان من أهل النار، لأن من أنكر القدر فهو كافر، والكافر يكون من أهل النار الذين هم أهلها المخلدون فيها‏.‏

وهل هذا الدواء يفيد‏؟‏

الجواب‏:‏ نعم يفيد، وكل مؤمن بالله إذا علم أن منتهى من لم يؤمن بالقدر هو هذا، فلابد يرتدع ولا بد أن يؤمن بالقدر على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

وقوله ‏:‏ ‏(‏فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك‏)‏‏.‏ المشار إليه الإيمان بالقدر، وأن يعلم الإنسان أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وهؤلاء العلماء الأجلاء كلهم من أهل القرآن‏.‏

فأبي بن كعب من أهل القرآن ومن كتبة القرآن، حتى إن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ دعاه ذات يوم وقرأ عليه سورة‏:‏ ‏{‏لم يكن‏.‏‏.‏ ‏}‏ البينة، وقال‏:‏ ‏"‏ إن الله أمرني أن أقرأها عليك ‏"‏، فقال‏:‏ يا رسول الله ‏!‏ سماني الله لك‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏‏.‏ فبكي رضي الله عنه بكاء فرح أن الله عز وجل سماه باسمه لنبيه، وأمر نبيه أن يقرأ عليه هذه السورة ‏.‏

وأما عبد الله بن مسعود، فقد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏:‏ ‏(‏من سره أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد‏)‏ ‏.‏

وأما زيد بن ثابت، فهو أحد كتاب القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه ‏.‏

وحذيفة بن اليمان صاحب السر الذي أسر إليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأسماء المنافقين ‏.‏

والحاصل أن هذا الباب يدل على وجوب الإيمان بالقضاء والقدر بمراتبه الأربع

مسألة‏:‏ الإيمان بالقدر هل هو متعلق بتوحيد الربوبية، أو بالألوهية، أو بالأسماء والصفات‏؟‏‏.‏

الجواب تعلقه بالربوبية أكثر من تعلقه بالألوهية والأسماء والصفات، ثم تعلقه بالأسماء والصفات أكثر من تعلقه بالألوهية، وتعلقه بالألوهية أيضًا ظاهر، لأن الألوهية بالنسبة لله يسمي توحيد الألوهية، وبالنسبة للعبد يسمي توحيد العبادة، والعبادة فعل العبد، فلها تعلق بالقدر، فالإيمان بالقدر له مساس بأقسام التوحيد الثلاثة‏.‏

مسألة‏:‏ هل اختلف الناس في القدر‏؟‏

الجواب‏:‏ نعم، اختلفوا فيه على ثلاث فرق، وقد سبق ‏.‏

* فيه مسائل‏:‏

الأولى‏:‏ بيان فرض الإيمان بالقدر‏.‏ الثانية‏:‏ بيان كيفية الإيمان‏.‏ الثالثة‏:‏ إحباط عمل من لم يؤمن به‏.‏ الرابعة‏:‏ الإخبار أن أحدًا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به‏.‏

الخامسة‏:‏ ذكر أول ما خلق الله‏.‏ السادسة‏:‏ أنه جرى بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة‏.‏

السابعة‏:‏ براءته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممن لم يؤمن به‏.‏ الثامنة عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء‏.‏ التاسعة‏:‏ أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط‏.‏

فيه مسائل‏:‏

* الأولى‏:‏ بيان فرض الإيمان بالقدر‏.‏ دليله قوله‏:‏ ‏"‏ الإيمان‏:‏ أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره ‏"‏‏.‏

* الثانية‏:‏ بيان كيفية الإيمان‏.‏ أي‏:‏ بالقدر، وهو أن تؤمن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك‏.‏

ولم يتكلم المؤلف عن مراتب القدر، لأنه لم يذكرها، ونحن ذكرناها وأنها أربع مراتب جمعت اختصارًا في بيت واحد، وهو قوله‏:‏

علم كتابة مولانا مشيئته ** وخلقه وهو إيجاد وتكوين

والإيمان بهذه المراتب داخل في كيفية الإيمان بالقدر‏.‏

* الثالثة‏:‏ إحباط عمل من لم يؤمن به‏.‏ تؤخذ من قول ابن عمر‏:‏ ‏(‏لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبًا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر‏)‏، ويتفرع منه ما ذكرناه سابقًا بأنه يدل على أن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر، لأن الكافر هو الذي لا يقبل منه العمل‏.‏

* الرابعة‏:‏ الإخبار أن أحدًا لا يجد طعم الإيمان حتى يؤمن به‏.‏ أي‏:‏ بالقدر، وهو كذلك، لقول عبادة بن الصامت لابنه‏:‏ يا بني ‏!‏ إنك لن تجد طعم الإيمان‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وقد سبق أن الإيمان بالقدر يوجب طمأنينة الإنسان بما قضاه الله عز وجل ويستريح، لأنه علم أن هذا أمر لابد أن يقع على حسب المقدور، لا يتخلف أبدًا، ‏(‏و لا تقل‏:‏ لو أني فعلت كذا لكان كذا، لأن لو تفتح عمل الشيطان‏)‏ ‏(‏1‏)‏، ولا ترفع شيئًا وقع مهما قلت‏.‏

* الخامسة‏:‏ ذكر أول ما خلق الله‏.‏ ظاهر كلام المؤلف‏:‏ الميل إلى أن القلم أول مخلوقات الله، ولكن الصحيح خلافه، وأن القلم ليس أول مخلوقات الله، لأنه ثبت في ‏"‏صحيح البخاري‏"‏‏:‏ ‏(‏كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذكر مقادير كل شيء‏)‏ ، وهذا واضح في الترتيب، ولهذا كان الصواب بلا شك أن خلق القلم بعد خلق العرش، وسبق لنا تخريج الروايتين، وأنه على الرواية التي ظاهرها أن القلم أول ما خلق تحمل على أنه أول ما خلق بالنسبة لما يتعلق بهذا العالم المشاهد، فهو قبل خلق السماوات والأرض، فتكون أوليته نسبية‏.‏

* السادسة‏:‏ أنه جري بالمقادير في تلك الساعة إلى يوم قيام الساعة‏.‏ لقوله في الحديث‏:‏ ‏(‏فجري في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏

وفيه أيضًا من الفوائد‏:‏ توجيه خطاب الله إلى الجماد، وأنه يعقل أمر الله، لأن الله وجه الخطاب إلى القلم ففهم واستجاب، لكنه سأل في الأول وقال‏:‏ ‏"‏ماذا أكتب‏؟‏‏"‏‏.‏

* السابعة‏:‏ براءته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ممن لم يؤمن به‏.‏ لقوله ‏(‏من مات على غير هذا، فليس مني‏)‏، وهذه البراءة مطلقة، لأن من لم يؤمن بالقدر فهو كافر كفرًا مخرجًا عن المللة‏.‏

* الثامنة‏:‏ عادة السلف في إزالة الشبهة بسؤال العلماء‏.‏ لأن ابن الديلمي يقول‏:‏ ‏(‏فأتيت عبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت‏)‏ بعد أن أتي أبي بن كعب، فدل هذا على أن عادة السلف السؤال عما يشتبه عليهم‏.‏

وفيه أيضًا مسألة ثانية، وهي جواز سؤال أكثر من عالم للتثبت، لأن ابن الديلمي سأل عدة علماء، أما سؤال أكثر من عالم للتتبع الرخص، فهذا لا يجوز كما نص على ذلك أهل العلم، وهذا من شأن اليهود، فاليهود لما كان في التوراة أن الزاني يرجم إذا كان محصنًا وكثر الزني في أشرافهم، غيروا هذا الحد، ولما قدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المدينة، وزني منهم رجل بامرأة قالوا‏:‏ أذهبوا إلى هذا الرجل لعلكم تجدون عنده شيئًا آخر، لأجل أن يتتبعوا الرخص‏.‏

* التاسعة‏:‏ أن العلماء أجابوه بما يزيل شبهته، وذلك أنهم نسبوا الكلام إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقط‏.‏ لقول ابن الديلمي‏:‏ ‏"‏كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهذا مزيل للشبهة، فإذا نسب الأمر إلى الله ورسوله، زالت الشبهة تمامًا، لكن تزول عن المؤمن، أما غير المؤمن، فلا تنفعه، فالله عز وجل يقول‏:‏ ‏{‏وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 101‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 96، 97‏]‏، لكن المؤمن هو الذي تزول شبهته بما جاء عن الله ورسوله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون له الخيرة من أمرهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 36‏]‏، ولهذا لما قالت عائشة للمرأة‏:‏ ‏"‏ كان يصيبنا ذلك تعني الحيض، فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة ‏"‏ لم تذهب تعلل، ولكن لا حرج على الإنسان أن يذكر الحكم بعلته لمن لم يؤمن لعله يومن ولهذا يذكر الله عز وجل إحياء الموتي ويذكر الأدلة العقلية والحسية على ذلك، فقال في أدلة العقل‏:‏ ‏{‏وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 27‏]‏، فهذه دلالة عقلية، فالعقل يؤمن إيمانًا كاملًا بأن من قدر على الابتداء فهو قادر على الإعادة من باب أولى‏.‏

وذكر أدلة حسية، منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت إن الذي أحياها لمحيي الموتى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 39‏]‏‏.‏

فإذا لا مانع أن تأتي بالأدلة العقلية أو الحسية من أجل أن تقنع الخصم وتطمئن الموافق‏.‏

وفيه دليل رابع، وهو دليل الفطرة، فلا مانع أيضًا أن تأتي به للاستلال على ما تقول من الحق لتلزم الخصم به وتطمئن الموافق، وما زال العلماء يسلكون هذا المسلك، وقد مر علينا قصة أبي المعالي الجويني مع الهمداني، حيث إن أبا المعالي الجويني غفر الله لنا وله كان يقرر نفي استواء الله على عرشه، فقال له الهمداني‏:‏ ‏"‏دعنا من ذكر العرش، فما تقول في هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا‏:‏ ما قال عارف قط‏:‏ يا الله ‏!‏ إلا وجد من قلبه ضرورة بطلب العلو‏"‏‏.‏ فصرخ أبو المعالي ولطم على رأسه، وقال‏:‏ حيرني الهمداني، حيرني الهمداني‏.‏

فإذا الأدلة سمعية وعقلية وفطرية وحسية‏.‏

وأشدها إقناعًا للمؤمن هو الدليل السمعي، لأنه يقف عنده ويعلم أن كل ما خالف دلالة السمع فهو باطل، وإن ظنه صاحبه حقًا‏.‏

***