فصل: مسائل من الأصول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحلى بالآثار في شرح المجلى بالاختصار **


مسائل من الأصول

92 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

دِينُ الإِسْلاَمِ اللاَّزِمُ لِكُلِّ أَحَدٍ لاَ يُؤْخَذُ إلاَّ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ مِمَّا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمَّا بِرِوَايَةِ جَمِيعِ عُلَمَاءِ الآُمَّةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ الإِجْمَاعُ ‏,‏

وَأَمَّا بِنَقْلِ جَمَاعَةٍ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام وَهُوَ نَقْلُ الْكَافَّةِ‏.‏

وَأَمَّا بِرِوَايَةِ الثِّقَاتِ وَاحِدًا عَنْ وَاحِدٍ حَتَّى يَبْلُغَ إلَيْهِ عليه الصلاة والسلام ، وَلاَ مَزِيدَ‏.‏

قَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ فَإِنْ تَعَارَضَ فِيمَا يَرَى الْمَرْءُ آيَتَانِ أَوْ حَدِيثَانِ صَحِيحَانِ ‏,‏ أَوْ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَآيَةٌ ‏,‏ فَالْوَاجِبُ اسْتِعْمَالُهُمَا جَمِيعًا ‏,‏ لاَِنَّ طَاعَتَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْوُجُوبِ ‏,‏ فَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ أَحَدِهِمَا لِلآخَرِ مَا دُمْنَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ‏,‏ وَلَيْسَ هَذَا إلاَّ بِأَنْ يَسْتَثْنِيَ الأَقَلُّ مَعَانِيَ مِنْ الأَكْثَرِ ‏,‏ فَإِنْ لَمْ نَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ الأَخْذُ بِالزَّائِدِ حُكْمًا لاَِنَّهُ مُتَيَقَّنٌ وُجُوبُهُ ‏,‏ وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ الْيَقِينِ بِالظُّنُونِ ‏,‏ وَلاَ إشْكَالَ فِي الدِّينِ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى دِينَهُ‏.‏

قَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏‏.‏

93 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

الْمَوْقُوفُ وَالْمُرْسَلُ لاَ تَقُومُ بِهِمَا حُجَّةٌ ‏,‏

وَكَذَلِكَ مَا لَمْ يَرْوِهِ إلاَّ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَبِحِفْظِهِ ‏,‏ وَلاَ يَحِلُّ تَرْكُ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ غَيْرِهِ ‏,‏ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ‏,‏ وَالْمُرْسَلُ هُوَ مَا كَانَ بَيْنَ أَحَدِ رُوَاتِهِ أَوْ بَيْنَ الرَّاوِي وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ لاَ يُعْرَفُ ‏,‏ وَالْمَوْقُوفُ هُوَ مَا لَمْ يَبْلُغْ بِهِ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.‏

بُرْهَانُ بُطْلاَنِ الْمَوْقُوفِ ‏:‏ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏:‏ ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ فَلاَ حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏,‏

وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يُضِيفَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَِنَّهُ ظَنٌّ ‏,‏ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ‏}

وَأَمَّا الْمُرْسَلُ وَمَنْ فِي رُوَاتِهِ مَنْ لاَ يُوثَقُ بِدِينِهِ وَحِفْظِهِ فَلِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ فَأَوْجَبَ عَزَّ وَجَلَّ قَبُولَ نِذَارَةِ النَّافِرِ لِلتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ ‏,‏ وَقَالَ ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ‏}‏ وَلَيْسَ فِي الْعَالِمِ إلاَّ عَدْلٌ أَوْ فَاسِقٌ ‏,‏ فَحَرَّمَ تَعَالَى عَلَيْنَا قَبُولَ خَبَرِ الْفَاسِقِ فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ الْعَدْلُ ‏,‏ وَصَحَّ أَنَّهُ هُوَ الْمَأْمُورُ بِقَبُولِ نِذَارَتِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْمَجْهُولُ فَلَسْنَا عَلَى ثِقَةٍ مِنْ أَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَعَهَا بِقَبُولِ نِذَارَتِهِ ‏,‏ وَهِيَ التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ ‏,‏ فَلاَ يَحِلُّ لَنَا قَبُولُ نِذَارَتِهِ حَتَّى يَصِحَّ عِنْدَنَا فِقْهُهُ فِي الدِّينِ وَحِفْظُهُ لِمَا ضَبَطَ عَنْ ذَلِكَ وَبَرَاءَتُهُ مِنْ الْفِسْقِ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ مِنْ الآُمَمِ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ إلَى الْمُلُوكِ رَسُولاً رَسُولاً وَاحِدًا إلَى كُلِّ مَمْلَكَةٍ يَدْعُوهُمْ إلَى الإِسْلاَمِ وَاحِدًا وَاحِدًا ‏,‏ إلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَإِلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ كَصَنْعَاءَ وَالْجُنْدِ وَحَضْرَمَوْتَ وَتَيْمَاءَ وَنَجْرَانَ وَالْبَحْرَيْنِ وَعُمَانَ وَغَيْرِهَا ‏,‏ يُعَلِّمُهُمْ أَحْكَامَ الدِّينِ كُلَّهَا ‏,‏ وَافْتَرَضَ عَلَى كُلِّ جِهَةٍ قَبُولَ رِوَايَةِ أَمِيرِهِمْ وَمُعَلِّمِهِمْ‏.‏

فَصَحَّ قَبُولُ خَبَرِ الْوَاحِدِ الثِّقَةِ عَنْ مِثْلِهِ مُبَلِّغًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.‏ وَمَنْ تَرَكَ الْقُرْآنَ أَوْ مَا صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْلِ صَاحِبٍ أَوْ غَيْرِهِ ‏,‏ سَوَاءٌ كَانَ رَاوِيَ ذَلِكَ الْخَبَرِ أَوْ غَيْرَهُ ‏,‏ فَقَدْ تَرَكَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِاتِّبَاعِهِ لِقَوْلِ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ اللَّهُ تَعَالَى قَطُّ بِطَاعَتِهِ ، وَلاَ بِاتِّبَاعِهِ‏.‏ وَهَذَا خِلاَفٌ لاَِمْرِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏ وَلَيْسَ فَضْلُ الصَّاحِبِ عِنْدَ اللَّهِ بِمُوجِبِ تَقْلِيدِ قَوْلِهِ وَتَأْوِيلِهِ ‏;‏ لاَِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْ بِذَلِكَ ‏,‏ لَكِنْ مُوجِبُ تَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَقَبُولِ رِوَايَتِهِ فَقَطْ ‏,‏ لاَِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى‏.‏

94 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

وَالْقُرْآنُ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ ‏,‏ وَالسُّنَّةُ تَنْسَخُ السُّنَّةَ وَالْقُرْآنَ

قَالَ عَزَّ وَجَلَّ ‏:‏ ‏{‏مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏ قَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلاَّ وَحْيٌ يُوحَى‏}‏ وَأَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ ‏:‏ ‏{‏إنْ أَتَّبِعُ إلاَّ مَا يُوحَى إلَيَّ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لاََخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ‏}‏ وَصَحَّ أَنَّ كُلَّ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَنْ اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ ‏,‏ وَالنَّسْخُ بَعْضٌ مِنْ أَبْعَاضِ الْبَيَانِ ‏,‏ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى‏.‏

95 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

وَلاَ يَحِلُّ لأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ فِي آيَةٍ أَوْ فِي خَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَابِتٍ ‏:‏ هَذَا مَنْسُوخٌ وَهَذَا مَخْصُوصٌ فِي بَعْضِ مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ لَفْظِهِ ‏,‏ وَلاَ أَنَّ لِهَذَا النَّصِّ تَأْوِيلاً غَيْرَ مُقْتَضٍ ظَاهِرَ لَفْظِهِ ‏,‏ وَلاَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْنَا مِنْ حِينِ وُرُودِهِ إلاَّ بِنَصٍّ آخَرَ وَارِدٍ بِأَنَّ هَذَا النَّصَّ كَمَا ذُكِرَ ‏,‏ أَوْ بِإِجْمَاعٍ مُتَيَقِّنٍ بِأَنَّهُ كَمَا ذُكِرَ ‏,‏ أَوْ بِضَرُورَةِ حِسٍّ مُوجِبَةٍ أَنَّهُ كَمَا ذُكِرَ وَإِلاَّ فَهُوَ كَاذِبٌ‏.‏

بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ فَقَوْلُهُ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ‏}‏ مُوجِبٌ طَاعَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ ‏,‏ وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏أَطِيعُوا اللَّهَ مُوجِبٌ طَاعَةَ الْقُرْآنِ‏}‏ ‏,‏

وَمَنْ ادَّعَى فِي آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ نَسْخًا فَقَدْ أَسْقَطَ وُجُوبَ طَاعَتِهِمَا ‏,‏ فَهُوَ مُخَالِفٌ لاَِمْرِ اللَّهِ فِي ذَلِكَ‏.‏ قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ‏}‏ مُوجِبٌ أَخْذَ كُلِّ نَصٍّ فِي الْقُرْآنِ وَالأَخْبَارِ عَلَى ظَاهِرِهِ وَمُقْتَضَاهُ‏.‏ وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى وَحُكْمَهُ ‏,‏ وَقَالَ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ الْبَاطِلَ وَخِلاَفَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏,‏

وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ بَعْضُ مَا يَقْتَضِيهِ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ لاَ كُلُّ مَا يَقْتَضِيهِ فَقَدْ أَسْقَطَ بَيَانَ النَّصِّ وَأَسْقَطَ وُجُوبَ الطَّاعَةِ لَهُ بِدَعْوَاهُ الْكَاذِبَةِ‏.‏

وَهَذَا قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْبَاطِلِ ‏,‏ وَلَيْسَ بَعْضُ مَا يَقْتَضِيهِ النَّصُّ بِأَوْلَى بِالاِقْتِصَارِ عَلَيْهِ مِنْ سَائِرِ مَا يَقْتَضِيهِ‏.‏ قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ‏}‏ مُوجِبٌ لِلْوَعِيدِ عَلَى مَنْ قَالَ ‏:‏ لاَ تَجِبُ عَلَيَّ مُوَافَقَةُ أَمْرِهِ ‏,‏ وَمُوجِبٌ أَنَّ جَمِيعَ النُّصُوصِ عَلَى الْوُجُوبِ ‏,‏

وَمَنْ ادَّعَى تَأْخِيرَ الْوُجُوبِ مُدَّةً مَا فَقَدْ أَسْقَطَ وُجُوبَ طَاعَةِ اللَّهِ وَوُجُوبَ مَا أَوْجَبَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ طَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ‏.‏ وَهَذَا خِلاَفٌ لاَِمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ‏.‏ فَإِذَا شَهِدَ لِدَعْوَى مَنْ ادَّعَى بَعْضَ مَا ذَكَرْنَا قُرْآنٌ أَوْ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ ‏,‏ إمَّا بِإِجْمَاعٍ أَوْ نَقْلٍ صَحِيحٍ ‏,‏ فَقَدْ صَحَّ قَوْلُهُ وَوَجَبَ طَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَتْ لَهُ ضَرُورَةُ الْحِسِّ ‏;‏ لاَِنَّهَا فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فِي النُّفُوسِ ‏,‏ وَإِلاَّ فَهِيَ أَقْوَالٌ مُؤَدِّيَةٌ إلَى إبْطَالِ الإِسْلاَمِ وَإِبْطَالِ جَمِيعِ الْعُلُومِ وَإِبْطَالِ جَمِيعِ اللُّغَاتِ كُلِّهَا ‏,‏ وَكَفَى بِهَذَا فَسَادًا‏.‏ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏

96 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

وَالإِجْمَاعُ هُوَ مَا تُيُقِّنَ أَنَّ جَمِيعَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفُوهُ وَقَالُوا بِهِ وَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ أَحَدٌ ‏,‏ كَتَيَقُّنِنَا أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ ، رضي الله عنهم ، صَلَّوْا مَعَهُ عليه السلام الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ كَمَا هِيَ فِي عَدَدِ رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا ‏,‏ أَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَلاَّهَا مَعَ النَّاسِ كَذَلِكَ ‏,‏ وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ صَامُوا مَعَهُ ‏,‏ أَوْ عَلِمُوا أَنَّهُ صَامَ مَعَ النَّاسِ رَمَضَانَ فِي الْحَضَرِ‏.‏

وَكَذَلِكَ سَائِرُ الشَّرَائِعِ الَّتِي تَيَقَّنَتْ مِثْلَ هَذَا الْيَقِينِ‏.‏ وَاَلَّتِي مَنْ لَمْ يُقِرَّ بِهَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا مَا لاَ يَخْتَلِفُ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ إجْمَاعٌ‏.‏ وَهُمْ كَانُوا حِينَئِذٍ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ مُؤْمِنَ فِي الأَرْضِ غَيْرُهُمْ‏.‏

وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ غَيْرَ هَذَا هُوَ إجْمَاعٌ كُلِّفَ الْبُرْهَانَ عَلَى مَا يَدَّعِي ، وَلاَ سَبِيلَ إلَيْهِ‏.‏

97 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

وَمَا صَحَّ فِيهِ خِلاَفٌ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ لَمْ يُتَيَقَّنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، رضي الله عنهم ، عَرَفَهُ وَدَانَ بِهِ فَلَيْسَ إجْمَاعًا ‏,‏ لاَِنَّ مَنْ ادَّعَى الإِجْمَاعَ هَهُنَا فَقَدْ كَذَبَ وَقَفَا مَا لاَ عِلْمَ لَهُ بِهِ‏.‏ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ ‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ‏}‏‏.‏

98 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

ولو جاز أن يتيقن إجْمَاعُ أَهْلِ عَصْرٍ بَعْدَهُمْ أَوَّلِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ عَلَى حُكْمِ نَصٍّ لاَ يُقْطَعُ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ

وَلَوْ جَازَ أَنْ يُتَيَقَّنَ إجْمَاعُ أَهْلِ عَصْرٍ بَعْدَهُمْ أَوَّلِهِمْ عَنْ آخِرِهِمْ عَلَى حُكْمِ نَصٍّ لاَ يُقْطَعُ فِيهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، رضي الله عنهم ، لَوَجَبَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَحُجَّةٌ وَلَيْسَ كَانَ يَكُونُ إجْمَاعًا‏.‏ أَمَّا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ حَقٌّ وَحُجَّةٌ فَلِمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ بِإِسْنَادِهِ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ تَزَالَ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرَةً عَلَى الْحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فَصَحَّ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ أَلْبَتَّةَ أَنْ يَجْمَعَ أَهْلَ عَصْرٍ وَلَوْ طَرْفَةَ عَيْنٍ عَلَى خَطَإٍ ‏,‏ وَلاَ بُدَّ مِنْ قَائِلٍ بِالْحَقِّ فِيهِمْ‏.‏

وَأَمَّا أَنَّهُ لَيْسَ إجْمَاعًا ‏,‏ فَلاَِنَّ أَهْلَ كُلِّ عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرِ الصَّحَابَةِ ، رضي الله عنهم ، لَيْسَ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنَّمَا هُمْ بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ وَالإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ إجْمَاعُ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ لاَ إجْمَاعُ بَعْضِهِمْ‏.‏

وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسَمَّى إجْمَاعًا مَا خَرَجَ عَنْ الْجُمْلَةِ وَاحِدٌ لاَ يُعْرَفُ أَيُوَافِقُ سَائِرَهُمْ أَمْ يُخَالِفُهُمْ لَجَازَ أَنْ يُسَمَّى إجْمَاعًا مَا خَرَجَ عَنْهُمْ فِيهِ اثْنَانِ وَثَلاَثَةٌ وَأَرْبَعَةٌ‏.‏ وَهَكَذَا أَبَدًا إلَى أَنْ يَرْجِعَ الأَمْرُ إلَى أَنْ يُسَمَّى إجْمَاعًا مَا قَالَهُ وَاحِدٌ‏.‏ وَهَذَا بَاطِلٌ‏.‏ وَلَكِنْ لاَ سَبِيلَ إلَى تَيَقُّنِ إجْمَاعِ أَهْلِ عَصْرٍ بَعْدَ الصَّحَابَةِ ، رضي الله عنهم ، كَذَلِكَ‏.‏ بَلْ كَانُوا عَدَدًا مُمْكِنًا حَصْرُهُ وَضَبْطُهُ وَضَبْطُ أَقْوَالِهِمْ فِي الْمَسْأَلَةِ‏.‏

وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏ وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ ‏:‏ يُعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ يُعْلَمُ رِضَا أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ بِأَقْوَالِ هَؤُلاَءِ‏.‏

قال علي ‏:‏ وهذا خَطَأٌ لاَِنَّهُ لاَ سَبِيلَ أَنْ يَكُونَ مَسْأَلَةً قَالَ

بِهَا أَحَدٌ مِنْ هَؤُلاَءِ الْفُقَهَاءِ إلاَّ وَفِي أَصْحَابِهِ مَنْ يُمْكِنُ أَنْ يُخَالِفَهُ فِيهَا وَإِنْ وَافَقَهُ فِي سَائِرِ أَقْوَالِهِ‏.‏

99 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

وَالْوَاجِبُ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ أَوْ نَازَعَ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ مَا أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْقُرْآنِ وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لاَ إلَى شَيْءٍ غَيْرِهِمَا‏.‏ وَلاَ يَجُوزُ الرُّجُوعُ إلَى عَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلاَ غَيْرِهِمْ‏.‏

بُرْهَانُ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ الرَّدُّ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى شَيْءٍ غَيْرِ كَلاَمِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذَا تَحْرِيمُ الرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏,‏ لاَِنَّ مَنْ رَجَعَ إلَى قَوْلِ إنْسَانٍ دُونَهُ عليه السلام فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ‏,‏ لاَ سِيَّمَا مَعَ تَعْلِيقِهِ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ‏:‏ ‏{‏إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ وَلَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ دُونَ جَمِيعِهِمْ‏.‏ وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ ، رضي الله عنهم ، كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ بِالْمَدِينَةِ وَعُمَّالُهُمْ بِالْيَمَنِ وَمَكَّةَ وَسَائِرِ الْبِلاَدِ وَعُمَّالُ عُمَرَ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَمِصْرَ وَالشَّامِ‏.‏ وَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُتَيَقَّنِ الْمُمْتَنِعِ الَّذِي لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونُوا ، رضي الله عنهم ، طَوَوْا عِلْمَ الْوَاجِبِ وَالْحَلاَلَ وَالْحَرَامَ عَنْ سَائِرِ الأَمْصَارِ وَاخْتَصُّوا بِهِ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ‏,‏ فَهَذِهِ صِفَةُ سُوءٍ قَدْ أَعَاذَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا ‏,‏ وَقَدْ عَمِلَ مُلُوكُ بَنِي أُمَيَّةَ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ التَّكْبِيرِ مِنْ الصَّلاَةِ وَبِتَقْدِيمِ الْخُطْبَةِ عَلَى الصَّلاَةِ فِي الْعِيدَيْنِ ‏,‏ حَتَّى فَشَا ذَلِكَ فِي الأَرْضِ‏.‏

فَصَحَّ أَنَّهُ لاَ حُجَّةَ فِي عَمَلِ أَحَدٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏.‏

100 - مَسْأَلَةٌ ‏:‏

وَلاَ يَحِلُّ الْقَوْلُ بِالْقِيَاسِ فِي الدِّينِ ، وَلاَ بِالرَّأْيِ لاَِنَّ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّنَازُعِ بِالرَّدِّ إلَى كِتَابِهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ صَحَّ ‏,‏ فَمَنْ رَدَّ إلَى قِيَاسٍ وَإِلَى تَعْلِيلٍ يَدَّعِيه أَوْ إلَى رَأْيٍ فَقَدْ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى الْمُعَلَّقَ بِالإِيمَانِ وَرَدَّ إلَى غَيْرِ مَنْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالرَّدِّ إلَيْهِ ‏,‏ وَفِي هَذَا مَا فِيهِ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ ‏:‏ وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ وقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ‏}‏ قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ إبْطَالٌ لِلْقِيَاسِ وَلِلرَّأْيِ ‏;‏ لاَِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُمَا مَا دَامَ يُوجَدُ نَصٌّ ‏,‏ وَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ النَّصَّ لَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ شَيْئًا ‏,‏ وَأَنَّ رَسُولَهُ عليه الصلاة والسلام قَدْ بَيَّنَ لِلنَّاسِ كُلَّ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ ‏,‏ وَأَنَّ الدِّينَ قَدْ كَمُلَ

فَصَحَّ أَنَّ النَّصَّ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ الدِّينِ ‏,‏ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلاَ حَاجَةَ بِأَحَدٍ إلَى قِيَاسٍ ، وَلاَ إلَى رَأْيِهِ ، وَلاَ إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ‏.‏ وَنَسْأَلُ مَنْ قَالَ بِالْقِيَاسِ ‏:‏ هَلْ كُلُّ قِيَاسٍ قَاسَهُ قَائِسٌ حَقٌّ ‏,‏ أَمْ مِنْهُ حَقٌّ وَمِنْهُ بَاطِلٌ فَإِنْ قَالَ كُلُّ قِيَاسٍ حَقٌّ أَحَالَ ‏,‏ لاَِنَّ الْمَقَايِيسَ تَتَعَارَضُ وَيُبْطِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا ‏,‏ وَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ وَضِدُّهُ مِنْ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ حَقًّا مَعًا ‏,‏ وَلَيْسَ هَذَا مَكَانَ نَسْخٍ ، وَلاَ تَخْصِيصٍ ‏,‏ كَالأَخْبَارِ الْمُتَعَارِضَةِ الَّتِي يَنْسَخُ بَعْضُهَا بَعْضًا ‏,‏ وَيُخَصِّصُ بَعْضُهَا بَعْضًا‏.‏ وَإِنْ قَالَ مِنْهَا حَقٌّ وَمِنْهَا بَاطِلٌ ‏,‏ قِيلَ لَهُ فَعَرِّفْنَا بِمَاذَا تَعْرِفُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ مِنْ الْفَاسِدِ ‏,‏ وَلاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى وُجُودِ ذَلِكَ أَبَدًا ‏,‏ وَإِذَا لَمْ يُوجَدْ دَلِيلٌ عَلَى تَصْحِيحِ الصَّحِيحِ مِنْ الْقِيَاسِ مِنْ الْبَاطِلِ مِنْهُ ‏,‏ فَقَدْ بَطَلَ كُلُّهُ وَصَارَ دَعْوَى بِلاَ بُرْهَانٍ ‏,‏ فَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّ الْقِيَاسَ قَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ سَأَلُوا أَيْنَ وَجَدُوا ذَلِكَ ‏,‏ فَإِنْ قَالُوا ‏:‏

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏:‏ ‏{‏فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ‏}‏ قِيلَ لَهُمْ ‏:‏ إنَّ الاِعْتِبَارَ لَيْسَ هُوَ فِي كَلاَمِ الْعَرَبِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ إلاَّ التَّعَجُّبَ ‏,‏

قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً‏}‏ أَيْ لَعَجَبًا‏.‏

وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ‏}‏ أَيْ عَجَبٌ ‏,‏ وَمِنْ الْعَجِيبِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الاِعْتِبَارِ الْقِيَاسَ ‏,‏ وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا قِيسُوا ‏,‏ ثُمَّ لاَ يُبَيِّنُ لَنَا مَاذَا نَقِيسُ ، وَلاَ كَيْفَ نَقِيسُ ، وَلاَ عَلَى مَاذَا نَقِيسُ‏.‏ هَذَا مَا لاَ سَبِيلَ إلَيْهِ لاَِنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ أَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا مِنْ الدِّينِ إلاَّ بِتَعْلِيمِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ إيَّاهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏,‏ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلاَّ وُسْعَهَا‏}

فَإِنْ ذَكَرُوا أَحَادِيثَ وَآيَاتٍ فِيهَا تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ ‏,‏ وَأَنَّ اللَّهَ قَضَى وَحَكَمَ بِأَمْرِ كَذَا مِنْ أَجْلِ أَمْرِ كَذَا ‏,‏

قلنا لَهُمْ ‏:‏ كُلُّ مَا قَالَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ حَقٌّ لاَ يَحِلُّ لاَِحَدٍ خِلاَفُهُ ‏,‏ وَهُوَ نَصٌّ بِهِ نَقُولُ ‏:‏ وَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ تُشَبِّهُوهُ فِي الدِّينِ وَأَنْ تُعَلِّلُوهُ مِمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلاَ رَسُولُهُ عليه الصلاة والسلام فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلاَ بُدَّ وَشَرْعٌ لَمْ يَأْذَنْ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ‏,‏ وَهَذَا يُبْطِلُ عَلَيْهِمْ تَهْوِيلَهُمْ بِذِكْرِ آيَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَ أَرَأَيْتَ لَوْ مَضْمَضْتَ وَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ‏.‏ وَكُلُّ آيَةٍ وَحَدِيثٍ مَوَّهُوا بِإِيرَادِهِ هُوَ مَعَ ذَلِكَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي كِتَابِ الإِحْكَامِ لاُِصُولِ الأَحْكَامِ وَفِي كِتَابِ النُّكَتِ وَفِي كِتَابِ الدُّرَّةِ وَفِي كِتَابِ النُّبْذَةِ

قَالَ عَلِيٌّ ‏:‏ وَقَدْ عَارَضْنَاهُمْ فِي كُلِّ قِيَاسٍ قَاسُوهُ بِقِيَاسٍ مِثْلِهِ وَأَوْضَحَ مِنْهُ عَلَى أُصُولِهِمْ لِنُرِيَهُمْ فَسَادَ الْقِيَاسِ جُمْلَةً ‏,‏ فَمَوَّهَ مِنْهُمْ مُمَوِّهُونَ بِأَنْ قَالُوا ‏:‏ أَنْتُمْ دَأَبًا تُبْطِلُونَ الْقِيَاسَ بِالْقِيَاسِ ‏,‏ وَهَذَا مِنْكُمْ رُجُوعٌ إلَى الْقِيَاسِ وَاحْتِجَاجٌ بِهِ ‏,‏ وَأَنْتُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْتَجِّ عَلَى غَيْرِهِ بِحُجَّةِ الْعَقْلِ لِيُبْطِلَ حُجَّةَ الْعَقْلِ وَبِدَلِيلٍ مِنْ النَّظَرِ لِيُبْطِلَ بِهِ النَّظَرَ

قَالَ عَلِيٌّ ‏:‏

فَقُلْنَا هَذَا شَغَبٌ سَهْلٌ إفْسَادُهُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ ‏,‏ وَنَحْنُ لَمْ نَحْتَجَّ بِالْقِيَاسِ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ ‏,‏ وَمَعَاذَ اللَّهِ مِنْ هَذَا ‏,‏ لَكِنْ أَرَيْنَاكُمْ أَنَّ أَصْلَكُمْ الَّذِي أَثْبَتُّمُوهُ مِنْ تَصْحِيحِ الْقِيَاسِ يَشْهَدُ بِفَسَادِ جَمِيعِ قِيَاسَاتِكُمْ‏.‏ وَلاَ قَوْلَ أَظْهَرُ بَاطِلاً مِنْ قَوْلٍ أَكْذَبَ نَفْسَهُ‏.‏ وَقَدْ نَصَّ تَعَالَى عَلَى هَذَا‏.‏ فَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَقَالَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ‏}‏ فَلَيْسَ هَذَا تَصْحِيحًا لِقَوْلِهِمْ إنَّهُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏.‏ وَلَكِنْ إلْزَامٌ لَهُمْ مَا يَفْسُدُ بِهِ قَوْلُهُمْ وَلَسْنَا فِي ذَلِكَ كَمَنْ ذَكَرْتُمْ مِمَّنْ يَحْتَجُّ فِي إبْطَالِ حُجَّةِ الْعَقْلِ بِحُجَّةِ الْعَقْلِ‏.‏ لَكِنَّ فَاعِلَ ذَلِكَ مُصَحِّحٌ لِقَضِيَّتِهِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَحْتَجُّ بِهَا فَظَهَرَ تَنَاقُضُهُ مِنْ قَرِيبٍ‏.‏ وَلاَ حُجَّةَ لَهُ غَيْرُهَا فَقَدْ ظَهَرَ بُطْلاَنُ قَوْلِهِ‏.‏

وَأَمَّا نَحْنُ فَلَمْ نَحْتَجَّ قَطُّ فِي إبْطَالِ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ نُصَحِّحُهُ‏.‏ لَكِنْ نُبْطِلُ الْقِيَاسَ بِالنُّصُوصِ وَبِبَرَاهِينِ الْعَقْلِ‏.‏ ثُمَّ نَزِيدُ بَيَانًا فِي فَسَادِهِ مِنْهُ نَفْسِهِ بِأَنْ نُرِيَ تَنَاقُضَهُ جُمْلَةً فَقَطْ وَالْقِيَاسَ الَّذِي نُعَارِضُ بِهِ قِيَاسَكُمْ‏.‏ نَحْنُ نُقِرُّ بِفَسَادِهِ وَفَسَادِ قِيَاسِكُمْ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَضْعَفُ مِنْهُ‏.‏ كَمَا نَحْتَجُّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَقَالَةٍ مِنْ مُعْتَزِلَةٍ وَرَافِضَةٍ وَمُرْجِئَةٍ وَخَوَارِج وَيَهُودٍ وَنَصَارَى وَدَهْرِيَّةٍ مِنْ أَقْوَالِهِمْ الَّتِي يَشْهَدُونَ بِصِحَّتِهَا‏.‏ فَنُرِيهِمْ تَفَاسُدَهَا وَتَنَاقُضَهَا‏.‏ وَأَنْتُمْ تَحْتَجُّونَ عَلَيْهِمْ مَعَنَا بِذَلِكَ‏.‏ وَلَسْنَا نَحْنُ ، وَلاَ أَنْتُمْ مِمَّنْ يُقِرُّ بِتِلْكَ الأَقْوَالِ الَّتِي نَحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِهَا ‏,‏ بَلْ هِيَ عِنْدَنَا فِي غَايَةِ الْبُطْلاَنِ وَالْفَسَاد‏.‏ وَكَاحْتِجَاجِنَا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ كُتُبِهِمْ الَّتِي بِأَيْدِيهِمْ‏.‏ وَنَحْنُ لاَ نُصَحِّحُهَا‏.‏ بَلْ نَقُولُ إنَّهَا لَمُحَرَّفَةٌ مُبَدَّلَةٌ‏.‏ لَكِنْ لِنُرِيَهُمْ تَنَاقُضَ أُصُولِهِمْ وَفُرُوعِهِمْ‏.‏ لاَ سِيَّمَا وَجَمِيعُ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ مُخْتَلِفُونَ فِي قِيَاسَاتِهِمْ‏.‏ لاَ تَكَادُ تُوجَدُ‏.‏ مَسْأَلَةٌ إلاَّ وَكُلُّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَأْتِي بِقِيَاسٍ تَدَّعِي صِحَّتَهُ تُعَارِضُ بِهِ قِيَاسَ الآُخْرَى‏.‏ وَهُمْ كُلُّهُمْ مُقِرُّونَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ قِيَاسٍ صَحِيحًا ، وَلاَ كُلُّ رَأْيٍ حَقًّا‏.‏

فَقُلْنَا لَهُمْ ‏:‏ فَهَاتُوا حَدَّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ وَالرَّأْيَ الصَّحِيحَ الَّذِي يَتَمَيَّزَانِ بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ الْفَاسِدِ وَالرَّأْيِ الْفَاسِدِ‏.‏ وَهَاتُوا حَدَّ الْعِلَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي لاَ تَقِيسُونَ إلاَّ عَلَيْهَا مِنْ الْعِلَّةِ الْفَاسِدَةِ فَلَجْلَجُوا‏.‏

قال علي ‏:‏ وهذا مَكَانٌ إنْ زُمَّ عَلَيْهِمْ فِيهِ ظَهَرَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ جُمْلَةً‏.‏ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إلَى جَوَابٍ يُفْهَمُ سَبِيلٌ أَبَدًا‏.‏ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏ فَإِنْ أَتَوْا فِي ذَلِكَ بِنَصٍّ

قلنا النَّصُّ حَقٌّ وَاَلَّذِي تُرِيدُونَ أَنْتُمْ إضَافَتَهُ إلَى النَّصِّ بِآرَائِكُمْ بَاطِلٌ وَفِي هَذَا خُولِفْتُمْ‏.‏ وَهَكَذَا أَبَدًا‏.‏ فَإِنْ ادَّعَوْا أَنَّ الصَّحَابَةَ ، رضي الله عنهم ، أَجْمَعُوا عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ قِيلَ لَهُمْ ‏:‏ كَذَبْتُمْ بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُمْ كُلُّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى إبْطَالِهِ‏.‏

بُرْهَانُ كَذِبِهِمْ أَنَّهُ لاَ سَبِيلَ لَهُمْ إلَى وُجُودِ حَدِيثٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، رضي الله عنهم ، أَنَّهُ أَطْلَقَ الأَمْرَ بِالْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ أَبَدًا إلاَّ فِي الرِّسَالَةِ الْمَكْذُوبَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه فَإِنَّ فِيهَا ‏:‏

وَاعْرِفْ الأَشْبَاهَ وَالأَمْثَالَ وَقِسْ الآُمُورَ وَهَذِهِ رِسَالَةٌ لَمْ يَرْوِهَا إلاَّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ سَاقِطٌ بِلاَ خِلاَفٍ وَأَبُوهُ أَسَقْطُ مِنْهُ أَوْ هُوَ مِثْلُهُ فِي السُّقُوطِ ‏,‏ فَكَيْفَ وَفِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ نَفْسِهَا أَشْيَاءُ خَالَفُوا فِيهَا عُمَرَ رضي الله عنه وَمِنْهَا قَوْلُهُ فِيهَا ‏:‏ وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إلاَّ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ أَوْ ظَنِينًا فِي وَلاَءٍ أَوْ نَسَبٍ‏.‏ وَهُمْ لاَ يَقُولُونَ بِهَذَا يَعْنِي جَمِيعَ الْحَاضِرِينَ مِنْ أَصْحَابِ الْقِيَاسِ حَنَفِيَّهُمْ وَشَافِعِيَّهُمْ وَمَالِكِيَّهُمْ ‏,‏ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ عُمَرَ لَوْ صَحَّ فِي تِلْكَ الرِّسَالَةِ فِي الْقِيَاسِ حُجَّةً ‏,‏ فَقَوْلُهُ فِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ كُلُّهُمْ إلاَّ مَجْلُودًا فِي حَدٍّ حُجَّةٌ ‏,‏ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ حُجَّةً ‏,‏ فَلَيْسَ قَوْلُهُ فِي الْقِيَاسِ حُجَّةً ‏,‏ لَوْ صَحَّ فَكَيْفَ وَلَمْ يَصِحَّ‏.‏

وَأَمَّا بُرْهَانُ صِحَّةِ قَوْلِنَا فِي إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ ، رضي الله عنهم ، عَلَى إبْطَالِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لاَ يَخْتَلِفُ اثْنَانِ فِي أَنَّ جَمِيعَ الصَّحَابَةِ مُصَدِّقُونَ بِالْقُرْآنِ وَفِيهِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَفِيهِ ‏:‏ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمِنْ الْبَاطِلِ الْمُحَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّحَابَةُ ، رضي الله عنهم ، يَعْلَمُونَ هَذَا وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ‏,‏ ثُمَّ يَرُدُّونَ عِنْدَ التَّنَازُعِ إلَى قِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ‏.‏ هَذَا مَا لاَ يَظُنُّهُ بِهِمْ ذُو عَقْلٍ ‏,‏ فَكَيْفَ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ ‏:‏ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي أَوْ أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إنْ قُلْتَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ بِرَأْيِي أَوْ بِمَا لاَ أَعْلَمُ ‏,‏ وَصَحَّ عَنْ الْفَارُوقِ رضي الله عنه، أَنَّهُ قَالَ ‏:‏ اتَّهِمُوا الرَّأْيَ عَلَى الدِّينِ وَإِنَّ الرَّأْيَ مِنَّا هُوَ الظَّنُّ وَالتَّكَلُّفُ ‏,‏ وَعَنْ عُثْمَانَ رضي الله عنه فِي فُتْيَا أَفْتَى بِهَا إنَّمَا كَانَ رَأْيًا رَأَيْته فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ‏.‏ وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه‏:‏ لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلاَهُ‏.‏ وَعَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ رضي الله عنه‏:‏ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ‏.‏ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ‏:‏ مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه‏:‏ سَأَقُولُ فِيهَا بِجَهْدِ رَأْيِي ‏,‏ فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ ‏,‏ وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ بَرِيءٌ‏.‏ وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ فِي حَدِيثِ ‏:‏ يُبْتَدَعُ كَلاَمًا لَيْسَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلاَ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُ فَإِنَّهُ بِدْعَةٌ وَضَلاَلَةٌ‏.‏ وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ كُلُّ رَأْيٍ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ ، رضي الله عنهم ، لاَ عَلَى أَنَّهُ إلْزَامٌ ، وَلاَ أَنَّهُ حَقٌّ ‏,‏ لَكِنَّهُ إشَارَةٌ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ تَوَرُّعٍ فَقَطْ لاَ عَلَى سَبِيلِ الإِيجَابِ‏.‏ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ الَّذِي فِيهِ أَجْتَهِدُ رَأْيِي ، وَلاَ آلُو ‏,‏ لاَ يَصِحُّ لاَِنَّهُ لَمْ يَرْوِهِ أَحَدٌ إلاَّ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو وَهُوَ مَجْهُولٌ لاَ نَدْرِي مَنْ هُوَ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصٍ لَمْ يُسَمِّهِمْ عَنْ مُعَاذٍ‏.‏

وَقَدْ تَقَصَّيْنَا أَسَانِيدَ هَذِهِ الأَحَادِيثِ كُلَّهَا فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ وَلِلَّهِ تَعَالَى الْحَمْدُ‏.‏

حدثنا أحمد بن قاسم حَدَّثَنَا أَبُو قَاسِمِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا جَدِّي قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ عَنْ حُرَيْزِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏:‏ تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الآُمُورَ بِآرَائِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلاَلَ‏.‏

قَالَ عَلِيٌّ ‏:‏ وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا إمَّا فَرْضٌ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ‏.‏

وَأَمَّا حَرَامٌ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ

وَأَمَّا مُبَاحٌ لاَ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ ، وَلاَ مَنْ تَرَكَهُ‏.‏ وَهَذَا الْمُبَاحُ يَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ ‏:‏ إمَّا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ يُؤْجَرُ مَنْ فَعَلَهُ ، وَلاَ يَعْصِي مَنْ تَرَكَهُ‏.‏

وَأَمَّا مَكْرُوهٌ يُؤْجَرُ مَنْ تَرَكَهُ ، وَلاَ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ‏.‏

وَأَمَّا مُطْلَقٌ لاَ يُؤْجَرُ مَنْ فَعَلَهُ ، وَلاَ مَنْ تَرَكَهُ ، وَلاَ يَعْصِي مَنْ فَعَلَهُ ، وَلاَ مَنْ تَرَكَهُ‏.‏

وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ ‏:‏ ‏{‏خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ‏}

فَصَحَّ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَلاَلٌ إلاَّ مَا فَصَّلَ تَحْرِيمَهُ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ‏.‏

حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا أحمد بْنُ فَتْحٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ أَخْبَرَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ الْقُرَشِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فَقَالَ ‏:‏ أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا ‏,‏ فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى أَعَادَهَا ثَلاَثًا ‏,‏ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏:‏ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ‏,‏ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ ‏,‏ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ‏,‏ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ

قَالَ عَلِيٌّ ‏:‏ فَجَمَعَ هَذَا الْحَدِيثُ جَمِيعَ أَحْكَامِ الدِّينِ ‏,‏ أَوَّلِهَا عَنْ آخِرِهَا ‏,‏ فَفِيهِ أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ ، وَلاَ نَهَى عَنْهُ فَهُوَ مُبَاحٌ وَلَيْسَ حَرَامًا ، وَلاَ فَرْضًا‏,‏ وَأَنَّ مَا أَمَرَ بِهِ فَهُوَ فَرْضٌ ‏,‏ وَمَا نَهَى عَنْهُ فَهُوَ حَرَامٌ ‏,‏ وَأَنَّ مَا أَمَرَنَا بِهِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُنَا مِنْهُ مَا نَسْتَطِيعُ فَقَطْ ‏,‏ وَأَنْ نَفْعَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً تُؤَدِّي مَا أَلْزَمَنَا ‏,‏ وَلاَ يَلْزَمُنَا تَكْرَارُهُ ‏,‏ فَأَيُّ حَاجَةٍ بِأَحَدٍ إلَى قِيَاسٍ أَوْ رَأْيٍ مَعَ هَذَا الْبَيَانِ الْوَاضِحِ ‏,‏ وَنَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى عِظَمِ نِعَمِهِ‏.‏

فإن قال قائل ‏:‏ لاَ يَجُوزُ إبْطَالُ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ إلاَّ حَتَّى تُوجِدُونَا تَحْرِيمَ الْقَوْلِ بِهِ نَصًّا فِي الْقُرْآنِ‏.‏

قلنا لَهُمْ ‏:‏ قَدْ أَوْجَدْنَا لَكُمْ الْبُرْهَانَ نَصًّا بِذَلِكَ وَبِأَنْ لاَ يَرِدَ التَّنَازُعُ إلاَّ إلَى الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فَقَطْ ‏,‏

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ، وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ‏}

وَقَالَ تَعَالَى ‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ وَالْقِيَاسُ ضَرْبُ أَمْثَالٍ فِي الدِّينِ لِلَّهِ تَعَالَى‏.‏ ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ ‏:‏ إنْ عَارَضَكُمْ الرَّوَافِضُ بِمِثْلِ هَذَا فَقَالُوا لَكُمْ ‏:‏ لاَ يَجُوزُ الْقَوْلُ بِإِبْطَالِ الإِلْهَامِ ، وَلاَ بِإِبْطَالِ اتِّبَاعِ الإِمَامِ إلاَّ حَتَّى تُوجِدُوا لَنَا تَحْرِيمَ ذَلِكَ نَصًّا ‏,‏ أَوْ قَالَ لَكُمْ ذَلِكَ أَهْلُ كُلِّ مَقَالَةٍ فِي تَقْلِيدِ كُلِّ إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ‏.‏ بِمَاذَا تَنْفَصِلُونَ بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُ لاَ يَحِلُّ أَنْ يُقَالَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ حَرَّمَ أَوْ حَلَّلَ أَوْ أَوْجَبَ إلاَّ بِنَصٍّ فَقَطْ‏.‏ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ‏.‏