فصل: الفصل الرابع عشر في ذكر بعض الحروف من الكلمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحيط البرهاني في الفقه النعماني



.كتاب الصلاة:

هذا الكتاب يشتمل على ثلاثة وثلاثين فصلًا:
1- في المواقيت.
2- في بيان فضيلة الأوقات.
3- في بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة.
4- في كيفيتها.
5- في الأذان.
6- في بيان ما يفسد الصلاة وما لا يفسد.
7- في بيان مقام الإمام والمأموم.
8- في الحث على الجماعة.
9- في المرور بين يدي المصلي.
10- في صلاة التطوع.
11- في التطوع قبل الفرض.

.الفصل الأول في المواقيت:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.الأول: في بيان أول المواقيت وآخرها:

فنقول: أول وقت الفجر من حين يطلع الفجر الثاني، وهو الفجر المستطير المنتشر في الأفق، فإذا طلع الفجر الثاني خرج وقت العشاء، ودخل وقت الفجر هذا هو المنقول عن أصحابنا رحمهم الله، ولم ينقل عنهم أن العبرة لأول طلوع الفجر الثاني أو لاستطاره وانتشاره.
وقد اختلف المشايخ فيه، وآخر وقت صلاة الفجر طلوع الشمس، فإذا طلعت الشمس خرج وقت الفجر، ولا يدخل وقت صلاة أخرى حتى تزول الشمس، فمن حين طلوع الشمس إلى زواله وقت مهمل، وأول وقت الظهر من حين نزول الشمس.
وإذا أردت معرفة زوال الشمس، فالمنقول عن أبي حنيفة: أنه ينظر إلى القرص، فما دام في كبد السماء، فإنها لم تزل، وإذا انحطّت يسيرًا فقد زالت، والمنقول عن محمد في ذلك أن يقوم الرجل مستقبل القبلة، فإذا مالت الشمس عن يساره فهو الزوال، وقد قيل: في معرفة ذلك أن يغرز خشبة مستوية في أرض مستوية قبل زوال الشمس، ويحط في ضلع ظلها علامة، فإن كان الظل يقصر عن العلامة فاعلم بأن الشمس لم تزل؛ لأن ظل الأشياء يقصر إلى زوال الشمس. وإن كان الظل يطول ويجاوز الخط، فاعلم بأن الشمس قد زالت، وإن امتنع الظل عن القصر ولم يأخذ في الطول، فهذا هو وقت الزوال وهو الظل الأصلي.
واختلفوا في آخر وقت الظهر روى الحسن عن أبي حنيفة أن آخر وقت الظهر: أن يصير ظل كل شيء مثله سوى الظل الأصلي، فإذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر، وهو قول أبي يوسف ومحمد.
وذكر في (الأصل): أنه لا يدخل وقت العصر حتى يصير الظل قامتين ولم يتعرض لآخر وقت الظهر، وروى أسد بن عمرو عن أبي حنيفة أنه إذا صار ظل كل شيء مثله خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثله، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا صار الظل أقل من قامتين خرج وقت الظهر، ولا يدخل وقت العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، قال أبو الحسن: وهذه الرواية أصح، فعلى هاتين الروايتين يكون بين الوقتين وقت مهمل، لا من الظهر ولا من العصر وهو الذي يسميه الناس بين الصلاتين، وإنما يعتبر ظل كل شيء مثله أو مثليه سوى فيء الزوال.
واعلم أن ما مِنْ شيء إلا وله ظل عند الزوال إلا بمكة وبمدينة في أطول أيام السنة، فإن في أطول أيام السنة بمكة وبمدينة لا يبقى للأشياء ظل عند الزوال على الأرض، أما بمكة لأنه سرّة الأرض ومنها بسطت الأرض وأما بمدينة، فلأن الشمس تأخذ الحيطان الأربعة، فأما في غيرهما من الأماكن فلا تخلو الأشياء عن الظل عند الزوال غير أنه تصغر وتكبر وتطول وتقصر بحسب قرب الأماكن إلى مكة، فلا يعتبر ذلك المقدار في تقدير ظل كل شيء مثله أو بمثليه.
فأول وقت العصر عند أبي يوسف ومحمد إذا صار الظل قامة وزاد عليها. وذكر أبو سليمان عن أبي يوسف أنه لم يعتبر الزيادة. قال أبو الحسن الخلاف في آخر وقت الظهر خلاف في أول وقت العصر، وآخر وقت العصر وقت غروب الشمس.
وأول وقت المغرب حتى تغيب الشمس وآخر وقت المغرب حتى يغيب الشفق.
وأول وقت العشاء حتى يغيب الشفق، وآخر وقتها يمتد إلى طلوع الفجر وتفسير الشفق في قول أبي حنيفة رحمه الله البياض، وفي رواية أسد بن عمرو أنه الحمرة، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي ورد فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة رحمه الله، وكان فيه أنا بخير وقت العشاء في بلدن، فإن الشمس كما تغرب تطلع الفجر من الجانب الآخر، هل علينا صلاة العشاء؟ فكتب في الجواب أنه ليس عليكم صلاة العشاء، وهكذا كان يفتي ظهير الدين المرغيناني.
وأما الوتر فوقته ما هو وقت العشاء إلا أنه مأمور بتقديم العشاء عليه، ووقت الجمعة ما هو وقت الظهر والله أعلم.

.الفصل الثاني في بيان فضيلة الأوقات:

قال أصحابنا رحمهم الله: الإسفار بالفجر أفضل في الأزمنة كلها إلا صبيحة يوم النحر للحاج بالمزدلفة، فإن هناك التغليس أفضل، وإنما كان الإسفار في سائر الأزمنة أفضل لقوله عليه السلام «أسفروا بالفجر، فإنه أعظم للأجر» وقال إبراهيم النخعي؛ ما اجتمع أصحاب رسول الله عليه السلام على شيء كما اجتمعوا على الإسفار بالفجر، فإنه سبب لتكثير الجماعة فكان أفضل إلا أنه لا ينبغي أن يؤخر تأخيرًا يقع الشك في طلوع الشمس؛ لأنه حينئذ يقع الشك في فساد صلاته، واختيار الطحاوي رحمه الله في الفجر الجمع بين التغليس والإسفار يبدأ بالتغليس، ويطول القراءة ويختم بالإسفار.
وأما الظهر فتأخير هما في زمان الصيف أفضل، قال عليه السلام: «أبردوا بالظهر، فإن شدة الحر من فيح جهم» وتعجيلها في زمان الشتاء أفضل لحدث إبراهيم قال: كانوا يحبون أن يعجلوا الظهر في الشتاء.
وأما العصر فتأخيرها أفضل في الأزمان كلها ما لم تتغير الشمس، لحديث رافع بن خديج أن رسول الله عليه السلام «كان يأمرنا بتأخير العصر» ولكن يكره تأخيرها إلى أن تتغير الشمس، هكذا ذكر في (الأصل)، في (القدوري). وذكر الطحاوي إلى أن تحمرّ الشمس مع هذا لو صلى جاز؛ لأنه صلى في الوقت ثم على ما ذكره في (الأصل) يعتبر التغير في عين القرص أو في الضوء الذي يقع على الجدران والحائط، قال سفيان وإبراهيم النخعي في الضوء، وهكذا حكى الإمام الزاهد أبو بكر بن حامد عن الحاكم الشهيد، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد في (النوادر) أنه يعتبر التغير في القرص، وبه كان يقول مشايخ بلخ والشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل ببخارى.
ثم تكلموا في معرفة التغير في القرص قال بعضهم إذا قامت الشمس للغروب قدر رمحين أو رمح لم تتغير، وإذا صارت أقل من ذلك فقد تغيرت.
وقال بعضهم يوضع طست ماء في الصحراء وننظر فيه، فإن كان القرص يبدو للناظر، فقد تغيرت، وقال بعضهم: إذا كان بحال يمكنه إحاطة النظر إلى القرص، ولا تحار عيناه فما..... مما تغيرت. وقال بعض أصحابنا التأخير إلى هذا الوقت مكروه، فأما الفعل فغير مكروه؛ لأنه مأمور بالفعل ولا يستقيم إثبات الكراهة للشيء مع الأمر به.
فأما المغرب فيكره تأخيرها إذا غربت الشمس، لقوله عليه السلام: «لا تزال هذه الأمة بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم».
وأما العشاء فتأخيرها أفضل إلى ثلث الليل في رواية وفي رواية: إلى نصف الليل هكذا ذكر في (القدوري)، وذكر الطحاوي بأن تأخير العشاء إلى ثلث الليل مستحب، وبعده إلى نصف الليل مباح غير مكروه، قال الطحاوي وبعد نصف الليل إلى طلوع الفجر مكروه إذا كان التأخير بغير عذر.
وأما الوتر فإن كان لا يثق من نفسه الاستيقاظ أوتر أول الليل، فإن كان يثق فالأفضل آخر الليل، وفي يوم القيم يؤخر الفجر والظهر والمغرب، ويعجل العصر والعشاء في الأزمنة كلها، وأراد بقوله تؤخر المغرب، التأخير قدر ما يستيقن بغروب الشمس، وأراد بقوله تعجل العصر التعجيل قدر ما يقع عنده أنه لا تقع في الوقت المكروه، فإن التأخير إلى آخر الوقت قبل أن تتغير الشمس مستحب وأراد بقوله تعجل العشاء التعجيل قليلًا أو على الوقت المعتاد؛ لأن التأخير إلى ثلث الليل مستحب في رواية، وفي رواية إلى نصف الليل وما بعده يقع في حد الكراهة، فتعجل قليلًا احترازًا عن الوقوع في الوقت المكروه، ولا يجمع بين صلاتين في وقت إحداهما في حضر ولا في سفر إلا عرفة ومزدلفة، فإن الحاج يجمع بين الظهر والعصر بعرفات في وقت الظهر ويجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء بمزدلفة.
وقيل: الجمع بين الصلاتين فعلًا لعذر المطر جائز إحرازًا لفضيلة الجماعة، وذلك بتأخير الظهر وتعجيل العصر، وتأخير المغرب وتعجيل العشاء، قال مشايخنا: المستحب للإنسان أن لا يؤخر الظهر حتى يصير ظل كل شيء مثله، ولا يصلي العصر حتى يصير ظل كل شيء مثليه، حتى يصير مؤديًا كل صلاة في وقتها بالإجماع.

.الفصل الثالث في بيان الأوقات التي تكره فيها الصلاة:

الأوقات التي تكره فيها الصلاة خمسة، ثلاثة يكره فيها التطوع والفرض:
وذلك: عند طلوع الشمس، ووقت الزوال، وعند غروب الشمس إلا عصر يومه، فإنه لا يكره عند غروب الشمس، وعن أبي يوسف أنه جوز التطوع وقت الزوال يوم الجمعة، ولا يجوز في هذه الأوقات صلاة جنازة، ولا سجدة تلاوة ولا سجدة سهو ولا قضاء فرض.
ولو قضى فرضًا من قضاء الفائتات في هذه الأوقات لا يعيدها، ولو صلى صلاة الجنازة لا يعيدها، وكذلك لو سجد لتلاوة في هذه الأوقات لا يعيدها وتسقط عنه، وإذا تلا آية السجدة في هذه الأوقات، فالأفضل أن لا يسجد في هذه الأوقات ولو سجد جاز ولا يعيدها.
ووقتان آخران يكره فيهما التطوع وهو ما بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إلا ركعتي الفجر. وما بعد صلاة العصر إلى وقت غروب الشمس ولا يكره فيها الفرائض ولا صلاة الجنازة ولا يجوز أداء المنذورة في هذين الوقتين، وإن كانت الصلاة المنذورة واجبة إلا أنها وجبت بإيجاب العبد.
والواجبات على قسمين: قسم وجب بإيجاب العبد، كالمنذورة، وقسم وجب بإيجاب الله تعالى، كالوتر على إحدى الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله وسجدة التلاوة وسجدتي السهو، فما وجب بإيجاب الله تعالى يجوز أداؤه في هذين الوقتين، وما وجب بإيجاب العبد لا يجوز أداؤه في هذين الوقتين، ولو أوجب على نفسه صلاة في هذه الأوقات، فالأفضل له أن يصلي في وقت مباح، ولو صلى في هذا الوقت سقط عنه ولا تجوز ركعتي الطواف في هذين الوقتين.
وهاهنا وقت آخر، وهو ما بعد غروب الشمس قبل أن يصلي المغرب والصلاة فيه مكروه، لكن لا لمعنى في الوقت، بل لتأخير المغرب.
بقي الكلام في الوقت الذي تباح فيه الصلاة: إذا طلعت الشمس، والمذكور في (الأصل): إذا طلعت حتى ارتفعت قدر رمحين أو قدر رمح تباح الصلاة، وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: ما دام الإنسان يقدر على النظر إلى قرص الشمس، فالشمس في الطلوع لا تباح فيه الصلاة، فإذا عجز عن النظر تباح فيه الصلاة، وقال الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن الفضل ما دامت الشمس محمرة أو مصفرة على رؤوس الحيطان والجبال والأشجار فهي في الطلوع، فلا تحل الصلاة. فإذا ابيضت فقد طلعت وحلّت الصلاة وقال الفقيه أبو حفص السفكردري رحمه الله: يؤتى بطست ويوضع في أرض مستوية ما دامت الشمس تقع في حيطانه فهو على الطلوع فلا تحل له الصلاة، وإذا وقعت في وسطه فقد طلعت وحلت الصلاة.
ولو شرع في النفل في الأوقات الثلاثة، فالأفضل له أن يقطعها، وإذا قطعها لزمه القضاء في المشهور من الرواية. ولو شرع في الوقتين في النافلة، ثم أفسدها لزمه القضاء، ولو افتتح الصلاة النافلة في وقت مستحب ثم أفسدها ثم أراد أن يقضيها بعد العصر قبل غروب الشمس لا يقضيها، وإن كانت واجبة؛ لأنها وجبت بشروعه فأَشْبَهَ المنذورة.
وعلى هذا لو شرع في سنة الفجر ثم أفسدها ثم أراد أن يقضيها بعدما صلى الفجر قبل طلوع الشمس لا يقضيها. هكذا قيل: وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أن له أن يقضيها بعدما صلى الفجر قبل طلوع الشمس، وصورة ما حكي عن رجل جاء إلى الإمام في صلاة الفجر وخاف أنه لو اشتغل بالسنّة يفوته الفجر بالجماعة، قال: فقد جاز له أن يدخل في صلاة الإمام ويترك السنّة ويقضيها بعدما طلعت الشمس عند محمد، وإن أراد أن يقضيها قبل طلوع الشمس فالحيلة أن يشرع ثم يفسدها على نفسه ثم يشرع في صلاة الإمام من الفريضة ثم يقضيها قبل طلوع الشمس ولا يكره؛ لأنه بإفساده إياها صارت دينًا عليه، ويصير كمن شرع في التطوع ثم أفسد وما على نفسه ثم قضاها في هذا الوقت، وذلك لا يكره كذا هاهنا.
ومن المشايخ من قال: في هذه الحيلة نوع الخطأ؛ لأن فيها أمرًا بإفساد العمل، والله تعالى يقول: {وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَلَكُمْ} [محمد: 33] والأحسن أن يقال يشرع في السنّة ويكبر لها ثم يكبّر مرة ثانية للفريضة، فيخرج بهذه التكبيرة من السنة ويصير شارعًا في الفريضة ولا يصير مفسدًا للعمل بل يصير مجاوزًا من العمل إلى العمل، وهو كمن كبّر للظهر في وقت العصر على ظن أنه لم يصلِ الظهر ثم يذكر أنه صلى الظهر في وقتها فكبّر ثانيًا من غير سلام ولا كلام، ينوي الدخول في العصر يصير شارعًا في العصر خارجًا عن الظهر كذا هاهنا.
ولو غربت الشمس في خلال العصر لا يفسد عصره ويتمها، ولو طلعت الشمس في خلال الفجر يفسد فجره، والفرق: أن بالغروب يدخل وقت فرض مثله فلا يكون منافيًا، وبالطلوع لا يدخل وقت الفرض، ألا ترى أنه لو خرج وقت الجمعة في خلال الجمعة تفسد الجمعة، لأنه لا يدخل وقت فرض مثله، وعن الحسن بن زياد: يفسد إن صلى عصر يومه عند غروب الشمس لم يجزه، كما إذا صلى الفجر عند طلوع الشمس، وعن أبي يوسف أن من صلى ركعة من الفجر ثم طلعت الشمس لم تفسد صلاته، ولكنه يلبث كذلك إلى أن ترتفع الشمس وتبيض ثم تتم الصلاة.
ومما يتصل بهذا الفصل:
ويكره الكلام بعد انشقاق الفجر إلى أن يصلي الفجر إلا بخير، لأثر عمر وابن مسعود، وعن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون الكلام بعد طلوع الفجر إلا بخير، وقوله: هم كناية عن الصحابة، فإذا صلى الفجر فلا بأس بأن يتكلم في حاجته ويمشي في حاجته المعتادة ومعاشه والمراد من هذا الكلام الكلام المباح. أما الفاحش فحرام في جميع الأوقات، وقال بعض الناس يكره الكلام بعد صلاة الفجر أيضًا إلى طلوع الشمس، وقال بعضهم إلى أن ترتفع الشمس، وعن الحسن بن علي: أنه كان لا يتكلم إلى أن ترتفع الشمس، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في كتاب (البستان) أن السمر بعد العشاء مكروه عند البعض، قال: وهو الكلام لأجل المؤانسة، وفي شرح كتاب الصلاة لبعض المشايخ ذكر الكراهة ولم ينسبه إلى البعض، وروي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا سمر بعد العشاء» والله أعلم.

.الفصل الرابع في فرائض الصلاة وسننها وآدابها وواجباتها:

فرائض الصلاة نوعان: أحدهما: قبل الشروع فيها على سبيل المتهيئ لها وإنها كثيرة، فمن جملتها ستر العورة للرجل من تحت سرته حتى يجاوز ركبتيه، وقال زفر: من فوق السرة إلى تحت الركبة بناءً على أن سرة الرجل ليست بعورة عند علمائنا الثلاثة خلافًا لزفر وركبته عورة عند علمائنا جميعًا وهي مسألة كتاب الاستحسان إلا أن الرجل إذا ستر مقدار ما ذكرنا، وصلى كذلك كان مسيئًا؛ لأنه ترك الزينة أصلًا والمصلي مأمور بها، قال الله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] أي عند كل صلاة.
بخلاف ما إذا صلى في ثوب واحد متوشحًا وتفسير التوشح أن يفعل بالثوب مثل ما يفعله القصار في المقصرة إذا لف الكرباس على نفسه حيث لا يكون مسيئًا؛ لأن هناك أتى بأصل الزينة، أما ترك التمام.. عن أبي حنيفة رحمه الله، أن الصلاة في سراويل واحد يشبه فعل أهل الجفاء، وفي الثوب الذي يتشح به أبعد من الجفاء وفي قميص وإزار خلاف الناس تحملهم وذكر ابن شجاع أنه إذا كان محلول الإزار، وكان إذا نظر رأى عورة نفسه من زيقه لم تجز صلاته. وهكذا ذكر هشام في (نوادره)، والمذكور في (نوادر هشام)، إذا صلى في قميص واحد وهو محلول الجيب فانفتح جيبه حتى لو نظر رأى عورة نفسه فصلاته فاسدة، وزاد فقال: وإن لم ينظر وإن كان مدلوق الثوب بصدره، فلم ير عورته لو نظر إليها لا تفسد صلاته، فعلى هذه الرواية جعل ستر العورة من نفسه شرطًا.
حتى فرق بعض أصحابنا على هذه الرواية بين أن يكون المصلي خفيف اللحية وبين أن يكون كث اللحية فقال إذا كان المصلي كث اللحية تجوز صلاته، لأن لحيته سترت عورته، وقال بعضهم لا تجوز صلاته ولا تنفعه لحيته ذكر الزندويستي هذا القول في (نظمه)، وعامة أصحابنا جعلا الشرط ستر العورة من غيره لا من نفسه؛ لأن العورة لا تكون عورة في حق صاحبها إنما تكون عورة في حق غيره.
ألا ترى أنه يجوز لصاحب العورة مسَّها والنظر إليها، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة وأبي يوسف أيضًا أنه إذا كان محلول الجيب، فنظر إلى عورته لا تفسد صلاته، وإن كان عليه قميص لبس غيره، فكان إذا سجد لا يرى أحد عورته، ولكن لو نظر إنسان من تحته رأى عورته فهذا ليس بشيء.
وأما المرأة يلزمها أن تستر نفسها من فرقها إلى قدميها ولا يلزمها ستر الوجه والكفين بلا خلاف، وفي القدمين اختلاف المشايخ واختلاف الروايات عن أصحابنا رحمهم الله، وكان الفقيه أبو جعفر يتردد في هذا فيقول مرة؛ إن قدميها عورة، ويقول مرة: إن قدميها ليس بعورة، فمن يجعلها عورة يقول يلزمها سترها ومن لا يجعلها عورة يقول: لا يلزمها سترها، والأصح أنه ليس بعورة، وهي مسألة كتاب الاستحسان آنفًا.
وفي (الجامع الصغير): امرأة صلت وربع ساقها أو ثلث ساقها مكشوفة لم تجز صلاتها، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: إن كان المكشوف أكثر من النصف لم تجز صلاتها، وإن كان أقل من النصف جازت صلاتها، وفي النصف عنه روايتان، يجب أن تعلم أن قليل الانكشاف عفو؛ لأن الناس فيه بلوى وضرورة؛ لأن ثيابهم لا تخلو عن قليل خرق، فيجعل عفوًا بالإجماع فلا بلوى في الكثير؛ لأن الثياب تخلو عن كثير خرق، فلا يجعل عفوًا بعد هذا.
قال أبو حنيفة ومحمد: الربع وما فوقه كثير، وما دون الربع قليل، وقال أبو يوسف: ما فوق النصف كثير وما دونه قليل، وفي النصف عنه روايتان، والصحيح قولهما؛ لأن ربع الشيء أقيم مقام الكل في كثير من الأحكام كمسح ربع الرأس في الوضوء، وكحلق ربع الرأس في حق المحرم.
قال في (الجامع الصغير): وكذلك حكم البطن والظهر والفخذ والشعر نظير حكم الساق، قال بعض مشايخنا: لولا هذه الرواية لكنا نقول بأن حكم الظهر والبطن أغلظ، ألا ترى أنه لا يحل للرجل بأن ينظر إلى بطن أمه وظهرها، ويحل له أن ينظر إلى ساقها، فبهذه الرواية عرفنا أن حكم الظهر والبطن والفخذ والشعر والساق سواء، ثم إن كان المراد من الشعر في (الكتاب) ما يواري المنبت ما ذكر من الجواب على الروايات كلها، وإن كان المراد منه الشعر المسترسل، فما ذكر من الجواب على إحدى الروايتين؛ لأن في كون المسترسل عورة روايتان، واختار الفقيه أبي الليث رحمه الله رواية العورة، لأن الرواية الأخرى تقتضي للرجل النظر إلى طرف وصرع الأجنبية وطرف ناصيتها كما ذهب إليه أبو عبد الله البلخي، وهذا أمر يؤدي إلى الفتنة، فكان الاحتياط فيما قلنا.
وأما العورة الغليظة، فالتقدير فيها على الخلاف الذي ذكرنا، هكذا ذكر في (الزيادات)، وذكر الكرخي في (كتابه) أنه يعتبر في السوءتين قدر الدرهم، وفيما عدا ذلك الربع.
وإنما قال ذلك؛ لأن العورة نوعان غليظة وخفيفة كما أن النجاسة نوعان: غليظة وخفيفة، ثم في النجاسة الغليظة اعتبر الدرهم، وفي الخفيفة اعتبر الربع فكذا في العورة، ولكن هذا وهم من الكرخي؛ لأنه قصد به الغليظة في العورة الغليظة، وهذا في الخفيفة تخفيف؛ لأنه اعتبر في الدبر قدْر الدرهم والدبر لا يكون أكثر من قدر الدرهم، فهذا يقتضي جواز الصلاة، وإن كان جميع الدبر مكشوفًا وهذا تناقض.
والركبة تعتبر عضوًا على حدة أم تعتبر مع الفخذ عضوًا واحدًا؟ فقد اختلف المشايخ فيه منهم من قال: الركبة عضو على حدة حتى يعتبر فيه انكشاف الربع منه ومن المشايخ من قال: يعتبر مع الفخذ عضوًا واحدًا حتى يعتبر الربع منهما.
وأما الخصيتان مع الذكر ففيهما اختلاف المشايخ أيضًا، قال بعضهم يعتبر كل واحد منهما عضوًا على حدة اعتبارًا بالدية، فإن في باب الدية يعتبر كل واحد منهما عضوًا على حدة، ومنهم من قال يعتبران عضوًا واحدًا؛ لأن الخصيتين كالتبع للذكر.
وأما ثدي المرأة إن كانت مراهقة فهي تبع للصدر وإن كانت كبيرة فالثدي أصل بنفسه.
ومن جملتها طهارة ما يستر به عورته إذا كان مقيمًا وله ثوب آخر (وليس له ثوب آخر)، وإذا كان مسافرًا وله ثوب آخر لا تجوز صلاته مع ثوب للنجس إذا كانت النجاسة أكثر من قدر الدرهم، وإن لم يكن له ثوب آخر وعجز عن غسله لعدم الماء أو معه ماء بحال العطش جاز له الصلاة فيه، وإن كان كله مملوءًا من الدم كان هو بالخيار، إن شاء صلى عريانًا قاعدًا نائمًا، وإن شاء صلى قائمًا بركوع وسجود، وعن محمد يلزمه أن يصلي به قائمًا بركوع وسجود قال: هذا أهون الوجهين، لأن فيه ترك فرض واحد وهو طهارة الثوب، وفي الآخر ترك الفرائض من ستر العورة والقيام والركوع والسجود.
ولهما: أن الوجهين قد استويا في حق حكم الصلاة، فإن الصلاة عريانًا لا تجوز حالة الاختيار، وكذلك الصلاة في الثوب المملوء من الدم لا تجوز حالة الاختيار فكان له الاختيار، وما يقول بأن في الصلاة عريانًا ترك الفرائض قلنا: ليس كذلك؛ لأن القاعد يأتي بالأركان كلها لكن بالإيمان وفيه ضرب قصور ولكن مع إحراز الطهارة، وفي الجانب الآخر يأتي بها مع استعمال بالنجاسة، وفيه ضرب قصور أيضًا فاستويا، فإن كان ربعه طاهرًا وثلاثة أرباعه نجسًا لم تجز الصلاة عريانًا بالإجماع، لأن للربع حكم الكل في الجملة، فثبت للثوب شبهة الطهارة، فصار أولى من العري الذي لا شبهة فيه، وإن كان أقل من الربع طاهرًا فله الخيار على الاختلاف الذي مر.
ولو وجدت المرأة ثوبًا تستر به جسدها ورأسها لا يزيد على ذلك فغطت به جسدها، ولم تستر به رأسها لم تجز صلاتها، لأن للربع حكم الكل، ألا ترى أنه لو انكشف ربع ساقها لم تجز صلاتها عند أبي حنيفة ومحمد، وإذا جعل انكشاف الربع كانكشاف الكل يجعل القدرة على تغطية الربع كالقدرة على تغطية الكل، ولو كانت تقدر على أن تغطي بذلك الثوب جسدها أقل من ربع رأسها فالأفضل لها أن تغطي ما قدرت عليه من رأسها تقليلًا عورة، وإن لم تغط رأسها وغطت جسدها جاز، لأن ما دون الربع ليس له حل الكل، ألا ترى أن في حق الانكشاف فرقًا بين الربع وما دونه، فكذا في حق التغطية والله أعلم.
وإذا صلى وهو لابس منديلًا أو ملاءة وأحد طرفيه فيه نجس والطرف الذي فيه النجاسة على الأرض فكان النجس يتحرك بتحرك المصلي لم تجز صلاته، وإن كان لا يتحرك تجوز صلاته؛ لأن في الوجه الأول مستعمل للنجاسة، وفي الوجه الثاني لا.
وإذا صلى في ثوب وعنده أنه نجس، فلما فرغ من صلاته تبيّن له أنه طاهر تجوز صلاته. وبمثله لو صلى إلى جهة عنده أن القبلة إلى جهة أخرى فلما فرغ من صلاته تبين أنه أصاب القبلة لا تجوز صلاته. المسألة في (مجموع النوازل).
ومن جملة ذلك: طهارة موضع الصلاة، فإن كان موضع قدميه وركبتيه وجبهته وأنفه طاهرًا جازت صلاته بلا خلاف، وكذلك إذا كان موضع قدميه طاهرًا وموضع أنفه نجسًا وموضع جبهته وركبتيه طاهرًا تجوز صلاته بلا خلاف، وكذلك إذا كان موضع قدميه وموضع ركبتيه وموضع أنفه طاهرًا وموضع جبهته نجسًا سجد على أنفه، وتجوز صلاته بلا خلاف للقذر الذي في الجبهة، وإن كان موضع قدميه وركبتيه طاهرًا وموضع جبهته وأنفه نجسًا ذكر الزندويستي في (نظمه) قال أبو حنيفة: يسجد على أنفه دون جبهته وتجوز صلاته؛ لأن الأرنبة لا تأخذ من الأرض والنجاسة أكثر من قدر الدرهم وفرض السجود عنده يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر وعندهما لا تجوز صلاته؛ لأن فرض السجود، عندهما لا يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر، والجبهة تأخذ من الأرض، والنجاسة أكثر من قدر الدرهم.
وفي (القدوري): أن عن أبي حنيفة في هذا الفصل روايتين: روى محمد عنه لا تجوز، وروى أبو يوسف عنه أنه يجوز، فإن أعاد تلك السجدة في الصلاة في مكان طاهر تجوز ذكره في (القدوري) أيضًا.
وإن كان موضع قدميه وجبهته وأنفه طاهرًا، وموضع ركبتيه نجسًا ذكر الزندويستي في (نظمه) أن في ظاهر الأصول لا تجوز صلاته لعجزه عن السجدة بدون الركبتين، وقال الطحاوي تجوز، وكان الفقيه أبو الليث يقول: لا تجوز، وذكر الشيخ شمس الأئمة السرخسي في (شرحه) في باب الحدث إذا كانت النجاسة في موضع الكفين والركبتين جازت صلاته عندنا خلافًا لزفر، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رحمه الله إلا أنه لم يذكر خلاف زفر، وهكذا ذكره القدوري.
وفي (المنتقى): ابن سماعة عن أبي يوسف في (الأمالي): إذا سجد على دم أو وضع يديه أو ركبتيه عليه، فإنه لا يعيد الصلاة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما إن سجَدَ عليه يعيد الصلاة، وإن وضع يديه أو ركبتيه لا يعيد الصلاة، أما إذا وضع يديه أو ركبتيه؛ لأنه ليس بفرض من فرائض الصلاة فأقلّ حاله أن يجعل كالعدم، وأما إذا سجد فالكلام فيه بناءً على ما قلنا إن فرض السجود يتأدى بوضع الأنف لا غير، وعندهما بوضع الجبهة.
وعن الفقيه أحمد بن إبراهيم أنه قال فيمن صلى قائمًا وموضع القدمين نجس: فسدت صلاته، ولا يفترق الحال بين أن يكون جميع موضع القدمين نجسًا، وبين أن يكون موضع الأصابع؛ لأن القدم وموضع الأصابع شيء واحد، فكان حكمها واحدًا، وإذا كان موضع إحدى القدمين طاهرًا، وموضع الأخرى نجسًا؛ فوضع قدميه اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا تجوز صلاته؛ لأن القيام يحصل برجل واحدة فيكون وضع الآخر كلا وضع، وفي نسخة الإمام الزاهد الصفار؛ الأصح أنه لا تجوز صلاته؛ لأنه لما وضعهما صار القيام مرادًا بهما، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل، فإن وضع إحدى القدمين التي موضعها طاهر ورفع القدم الأخرى التي موضعها نجس وصلى، فإن صلاته جائزة.
وفي (القدوري) إذا افتتح الصلاة على مكان نجس منع ذلك انعقاد الصلاة، وإن افتتح الصلاة على مكان طاهر ثم نقل قدميه إلى مكان نجس ثم عاد إلى مكان طاهر صحت صلاته، إلا أن يتطاول حتى يصير في حكم الفعل الذي إذا زيد في الصلاة أفسدها.
ولو صلى على بساط في ناحية منها نجاسة إن كانت النجاسة في موضع قيامه لا تجوز، وإن كانت في موضع سجوده فعلى ما ذكرنا فيما إذا كانت النجاسة على الأرض، وإن كانت غير هذين الموضعين فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يجوز صغيرًا كان البساط (أو لبيا) وحدّه أنه إذا رُفِعَ أحد طرفيه لا يتحرك الطرف الآخر، في الوجهين جميعًا تجوز صلاته وبه أخذ الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وقال بعضهم: إذا كان البساط صغيرًا على التفسير الذي قلنا: لا يجوز، وإن كان كبيرًا على التفسير الذي قلنا يجوز.
ولو كان البساط مُبطّنًا فأصابته النجاسة البطانة فصلى على الظهارة، وقد قام على ذلك الموضع، فعن محمد أنه يجوز، وهكذا ذكر في (نوادر الصلاة)، وعن أبي يوسف أنه لا يجوز، وقيل: جواب محمد في مخيط غير مُضَرَّب حكمه حكم ثوبين وجواب أبي يوسف في مخيط مضرب حكمه حكم ثوب واحد، فلا خلاف بينهما في الحقيقة في (شرح الطحاوي)؛ قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في (نوادره) الضم بالخياط غير معتبر، وهو كثوبين منفصلين، الأسفل منهما نجس وأبو يوسف يقول: الضم قد جمعهما فهو كثوب واحد غليظ.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف في جبّة مبطنة أصابها دم قدر درهم وخلص إلى البطانة وهو إن جمع كان أكثر من قدر الدرهم فصلى فيه جازت صلاته، والجسد بمنزلة ثوب واحد، وروى أبو سليمان عن محمد أنه لا يجوز؛ لأن هذا بمنزلة ثوبين عنده وصار كالبساط المبطن.
وفي (النوازل): ثوب ذو طاقين فأصابته نجاسة أقل من قدر الدرهم ونفذت النجاسة إلى الجانب الآخر، حتى صارت أكثر من قدر الدرهم لا يجوز، ولو كان الثوب ذو طاق واحد فأصابته نجاسة، ونفذت إلى الجانب الآخر وصارت أكثر من قدر الدرهم، لم يمنع ذلك جواز الصلاة؛ لأن هذا من الجانبين واحد فلا يعتبر منفردًا، فأما ذو الطاقين متعدد وما ذكر من الجواب في الثوب إذا كان ذا طاقين فذاك قول محمد، أما على قول أبي يوسف لا يمنع ذلك جواز الصلاة؛ لأنها بمنزلة ثوب واحد عنده بدليل المسائل الذي ذكرنا قبل هذا.
وفي (القدوري) لو كانت على بطانة مصلاه أو في حشوها جازت الصلاة عليها، بخلاف ما إذا كانت النجاسة في حشو جبته، وإذا صلى على موضع نجس وفرش نعليه وقام عليهما جاز، ولو كان لابسًا لهما لا يجوز لأنهما يكونان تبعًا له حينئذٍ.
في (النوازل): إذا قام على مكعبه وعلى نعله نجاسة جاز عند محمد خلافًا لأبي يوسف، ولو كان لم يخرج رجليه وصلى فيهما إن كان واسعًا فهو على الخلاف، وإن كان ضيقًا لم تجز بلا خلاف، فلو كانت النجاسة في خفه لا تجوز بلا خلاف، وقول أبي حنيفة لا يحفظ في باب المسح من (نوادر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله).
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا صلى على مكان طاهر وسجد على مكان طاهر إلا أنه إذا سجد تقع ثيابه على أرض نجسة يابسة أو ثوب نجس جازت صلات؛ لأنه أدى الصلاة في مكان طاهر، وفي اختلاف زفر: إذا كانت النجاسة على باطن اللبنة أو الآجرّة وهو على ظاهرها قائم يصلى لم تفسد صلاته.
وفي (المنتقى): عن أبي يوسف: البول إذا كان على الأرض فبنى عليه أو فرشه بطين وجص حتى رفع به أحكام الفعل وقام عليه البول وصلى أجزأه، وإن أرق البول بباطن البناء وليس البناء في هذا كالثوب، ولو فرشه بالتراب ولم يطين بجص، والبول اتصل بباطنه، القياس أن لا تجوز، وعنه أيضًا لبنة أو آجرّة أصابها بول فجف حتى ذهب أثره ثم بنى عليها بناءً أو فرشها أجزأه أن يصلي عليها.
وعنه أيضًا: آجرّة حلت بها نجاسة فقلبها رجل وسجد عليها جاز، وبمثله لو حلت نجاسة بخشبة، فقلبها وسجد عليها لم يجز، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر مسألة الخشبة في موضع آخر، وذكر أنه إذا كان غلظ الخشب بحيث يقبل القطع تجوز الصلاة وعن أبي يوسف رواية أخرى في الآجر واللبن يقلب: نظر في ذلك، فإن وضع للبناء أو للفرش جازت صلاته، وإن وضع لغير ذلك لكن يرفع لم تجز صلاته، وكذلك الأرض إذا أصابته نجاسة فألقى عليها التراب وصلى عليها، فإن كان ذلك......... غير أن يفعل إلى غيرها جازت صلاته وإلا فلا، وقال محمد في هذه الفصول كلها: إن صلاته جائزة ولو كان لبأ أصابه فقلب حلت وصلى على الوجه الثاني؛ روى عن محمد أنه يجوز، وقال أبو يوسف: لا يجوز.
ومن جملة ذلك الوضوء والتيمم: إذا كان مسافرًا عادمًا الماء، ومسائل الوضوء والتيمم مرت في كتاب الطهارة.
ومن جملة ذلك الوقت حتى لو صلى قبل دخول الوقت لا يجوز، وقد ذكرنا مواقيت الصلاة في الفصل المتقدم.
ومن جملة ذلك استقبال القبلة، قال الله تعالى: {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [القرة: 144] فكل من كان بحضرة الكعبة يجب عليه إصابة عينها، ومن كان نائيًا عنها ففرضه جهة الكعبة لا عينها، وهذا قول الشيخ أبي الحسن الكرخي والشيخ أبي بكر الرازي رحمه الله؛ لأنه ليس في وسعه سوى هذا، والتكليف بحسب الوسع، وعلى قول الشيخ أبي عبد الله الجرجاني من كان غائبًا عنها، ففرضه عينها، لأنه لا فصل في النص.
وثمرة الخلاف تظهر في اشتراط نية عين الكعبة، فعلى قول أبي عبد الله تشترط، وعلى قول أبي الحسن وأبي بكر: لا تشترط؛ وهذا لأن عند أبي عبد الله لما كان إصابة عينها فرضًا لا يمكنه إصابة عينها حال غيبته عنها إلا من حيث النية، شرط نيّة عينها، وعند أبي الحسن وأبي بكر لما كان الشرط إصابة جهتها لمن كان غائبًا، وذلك يحصل من غير نيّة العين لا حاجة إلى اشتراط العين، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يشترط نيّة الكعبة مع استقبال القبلة، وكان الشيخ الإمام أبو بكر بن فضل لا يشترط ذلك وبعض المشايخ يقول: إن كان يصلي في المحراب فكما قال الحامدي، وإن كان في الصحراء فكما قال الفضلي وذكر الزندويستي في (نظمه): إن الكعبة قبلة من يصلي في المسجد الحرام والمسجد الحرام قبلة أهل مكة ممن يصلي في بيته أو في البطحاء، ومكة قبلة أهل الحرم، والحرم قبلة أهل العالم، قال وقيل: مكة وسط الدنيا، فقبلة أهل المشرق إلى المغرب عندنا، وقبلة أهل المغرب إلى المشرق، وقبلة أهل المدينة إلى يمين من توجه إلى المغرب، وقبلة أهل الحجاز إلى يسار من توجه إلى المغرب، فإذا صلى بمكة صلى إلى أي جهات الكعبة شاء مستقبلًا بشيء منها، فإن كان منحرفًا عنها غير متوجه إلى شيء منها لم تجز.
قال القدوري: إن صلوا جماعة استداروا حول الكعبة، هكذا جرت العادة، ومن كان منهم أقرب إلى الكعبة من الإمام، فإن كان في الجماعة التي يصلي إليها الإمام لم يجز؛ لأنه متقدم على الإمام، فإن كان في جهة أخرى جاز.
وإن صلت امرأة إلى جنب الإمام في ذلك الجهة فسدت صلاة الإمام وصلاة القوم، وإن صلت إلى غير ذلك الجهة فسدت صلاة من يحاذيها خاصة، والكلام في فساد صلاة الرجل بحسب المحاذاة يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، وسواء كانت الكعبة مبنيّة أو منهدمة يتوجه إليها، لأن الكعبة ليست للحيطان ألا ترى لو وضع الحيطان في موضع آخر وصلى إليها لا يجوز.
وفي (الأصل) يقول: وإذا كانت الكعبة تبنى جاز له أن يصلي إليها، وأراد به انهدام الحيطان، لكن يكره إطلاق لفظ الهدم عليها، ولو صلى في جوف الكعبة أو على سطحها جاز إلى حيث ما توجه؛ لأنه مستقبل الجزء منها واستدبار الباقي لا يضر؛ لأن استقبال الكل متعذّر ولو صلى على جدار الكعبة فإن كان وجهه إلى سطح الكعبة يجوز وإلا فلا، ولو صلوا في جوف الكعبة بجماعة استداروا خلف الإمام وينبغي لمن يواجه الإمام أن يجعل بينه وبين الإمام سترة، ولو صلى وظهره إلى ظهر الإمام جاز، ومن كان ظهره إلى وجه الإمام لم يجز؛ لأنه متقدم.
الإمام إذا صلى فنوى مقام إبراهيم، ولم ينوِ الكعبة إن كان هذا الرجل قد رأى مكة، لم يجز وإن لم يكن رأى مكة، وعنده أن المقام أو البيت واحد أجزأه؛ لأنه نوى البيت، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده في الباب الأول من صلاته من نوى مقام إبراهيم لا يجزيه إلا أن ينوي الجهة، فحينئذٍ يجوز، ومن شرط نية الكعبة يقول إذا نوى الكعبة أو نوى الفرضة يجوز، ولو نوى البناء لا يجوز إلا أن يريد بالبناء الجهة، ولو صلى مستقبلًا بوجهه إلى الحطيم لا يجوز.
ولو أن مريضًا صاحب فراش لا يمكن أن يحول وجهه إلى القبلة وليس يحضر به أحد يوجهه تجزيه صلاته إلى جهة ما توجه، وكذا إذا كان صحيحًا لكنه يختفي من العدو أو غيره ويخاف أنه إذا تحرك واستقبل القبلة أن يتبصر به العدو جاز له أن يصلي قاعدًا أو قائمًا بالإيماء أو مضجعًا حيث ما كان بوجهه، وكذلك إذا انكسرت السفينة وهي على لوح وخاف أنه لو استقبل القبلة يَسقط في الماء يتأتى له أن يصلي حيث ما كان وجهة المصلي إذا حوّل وجهه عن القبلة إن حول صدره فسدت صلاته، وإن لم يحول صدره لا تفسد صلاته إذا استقبل من ساعة القبلة؛ لأنه قل ما يمكن التحرز عن هذا، قالوا: وهذا الجواب أليق بقول أبي يوسف ومحمد أما على قول أبي حنيفة ينبغي أن لا تفسد صلاته في الوجهين بناءً على أن عندهما الاستدبار إذا لم يكن لقصد الإصلاح تفسد الصلاة، وعند أبي حنيفة إذا لم يكن لقصد ترك الصلاة لا تفسد ما دام في المسجد.
أصل هذا إذا انصرف عن القبلة على ظن أنه أتم الصلاة فتبيّن أنه إن لم يتم فعند أبي حنيفة يبني ما دام في المسجد، وعندهما لا يبني، والمسألة مع أجناسها تأتي بعد هذا إن شاء الله، ومن جملة ذلك النية، قال عليه السلام: «لا عمل لمن لا نية له» وقال عليه السلام: «إنما الأعمال بالنيّات».
وفي (الأصل) يقول: إذا أراد الدخول في الصلاة فظن بعض أصحابنا أن محمدًا لم يذكر النية، وليس الأمر كما ظنوا؛ لأنه ذكر إرادة الدخول في الصلاة، وإرادة الدخول في الصلاة هي النية. والكلام فيها في فصلين في كيفيتها وفي محلها.

.الفصل الرابع في كيفيتها:

نقول المصلي لا يخلو، إما أن يكون متنفلًا أو مفترضًا، فأما إن كان متنفلًا لا تكفيه نية مطلق الصلاة، لأن الصلاة أنواع في منازلها لو أدياها منزلة النفل، فانصرف مطلق النية إليه، وفي صلاة التراويح يكفيه أيضًا مطلق النية عند عامة المشايخ؛ لأنها سنّة الصحابة، وفي سائر السنن تكفيه مطلق النية على ظاهر الجواب، وبه أخذ عامة المشايخ.
وإن كان المصلي مفترضًا فلا يخلو، إما إن كان منفردًا أو إمامًا أو مقتديًا، فإن كان منفردًا لا يكفيه نية مطلق الفرض سواء كان يصلي في الوقت أو خارج الوقت أما إذا كان يصلي في الوقت فلأن كل وقت كما هو قابل لفرض الوقت، فهو قابل لفرض آخر بطريق القضاء، وأما إذا كان يصلي خارج الوقت، فلأن خارج الوقت قابل لجميع الفرائض الظهر أو العصر أو المغرب وغير ذلك بطريق القضاء ثم إذا عين الظهر، وكان في وقت الظهر هل يشترط نية فرض الوقت فيه اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: يشترط؛ لأن الظهر أنواع في منازلها ظهر الفائت وغير الفائت وليست إحديهما بأن يصرف النية إليها بأولى من الأخرى، وقال بعضهم: لا يشترط لأن فرض الوقت مشروع الوقت، والفائت غير مشروع الوقت، فإذا وقع التعارض انصرفت إلى ما هو مشروع الوقت كما في نقد البلد.
وإن نوى فرض الوقت ولم يعين أجزأه إلا في فرض الجمعة فإن في فرض الوقت يوم الجمعة خلافًا على ما يأتي بيانه في موضعه إن شاء الله.
وإذ نوى فرض الوقت ظهر الوقت أو عصر الوقت، ولم ينوِ أعداد الركعات جاز؛ لأنه نوى الظهر، فقد نوى عدد الركعات، هذا إذا كان يصلي في الوقت، وإن كان يصلي بعدما خرج وهو لا يعلم بخروج الوقت فنوى فرض الوقت لا يجوز؛ لأن بعد خروج وقت الظهر فرض الوقت يكون هو العصر، فإذا نوى فرض الوقت كان ناويًا العصر وصلاة الظهر لا تجوز بنية العصر.
رجل افتتح المكتوبة ثم ظن أنها تطوع، فصلى على نية تطوع العصر حتى فرغ، فالصلاة هي المكتوبة؛ لأن فوات النية بكل جزء من أجزاء العبادة متعذر فيشترط قران النية بالجزء الأول، وكذا لو شرع في التطوع ثم ظن أنها مكتوبة وأتمها على نية المكتوبة، ولو كبّر ينوي التطوع ثم كبر ينوي الفرض يصير شارعًا في الفرض، فإذا أراد أن يصلي ظهر يومه، وعنده أن وقت الظهر لم يخرج، وقد خرج الوقت، فنوى ظهر اليوم جاز، لأنه لما خرج الوقت ظهر اليوم في ذمته؛ فإذا نوى ظهر اليوم فقد نوى عليه إلا أنه قضى ما عليه بنية الأداء وقضاءها عليه بنية الأداء جاز هذا إذا كان منفردًا، فأما إذا كان إمامًا فكذلك الجواب في حقه؛ لأنه بمنزلة المنفرد في حق نفسه، ولا يحتاج إلى نية الإمامة؛ لأن الأداء لا يختلف عليه إلا في حق النساء، فإنه لا يصير إمامًا لهن إلا بالنية: وإن كان مقتديًا لا تكفيه نية الفرض والتعيين حتى ينوي الاقتداء؛ لأن الأداء مقتديًا يخالف الأداء منفردًا، والمخالفة من هذا الوجه أظهر من المخالفة بين الظهر والعصر، وكذلك في صلاة التراويح إذا كان مقتديًا يحتاج إلى نية الاقتداء مع نية التراويح.
وإن نوى الاقتداء بالإمام ولم يعين الصلاة اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تجزئه؛ لأن الاقتداء بالإمام متنوع إلى نفل وفرض والنفل أدنى، فانصرفت إليه النية المطلقة، وقال بعضهم: تجزئه؛ لأنه جعل نفسه تبعًا للإمام مطلقًا، وإنما يظهر تعيينه مطلقًا إذا صار شارعًا في صلاة الإمام وهو الفرض، وكذلك إذا قال: نويت أن أصلي مع الإمام، وذكر رحمه الله في باب الحديث إذا اقتدى بالإمام ينوي صلاة الإمام ولم يعلم أن الإمام في أية صلاة في الظهر أو في الجمعة أجزأه أَيُّها كانت؛ لأنه نوى الدخول في صلاة الإمام مقتديًا به؛ فيصير شارعًا في صلاته، وإن نوى صلاة الإمام لا تجزئه بالاتفاق؛ لأن صلاة الإمام قد يكون منفردًا وقد يكون مقتديًا إلا بالنية.
وإن نوى الشروع في صلاة الإمام فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: تجزئه، وقال بعضهم: لا تجزئه؛ لأن الشروع في صلاة الإمام متنوع إلى نفل وفرض، والنفل أدنى يفيد الإطلاق، فينصرف إليه، فيصير شارعًا في صلاة الإمام ولكن متنفلًا، والأول أصح؛ لأنه جعل نفسه تبعًا من كل وجه فلا تثبت التبعية من كل وجه مع المخالفة من وجه.
ولو نوى الاقتداء بالإمام ولكن لم ينوِ صلاة الإمام إنما نوى الظهر، فإذا هي الجمعة لا يجوز؛ لأن اختلاف الفرضين يمنع الاقتداء، وإذا أراد المقتدي بنية الأمر على نفسه ينبغي أن ينوي صلاة الإمام والاقتداء به أو ينوي أن يصلي مع الإمام، ولو نوى الجمعة ولم ينوِ الاقتداء بالإمام اختلفوا فيه، بعضهم قالوا لا يجوز؛ لأن الجمعة لا تكون إلا مع الإمام.
ولو نوى الاقتداء بالإمام ولم يخطر بباله أنه زيد أو عمرو جاز اقتداؤه، ولو نوى الاقتداء بالإمام وهو يرى أنه زيد فإذا هو عمرو صح اقتداؤه؛ لأن العبرة لما ينوي لا لما يرى وهو قد نوى الاقتداء بالإمام، ولو قال: اقتديت بزيد أو نوى الاقتداء بزيد، فإذا هو عمرو لا يصح اقتداؤه.
ولو نوى الشروع في صلاة الإمام على قول من يرى صحة الشروع فهذه النيّة والإمام لم يشرع بعد وهو يعلم بذلك يصير شارعًا في صلاة الإمام إذا شرع الإمام؛ لأنه ما قصد الشروع في صلاة الإمام للحال إنما قصد الشروع في صلاة الإمام إذا شرع الإمام، والأفضل أن ينوي الاقتداء بعدما قال الإمام أكبّر حتى يكون مقتديًا بمصلي.
ولو نوى الاقتداء حتى وقف الإمام موقف الإمامة يجوز نيته عند عامة العلماء، وبه كان يفتي الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد والحاكم عبد الرحمن الكاتب، وقال أبو سهيل الكبير والفقيه عبد الواحد والقاضي أبو جعفر، وبه أخذ أهل بخارى، لا تجوز نية الاقتداء ما لم يكبر الإمام وقال الفقيه الزاهد ينوي الاقتداء بعد قول الإمام الله قبل قوله أكبر وقول إسماعيل الزاهد والحاكم عبد الرحمن: أحوط، ولو نوى الشروع في صلاة الإمام على ظن أن الإمام قد شرع ولم يشرع الإمام بعد، اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يجوز وإذا كان المقتدي يرى شخص الإمام؛ فقال اقتديت بهذا الإمام الذي هو عبد الله، فإذا هو جعفر جاز، وكذا إذ كان في أحد الصفوف لا يرى شخص الإمام، فقال: اقتديت بالإمام الذي هو قائم في المحراب الذي هو عبد الله، فإذا هو جعفر.
ولو شرع في صلاة ثلاثية على ظن أنها. سنية فإذا هي أحادية لا يصح شروعه، ولو شرع على ظن أنها أحادية، فإذا هي سنية يصح شروعه، فإذا جاء إلى المسجد.
ولو قال إن كان الإمام زيدًا فأشرع، وإن كان عمروًا فلا، قال محمد بن مقاتل: فهو على ما نوى وقال أبو جعفر الهندواني: لا يصح شروعه فعلًا، ولو نوى الصلاة ولم ينوِ الصلاة لله تعالى جاز، ويكون فعلًا لأن المسلم لا يصلي لغير الله تعالى، وإذا لم يعرف الرجل أن الصلوات الخمس فريضة ولكن يصليها في مواقيتها لا يجوز، وعليه قضاؤها؛ لأنه لم ينوِ الفرائض، وكذلك لو علم أن منها فريضة ومنها سنّة إلا أنه لم يعلم الفريضة من السنّة ولم ينوِ الفريضة في الكل لم تجز الفرائض.
ولو صلى سنين ولم يعرف النافلة من المكتوبة؛ إن ظن أن الكل فريضة جاز ما يصلي، لأنّ النفل يتأدى به. وإن كان ما يعلم أن البعض فريضة والبعض سنّة فكل صلاة صلاها خلف الإمام جاز إذا نوى صلاة الإمام.
وإن كان يعلم الفرائض من النوافل، ولكن لا يعلم ما في الصلاة من الفريضة والسنّة، فصلى الفرائض بنيتها فصلواته جائزة، وإذا كان لا يعلم الفرائض من النوافل، قام يومًا ونوى الفرض في الكل، فقد ذكرنا أن صلوات الأيام كلها جائزة، وأما صلاة القوم فكل صلاة قبلها مثلها من التطوع كالفجر والظهر لا تجوز صلاتهم، وكل صلاة ليس قبلها مثلها من التطوع كالعصر والمغرب والعشاء تجوز صلاتهم وهذا؛ لأنّ كل صلاة قبلها مثلها إذا نوى الإمام السنن نيّة الفرض يقع ذلك عن الفرض، فالتي يأتي بعدها تصير نفلًا وللقوم فريضة، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز.
وإذا كان الرجل شاكًا في وقت الظهر هل هو باقي ينوي ظهر الوقت، فإذ الوقت قد خرج يجوز بناءً على أن القضاء يجوز بنية الأداء، والأداء بنية القضاء وهو المختار.
رجل صلى الظهر ونوى هذا من ظهر يوم الثلاثاء، فتبين أن ذلك يوم الأربعاء جاز ظهره؟ في تعيين الوقت، ثم في هذه الفصول هل يستحب أن يتكلم بلسانه؟ اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا؛ لأن الله تعالى مطلع على الضمائر، وبعضهم قالوا: يستحب وهو المختار، وإليه أشار محمد رحمه الله في أول كتاب المناسك حيث قال: وإذا أردت أن تحرم بالحج إن شاء لله، فقل: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني، هذا هو الكلام في كيفية النية.
بقي الكلام في معرفة وقتها فنقول: لا شك أنها لو كانت مقارنة للشروع يجوز؛ لأنها شُرعت لتعيين العمل بالعبادة، وذلك إنما يحتاج إليه حالة الأداء وحالة الشروع وحالة الأداء، وصار هذا كسائر العبادات، أما إذا تقدمت النية على حالة الشروع لم يذكر محمد رحمه الله هذا في ظاهر الرواية.
وذكر محمد بن شجاع في (نوادره) عن محمد أن من توضأ يريد به الصلاة يعني صلاة الوقت، فصلى وقد عديت النية أجزأه وفي الوقت فيمن خرج من منزله يريد الصلاة أي الصلاة التي كان القوم فيها، فلما انتهى إلى القوم كبّر ولم تحضره النية، فهو داخل مع القوم، وذكر في المناسك إذا خرج يريد الحج أحرم ولم تحضره النية جاز إحرامه، وذكر هشام في (نوادره) أن من جعل دراهم في صرة يتصدق بها عن زكاة ماله؟ ولم تحضره النية عند الفعل لا تجزئه الزكاة عند أبي يوسف، وقال محمد رحمه الله أرجو أن تجزئه.
فالحاصل: أن الشروع في الصلاة، وفي جملة العبادات صحيح بالنية المتقدمة عند محمد إذا لم يشتغل بعدها بعمل آخر لا يليق بالصلاة، وقال أبو يوسف: لا تجزئه إلا في الصوم خاصة، هو يقول بأن النية شرط للتعيين بشرط حالة الأداء وحالة الأداء حالة الشروع فلا يسقط هذا الشرط وفي باب الصوم مسّت الضرورة؛ لأن حالة الشروع فيه حالة السهو والغفلة، فسقط، ولا كذلك في سائر العبادات، ومحمد رحمه الله يقول باقي النية قد وجدت، وبعد الوجه تبقى حكمًا حتى؟ بخلاف ما إذا اشتغل بعمل آخر؛ لأن الصلاة نفسها تبطل بالعمل، فالنية تبطل به أيضًا، وذكر الطحاوي رواية أنه ينوي مقارنًا للتكبير ومخالطًا له، وهو مذهب الشافعي رحمه الله هو يقول بأن الأصل أن يعتبر وجودها في كل الصلاة، وإنما لم يعتبر لما فيه الحرج، فاكتفينا بالوجود في حالة العقد على الأداء، وهي التجربة دفعًا للحرج.
ونحن نقول: فيه أيضًا ضرب حرج فيما قاله الطحاوي أحوط، وما قاله محمد رحمه الله أيسر، وأبو يوسف رحمه الله اعتبر الوجود حالة الشروع ممسكًا بما هو الأصل وما اعتبر المخالطة لما فيه من الحرج كما لم يعتبر ما في كل الصلاة، ومحمد رحمه الله يقول: إذا اكتفينا بالوجود حكمًا عند فعل الصلاة أولى أن يكتفي به عند الشرط، هذه الجملة من (شرح الأصل).
وفي القدوري: تقديم النية على التحريمة جائز إذا لم يتخلل بينهما عمل يمنع الاتصال، ولم ينسب هذا القول إلى أحد، ثم قال: وروي عن أبي يوسف فيمن خرج من منزله يريد الفرض بالجماعة، فلما انتهى إلى الإمام كبّر ولم تحضره النيّة في تلك الساعة أنه يجوز؟ قال: ولا أعلم أحدًا من علمائنا خالف أبا يوسف ذلك، هذه الجملة من القدوري.
ومن أصحابنا رحمهم الله من قال: إذا كان عند التحريمة بحيث لو قيل له: أي صلاة هذه؟ أمكنه أن يجيب على البديهة فهو نية صحيحة، وإن كان لا يقدر على أن يجيب إلا بتباطؤ فهو ليس يتأتى، ولا تجزيه الصلاة، وله إذا تأخرت النية عن الشروع بأن؟ النية وقت التكبير، ونوى بعد التكبير ففي ظاهر الرواية لا تصح، وقال أبو الحسن الكرخي: تصح ما دام في البناء، وقال بعض الناس يصح إذا تقدمت على الركوع. وجه ما ذهب إليه أبو الحسن أن التسابيح للتكبير وهو صالح للدخول به في الصلاة وإحضار النيّة عنده كإحضاره عند التكبير، وجه ما ذهب به أولئك أن النيّة وجدت في أكثر الركعة والأكثر ينوب الكل كالصوم.
النوع الثاني: من فرائض الصلاة هي عند الشروع في الصلاة، وبعد الشروع فيها وهي منه بنيته على الوقت وهي تكبيرة الافتتاح، والقيام في حق القادر عليه والقراءة والركوع والسجود والقعدة الأخيرة، وبنيّة أن على الخلاف، وهي القومة بين الركوع والسجود والجلسة بين السجدتين والخروج عن الصلاة بفعل المصلي على ما يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.

.فرع في تكبيرة الافتتاح أو ما يقوم مقامها:

مع النية فرض الدخول في الصلاة إلا بهما، قال عليه السلام: «لا يقبل الله تعالى صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول: الله أكبر» وقال عليه السلام: «مفتاح الصلاة الطهور وتحريمها التكبير»، وإذا أراد التكبير يرفع يديه ويكبّر، واختلف الناس في أن رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح هل هو سنّة؟ والصحيح أنه سنّة؛ لأن رسول الله عليه السلام واظب عليه، وكذلك الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وما واظب عليه رسول الله عليه السلام يكون سنّة، وهكذا روي عن أبي حنيفة أيضًا، فإن ترك رفع اليدين هل يأثم؟ تكلموا فيه بعضهم قالوا: يأثم، وبعضهم قالوا: لا يأثم، وقد روي عن أبي حنيفة ما يدل على هذا القول، فإنه قال: إن ترك رفع اليدين جاز وإن رفع فهو أفضل، وكان الشيخ الإمام الزاهد الصفار يقول: إن ترك أحيانًا لا يأثم وإن اعتاد ذلك يأثم.
وكذلك اختلفوا في وقت رفع اليدين، قال بعضهم: يرفع ثم يكبّر، وقال بعضهم: يرسل يديه أولًا إرسالًا ويكبّر ثم يرفع يديه، وقال الفقيه أبو جعفر: يستقبل ببطون كفيّه القبلة وينشر أصابعه ويرفعهما، فإذا استقرتا في موضع المحاذاة يعني محاذاة الإبهامين شحمة الأذنين يكبّر، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وعليه عامة المشايخ، وعن بعض المشايخ أن الصواب أن يقبض أصابعه قبضًا ويضمهما ضمًا في الابتداء ثم إذا جاء أوان التكبير ينشرهما، وعن بعضهم أنه لا يفرج أصابعه كل التفريج، ولا يضمهما كل الضم بل يتركهما على ما عليه العادة، وهو المعتمد.
وذكر ابن رستم في (نوادره) لا يفرج أصابعه كل التفريج في حالة الصلاة، ولا يضم كل الضم إلا في موضعين؛ في حالة الركوع يفرج كل التفريج؛ لأنه يحتاج إلى أخذ الركبة، والتفريج أمكن للأخذ، وفي حالة السجود يضم كل الضم؛ لأنه يحتاج إلى الاعتماد على راحتيه، وعند الضم يكون أقدر على الاعتماد، وفيهما سواء فتركه على ما عليه العادة، وعن أبي يوسف أنه ينبغي أن يقول التكبير موضع اليدين، وبه أخذ شيخ الإسلام خواهر زاده والشيخ الإمام الزاهد الصفار؛ وهذا لأن رفع اليدين سنّة التكبير، وما كان سنّة الشيء يكون مقارنًا لذلك الشيء، كتسبيحات الركوع والسجود، وينبغي أن يرفع يديه حذاء أذنيه ويحاذي بإبهاميه شحمة أذنيه.
وأما المرأة ترفع يديها كما يرفع الرجل في رواية الحسن عن أبي حنيفة، وبهذه الرواية أخذ بعض المشايخ، وقال بعضهم: حذاء يديها، قال بعضهم: حذو منكبيها وهو الأصح؛ لأن هذا أستر في حقها، وما يكون أستر لها فهو أولى.
فلا يطأطئ رأسه عند التكبير، ذكره في كتاب الصلاة للحسن بن زياد، ثم تكبيرة الافتتاح ليست من جملة أركان الصلاة، بل هي شرط الدخول في الصلاة، وقال الشافعي هي من أركان الصلاة.
وفائدة الخلاف تظهر في جواز بناء التنفل على تحريمة الفرض وجاز بناء ركعتي الظهر على تحريمة الظهر، وبناء التنفل على تحريمة الفرض عندنا يجوز، وعند الشافعي لا يجوز.
ووجه بناء هذه المسائل على هذا الأصل: أن عندنا التكبير لما كان شرطًا كان هو مؤديًا للنفل بشرط أتى به الفرض، ومؤديًا للفرض بشرطٍ أتى به لفرض آخر، وذلك جائز، وعند الشافعي التكبير لما كان ركنًا كان مؤديًا للتنفل بركن الفرض ومؤديًا الفرض بركن آخر وكل ذلك لا يجوز.
حجته: أن هذا ذكر مفروض شرط في حالة القيام، فيكون من الصلاة كالقراءة، ولهذا شرط لصحتهما شرط لسائر أفعال الصلاة.
وجه قول علمائنا: قول الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] جاء في التفسير أن المراد منه تكبيرة الافتتاح، فالاستدلال بالآية أن الله تعالى عطف الصلاة على تكبيرة الافتتاح، والشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره، فهذا بذلك على أن تكبيرة الافتتاح ليست من الصلاة، وقال عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول الله أكبر» فالاستدلال بالحديث أن النبي عليه السلام جعل الطهارة، فاستقبال القبلة والتكبير سواء ثم الطهارة واستقبال القبلة شرط، فكذا التكبير إلا أن التكبير متصل بالركن وهو القيام، فشرط هذه الشرائط لصحة ما يتصل بها من الركن لا لصحة التكبير.
ولو افتتح الصلاة بالتهليل، بأن قال: لا إله إلا الله، أو بالتحميد بأن، قال: الحمد لله، وبالتسبيح، بأن قال: سبحان الله أو، قال: الله أجل الله أعظم، أو قال: لا إله غيره أو، قال: تبارك الله يصير شارعًا، وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وهو قول النخعي، والحكم بن عيينة، وينوي إن كان يحسن التكبير أو لا يحسن، وكذلك يستوي إن كان يعرف أن الصلاة تفتتح بالتكبير أو لا يعرف.
وقال أبو يوسف في (الجامع الصغير): إذا كان يحسن التكبير لم يجزه إلا بقوله الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ولم يفصل بين ما إذا كان يعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير أو لا يعلم وذكر في كتاب الصلاة، وقال أبو يوسف: إن كان يحسن التكبير ويعلم أن الصلاة تفتتح بالتكبير لا يصير شارعًا إلا بما ذكرنا من الألفاظ، فأما إذا كان لا يعرف الافتتاح بالتكبير يجزيه، وإن كان يحسن التكبير، وقال الشافعي: إذا كان يحسن التكبير لا يصير شارعًا إلا بقوله الله أكبر الله أكبر، وقال مالك: لا يصير شرعًا إلا بقوله الله أكبر حجة مالك ظاهر قوله عليه السلام: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه ويستقبل القبلة ويقول الله أكبر».
وجه قول الشافعي: إن في قوله الله الأكبر ما في قوله الله أكبر وزيادة، وأبو يوسف يقول: الله أكبر والله الكبير سواء؛ لأن أفعل وفعيل في صفات الله تعالى واحد؛ لأن أفعل لا نذكر إلا من مذكورين وليس هاهنا إلا مذكور واحد، وأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله قول الله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] علق بالصلاة بمطلق ذكر اسم الله تعالى، وعن مجاهد وعبد الرحمن أن الأنبياء كانوا يفتتحون الصلاة بلا إله إلا الله؛ ولأن المقصود هو التعظيم وبأي ذكر أتى فقد حصل معنى التعظيم، فلا حجة لهم في الحديث؛ لأن التكبير قد يجيء بمعنى التعظيم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 31] أي عظمته، وقال الله تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وعندنا إنما يجوز إذا ذكر اسمًا آخر على وجه التعظيم، ولو قال الله أكبر؛ روي عن أبي يوسف أنه لا يصير شارعًا.
ولو قال الله الكبار؛ روي عن أبي يوسف أنه يصير شارعًا؛ لأن الكبار لغة في التكبير، ثم إن محمدًا رحمه الله ذكر أنه إذا افتتح الصلاة بالتهليل أو بالتسبيح أو بالتحميد أنه يصير شارعًا ولم يذكر أنه هل يكره ذلك عندهما؟ فقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يكره، وبعضهم قالوا: لا يكره والأول أصح، فقد ذكر القدوري رواية عن أبي حنيفة أيضًا أنه كره الافتتاح إلا بقوله؛ الله أكبر ولو قال أكبار لا يصير شارعًا، ولو قال هكذا في خلال الصلاة تفسد صلاته، لو قال اللهم اغفر لي أو قال اللهم ارزقني كذا لا يصير شارعًا بلا خلاف؛ لأن هذا سؤال والسؤال غير الذكر، قال عليه السلام فيما يرويه عن ربه: «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» وعلى هذا إذا قال أستغفر الله أو قال نعوذ بالله أو قال: بالله أو قال: لا حول ولا قوة إلا بالله أو قال: ما شاء الله لا يصير شارعًا، ولو قال الله يصير شارعًا عند أبي حنيفة.
فعن رواية الحسن اكتفى بذكر اسم، وفي ظاهر رواية (الأصل) اعتبر الصفة مع الاسم، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي في (شرح الجامع) والشيخ الإمام الزاهد الصفار في شرح كتاب الصلاة أن على قول أبي حنيفة: يصير شارعًا، وعلى قول محمد: لا يصير شارعًا؛ لأن تمام التعظيم بذكر الاسم والصفة، ولو قال: بالله يصير شارعًا عندهما، هكذا ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يصير شارعًا عندهما، هكذا ذكره الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وعلى قياس المسألة المتقدمة ينبغي أن لا يصير شارعًا عند محمد، ولو قال الله أكبر بالكاف يصير شارعًا، فالعرب قد تبدل الكاف بالكاف، ولو قال اللهم فقد اختلف، أهل النحو فيه على قولهما؛ قال البصريون يصير شارعًا لأن الميم بدل عن ياء النداء فكأنه قال يا ألله، وهناك يصير شارعًا؛ وقال الكوفيون: لا يصير شارعًا والأول أصح، وفي (فتاوى النسفي) إذا افتتح الصلاة بالتعوذ أو بالتسمية لا يصير شارعًا، أما قوله سبحانك اللهم وبحمدك يصير شارعًا.
ولو كبر بالفارسية بأن قال خداي ندر كست خداي تررك ندنام خداي تررك جاز عند أبي حنيفة سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن إلا أنه إذا كان يحسن العربية يكره، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا يجوز إذا كان يحسن العربية وعلى هذا الخلاف قراءة القرآن بالفارسية، وعلى هذا الخلاف لو دعا بالفارسية في الصلاة أو سبّح أو أثنى على الله تعالى أو تعوذ أو هلل أو صلى على النبي أو استغفر الله تعالى بالفارسية في الصلاة، وفي القراءة بالفارسية كلمات كبيرة، سيأتي بعد هذا في فصل القراءة إن شاء الله.
وفي (نوادر ابن سماعة): لو افتتح المؤتم الصلاة مع الإمام، ففرغ من قوله الله قبل فراغ الإمام من قوله الله لم يجز سواء قال أكبر مع الإمام أو قبله أو بعده، وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف: يجزئه إذا قال أكبر مع الإمام أو بعده؛ لأن كل لفظ التكبير فرض عند أبي يوسف حتى لا يصير داخلًا عنده بقوله الله للتفسير المتقدم والمتأخر في كل لفظ التكبير.
وعندهما بقول الله: يصير شارعًا فيعتبر التقدم، والتأخر فيه، ولو قال الله مع الإمام أو بعده، وفرغ في قوله أكبر قبل فراغ الإمام من قوله أكبر على قول أبي حنيفة: يجوز؛ لأنه لو اقتصر على قول الله مع الإمام أو بعده يجوز، فهاهنا كذلك.
وقيل: ينبغي هاهنا أن لا يجوز بالاتفاق؛ لأنه إنما يصير شارعًا بقول الله عند أبي حنيفة إذا اقتصر عليه، أما إذا قال أكبر يصير شارعًا بالكل، ويصير الكل فرضًا، وإذا نوى الاقتداء وكبّر ووقع تكبيره قبل تكبير الإمام، فيصلي الرجل بصلاة الإمام لم يجز؛ لأنه لم يصر إمامًا؛ لأنه حين اقتدى به لم يكن هو في الصلاة، وهل يصير شارعًا في صلاة نفسه؟
أشار في كتاب الصلاة إلى أنه يصير شارعًا، فإنه قال متى جدد تكبيرًا مستأنفًا ونوى صلاة الإمام كما في تكبيره قطعًا للصلاة، الأولى شروعًا في صلاة الإمام، وذكر في (النوازل): لأبي سليمان أنه لا يصير شارعًا، فإنه قال: إذا قهقهه لا تنتقض طهارته، ولو صار شارعًا لا تنتقض طهارته.
فمن مشايخنا من قال في المسألة روايتان على رواية (النوادر): لا يصير شارعًا، وعلى رواية (الأصل) يصير شارعًا، ومن المشايخ من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين، واختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم على رواية (النوادر) يصير شارعًا؛ لأنه نوى نيتيّن الاقتداء والصلاة، فبطلان إحدى النيتين لا يوجب بطلان النية الأخرى، وما ذكر من عدم انتقاض الطهارة بالقهقهة لا يدل على عدم الشروع؛ لأن حرمة هذه الصلاة قاصرة، فإنه شرع مقتديًا وقد ظهر فيه بخلافه، فصار كالصلاة المظنونة، ولا رواية فيها فلا تكون في معنى المنصوص، وهذا الحكم وهو انتقاض الطهارة بالقهقهة عرف بالنص، ومنهم من قال على رواية كتاب الصلاة لا يصير شارعًا؛ لأنه اقتدى بمن ليس في الصلاة، فصار كما لو اقتدى بجنب أو محدث، والروايات ثمة متفِّقَة، وإنما سمّاه قطعًا في زعم المصلي غير أن كلا القولين ضعيف، أما الأول؛ لأن القهقهة في الصلاة المظنونة توجب انتقاض الطهارة؛ لأنها لاقت حرمته صلاة مطلقة، وإن كانت لا توجب القضاء كما لو قهقه قبل السلام، وذلك روي عن أبي يوسف.
وأما الثاني: فلأنه سمّاه قطعًا للصلاة مطلقًا فيجب العلم بحقيقته، ما يكون قطعًا للصلاة بزعم المصلي يكون قطعًا بصورته فلا يكون قطعًا مطلقًا أو لا يكون قطعًا حقيقة، بل يكون مجازًا.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه): أن ما ذكر في (الأصل) قول أبي يوسف، وما ذكر في (النوادر) قول محمد بناءً على أصل أن الجهة إذا فسدت قبل: تبقى أصل الصلاة على قول أبي يوسف تبقى، وعلى قول محمد: لا تبقى، وعن أبي حنيفة روايتان، والمسألة تأتي بعد هذا، وعامة المشايخ على أنه إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع وموضع ما ذكر في (الأصل): أنه يذكر قبل الإمام ولم يقتد به، فلمّا كبّر الإمام نوى هو بقلبه الاقتداء بالإمام فلا يصير مقتديًا، ولكن يصير شارعًا في صلاة نفسه، وموضوع ما ذكر في (النوادر): أنه كبّر قبل تكبير الإمام مقتديًا به، ثم كبر الإمام، فلا يصير شارعًا في صلاة الإمام ولا في صلاة نفسه، وإلى هذا قال شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، فلو أنه كبّر بعد ما كبّر الإمام، ونوى الشروع في صلاة الإمام يصير شارعًا في صلاة الإمام قاطعًا لما كان فيه، وهذه التكبيرة تعمل عملين، ومثل هذا جائز كمن كان في النافلة فكبّر ينوي الفريضة.
ثم إذا شرع في صلاة الإمام في هذه الصورة وقطع ما كان فيها هل يلزمه قضاء ما قطعها؟ ينظر إن كانت تلك الصلاة نفلًا لزمه القضاء بالشروع، وإن كانت فرضًا ينظر إن كانت تلك الصلاة، والصلاة التي اقتدى بالإمام واحدًا لا يلزمه شيء؛ لأنه أداها على أكمل الوجوه، وإن كانت مختلفة يلزمه القضاء، ثم الأفضل في تكبيرة الافتتاح في حق المقتدي أن تكون تكبيرة مع تكبير الإمام عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر، وقال أبو يوسف ومحمد يكبّر مع تكبير الإمام، ذكر الاختلاف على هذا الوجه في اختلاف زفر ويعقوب لهما قوله عليه السلام: «فإذا كبّر فكبروا» والفاء للتعقيب.
ولأبي حنيفة القيام ركن من أركان الصلاة، فيكون الأفضل للمؤتم المشاركة في جميع ذلك قياسًا على الركوع والسجود، وإذا كبر بعد تكبير الإمام تفوته المشاركة في جزء من القيام وأما الحديث قلنا: الفاء إنما توجب التعقيب إذا دخل على الجزاء.
وقوله: «فكبروا» ليس بجزاء ولكن هذا بيان الحال، كما يقال إذا دخلت على الأمير ألا ترى أنه عليه السلام عطف عليه قوله، «وإذا ركع فاركعوا»، ثم المقتدي لا يؤخر الركوع عن ركوع الإمام كذا هاهنا فرع على قولهما، فقال: لو كبر مقارنًا؛ قال أبو يوسف رحمه الله في رواية: تجزيه ويكره، وقال في رواية: لا يجزيه ذكر الرواية الأولى المعلى في (نوادره)، وقال محمد أجزأه وقد أساء ذكر في الكنايات، ودليل عدم الجواز ما ذكرنا أن الشرع علّق شروع المؤتم بتكبير يوجد منه بعد الأمام؛ ولأنه يأتي، فلا يصح قبل شروع الإمام، دليل الجواز أن المشاركة حصلت بالشروع مع الإمام فيصح الاقتداء لكن يكره لمخالفة السنّة فلا يُسلّم بأنه يأتي على سبيل التعقيب، بل على سبيل المشاركة كما في سائر الأركان وإذا لم يعلم المؤتم أنه كبّر قبل الإمام، أو بعده ذكر المسألة..... روايات وجعلها على ثلاثة أوجه: (إن) كان أكثر رأيه أنه كبّر قبل الإمام لا يجزيه، وإن كان أكثر رأيه أنه كبّر بعد الإمام يجزيه؛ لأن أكثر الرأي يقوم مقام العلم في الأحكام، وإن استوى الظنّان عنده يجزيه لأن أمره محمول على الصواب، وقد علم أنه في الاقتداء قصد الشروع في صلاة الإمام، فهو على الصواب حتى يظهر الخطأ.
وإذا نسي المصلي تكبيرة الافتتاح، وقرأ ثم تذكر ذلك فكذا للركوع ينوي أن يكون ذلك عن تكبيره لم يجزئه ذلك عن تكبيرة الافتتاح؛ لأن تكبيرة الافتتاح شرعت في حالة القيام وحالة الركوع ليست بحالة القيام مطلقًا، وكذلك هذا في التطوع إذا كبّر في حالة الركوع الافتتاح لا يجوز وإن كان التطوع يجوز قاعدًا من غير عذر.
والفرق: أن التكبير إنما شرع في قيام مطلق، والقيام المطلق إنما يكون باستواء الشق الأعلى والأسفل والشق الأعلى أصل؛ لأن الآدمي لا يعيش إلا به والشق الأسفل تبع؛ لأنه يعيش بدونه، فإذا كبّر في حالة الشروع، فقد كبّر في غير محلّه فلم يجزئه، فأما صلاة التطوع شرعت عند قيام النصف الأعلى، فإذا صلى قاعدًا فقد صلى، قال: قيام النصف الأعلى وهو الشرط، فأجزأه مسائل هذا الفصل تأتي في فصل صلاة المريض إن شاء الله تعالى.
يجب أن يعلم أن القراءة في الصلاة ركن، قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل: 20]، وقال الله تعالى: {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] أَمَرَ بالقراءة والأمر على الوجوب والمراد حالة الصلاة؛ لأن القراءة لا تجب خارج الصلاة، فتعين حالة الصلاة، وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بقراءة» وإذا أثبت أن القراءة ركن، فنقول: لابد من معرفة حدِّها ومحلّها وقدرها وصفتها.
أما معرفة حدها، فنقول: تصحيح الحروف أمر لابد منه، ولا تصير قراءة إلا بعد تصحيح الحروف، فإن صحح الحروف بلسانه ولم يسمع نفسه؛ حكي عن الكرخي أنه يجزيه، وبه كان يفتي الفقيه أبو بكر الأعمش؛ لأن القراءة فعل اللسان، وذلك بإقامة الحروف، لا بالسماع، فإن السماع فعل السامع، وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في (الأصل) حيث قال:
وإن كان وحده وكانت صلاة يجهر فيها بالقراءة قرأ في نفسه إن شاء، وإن جهر وأسمع نفسه داخلًا في القراءة، لكان إسماع نفسه مستفادًا من قوله قرأ في نفسه، فيكون قوله وأسمع نفسه تكرارًا، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني والشيخ الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه لا يجزيه ما لم يسمع نفسه، وبه أخذ المشايخ؛ لأن هذا الكلام ما هو مسموع مفهوم، ألا ترى أنّ ألحان الطيور لا تسمى كلامًا مع أنها مسموعة لأنها غير مفهومة، وألا ترى أن الكتاب لا يسمى كلامًا مع أنه بشرط وجود القراءة في نفسه.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الأصح أنه لا يجزيه ما لم يُسمع أذناه ويسمع من بقربه، قال بعض مشايخنا التسمية على الذبيحة، والاستثناء في اليمين والطلاق والعتاق والإيلاء والبيع فهو على هذا الاختلاف، وذكر القاضي الإمام علاء الدين في (شرح مختلفاته) أن الصحيح عندي أن في بعض يكتفي بسماعِهِ، وفي بعضها يشترط سماع غيره مثلًا في البيع ولو أدنى المشتري صماخه من فم البائع فسمع يكفي، ولو سمع البائع بنفسه، ولم يسمعه المشتري لا يكتفى، وفيما إذا حلف لا يكلم فلانًا، فناداه من بعيد بحيث لا يسمع لا يحنث، نصّ على هذا في كتاب الأيمان؛ لأن شرط الحنث وجود الكلام في محلها، فنقول في التطوع محل القراءة الركعات كلها.
وفي الفرائض محل القراءة الركعتان، حتى تفترض القراءة في الركعتين إن كانت الصلاة من ذوات المثنى يقرأ فيهما جميعًا، وإن كانت الصلاة من ذوات الأربع يقرأ في الركعتين الأوليين، وفي الركعتين الأخريين هو بالخيار إن شاء قرأ وإن شاء سبح، وإن شاء سكت.
وقال الشافعي: هي فرض في الأربع؛ لأن القراءة ركن، وكل ركعة تشتمل على أركان الصلاة ثم سائر..... كان كالركوع والسجود، والقيام فرض في كل ركعة، فكذا ركن القراءة، ولهذا كان ركنًا في التطوع في كل ركعة.
ولنا: أن قضية القياس الاكتفاء بالقراءة في ركعة واحدة، فإن الأمر بالفعل اقتضى التكرار لا أن الركعة الثانية مثل الأولى من كل وجه فأوجدنا القراءة فيها استدلالًا بالأولى، فأما الأخريات فهما زائدتان على الأوليين؛ لأن الصلاة في الأصل كانت ركعتين كما قالت عائشة رضي الله عنها: «كانت الصلاة في الأصل ركعتين فزيدت في الحضر وأُقِرّت في السفر»، فلم يجز قياس الآخرين على الأوليين، ولهذا لا يقاس الأخريان على الأوليين في حق وصف القراءة وهو الجهر والإخفاء، وكذا في حق القدر وهو السورة، فكذا في أصل القراءة، وإن ترك القراءة والتسبيح لم يكن عليه حرج، ولم تكن عليه سجدتا السهو إن كان ساهيًا، لكن القراءة أفضل، هذا هو الصحيح من الروايات، كذا ذكره القدوري في (شرحه).
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لو سبح في كل ركعة ثلاث تسبيحات أجزأه، وقراءة الفاتحة أفضل، فإن لم يقرأ ولم يسبح كان مسيئًا إن كان متعمدًا أو كان ناسيًا فعليه سجدتا السهو؛ لأن القيام في الأخراوين مقصود، فيكره إخلاؤه عن الذكر والقراءة جميعًا كما في الركوع أو السجود، وقد كره ذلك رسول الله عليه السلام لأصحابه حيث قال:؟ أي واقعين.....
والأوّل أصح؛ إذ الأصل في القيام القراءة، فإذا سقطت القراءة في الأخراوين بقي القيام المطلق، فيكون قيامه كقيام المؤتم بخلاف الركوع والسجود، ولأن القراءة فيهما ليست بمسموعة، وإنما المشروع فيهما الذكر، فلا يجوز أصلًا؟ عن الذكر، وعن أبي يوسف أنه قال: يسبح فيهما فلا يسكت، إلا أنه إن أراد أن يقرأ الفاتحة، فليقرأ على جهة البناء لا على جهة القراءة، وبه أخذ بعض المتأخرين من أصحابنا.
وفي الوتر محل القراءة الركعات كلّها حتى تفترض القراءة في الركعات كلها، وهذا على أصلهما لا يشكل؛ لأن الوتر على أصلهما سنّة، والقراءة في السنن في جميع الركعات واجبة، وإنما يشكل على أصل أبي حنيفة، فإنه يقول فرض عملًا لا اعتقادًا، ولزوم القراءة من أمارات النفل، والجواب عن هذا أن دليل الفرضية عنده قاصر؛ لأنه من؟....... بإيجاب القراءة في الكل احتياطًا، فإن القراءة في الكل في الفرائض لا يوجب الفساد، وترك القراءة في ركعة من النوافل يوجب الفساد.
وأما الكلام في قدر القراءة متنفلًا فرض القراءة عند أبي حنيفة يتأدى بأية واحدة، وإن كانت قصيرة وهو مذهب ابن عباس، فإنه قال: اقرأ ما معك من القرآن فليس شيء من القرآن بقليل، وقال أبو يوسف ومحمد؛ لا يتأدى إلا بأية طويلة كآية المداينة، وكآية الكرسي أو ثلاث آيات قصار مما يقولان أن ما دون ذلك لا يقصد بالقراءة عرفًا، فلا يتناوله مطلق اسم القراءة، وكان المعنى فيه أنه لا يتم به الإعجاز.
وأبو حنيفة رحمه الله يقول: إن المأمور به قراءة ما تيسر عليه من القرآن والآية القصيرة من القرآن حقيقةً وحكمًا، أما حقيقةً لا يشكل، وأما حكمًا، فإنها تحرم قراءتها على الجنب والحائض، أما ما دون الآية ليس لها حكم القرآن، ولهذا لا يحرم على الجنب والحائض قراءته، هكذا ذكر الطحاوي رحمه الله.
وهما يقولان: الأمر المطلق ينصرف إلى ما يسمى قرآنًا عرفًا وقوله: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] وقوله: {لَمْ يَلِدْ} [الصمد: 3] لا يسمى قرآنًا عرفًا، لا يقصد بالقراءة عرفًا للأمر المطلق لا ينصرف إليهما على قول أبي حنيفة إذا قرأ آية قصيرة هي كلمات أو كلمتين نحو قوله فقيل: كيف قدرتم..... ما أشبه ذلك يجوز بلا خلاف بين المشايخ، كذا ذكر بعض المشايخ في (شرحه)، وسيأتي بعد هذا بخلافه.
وأما إذا قرأ آية قصيرة هي كلمة واحدة نحو قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] أو آية قصيرة هي حرف واحد نحو قوله ق. س. ز، فإن هذه آيات عند بعض القُرّاء؟ اختلف المشايخ فيه، وإذا قرأ آية طويلة في ركعتين نحو آية الكرسي وآية المداينة قرأها في ركعتين والبعض في ركعة والبعض في ركعة، اختلف المشايخ فيه على قول أبي حنيفة رحمه الله، بعضهم قالوا: لا يجوز؛ لأنه ما قرأ آية تامة في كل ركعة، وعامتهم على أنه يجوز فإن بعض هذه الآيات تزيد على ثلاث آيات قصار أو تقدمها، فلا تكون قراءته أقل من قراءة ثلاث آيات قصار.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف إذا كان الرجل لا يحسن إلا هذه الآية وهو قوله تعالى: {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} [الفاتحة] فله (أن) يقرأها مرّة واحدة في الركعة، ولا يكررها في الركعة وتجوز صلاته، وهو قول أبي حنيفة، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أدنى ما يجوز من القراءة في الصلاة في؟...... سورة في القرآن مثل {إِنَّا أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر] وإن قرأ بآيتين طويلتين أو بآية طويلة يكره مثل أقصر سورة في القرآن وإن لم تكن تلك الآيتين أو تلك الآية تشمل أقصر سورة في القرآن لا يجزيه وقراءة الفاتحة على التيقن ليس بفرض عندنا ولكنها وجب حتى يكره تركها، وقال الشافعي رحمه الله: فرض، حتى لو ترك حرفًا منها لم تصح، واستدل بقوله عليه السلام «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ولمواظبة النبي عليه السلام على قراءتها في كل صلاة.
ولنا: قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل: 20] فهذا يقتضي جواز الصلاة بقراءة القرآن مطلقًا، والعمل بالحديث الواحد إنما يجب على وجه لا يكون نسخًا لما في الكتاب، وذلك بأن يثبت في الحديث وجوب الفاتحة حتى يكره ترك قراءتها، إما أن تثبت الركنية فلا والله أعلم.
في صفة القراءة، فنقول لا يخلو إما أن يكون إمامًا أو منفردًا، والصلاة لا تخلو إما أن تكون مكتوبة أو نافلة.
أما إذا كانت الصلاة مكتوبة، فإن كان يجهر في موضع الجهر ويسرّ في موضع السر.
وموضع الجهر الفجر والمغرب والعشاء والجمعة والعيدين.
وموضع الإسرار الظهر والعصر؛ وهذا لأن الجهر والإسرار في حق الأئمة في موضعها...... ظاهرتان يقينًا من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.
وإن جهر فيما يخافت أو خافَتَ فيما يجهر فقد أساء؛ لأنه خالف السنّة، وأما إذا كان منفردًا؛ إن كانت صلاة يُخافَتْ فيها فخافِت، وإن جهر فيها يكون مسيئًا، هكذا ذكر الحسن بن زياد في كتاب صلاته، وإن كانت صلاة يجهر فيها فهو بالخيار إن شاء جهر وأسمع نفسه، وإن شاء أسرّ فقرأ في نفسه، أمّا له أن يجهر؛ لأنه سبقه الإمام وله أن يخافت؛ لأن الإمام بالجهر يُسمع غيره، والمنفرد لا يسمع غيره، هكذا ذكر في عامة الروايات، وذكر في رواية أبي حفص أن الجهر أفضل، والأصل فيه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من صلى بنية الجماعة صلت بصلاته صفوف الملائكة» والجهر سنّة الصلاة بجماعة فيما يجهر، فإن قيل..... الجهر جار الأئمة لحاجتهم إلى سماع غيرهم والمنفرد لا يحتاج إلى إسماع غيره، فلا يشرع الجهر في حقه، قبل له المنفرد الإمام في نفسه فيجهر لإسماع نفسه.
فإن قيل: إذا اعتبر إمامًا في نفسه لماذا جازت له المخافتة في حقه؟ قيل: له، لأن القراءة دون غيره، فكان تخافته كجهره.
وأما النوافل لا تخلو إما أن تكون نوافل النهار أو نوافل الليل، فإن كانت نوافل النهار يكره الجهر فيها؛ لأنها تابعة للفرائض، والأصل فيه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام قال: «صلاة النهار عجماء».
وأما نوافل الليل لا بأس بالجهر فيها؛ لأنه مشروع في فرائض الليلة لكن الأفضل أن يكون بين الجهر والإخفاء، لما روي عن النبي عليه السلام أنه خرج ذات ليلة، فمرّ بأبي بكر رضي الله عنه، وهو يُسرّ بالقراءة جزءًا، ومرّ بعمر وهو يجهر بالقراءة جزءًا، ومرّ ببلال رضي الله عنه، وهو يتنقل من سورة إلى سورة، فلما أصبح ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلّم ذلك لهم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: كنت أسمع من أناجيه، وقال عمر رضي الله عنه كنت أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، وقال بلال رضي الله عنه: كنت أنتقل من بستان إلى بستان، فقال عليه السلام لأبي بكر: ارفع من صوتك قليلًا، وقال لعمر اخفض من صوتك قليلًا، وقال لبلال: إذا افتتحت سورة، فلا تنتقل إلى غيرها حتى تفرغ عنها.
وأما المخافتة في بسم الله الرحمن الرحيم في أوائل السورة، فهو عند أصحابنا رحمهم الله وهو قول الثوري، رُوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم».
بقي الكلام بعد هذا في القدر المسنون، قال محمد رحمه الله في (الكتاب): القراءة في الصلوات في السفر سواء، تقرأ بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت، وفي الحضر تقرأ في الفجر في الركعتين بأربعين أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب، وكذلك في الظهر والعصر والعشاء، سواء القراءة فيهما على النصف من القراءة في الظهر وفي المغرب يقرأ بالقصار..... هذا هو المذكور في ظاهر الرواية؛ وفي روايات الحسن، ويقرأ في الظهر في الركعتين مثل قراءته في الركعة الأولى من الفجر.
اعلم بأن ما كان من باب المقادير لا يثبت قياسًا بل يتبع فيه للنص، والنص قد يرد معقول المعنى والنص الوارد في تقدير القراءة في الصلوات كلها معقول المعنى، على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
والحال حالتان، حالة السفر وحالة الحضر.
وقال: السفر نوعان حالة الضرورة، وهو أن يعجل السير أو يكون خائفًا من جهة العدو، وحالة الاختيار وهو أن يكونوا آمنين في السفر، ولا يعجل السير.
وحالة الحضر أيضًا نوعان؛ حالة الاختيار، وهو أن يكون في الوقت سعة، وحالة الضرورة وهو أن يخاف فوت الوقت، إذا عرفنا هذا، فنقول.
بدأ محمد رحمه الله في (الكتاب) ببيان حالة السفر فقال: يقرأ في السفر بفاتحة الكتاب وأي سورة شئت؛ لأن السفر لمّا أوجب قصر الصلاة تخفيفًا أوجب قصر القراءة من طريق الأولى، وقد صح أنّ النبي عليه السلام «قرأ في صلاة الفجر في السفر المعوذتين»، وهذا في حالة الضرورة، أما في حال الاختيار في السفر يقرأ في الفجر نحو سورة البروج وانشقت، ليحصل الجمع بين مراعاة السنّة في القراءة وبين التخفيف، وفي الظهر مثل ذلك، وفي العشاء والعصر دون ذلك، وفي المغرب يقرأ بالقصار جدًا، وأما في حالة الحضر.
فإن كانت الحالة حالة الضرورة بأن كان يخاف خروج الوقت يقرأ مقدار ما لا تفوته وقت الصلاة.
وإن كانت الحالة حالة الاختيار بأن كان في الوقت سعة، ذكر في هذا (الكتاب) أنه يقرأ في الفجر في الركعتين بأربعين أو خمسين أو ستين آية سوى فاتحة الكتاب، ولم يرد بقوله بأربعين أو خمسين أو أربعون أو خمسون في كل ركعة، بل أراد به أربعون فيهما في كل ركعة عشرون، وذكر في (الأصل): أنه يقرأ بأربعين آية سوى فاتحة الكتاب.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقرأ ما بين الستين إلى مائة وفي غير رواية (الأصول) عن أبي حنيفة أنه يقرأ في الركعة الأولى {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} [السجدة: 1، 2]، وفي الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان: 1] والآثار قد اختلفت عن رسول الله عليه السلام، فقد روى أبو برزة الأسلمي أن رسول الله عليه السلام «كان يقرأ في الفجر من ستين آية إلى مائة آية»، وعن بعض الصحابة أنه قال: تلقيّت من رسول الله عليه السلام سورة ق والنازعات، لكثرة ما يقرأها في صلاة الفجر وعنه عليه السلام أنه قرأ في الفجر، {إِذَا الشَّمْسُ كُوّرَتْ} [التكوير: 1] و{إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]. وروي عنه عليه السلام أنه قرأ في الفجر سورة المزمّل والمدثر، وعنه عليه السلام أنه قرأ في الركعة الأولى {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} [السجدة: 1، 2] وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} [الإنسان: 1]، وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قرأ في الركعة الأولى فاتحة البقرة، وفي الركعة الثانية خاتمتها. وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ في الركعة الأولى سورة النمل، وفي الركعة الثانية سورة بني إسرائيل ولما اختلفت الأخبار في مقادير القراءة، اختلفت مقادير محمد رحمه الله، وباختلاف الآثار تدل على أن في الأمر سعة.
والمشايخ وفقوا بين الروايات فمنهم من قال الأربعون للكسالى، وما فوق ذلك إلى الستين للوسط من الناس، وما بين الستين إلى المائة للذين يجهدون، ويستأنسون بالقراءة ولا يملون.
ومنهم من وفق من وجه آخر، فقال: المراد من الأربعين إذا كان الآي طوالًا، كسورة الملك، فإنها مع طولها ثلاثون آية، والمراد من الخمسين والستين إذا كانت الآي متوسطة بين الطول والقصر أو مختلطة فيها القصار والطوال...... فما بين الستين إلى المائة إذا كانت الآية قصار، كسورة المزمل والمدثر وسورة الرحمن.
ومنهم من وفق وجه آخر فقال: إن كان الوقت وقت كدَ وكسب نحو الصيف يقرأ أربعين، فإن كان وقت فراغ كالشتاء يقرأ ما بين الستين إلى مئة، وإن كان فيما بينهما يقرأ خمسين إلى ستين، ومنهم من يقول إذا كانت الليالي قصارًا يقرأ أربعين، وإن كانت طوالًا يقرأ (ما) بين الستين إلى مئة، وإذا كان..... ذلك يقرأ خمسين أو ستين هذا في صلاة الفجر.
وذكر في (الأصل): يقرأ في الظهر بمثل الفجر أو دونه وكل ذلك، منقول عن النبي عليه السلام روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي عليه السلام..... الظهر {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} [السجدة: 1، 2]، و...... أنه قرأ في الفجر أيضًا {الم تَنزِيلُ الْكِتَبِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِ الْعَلَمِينَ} [السجدة: 1، 2]، فكان الظهر مثل الفجر في القراءة؛ ولأن وقت الفجر ووقت الظهر مُتَّسِع، لا يخاف بالتأخير.... يستحب تطويل القراءة...، وإحراز الأربع قبل الظهر، ويقرأ دون الفجر أيضًا، لما روي عن جماعة من أصحاب رسول الله عليه السلام أنهم قالوا: أحرزوا قراءة رسول الله عليه السلام في..... ثلاثين إلى أربعين، و.... الظهر وقت اشتغال بالكسب، فتطويل القراءة يؤدي إلى السآمة، بخلاف وقت الفجر؛ لأنه وقت فراغ عن الكسب.
وأما في صلاة العصر يقرأ في الركعتين بعشرين آية سوى فاتحة الكتاب، لحديث جابر بن سمرة «أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة العصر في الأولى سورة البروج وفي الثانية والسماء والطارق»، وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، قالوا: أحرزوا ما قرأ رسول الله عليه السلام في العصر، فوجدناه على النصف من قراءة في الظهر؛ وهذا لأن المستحب في العصر هو التأخير..... للناظر إذ النفل بعد العصر مكروه، فإذا أخّر العصر... بأنه يطول القراءة فيها... أن يتصل بالوقت المكروه، وأما في العشاء يقرأ بمثل ما يقرأ في العصر، لحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن قومه شكوه إلى رسول الله عليه السلام عن تطويل قراءته في العشاء، فقال النبي عليه السلام: «أفتّان أنت يا معاذ، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها»؛ ولأن المستحب هو تأخير العشاء إلى ثلث الليل، فلو أطال القراءة يؤدي إلى الملالة.
وأما في المغرب يقرأ في كل ركعة سورة قصيرة، فإن النبي عليه السلام قرأ فيهما بالمعوذتين، وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أن اقرأ في الفجر والظهر بطوال المفصّل، والعشاء بأواسط المفصّل، وفي المغرب بقصار المفصّل؛ ولأن مبنى المغرب على التعجيل، وعلى أن لا يحل تأخيرها كذا جاءت الآثار، قال عليه السلام: «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم»، فيجب تخفيف القراءة ليحصل التعجيل وهذا عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يقرأ في المغرب مثل سورة {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] و{عَمَّ يَتَسَاءلُونَ} [النبأ: 1]، وروي في ذلك خبر أن النبي عليه السلام قرأ في المغرب والطور، وتأويل الحديث عندنا: أنه افتتحها إلا أنه ضمها.
وأما الوتر فما قرأ فيه فهو حسن، بلغنا عن رسول الله عليه السلام أنه قرأ في الوتر في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] وفي الثانية ب {قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثالثة ب {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وروى أنه كان يوتر بتسع سور من المفصّل في الركعة الأولى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} [القدر: 1] و{إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1] و{أَلْهَكُمُ التَّكَّاثُرُ} [التكاثر: 1]، وفي الركعة الثانية والعصر وإنا أعطيناك وإذا جاء نصر الله، وفي الركعة الثالثة ب {قُلْ يأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 109] وتبّت و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، والأفضل أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة تامة.
ولو قرأ بعض السورة في ركعة والبعض في ركعة أخرى، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا يكره؛ لأنه خلاف ما جاء به الأثر، وذكر عيسى بن أبان رحمه الله في كتاب الحج أنه لا يكره، وروي ذلك عن أصحابنا رحمهم الله، وروى حديثًا بإسناد له عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه قرأ في صلاة الفجر سورة بني إسرائيل، فلما بلغ أنهى التلاوة ركع وسجد، ثم قام إلى الثانية وختم السورة.
ولو قرأ في الركعتين من وسط (سورة) أو من آخر سورة، فلا بأس به، ولو قرأ في الركعة الأولى من وسط سورة أو من آخر سورة وقرأ في الركعة الأخرى من وسط سورة أخرى أو من آخر سورة، فلا ينبغي أن يفعل ذلك على ما هو ظاهر الرواية، ولكن لو فعل لا بأس به، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله ذكره شيخ الإسلام رحمه الله في (شرحه) في نسخة شمس الأئمة رحمه الله قال بعضهم: يكره وقال بعضهم: لا يكره.
وفي (الفتاوى): سئل عن القراءة في الركعتين من آخر السورة أفضل أم قراءة سورة بتمامها؟ قال: إن كان آخر السورة أكثر آية من سورة التي أراد قراءتها كان قراءة آخر السورة أفضل، وإن كانت السورة أكثر فهي أفضل، ولكن ينبغي أن يقرأ في الركعتين آخر سورة واحدة، ولا ينبغي أن يقرأ في كل ركعة آخر سورة على حدة، قال ذلك مكروه عند أكثرهم، هكذا ذكر في (فتاوى أبي الليث).
وإذا انتقل من آية إلى آية أخرى من سورة أخرى أو من هذه السورة وبينهما آيات يكره، فقد صح أن رسول الله عليه السلام نهى بلالًا عن ذلك حين سمعه ينتقل من سورة إلى سورة، فقال: «اقرأ كل سورة على نحوها»، وكذلك يكره اختيار قراءة أواخر السور دون أن يقرأ السّور على الولاء في الصلاة وخارج الصلاة؛ لأنه يخالف فعل السلف، وكذلك إذا جمع بين سورتين بينهما سور أو سورة واحدة في ركعة واحدة، فإنه يكره.
وأما في الركعتين إن كان بينهما سور لا يكره، وإن كان بينهما سورة واحدة هل يكره؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم يكره، وقال بعضهم إن كانت السورة طويلة لا يكره وقال بعضهم لا يكره أصلًا.
وإذا قرأ في ركعة سورة وقرأ في الركعة الأخرى سورة فوق تلك السورة أو قرأ في ركعة سورة ثم قرأ في تلك الركعة سورة أخرى فوق تلك السورة يكره، وإذا قرأ في الركعة الأولى {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} [الناس: 1]، ينبغي أن يقرأ في الركعة الثانية {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} [الناس: 1] أيضًا؛ لأن قراءة سورة واحدة في الركعتين غير مكروهة، وإذا قرأ في الركعة آية، وقرأ في الركعة الأخرى آية فوق تلك الآية أو قرأ في ركعة آية، ثم قرأ بعد هذا في تلك الركعة آية أخرى فوق تلك الآية، فهو على ما ذكرنا في السور.
وإذا جمع بين آيتين بينهما آيات أو آية واحدة في ركعة واحدة أو في ركعتين، فهو على ما ذكرنا في السور أيضًا.
ولو قرأ في ركعة سورة، وقرأ في الركعة الثانية سورة أطول منها، إن كان التفاوت قليلًا لا يكره، فقد صح أن رسول الله عليه السلام: كان يقرأ في الجمعة في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وفي الركعة الثانية {هَلْ أَتَاكَ}، وهل أتاك أطول من سبح اسم ربك بقليل، فإن كان التفاوت كبيرًا يكره. وهذا كله في الفرائض فأما في السنن فلا يكره، هكذا ذكر صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله في زلة القاري.
وإذا قرأ الفاتحة وحدها في الصلاة، أو قرأ الفاتحة ومعها آية أو آيتين، فذلك مكروه.
ذكر في (شرح الطحاوي): المقتدي إذا قرأ خلف الإمام في صلاة لا يجهر فيها اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: لا يكره، وإليه مال الشيخ الإمام أبو حفص، وبعض مشايخنا ذكروا في شرح كتاب الصلاة أن على قول محمد: لا يكره، وعلى قولهما: يكره، ولا بأس بقراءة القرآن على التأليف، فقد صح أن الصحابة فعلوا ذلك، ومشايخنا استحسنوا قراءة المفصل ليسمع القوم ويتعلموا.
وإذا كبّر للركوع في الصلاة ثم بدا له أن يزيد في القراءة لا بأس به ما لم يركع، ويكره أن يتخذ شيئًا من القرآن مؤقتًا لشيء من الصلوات، يعني لا يقرأ غيرها في تلك الصلوات؛ لأن في هجرها سوءا وإذا فعل ذلك في بعض الأوقات لا بأس به، وفي بعض شروح (الجامع الصغير) أن هذه الكراهة فيما إذا اعتقد أن الصلاة لا تجوز بدونها، إلا أن قراءة هذه السورة أيسر عليه لا بأس به، وإذا كرر آية واحدة مرارًا، فإن كان ذلك في التطوع الذي يصلي وحده، فكذلك غير مكروه فقد ثبت عندنا عن جماعة من السلف أنهم كانوا يُحيون ليلتهم بآية العذاب أو آية الرحمة أو آية الرجاء أو آية الخوف، وإن كان ذلك في صلاة الفريضة فهو مكروه؛ لأنه لم ينقل إلينا عن واحد من السلف أنه فعل ذلك. وهذا كلّه في حالة الاختيار وأما في حالة العدو والنسيان فلا بأس به والله أعلم.

.نوع آخر في معرفة طوال المفصّل وأوساطه وقصاره:

فنقول طوال المفصّل من سورة الحجرات إلى سورة والسماء ذات البروج، والأوساط من سورة والسماء ذات البروج إلى سورة لم يكن، والقصار من سورة لم يكن إلى الآخر.

.نوع آخر في إطالة القراءة في الركعة الأولى على الركعة الثانية:

قال أبو حنيفة رحمه الله في (الجامع الصغير): يطول الركعة الأولى من الفجر على الثانية، وركعتا الظهر سواء وقال محمد: أحب أن يطول الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها، يجب أن يعلم بأن إطالة القراءة في الركعة الأولى على الثانية في الفجر مسنونة بالإجماع، ليدرك الناس ركعتي الفجر بجماعة، وفي سائر الصلوات كذلك عند محمد رحمه الله وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إطالة القراءة في الركعة الأولى في سائر الصلوات غير مسنونة.
احتج محمد رحمه الله بحديث أبي قتادة في غير هذه المسألة وحين وصف أبو حميد الساعدي صلاة رسول الله عليه السلام كان من جملة ما وصف «أن النبي عليه السلام كان يطول الركعة الأولى في كل صلاة»؛ وهذا لأن التفضيل في صلاة الفجر باعتبار أنه وقت غفلة، فتفضيل الأولى ليدرك الناس الجماعة، وهذا المعنى موجود في سائر الأوقات، إلا أن الغفلة في وقت الفجر بسبب النوم، وفي سائر الأوقات باشتغال الناس بالكسب، ومما احتجا بما روي أن النبي عليه السلام قرأ في صلاة الجمعة في الركعة الأولى فاتحة الكتاب وسورة الجمعة وفي الثانية المنافقون، وقرأ مرّة أُخرى في صلاة الجمعة في الركعة الأولى {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وفي الثانية {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ} [الغاشية: 1]، وهما متقاربان أو الثانية أطول من الأولى؛ ولأن الثانية تكرار الأولى، فتكون مثل الأولى، ألا ترى أنه يتكرر بصيغته، وهو الجهر والسورة فكذلك يتكرر بمقداره.
والقياس في الفجر هكذا، وإنما تركنا القياس بعذر؛ لأنه وقت نوم وغفلة بخلاف سائر الأوقات، فإنها وقت علم ويقظة، فلو تغافلوا.... بسبب اشتغالهم بأمور الدنيا، وذلك يضاف إلى تقصيرهم واختيارهم، والنوم لا يكون باختيارهم، فالتفضيل هناك لا يكون تفضيلًا هاهنا، ثم يعتبر التطويل من حيث الآيات، إذا كان بين ما يقرأ في الأولى، وبينما يقرأ في الثانية مقارنة من حيث الآي، أما إذا كان بين الآيات تفاوت من حيث الطول والقصر تعتبر الكلمات والحروف.
بعد هذا اختلف المشايخ، قال بعضهم: ينبغي أن يكون التفاوت فيهما بقدر الثلث والثلثين، الثلثان في الأولى والثلث في الثانية، وفي (شرح الطحاوي) قال ينبغي أن يقرأ في الأولى ثلاثين آية وفي الثانية بقدر عشر آيات، أو عشرين، وهذا هو بيان الأولى، وأما بيان الحكم فنقول: التفاوت وإن كان فاحشًا بأن قرأ بأربعين آية وفي الثانية بثلاث آيات لا بأس به، به ورد الأثر.
وأما إطالة الركعة الثانية على الركعة الأولى فمكروه بالإجماع، كذا ذكر صدر الإسلام وفجر الإسلام رحمهما الله في (شرح الجامع الصغير) قالا: وهذا إذا كان التفاوت كبير بثلاث آيات فما فوقها، وأما إذا كان قليلًا نحو آية أو آيتين لا يكره والله أعلم.

.نوع آخر في القراءة بالفارسية:

وإذا قرأ في الصلاة بالفارسية جاز قراءته سواء كان يحسن العربية أو لا يحسن، غير أنه إن كان يحسن العربية يكره، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية لا تجوز قراءته، وإن كان لا يحسن العربية يجوز.
فالعبرة عند أبي حنيفة للمعنى وعندهما للفظ والمعنى إذا قدر عليهما، وذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة شمس الأئمة السرخسي في (شرح الجامع الصغير) رجوع أبي حنيفة إلى قولهما رحمهما الله، وقال الشافعي: لا تجوز قراءته على كل حال، وأجمعوا على أنه لا تفسد صلاته بالقراءة بالفارسية إنما الخلاف في الجواز، احتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] الله تعالى أخبر أن القرآن عربي، والفارسي غير العربي، فلا يكون قرآنًا، فلا تجوز صلاته و؟.... القرآن اسم للمعجز، والإعجاز في النظم والمعنى، فإذا قدر عليهما لا يتأدى الفرض إلا بهما، وإذا عجز عن التعلم أتى بما قدر عليه كمن عجز عن الركوع والسجود، فإنه يصلي بالإيماء.
وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي أن الفرس كتبوا إلى سليمان أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكتبها إليهم، وكانوا يقرؤون في الصلاة حتى لانت ألسنتهم بالعربية، والدليل عليه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]، ولا شك أن في زبر الأوليين هو المعنى دون اللفظ.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: إن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوز قراء القرآن بالفارسية إذا قرأ آية قصيرة يعني قرأ ترجمة آية قصيرة؛ لأن الصلاة عنده تجوز بأدنى الآيات، ثم ذكر أبو سعيد البردعي أن أبا حنيفة رحمه الله إنما جوّز القراءة بالفارسية خاصة، دون غيرها من الألسنة، أَمَرَ به بالعربية على ما جاء في الحديث «لسان أهل الجنة العربية والفارسية الدرية»، والأصح أن الاختلاف في جميع الألسنة واللغات، نحو التركية والهندية والرومية خلاف واحد، ثم إنما يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله إذا كان مقطوع القول بأن ما أتى به هو المعنى، ويكون على نظم القرآن نحو قوله تعالى {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] ستراي وي دونغ ونحو قوله تعالى {فَجَمَعْنَهُمْ جَمْعًا} [الكهف: 99]..... وقال تعالى: {مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124]، فأما إذا لم يكن على نظم القرآن لا يجوز.
قال الإمام الزاهد الصفار رحمه الله يجوز كيف ما كان ذكر في باب السهو، قال بعضهم؛ إنما يجوز إذا كان ذلك..... كسورة الإخلاص، فأما إذا كان من القصص، فإنه لا يجوز، كقوله تعالى: {اقْتُلُواْ يُوسُفَ} [يوسف: 9] فقال بكشند يوسف لا، فإنه لا يجوز وتفسد صلاته، والصحيح أنه يجوز في الكل، والله أعلم.
ولو اعتاد القراءة بالفارسية أو أراد أن يكتب المصحف بالفارسية منع من ذلك أشدّ المنع، وإن فعل ذلك في آية أو آيتين لا يمنع من ذلك، ذكره شمس الأئمة السرخسي في (شرح الجامع الصغير)، ولو كتب القرآن وكتب تفسير كل حرف وترجمته تحته؛ روي عن الفقيه أبي حفص رحمه الله لا بأس بهذا في ديارنا؛ لأن معانِ القرآن وفوائدها لا يضبطها العوام إلا بهذا، وإنما يكره هذا في ديارهم؛ لأن القرآن نزل بلغتنا.
إذا قرأ الرجل في صلاته شيئًا من التوراة أو الإنجيل أو الزبور لم تجز صلاته، سواء كان يحسن القرآن أو لا يحسن، علل فقال: لأن هذا كلام وليس بقرآن ولا تسبيح، والذكر الذي يجري في الصلاة إما قرآن أو تسبيح وما يجري مجراه، قال عليه السلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتهليل وقراءة القرآن» قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني حاكيًا عن أستاذه القاضي الإمام هذا رحمهما الله، هذا التعليل من محمد يشير إلى أنه لا بأس للجنب أن يقرأ شيئًا من هذه الكتب؛ لأن محمدًا رحمه الله حطه درجة عن درجة التسبيح حيث قال: لأن هذا ليس بقرآن ولا تسبيح، ثم لا بأس للجنب أن يسبح؛ فلأن لا يكون له بقراءة هذه الكتب بأسًا من (باب) أولى.
وفي (النوادر): ويكره للجنب قراءة التوراة.
ووجه ذلك: أنه منزل كالقرآن فيكره للجنب قراءته كالقرآن، وعن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن هذا فقال، إن عرف أنه منزل لم يقرأه الجنب، قال شمس الأئمة هذا رحمه الله، ونحن لا نعلم أنها كيف أنزل، لأنهم حرفوها وغيروها، فينبغي أن لا ينهى عن قراءتها، ثم قال رحمه الله: وجدت في بعض النسخ أنه إن كان ما قرأ من التوراة وأشباهها مؤديًا للمعنى الذي في القرآن يجوز في قول أبي حنيفة.
وإن لم يكن مؤديًا المعنى الذي في القرآن لا شك أنه لا يجزيه عن صلاته، ولكن هل تفسد صلاته؟ ينظر: إن علم أنه هو التوراة الذي أنزل على موسى لا تفسد صلاته؛ لأنه بمنزلة التسبيح إلا أن يكون ذكر قصة، فحينئذٍ تفسد صلاته؛ لأنه كلام الناس، وكثير من مشايخنا اختاروا ما حكاه شمس الأئمة الحلواني عن بعض النسخ أن ما قرأ في صلاته من التوراة: إن كان موافقًا لمعنى القرآن جازت صلاته في قول أبي حنيفة؛ لأن العبرة عنده للمعنى، والله أعلم.
من هذا الفصل في المتفرقات:
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى: في رجل قرأ في الأوليين من العشاء سورة سورة، ولم يقرأ بفاتحة الكتاب في الأخريين، يريد بقوله: لم يعد فاتحة الكتاب لم يقضها، وإن قرأ في الأولين بفاتحة الكتاب، ولم يقرأ بالسورة، قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة وجهر، هذا هو لفظ (الجامع الصغير).
واختلفت عبارة المشايخ في الفرق بعضهم قالوا: القراءة واجبة في الأوليين، فيحتاج إلى بيان كيفيتها، ينظر أنه هل يمكن القضاء بمثلها في الأخريين، فنقول: القراءة وجبت في الأوليين بصفة أن يفتتح بفاتحة، ويترتب عليها السورة، فإذا ترك الفاتحة في الأوليين، لا يمكن أن يقضيها كذلك.... الفاتحة في الركعتين الأخراوين مرّة واحدة، وإذا ترك السورة في الأوليين أمكنه القضاء؛ لأن الفاتحة مشروعة في الأخريين، فيقرأها، ويبني السورة عليها كما في الركعة الأولى، فيمكنه القضاء بالمثل، وبعضهم قالوا: الأخريين محل الفاتحة، فلم يتسع للقضاء، وليستا بمحل السورة فوسعتا للقضاء.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا يقضي السورة؛ لأنه عجز عن القضاء، لأن قراءة السورة غير مشروعة في الأخراوين، ألا ترى أنه لو ترك الفاتحة في الأوليين لا يقضيها في الأخريين، وإنما لا يقضيها لعجزه عن القضاء كذا هذا، فإن أراد أن يقرأ السورة وحدها في الأخريين، ويترك الفاتحة ويقول: كنت بالخيار قبل هذا في قراءة الفاتحة في الأخريين بين أن أقرأها، وبين أن أدع قراءتها، فأمضي على خياري، فلا أقرأها هل له ذلك لم يذكر هذا في الكتاب، ومشايخنا فيه مختلفون منهم من قال: له أن لا يقرأ الفاتحة؛ لأنها لم تكتب عليه في الأخريين، وهو الأشبه بمذهب أصحابنا رحمهم الله، ومنهم من قال ليس له أن يترك الفاتحة هنا لتقع السورة بعد الفاتحة كما هو سنة القراءة في الصلاة، ثم قول محمد في (الجامع الصغير).
وإن قرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب ولم يقرأ بالسورة قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة مقتضى وجوب قضاء السورة وذكر هذه المسألة في (الأصل): وقال: إذا ترك السورة في الأوليين فأحب إلي إلى أن يقرأها في الأخريين نص على أن قضاء السورة في الأخريين بطريق الاستحباب، فصار في المسألة روايتان على رواية (الأصل) يستحب قضاء السورة، وعلى رواية (الجامع الصغير) يجب قضاء السورة، وقول محمد في (الجامع الصغير) قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب والسورة وجَهَرَ يحتمل أنه أراد به الجهر بالسورة والفاتحة جميعًا، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله حتى لا تؤدى بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة، فإن ذلك غير مشروع... الفاتحة تبعًا للسورة؛ لأنها سنّة والسورة واجبة، لكونها قضاء، فيكون على حسب الثواب واجبة والسنّة تبع الواجب، ومن حق السورة الجهر، فكذا ما هو تبع لها، وإلى هذا ذهب بعض مشايخنا رحمهم الله، ويحتمل أنه أراد بالجهر بالسورة دون الفاتحة، وإليه ذهب بعض المشايخ، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضًا؛ لأن الفاتحة أداء والسورة قضاء، والأداء يكون على حسب محله، والقضاء على حسب الفوائت وقد فات مع الجهر، فيقضي مع الجهر. ويلتحق بالركعة الأولى، فلا يؤدي إلى الجمع بين الجهر والمخافتة في ركعة واحدة تقديرًا، ومنهم من قال، فإنه يخافت بهما، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضًا؛ لأن الفاتحة تتقدم على السورة، فكانت أصلًا، والسورة تبع لها ومن حق الفاتحة في هذه الركعة المخافتة، فيخافت بالسورة تبعًا لها.
ومما يتصل بهذه المسألة:
إذا نسي فاتحة الكتاب في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية، وقرأ السورة ثم تذكر فإنه يبدأ فيقرأ قرأ فاتحة الكتاب ثم يقرأ السورة، هكذا ذكر في (الأصل): وروى الحسن في (الأصل): وروى الحسن عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يركع ولا يقرأ الفاتحة؛ لأن فيه نقص الفرض (لا) يؤد التمام لمكان الواجب؛ لأن قراءة السورة وقعت فرضًا وقراءة الفاتحة واجبة.
وجه ظاهر الرواية: أن باعتبار الحال، هذا نقص الفريضة لأجل الفرض، فإنه إذا قرأ الفاتحة تصير جميع القراءة فرضًا، وصار كما لو تذكر السورة في الركوع، فإنه يرجع، إلا أنّ أبا يوسف ربما يمنع تلك المسألة على قياس هذه المسألة، والله أعلم.
ولو لم يقرأ في الركعتين الأوليين أصلًا وقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب خاصة، فإن صلاته جائزة وفوت هذا عن الأوليين، ولو قرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب خاصة، أليس أنه تجوز صلاته كذا هنا، إلا أن يزيد بقراءة الفاتحة في الأخريين... على ما جرى من السنّة، فحينئذٍ لا تجز صلاته، ولا ينوب هذا عن القراءة.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في رجل فات العشاء فصلاها بعدما طلعت الشمس إن لم فيها جهر بالقراءة؛ لأن القضاء بدأ على حسب الأداء، ويدل عليه حديث ليلة التعريس، فإن النبي عليه السلام قضى الوتر والفجر ضحى ليلة التعريس على حسب الفوائت من الأذان والإقامة والجهر، وإن كان صلى وحده اتفق المشايخ أنه مُخيّر بين المخافتة والجهر، والجهر أفضل إن كان في الوقت، وإن كان بعد ذهاب الوقت اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: يخافت حتمًا، وبعضهم قالوا: يخيّر والجهر أفضل كما في الوقت، وأصل هذا إن الجهر بالقراءة من شعار الدين، وإنه شرع واجبًا في الجماعات، لما أنّ مبنى الجماعة على الإشهاد، أما لا يجب على التفرّد، وكذلك قال في (الأصل): إذا جهر المنفرد فيما يخافت أو خافت فيما يجهر، لا يلزمه سجود السهو، وإذا لم يجب الجهر على المنفرد يخير في الوقت بالإجماع والجهر أفضل؛ لأنه مأمور بأداء الصلاة بالجماعة، ومن سنّتها الجهر، فإن عجز عن الجماعة لم يعجز عن الجهر، فأما بعد خروج الوقت؛ منهم من قال مخافتة؛ لأنه لا يجب عليه أداء الصلاة بالجماعة بعد خروج الوقت؛ إذ لا يجد بجماعة بعد خروج الوقت، وإذا لم يجب أداء الصلاة بالجماعة لا تنوب إلى إقامة سنّة الجماعة، وهي الجهر، ومنهم من قال: كلاهما سواء، والجهر أفضل ليكون القضاء على حسب الأداء، وهذا أصح.
واختلف مشايخنا في حدّ الجهر والمخافتة، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي: أدنى الجهر أن يسمع نفسه وأقصاه أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة تحصيل الحروف، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، والإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري: أدنى الجهر أن يسمع غيره وأدنى المخافتة أن يسمع نفسه، وعلى هذا يعتمد. والله أعلم.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة في إمام يصلي في رمضان أو غيره، ويقرأ من المصحف، فصلاته فاسدة عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لا تفسد صلاته ويكره، وعند الشافعي رحمه الله لا يكره، حكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني أنه قال: هذه المسألة دليل على أن الصحيح من مذهب أصحابنا أنه لا بأس بذكر رمضان مطلقًا من غير التقيد بالسهو، وإن مذهبهم بخلاف مذهب مجاهد.
ألا ترى أنهم ذكروا رمضان هنا مطلقًا من غير تقييد حجة الشافعي في المسألة حديث ذكوان مولى عائشة رضي الله عنها أنه كان يؤم عائشة رضي الله عنها في رمضان، وكان يقرأ من المصحف، ولو كان مكروهًا لما رَضِيْت به، وأن النظر في المصحف عبادة، والصلاة أيضًا عبادة، فقد أضافت عبادة إلى عبادة فلا تكره، يبقى هذا العذر أنه نسبة بأهل الكتاب، فإنهم يفعلون كذلك، ولكن لا كل ما يفعله أهل الكتاب يكره.
ألا ترى أنهم يقرؤون عن ظهر قلب، ونحن نقرأ كذلك أيضًا ولا يكره، ومما احتجا بجواز الصلاة بحديث ذكوان أيضًا؛ ولأن الواجب قراءة القرآن مطلقًا، وقد قرأ القرآن، فيجوز كما لو قرأ عن ظهر القلب؛ وهذا لأن المفسد إنما يكون محل المصحف أو النظر فيه، أو تقليب الأوراق وحمل المصنف لا يصلح مفسدًا، فإن حمل ما هو أكثر من ذلك لا تفسد، فإن النبي عليه السلام كان يصلي وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، وكان يضعها إذا سجد ويرفعها إذا قام، والنظر في المصحف لا يصلح مفسدًا كالنظر إلى نقوش المحراب بل أولى؛ لأن النظر في المصحف عبادة، والنظر إلى نقوش المحراب ليس بعبادة، وتقليب الأوراق عمل يسير لا يقطع الصلاة، إلا أنه يكره؛ لأنه يشبه أهل الكتاب في صلاتهم فيما عنه بد بخلاف القراءة عن ظهر القلب؛ لأنه لابد منه، فصار كالصلاة....، فإنه يكره لأن.
ولأبي حنيفة رحمه الله وجهان: حمل المصحف وتقليب الأوراق، والنظر فيه عمل كثير والصلاة منه بد فتفسد الصلاة، فعلى هذا الوجه نقول: إن كان المصحف بين يديه على رجل وهو لا يحمل، ولا يقلب الأوراق تصح صلاته، وكذلك لو قرأ آية مكتوبة على المحراب تصح صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله على قياس هذا التعليل.
والوجه الثاني: أن هذا تعلم من المصحف في الصلاة، والتعلم في الصلاة، مفسد للصلاة كما لو تعلّم من معلم؛ وهذا لأن التعلم نوعان: تعلم من الكتاب، وهما علم الصحيفتين، وتعلم من معلم، ثم التعلم من المعلم يفسد الصلاة، فكذا من الكتاب، فعلى هذا الوجه نقول: وإن كان المصحف بين يديه، وهو لا يحمله ولا يقلب الأوراق تفسد صلاته عن أبي حنيفة، وأورد الحاكم في (المختصر) مسألة تصلح حجة لأبي حنيفة.
وصورتها: إذا كان لا يحفظ شيئًا من القرآن ويمكنه القراءة من المصحف، لو صلى بغير قراءة يجوز، ووجه الاحتجاج: أن القراءة من المصحف لو كانت جائزة لما جازت الصلاة في هذه الصورة من غير قراءة، ولكن الظاهر من مذهبهما أنهما لا يسلمان بهذه المسألة، وبه قال بعض المشايخ، وأما حديث ذكوان.
قلنا: قوله وهو كان يقرأ من المصحف، هذا قول الراوي ذكره على وجه التعريف لذكوان أي لم يكن ذكوان ممن يقرأ القرآن كله عن ظهر القلب، لكنه استظهر فصار المفصّل فيقرأ في صلاته ويؤمها بالسور القصار، وكان لا يمكنه أن يختم في الصلاة؛ لأنه كان لا يقرأ جميع القرآن عن ظهر القلب، وكان يحتاج في قراءة السور الطوال إلى المصحف؛ لأنه إن كان يقرأ في الصلاة من المصحف، فيكون فيه دليلًا على أنه لا بأس بأن لا يختم القرآن في صلاة التراويح، بخلاف ما اعتاده العوام في يومنا هذا.
ومما يحفظ في هذا المقام، ولو نظر إلى مكتوب في المحراب ينوي القرآن وماثل وفهم قيل: على قياس قول أبي يوسف: لا تفسد صلاته، وعلى قياس قول محمد: تفسد، أصل المسألة، فإذا حلف لا يقرأ كتاب فلان، فنظر فيه حتى فهم؛ عند أبي يوسف لا يحنث، وعند محمد يحنث، وقيل: لا تفسد صلاته إجماعًا، بخلاف مسألة اليمين على قول محمد.
والفرق: أن جواز الصلاة تتعلق بصورة القرآن ولم توجد أما الحنث في قراءة الكتاب تتعلق بالمعنى وهو الفهم، وقد وُجد ثم فرّق بينهما، إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر فيه وفهم، فإنه لا يحنث، وبينما إذا حلف لا يقرأ كتاب فلان، فنظر فيه وفهم، فإنه يحنث.
والفرق عرف في كتاب الأيمان، والله أعلم.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمة الله عليهم: في رجل صلى أربع ركعات تطوعًا، لم يقرأ فيهن شيئًا يقضي ركعتين، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف يقضي أربع ركعات. واعلم بأن هنا ثمان مسائل.
إحداها: هذه المسألة.
الثانية: إذا قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين.
والثالثة: إذا قرأ في الأوليين.
والرابعة: إذا قرأ في الأخريين.
والخامسة: إذا قرأ في الثلاث الأول.
والسادسة: إذا قرأ في الثلاث الأواخر.
والسابعة: إذا قرأ في ركعة من الأوليين.
والثامنة: إذا قرأ في ركعة من الأخريين.
والأصل في جملتها أن يترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، وفي إحداهما لا ترتفع التحريمة، ولا تنقطع عند أبي يوسف، فيُصبح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول بتلك التحريمة، فإن قرأ في الشفع الثاني في الركعتين صح هذا الشفع، وعليه قضاء الشفع الأول لا غير، وإن ترك القراءة في الشفع الثاني في الركعتين أو في إحديهما فسد بهذا الشفع، وكان عليه قضاء الشفعين، وعند محمد ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين أو في إحديهما يرفع التحريمة ويقطعها، فلا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول، فلا يلزمه قضاؤه، وعلى قول أبي حنيفة ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين يقطع التحريمة، كما هو قول محمد باتفاق الراويات، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني عنده، ولا يلزمه قضاؤه.
واختلفت الروايات عنه في ترك القراءة في الشفع الأول في إحدى الركعتين، روى محمد أنه لا يقطع التحريمة، كما هو مذهب أبي يوسف، فيصح الشروع في الشفع الثاني، ويلزمه قضاء الأربع، كذا ذكر في صلاة (الأصل). وفي (الجامع الصغير).
وروى بشر بن الوليد وعلي بن الجعفر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: أنه يقطع التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني، ولا يلزمه قضاؤه، قال مشايخنا رحمهم الله في المسألة قياس واستحسان، فرواية محمد عنه استحسان، ورواية أبي يوسف عنه قياس.
وجه قول محمد: أن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، به ورد الحديث، قال عليه السلام: «صلاة الليل مثنى مثنى» وأراد به التطوع، فكانت القراءة في الركعتين فرضًا، كما في صلاة الفجر، فإذا ترك القراءة في إحداهما فقد فاتت الفرائض على وجه لا يمكن إصلاحه، كما لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فيفسد الأداء، وإذا فسد الأداء فسدت التحريمة؛ لأن التحريمة للأداء، ومتى فسدت التحريمة لم يصح بناء الأخريين عليها، فلم يلزمه قضاؤه، ويتألف ترك القراءة منهما، أو في إحداهما حجة أبي يوسف أن فساد الأداء لا يكون أعلاها لا من عدم الأداء، وعدمُ الأداء لا يفسد التحريمة، ففساد الأداء أولى أن لا يفسد التحريمة أدنى الفساد لا ينعدم.... الجواز، والفقه ما عرف في موضعه أن التحريمة شرط الأداء، فلا يفسد بفساد الأداء، وإذا لم يفسد بفساد الأداء صح بناء الأخريين على التحريمة وإن ترك القراءة في الأوليين.
وجه قول أبي حنيفة ما قلنا لمحمد، والاستحسان على قوله وجهان.
إحداهما: أن التحريمة شرط الأداء كما قال أبو يوسف إلا أنها مشروعية الأداء لا تقبل الفصل عن الأداء، والأداء يتم بركعة واحدة؛ لأن أركان الصلاة كلها تتم بركعة، فإذا قرأ في الركعة الأولى، فقد وجد فعل الأداء صحيحًا فاستحكمت التحريمة وانتهت في الصحة بها هاهنا، فلم تفسد بترك القراءة في الركعة الثانية، وإذا لم تفسد صح بناء الأخريين عليها، بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين؛ لأن التحريمة وإن صحت في الابتداء، فما صحت إلا بالأداء، والأداء على سبيل التمام لم يوجد، فيفسد الأداء لفوات بعضه، ففسدت التحريمة التي يراد منها الأداء.
الوجه الثاني: أن فساد الشفع الأول بترك القراءة في الركعتين مقطوع به؛ لأن القراءة في ركعة ثبت بدليل مقطوع به وهو الكتاب قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل: 20] فجاز أن يؤثر في فساد التحريمة أما فساد الشفع الأول بترك القراءة في ركعة واحدة ليس بمقطوع به بل هو مجتهد فيه، ظن من الناس من قال الفرض القراءة في إحدى الركعتين، وهذا لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، لكن القراءة في الركعة الثانية احتياطًا؛ لأن الركعة الثانية تكرار للأولى على ما سبق، والاحتياط هنا في أن لا تجعل القراءة فرضًا في الثانية في حق إبقاء التحريمة حتى يحكم بصحة الشروع في الشفع الثاني، فيجب عليه إتمام الشفع الثاني، ولا يحكم بصحة الأداء احتياطًا أيضًا، فأخذنا في كل حكم بالاحتياط.
وإذا عرفنا هذا الأصل فنقول: جئنا إلى تخريج المسائل، فنقول: إذا ترك القراءة أصلًا، فعلى قول أبي يوسف أو جبنا: يجب عليه قضاء الأربع؛ لأن التحريمة عنده بقيت على الصحة، فصح الشروع في الشفع الثاني، فعند أبي حنيفة ومحمد قضى ركعتين؛ لأن التحريمة قد انقطعت عندهما بترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في إحدى الأوليين، وفي إحدى الأخريين، فعليه قضاء أربع ركعات عند أبي يوسف، وكذا عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه يترك القراءة في إحدى الأوليين لا تبطل التحريمة، فصح بناء الشفع الثاني عليه، فيلزمه قضاء أربع ركعات.
وعند محمد رحمه الله يلزمه قضاء ركعتين؛ لأن عنده بترك القراءة في إحدى الأوليين تبطل التحريمة، فلا يصح بناء الشفع الثاني عليها، فيلزمه قضاء ركعتين، وإذا قرأ في الأوليين، فعليه قضاء ركعتين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تنقطع بالإجماع، فيصح بناء الشفع الثاني عليها، وقد ترك القراءة في الشفع الثاني فصحت، يجب عليه قضاؤه، وإذا قرأ في الأخريين فعليه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع في الشفع الأول صحيح، والأداء قد فسد لعدم القراءة، فيلزمه قضاؤه.
وأما الشفع الثاني فعند محمد لم يصح الشروع فيه، وكذلك عند أبي حنيفة، فلا يلزمه القضاء، وعند أبي يوسف صح الشروع فيه وصح الأداء لوجود القراءة، لا يلزمه القضاء، فإذا اتحد الجواب مع اختلاف التخريج، وإذا قرأ في الثلاث الأوائل، فعليه قضاء الشفع الثاني بالإجماع؛ لأن الشفع الأول قد صح لوجود القراءة فيه، فيصح بناء الشفع الثاني عليه، وقد فسد الشفع الثاني لترك القراءة في إحدى الركعتين، فيلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في الثلاث الأواخر، فعليه قضاء ركعتين عند محمد؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى انقطعت التحريمة، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاء الشفع الثاني، ولكن يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع فيه صح وفسد الأداء.
وعند أبي يوسف يلزمه قضاء أربع ركعات؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى لا تنقطع التحريمة، فيصح الشروع في الشفع الثاني وفسد الأداء؛ لأن الشفع الأول قد فسد، والثاني ما عليه والبناء على الفاسد فاسد، وكذلك الجواب عند أبي حنيفة، وعلى رواية محمد عنه، ولأن عند أبي حنيفة وعلى رواية محمد عنه التحريمة لا تقطع بترك القراءة في إحدى الركعتين الأوليين، فصح الشروع في الشفع الثاني، والتقريب ما ذكرنا.
وإذا قرأ في إحدى الأوليين، فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير، وعند أبي يوسف عليه قضاء الشفعين، وكذلك عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه لما ذكرنا، وإذا قرأ في إحدى الأخريين فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير لأن الشروع في الشفع الثاني لا يصح عنده، وكذلك عند أبي حنيفة لا يصح الشروع في الشفع الثاني؛ لانقطاع التحريمة عنده بترك القراءة في الشفع الأول أصلًا، وعند أبي يوسف عليه قضاء الأربع كصحة الشروع في الشفع الثاني عنده إذا أوتر وترك القراءة في الركعة الثانية يفسد بالإجماع؛ لأن الوتر ليس بفرض في حق القراءة.
في (الفتاوى): وإذا ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فسدت صلاته، وكذلك المسافر إذا ترك القراءة في إحدى الركعتين، وإذا افتتح الصلاة ثم نام فقرأ وهو نائم ذكر المسألة في (الفتاوى) في موضعين، وأجاب في أحد الموضعين بالجواز، وأجاب في الموضع الآخر بعدم الجواز، والمختار عدم الجواز.
محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمة الله عليهم في تفسير قوله عليه السلام: «لا يصلي بعد صلاة مثلها» يعني ركعتين بقراءة وركعتين بغير قراءة، أي: النفل لأشبه الفرض، هكذا ذكر في (الجامع الصغير) حتى لا يصلي بعد الظهر والعصر والعشاء أربعًا يقرأ في الركعتين الأوليين، لا يقرأ في الأخريين.
وذكر هذا الباب في كتاب الصلاة وقال: تفسير الحديث روي عن عمر وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وإنما حمل الحديث على ذلك؛ لأن هذا الحديث ثبت خصوصية بالاتفاق، فإن الرجل يصلي سنّة الفجر ركعتين ثم يصلي الفجر ركعتين، والمسافر يصلي الظهر ركعتين ثم يصلي السنّة ركعتين، والمقيم يصلي سنّة الظهر أربعًا، ثم يصلي الظهر أربعًا، فيحمل على وجه صحيح وهو ما قلنا.
ومن العلماء من قال المراد منه الزجر على تكرار الصلوات التي أدّاها، وهو..... من الشيطان، فإنه يكره للإنسان أن يقضي صلوات عمره ثانيًا، فإن النبي عليه السلام قضى صلاة الفجر ضحى ليلة التعريس، وقال له أصحابه من الغد ألا تعيد صلاة الأمس، فقال عليه السلام: «إن الله تعالى نهاكم عن الربا فنقبلها منكم» والله تعالى أعلم.
ومما يحفظ هاهنا (ما) ذكر في (الأصل) افتتح الصلاة وركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه وقرأ وركع، فالمعتبر هذا للركوع الثاني حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع يصير مدركًا للركعة؛ لأنه مأمور بالقراءة بعد الركوع الأول؛ لأنه لم يأت بالقراءة فهو يأتي بها، ومحل القراءة قبل الركوع يرفض الركوع الأول، لتقع القراءة في محلها، وكذلك إذا لم يتم القراءة، وركع بأن قرأ الفاتحة ولم يقرأ السورة أو قرأ السورة، ولم يقرأ الفاتحة، وركع ثم رفع رأسه، وأتم القراءة وركع؛ لأن المعتبر هو الركوع الثاني؛ لأن ضم السورة إلى الفاتحة من واجبات الصلاة ولم يأت به، فإذا كان مأمورًا بالإتيان به، فإذا أتى به وحمل القراءة على وجه التمام قبل الركوع لابد وأن يرتفض الركوع الأول لتقع القراءة في محلّه، فإذا أتمّ القراءة وركع ثم رفع رأسه من الركوع وقرأ ثانيًا وركع، ذكر في باب الحديث أن المعتبر هو الركوع الأول، حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع لا يصير مدركًا للركعة، وذكر في باب السهو أن المعتبر هو الركوع الثاني.
وجه ما ذكر في باب الحديث أن الركوع الأول حصل في أدائه؛ لأنه حصل بعد تمام القراءة، فوقع معتدًا به فلا يصح الثاني؛ لأنه يكون تكرارًا فلا تكرار في الركوع في ركعة واحدة.
وجه ما ذكر في باب السهو أن الركوعين جميعًا وجدا بعد القراءة؛ لأن القراءة الثانية لو لم تعتبر بالقراءة الأولى معتبرة، وهو معنى قولنا: أن الركوعين حصلا بعد القراءة إلا أن الثاني متصل بالسجود والأول غير متصل بالسجود والركوع، إنما يعتبر بإيصال السجود به، فكانت العبرة للركوع الثاني، فلو أنّ هذا الإمام ركع ولم يقرأ، فلما رفع رأسه من الركوع الأول سبقه الحدث واستخلف رجل، فقرأ هذا الرجل الخليفة وركع فجاء رجل، واقتدى به يصير مدركًا للركعة، وكذلك إذا قرأ الإمام الأول الفاتحة ولم يقرأ السورة وركع، فلما رفع رأسه سبقه الحدث، فاستخلف رجلًا فقرأ الخليفة السورة وركع، فجاء رجل واقتدى به، فإن الرجل يصير مدركًا للركعة.
وكذلك لو قرأ الإمام السورة ولم يقرأ الفاتحة، وباقي المسألة على حالها، فإنه يصير مدركًا للركعة، فلو أن الإمام الأول قرأ وركع، فلما رفع رأسه من الركوع سبقه الحدث، فاستخلف رجلًا فقرأ هذا الخليفة وركع، فجاء رجل واقتدى به، فعلى الرواية التي ذكر في باب الحدث لا يصير مدركًا للركعة، والمعنى في الكل أن الخليفة قائم مقام الأول، فحاله كحال الإمام الأول، والجواب في حق الإمام الأول على هذا التفصيل، فكذلك في حق الخليفة، والله أعلم بالصواب.

.فرع في زلة القارئ:

يحتاج لتخريج مسائل هذا النوع إلى معرفة مخارج الحروف، لتعرف اتفاق المخارج وقربها، وإلى معرفة جواز إبدال الحروف بعضها عن البعض فنبدأ أببيان مخارج الحروف، فنذكر الحروف، وهي تسعة وعشرون حرفًا على ترتيب مخارجها، فنقول: أولها الهمزة والألف والهاء، ثم الحاء والعين والغين والخاء ثم القاف والكاف، ثم الجيم والشين والتاء، ثم الضاد، ثم اللام والراء والنون، ثم الظاء والذال والثاء، ثم الصاد والزاي والسين، ثم الطاء والدال والتاء ثم الباء والميم والواو والفاء.
ولهذه الحروف ستة عشر مخرجًا، للحلق منها ثلاثة مخارج، فأقصاها مخرجًا الهمزة والألف والهاء، وأوسطها مخرجًا الغين والخاء وأدناها من الفم العين والحاء، ومن أقصى اللسان مخرج القاف والكاف، ومن وسط اللسان مخرج الجيم والشين والتاء ولطرف اللسان جهة مخارج.
فالطاء والدال والتاء من مخرج واحد وهو طرف اللسان، وطرف الثنايا العليا، والصاد والسين والزاي من مخرج واحد، وهو من طرف اللسان، وفوق الثنايا العليا، ويبقى، وجه قليل بين اللسان والثنايا عند الذكر يمنة وبين ما فوق الثنايا، ومخرج النون المتحركة من طرف اللسان، وما يتصل بالخياشيم، ووراء مخرج النون من ظهر اللسان والحنك مخرج الراء، ولحافة اللسان مخرجان وحرفان، فمن حافة اللسان من أقصاها إلى... الأضراس الضاد، فبعضهم يخرجها من الجانب الأيمن وبعضهم يخرجها من الجانب الأيسر، ومن حافة اللسان من أدناها.... الثنايا، ومنتهى طرف اللسان بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى مخرج اللام وللشفة مخرجان، فالفاء من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا، والباء والميم والواو والفاء من بين الشفتين، ومخرج النون الخفيفة، وهو نون منك وعنك من الخياشيم ليس له في الفم موضع.
ولهذه الحروف فروع، بعضها مستحسنة وبعضها مستقبحة، فالمستحسنة مستعملة في العربية الصحيحة واللغة الفصيحة، وهي خمسة: النون الخفيفة وصفتها ما ذكرنا والهمزة الخفيفة، وهي التي لا تكون ممن.... من غير..... محضًا من غير همزة، وذلك نحو قوله سأل، فإنه ليس بمهموز محض ولا بلين محض، وألف التفخيم وهو الألف التي تجد ما بين الألف والواو، نحو الصلاة والزكاة والحياة واللام وألف الإمالة، وهي الألف التي تجد ما بين الألف والياء، كما في قوله عالم حاتم، والصاد التي كالراء غير أن الصاد التي كالراء إنما تقع مستحسنة إذا وقعت قبل الدال فقط.
وأما المستقبحة، فهي السين التي كالجيم والباء التي كالفاء والجيم التي كالشين والجيم التي كالكاف والحاء التي، كالراء والقاف التي كالكاف عند قوم قالوا في مثل قال وكال والطاء التي كالتاء، فهي سبعة أحرف، وإنها خارجة عن الفصحاء.
جئنا إلى الإبدال، فنقول: الهمزة تبدل من خمسة أحرف، الألف والواو والهاء والياء والعين، والياء تبدل عن الواو، والباء في القسم وتبدل عنه الواو، والتاء في القسم والتاء تبدل من الواو والياء والسين والصاد والطاء والذل والياء تبدل من الياء والجيم تبدل من الياء والحاء، لا تبدل من حرف هاء إلا نادرًا، وكذا الحاء.
وقيل: الحاء تبدل عن العين، والحاء تبدل عن الخاء والدال تبدل عن الياء، والذال لا تبدل، وقيل: تبدل والثاء والراء لا تبدل، وقيل: تبدل عن اللام، والراء تبدل عن السين والصاد، والشين تبدل عن الذال والياء، والراء لا تبدل، وقيل: تبدل عن اللام والراء تبدل عن السين، والصاد والسين تبدل من الشين، ومن الكاف التي هي خطاب المؤنث، والصاد تبدل من السين إذا جاوره فاء أو غين أو قاف أو طاء، والصاد لا تبدل.
وقيل: تبدل عن الصاد والطاء، والطاء تبدل عن.... افتعل، والطاء تبدل عن الدال عند بعضهم، والعين تبدل من الهمزة، والحاء والعين تبدل عن الغين عند بعضهم، والفا تبدل عن الياء والقاف تبدل عن الكاف، والكاف تبدل من القاف، واللام تبدل من الصاد والنون، والميم تبدل من الواو والنون والياء واللام، والنون تبدل عن الهمزة والألف والياء والهاء تبدل عن الهمزة والألف والياء والتاء، والألف الساكنة في لا، وهي التي تسمى الألف تبدل عن الهمزة والياء والنون الخفيفة والواو. والباء تبدل من الألف والواو والهمزة والهاء والسين والباء والراء والنون واللام والصاد والضاد والميم والدال والعين والكاف والثاء والتاء والجيم.
وبعد الشروع في هذه الجملة نشرع في المسائل فنقول: الذي يعرض من الخطأ في القراءة على وجوه، فيجعل كل وجه فصلًا تيسيرًا على الطالبين، ونذكر عقيب كل فصل ما يتصل به من المسائل:

.فرع في ذكر حرف مكان حرف:

وإنه على وجهين، الأول: أن تخرج الكلمة بحرف البدل من ألفاظ القرآن، ومعناه أن هذه الكلمة مع حرف البدل توجد في القرآن نحو أن تقرأ تألمون مكان تعلمون أو ما أشبه ذلك، وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته ويُجعل كأنّه ابتدأ من هذه الكلمة.
الوجه الثاني: إنه لا توجد الكلمة مع حرف البدل في القرآن، وإنه على قسمين.
القسم الأول: يكون مع موافقة في المعنى، نحو أن تقرأ.... مكان قوله ثوابًا أو يقرأ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوابِينَ} [البقرة: 222] أو يقرأ {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وفي هذا القسم لا تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، خلافًا لأبي يوسف، وأصل هذا الاختلاف أن قراءة القرآن بالمعنى جائزة عند أبي حنيفة ومحمد، ولهذا تجوز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة عنده، وعند أبي يوسف ومحمد لا تجوز قراءته بالمعنى غير أن عند محمد يجوز استبدال اللفظ بغيره من الألفاظ القريبة بعد اتفاقهما في المعنى، وعند أبي يوسف لا يجوز، ويعتبر اللفظ المنقول ومعنى آخر لأبي حنيفة أن هذه لغة مستعملة عند العرب، والمصدر واحد، والله تعالى يقول: {إِنَّا جَعَلْنَهُ قُرْءانًا عَرَبِيًّا} [الزخرف: 3] ولم يقل مائة لغة، فعلى أنه لغة..... قرأ القرآن فيجوز، فقد كتب في مصحف عبد الله بن مسعود الحي القيام في سورة البقرة وآل عمران، وعلى هذا إذا قرأ... عليم لا تفسد صلاته؛ لأن أهل اللغة يقولون: إنه في الأصل من ذوات الواو.
والقسم الثاني: من هذا الوجه أن يكون مع مخالفة في المعنى نحو أن يأتي بالطاء مكان الضاد أو بالضاد مكان الطاء، فالقياس أن تفسد صلاته، وهو قول عامة المشايخ، واستحسن بعض مشايخنا وقالوا: بعدم الفساد للضرورة في حق العوام خصوصًا للعجم، وهذا في الحروف المتقاربة في المخرج فأما في الحروف المتباعدة في المخرج وما يفسد المعنى، نحو أن يقرأ ونيسرك مكان...... تفسد صلاته.
والحاصل من الجواب في جنس هذه المسائل أن الكلمة مع حرف الدال إذا كانت لا توجد في القرآن، والحرفان من مخرج واحد أو بينهما قرب المخرج، ويجوز إبدال أحد الحرفين عن الآخر لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ، وعليه الفتوى.
وعن هذا قلنا إذا قرأ في صلاته {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ} [الصخر: 9] تكهر بالكاف لا تفسد صلاته على ما اختاره المشايخ؛ لأن جماعة العرب يبدلون الكاف عن القاف ومخرجها واحد، والمعنى في ذلك كلّه أن الحرفين إذا كانا من مخرج واحد كان بينهما قرب المخرج، وأحدهما يبدل عن الآخر كان ذكر هذا الحرف كذكر ذلك الحرف، فيكون قرآنًا معنى، فلا يوجب فساد الصلاة، وكذلك إذا لم يكن من الحرفين اتحاد المخرج ولا قربة، إلا أن فيه بلوى العامة نحو أن يأتي بالدال مكان الصاد أو يأتي بالزاي المحض مكان الذال والطاء مكان الضاد لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ. ولو قرأ الحمد لله بالخاء لا تفسد صلاته بعض المشايخ؛ لأن الحاء والخاء قرب المخرج.
وفي الباب الأول من صلاة (الواقعات) إذا قال الحمد لله بالهاء تفسد صلاته إن كان لا يجهد لتصحيحه، وينبغي أن لا تفسد صلاته؛ لأن الهاء تبدل عن الحاء أن يقال مدحته ومدهته، وإذا قرأ الصمد بالسين حُكي عن نجم الدين النسفي رحمه الله أنه لا تفسد صلاته؛ لأن السمد بالسين هو السند، وهكذا حكى فتوى القاضي الإمام الزاهد أبي بكر الزرنجري رحمه الله، وكذا لو قرأ اهدنا الصراط بالتاء الصغيرة أو قرأ المستقيم بالطاء العظيمة لا تفسد صلاته؛ لأنها من مخرج واحد وفيه بلوي العامة؛ لأنهم لا يعقلون بينهما.
ولو قرأ اهدنا الصراط بالسين أو بالراء الخالصة أو بالصاد التي بين الراء والسين لا تفسد صلاته؛ لأن هذه قراءة مشهورة، ولو قرأ.... لا تفسد صلاته؛ لأن هذه قراءة، ولو قرأ..... مكان حتى لا تفسد صلاته، وهو قراءة عائشة، ولو قرأ..... لا تفسد؛ لأنه قراءة. وإن كانت شاذة.
والحاصل: أن ما كان قراءة لا تفسد بها الصلاة وإن كانت شاذة. ولو قرأ الدال مكان الذال وعلى العكس أو ذكر العين مكان القاف أو اللام مكان النون أو على العكس تفسد صلاته بالاتفاق؛ إذ ليس بين هذه الحروف اتحاد المخرج ولا قربه ولو قرأ في دعاء القنوت ونستخفرك بالخاء لا تفسد صلاته عند بعض المشايخ؛ لأنه بين الغين والخاء اتحاد المخرج، وبينهما قرب المعنى، فالاستخفار طلب الأمان، والاستغفار طلب المغفرة، ومن رزق الأمان فقد رزق المغفرة، ومن رزق المغفرة فقد رزق الأمان.
ولو قرأ..... مبثوثة تفسد صلاته؛ لأنه إبدال من..... الأخيرة... المشددة...... وإبدال..... من..... بعيد حتى ولو قرأ وذرابيج لا تفسد صلاته؛ لأن إبدال الجيم من الياء ليس ببعيد.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا زاد حرفًا هو ساقط وأهل المشتق من الفعل واحد، نحو أن يقرأ...... على مكان ردوها ونحو أن يقرأ إنّا رادوه إليك لا يوجب فساد الصلاة؛ لأنه رده إلى ما توجبه الكلمة والصرف في الأصل، وإن كانت العرب تسقط أحد الحرفين لعلة، ويؤيد ذلك ما كتب في مصحف ابن مسعود {وَلاَ تَمْشِ في الاْرْضِ مَرَحًا} [الإسراء] بباء بعد الشين، وإن كانت العرب تسقط الباء لعلة، وكذلك كتب في مصحفه، وانهى عن المنكر بياء بعد الهاء، وكتب في مصحف آخر {يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم} [المائدة: 54] بدالين، كتب فيه ما مكنني بنونين.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا زاد حرفًا لا توجبه الكلمة في الأصل إلا أنه لا يغير النظم والحكم، ولا يقبح المعنى، نحو أن يقرأ {وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186] مكان ما أنت، لا تفسد صلاته، فقد كتب في مصحف عثمان في العنكبوت: {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقّ إِنَّ في ذلِكَ لآيَةً لّلْمُؤْمِنِينَ} [العنكبوت: 44] بالواو، وكتب في سورة النجم: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَئِرَ الإثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ في بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32]، بزيادة واو في هو، وكتب في اقتربت رحمة من عندنا، {نّعْمَةً مّنْ عِندِنَا كَذَلِكَ نَجْزِى مَن شَكَرَ} [القمر: 35]، بزيادة واو في كذلك، وكتب في الممتحنة: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَاءكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللَّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا في سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] بزيادة واو في تسرون، وإن زاد ما لا توجبه الكلمة في الأصل ويفسد النظم ويقبح المعنى، نحو أن يقرأ {يس وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ} [يس: 1، 2] و{تِلْكَ آياَتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [البقرة: 252] بزيادة واو في إنك، أو تقرأ {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3].
و{مَا وَدَّعَكَ} [الضحى: 3] بزيادة واو في ما، أو تقرأ {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] و{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] فقد قال بعض مشايخنا أخاف أن تفسد صلاته؛ لأن في إدخال الواو في هذه السورة تغيير وتعطيل للقسم؛ لأن إدخال الواو يخرج ما أُلحق الواو به من أن يكون جواب القسم، هذا هو المنقول عن أهل اللغة، فتوجب هذه الزيادة إفساد المعنى وتعطيل القسم، فلهذا قال أخاف أن تفسد صلاته.
ومما يتصل بهذا الفصل:
الألثغ الذي لا يقدر على التكلم ببعض الكلمة، فيقرأ مكان الواو ياء، فيقرأ مكان الرحيم؟..... أو ما أشبه ذلك، ولا يطاوعه لسانه على غير ذلك، وإنه على وجهين: إما أن يؤم أو يصلي وحده.
ففي الوجه الأول: لا ينبغي له أن يؤم إلا لمن كان حاله مثل حاله، لأنه إذا كان لا يقدر على التكلم ببعض الحروف كان في حق تلك الحروف.....، ولا تجوز إمامة الأمي للقارئ، ويجوز لمن كان بمثل حاله، وهذا قول أبي يوسف ومحمد، وكذلك قول أبي حنيفة إذا لم يكن في القوم من يقدر على التكلم ببعض الحروف فأما إذا كان في القوم من يقدر على التكلم بتلك الحروف فسدت صلاته وصلاة القوم عند أبي حنيفة قياسًا على الأمّي إذا صلّى بأميين وبقارئين.
وكذا من يقف في غير مواضعه، ولا يقف في مواضعه لا ينبغي له أن يؤم، وكذا من يتنحنح عند القراءة كثيرًا لا ينبغي له أن يؤم؛ لأنه يؤدي إلى تقليل الجماعة، وكذلك من كان به تمتمة، وهو أن يتكلم بالتاء مرارًا أو فأفأة، وهو أن يتكلم بالفاء مرارًا حتى يتكلم بعده لا ينبغي له أن يؤم؛ لأنهما ربما يعجزان عن المضي عن القراءة، ويفسدان الصلاة على القوم.
وأما الذي لا يقدر على إخراج الحروف إلا بالجهد، ولا يتكلم بالتاء مرارًا ولا بالفاء، وإذا أخرج الحروف أخرجها على الصحة، فصلاته وقراءته جائزتان، ولا يكره أن يكون إمامًا.
وفي الوجه الثاني: وهو ما إذا كان يصلي وحده ينظر إن لم يكن فيه تبديل الكلام، ولا يمكنه أن يتخذ من القرآن آيات ليس فيها تلك الحروف تجوز صلاته بالاتفاق، وإن كان يمكنه أن يتخذ من القرآن آيات ليس فيها تلك الحروف...... إلا فاتحة الكتاب، فإنه لا يدع قراءتها، وإن كان فيه تبديل، فإن كان يجد آيات ليس فيها تلك الحروف يتخذ تلك الآيات التي ليس فيها تلك الحروف، ولو قرأ مع ذلك الآيات التي فيها تلك الحروف هل تجوز صلاته؟ ذكر في بعض نسخ زلة القاري فيه اختلاف المشايخ، والصحيح لا تجوز صلاته؛ لأنه تكلم بكلام الناس مع قدرته على أن لا يتكلم، ومثل هذا يوجب فساد الصلاة، وذكر في بعض النسخ: القياس أن لا تجوز صلاته وفي الاستحسان: تجوز، وبالقياس نأخذ، وجه القياس ما ذكرنا.
وجه الاستحسان: أن الآفة في لسانه خِلْقَة و...... لا يقدر على أن يزيلها عن نفسه بالجهد، فصار كالذي خلق فهو أخرس، وعلى جواب القياس يُفرّق بين الأخرس وبين الألثغ أن الأخرس لا يقدر على الإتيان بالقراءة أصلًا، فأما الألثغ ما درُ، على قراءة بعض السور بوصف الصحة، فهو نظير من حفظ سورة واحدة، ولا يحفظ غيرها، وهناك لا تجوز الصلاة من غير قراءة كذا هاهنا.
فإن قيل: الأخرس قادر على القراءة بأن يقتدي بالقارئ، فتصير قراءة الإمام له قراءة ما نطق به الحديث.
قلنا: هذا فاسد؛ لأن الإنسان إنما يخاطب بفعل نفسه لا بفعل غيره، فلا تكون قراءة الإمام فرضًا عليه، وإن كان لا يجد آيات ليس لها تلك الحروف. قاله بعض المشايخ، فيسكت ولا يقرأ. ولو قرأ تفسد صلاته، وقال بعضهم يقرأ ولا يسكت، ولو سكت تفسد، وعلى قول من يقرآ نختار أنه يقرأ فيها تلك الحروف.
والمختار للفتوى في جنس هذه المسائل: أن هذا الرجل إن كان يجهد آناء الليل والنهار في تصحيح هذه الحروف، ولا يقدر على تصحيحها، فصلاته جائزة؛ لأنه جاهد، وإن ترك جهده، فصلاته فاسدة؛ لأنه قادر، وإن ترك جهده في بعض عمره لا يسعه أن يترك في باقي عمره، ولو ترك تفسد صلاته إلا أن يكون الدهر كلّه في تصحيحه والله أعلم.

.فرع في ذكر كلمة مكان كلمة على وجه البدل:

وإنه على وجهين أيضًا:
الأول: أن توجد الكلمة التي هي بدل في القرآن، وإنه على قسمين: الأول: أن يوافق البدل المبدل في المعنى، نحو أن يقرأ الفاجر مكان الأثيم في قوله طعام الأثيم، والجواب فيه أن صلاته تامة على قول أصحابنا رحمهم الله، فقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أمران علم أن شجرة الزقوم طعام الفاجر حتى عجز المتعلم أن يقول طعام الأثيم.
القسم الثاني: أن يخالف البدل المبدل من حيث المعنى، وإنه على وجهين: إن كان اختلافًا متقاربًا، نحو أن يقرأ الحكيم مكان العليم، أو السميع مكان البصير. ويجوز أن يقرأ خبيرًا مكان بصيرًا، أو يقرأ كلا إنها موعظة مكان قوله تذكرة، وفي هذا النوع صلاته تامة، روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس الخطأ في القرآن أن يقرأ في موضع الحكيم العليم، وإن كان اختلافًا متباعدًا، نحو أن يختم آية الرحمة بآية العذاب أو آية العذاب بآية الرحمة أو أراد أن يقرأ {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268] يجري على لسانه الرحمن يعدكم الفقر؛ فعلى قول أبي حنيفة ومحمد تفسد صلاته.
وأما على قول أبي يوسف اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا تفسد إذا لم يتعمد بقصد ذلك، ومرّ على لسانه غلطًا، ويجعل على أنه ابتدأ بكلمة من كلمات القرآن، وهذا لأنه قصد قراءة القرآن على ما أنزل، فيجعل التقدير كأنه ترك القراءة من هذا الموضع، وأخذ بالقراءة من ذلك الموضع، وهو في ذلك الموضع قرآن، فلا تفسد صلاته، وبه كان يفتي الفقيه أبو الحسن، وهو اختيار محمد بن مقاتل الرازي.
وقيل: في المسألة عن أبي يوسف روايتان:
الوجه الثاني: أن لا توجد الكلمة التي هي بدل في القرآن وإنه على قسمين أيضًا:
الأول: أن يوافق البدل المبدل نحو أن يقرأ: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ} [النساء: 48] أن يكفر به مكان قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] أو يقرأ {فَبِأَيِّ آلاء رَبّكُمَا} [الرحمن: 13] تجحدان مكان قوله: {تُكَذّبَانِ} [الرحمن: 13] أو يقرأ {الم ذلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 1، 2] لا شك فيه مكان قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] أو ما أشبه ذلك، وفي هذا القسم لا تفسد صلاته عن أبي حنيفة ومحمد، أما عند أبي حنيفة؛ فلأنه يعتبر المعنى مع لفظ العربية، وعند أبي يوسف تفسد صلاته؛ لأنه يعتبر اللفظ المنقول.
القسم الثاني: أن لا يوافق البدل المبدل من حيث المعنى نحو أن يقرأ: قوسرة مكان قسورة، أو كعفص مكان كعصفٍ، أو فسحقًا لأصحاب السعير تفسد صلاته بالاتفاق؛ لأن هذه الألفاظ ليست بمنقولة في القرآن، وليس بين هذه الألفاظ وبين الألفاظ المنقولة في القرآن مقارنة من حيث المعنى، فلهذا فسد عند الكل والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:
فصل استبدال النسبة، وإنه على وجهين: الأول: أن لا يكون المنصوص المنسوب إليه في القرآن، نحو أن يقرأ {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] عيلان {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] مكان {وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] أو يقرأ عيسى بن سارة مكان {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَبَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَءاتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} [البقرة: 87]، وفي هذا الوجه تفسد صلاته؛ لأنه لم يقرأ القرآن، ولا يذكر الله تعالى، فكان متكلمًا بكلام الناس فتفسد صلاته.
الوجه الثاني: أن يكون المنسوب إليه في القرآن نحو أن يقرأ ومريم ابنت لقمان وعيسى بن موسى وموسى بن مريم وما أشبه ذلك، وفي هذا الوجه اختلف المشايخ المتأخرون، منهم من قال: في الصور كلها تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، عند أبي يوسف روايتان في رواية لا تفسد؛ لأن لقمان وموسى ومريم مذكور في القرآن، وكذلك لفظ ابن وابنة مذكور في القرآن، فصار كأنه وقف عند قوله ومريم ابنت، وابتدأ من قوله لقمان، ومن المتأخرين من قال في مريم ابنت لقمان، وعيسى بن موسى الجواب على الخلاف، أما في موسى بن مريم وعيسى بن عمران لا تفسد صلاته بلا خلاف، أما الفساد في قوله مريم ابنت لقمان وعيسى بن موسى عندهما وإحدى الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن هذا الكلام مركب من مضاف ومضاف إليه والمضاف، والمضاف إليه يجريان مجرى اسم واحد، وهذا الاسم بهذا اللفظ غير موجود في القرآن فصار كما لو قال جعفر بن زيد أو قال عمر بن الخطاب فصار من جملة كلام الناس، فتفسد صلاته.
وأما الجواز في قوله موسى بن مريم مكان عيسى بن مريم؛ لأنه ليس فيه أكثر من أن يجعل مكان العين الذي في عيسى ميمًا، ومكان الياء واوًا، فأما باقي الاسمين على السواء.
قلنا وإبدال الواو عن الياء وإبدال الياء عن الواو شائع، لم يبق التفاوت إلا في أول الحرف وهو العين والميم والحرف الواحد لا يكون كلامًا، فلا يصير آتيًا بكلام الناس، وصار الحاصل في فصل النسبة أنه إذا كان التفاوت في حرف واحد لا يعتبر بلا خلاف. وإذا كان التفاوت في حرفين أو أكثر فالمسألة على الخلاف والله أعلم.

.الفصل في القراءة بغير ما في المصحف الذي جمعه أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه بأن قرأ بما في مصحف عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب:

روى نصر بن يحيى عن أبي سليمان الجوزجاني عن محمد بن الحسن أنه قال؛ قال أبو حنيفة رحمه الله إذا قرأ القارئ في الصلاة بغير ما في مصحف العامة فصلاته....؟، قال وهو قول أبي يوسف وقولنا.
وروى أيضًا نصر بن يحيى عن محمد بن سماعة قال سمعت أبا يوسف يقول: إذا قرأ القارئ في الصلاة بحروف أبي وابن مسعود، وليس ذلك في مصاحفنا، فإن الصلاة لا تجوز، وروى عبد الصمد بن الفضل عن عصام بن يوسف أنه كان يقول: من قرأ بقراءة ابن مسعود في الصلاة فسدت صلاته.
والمتأخرون من مشايخنا قالوا: هذا إذا لم يثبت من وجه يلزم به الحكم أن هذه قراءة ابن مسعود أو قراءة أبي، بأن لم تثبت لهما رواية صحيحة مسندة إليهما أو إلى واحد منهما أنه قرأ، كذلك إنما وجه ذلك في المصحف؛ لأن لمجرد وجوده في المصحف لا تثبت قراءتهما، ولا يجوز العمل بما في المصاحف إذا لم توجد لهما رواية.
الدليل على صحة ما قلنا ما روى الزهري عن سالم عن أبيه قال: كَتَبَ رسول الله عليه السلام كتاب الصدقة، فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض ثم الصحابة لم يعملوا بما في ذلك الكتاب؛ لأن رسول الله عليه السلام مات قبل أن يخرجه إلى عماله، وقبل أن يأمر به، فلم يجعلوا مجرد الوجود حجة الإلزام.
فإن قيل: ذكر في الخبر عمل به أبو بكر حتى قبض ثم عمل به (عمر) حتى قبض.
قلنا: عملهما بذلك غير مشهور ولو ثبت يحتمل أنهما عملا به لأنهما قد سمعا ما في الكتاب عن رسول الله عليه السلام، والدليل عليه ما روي في الأخبار أنه عمل به أبو بكر وعمر وعثمان صدرًا من خلافته، ولو كان العمل به واجبًا لكان لا يقتصر على العمل به واجبًا في بعض خلافته، فأما إذا ثبتت رواية صحيحة مسندة إليهما أو إلى واحد منهما أنهما قرءا كذلك لا تفسد صلاته؛ لأنا لو قلنا تفسد صلاته، فقد قلنا أن عبد الله بن مسعود وأبي لم يصليا صلاة جائزة إذا كانا لم يجعلا للتلاوة قراءة على حدة غير التي كانا يقرءان في الصلاة، والذي يؤيد ما قلنا قول النبي عليه السلام: «من أراد أن يقرأ القرآن غضًا طريًا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد»، فقد أخبر أن القرآن أنزل بقراءة عبد الله ورغب في القراءة بقراءته ولا يتوهم على النبي عليه السلام أنه يرغب في التلاوة بقراءة لا تجوز معها الصلاة، والجواب عن هذا أن يقال بأن من شرط جواز الصلاة قراءة القرآن قطعًا، ولم يثبت كون ما في مصحف ابن مسعود قرآنًا عندنا قطعًا؛ لانعدام شرط وهو الفعل المتواتر، فلم تجز الصلاة بما في مصحفه لنا. أما كون ما في مصحفه قرآنًا عنده، قد ثبت قطعًا؛ لأنه سمعه من رسول الله، فجازت صلاته من مصحفه، وقوله عليه السلام «من أراد أن يقرأ القرآن غضًا طريًا إلى آخره»، فمعناه إذا ثبت قراءته عنده بشرط وهو النقل المتواتر، فليقرأ بقراءته وذكر بعض المشايخ أنه إذا قرأ ما يغير في مصحف معروف ما لا يؤدي معنى بما في المصحف المعروف، تفسد صلاته بالاتفاق إذا لم يكن ذلك دعاءً، ولا ثناءً في نفسه؛ لأنه صار تاركًا النظم والمعنى.
وإن قرأ ما يؤدي معنى ما في المصحف المعروف، فعلى قولهما لا تفسد، وعلى قول أبي يوسف تفسد، والصحيح من الجواب في هذا إذا قرأ بما في مصحف ابن مسعود أو غيره لا يعتد به من قراءة الصلاة أن لا تفسد صلاته؛ لأنه إن لم يثبت ذلك قرآنًا ثبتت قراءة شاذّة، والمقروء في الصلاة إذا كانت قراءة لا توجب فساد الصلاة. وما روينا في أول هذا الفصل عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وعصام بن يوسف أن المصلي إذا قرأ بغير ما في المصحف العامة أن صلاته فاسدة، فتأويله إذا قرأ هذا، ولم يقرأ معها شيئًا مما في المصحف العامة، فتفسد صلاته لتركه قراءة ما في مصحف العامة، لا لقراءته في مصحف ابن مسعود حتى لو قرأ مع ذلك مما في مصحف العامة مقدار ما تجوز به الصلاة تجوز صلاته.

.فرع في ذكر آية مكان آية:

يجب أن يعلم أن المتأخرين اختلفوا في هذا الفصل، منهم من قال: تجوز على كل حال؛ لأنه قارئ بالآيتين جميعًا، والآية منفصلة عن الآية بخلاف الكلمة، ومنهم من فصَّله تفصيلًا، فقال: إن وقف على الآية وقفًا تامًا، ثم ابتدأ بآية أخرى لا تفسد. وإن تغيّر المعنى نحو أن يقرأ {وَالتّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] ووقف وقوفًا تامًا، ثم قرأ {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في كَبَدٍ} [البلد: 4]؛ لأن هذا انتقال من سورة إلى سورة والكل قرآن، فأما إذا لم يقف ووصل الآية بالآية، إن كان لا يتغير المعنى نحو أن يقرأ {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 40، 41]، ولم يقف ثم قرأ {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 151].
أو قرأ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فلهم جزاء الحسنى لا تفسد صلاته وأما إذا تغير به المعنى بأن قرأ وجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم المؤمنون حقًا، قال عامة أصحابنا: تفسد صلاته؛ لأن هذا ليس بقرآن؛ لأنه إِخبار بخلاف ما أخبر به الله، وليس بذكر، وبعض أصحابنا قالوا: لا تفسد صلاته؛ لأن في هذا بلوى العامة، فلا يحكم بالفساد، ويجعل كأنه وقف على الآية الأولى ثم انتقل إلى الأخرى والله أعلم.

.الفصل الخامس: في حذف حرف من كلمة:

فنقول: إن كان الحذف على سبيل الترخيم والإيجاز يكون عين تلك الكلمة، فلا يوجب الفساد وللحذف على وجه الترخيم شرائط ثلاثة.
أحدها: إما أن يكون ذلك في اسم النداء حتى لا يجوز الترخيم في الأفاعيل، ولا في الحروف، ولا في اسم المعرف بالألف واللام، ولا في النعت.
والثاني: أن يكون المنادى معرفًا نحو قوله يا حارث وما أشبه ذلك، ولا يصح في المنكر نحو قوله: يا قاتل يا ضارب إلا في قوله: يا صاحب يا فلان.
والثالث: أن يكون اسم المنادى على أربعة أحرف صحاح أو ما زاد على ذلك أما إذا كان ثلاثة أحرف لا يجوز الترخيم، إلا إذا كان ثالث الحروف الهاء، فأما فيما عدا ذلك، فلا يجوز الترخيم، فإذا وجدت هذه الشرائط، وحذف الحرف الأخير نحو أن يقرأ {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] لا تفسد صلاته؛ لأن الاستعمال قد ورد على هذا الوجه، تقول العرب لعائشة يا عائش، ولفاطمة يا فاطم، وكتب في مصحف ابن مسعود {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ} [الزخرف: 77] وكذلك لو ترك حرفين من آخر الكلمة والباقي ثلاثة أحرف أو ما زاد على ذلك، فذلك جائز.
والحاصل: أنه ينظر في مثل هذا إلى الباقي إن كان الباقي من اسم النداء ثلاثة أحرف فصاعدًا، لا تفسد صلاته، نحو أن يترك من طالوت الواو والتاء، ونحو أن يترك من هاروت وماروت الواو والتاء، ونحو أن يترك من هارون الواو والنون، وبعض مشايخنا قالوا: إذا حذف حرفًا زائدًا وأتى بجميع أصول الكلمة، ولم يكن قاصدًا لا تفسد صلاته على قول أبي حنيفة وعبد الله ابن المبارك وهو مذهب عبد الله بن مسعود، وذلك نحو أن يقرأ {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} بحرف الهاء أو قرأ {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ} [الحجرات: 2] بحذف الميم؛ وهذا لأن المحذوف إذا كان حرفًا زائدًا لا يتغير المعنى الأصلي في الكلمة، فلا يوجب الفساد.
ثم اختلف أهل النحو فيما بينهم في فصل أنه إذا ترك حرفًا أو حرفين فالحرف الباقي قبل المتروك هل يبقى على حركته، وأكثر أهل النحو على أنه يبقى على حركته حتى يقال: يا حارِ بكسر الراء من حارث، ويقال يا عائشَ بنصب الشين من عائشة.
وبعضهم على أنه يرفع الحرف الآخر، يقال: يا حارُ برفع الواو يا عائش برفع الشين، هذا إذا كان الحذف على وجه الإيجاز والترخيم، فأما إذا لم يكن على وجه الإيجاز والترخيم إن كان لا يغير المعنى لا تفسد صلاته، نحو أن يقرأ {مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ في الاْرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالّبَيّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مّنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ في الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ} [المائدة: 32] بترك التاء من جاءتهم أو يقرأ {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَبَ بِالْحَقِ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 213]، بترك التاء من جاءتهم أو يقرأ {قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُنَا فَأْتِ بِئَايَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 153، 154] بترك الواو، قبل قوله ما أنت أو يقرأ {فَسُبْحَنَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْء وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83] بترك الفاء من سبحان، وإن غير المعنى تفسد صلاته عند عامة المشايخ، نحو أن يقرأ {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] بترك لا أو يقرأ {وَإِذَا قُرِئ عَلَيْهِمُ الْقُرْءانُ لاَ يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] بترك لا أو يقرأ {إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِالْجَنَّةِ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30] بترك لا، فإنه تفسد صلاته. ألا ترى أنه لو تعمد ذلك مع علمه، ويعتقد ذلك يكفر فإذا كان مخطئًا تفسد به الصلاة.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إسقاط حرف من الكلمة بآيات.... مكانها إذا قرأ {حَفِظُواْ عَلَى الصَّلَواتِ والصَّلَوةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] وقرأ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 206] وما أشبه ذلك، فعلى قول أبي حنيفة في ظاهر الرواية، وهو قول عبد الله بن المبارك: لا تفسد صلاته، وهو مذهب ابن مسعود، وعلى قول أبي يوسف وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة تفسد؛ لأنه قرأ ما ليس في مصحف العامة.

.فصل: أن تزاد كلمة لا على وجه البدل:

مسائل هذا الفصل على وجهين.
أحدهما: أن تكون الكلمة الزائدة موجودة في القرآن وإنه على قسمين: إن كان لا يغير المعنى لا تفسد صلاته بالإجماع، نحو أن يقرأ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} [الرحمن: 68] ويقرأ كلوا من ثمره إذا أثمر واستحصد، فعند عامة المشايخ لا تفسد صلاته، وزعموا أن هذا قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف تفسد صلاته. وإن كان يغير المعنى نحو أن يقرأ إنما غلي لهم ليزدادوا إثمًا؟...... لا تفسد صلاته بلا خلاف والله أعلم.

.الفصل السابع في الخطأ في التقديم والتأخير:

وإنه على وجوه: أحدها: أن يقدم بجملة على جملة، ويفهم بالتقديم ما يفهم بالتأخير، نحو أن يقرأ يوم تسود وجوه وتبيض وجوه، أو يقرأ وكتبنا عليهم فيها أن العين بالعين والنفس بالنفس، أو يقرأ العبد بالعبد والحر بالحر، ونحو ذلك لا تفسد صلاته، وإن غير المعنى نحو أن يقرأ إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه، فخافوهم ولا تخافون، تفسد صلاته. وكذلك إذا قرأ إن هذا صراطي مستقيمًا، لا تتبعوه واتبعوا السبل.
والثاني: أن يقدم كلمة على كلمة، ولا يغير المعنى بأن يقرأ لهم فيها شهيق وزفير أو يقرأ...... لا تفسد صلاته، وكذلك إذا قرأ: إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فخافون ولا تخافوهم لا تفسد صلاته، وإن تغير المعنى تفسد صلاته.
في (مجموع النوازل): إذا قرأ إذ الأعناق في أغلالهم لا تفسد صلاته؛ لأن المعنى لم يتغير لأن الأغلال إذا كانت في الأعناق كانت الأعناق في الأغلال أيضًا.
الثالث: أن يقدم حرفًا على حرف، فنقول: تقديم الحرف أبطل الكلمة لا محالة، فيكون الجواب فيه كالجواب فيما إذا ذكر كلمة مكان كلمة قالوا: هذا إذا لم يكن من باب المقلوب، فإن كان من باب المقلوب مثل..... و.....، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد لا تفسد صلاته؛ لأن في المقلوب التقديم، والتأخير سواء، وعلى قول أبي يوسف إن كانت الكلمة الثانية في القرآن أن لا تفسد صلاته، وإن لم تكن في القرآن تفسد والله أعلم.

.الفصل الثامن: في الوقف والوصل والابتداء:

إذا وقف في غير موضع الوقف أو ابتدأ من غير موضع الابتداء وإنه على وجهين؛ الأول: أن لا يتغير به المعنى تغيرًا فاحشًا، لكن الوقف والابتداء قبيح، نحو إن وقف على الشرط قبل ذكر الجزاء ثم ابتدأ في الجزاء، فقرأ {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} [البروج: 11] ووقف ثم ابتدأ بقوله: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] ونحو إن فصل بين النعت والمنعوت والصفة والموصوف، فقرأ {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا} [الإسراء: 3] ووقف وابتدأ ب {ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3] لا تفسد صلاته بالإجماع بين علمائنا رحمهم الله.
الوجه الثاني: أن يتغير به المعنى تغيرًا فاحشًا بأن قرأ {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ} [آل عمران: 18] ووقف ثم قرأ {إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] وقرأ {وَقَالَتِ النَّصَارَى} [البقرة: 113]، ووقف ثم قال: {الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: 17]... وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته عند علمائنا، وعند بعض العلماء تفسد صلاته، والفتوى على عدم الفساد على كل حال؛ لأن في مراعاة الوقف والوصل والابتداء، إيقاع الناس في الحرج، خصوصًا في حق العوام، والحرج مدفوع شرعًا.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا وصل حرفًا من كلمة بكلمة أخرى بأن قرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، ووصل كاف إياك بنون نعبد، أو أقرأ {إِنَّا أَعْطَيْنَكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] ووصل كاف إنا أعطيناك بألف الكوثر، أو {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ووصل الباء بالعين أو ما أشبه ذلك، فعلى قول بعض العلماء تفسد صلاته، وعلى قول العامة لا تفسد صلاته، لأن القارئ عسى لا يجد بُدًّا عن الوقف في مثل هذا الموضع، أما لانقطاع النفس أو غيره، فلو راعينا ذلك يقع الناس في الحرج، وبعض المشايخ ذكروا في ذلك تفصيلًا، فقالوا: إذا علم أن القرآن كيف هو إلا أنه جرى على لسانه هذا لا تفسد، وإن كان في اعتقاده أن القرآن كذلك، تفسد صلاته. وعلى هذا إذا قرأ {إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] بطريق الاستفهام.

.الفصل التاسع في ترك المد والتشديد في موضعهما والإتيان بهما في غير موضعهما:

ترك المد والتشديد في موضعهما، والإتيان بهما في غير موضعهما إن كان لا يغير المعنى، ولا يقبح الكلام لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان يغير المعنى، ويقبح الكلام اختلف المشايخ قال بعضهم: لا تفسد صلاته دفعًا للحرج، وقال عامتهم: تفسد صلاته.
مثال الأول: في ترك التشديد إذا قرأ المعوذتين إنما..... أخذوا وقبلوا بغير التشديد؛ لأنه قريب من قوله قبلوا بالتشديد.
مثال الثاني: إذا قرأ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ النَّاسِ} [الناس: 1] ذكر الرب من غير تشديد وقرأ {وَمَا أُبَرّئ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأمَّارَةٌ بِالسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّي إِنَّ رَبّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [يوسف: 53] ذكر الأمارة بغير تشديد، ولو قرأ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} بغير تشديد قال بعضهم تفسد صلاته؛ لأن.... نعبد، وقال عامتهم لا تفسد؛ لأن هذه قراءة، ولو قرأ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ في جَهَنَّمَ مَثْوًى لّلْكَفِرِينَ} [الزمر: 32] شدد الذال في كذب اختلف المشايخ فيه، ولو قرأ {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وشدد الدال تفسد صلاته بلا خلاف.
ومثال الأول: في ترك المدّ إذا قرأ {إِنَّا أَعْطَيْنَكَ} [الكوثر: 1] بدون المد.
ومثال الثاني: إذا قرأ {سَوَاء عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] بدون المد ونحو إن قرأ {دُعَاء وَنِدَاء} [البقرة: 171] بدون المد اختلف المشايخ فيه، كما في ترك التشديد والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا فرغ المصلي من فاتحة الكتاب، وقال آمين بالمدّ والتشديد فقد قيل تفسد صلاته، وقيل لا تفسد على قول أبي يوسف؛ لأن هذه الكلمة مع المدّ والتشديد منقولة في القرآن، قال الله تعالى {وَلا ءامّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة: 2]، وقيل: لا تفسد على قولهما أيضًا؛ لأن هذه قراءة، وعليه الفتوى.
وينبغي أن يقول آمين بغير مد ولا تشديدًا، أو آمين بالمد دون التشديد، وأصله يا آمين استجب لنا، إلا أنه لما سقط عنه ياء النداء أدخل فيه المد، وأقيم المد مقام النداء، ولو قرأ من بالمد وحذف الياء لا تفسد على قول أبي يوسف؛ لأنه مذكور في القرآن، ولو قرأ آمن بترك المد وحذف الياء ينبغي أن تفسد؛ لأن مثله لا يجد في القرآن والله أعلم.

.الفصل العاشر في اللحن في الإعراب:

إذا لحن في الإعراب لحنًا، فهو على وجهين: إما أن يتغير المعنى بأن قرأ {لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوتَكُمْ} [الحجرات: 2] أو قرأ {إن الذين يفضون أصواتهم} [الحجرات: 3] أو قرأ {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} [طه: 5] بنصب الرحمن، وفي هذا الوجه لا تفسد صلاته بالإجماع. وأما إن غيّر المعنى، بأن قرأ {هو الله الخالق البارئ المصور} [الحشر: 24] بنصب الواو ورفع الميم، وقرأ {وَعَصَى ءادَمُ رَبَّهُ} [طه: 121] بنصب الميم ورفع الباء، أو قرأ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] برفع إبراهيم ونصب الرب، أو قرأ {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] بنصب الجيم، أو قرأ {عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] بكسر الكاف والتاء.
وفي هذا الوجه اختلف المشايخ، قال بعضهم؛ لا تفسد صلاته وهكذا روي عن أصحابنا وهو الأشبه؛ لأن في اعتبار الصواب في الإعراب إيقاع الناس بالحرج، والحرج مرفوع شرعًا.
وروى هشام عن أبي يوسف إذا لحن القارئ في الإعراب، وهو إمام قوم وفتح عليه رجل إن صلاته جائزة، وهذه المسألة دليل على أن أبا يوسف كان لا يقول بفساد الصلاة بسبب اللحن في الإعراب في المواضع كلها، وعن أبي حنيفة..... فيمن قرأ {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] برفع الميم ونصب الباء أنه لا تفسد صلاته، قال: ومعناه سأل إبراهيم ربه فأجابه...... وابتلاؤه وباختباره السؤال هل يجب أولًا بحيث، وسأله مخبرًا..... سواء، لا كما أن الدعاء سؤال، وإن كان بلفظ الدعاء.
وعنه أيضًا إن من قرأ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} بنصب الألف إنه لا تفسد صلاته، ومعناه إنما نجازى على خشية العلماء الله عزّ وجلّ، وهذا كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 7] إلى أن يقال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8].

.الفصل الحادي عشر في ترك الإدغام والإتيان به:

إذا أتى بالإدغام في موضع لم يدغمه أحد من الناس لبعد مخرج الحرفين، وتقبح العبارة وتخرجه عن معرفة معنى الكلمة، نحو أن يقرأ {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] أدغم الغين في اللام، وشدد اللام، فقرأ {ستبلون} وأدغم الحَاء في الشين وشدد السين فقرأ وتسرون فسدت صلاته، وإن أتى بالإدغام في موضع لم يدغم أحد إلا أن المعنى لا يتغير به ويفهم ما يفهم مع الإظهار نحو أن يقرأ {قُلْ سِيرُواْ} أدغم اللام في السين وشدد السين لا تفسد صلاته؛ لأن اللام قد تدغم في الشين، أدغم حمزة والكسائي اللام في الشين في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} [يوسف: 18]، وإذا ترك الإدغام بأن قرأ {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ} أو قرأ: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لّكَلِمَتِ رَبّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] أو قرأ: {قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِندَ اللَّهِ خَالِصَةً مّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 4] وأشباه ذلك، وكذلك كلما التقى الحرفان من جنس واحد، والأول ساكن والآخر متحرك، فلم يدغم الأول في الثاني، أو اجتمع ثلاثة أحرف، والأول ساكن، فلم يدغم الأوسط في الثالث نحو أن يقرأ، {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} [طه: 37] فأظهر النونات الثلاث كلها، أو اجتمع ثلاثة أحرف والأول منهما ساكن، فلم يدغم الأول في الثاني، كما في قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل للَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَاْيْئَسِ الَّذِينَ ءامَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [الرعد: 31]، {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12] وكذلك في نظائره لا تفسد صلاته، لأن فحش من حيث العبارة؛ لأن هذا أراد إلى ما أوجبه أصل موضعها في اللغة، وامتناع عن اختيار التخفيف، وتحمل المشقة في العبارة، وليس فيه المعنى، ولا يقبحه إنما فيه تثقيل العبارة فقط، فكذلك لا تفسد صلاته.

.الفصل الثاني عشر في الإمالة في غير موضعها:

إذا قرأ باسم الله بالإمالة أو قرأ مالك يوم الدين بالإمالة أو قرأ ذلك الكتاب بالإمالة أو قرأ حتى أو قرأ كانتا تحت عبدين وما شاكل ذلك لا تفسد صلاته؛ لأنه لم يغير نظم الحروف، ولا غيّر المعنى الذي وضعت العبارة له، وقد جرت هذه في..... العامة المميز منهم وغير المميز، وقد روي عن أبي يوسف أنه قال ليس كل لحن يفسد الصلاة، ولا يعلم لحن أخف من هذا وروي عن أبي صالح أنه كان يعلم الصبيان..... على الإمالة، ولم يرو عن أحد عن فقهاء السلف في وقته مع صلابتهم في أمر الدين، ومعرفتهم بالأحكام وإقدامهم على النهي، واشتهار هذه القراءة في المساجد، والمحاريب بإنكارها وقد روي أنه مكتوب في مصحف عثمان الذي فيه أثر الدم {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [النساء: 87] وكذلك في أول الإدغام في قرطاس، فلمسوه. وكذلك مكتوب في أول آل عمران آيات الله، وكذلك مكتوب {لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ} [النحل: 51] بالتاء بين اللام والهاء والله أعلم.

.الفصل الثالث عشر في حذف ما هو مظهر وإظهار ما هو محذوف:

أما إظهار ما هو محذوف نحو أن يقرأ {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [الفتح: 25] فيحذف من الميم من هم ويظهر الألف من الذين، وكانت الألف محذوفة في الوصل غير مدغمة، بدلالة أنه لم يخلفها إلا التشديد الذي في اللام هو التشديد الذي هو موجود مع إظهار الألف، ونحو أن يقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَلَمِينَ} [الفاتحة: 2] فأظهر الألف من العالمين وكانت محذوفة، بدليل أنه لم يخلفها تشديد البدل على الإدغام، وهذا لا يفسد الصلاة؛ إذ ليس فيه تغيير المعنى، ولا تغيير النظم إنما ثقل العبارة، وكانت العرب خففوها، ومثل هذا لا يوجب الفساد، وكذلك إذا أظهر حرفين إحداهما محذوفة والآخر مدغمة، نحو أن يقرأ {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى} [الليل: 3] أظهر الألف وكانت محذوفة، وأظهر اللام للتخفيف وكانت مدغمة في الذال لأجل التسهيل لا تفسد صلاته؛ لأن هذا رد اللفظ.
.... أصل موضوعه وامتناع عن اختيار التخفيف من غير أن يكون فيه تغيير المعنى، فلا تفسد صلاته.
وأما حذف ما هو مظهر نحو أن يقرأ وهم لا يظلمون أفرأيت فحذف الألف من أفرأيت، ووصل نون يظلمون بفاء أفرأيت ونحو أن يقرأ: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 104] فحذف الألف من أنهم ووصل النون بالنون، وإنه لا يفسد الصلاة؛ لأنه ليس فيه تغيير المعنى، ولا يصبح الحكم، وقد اختلف القرّاء في حذف ألف..... من هذه نحو قوله: {قَدْ أَفْلَحَ}، بل أتيناهم من أجل ذلك، وفي مصحف عثمان مكتوب في الصافات {لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْرًا مّنَ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 168] بحذف الألف من أن.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا قرأ ألهاكم، القارعة، الحاقة وحذف اللام، فإنه تفسد صلاته؛ لأن فيه تغيير المعنى الذي مع اللام، ويصير الكلام أفحش من كلام الناس.

.الفصل الرابع عشر في ذكر بعض الحروف من الكلمة:

إذا ذكر بعض الكلمة وما أتمها، إما لانقطاع النفس، أو لأنه نسي الباقي ثم تذكر، فذكر الثاني نحو أراد أن يقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ} [الفاتحة: 2]، فلما قال: (أل) انقطع نفسه أو نسي الباقي ثم تذكر، فقال (حمد لله) ولم يذكر الباقي، نحو إن قرأ فاتحة الكتاب، والسورة ثم نسي قراءته، فأراد أن يقرأ فلما قال إن تذكر أنه قد كان قرأ، فترك ذلك وركع أو ذكر بعض الكلمة، وترك تلك الكلمة ثم ذكر كلمة أخرى، وفي هذه الصور كلها وما شاكلها تفسد صلاته عند بعض مشايخنا، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني.
ومن المشايخ من فصّل الجواب تفصيلًا، فقال: إن ذكر شطر كلمة لو ذكر كلها يوجب ذلك فساد الصلاة، فذكر شطرها يوجب فساد الصلاة، وإن ذكر شطر كلمة ذكر كلها لا يوجب فساد الصلاة، فذكر شطرها لا يوجب فساد الصلاة، وذكر الشيخ الإمام نجم الدين النسفي في الخصائل، في فصل زلة القارئ هذه المسألة.
وفرّق بين الاسم وبين الفعل، فقال في الاسم نحو الحمد لا تفسد صلاته إذا ذكر البعض وترك البعض، وفي الفعل إذا ذكر البعض، وترك البعض نحو إن أراد أن يقرأ تشكرون، فقال تش وترك الباقي تفسد صلاته.
والفرق: أن الألف واللام في الأسماء زوائد، وترك الزائد لا يفسد الصلاة، فأما في الأفعال الكل يكون أصلًا، وترك الأصل يوجب الفساد إلا أن هذا الفرق إنما يستقيم فيما إذا قال أل في الحمد وترك الباقي، فأما إذا قال الح وترك الباقي.....، هذا الفرق، فتفسد الصلاة ومن المشايخ من قال إن كان لما ذكر من الشطر وجهًا صحيحًا في اللغة، ولا يكون لغوًا ولا يتغير به المعنى ينبغي أن لا يوجب فساد الصلاة وإن كان الشطر المفرد لا معنى له ويكون لغوًا أو إن لم يكن لغوًا أو يكون مغير للمعنى يوجب فساد الصلاة وصيانة الصلاة في هذا أكثر، وعامة المشايخ على أنه لا تفسد؛ لأن هذا مما لا يمكن التحرز عنه، فصار كالتنحنح المرفوض في الصلاة.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا خفض صوته ببعض حروف الكلمة والصحيح أنه لا تفسد صلاته، لأن فيه بلوى العامّة.

.الفصل الخامس عشر في إدخال التأنيث في أسماء الله:

إذا قرأ في صلاته {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الله في ظلل من الغمام} [البقرة: 210] قال علي بن محمد الأديب الزندواني تفسد صلاته؛ لأن التأنيث لا يجوز إدخاله في أسماء الله تعالى كما لا يجوز قوله تعالى: {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وكما لا يجوز في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] وأشبهها ذلك. وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه لا تفسد صلاته؛ لأن الإتيان فعلى غير الله تعالى، ولا فرق في ذلك بين التذكير والتأنيث، وبعض مشايخنا صححوا ما ذكره الفضل من الجواب، ولكن أشاروا إلى معنى آخر، فقالوا إنما لا تفسد صلاته في هذه الصور بإضمار الكلمة وصار تقديرًا؛ لأن {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} [البقرة: 210] كلمة الله كما في وجه القراءة بالياء، ليس المراد إتيان الله، بل المراد إتيان أمر الله، هكذا في القراءة بالياء يكون المراد، إتيان كلمة الله، ويمكن أن يقال أما تقدم ذكر الملائكة في القراءة، ويصير تقديرًا،؛ لأنه {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة في ظلل في الغمام} والله والتقديم والتأخير شائع في اللغة والله تعالى أعلم.

.الفصل السادس عشر في التغني والألحان:

هذا الفصل على وجهين: إن كانت الألحان لا تغير الكلمة عن وصفها، ولا يؤدي إلى تطويل الحروف التي حصل التغني لها، حتى لا يصير الحرف حرفين، بل...... تحسين الصوت ويزيّن القراءة لا يوجب ذلك فساد الصلاة، وذلك مستحب عندنا في الصلاة، وخارج الصلاة، وإن كان يغير الكلمة عن وضعها يوجب فساد الصلاة؛ لأن ذلك منهي، وإنما يجوز إدخال المد في حروف المد واللين والهوائية، والمعتل نحو الألف والواو والياء والله أعلم.

.فصل الركوع:

اختلف المشايخ في وقت الركوع؛ عامتهم على أن وقته بعد ما فرغ من القراءة، وبعضهم قالوا: إذا أتم بقية القراءة في حالة للركوع، لا بأس به بعد أن يكون ما بقي من القراءة حرفًا أو كلمة. والأول أصح، لأن القراءة شرعت في القيام المحض، فلا يؤمر بها في حالة الركوع، وإذا ركع يضع يديه على ركبتيه ويفرج أصابعه؛ لأن هذا أمكن الأخذ، وقد قال عمر رضي الله عنه: أمرنا بالركب، فخذوا بالركب. ولا يطبق عندنا، وكان ابن مسعود وأصحابه يقولون بالتطبيق.
وصورته: أن يضم أحد الكفين إلى الأخرى، ويرسلهما بين فخذيه، حجتنا في ذلك ما روي أن سعد ابن أبي وقاص رأى ابنًا له يطبق فيها، فقال: رأيت عبد الله يفعله، فقال سعد رحمه الله أن أم عبد..... أمرنا بهذا ثم نهانا عنه...... أبي هريرة، وعائشة رضي الله عنهما أن رسول الله عليه السلام كان إذا ركع بسط ظهره حتى لو وضع على ظهره قدح من ماء لاستقر، فلا ينكس رأسه ولا يرفعه.
معناه: فسوى رأسه بعجزه لما روي عن رسول الله عليه السلام، نهى أن يذبح المصلي بذبح الحمار يعني إذا.... البول أو أراد أن يتمرغ، فإذا اطمأن راكعًا رفع رأسه، والطمأنينة (ليست) بفرض عند أبي حنيفة ومحمد حتى لو تركها لا تفسد صلاته، وعند أبي يوسف والشافعي فرض، حتى لو تركها تفسد صلاته.
والحاصل: أن الركنيّة متعلقة بأدنى ما ينطلق عليه اسم الركوع عند أبي حنيفة ومحمد والطمأنينة المفضلة والكمال عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف والشافعي الركنية متعلقة بالطمأنينة، ولم يذكر الخلاف في ظاهر الرواية. ولكن ذكر المعلى في (نوادره) عن أبي يوسف قال سألت أبا حنيفة: عمن لم يقم صلبه في الركوع والسجود، وقال: تجزيه صلاته، قال أبو يوسف: وأنا أقول لا تجزيه صلاته.
وفي كتاب (البرامكة) أن رجلًا سأل أبا حنيفة عمن لم يقم صلبه في صلاته، قال: الشيء خير من لا شيء، وفي صلاة.... عن هشام عن محمد مسألة تدل على أن قول محمد مع أبي حنيفة، وسيأتي قبل قول أبي يوسف، ولكن مشايخنا ذكروا قول محمد مع أبي حنيفة، وستأتي الحجج من الجانبين بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن طأطأ رأسه في الركوع قليلًا ولم يعتدل، ظاهر الجواب عن أبي حنيفة أنه يجوز، وروى الحسن عنه أنه إن كان إلى الركوع أقرب يجوز، وإن كان إلى القيام أقرب لا يجزيه، وقال بعض مشايخنا: إذا كان بحال لو نظر الناظر إليه من بعيد لم يشكل عليه أنه في الصلاة يجوز. وإن أشكل عليه أنه في الصلاة أو خارج الصلاة لا تجزيه...
السجود السنّة في السجود أن يسجد على الجبهة، والأنف واليدين والقدمين، وأما فرض السجود يتأدى بوضع الجبهة والأنف والقدمين في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد يتأدى بوضع الأنف إلا إذا كان بجبهته عذر.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر الأنف، وهو اسم لما صلب من الأنف دليل على أنه لا يكفيه أن يسجد على ما لان من الأنف، وهو الأرنبة، وإنّ عليه إن تمكن بما صلب من أنفه على الأرض بقدر الممكن، والسجود على اليدين والركبتين ليس بواجب عندنا، وقال زفر والشافعي: هو واجب.
ولو سجد على كور عمامته جاز ويضع يديه في السجود حذاء أذنيه ويوجه أصابعه نحو القبلة ويعتمد على راحتيه ويبدي ضبعيه والمرأة في السجود تلزق بطنها بفخذيها وعضديها بجسمها؛ لأن ذلك أستر لها، ويعتدل في سجوده، ولا يفترش ذراعيه، وتفسير الاعتدال الطمأنينة، وإنه ليس بفرض عند أبي حنيفة ومحمد، ولكن لو ترك يكره أشد الكراهة، رأيت في بعض الشروح روي عن أبي حنيفة أنه قال: أخشى أن لا تجوز صلاته، والمرأة تلصق بطنها بركبتيها، ولا تجافي عضدها، وهي في الباقي كالرجل، ثم الاعتدال في الركوع والسجود إذا لم يكن فرضًا عند أبي حنيفة يكون واجبًا أو سنة عنده، قال أبو عبد الله الجرجاني هو سنة، لو تركها ساهيًا تلزمه سجدة السهو، ولو تركه متعمدًا ذكر صدر الإسلام أنه تلزمه الإعادة، وهاهنا كلمات كثيرة تأتي في فصل ما ينبغي للمصلي أن يفعله في صلاته.

.فصل القعدة الأخيرة:

يجب أن يعلم بأن القعدة الأخيرة فرض عندنا، وقدر الفرض فيها مقدار قراءة التشهد، والسنّة في القعدة الأولى والثانية أن يفترش رجله اليسرى، فيقعد عليها وينصب اليمنى نصبًا، وتقعد المرأة كأستر ما يكون لها والله تعالى أعلم.

.فصل للقومة التي بين الركوع والسجود:

والجلسة بين السجدتين ليست بفرض وهو قول محمد، وقال أبو يوسف: العود إلى القيام والجلسة فرض، وعن أبي حنيفة أن الانتقال فريضة، فأما رفع الرأس من الركوع والعود إلى القيام، فليس بفرض، وهو الصحيح من مذهبه، والصحيح مذهب أبي حنيفة أن المأمور الركوع والسجود، والركوع عبارة عن الميلان وانحناء الظهر، يقال ركعت الشجرة.... إذا مالت.
والسجود عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، وإذا انتقل إلى السجود من الركوع، فقد حصل الميلان، ووضع الجبهة على الأرض مكان..... بالركوع، والسجود مكان..... بالمأمور به، إلا أن الانتقال إلى السجدة من السجدة بدون رفع الرأس لا يمكن، فيشترط رفع الرأس لتحقق الانتقال، لا؛ لأن رفع الرأس فرض بنفسه، حتى لو تحقق الانتقال من السجدة إلى السجدة من غير رفع الرأس بأن سجد على وسادة، ثم نزعت الوسادة من تحت رأسه وسجد على الأرض يجوز، ولا يشترط رفع الرأس، هكذا ذكر القدوري في كتاب شيخ الإسلام في (شرحه) على رواية التي شرط رفع الرأس من الركوع يكتفي بالتي ما ينطلق عليه اسم الرفع.
وكذلك في السجدة إذا شرطنا رفع الرأس يكتفي بالتي ما ينطلق عليه الاسم، والعود إلى القيام عند رفع الرأس من الركوع، والجلسة بين السجدتين إن لم يكن فرضًا عند أبي حنيفة، فهو سنّة عنده، بلا خلاف، هكذا ذكر الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، والله تعالى أعلم.

.فصل الخروج عن الصلاة بفعل المصلي:

قال أبو حنيفة الخروج من الصلاة بفعل المصلي فرض، وذلك بأن يبني على صلاته صلاة، إما فرضًا أو نفلًا، أو ضحك قهقهة أو أحدث عمدًا، أو تكلم أو يذهب أو يُسلّم، وقالا: ليس بفرض، وثمرة الخلاف تظهر فيما إذا طلعت الشمس بعد ما قعد قدر التشهد، ولم يسلم ولم يفعل شيئًا مما ذكرنا فسدت صلاته عند أبي حنيفة، خلافًا لهما، وينبني على هذا اثنتا عشرة مسألة.
وأما واجبات الصلاة فالمذكور في شروح المشايخ أنها سنّة.
إحداها: تعديل الأركان عند أبي حنيفة ومحمد.
والثانية: تعيين الفاتحة للقراءة في الأوليين، والاقتصار على قراءتها مرة، وتقديمها على السورة، وتعيين الأوليين لقراءتها وقراءة ثلاث آيات بعدها، وقراءة الفاتحة في الأخريين عندهما في ظاهر الرواية عند الكل في رواية الحسن بن زياد.
والثالثة: القعدة الأولى من ذوات الأربع والثلاث من الفرائض والواجبات.
والرابعة: قراءة التشهد في القعدة الأولى والأخيرة.
والخامسة: قراءة القنوت في الوتر، والسادسة: تكبيرات صلاة العيدين.
وهاهنا أشياء أخرى من جملة الواجبات.
إحداها: الجهر فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت، والإنصات عند قراءة الإمام للمقتدي، ومتابعة الإمام على أي حال و..... إن لم يكن..... من صلاته، وسجدة التلاوة وسجدتي السهو.
وأما سنن الصلاة فمن جملتها رفع اليدين مقارنًا لتكبيرة الافتتاح، وقد ذكرنا المسألة مع فروعها في فصل تكبيرة الافتتاح، ومن جملتها نشر الأصابع عند رفع اليدين وجهر الإمام بالتكبير إعلامًا للناس بالشروع، وتكبير المقتدي في أقل القيام مع الإمام عند أبي حنيفة، وبعد تكبير الإمام عندهما، وقد مرت المسألة من قبل، والتعوذ و.... والتعوذ لأجل القراءة، عند محمد، فيأتي به من يقرأ وحين يقرأ حتى قال لا يتعوذ المقتدي، والمسبوق، إذا قام إلى قضاء ما سبق يتعوذ وعند أبي يوسف التعوذ يتبع الثناء، فيتعوذ المقتدي، ولا يتعوذ المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق والتسمية وأثناء، والتأمين يأتي بها الإمام والقوم جميعًا.
وكفوفه الاعتماد بيمناه على يساره، ويكون موضع الوضع تحت السرة عندنا، والتكبيرة إذا انحط للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع، والتسبيح في الركوع ثلاثًا، وأخذ الركبتين باليدين في الركوع، وتفريج الأصابع، والتكبير إذا خرّ ساجدًا، والتسبيح في السجود ثلاثًا وافتراش رجله اليسرى، والقعود عليها وينصب اليمنى نصبًا، وقد مرّت المسألة من قبل.
والصلاة على النبي عليه السلام عند القعود، والدعاء بما يشبه ألفاظ القرآن، ولا يشبه كلام الناس.
وقد قيل: رفع سبابة اليد اليمنى في التشهد عند قوله؛ أشهد أن لا إله إلا الله عند أبي حنيفة ومحمد والشافعي، وقال في ظاهر الأصول: لا يرفعها، وكذا روي عن أبي يوسف، وقد قيل قراءة الفاتحة في الأخريين في الفرائض سنة، والخروج بلفظ السلام والسلام عن يمينه ويساره سنّة.
ومن جملة السنن الأذان ومسائله أنواع نوع في بيان صفته.
فنقول: إنه من سنن الصلاة، وبعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله قالوا إنه واجب، والصحيح أنه سنّة، وعليه عامة المشايخ إلا أنه سنّة مؤكدة، ثبت ذلك بفعل النبي عليه السلام، وإجماع الصحابة ومن بعدهم وروي عن أبي حنيفة في يوم صلوا في مسجد بغير أذان ولا إقامة أنهم أخطئوا إلى السنّة لما مرّ أن الأذان سنّة مؤكدة، والإعراض عنه يكون خطًا، وروي عن محمد أنه قال: إذا اجتمع أهل بلدة على ترك الأذان قاتلناهم، ولو ترك واحد ضربته وحبسته، وكذلك سائر السنن.
وقال أبو يوسف: إذا امتنعوا عن إقامة الفرض، نحو صلاة الجمعة وسائر الفرائض وأداء الزكاة يقاتلون، ولو امتنع واحد ضربته، وأما السنن نحو صلاة العيد، وصلاة الجماعة والأذان فإني آمرهم وأضربهم ولا أقاتلهم لتقع التفرقة بين الفرائض والسنن. ومحمد رحمه الله يقول: الأذان وصلاة العيد، ونحو ذلك، وإن كانت من السنن إلا أنها من إعلام الدين، فالإصرار على تركها استخفاف بالدين، فيقاتلوا على ذلك.
لهذا وقد نقل عن مكحول أنه قال: السنّة سنّتان سنّة أحدها: هدي وتركها لا بأس به، وسنّة أحدها: هدي وتركها ضلالة كالأذان والإقامة وصلاة العيد والجماعة، يقاتلون على الضلالة إلا أن الواحد إذا ترك ذلك يُضرب ويحبس، لتركه سنّة مؤكدة، ولا يقاتل؛ لأن فعله لا يؤدي إلى استخفاف بالدين.

.نوع في بيان سبب ثبوت الأذان:

وقد تكلموا فيه، قال بعضهم: نزل به جبريل صلوات الله عليه حتى قال كثير بن مرة أذن جبريل في السماء فسمعه عمر بن الخطاب، وعن أبي جعفر محمد بن علي أن النبي عليه السلام حين أسري به إلى المسجد الأقصى، وجمع له النبيون أذن ذلك وأقام، فصلى بهم رسول الله عليه السلام.
والأشهر من ذلك روي أن النبي عليه السلام لمّا قدم المدينة كان يؤخر الصلاة تارة ويعجلها أُخرى، فاستشار الصحابة في علامة يعرفون بها وقت أداء الصلاة، ليكلا تفوتهم الجماعة، فقال بعضهم؛ ننصب راية، فلم يعجبه ذلك، وأشار بعضهم بضرب الناقوس، فكره لأجل النصارى، وبعضهم بالنفخ في الصور فكره لأجل اليهود، وبعضهم بالبُوق فكره؛ لأجل المجوس فتفرقوا قبل أن يجتمعوا على شيء.
قال عبد الله بن زيد بن عبد ربّه الأنصاري رضي الله عنه: فبت لا يأخذني النوم، وكنت بين النائم واليقظان إذ نزل شخص من السماء، وعليه ثوبان أخضران، وفي يده شبه الناقوس، فقلت أتبيعيني هذا؟ فقال ما تصنع به؟ فقلت: نضربه عند صلاتنا، فقال: أنا أدلك على ما هو خير منه فقلت: نعم، فقام إلى هدم حائط مستقبل القبلة، وقال: الله أكبر الله أكبر الأذان المعروف ثم سكت هنيهة، ثم قام فقال مثل مقالته الأولى، وزاد في آخره؛ قد قامت الصلاة مرتين، فأتيت رسول الله عليه السلام، وأخبرته بذلك، فقال عليه السلام: رؤيا صدق أو قال رؤيا حق ألقها على بلال، فإنه أندى صوتًا منك، فألقيتها عليه، فقام على سطح بيت امرأة أرملة بالمدينة وجعل يؤذن، فجاء عمر رضي الله عنه وهو في إزار وهو يهرول، ويقول: لقد طاف بي ما طاف بعبد الله بن زيد إلا أنه سبقني، فقال عليه السلام الحمد لله أنه لا، ورُوي أن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم رؤوا تلك الرؤيا في ليلة واحدة.

.نوع آخر في بيان ما يفعل فيه:

المستحب للمؤذن أن يستقبل القبلة استقبالًا، هكذا روي عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه عن النازل من السماء، فلأن قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح دعاء إلى الصلاة، وخطاب للناس بالحضور، وما قبله وبعده ثناءً على الله، فما كان ثناءً يستقبل القبلة، وما كان دعاء للناس يحول وجهه يمينًا وشمالًا، ليتم سماع جميع الناس ذلك، ومن الناس من يقول إذا كان يصلي وحده لا يحول وجهه؛ لأنه لا حاجة إلى الإعلام، وهو قول شمس الأئمة الحلواني.
والصحيح: أنه يحول على كل حال؛ لأنه صار سنّة الأذان، فيؤتى به على كل حال، قال حتى قالوا في الذي يؤذن لمولود: ينبغي أن يحول وجهه يمنةً ويسرةً عند هاتين الكلمتين، وإن استدار في الصومعة فحسن؛ لأنه دعاء إلى الصلاة، فيحتاج فيه إلى ذلك لإسماع الجميع، وهذا الأداء لم يستطع سنة الصلاة والفلاح، وهو تحويل الرأس يمينًا وشمالًا مع ثبات قدميه لاتساع الصومعة، فأما بغير حاجة، فلا يفعل ذلك، ويؤذن قائمًا لما روينا أن النازل من السماء قام على هدم حائط وأذن، ولتوارث الأمة ذلك.
وإن أذن راكبًا ففي السفر لا بأس به، ويؤذن حيث كان وجهه، هكذا روي عن أبي يوسف وينزل للإقامة، فأما الأذان والإقامة راكبًا في الحضر، فظاهر الرواية أنه يكره أن يؤذن راكبًا، وعن أبي يوسف أنه لا بأس به، وإن لم ينزل المسافر للإقامة، وأقام كذلك أجزأه لحصول المقصود، وإن اقتصر المسافر على الإقامة وترك الأذان جاز؛ لأن السفر عذر مسقط شطر الصلاة، فلا يكون مسقطًا أحد الأذانين أولى، وإن تركهما أو ترك الإقامة، فقد أساء.
وذكر في (الجامع الصغير): جازت صلاته ويكره، ويكون التكبير الأول في الأذان أربعًا الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر وقال مالك مرتين، وهكذا روي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول، وقيل: إنه قول الحسن بن زياد، اعتمادهم على حديث أبي محذورة، قال: علمني رسول الله عليه السلام الأذان، وقال الله أكبر مرتين، وقياسًا على الطرف الأخير من الأذان.
ولنا: أن النازل من السماء كرر التكبير الأول أربعًا؛ ولأنه لما شرع في آخره مرتين يجب أن يكون في أوله ضعف ذلك قياسًا على التهليل، ويختم الأذان بالتهليل لا إله إلا الله عندنا، وعند مالك بالتكبير لا إله إلا الله والله أكبر، وهو قول أهل المدينة، ومن الناس من قال: إذا قال: لا إله إلا الله يقول بعده محمد رسول الله في نفسه، فيسمع نفسه، فمالك قاس الانتهاء على الابتداء، ونحن اعتمدنا على حديث عبد الله بن زيد، وهو حكى أن النازل من السماء ابتدأ بالتكبير وختم بالتهليل.
ولا يرجّع في الأذان عندنا، وقال مالك والشافعي فيه ترجيع، وذلك أن يبتدئ بالشهادتين يريد به أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدًا رسول الله يخفض بهما صوته، ثم يرجع إليهما فيرفع بهما صوته، لهما حديث أبي محذورة أن النبي عليه السلام علمه الأذان تسعة عشر كلمة والإقامة سبعة عشر كلمة، وأن يكون الأذان تسعة عشر كلمة إلا بالترجيع، وروي أنه أمره بالترجيع نصًّا:
ولنا: حديث عبد الله بن زيد فهو الأصل في الأذان، وليس فيه ذكر الترجيع؛ ولأنه أحد الأذانين، فلا يسن فيه ترجيع الشهادتين كالإقامة بل أولى؛ لأنه زيد في الإقامة ما ليس في الأذان، فلا يحذف عنهما ما كان مشروعًا في الأذان، وأما حديث أبي محذورة، فقد ترك الخصم الأخذ به في حق الإقامة؛ لأن عند الشافعي الإقامة تكون أحد عشر كلمة، فلا يجوز تعلقه به في حق الأذان، ثم إن ما أمره النبي عليه السلام بذلك؛ لأنه كان مؤذن مكة وكان في ابتداء إسلامه، فلما انتهى إلى ذكر رسول الله عليه السلام أنه خفض صوته استحياءً من أهل مكة؛ لأنه كان حديث العهد بالإسلام (فأمسك) رسول الله عليه السلام أذنه، وأمره بأن يعود، فيرفع صوته ليكون تأديًا.
قال والأذان والإقامة مثنى مثنى عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: الإقامة فرادى إلا قوله قد قامت الصلاة، فإنها مرتين لحديث أنس رضي الله عنه أن النبي عليه السلام «أمر بلالًا أن يشفع الأذان، ويوتر الإقامة»؛ ولأن الأذان لإعلام الغائبين، والتكرار فيه أبلغ والإقامة لإقامة الصلاة، والإفراد بها يكون أعجل لإقامة الصلاة، فهي أولى.
ولنا: حديث عبد الله بن زيد فهو الأصل. وقد حكى فيه الإقامة مثل الأذان، ولأن المحض بالإقامة قوله قد قامت الصلاة، ولا إفراد في هذه الكلمة، ففي غيرها أولى، وحديث أنس فمعناه أمر بلالًا أن يؤذن بصوتين ويقيم بصوت واحد والأفضل للمؤذن أن يجعل أصبعيه في أذنيه قال عليه السلام (لبلال) رضي الله عنه: «إذا أذنت فاجعل أصبعيك في أذنيك، فإنه أندى وأرفع لصوتك»، ولأن المقصود من الأذان الإعلام، وذلك برفع الصوت وجعل الإصبعين في الأذنين يزيد في رفع الصوت، وعن هذا قلنا الأولى أن يؤذن حيث يكون أسمع للجيران، وإن ترك ذلك لم يضره.
وقال في (الجامع الصغير): فهو حسن، قالوا خلاف السنّة كيف يكون حسنًا؟ والجواب أنه ليس بسنّة أصلية؛ أنه ليس في حديث النازل من السماء ذلك، ولكن أمر رسول الله عليه السلام بلالًا بذلك؛ لأن صوته يدخل أذنه، فربما يضعفه فإذا كان ذلك لا يؤثر فيه لا يكون بتركه بأس ولا يجهد نفسه لما روي أن عمرًا رضي الله عنه رأى مؤذنًا يجهد نفسه في الأذان فقال: أما يخاف أن تنقطع من تطاولك والتثويب في الفجر حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح بين الأذان والإقامة حسن، ويكره التثويب في سائر الصلوات، هذا هو لفظ (الجامع الصغير)، وذكر في (الأصل) ولا تثويب إلا في صلاة الفجر عندنا، والأصل فيه قوله عليه السلام لبلال رضي الله عنه «ثوِّب في الفجر، ولا تثوب في غيرها».
والمعنى في المسألة أن وقت الفجر وقت نوم وغفلة، فاستحسنوا زيادة الإعلام لتنبيه الناس، فيدركون فضيلة الصلاة بالجماعة، أما أوقات سائر الصلوات أوقات انتباه، فلا حاجة إلى التثويب فيها، وقال يعقوب: لا أرى بأسًا أن يذهب المؤذن إلى باب الأمير في جميع الصلوات، ويقول السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح الصلاة يرحمك الله؛ لأن له زيادة شغل للنظر في أمور الرّعية، وتسوية أمر الجند مستحب في حقه، وزيادة إعلام، وكذلك كل من اشتغل لمصالح المسلمين كالمفتي والقاضي يُخص بنوع إعلام، والمعنى أنه لو لم يخص بنوع الإعلام لا يعرف هو وقت الحضور فربما يحضر كما يسمع الأذان، ولم يحضر القوم بعد، فيحتاج إلى انتظار القوم، فتتعطّل مصالح المسلمين. ومشايخنا رحمهم الله اليوم لم يروا بالتثويب بأسًا في سائر الصلوات في حق جميع الناس فلا بأس لأنه حدث تكاسل في الأمور الدينية، واشتغلوا بأمور زائدة من أمور الدنيا، وتغافلوا عن أداء الصلاة لأوقاتها، فنزل سائر الأوقات في زماننا منزلة صلاة الفجر في زمن رسول الله عليه السلام، ثم على ما اختاره المشايخ من التثويب في سائر الصلوات في زماننا يعتبر في ذلك ما يتعارفه كل قوم، حكي عن محمد بن سلمة أنه كان يتنحنح وكان عادة أهل سمرقند قبل هكذا، واختار مشايخ بخارى الصلاة الصلاة..... قامت قامت.
وعن أبي حنيفة رحمه الله: أنه ينبغي للمؤذن أن يمكث بعد الأذان قدر ما يقرأ الإنسان عشرين آية ثم يثوب ثم يصلي ركعتي الفجر ثم يمكث قليلًا ثم يقيم، وعن أبي يوسف أن التثويب بعد الأذان ساعة، قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): التثويب الذي يثوب الناس في الفجر بين الأذان والإقامة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين حسن، وهو التثويب المحدث، ولم يبين التثويب القديم.
وذكر في (الأصل): أن التثويب الأول في صلاة الفجر بعد الأذان الصلاة خير من النوم، فأحدث الناس هذا التثويب، وهو حسن، ولم يبين المحدث بعض مشايخنا رحمهم الله، قالوا: أراد محمد رحمه الله بقوله في (الأصل)، فأحدث الناس هذا التثويب فأحدث الناس مكان التثويب لا نفس التثويب، فإن التثويب الأول في صلاة الفجر الصلاة خير من النوم بعد الأذان، فالناس جعلوها في الأذان، ولكن هذا مُشكل، فإن محمدًا رحمه الله أضاف الإحداث إلى الناس، وإدخال هذا التثويب في الأذان غير مضاف إلى الناس، بل هو مضاف إلى بلال، فإنه هو الذي أدخل هذا التثويب في الأذان ولكن بأمر رسول الله عليه السلام.
فإنه روي أن بلالًا أتى النبي يؤذنه في الصلاة، فوجده راقدًا فقال: الصلاة خير من النوم، فانتبه النبي عليه السلام، وقال: «ما أحسن هذا يا بلال اجعله في أذانك»، ومن المشايخ من قال: أراد بقوله، فأحدث هذا التثويب نفس التثويب، فإن التثويب الأول الصلاة خير من النوم، ثم إن التابعين، وأهل الكوفة أحدثوا هذا التثويب، وهو قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين بين الأذان والإقامة، ولفظ (الجامع الصغير) يدل على هذا.
فإن لفظ (الجامع الصغير) التثويب الذي يثوب الناس في الفجر بين الأذان والإقامة حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين حسن، هذا هو التثويب المحدث، وروي عن أبي حنيفة أيضًا ما يدل على صحة هذا القول، فإنه روي عنه أن التثويب الأول كان في صلاة الصبح، ولم يكن في غيرها، وكان «الصلاة خير من النوم»، فأحدث الناس حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح مرتين، وهو حسن.
ومعنى التثويب العود إلى الإعلام بعد الإعلام الأول مشتق من قولهم ثاب إلى المريض نفسه إذا برأ وعاد إلى الصحة، وأصل اللغة ثاب يثوب بمعنى رجع والكعبة تسمى مثابة؛ لأن الناس يرجعون إليها مرة بعد مرة، وإنما سمي هذا التثويب الذي أحدثه الناس حسنًا، لأنهم رأوه حسنًا، وقد قال عليه السلام «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» قال ويترسّل في الأذان، ويحدر في الإقامة، قال عليه السلام لبلال: «إذا أذنت فترسّل، وإذا أقمت فاحدر» وأن يرسل في الإقامة، ويحدر في الأذان، أو يرسل فيهما أو يحدر فيهما فلا بأس.

.نوع آخر في أذان المحدث والجنب وبيان من يكره أذانه ومن لا يكره:

قال محمد رحمه الله: في مؤذن أذن على غير وضوء وأقام: أجزأه ولا يعيد، والجنب أحب إليَّ أن يعيد وإن لم يعيد أجزأه. يجب أن يعلم بأن الكلام هنا في فصلين في الكراهة، وفي الإعادة.
أما الكلام في الكراهة، فنقول: ذكر بعض المشايخ في شروحهم تكره الإقامة مع الحدثين باتفاق الروايات؛ لأنه يقع الفعل بين الإقامة والصلاة، وموضوع الإقامة يتصل بها أداء الصلاة، وكذلك يكره الأذان مع الجنابة باتفاق الروايات، وفي كراهته مع الحدث روايتان: فعلى الرواية التي قال: يكره الأذان مع الحدث، قاس الأذان على الإقامة، وجمع بينهما بمعنى جامع، وهو أن الأذان بينهما بالصلاة حتى يقام مستقبل القبلة، إلا أنه ليس بصلاة على الحقيقة، والصلاة بدون الطهارة لا تجوز أصلًا فما كان مشبهًا بالصلاة يجوز مع الكراهة، وعلى الرواية التي لا يكره الأذان مع الحدث.
فرقٌ بين الأذان والإقامة؛ ووجه ذلك: أن كراهة الإقامة مع الحدث، إنما كان لئلا يقع الفصل فيه بين الإقامة والصلاة، وإنه غير مشروع، وهذا المعنى لا يتأتى في الأذان؛ لأن الفصل بين الأذان والصلاة مشروع.
ثم في الأذان فرق بين الجنابة وبين الحدث على إحدى الروايتين فقال: لا يكره الأذان مع الحدث، ويكره مع الجنابة.
ووجه ذلك ما ذكرنا: أن للأذان شبهًا بالصلاة إلا أنه ليس بصلاة على الحقيقة، ولو كان صلاة لا يجوز مع الحدث والجنابة، فإذا كان مشبهًا بالصلاة.
قلنا: يكره مع الجناية اعتبارًا لجانب الشبه، ولا يكره مع الحدث اعتبارًا لجانب الحقيقة إلا أنا اعتبرنا جانب الشبه في الجنابة، ولم نعتبر في الحدث؛ لأنا لو اعتبرنا في الحدث يلزمنا اعتباره في الجنابة من طريق الأولى؛ لأن الجنابة أغلظ الحدثين، فحينئذٍ يتعطل جانب الحقيقة، فاعتبرنا جانب الشبه في الجنابة، ولم نعتبره في الحدث لهذا.
وبعض مشايخنا ذكروا في شروحهم عن أبي حنيفة أن أذان المحدث، وإقامته جائزة من غير كراهة، وهو رواية عن أبي يوسف؛ لأن الأذان والإقامة لا يدنوا درجتها على درجة القرآن، ثم المحدث لا يمنع من قراءة القرآن، هكذا لا يمنع من الأذان والإقامة.
وأما الكلام في الإعادة، فأذان المحدث لا يعاد، وكذلك إقامته، وأذان الجنب، وإقامته تعاد على طريق الاستحباب، وفي رواية اختلط حكم الجنابة وجهه حكم الحدث، وفي رواية لا يعاد، قال بعض مشايخنا: والأشبه أن يقال: يعاد أذان الجنب ولا تعاد إقامته؛ لأن تكرار الأذان مشروع في الجملة كما في صلاة الجمعة، فأما تكرار الإقامة، فغير مشروع أصلًا.
ثم إن محمدًا رحمه الله، قال: في الجنب أحب إليّ أن يعيد، وإن لم يعد أجزأه، قيل تحتمل أن يكون معنى قوله أجزأه جواز الصلاة بغير أذان، وتحتمل الجواز في أصل الأذان لحصول المقصود.
قال في (الأصل) وليس على النساء أذان ولا إقامة؛ لأن الأذان والإقامة من سنّة الصلاة بجماعة، وليس على النساء الصلاة بجماعة، فلا يكون عليهن أذان ولا إقامة، وإن صلين بجماعة وصلين بغير أذان وإقامة، وإن صلين بأذان وإقامة جازت صلاتهن مع الإساءة.
قال في (الجامع الصغير) والمرأة إذا أذّنت يعاد أذانها، وإن لم يعيدوا جاز، هكذا ذكرنا، وذكر في (الأصل) ويكره أذان المرأة، ولم يذكر أنه هل يعاد؟، ووجه الكراهة: أنه رفع الصوت منها معصية رفعت صوتها تكتب المعصية، وإن لم ترفع صوتها، فقد أخلت بما هو المقصود من الأذان، وهو الإعلام وقوله في (الكتاب) وإن لم يعيدوا أجزأه، فيحتمل جواز الصلاة بغير أذان، ويحتمل الجواز في أصل الأذان على ما مرّ.
ولم يذكر في (الجامع الصغير) حكم أذان الصبي، وذكر القدوري في (شرحه): وإن آذان الصبي (الذي) لا يعقل أو مجنون يُعاد ذلك؛ لأن ما هو المقصود وهو الإعلام لا يحصل بأذانهما؛ لأن الناس لا يعتبرون كلام غير العاقل، فهو وصوت الطير سواء، ويكره أذان السكران، ويستحب إعادته، وكذلك يكره أذان الفاسق؛ لأنه أمانة شرعية فلا يؤمن الفاسق عليه، ولا يعاد أذانه، لحصول المقصود به، وإن اشترط على الأذان أجزأه، فهو فاسق كذا ذكره في الخصائل، ويجوز أذان العبد والقروي وأهل المفاوز، وولد الزنا والأعمى من غير كراهة، ولكن غير هؤلاء أولى، وكذلك يجوز أذان... ويؤذن في بعض الصلاة دون البعض بأن كان في السوق نهارًا أو في السكة ليلًا يجوز من غير كراهة وغيره أولى.
وإن أذن رجل فأقام رجل آخر إن غاب الأول جاز من غير كراهة، وإن كان حاضرًا ويلحقه الوحشة بإقامة غيره يكره، وإن رضي به لا يكره عندنا، وإن أذن وأقام ولم يصلّ مع القوم يكره؛ لأنه إن كان صلى، فهذا تنفل في الأذان، وإنه غير مشروع، فإن كان لم يصلِ؟ وفارقهم فيكره.

.نوع آخر في الفصل بين الأذان والإقامة:

قال في (الجامع الصغير): ويجلس بين الأذان والإقامة إلا في المغرب، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يجلس في المغرب أيضًا جلسة خفيفة يجب أن يعلم بأن الفصل بين الأذان والإقامة في سائر الصلوات مستحب.
والأصل في ذلك قوله عليه السلام لبلال: «اجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرع الأكل من أكله، والشارب من شربه»، واعتبر الفصل في سائر الصلوات بالصلاة، حتى قلنا: إن في الصلوات التي قبلها تطوع مسنون أو مستحب، فالأولى للمؤذن أن يتطوع بين الأذان الإقامة.
جاء في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] أنه المؤذن يدعوا الناس بأذانه ويتطوع بعده قبل الإقامة، ولم يعتبر الفصل في المغرب بالصلاة؛ لأن الفصل بالصلاة في المغرب يؤدي إلى تأخير المغرب عن أول وقته، وتأخير المغرب مكروه، وقال النبي عليه السلام؛ «لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم» ويؤيده قوله عليه السلام: «بين كل أذانين صلاة إلا المغرب»، وأراد بالأذانين الأذان والإقامة، وإذا لم يفصل بالصلاة في المغرب يتأدى. بفصل، قال أبو يوسف ومحمد: يفصل بجلسة خفيفة؛ لأن الجلسة صالحة للفصل.
ألا ترى أنها صلحت للفصل بين الخطبتين يوم الجمعة، فهنا كذلك، وقال أبو حنيفة يفصل بالسكوت، لأن لمّا لم يفصل بالصلاة التي هي عبادة، لتكون أقرب إلى الأداء أبعد عن التأخير فلأن لا يفصل... بعبادة أولى، والفصل يحصل بالسكوت حقيقة، فلا حاجة إلى اعتبار الجلسة للفصل، ثم عند أبي حنيفة مقدار السكتة ما يقرأ ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، وروي عنه أنه قال: مقدار ما يخطو ثلاث خطوات، وعندهما مقدار الجلسة ما جلس الخطيب بين الخطبتين من غير أن يطول، وتمكن مقعده على الأرض.

.نوع آخر بيان الصلاة التي لها أذان والتي لا أذان لها وفي بيان أنه في أي حال يؤتى به:

وليس بغير الصلوات الخمس والجمعة والتطوعات والسنن والوتر، وغيرها أذان ولا إقامة، أما السنن والتطوعات؛ فلأن الأذان والإقامة من سنّة الصلاة بالجماعة والسنن والتطوعات لا تؤدى بجماعة، فلا يشرع فيها أذان ولا إقامة، ولأن الأذان شرع الإعلام للدخول بوقت الصلاة، ولا حاجة للتطوعات إلى ذلك، فإن جميع الأوقات وقت للتطوعات، ولأن التطوعات تبع للسنن، والسنن تبع للفرائض شرع مكملًا للفرائض، فلا حاجة إلى أتباعه للتبع.
وأما الوتر فعندهما الوتر تطوع، ولا أذان ولا إقامة في التطوعات بالإجماع على ما ذكرنا، وأما عند أبي حنيفة، فلأن الوتر إن كان واجبًا عنده إلا أنها لا تؤدى بالجماعة إلا في شهر رمضان، وعند أدائها هم مجتمعون، فلا حاجة إلى الإعلام وخارج رمضان لا تؤدى بالجماعة، والأذان سنّة أداء الصلاة بجماعة.
وأما التراويح وإن أَدي بالجماعة لكنه تبع للعشاء، وهم مجتمعون عند أدائها.
وأما العيدين، فلحديث جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: «صلى رسول الله عليه السلام العيدين بغير أذان ولا إقامة ولم يصل قبلها ولا بعدها»، هكذا جرى التوارث إلى يومنا هذا، والتوارث كالتواتر، ولأن صلاة العيدين سنّة، وقد ذكرنا أنه لا أذان للسنن.
فأما الجمعة يؤذن لها ويقام؛ لأنها فرض مكتوب وفرضيتها آكد من فريضة الظهر حتى ترك الظهر لأجلها، والأذان والإقامة مشروعان في الظهر، فكذلك في الجمعة؛ ولأن الأذان لها منصوص في القرآن، قال الله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} [الجمعة: 9]؛ ولأن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الاجتماع والجمعة أولى بهذا؛ لأنه لا يجوز قضائها خارج الوقت، ولا يجوز أدائها بدون الجماعة، وسائر الصلوات يجوز أداؤها بغير جماعة، ولا يجوز قضاؤها خارج الوقت، ولا يؤذن لصلاة قبل دخول الوقت.
وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: يؤذن لصلاة الفجر في النصف الآخر من الليل، حجتهما في ذلك؛ ما روي أن بلالًا كان يؤذن على عهد رسول الله عليه السلام بالليل.
ولنا: ما روي أن رسول الله عليه السلام قال لبلال: «لا تؤذن حتى يستبين لك الفجر هكذا، ومدّ يده عرضًا»، ولأن المقصود من الأذان الإعلام بدخول الوقت، فقبل الوقت يكون الأذان تجهيلًا لا إعلامًا، وأما الجواب عن فعل بلال قلنا: إن بلالًا ما كان يؤذن بالليل، لصلاة الفجر، وإنما كان يؤذن لقيام النائم، وإنما كانت صلاة الفجر بأذان ابن أم مكتوم، كما قال عليه السلام: «لا يغرنكم أذان بلال؛ لأنه يؤذن ليرجع غائبكم ويتسحر صائمكم وينام قائمكم، وكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم»، وكان هو أعمى كان لا يؤذن حتى يسمع الناس يقولون: أصبحت، أصبحت وأجمعوا أن الإقامة قبل الوقت لا تجوز؛ لأن الإقامة لإقامة الصلاة ولا يمكنه إقامة الصلاة قبل الوقت، وإن لم يعد الأذان في الوقت جازت صلاته؛ لأنه لو ترك الأذان أصلًا جازت صلاته فها هنا أولى، ولم تذكر الكراهة هاهنا لاختلاف العلماء وشبهة الحديث.

.نوع آخر في تدارك الحد الواقع فيه:

إذا غشي على المؤذن ساعة في الأذان أو في الإقامة، قال محمد رحمه الله: أحبّ إليّ أن يقتدي به من أولها؛ لأن لكل واحد منهما شبهًا بالصلاة، ولو غشي عليه في صلاة الأصل ثم أفاق، فإنه سوّى بها ولا شيء، كذا هاهنا، فلو لم يقتد بها، وأتمها جازت صلاته؛ لأنه لو تركهما جازت صلاته، فهاهنا أولى.
وكذلك لو رعف فيها أو أحدث، فذهب وتوضأ ثم جاء، فأحب إليّ أن يقتدي بها من أولها لما ذكرنا أن لها شبهًا في الصلاة ولو أحدث في الصلاة فكان، الأولى أن يقتدي بها، ولو... عليها يجوز كذا هنا؛ فلأنه ربما يشتبه على الناس أنه يؤذن أو يتعلم كلمات الأذان، قال مشايخنا، والأولى أن يتم الأذان إن أحدث في الأذان، ويتم الإقامة إن أحدث في الإقامة ثم يذهب ويتوضأ ويصلي؛ لأن ابتداء الأذان والإقامة مع الحدث جائز فأما بهما، أولى. ونزول الاشتباه الذي ذكرنا، لهذا إذا كان الأفضل إتمامهما قبل التوضؤ، وكذا إذا مات المؤذن في الأذان أو ارتد، فالأولى أن يقتدي غيره؛ لأن بالموت انقطع عمله، وبالردة حبط عمله؛ ولأننا على المنقطع والباطل، وإن لم يقتد غيره وأتمه جاز وإذا أذن بتمامه ثم ارتد، فإن اعتدوا بأذانه وأمروا من يقيم، ويصلي بهم جاز. وإن استعادوا الأذان فذلك أولى؛ لأن بالردة بطل، وصار كأنه لم يؤذن أصلًا، وإذا قدّم المؤذن في أذانه وإقامته بعض الكلمات على البعض، نحو أن يقول أشهد أن محمدًا رسول الله قبل قوله أشهد أن لا إله إلا الله، فالأفضل في هذا أن ما سبق أوانه لا يعتد به حتى يعيده في أوانه وموضعه؛ لأن الأذان شرعت متطوعة مرتبة فتؤدى على نظيره وترتيبه إن مضى على ذلك جازت صلاتهم.
ولو افتتح الأذان يظن أنها الإقامة، فأقام في آخرها وصلى بالقوم جازت صلاتهم؛ لأنه ترك آخر الأذان وأتى بأولها، وأتى بآخر الإقامة وترك أولها، ولو ترك الأذان والإقامة أصلًا يجوز، فهاهنا أولى.
وإن استيقن قبل الشروع في الصلاة بأن علم بعدما قال قد قامت الصلاة، فإنه في الأذان فإنه يتم الأذان ثم يقيم؛ لأنه أتى بأول الأذان على وجهها، إلا أنه غيّر آخرها فكان عليه أن يصلح ما غير إذا أمكنه الإصلاح، وقد أمكنه الإصلاح إذا استيقن قبل الشروع في الصلاة ثم يستقبل الإقامة؛ لأنه لم يأت بأولها.
فرقٌ بين الإقامة وبين الأذان، فإن في الأذان لم يقل استقبل الأذان، وإنما قال يتم الأذان، وفي الإقامة قال: استقبل الإقامة.
والفرق: أنه أتى بأول الأذان إلا أنه غير آخرها، وأمكنه إصلاح ما غيّر، فلا حاجة إلى الاستقبال، أما في الإقامة لم يأت بأولها، وإنما أتى بآخرها، ولا يمكن بناء الآخر على الأول؛ لأن الأول لم يؤُخر بعده فلهذا قلنا بالاستقبال.
ثم في فصل الأذان قال يتم الأذان، ولم يبين صورة الإتمام.
وقد ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار صورة، فقال؛ يعود إلى قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، وإذا ظن الإقامة من أولها أداها وأتمها أذانًا ينبغي أن يعيد الإقامة؛ لأن التغيير في كله، ولو ألحق بآخرها قد قامت الصلاة، فصلى بها جاز ولو أنه حتى فعل في الإقامة بأفعل ظن بأن ذلك لا يجزيه، فاستقبل الأذان من أوله ثم أقام وصلى، فإنه يجوز؛ لأنه أتى باجتهاد وأكملها.

.نوع آخر فيمن يقضي الفوائت بأذان وإقامة أو بغير أذان وإقامة:

ومن فاتته صلاة عن وقتها، فقضاها في وقت آخر أذن لها وأقام واحدًا كان أو جماعة لحديث ليلة التعريس حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم في وادٍ، فقال: من يكلؤنا الليلة، فقال؛ بلال أو أنس رضي الله عنهما أنا، فغلب رسول الله صلى الله عليه وسلّم النوم يومئذٍ إلى مؤخر وحمله ونام، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس، وكان عمر رضي الله عنه رابعهم، فاستيقظ ونادى فاستيقظ النبي عليه السلام من صياحه، وأمر بلالًا فأذن، فصلوا ركعتي الفجر ثم أمر بلالًا، فأقام، وصلى بهم الفجر.
وشُغل رسول الله عليه السلام عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهُنّ بعد... من الليل.
قال ابن مسعود رضي الله عنه أمر بلالًا، فأذن وأقام الأولى ثم أقام لكل صلاة بعدها، وقال جابر أمره فأذن وأقام لكل صلاة، وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أمره بالإقامة لكل صلاة، والمعنى فيه وهو أن القضاء على نية الأداء وسنية الأداء بالأذان، والإقامة بجماعة، فكذلك القضاء، فإن اكتفوا بالإقامة لكل صلاة جائز؛ لأن الأذان لإعلام الناس، ولا حاجة إلى ذلك في القضاء، والإقامة لإقامة الصلاة، وهو محتاج إلى ذلك، ولكن الأحسن أن يؤذن ويقيم لكل صلاة، ليكون القضاء على سنّة الأداء، ولأنه إن لم يكن محتاجًا إلى الإعلام، فهو محتاج إلى أجر الثواب، وقد عرف ثواب الأذان والإقامة ذكره الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي. قال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: والأحسن أن يؤذن ويقيم الأولى، ثم بعد ذلك يقضي كل صلاة بإقامة بغير أذان؛ لأن المقصود من الأذان هو الإعلام وهم مجتمعون، فلا حاجة إلى الإعلام أما الإقامة للتأهب والتحريم، وهو محتاج إلى ذلك. ذكره الإمام الصفار رحمه الله.
وإن صلوا بغير أذان وإقامة وجماعة يجوز؛ لأن فعل النبي عليه السلام يدل على الجواز، ولا يدل على الوجوب، وفي (الجامع الهاروني) قدّم ذكر، وإفساد صلاة صلوها في غير وقت تلك الصلاة قضوها بأذان وإقامة في غير المسجد الذي صلوا فيه تلك الصلاة مرّة، وإن ذكروها في وقتها صلوها في ذلك المسجد، ولا يعيدون الأذان والإقامة، فإن صلوا بإقامة في ذلك المسجد صلوها وحدانا، والله أعلم.

.نوع آخر في المتفرقات من هذا الفصل:

إذا صلى رجل في بيته واكتفى بأذان الناس وإقامتهم أجزأه من غير كراهة، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى بعلقمة والأسود في بيت، فقيل له: ألا تؤذن وتقيم؟ فقال: أذان الحي يكفينا، ولأن مؤذن الحي نائب عن أهل المحلة في الأذان والإقامة؛ لأنهم هم الذين نصبوه لها، فكان نائبًا عنهم، فيكون الأذان والإقامة من المؤذن كأذان الكل بالكل وإقامتهم من حيث الحكم والاعتبار، وإذا جعل أذانه وإقامته من له أذانهم وإقامتهم، فقد وجد الأذان والإقامة منهم من حيث الحكم والاعتبار إن لم يوجد جميعه.
فرق بين هنا وبين المسافر إذا صلى وحده وترك الأذان والإقامة أو ترك الإقامة، فإنه يكره له ذلك. والمقيم إذا صلى وحده بغير أذان ولا إقامة، لا يكره.
والفرق: أن المقيم إن صلى بغير أذان وإقامة حقيقة، ولكنه صلى بأذان وإقامة من حيث الحكم والاعتبار، فأما المسافر فقد صلى بغير أذان وإقامة حقيقية وحكمًا، فيكره لهذا.
وإن أذن وأقام وحده فهو أحسن؛ لأن المستفرد مندوب إلى أن يؤدي الصلاة على هيئة الجماعة، ولهذا كان الأفضل أن يخفي بالقراءة في صلاة الجهر، وكذلك إن أقام ولم يؤذن؛ لأن الأذان لإعلام الناس حتى يجتمعوا، وذلك غير موجود هاهنا، والإقامة لإقامة الصلاة وهو يقيمها.
والدليل عليه ما روى طاوس: أنه قال: إذا صلى الرجل وحده إن صلى بإقامته صلى معه ملكاه، وإن صلى بأذان وإقامة صلى من وراءه من الملائكة ما يسد الأفق، قال القاضي الإمام صدر الإسلام؛ إذا لم يؤذن في تلك المحلة يكره له تركهما، ولو ترك الأذان وحده لا يكره.
والقدوري في (شرحه) روى عن أبي حنيفة في الجماعة: إذا صلوا في منزل أو مسجد فنزل بغير أذان ولا إقامة بهم أساؤوا، ولا يكره للواحد؛ لأن أذان الجماعة يقع الأفراد وأما لا يقع لجماعة أخرى ومن سمع الأذان، فعليه أن يجيب، قال عليه السلام: «من لم يجب الأذان فلا صلاة له» قال شمس الأئمة الحلواني تكلم الناس في الإجابة، قال بعضهم هي الإجابة بالقدم لا باللسان حتى لو أجاب باللسان ولم يمشِ إلى المسجد لا يكون مجيبًا ولو كان حاضرًا في المسجد حتى سمع الأذان، فليست بالإجابة.
وقوله عليه السلام. «من قال مثل ما يقوله المؤذن، فله من الأجر كذا» فهو كذلك إن قاله نال الثواب الموعود، وإن لم يقل لم ينل الثواب الموعود فأما إني نائم أَوَ يكره له ذلك، فلا وإذا رد الجواب باللسان لنيل الثواب الموعود، فكل ما هو ثناء وشهادة يقول كما قال المؤذن، وعند قوله حيَّ على الصلاة حيّ على الفلاح، يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله ما شاء الله كان.
رجل دخل مسجدًا صلى فيه أهله، فإنه يصلي وحده من غير أذان وإقامة، ويكره أن يصلي بجماعة بأذان وإقامة، والأصل في ذلك ما روي أن رسول الله خرج ليصلح بين الأنصار، واستخلف عبد الرحمن بن عوف، فرجع بعدما صلى عبد الرحمن فدخل جميع أصحابه وصلى بهم، ولو كان يجوز إعادة الصلاة في المسجد لما ترك الصلاة في المسجد، مع أن الصلاة في المسجد أفضل، وبأن في هذا التعليل الجماعة؛ لأن الجماعة إذا كانت لا تفوتهم لا يعجلون للحضور، فإن كل أحد يعتمد على جماعته، وبه وقع الفرق بين هذا وبينما إذا صلى فيه قوم ليسوا من أهله حيث كان لأهله أن يصلوا فيه بجماعة بأذان وإقامة؛ لأن تكرار الجماعة هنا لا يؤدي إلى تقليل الجماعة.
وروي عن أبي يوسف في الفصل الأول أنه قال: إنما يكره تكرار الجماعة إذا كان القوم كثيرًا، أما إذا صلى واحد بواحد أو باثنين بعدما صلى فيه أهله فلا بأس، لما روي أن رسول الله عليه السلام صلى بأصحابه، فدخل أعرابي وقام يصلي فقال عليه السلام: «من يتصدق على هذا فيقوم ويصلي معه».
فقام أبو بكر وصلى معه، وروي عن محمد أنه لم يرَ بالتكرار بأسًا إذا صلوا في زاوية من المسجد على سبيل الخفية إنما يكره على سبيل التداعي والاجتماع.
قال القدوري في (كتابه): وإن كان المسجد على قارعة الطريق ليس له قوم معينين، فلا بأس بتكرار الجماعة فيه؛ لأن تكرار الجماعة في هذا الفصل لا يؤدي إلى تقليل الجماعة جماعة من أهل المسجد إذا نوى في المسجد على وجه المخافتة بحيث لم يسمع غيرهم، وصلوا ثم حضر قوم من أهل المسجد، ولم يعلموا ما صنع الفريق الأول، وإذا نوى على وجه الجهر والإعلان ثم علموا ما صنع الفريق الأول، فلهم أن يصلوا بالجماعة على وجهها لا غيره بالجماعة الأولى؛ لأنها ما أقيمت على وجه السنّة بإظهار الأذان والإقامة، ولا يبطل حق الباقين.
ولا بأس بالتطريب في الأذان، وهو تحسين الصوت من غير أن يتغير، فإن تغير بلحنه أو ما أشبه ذلك كره، قال شمس الأئمة الحلواني؛ إنما يكره ذلك فيما كان من الأذكار، أما قوله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح لا بأس بإدخال المد فيه.
المؤذن إذا لم يكن عالمًا بأوقات الصلاة لا يستحق ثواب المؤذنين، ولا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في الأذان والإقامة أو بشيء لما ذكرنا أن لهما شبهًا بالصلاة، وإن تكلم بكلام يسير لا يلزمه الاستقبال، وإذا انتهى المؤذن في الإقامة إلى قوله قد قامت الصلاة، له الخيار إن شاء أتمها في مكانه، وإن شاء مشى إلى مكان الصلاة إمامًا كان المؤذن أو لم يكن.
وإذا سلم رجل على المؤذن في أذانه أو عطس رجل؛ روي عن أبي حنيفة أنه يرد السلام في نفسه، ويشمته في قلبه، ولا يلزمه شيء من ذلك إذا فرغ، وعن محمد أنه لا يفعل شيئًا في الأذان، وإذا فرغ من الأذان رد السلام وشمت العاطس إن كان حاضرًا، وعن أبي يوسف أنه (لا) يفعل شيئًا من ذلك؛ لا قبل الفراغ من الأذان ولا بعده، وهو الصحيح ولا يؤذن بالفارسية، ولا بلسان آخر غير العربية، وإن علم الناس أنه أذان فقد قيل يجوز.

.آداب الصلاة:

جئنا إلى بيان آداب الصلاة فنقول: من آداب الصلاة إخراج الكفين من الكمين عند التكبير.
ومنها: أن يكون نظره في قيامه إلى موضع سجوده وفي الركوع إلى أصابع رجليه وفي السجود إلى أرنبة أنفه، وفي القعود إلى حجره، ومنها كظم الفم إذا تثاءب، فإن لم يقدر غطاه بيده أو كُمِّه، قال عليه السلام: «إذا تثاءب أحدكم في صلاته فليغط فاه إن الشيطان يدخل فيه».
ومنها: دفع السعال عن نفسه ما استطاع، ومنها أن لا يمسح التراب، والعرق عن وجهه بعدما قعد قدر التشهد في آخر الصلاة، هكذا ذكر نجم الدين النسفي في (الخصائل). واعلم بأن هذه المسألة على وجوه:
أحدها: إذا مسح جبهته بعد السلام وأنه لا بأس به بل يستحب ذلك؛ لأنه قد خرج من الصلاة ونية إزالة الأذى عن نفسه.
والثاني: إذا مسح جبهته بعد الفراغ من أعمال الصلاة قبل السلام، وإنه لا بأس به أيضًا؛ لأن هذا دون الخروج عن الصلاة والذهاب، وقد أُبيح الخروج وأبيح له الذهاب قبل الخروج، حتى لو ذهب ولم يسلم قبلت صلاته فيما دون الخروج والذهاب أو إلى أن يكون... حاله.
والثالث: إذا مسح جبهته بعد ما رفع رأسه من السجدة. ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا بأس به، وذكر شمس الأئمة الحلواني أنه اختلفت ألفاظ الكتب في هذا الوجه، ذكره في بعضها لست أكره ذلك، وذكر في بعضها أكره ذلك، وذكر في بعضها لا أكره ذلك بعض مشايخنا قالوا: لا مقطوع عن قوله أكره، فقوله لا، نهي وقوله أكره تأكيد له معناه لا يفعل، فصار هذه اللفظ وقوله ذلك أكره ذلك سواء.
وهذا القائل يستدل بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أربع من الجفاء وذكر من جملتها، وأن تمسح جبهتك قبل أن تفرغ من صلاتك، وقال بعضهم قوله؛ لا متصل بقوله وأكره، فصار هذا اللفظ على قول هذا القائل، وقوله لست أكره ذلك سواء، ويستدل هذا القائل بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «بت في بيت خالتي ميمونة، فقمت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلّم فقمت عن يساره فحوله إلى يمينه، ورأيته يمسح العرق عن جبينه».
الرابع: إذا مسح جبهته في خلال الصلاة وفي ظاهر الرواية لا بأس به، وقال أبو يوسف؛ أحب إليّ أن يدعه فرّق أبو يوسف بين هذا الوجه، وبينما تقدم من الوجوه.
والفرق: أنّ في هذا الوجه لو مسح جبينه ثانيًا وثالثًا، فلا يفيد، ولو فعل ذلك في كل مرة كان عملًا كثيرًا لولاء (الحركات) كذلك الوجوه الثلاثة؛ لأنه لا يحتاج إلى السجدة ثانيًا في الوجوه الثلاثة، فكان المسح مفيدًا.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): إذا كان الإمام مع القوم في المسجد، فإني أحب لهم أن يقوموا في الصف إذا قال المؤذن حيّ على الفلاح، يجب أن يعلم بأن هذه المسألة على وجهين: إما أن يكون المؤذن غير الإمام أو يكون هو الإمام، فإن كان غير الإمام وكان الإمام مع القوم في المسجد، فإنه يقوم الإمام والقوم إذا قال المؤذن: حيّ على الفلاح عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله.
وقال الحسن بن زياد وزفر إذا قال المؤذن قد قامت الصلاة قاموا في الصف، وإذا قال مرة؟ والصحيح قول علمائنا الثلاثة؛ لأن قوله قد قامت الصلاة إخبار عن حقيقة القيام إلى الصلاة، وإنما يتحقق الإخبار عن حقيقة القيام إلى الصلاة إذا كان القيام سابقًا على قوله قد قامت الصلاة، ومتى سبق القيام على قوله قد قامت الصلاة يحصل القيام عند قوله حيّ على الفلاح؛ ولأنهم يحتاجون إلى إحضار النية؟.... أن يقوموا عند قوله حيّ على الفلاح حتى يمكنهم إحضار النية.
هذا إذا كان المؤذن غير الإمام، والإمام حاضر في المسجد، فأما إذا كان الإمام خارج المسجد، إن دخل المسجد من وراء الصفوف اختلفوا فيه، قال بعضهم: كلما رأوا الإمام يقومون، وقال بعضهم؛ ما لم يأخذ الإمام مكان الصلاة لا يقومون.
وقال بعضهم: إذا اختلط الإمام بالقوم قاموا: وقال بعضهم: كلما جاوز صفًا قام ذلك الصف، وإليه مال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني والشيخ الإمام خواهر زاده والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه كلما جاوز صفًا صار ذلك الصف بحال لو اقتدوا به صح اقتداؤه، فصار كأنه أخذ مكان الصلاة في ذلك الصف، وإن كان الإمام دخل المسجد يبدأ منهم يقولون كما.....؟ الإمام؛ لأن في تلك الحالة صاروا بحال لو اقتدوا به صح اقتداؤهم، فصار كأنه أخذ مكان الصلاة، فيقومون.
وإن كان الإمام والمؤذن واحد فإن أقام في المسجد فالقوم لا يقومون ما لم يفرغ من الإقامة؛ لأنهم لو قاموا قاموا لأجل الصلاة. ولا وجه إليه؛ لأنهم تابعون لإمامهم وقيام إمامهم في هذه الحالة؛ لأجل الإقامة، لا لأجل الصلاة. وإن أقام خارج المسجد، فلا ذكر. فهذه المسألة في (الأصل)، ومشايخنا اتفقوا على أنهم لا يقومون ما لم يدخل الإمام في المسجد، لما روي أن النبي عليه السلام كان في حجرة عائشة رضي الله عنها، فلما أقام بلال الصلاة، وخرج رسول الله عليه السلام إلى المسجد، فرأى الناس ينتظرونه، فقال لهم رسول الله عليه السلام: «ما لي أراكم سامدين» أي واقفين مُتحيِّرين، وفي رواية قال: «لا تقوموا في الصف حتى تروني قد خرجت»؛ ولأنهم لا يقدرون على التكبير ما لم يدخل الإمام المحراب وينتصب للصلاة، فإذا قاموا هنا اشتغلوا بعمل غير مفيد فيكره.
ثم المؤذن هل يتم الإقامة في المكان الذي بدأ، فإن كان الإمام والمؤذن واحد اختلفوا فيه: روي عن أبي يوسف أنه يتمها في المكان الذي بدأ؛ لأن هذا أحد الأذانين، فيعتبر بالآخر ثم الآخر يتمها في المكان الذي بدأ، فكذا هذا. وبه أخذ بعض المشايخ. وقال بعض مشايخنا: إذا انتهى إلى قوله قد قامت الصلاة سكت ويأخذ في المشي فإذا أخذ مكان الصلاة أتمها، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار وشيخ الإسلام خواهر زاده أنه بالخيار إن شاء أتمها في المكان الذي بدأ، وإن شاء أتمها إذا شاء.
وإن كان المؤذن غير الإمام، والإمام حاضر، فيتمها في المكان الذي بدأ ثم الإمام يأتي بالتكبير.
قال أبو حنيفة رحمه الله: يكبر قبل قوله قد قامت الصلاة، هكذا فسر في (النوادر)؛ وظاهر ما ذكر في (الكتاب) وجب أن يكبر بعد فراغه عن قوله قد قامت الصلاة، قال شمس الأئمة الحلواني: والصحيح ما ذكرنا في (النوادر)، وقال أبو يوسف ينتظر فراغ المؤذن من الإقامة فإذا فرغ منها كبّر، هذا بيان الأفضل، ولو كبّر بعد ما فرغ المؤذن من الإقامة كما قال أبو يوسف جاز عند أبي حنيفة، ولو كبّر قبل قوله قد قامت الصلاة كما قاله أبو حنيفة جاز عند أبي يوسف. وقال أبو يوسف: ليس المراد من قوله قد قامت الصلاة حقيقة الإخبار عن الإقامة، بل المراد الإخبار عن المقاربة يعني قرب إقامة الصلاة، كما في قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] أي قرب إتيان أمر الله وكما في قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ} [الزمر: 3] أي قرب، ثم اختلفوا في وقت إدراك فضيلة تكبيرة الافتتاح، ذكر شيخ الإسلام اختلافًا بين أبي حنيفة وصاحبيه، فقال على قول أبي حنيفة: إذا كبّر مقارنًا لتكبير الإمام، فيصير مدركًا فضيلة تكبيرة الافتتاح، وما لا فلا، وعندهما إذا أدرك الإمام في الثناء وكبّر يصير مدركًا فضيلة تكبيرة الافتتاح وما لا فلا.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله أن شداد بن الحكيم كان يقول: إن كان الرجل حاضرًا وأراد أن يدرك فضيلة تكبيرة الافتتاح ينبغي أن يشرع قبل قراءة سبع آيات، وقال بعضهم: إذا أدرك الإمام في الركعة الأولى يصير مدركًا فضيلة تكبيرة الافتتاح، وهذا أوسع بالناس والله أعلم.

.فرع في بيان ما يفعله المصلي بعد الافتتاح:

وإذا افتتح وضع يمينه على يساره تحت السرة وقد مرّ هذا، ولم يذكر في (الأصل) موضع وضع اليمين على اليسار، واختلف المشايخ فيه قال: يضع باطن كف اليمين على ظاهر كفه اليسرى، وقال: بعضهم يضع باطن كفه اليمين على ذراعه اليسرى، وقال أكثرهم: يضع كفه اليمنى على مفصل اليسرى وبه أخذ الطحاوي، وفي رواية الأصول قال أبو يوسف يقبض بيده اليمنى رسغه اليسرى، وقال محمد يضع كذلك. وقال الفقيه أبو جعفر قول أبي يوسف؛ أحبُّ إليّ؛ لأن في القبض وضعًا وزيادة، قال الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده كما كبّر يضع يمينه على يساره عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعن محمد في (النوادر) أنه في حالة الثناء يرسل يديه، ولا يعتمد، إنما يعتمد إذا فرغ من الثناء، وأما في صلاة الجنازة وقنوت الوتر وتكبيرات العيد والقومة التي بين الركوع والسجود يرسل، ولا يضع عند محمد.
والحاصل: أن الوضع عنده سنّة قيام فيه قراءة، واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة في قنوت الوتر، قال بعضهم: يرسل وهو قول أبي يوسف، وقال بعضهم: يضع، وأما في القومة التي بين الركوع والسجود ذكر شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلاة أنه يرسل على قولهما كما هو قول محمد. وذكر في مواضع أُخر أن على قولهما يعتمد، ومشايخ ما وراء النهر اختلفوا.
قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص: السنّة في صلاة الجنازة، وفي تكبيرات العيد والقومة التي بين الركوع والسجود الإرسال، وقال أصحاب الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل منهم القاضي الإمام أبو علي النسفي، والحاكم عبد الرحمن بن محمد الكاتب، والشيخ الإمام الزاهد عبد الله.... والشيخ الإمام إسماعيل الزاهد، السنّة في هذه المواضع الاعتماد والوضع، وقالوا؛ مذهب الروافض الإرسال من أول الصلاة، فنحن نعتمد مخالفة لهم.
وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني يقول كل قيام فيه ذكر مسنون، فالسنّة فيه الاعتماد كما في حالة الثناء والقنوت وصلاة الجنازة، كل قيام ليس فيه ذكر مسنون كما في تكبيرات العيد، فالسنّة فيه الإرسال، وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي والصدر الكبير برهان الأئمة والصدر الشهيد حسام الأئمة رحمهم الله ثم يقول: سبحانك اللهم إلى آخره، ولم يذكر في (الأصل) ولا في (النوادر) وجلّ ثناؤك؛ لأنه لم ينقل في التفاسير وذكر شمس الأئمة الحلواني وشمس الأئمة السرخسي أن محمدًا رحمه الله ذكر في كتاب الحجج على أهل المدينة، قال شمس الأئمة الحلواني: قال مشايخنا: إن قال وجلّ ثناؤك لم يمنع عنه، وإن سكت عنه لم يؤمر به، وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة إذا قال: سبحانك اللهم بحمدك تبارك اسمك بحذف الواو، فقد أصاب وهو جائز، روى محمد بن المنكدر عن النبي عليه السلام مثل ذلك، وعن أبي يوسف في (الإملاء) أحب إليّ أن يزيد في الافتتاح «وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا إلى قوله وأنا أول المسلمين».
بعد هذا عن أبي يوسف روايتان في رواية قال: يقول وأنا من المسلمين وفي رواية قال يقول، وأنا أول المسلمين، والطحاوي أخذ بهذا إلا أنه يقول: المصلي بالخيار إن شاء قال ذلك قبل الثناء، وإن شاء قال ذلك بعد الثناء، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة.
وفي رواية أخرى عن أبي يوسف يقول ذلك بعد الثناء، قيل: هو الصحيح من مذهبه، هكذا ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: وفي ظاهر رواية أصحابنا: لا يقول ذلك بعد افتتاح الصلاة، وهل يقول قبل افتتاح الصلاة؟ فعن المتقدمين لا يقول، وقال المتأخرون يقول، وهو اختيار الفقيه أبي الليث رحمه الله، ثم اختلف المتأخرون فيما بينهم أنه يقول؛ وأنا أول المسلمين؛ لأن المنزل في كتاب الله، هكذا فيتبرك بالمنزَّل.
وقال بعضهم: يقول: وأنا من المسلمين، وبه كان يُفتي شمس الأئمة الحلواني؛ لأنه لا يريد تلاوة القرآن، وإنما يريد الثناء فيختار ما هو أقرب إلى الصدق ثم على قول من يقول. وأنا من المسلمين، لو قال: وأنا أول المسلمين في الصلاة هل تفسد صلاته؟ اختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: تفسد، وقال بعضهم لا تفسد وفي قوله: ولا إله غيرك أربع لغات لا إله غيرك لا له غيرك لا إله غيرك لا إله غيرك، لا إله غيرك ولا يقول لا إله خيرك، ولو جرى ذلك على لسانه خطأ هل تفسد صلاته؟ اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه لا تفسد، وبه كان يفتي الشيخ الزاهد الصفار، ثم يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم في نفسه.
واعلم بأن الكلام في التعوذ في فصول.
أحدها: في أصله قال علماؤنا رحمهم الله: يتعوذ، وقال: لا يتعوذ، حُجته حديث أنس قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام وخلف أبي بكر وعمر، وكانوا يستفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين»، ولم يذكر التعوذ، حجتنا حديث أبي الدرداء، فإنه روى أنه قام ليصلي، فقال له رسول الله عليه السلام «تعوذ بالله من شياطين الإنس والجن».
والثاني: في وقته ومحله، قال علماؤنا يتعوذ بعد الثناء قبل القراءة، وقال بعض أصحاب الظواهر، يتعوذ بعد القراءة لقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله} [النحل: 98] ذكر بحرف الفاء أنه للتعقيب، وإنا نقول التعوذ لدفع وسوسة الشيطان وإنما يحتاج إلى دفع الوسوسة قبل الشروع في القراءة.
والثالث: في لفظ التعوذ، وهذا فصل لم يذكره محمد رحمه الله، وقد اختلف فيه القراء قال بعضهم أعوذ بالله العظيم السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقال بعضهم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم؛ لأنّ الله هو السميع العليم.
وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني: أنه اختار أحد اللفظين أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم يقرأ الفاتحة، ولا يقول بعد التعوذ: إن الله هو السميع العليم؛ لأن هاهنا ثناءً، ومحل الثناء قبل التعوذ لا بعده، ثم إن محمدًا رحمه الله قال: يتعوذ في نفسه، فهو إشارة إلى أن السنّة فيه الإخفاء، وهو المذهب عند علمائنا رحمهم الله؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام الجهر به، والذي روى عن عمر أنه جهر بالتعوذ فله تأويلان:
أحدهما: أنه وقع ذلك اتفاقًا لا قصدًا.
والثاني: أن قصده كان تعليم السامعين أنه ينبغي للمصلي أن يتعوذ، وكان عطاء يقول: الاستعاذة واجبة عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وإنه مخالف لإجماع السلف والسلف كانوا مجمعين على أنه سنّة. وهذا الذي ذكرنا في الإمام والمنفرد.
وأما المقتدي هل يأتي بالتعوذ؟ على قول أبي يوسف يأتي، وعلى قول محمد لا يأتي، ولم يذكر قول أبي حنيفة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده والشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار في شرح كتاب الصلاة إن قول أبي حنيفة قبل قول محمد... إلى (الزيادات)، فطلبنا قول أبي حنيفة في (الزيادات)، واستقصى في ذلك، فلم يجد قوله ثمة ولا في شيء من الكتب، فلعلّ الخلاف بين أبي يوسف ومحمد، وقد رأيت في (متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله) رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة مثل قول محمد.
ومنشأ الخلاف أن التعوذ يتبع للثناء أو يتبع للقراءة، فوقع عند أبي يوسف أنه تبع للثناء، والمقتدي يأتي بالثناء يأتي بالتعوذ تبعًا له، ووقع عند محمد أن التعوذ تبع للقراءة، والمقتدي لا يأتي بالقراءة فلا يأتي بالتعوذ، وثمرة الخلاف تظهر في ثلاث مواضع.
أحدها: هذه المسألة.
والثانية: أن في العيدين المصلي يأتي بالتعوذ بعد الثناء قبل تكبيرات العيد عند أبي يوسف، وعند محمد يأتي بالثناء بعد تكبيرات العيد.
والثالث: أن المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق، فعلى قول أبي يوسف لا يأتي بالتعوذ؛ لأنه تعوذ حين شرع في الصلاة، وعن محمد في هذه الصورة روايتان في رواية يتعوذ، وفي رواية لا يتعوذ، هكذا ذكره الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي، والقاضي الإمام صدر الإسلام أبو اليسر رحمه الله، قال صدر الإسلام قول أبي يوسف رحمه الله أصح، والتعوذ عند افتتاح القراءة في الركعة الأولى لا غير، إلا على قول ابن سيرين، فإنه كان يقول يتعوذ في كل ركعة ثم يفتتح القراءة، ويأتي بالتسمية ويخفيها.....؟ بأن الكلام في التسمية في مواضع: أن التسمية تُتلى هي من القرآن، فعندنا هو من القرآن، وعند مالك ليس من القرآن حجته في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله عليه السلام كان يفتتح القراءة بالحمد لله رب العالمين».
حجتنا في ذلك ما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «صليت خلف رسول الله عليه السلام، وخلف أبي بكر وعمر وكانوا يفتتحون ببسم الله الرحمن الرحيم»، والدليل عليه أن محمدًا أدخل التسمية في القراءة، حيث قال ثم يفتتح القراءة، ويخفي بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا يدلك على أنها قرآن، والدليل عليه أنها مكتوبة في سورة النمل وسورة النمل قرآن، فما يكون فيها كان قرآنًا ضرورة.
والثاني: أنها هل هي من الفاتحة ومن رأس كل سورة أم لا؟ قال أصحابنا رحمهم الله: إنها ليست من الفاتحة ومن رأس كل سورة ولكنها آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور، وهو اختيار أبي بكر الرازي.
وقال الشافعي: إنها آية من الفاتحة قولًا واحدًا، وله في كونها من رأس كل سورة قولان، هكذا ذكر شيخ الإسلام في (شرحه).
وفي (القدوري) قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله لا أعرف هذه المسألة بعينها عن متقدمي أصحابنا، والأمر بالإخفاء دليل على أنها ليست من السورة، وفي شرح شمس الأئمة الحلواني اختلف المشايخ في أن التسمية هل هي آية من الفاتحة؟ أكثرهم على أنها آية من الفاتحة، وبه تصير سبع آيات.
والثالث: أنه هل يجهر بها على قول أصحابنا لا يجهر بها، وقال الشافعي: يجهر.
والرابع: أنه هل تكرر؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: المصلي يُسمي في أول صلاته ثم لا يعيد، وإليه مال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمهم الله: أنه يأتي بها في أول كل ركعة، وهو قول أبي يوسف وذكر الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة: أنه إذا قرأها مع كل سورة فحسن.
وروى ابن أبي رملة عن محمد أنه يأتي بالتسمية عند افتتاح كل ركعة، وعند افتتاح السورة أيضًا، إلا أنه إذا كان صلاة يجهر فيها بالسورة.
لا يأتي بالتسمية بين الفاتحة والسورة، وعند الشافعي يأتي بالتسمية في كل ركعة، ويأتي بها أيضًا في رأس السورة، سواء كان صلاة يجهر فيها بالقراءة أو يخافت، وذكر أبو علي الدقاق أنه يقرأ قبل فاتحة الكتاب في كل ركعة، قال: وهو قول أصحابنا ورواية أبي يوسف عن أبي حنيفة، وهو قول أبي يوسف أحوط؛ لأن العلماء اختلفوا في التسمية أنها هل هي من الفاتحة أم لا؟ وعليه إعادة الفاتحة في كل ركعة، فكان عليه إعادة التسمية في كل ركعة لتكون أبعد عن الاختلاف.
قال صدر الإسلام في (شرحه): لم يذكر محمد رحمه الله في التسمية خلافًا بين أبي يوسف وبين... أنها للصلاة، أو للقراءة كما ذكر في التعوذ، وما روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يُسمي في الركعة الأولى فحسب، تدل على أنها للصلاة.
وإذا فرغ من الفاتحة قال آمين والسنّة فيه الإخفاء، لقوله عليه السلام: «إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين» فإن الإمام يقولها، ولو كان تأمين الإمام مسموعًا يستغني عن قوله، فإن الإمام يقولها والمقتدي يؤمن في ظاهر الرواية، وروي عن أبي حنيفة أنه لا يؤمِّن، رواه الحسن وإذا سمع المقتدي من الإمام ولا الضالين في صلاة لا يجهر فيها مثل الظهر والعصر والعشاء هل يؤمن؟ فعن بعض المشايخ أنه لا يؤمن وعن الفقيه أبي جعفر أنه يؤمن، ومن سمع الإمام أمَّن في صلاة الجمعة أمّن هو.
ثم إذا فرغ من القراءة يركع، وقد ذكرنا بعض مسائل الركوع في الفصل المتقدم، قال محمد وإذا أراد أن يركع يكبر، قال بعض مشايخنا ظاهر ما ذكر محمد يدل على أن تكبير الركوع يؤتى به في حال القيام، فإنه قال: وإذا أراد أن يركع يكبّر، وقال بعضهم: يكبّر عند الخرور للركوع، فيكون ابتداء تكبيره عند أول الخرور والفراغ عند الاستواء للركوع؛ لأن هذا تكبير الانتقال، ويؤتى بجميع الانتقال والطحاوي في كتابه يقول يخر راكعًا سكوتًا، وهذا إشارة إلى القول الثاني.
ولا يرفع يديه عندنا لا في حالة الركوع ولا في حالة رفع الرأس من الركوع، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن عند افتتاح الصلاة، وعند القنوت في الوتر، وعند كل تكبيرة من صلاة العيدين» وذكر الأربعة الأُخرى في المناسك.
ويقول في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وذلك أدناه وإن زاد فهو أفضل بعد أن يختم على وتر. فيقول خمسًا أو سبعًا، هكذا ذكر شمس الأئمة الحلواني وشيخ الإسلام خواهر زاده، هذا في حق المنفرد، وأما الإمام فلا ينبغي له أن يطول على وجه يُمل القوم؛ لأنه يصير سببًا للتغيير، وذلك مكروه، وكان الثوري يقول: ينبغي أن يقول ذلك خمسًا حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثًا، كذا ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرحه) والطحاوي في كتابه بقوله: إذا كان إمامًا، بعضهم قالوا: يقول ثلاثًا، وبعضهم قالوا: يقول أربعًا حتى يتمكن القوم من أن يقولوا ثلاثًا، ثم لم يرد محمد رحمه الله بقوله، وذلك أدناه أدنى الجواز؛ لأن الركوع بدون هذا الذكر جائز في ظاهر الرواية، فإنما أراد به أدنى الفضيلة.
وروي عن محمد رحمه الله في غير رواية (الأصل) أنه إذا ترك التسبيح أصلًا أو أتى مرة واحدة يجوز ويكره، وكان أبو مطيع تلميذ أبي حنيفة يقول: كل فعل هو ركن يستدعي ذكرًا فيه كان ركنًا كالقيام، فقد أشار إلى أن تسبيح الركوع ركن.
ولكنا نقول: إن النبي عليه السلام علّم الأعرابي الركوع ولم يذكر له شيئًا، ولو كان التسبيح ركنًا لبين؛ لأنه بين الأركان، ولو كان الإمام في الركوع فسمع خفق النعال هل ينتظر أم لا؟ قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة وابن أبي ليلى عن ذلك فكرهاه، وقال أبو حنيفة؛ أخشى عليه أمرًا عظيمًا يعني الشرك، وروى هشام عن محمد أنه كره ذلك، وعن أبي مطيع أنه كان لا يرى به بأسًا، وقال الشعبي لا بأس به مقدار التسبيحة والتسبيحتين، وقال بعضهم يطول التسبيحات، ولا يزيد في العدد، وقال أبو القاسم الصفار: إن كان الجائي غنّيًا لا يجوز له الانتظار، وإن كان فقيرًا جاز له الانتظار.
وقال الفقيه أبو الليث: إن كان الإمام عرف الجائي لا ينتظره؛ لأنه يُشبه الميل إليه، وإن لم يعرفه فلا بأس بذلك؛ لأن في ذلك إعانة على الطاعة، وقال بعضهم: إن أطال الركوع لإدراك الجائي الركوع خاصة، فلا يزيد إطالة الركوع للتقرب إلى الله تعالى، فهذا مكروه؛ لأن أول ركوعه كان يقدر آخر ركوعه للقوم فهذا شرك في صلاته غير الله، فكان أمرًا عظيمًا إلا أنه لا يكفر؛ لأن إطالة الركوع ما كانت على معنى التذلل والعبادة للقوم، وإنما كان لإدراك الركوع، وعلى هذا يحمل قول أبي حنيفة، وإن أطال الركوع تقربًا إلى الله تعالى كما شرع فيه تقربًا إلى الله لا ليدرك الجائي الركعة، فيكون الركوع من أوله إلى آخره خالصًا له تعالى، فلا بأس به.
ألا ترى أن الإمام يطيل الركعة الأولى في الفجر على الثانية، وإنما يفعل ذلك لإدراك القوم الركعة، فلا يتحقق الإشراك كذا هنا، وعلى هذا يعمل بما نُقل عن أبي مطيع والله أعلم.
ثم يرفع رأسه من الركوع فبعد ذلك لا يخلو إما أن يكون المصلي إمامًا أو مقتديًا أو منفردًا.
فإن كان إمامًا يقول: سمع الله لمن حمده بالإجماع، وهل يقول ربنا لك الحمد؟ على قول أبي حنيفة: لا يقول وعلى قولهما يقول، حجتهما في ذلك: ما روي عن عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله عليه السلام إذا رفع رأسه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد»، وعن علي رضي الله عنه أنه قال: ثلاث يخفيهن الإمام وذكر من جملتها ربنا لك الحمد، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: أربع يخفيهن الإمام وذكر من جملتها ربنا لك الحمد ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه السلام: «إنما جعل الإمام إمامًا ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، قال فإذا قال سمع الله لمن حمده، فقولوا ربنا لك الحمد»، فالنبي عليه السلام قسم هذين الذكرين بين الإمام وبين المقتدي، ومقتضى منطلق الحسن أن لا يشارك أحد.... إن كان قيل كيف؟ لِمَ تقولوا هكذا في حق التأمين، فإن النبي عليه السلام قال: وإذا قال «الإمام ولا الضالين، فقولوا آمين»، وبالإجماع إذا لم يقول آمين قلنا لو وظاهر القسمة بأن الإمام لا يقول، إلا أنا تركنا هذا الظاهر بدليل، وهو قوله عليه السلام: «إذا أمّن الإمام فأمِّنوا»، لا دليل فيما تنازعنا فيه، فيعمل فيه بظاهر القسمة كيف.
وقد روى الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام يقول آمين، فإن أخذنا بهذه الرواية يسقط السؤال.
فإن قيل قد ثبت رجوع أبي حنيفة رحمه الله عن هذه الرواية بدليل أن محمدًا رحمه الله ذكر في صلاة الأصل ثلاث يخفيها الإمام القعود والتشهد وبسم الله الرحمن الرحيم وآمين، وربنا لك الحمد، وسؤال محمد لابد أن يكون عن أبي حنيفة.
قلنا: هذا السؤال كما يحتمل أن يكون عن أبي حنيفة، يحتمل أن يكون عن أبي يوسف؛ لأن محمدًا قرأ الكتب على أبي يوسف إلا ما فيه اسم الكتب الكبير، فلا يثبت الرجوع عن أبي حنيفة بالشكل، والمعنى في المسألة لأبي حنيفة أن الإمام لو أتى بالتحميد يقع تحميده بعد تحميد المقتدي، وأذكار الصلاة ما ثبتت على هذا، فإن ما يشترك فيه الإمام، والمقتدي إما أن يأتيا به معًا أو يأتي به؟... الإمام أو لا، فأما أن يأتي به المقتدي أو فلا أصل له، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني كان شيخنا القاضي الإمام يحكي عن أستاذه أنه كان يميل إلى قولهما، وكان يجمع بين التسميع والتحميد فيمن كان إمامًا، والطحاوي كان يختار قولهما أيضًا، وهكذا نقل عن جماعة من المتأخرين بأنهم اختاروا قولهما، وهو قول المدينة لم يذكر الكتاب لفظين ربنا لك الحمد، واللهم ربنا لك الحمد، والثاني أفضل؛ لأن فيه زيادة ثناء، وهذا لفظ آخر لم يذكر محمد في (الكتاب)، وهو قوله ربنا ولك الحمد، وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه لا فرق بين قوله ربنا لك الحمد وبين قوله ربنا ولك الحمد، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده ذكر في بعض الآثار ربنا ولك الحمد اللهم ربنا ولك الحمد، ولا يزيد على هذا شيئًا في ظاهر مذهب أصحابنا، وإن كان مقتديًا يأتي بالتحميد، ولا يأتي بالتسميع بلا خلاف.
وإن كان منفردًا لا شك على قولهما يأتي بالتسميع والتحميد، وأما على قول أبي حنيفة ذكر الطحاوي؛ إذ لا رواية فيه نصًّا عن أبي حنيفة. واختلف مشايخنا فيه، والأصح أنه يأتي بهما.
وفي القدوري: أن عن أبي حنيفة فيه روايتان، وذكر شمس الأئمة السرخسي في (شرحه) روى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجمع بينهما وروى المعلى عن أبي يوسف أنه يأتي بالتحميد لا غير، وذكر شيخ الإسلام في (شرحه) روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يأتي بالتسميع لا غير.
قال: والصحيح من مذهبه أنه يأتي بالتحميد لا غير، وبه كان يُفتي شمس الأئمة الحلواني، وشمس الأئمة السرخسي رحمهما الله؛ وهذا لأن التسميع حث لمن معه على التحميد، وليس هنا معه أحد ليحثه عليه، فلا معنى للإتيان بالتسميع فيأتي بالتحميد لا غير، وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أن المنفرد يأتي بالتسميع باتفاق المرويات، وفي التحميد اختلفت الروايات، والصحيح ما قلنا: أنه يأتي بالتحميد لا غير.
وإذا ركع المقتدي قبل الإمام وأدركه الإمام في الركوع أجزأه، وقال زفر لا يجزيه؛ لأن ما أتى به قبل الإمام غير معتد به، والباقي بناءً عليه والبناء على الفاسد فاسد، ولنا أن القدر الذي وجد فيه المشاركة مع الإمام يكفي لجواز الصلاة، فهب أن ما وجد قبله بطل، وصار بمنزلة العدم، فهذا القدر كافي لجواز الصلاة.
يوضحه: إن فعله مع الإمام فقبل القطع عما قبله، فيجعل مقتديًا به لا ثابتًا عليه، فتصح ولكن يكره للمقتدي أن يسبق الإمام، قال عليه السلام: «فلا تختلفوا عليه».
وإن رفع رأسه قبل أن يركع الإمام لم يجز الركوع لانعدام المشاركة أصلًا وهي شرط، وهذا كله إذا ركع بعد فراغ الإمام من القراءة، فأما إذا ركع قبل (فراغ) هذا الإمام في القراءة ثم قرأ الإمام وركع والرجل راكع، فقد قال الفقيه أبو محمد أنه لا يجزيه من ركوعه؛ لأنه ركع قبل أوانه باعتبار الإمام وهو تابع الإمام، ولو ركع بعد ما قرأ الإمام ثلاث آيات ثم أتمّ القراءة وأدركه جاز، ولو ركع الإمام بعد قراءة الفاتحة ونسي السورة وركع المقتدي معه ثم عاد الإمام إلى قراءة السورة ثم ركع والمقتدي على ركوعه الأول أجزأه ذلك الركوع، ولو تذكّر الإمام في ركوعه في الركعة الثالثة أنه ترك سجدة من الركعة الثانية وركع للثالثة، والرجل على حالة ركوع لم يجزئ المقتدي ذلك الركوع عن سائل الركوع.
جئنا إلى السجود: قال ثم يخر ساجدًا ويكبّر في حالة الخرور وذكر لفظ الخرور في (النوادر) وفي (الأصل) ذكر ثم ينحط ويكبّر، ويسجد مكانه.... لفظة الخرور اتباعًا للكتاب، وإخبار لفظة الانحطاط اتباعًا للسنّة، ويقول في سجوده سبحان ربي الأعلى: ثلاثًا، وذلك أدناه، وإن زاد فهو أفضل والكلام في تسبيحات السجود نظير الكلام في تسبيحات الركوع ثم يرفع رأسه، ويكبّر حتى يطمئن، ثم يكبّر وينحط للسجدة الثانية ويسبح فيها مثل ما يُسبح في السجدة الأولى، وإذا سجد ورفع رأسه قليلًا ثم سجد أخرى إن كان إلى السجود أقرب لا يجزيه عن السجدتين؛ لأنه يعد ساجدًا وإن كان إلى الجلوس أقرب يجزيه عن السجدتين، هكذا ذكر في (العيون)؛ لأنه يعتد بالبناء.
وبعض مشايخنا قالوا؛ إذا أرسل جبهته عن الأرض، ثم أعادها جاز ذلك عن السجدتين، وعن الحسن بن زياد؛ هو قريب من هذا، فإنه قال إذا رفع رأسه بقدر ما يجري فيه الريح يجوز، وقال محمد بن سلمة: لا يكون عنهما ما لم يرفع جبهته مقدار ما يقع عند الناظر أنه رفع رأسه ليسجد أخرى، فإن فعل ذلك جاز عن السجدتين، وإلا يكون عن سجدة واحدة وهو قريب كما ذكر في (العيون). وفي القدوري بأنه يكتفي بأدنى ما ينطلق عليه اسم الرفع، وقد مرّ شيء من هذا في الفصل الثاني.
وفصل الطمأنينة في الركوع والسجود والفرجة التي بين الركوع والسجود، فالجلسة بين السجدتين مرّ في الفصل الثاني أيضًا، وإذا سجد قبل الإمام، وأدركه الإمام فيها جاز على قول علمائنا الثلاثة، ولكن يكره للمقتدي أن يقول ذلك، وقال زفر: لا يجوز، والكلام فيه نظير الكلام في الركوع، وإذا سجد قبل رفع الإمام رأسه من الركوع أو سجد للثانية قبل رفع الإمام رأسه من السجدة الأولى، ثم شاركه الإمام فيها، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وإذا رفع المقتدي رأسه من السجدة الأولى، فرأى الإمام ساجدًا، فظن أنه في السجدة الثانية وهو في السجدة الأولى تفسد، فالمسألة على ستة أوجه:
في الجمعة يصير ساجدًا السجدة الأولى منها إذا لم ينوِ شيئًا حملًا لأمره على الصواب، وتلو المتابعة.
والثانية: إذا نوى الأولى.
والثالثة: إذا نوى المتابعة.
والرابعة: إذا نوى الأولى والمتابعة، والجواب فيها أظهر.
والخامسة: إذا نوى الثانية والمتابعة؛ لأنه تقع المعارضة بين الثنتين، فصلى كأنه لم ينوِ أو يترجح بما هو الصواب.
والسادسة: إذا نوى الثانية فحسب وهاهنا يصير ساجدًا عن الثانية؛ لأن هذه ثانية باعتبار فعله، فالسنة صادفت محلها، ولم توجد في معارضته نيّة أخرى ثم إذا صار ساجدًا عن الثانية، فرفع الإمام رأسه عن السجدة الأولى وأدركه في هذه السجدة قد ذكرنا رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز، وروي عن أبي يوسف أنه يجوز، وعن محمد روايتان؛ فإن أطال المقتدي السجدة الأولى وسجد الإمام الثانية، ثم رفع المقتدي رأسه، فرأى الإمام ساجدًا وظن أنه في السجدة الأولى فسجد فالمسألة أيضًا على ستة أوجه، وفي الوجوه كلها يصير ساجدًا عن الثانية، أما إذا لم تحضره النية؛ لأن هذه ثانية باعتبار حاله، وقال الإمام: وأما إذا نوى الثانية أو نوى المتابعة أو نوى المتابعة والثانية فظاهر، وأما إذا نوى المتابعة والأولى فلما ذكرنا، وأما إذا نوى الأولى فحسب؛ لأن النية لم تصادف محلها لا باعتبار حاله ولا باعتبار حال الإمام، فتلغوا والله أعلم.
أجمع أصحابنا رحمهم الله على أن فرض السجود يتأدى بوضع الجبهة، وإذا لم يكن بالأنف عذر، وهل يتأدى بوضع الأنف؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: يتأدى وإن لم يكن بجبهته عذر، قالا: لا تتأدى إلا إذا كان بجبهته عذر فأبو حنيفة يقول: سجد على بعض ما تعين محلًا للسجدة، فيجوز كما لو سجد على الجبهة لا غير.
بيانه: ما أجمعنا على أنه لو كان بجبهته عذر، فسجد على الأنف لا غير يجوز، ولو لم يكن الأنف مسجدًا لما صار مسجدًا بالعذر كالخدّ والذقن سئل نصير عمن يضع جبهته على حجر صغير، قال: إذا وضع أكثر الجبهة على الأرض يجوز، وإلا فلا يقبل إن وقع مقدار الأنف على الأرض لم لا يجوز على قول أبي حنيفة قال: لأن الأنف عضو كامل، وهذا القدر من الجبهة ليس بعضو كامل، ولا بأكثره فلا يجوز.
وسئل الفقيه عبد الكريم عمن وضع جبهته على الكف ليسجد قال: لا يجوز، وقال غيره من أصحابنا يجوز كما لو كان منفصلًا عنه، وقال بعضهم: لا يجوز لأن كمه تبع له، واستدل هذا القائل ما ذكر في كتاب الأيمان إذا حلف لا يجلس على الأرض فجلس على زيله يحنث؛ لأن زيله تبع له كذا ها هنا، وإذا سجد على ظهر غيره بسبب الزحام، ذكر في (الأصل) أنه يجوز.
وقال الحسن بن زياد والشافعي: لا يجوز، حجتهما قوله عليه السلام: «تمكن جبهتك من الأرض».
حجتنا حديث عمر رضي الله عنه، فإنه قال: «هذا المسجد بناه رسول الله عليه السلام، ويحضر فيه المهاجرون والأنصار فمن وجد فيه موضعًا سجد فيه ومن لم يجد فيه موضعًا سجد على ظهر أخيه»، فلأن فيه ضرورة؛ لأن الزحام أصل في أداء الصلوات بالجماعات، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إنما يجوز إذا سجد على ظهر المصلي، أما إذا سجد على ظهر غير المصلي لا يجوز؛ لأن الجواز بحكم الضرورة، والضرورة لا تتحقق في حق غير المصلي؛ لأن غير المصلي لا يمكن في المسجد، وذكر المسألة في (العيون) على نحو ما روى الحسن، وذلك مرّ.... ولو سجد على فخذه إن كان بغير عذر، فالمختار أنه لا يجوز؛ لأن الساجد يجب أن يكون غير محل السجود، وإن كان بعذر فالمختار أنه يجوز، وهكذا ذكر الصدر الشهيد رضي الله عنه.
ولو سجد على ركبتيه لا يجوز بعذر أو بغير عذر، وإذا لم يضع المصلي ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزيه هكذا اختاره الفقيه أبي الليث؛ لأنا أمرنا أن نسجد على سبعة أعضاء، وفتوى مشايخنا على أنه يجوز؛ لأنه لو كان موضع الركبتين نجسًا يجوز، هكذا ذكر القدوري في (كتابه)، والفقيه أبي الليث لم يصحح هذه الرواية أنه لو كان موضع الركبتين نجسًا أنه يجوز، وإذا بسط كُمه وسجد عليه أن.... يُبقي التراب عن وجهه يكره، ذلك؛ لأن هذا نوع يبقي التراب عن ثيابه ويسجد عليه لا يكره؛ لأن هذا ليس مكره.
وفي أول كراهية (النوازل): رجل يصلي على الأرض ويسجد على حرفها وضعها بين يديه يبقى به الحر لا بأس به، وذكر عن أبي حنيفة رحمه الله أنه فعل ذلك، فمرّ به رجل وقال ما يُسبح لا تفعل مثل هذا، فإنه مكروه، فقال له أبو حنيفة: من أين أنت، فقال: من خوارزم، فقال أبو حنيفة: الله أكبر ما التكبير... من الصف الآخر، ومراده إن علم الشريعة يحمل من هاهنا إلى خوارزم، لا من خوارزم إلى هاهنا والله أعلم.
ثم قال أبو حنيفة: في مساجدكم حشيش، فقال: نعم، فقال له أبو حنيفة: فيجوز السجدة على الحشيش ولا يجوز على الخرقة وإذا سجد رفع أصابع رجليه على الأرض لا يجوز، كذا ذكر الكرخي في (كتابه) والجصاص في (مختصره).
وفي (النوازل): إذا سجد على أرض الثلج إن لبد جاز؛ لأنه بمنزلة الأرض، وإذا لم يلبد وكان تغيّب وجهه فيه، فلا يجد حجمه لم يجز؛ لأنه بمنزلة الساجد على الهواء، وعلى هذا إذا لقي في المسجد حشيش كثير، فسجد عليه إن وجد حجمه يجوز وإلا فلا حجمه وإذا صلى على التبن أو القطن المحلوج، وسجد عليه إن استقر جبهته وأنفه على ذلك ووجد الحجم يجوز وإن لم تستقر جبهته لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول هو في معنى الأرض، وفي الوجه الثاني لا.
وإذا سجد على ظهر ميت إن كان على الميت لبد، ولا يجد حجم الميت يجوز؛ لأنه سجد على اللبد، وإن وجد حجم الميت لا يجوز؛ لأنه سجد على الميت، وإن كان موضع السجود أرفع من موضع القدمين...... ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في (شرح كتاب الصلاة) أنه إن كان التفاوت بمقدار لبنة أو لبنتين يجوز، وإن كان أكثر من ذلك لا يجوز، وأراد باللبة اللبنة المنصوبة دون المفروشة، ثم إذا فرغ من السجدة ينهض على صدور قدميه ولا يقعد. وقال الشافعي؛ يجلس ثم يقوم.
حجتنا ما روى وائل بن حجر أن رسول الله عليه السلام كان إذا رفع رأسه من السجود الثاني قام كأنه على الرصيف، أي: على الحجارة المحراة، وفي قوله ينهض على صدور قدميه إشارة إلى أنه لا يعتمد على الأرض بيده عند قيامه، وإنما يعتمد على يديه، وهكذا ذكر القدوري في (شرحه)، وقال الشافعي: يعتمد بيده على الأرض، وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله الخلاف في الأفضل حتى لو فعل كما هو مذهبنا لا بأس به عند الشافعي رحمه الله، ولو فعل كما هو مذهبه لا بأس به عندنا، ويفعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الركعة الأولى من القيام والقراءة والركوع والسجود.
وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الثانية يقعد قدر التشهد في ذوات الأربع والثلاث من الفرائض، وهذه القعدة سنّة لو تركها لا تفسد صلاته، ولكن يكره تركها متعمدًا وقد مرّ هذا من قبل، وصفة القعدة مرّت من قبل أيضًا، وإذا قعد يضع يديه على ركبتيه أو على فخذيه.
والتشهد أن يقول: «التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله»، ولا يزيد على هذا في القعدة الأولى، فإن زاد فصلى على النبي ودعا لنفسه ولوالديه، فإن كان عامدًا كان ذلك مكروهًا، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإن كان ساهيًا: روي عن أبي حنيفة أنه يلزمه سجدتا السهو، وعن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يلزمه سجدتا السهو حالًا؛ لأنه لو لزم ذلك لزمه بالصلاة على النبي، وإنه يسبح وأبو حنيفة يقول سجود السهو لا يلزمه بالصلاة على النبي، وإنما تلزمه بتأخير الركن، فإذا فرغ من قراءة التشهد قام.
ولا بأس بأن يعتمد بيده على الأرض، هكذا ذكر الطحاوي، وإذا قام فعل في الشفع الثاني مثل ما فعل في الشفع الأول من القراءة والركوع والسجود، غير أنه في القراءة بالخيار: إن شاء قرأ وإن شاء سبح وإن شاء سكت، وقد ذكرنا هذا في فضل القراءة، وإذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة من الشفع الثاني فقعد وهذه القعدة فرض، وقد مرّ هذا فيما تقدم، ويتشهد في هذه القعدة أيضًا، وقراءة التشهد فيها ليست بفرض حتى لو تركها لا تفسد صلاته عندنا، وإن قرأ بعض التشهد وقرأ البعض في ظاهر الرواية تجوز صلاته أيضًا؛ لأنه لو ترك الكل تجوز صلاته، فإذا ترك البعض أولى.
وذكر في بعض الروايات فيما إذا قعد قدر التشهد، وقرأ بعض التشهد اختلاف بين أبي يوسف ومحمد: على قول أبي يوسف تجوز صلاته كما لو ترك الكل، وعلى قول محمد: لا تجوز صلاته؛ لأنه إذا شرع في القراءة افترض عليه الإتمام، فإذا تركها، فقد ترك الفرض فتفسد صلاته، قال: وهو نظير من سلّم ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو ذهب ولم يسجد لها، فصلاته ثابتة، ولو خرّ ساجدًا ثم رفع رأسه وذهب، ولم يعد القعدة فسدت صلاته، كذا في مسألتنا.
فإذا فرغ من التشهد يصلي على النبي عليه السلام، ويدعو للمؤمنين وللمؤمنات ولنفسه ولوالديه إن كانا مسلمين هكذا ذكر الطحاوي، ولم يذكر محمد الصلاة على النبي هنا في (الأصل)، والصحيح ما ذكره الطحاوي ثم يدعو بما شاء مما أشبه ألفاظ القرآن، ولا يدعو بما يشبه كلام الناس، والصلاة على النبي في هذه القعدة ليست من الواجبات، وقال الشافعي هي واجبة هكذا ذكره القدوري.
وقال أبو الحسن الكرخي: الصلاة على النبي واجبة على الإنسان في العمر مرّة، إن شاء فعلها في الصلاة أو في غيرها، وعن الطحاوي: أنه يجب عليه الصلاة كلما ذكر، قال شمس الأئمة السرخسي: وما ذكر الطحاوي مخالف الإجماع فعامة العلماء قالوا: إن الصلاة على النبي كلما ذكر مستحبة، وليست بواجبة. وقال أبو عبد الله الجرجاني: الصلاة على النبي ليست بفرض أصلًا.
بقي الكلام بعد هذا في كيفية الصلاة على النبي، ذكر عيسى بن أبان في كتاب الحج على أهل المدينة أن محمدًا سئل عن الصلاة على النبي فقال: على النبي نقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم، وعلى إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وإنه خرج موافقًا لحديث كعب بن عجرة أنه قال: يا رسول الله عرفنا السلام عليك كيف الصلاة عليك؟ فقال: قولوا: «اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد» إلى آخره كما ذكرنا، وتكلم أصحاب رسول الله عليه السلام في كيفية الصلاة على النبي عليه السلام، وكان ابن عباس وأبو هريرة يصليان عليه على نحو ما بيّنا إلا أنهما كانا يزيدان، وارحم محمدًا وآل محمد كما رحمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
وحكي عن محمد بن عبد الله: أنه يكره قول المصلي وارحم محمدًا وآل محمد وكان يقول هذا نوع ظن بتقصير الإنسان فإن أحدًا لا يستحق الرحمة لا بإتيان ما يُلام عليه، ونحن أمرنا بتعظيم الأنبياء وبتوقيرهم، وإذا ذكر النبي لا يقال: رحمه الله، ولكن يصلى عليه وكذا إذا ذكرت الصحابة لا يقال رحمهم الله ولكن يقال رضي الله عنهم هكذا (ذكر) شيخ الإسلام خواهر زاده وشمس الأئمة السرخسي ذكر بأنه لا بأس به؛ لأن الأثر ورد به من طريق أبي هريرة وابن عباس رضي الله عنهما ولا عيب على من اتبع الأثر، ولأن أحدًا لا به يستغني عن رحمة الله.
واختلفت الآثار في قوله على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، يذكر في بعضها إبراهيم، ولم يذكر آل وذكر في بعضها الآل ولم يذكر نفس إبراهيم، وفي بعضها جمع بينهما، وكان الفقيه أبي جعفر يقول: وأما أنا أقول: وارحم محمدًا وآل محمد، واعتمادي عليه للتوارث الذي وجدته في أهل بلدي وبلدان المسلمين، وكان الشيخ الإمام الزاهد أبو الحسن رحمه الله يقول: لا بأس به، وكان يقول: معنى قولنا: ارحم محمدًا؛ ارحم أُمّة محمد فهو راجع إلى الأمة، هذا كمن حيّ وللجائي أب شيخ كبير، وأراد أن تقيموا العقوبة على الجائي فالناس يقولون للذي بحاجة ارحم هذا الشيخ الكبير، وذلك الرحم راجع إلى الابن الجائي حقيقة، ويكون معناه ارحم هذا الشيخ الكبير بالرحمة على ابنه الجائي، كذا هاهنا الرحمة راجعة إلى الأمة، والله أعلم.
وينبغي أن يهتم بالتكبيرات كلها تكبيرة الافتتاح، وتكبيرة الركوع والسجود لحديث إبراهيم النخعي موقوفًا عليه، ومرفوعًا إلى رسول الله عليه السلام: «الأذان جزم والتكبير جزم» فلأن أكثر على وزن أفعل، وكل ما كان على هذا الوزن لا يحتمل المد.
واعلم بأن المد في التكبير لا يخلو، إما أن يكون في الله وفي أكبر، فإن كان في الله لا يخلوا إما أن يكون في أوله أو أوسطه أو آخره، فإن كان في أوله كان خطأ، ولكن لا تفسد الصلاة، وقال بعض مشايخنا يوهم الكفر، وقال الإمام الزاهد الصفار: لا يوهم. فإن كان في أوسطه فهو الصحيح، وهو المختار. وإن في آخره فهو خطأ، ولكن لا تفسد الصلاة أيضًا.
أما إذا كان المد في أكبر، فإنه تفسد الصلاة سواء كان في أوله أو أوسطه أو آخره، وإذا تعمد ذلك في وسطه يكفر؛ لأن الإكبار اسم الشيطان، وإن لم يتعمد لا يكفر ويستغفر ويتوب، وينبغي أن يقول: الله برفع الهاء ولا يقول بجزم الهاء وفي قوله أكبر هو بالخيار إن شاء ذكره بالرفع وإن شاء ذكره بالجزم وإن كرر التكبير مرارًا ذكر الله بالرفع في كل مرة وذكر أكبر، فيما عدا المرة الأخيرة بالرفع وفي المرة الأخيرة هو بالخيار، إن شاء ذكر بالرفع، وإن شاء ذكره بالجزم.
قال محمد في (الأصل): ويكون انتهى نظر المصلي في صلاته إلى موضع سجوده، لحديث أبي قتادة، أن رسول الله عليه السلام إذا صلى رمى ببصره إلى السماء، فلما نزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] رمى ببصره إلى موضع سجوده، وقال أبو طلحة لرسول الله عليه السلام حيث نزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2] (فقال كيف) الخشوع: يا رسول الله؟ فقال عليه السلام: «أن يكون منتهى بصر المصلي إلى موضع سجوده»، قال أبو طلحة؛ ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: «إذًا في المكتوبة»، فهذا يدلك على أن الأمر في التطوع أسهل، ولم يزد محمد على ذكرنا.
وذكر الطحاوي والكرخي: ينبغي أن يكون منتهى بصره في قيامه إلى موضع سجوده، قال الطحاوي: وفي الركوع إلى ظهر قدميه، وفي السجود إلى أرنبة أنفه، وفي قعوده إلى حجره، وزاد بعضهم: وعند التسليمة الأولى إلى كتفه الأيمن، وعند التسليمة الثانية إلى كتفه الأيسر، ومن الناس من يقول: يكون بصره أمامه، كمن يناجي غيره وهو بين يديه يكون بصره أمامه، وما ذكر الطحاوي بيان الاستحباب لا بيان الوجوب حتى لو نظر في حالة القيام أمامه، وفي حالة الركوع والسجود على الأرض لا بأس به، فلا يأثم إذا أخذ في التشهد، وانتهى إلى قوله أشهد أن لا إله إلا الله، هل يشير بإصبعه السبابة من اليد اليمنى؟ لم يذكر محمد هذه المسألة في (الأصل).
وقد اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: لا يشير؛ لأن مبنى الصلاة على السكينة والوقار، ومنهم من قال: يشير، وذكر محمد في غير رواية الأصول حديثًا عن النبي عليه السلام أنه كان يشير، قال محمد: يصنع بصنع النبي عليه السلام، ثم قال هذا قولي وقول أبي حنيفة.
ثم كيف يصنع عند الإشارة؟ حكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: يعقد الخنصر والبنصر ويحلق الوسطى مع الإبهام ويشير بسبابته، وروي ذلك عن النبي عليه السلام، ثم إذا فرغ من التشهد وصلى على النبي دعا لنفسه ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات، فسلم بتسليمتين تسليمة عن يمينه، وتسليمة عن شماله، ويحول في التسليمة الأولى وجهه عن يمينه وفي التسليمة الثانية عن يساره، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام «كان يحول وجهه في التسليمة الأولى حتى يرى بياض خده الأيمن، وكان يسلم عن شقه الأيسر حتى يرى بياض خده الأيسر» ثم من الناس من يقول في السلام: سلام عليكم ورحمة الله بحذف الألف واللام، وعندنا يقول: السلام بالألف واللام ولا يقول في هذا السلام في آخره وبركاته عندنا.
والسنّة في السلام: أن تكون التسليمة الثانية أخفض من الأولى، ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، وعن محمد في (النوادر) أن التسليمة الثانية تحية للحاضرين والتسليمة الأولى للتحية والخروج؛ لأن من يحرم للصلاة، فكأنه غاب عن الناس لا يكلمهم ولا يكلمونه، وعند التحليل كأنه يرجع إليهم فيسلم، فإن سلّم أولًا عن يساره يسلم عن يمينه، ولا يعيد عن يساره، وإذا سلّم تلقاء وجهه يعيد ذلك عن يساره، هكذا روي عن أبي حنيفة، وينوي بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحفظة والرجال والنساء، وبالتسليمة الثانية من عن يساره منهم، هكذا ذكر محمد في (الكتاب)، ولم يذكر كيفية النيّة.
واختلف المشايخ فيه منهم من قال في نيّة الحفظة نوى الكرام الكاتبين، وهما ملكان مكرمان مع الآدمي يكون أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، ويكون الآخر عن يساره يكتب السيئات، ومنهم من قال: ينوي جميع من معه من مؤمن الملائكة؛ لأنه اختلف الإحصاء، وعددهم في بعضها إن مع كل مؤمن خمس منهم واحد عن يمينه، وواحد عن يساره، ويكتبان أعماله كما ذكرنا، وواحد أمامه يلقيّه الخيرات، وواحد وراءه يدفع عنه المكاره، وواحد على ناصيته يكتب ما يصلي على النبي، ويلقنه النية ما يصلي عليه، وقال بعضهم: مع كل مؤمن ستون ملكًا، وقال بعضهم مائة وستون.
وفي نية الرجال والنساء واختلاف المشايخ أيضًا، منهم من قال: ينوي من كان معه في الصلاة؛ لأن التسليم خطاب والخطاب للحاضرين، فعلى هذا القول في زماننا لا ينوي النساء، ومنهم من قال: ينوي بالتسليمة الأولى من عن يمينه من الحضر؛ ولأنه لا...، وفي الثانية ينوي جميع عباد الله الصالحين؛ لأنه دعى كما في قولنا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ينوي جميع عباد الله الصالحين من الملائكة والإِنس. روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قال هذا فقد أصاب كل عبد صالح في السماء والأرض»، ولكن هذا القول بخلاف ما روينا عن محمد، فقد روينا عن محمد أن التسليمة الثانية تحية للحاضرين والتسليمة الأولى للتحية، وللخروج، ومنهم من قال في التسليمتين جميعًا: ينوي جميع المؤمنين، وإليه أشار الحاكم في (مختصره)؛ لأن المصلي غيب عن الناس كلهم بالتحريمة لا يكلمونه ولا يكلموهم، فإذا سلّم الناس فكأنه قال..... كواحد منكم في أمور الدنيا فيكلمون، وهذا الذي ذكرنا في حق الإمام، والمقتدي يحتاج إلى نية الإمام مع نية من ذكرنا، فإن كان الإمام في جانب الأيمن نواه فيهم، وإن كان في جانب الأيسر نواه فيهم وإن كان بجانبه نواه في الجانب الأيمن عند أبي يوسف ترجيحًا لجانب الأيمن، وعند محمد ينويه فيهما الإمكان الجمع عند التعارض ذكر الخلاف على نحو ما ذكر شمس الأئمة السرخسي، وذكر شيخ الإسلام أن على رواية الحسن بن زياد ينويه بالتسليمتين، ولم يذكر قول محمد.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار: أن على رواية الحسن ينويه في الجانب الأيمن، ولم يذكر قول محمد، والمنفرد لا ينوي إلا الحفظة عند بعض المشايخ، فإن غير الحفظة ليسوا بحضور وخطاب غير الحاضر لغو، ومنهم من يقول: ينوي جميع من يتم على يمينه من الرجال والنساء، وجميع من يتم على يساره من الرجال والنساء، ثم قدم الحفظة على بني آدم في الذكر في (الأصل) وفي (الجامع الصغير) قدم بني آدم على الحفظة في الذكر.
فمن المشايخ من قال: ليس في المسألة اختلاف الروايتين؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب بل تقتضي مطلق الجمع، فينويهم من غير ترتيب كما لو سلّم على جماعة فهم الشيوخ والشبان، لا ترتيب في التسليم بل يجمعهم.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان؛ لأن الواو إن كانت لا تقتضي الترتيب إلا أن البداية بالذكر دليل الترجح وزيادة الاهتمام به.
ومنهم من جعل هذه المسألة بناءً على مسألة أخرى أن الملائكة أفضل أم بنو آدم؟ فحين صنف محمد كتاب الصلاة كان من رأيه تفضيل الملائكة، وحين صنف (الجامع الصغير) كان من رأيه تفضيل بني آدم، ولكن مع هذا بعيد لأنهم كانوا قليل الخوض في الكلام، والمذهب الصحيح أن خواصّ البشر أفضل من جملة الملائكة، وخواصّ الملائكة أفضل من أوساط البشر، وأوساط البشر أفضل من أوساط الملائكة، وكأن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي يحكي عن استملاء الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني أنه قال: من غلب عقله شهوته، فهو خير من الملائكة ومن غلبت شهوته عَقله فهو شرّ من البهيمة، فكأنه أراد به الغلبة من كل وجه حتى يكفر أما المؤمن الفاسق لا يكون شرًا من البهيمة.
ثم المقتدي متى يسلّم؟ فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية يسلم مع الإمام فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق بين التسليم وبين التكبير، وفي رواية يسلم بعد الإمام فعلى هذه الرواية يحتاج إلى الفرق بين التسليم وبين التكبير.
والفرق: أن في مقارنة التكبير شرعة إلى العبادة فيكون أولى وفي مقارنة التسليم شرعة إلى الخروج عن العبادة، والاشتغال بأمور الدنيا، ولأنه ينقل في حرمة الصلاة حين (من أن) يخرج عن حرمة الصلاة، وعلى قولهما يسلم بعد الإمام كما يكبّر بعد الإمام، وبعض مشايخنا قالوا: عند محمد يسلم مقارنًا للإمام.
وذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله أن عطاء وإبراهيم يقولان: المقتدي بالخيار، إن شاء سلّم بعد فراغ الإمام، وإن شاء سلّم مع الإمام، وقال محمد بن سلمة: إذا سلّم الإمام عن يمينه بعده، وإذا سلّم الإمام عن يساره فيسلم المقتدي بعده عن يساره، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: يسلم المقتدي مع الإمام حتى يصير خارجًا سلام نفسه، فذهب الفقيه أبو جعفر إلى أن المقتدي يصير خارجًا عن الصلاة بسلام الإمام، فيشترط أن يسلّم مع الإمام، حتى يصير خارجًا بسلام نفسه، فيكون مقيمًا السنّة، وعن أبي حنيفة رحمه الله في هذا روايتان: في رواية يصير المقتدي خارجًا عن حرمة الصلاة بسلام الإمام، وفي رواية لا يصير خارجًا، فمال الفقيه أبو جعفر إلى الرواية التي تصير خارجًا عن حرمة الصلاة بسلام الإمام، وإضافة لفظة السلام واجبة عندنا، وليست بفرض حتى لو خرج عن الصلاة بكلام أو يُفعل بناءً في الصلاة يجوز، ولا يلزمه الإعادة، وعند الشافعي تلزمه الإعادة.
وإذا فرغ الإمام من التسبيحات قبل فراغ المأموم فالمأموم يتابع الإمام، ولا يتم التسبيحات، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هو الأشبه بمذهب أصحابنا رحمهم الله، وعلى قياس قول أبي مطيع البلخي يتم التسبيحات؛ لأن التسبيحات عنده فريضة حتى قال بفساد الصلاة بتركها كُلًا أو بعضًا، والاشتغال بإتمام الفرض أولى من الاشتغال بالواجب، فإذا فرغ الإمام من التشهد، والمؤتم لم يفرغ بعد من القعدة الأولى لا يتابع الإمام ما لم يتمم التشهد، وفي القعدة الأخيرة يتابع الإمام ويُسلم معه، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا انتهى إلى الإمام وقد سبقه الإمام بشيء من صلاته، هل يأتي بالثناء؟ فهذا على وجوه:
الأول: إذا أدركه في حالة القيام في الركعة المسبوقة هل يأتي بالثناء إذا فرغ في الصلاة أو في الركعة الثانية؟ وفي هذا الوجه كان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يحكي عن استملاء الشيخ الإمام أنه كان يقول: لا يأتي بالثناء، قال: وقال غيره من أصحابنا رحمهم الله يأتي، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أنه إن كانت الصلاة صلاة يخافت فيها بالقراءة يأتي بالثناء لا محالة؛ لأنه لو لم يأته بالثناء إنما لا يأتي، كيلا يفوته الاستماع، فإذا كانت الصلاة مما يخافت فيها بالقراءة لا يلزمه الاستماع والثناء ذكر مقصود بنفسه، فيأتي به.
فإن قيل: بأن كان لا يفوته الاستماع متى يشتغل بالثناء، فإنه يفوت فريضة الإنصات.
قلنا: الإنصات إنما يفرض حالة اشتغال القراءة؛ لأن الاستماع إنما يتحقق بالإنصات، والاستماع فرض فما لا يتحقق الاستماع إلا به يصير فرضًا تبعًا له، فأما في حالة غير الاستماع فالإنصات إنما شرع بنفسه تعظيمًا لا من القراءة بقدر الإمكان لا سنّة مقصودة بنفسها، والثناء ذكر مقصود بنفسه فكان مراعاة الثناء أهم من مراعاة الإنصات.
فإن قيل: الإنصات فرض، وإن كان لا يستمع القراءة حتى سقطت عن المقتدى القراءة التي هي ركن في الصلاة لأجل الإنصات.
قلنا: القراءة ما سقطت عن المقتدي لمكان الإنصات، لكن إنما سقطت لأن بقراءة الإمام جُعلت قراءة له متى شارك الإمام في القيام الذي هو محل قراءة الإمام.
ألا ترى أنه متى أدركه في حالة الركوع صار مدركًا معتد بالركعة، وإن لم يوجد منه إنصات لقراءة الإمام؛ لأنه شاركه في القيام، فجعل قراءة الإمام له قراءة لمشاركته في القيام، فأما ثناء الإمام لم يجعل ثناء من المقتدي، فإذا لم يشتغل بالثناء يفوته الثناء أصلًا، وأما إذا كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة إن أدرك الإمام في الركعتين الأخريين، فكذلك الجواب يشتغل بالثناء؛ لأن الإمام يخافت بالقراءة في الأخريين.
وإن كان في الركعتين الأوليين، فقد اختلف فيه المشايخ، منهم من يقول: يشتغل بالثناء، ومنهم من يقول: لا يشتغل بالثناء، بل يستمع القراءة، وإليه كان يميل الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل وهو الأصح، ومنهم من يقول: ينتظر مواضع سكتات الإمام ويأتي بالثناء فيما بينهما حرفًا حرفًا، أما من قال بأنه يشتغل بالثناء ذهب في ذلك إلى أن الاستماع إن فاته بسبب الاشتغال بالثناء ذهب في ذلك إلى أن الاستماع إن فاته بسبب الاشتغال بالثناء في البعض، والثناء يفوته أصلًا لو لم يشتغل بالثناء، فكان الاشتغال بالثناء أولى، وأما من يقول لا يشتغل بالثناء يقول بأنه لو اشتغل بالثناء، فإنه يفوته الاستماع وأنه فرض مقصود بنفسه، والثناء سُنُّة فكان ترك السنّة أولى من ترك الفرض بخلاف الإنصات؛ لأنه بانفراده ليس بفرض، وإنما يفترض حالة الاستماع.
ألا ترى أن الأمر به على الانفراد لم يرد، وإنما ورد مع الأمر بالاستماع، فيكون فرضًا حالة الاستماع سنّة على الانفراد، وإذا كانت سُنّة في هذه الحالة كان الاشتغال بالثناء أولى من الوجه الذي بيّنا، وأما من يقول يأتي بالثناء في سكتات الإمام ذهب في ذلك إلى أنه يمكنه إقامة هذه السنّة من غير أن يفوته فرض الاستماع بأن يأتي بها في سكتات الإمام، وكان عليه أن يأتي بالثناء في سكتات الإمام، وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر إذا جاء المسبوق إلى الإمام والإمام في الفاتحة في صلاة يجهر فيها بالاتفاق.
وإذا جاء الإمام في السورة في صلاة يجهر بها قال أبو يوسف رحمه الله يثني المسبوق وقال محمد رحمه الله: لا يثني وفي صلاة العيد والجمعة إذا كان المسبوق بعيدًا من الإمام لا يسمع قراءته، هل يثني بعد تكبيرة الافتتاح؟ قال الفضلي: لا يثني؛ لأنه على يقين أنه يقرأ فيدخل تحت قوله تعالى: {فَاسْتَمِعُواْ} [الأعراف: 204] وقال الإمام أبو محمد عبد الله بن الفضل: يثني؛ لأنه لا يسمع فصار كما لو أدرك الإمام في الأوليين في صلاة لا يجهر فيها وهناك يثني، وإن تيقن أن الإمام في القراءة كذا هاهنا، هذا الذي ذكرنا: إذا أدرك الإمام في حالة القيام، فأما إذا أدركه في حالة الركوع، وكبّر تكبيرة الافتتاح قائمًا هل يأتي بالثناء قائمًا يتحرى فيه؟ إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى به قائمًا يدرك الإمام في شيء من الركوع، فإنه يأتي به؛ لأن موضع الثناء أدرك الإمام فيه ليس بموضع القراءة للإمام، وإتيان الثناء لا يؤدي إلى تفويت هذه الركعة إذا كان يدركها فقد أمكنه إدراك الأمرين، والجمع بين الأمرين وإحرازهما، فلا تترك واحدة منهما، وإن كان أكثر رأيه أنه لو اشتغل بالثناء لا يدرك الإمام في شيء من الركوع لا يأتي بالثناء، بل يتابع الإمام في الركوع؛ وذلك لأنه لو أتى بالثناء فاتته الركعة مع الإمام، وإدراك الركعة أتمّ من إتيان الثناء.
فإن قيل: الركعة لو فاتته تفوته إلى خلف، فإنه يقضي بعد فراغ الإمام من الصلاة والثناء يفوته أصلًا، فإنه لا يأتي به بعد ذلك.
قلنا: الركعة تفوته إلى خلف إلا أن نية الجماعة في هذه الركعة تفوته أصلًا، ومراعاة سنّة الجماعة أولى من مراعاة سنّة الثناء.
ألا ترى أنه لو أدرك الإمام في صلاة الفجر، فإن كان أكثر رأيه أنه لا يدرك الإمام في الركعة الثانية، فإنه لا يشتغل بركعتي الفجر، وقد ورد في ركعتي الفجر من ما لم تؤدَ في غيره، ولكن لما كان الاشتغال بركعتي الفجر يؤدي إلى تفويت سنّة الجماعة في الركعة الثانية كان إقامته سنّة الجماعة أولى، فكذلك هنا، فإن أدركه بعدما رفع رأسه من الركوع يكبّر تكبيرة الافتتاح قائمًا، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى بالثناء يدرك الإمام في السجدة، وكذا لو أدرك في السجدة الأولى يكبّر تكبيرة الافتتاح قائمًا، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه لو أتى به يدرك الإمام في هذه السجدة.
وكذلك لو أدركه بعدما رفع رأسه من السجدة الأولى يكبّر تكبيرة الافتتاح قائمًا، ويأتي بالثناء إن كان أكثر رأيه أنه أدرك الإمام في السجدة الثانية ثم يسجد، ولا يأتي بالركوع والسجدتين، ولو أتى بهما تفسد صلاته؛ لأنه صار منفردًا بركعة تامة بعدما شرع في صلاة الإمام، فتفسد صلاته.
وأما إذا أدركه في القعدة الأخيرة، فإنه يكبّر تكبيرة الافتتاح قائمًا، ثم يقعد ويتابعه في التشهد، فلا يأتي بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد عند بعض المشايخ، وإليه مال شيخ الإسلام المعروف خواهر زاده؛ لأن الدعاء مشروع في آخر الصلاة، لا في وسطها.
وبعضهم قالوا: لو أتى بها متابعة للإمام، وهكذا رواه أبو عبد الله البلخي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبه كان يفتي عبد الله بن الفضل؛ هذا لأن المصلي إنما لا يشتغل بالدعاء في وسط الصلاة لما فيه تأخير الأركان، وهذا المعنى لا يوجد هاهنا؛ لأنه لا يأتي بشيء من الأركان قبل سلام الإمام، ثم على قول من لا يأتي بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد ماذا يصنع؟ اختلفوا فيما بينهم: قال بعضهم: يكرر التشهد، وقال بعضهم: يصلي على النبي عليه السلام، وقال بعضهم يأتي بالدعوات التي في القرآن {لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ} [البقرة: 286] وقال بعضهم: يسكت، وقال بعضهم: هو بالخيار إن شاء أتى بالدعوات المذكورة في القرآن، وإن شاء صلى على النبي عليه السلام.
ولا ينبغي للمسبوق أن يقوم إلى قضاء ما سُبقَ به قبل سلام الإمام، فإن قام قبل أن يفرغ الإمام من التشهد، فالمسألة على وجوه: إما أن يكون مسبوقًا بركعة أو ركعتين أو ثلاث، فإن كان مسبوقًا بركعة، فإن وقع من قراءته بعد فراغه من التشهد مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته لو مضى على ذلك، وإن لم تقع من قراءته ذلك المقدار بعدما فرغ الإمام من التشهد لا تجوز صلاته، لأن قيامه وقراءته قبل فراغ الإمام من التشهد لم يَقع معتبرًا، فإذا مضى على ذلك فقد ترك من صلاته ركعة، فلا يجوز، وكذلك لو كان مسبوقًا بركعتين؛ لأنه ترك القراءة في أحديهما، ولو كان مسبوقًا بثلاث كان عليه فرض القراءة في ركعتين وفرض القيام في ركعة، فينظر إن كان قام بعد فراغ الإمام من التشهد أدى قومة، وقرأ في الأخريين ما تجوز به الصلاة جازت صلاته، وإن ركع في الأولى قبل فراغ الإمام من التشهد، ومضى على ذلك فسدت صلاته.
وفي (الأصل): إذا افتتح الصلاة، وركع قبل أن يقرأ ثم رفع رأسه، وقرأ وركع، فالمعتبر هنا الركوع الثاني، حتى لو اقتدى به إنسان في هذا الركوع يصير مدركًا للركعة؛ لأنه مأمور بالقراءة بعد الركوع الأول؛ لأنه لم يأت بالقراءة، فمتى أتى بها ومحل القراءة قبل الركوع يرتفض الركوع الأول تقع القراءة في محلها، وكذلك إذا لم تتم القراءة وركع بأن قرأ الفاتحة ولم يقرأ السورة أو قرأ السورة ولم يقرأ الفاتحة وركع ثم رفع رأسه وأتم القراءة وركع كان المعتبر هو الركوع الثاني؛ لأن ضم السورة إلى الفاتحة من واجبات الصلاة، ولم يأت به فكان مأمورًا بالإتيان به، وإذا أتى به ومحل القراءة على وجه التمام قبل الركوع لابد وأن يرتفض الركوع الأول لتقع القراءة في محله، فأما إذا أتم القراءة وركع ثم رفع رأسه من الركوع وقرأ ثانيًا وقرأ، ذكر في باب الحدث: أن المعتبر هو الركوع الأول حتى لو جاء إنسان واقتدى به في الركوع الثاني لا يصير مدركًا للركعة؛ لأن الركوع الأول حصل في أدائه؛ لأنه حصل بعد تمام القراءة فوقع مقتديًا به فلا يصح الثاني، حتى لا يصير تكرارًا؛ لأنه لا تكرار في الركوع في ركعة واحدة.
وذكر في باب السهو: أن المعتبر هو الركوع الثاني.
ووجه ذلك: أن الركوعين جميعًا وُجدا بعد القراءة؛ لأن القراءة الثانية إن لم تعتبر بالقراءة الأولى معتبرة إلا أن الثاني متصل بالسجود والأول غير متصل بالسجود والركوع إنما يعتبر باتصال السجود به فكان العبرة للركوع الثاني فلو أن هذا الإمام ركع ولم يقرأ فلما رفع رأسه من الركوع الأول سبقه الحدث فاستخلف رجلًا فقرأ هذا الرجل الخليفة وركع فجاء رجل واقتدى يصير مدركًا للركعة، وكذلك إذا قرأ الإمام الأول الفاتحة ولم يقرأ السورة وركع سبقه الحدث فاستخلف رجلًا فقرأ الرجل الخليفة السورة وركع فجاء رجل واقتدى به، فإن الرجل يصير مدركًا للركعة.
وكذلك لو قرأ الأول السورة ولم يقرأ الفاتحة وباقي المسألة بحالها يصير مدركًا للركعة، فلو أن الإمام الأول قرأ وركع فلما رفع رأسه من الركوع سبقه الحدث فاستخلف رجلًا فقرأ بهما الخليفة وركع فجاء رجل واقتدى به فعلى الرواية التي ذكر في باب الحدث يصير مدركًا للركعة، والمعنى في ذلك أن الخليفة قام مقام الأول فحاله كحال الإمام الأول، والجواب في حق الإمام الأول على هذا التفصيل فكذا في حق الخليفة والله أعلم.

.فرع في بيان ما يكره للمصلي أن يفعل في صلاته وما لا يكره للمصلي:

يكره أن يغطي فمه في الصلاة لما روى أبو هريرة أن رسول الله عليه السلام «نهى أن يغطي المصلي فاه في الصلاة»، وهذا الذي ذكرنا في غير حالة العذر بأن غلبه التثاؤب، فلا بأس بأن يضع يده على فمه قال عليه السلام: «إذا تثاءب أحدكم فليغطّ فاه فإن الشيطان يدخل فاه» أو قال فيه أو قال فمه.
ويكره أن يصلي معتجرًا لنهي النبي عليه السلام عن ذلك، وتكلموا في تفسير الاعتجار: قال بعضهم: أن يشد العمامة حول رأسه بالمنديل ويبدي هامته كما يفعله الشطارون، وقال بعضهم: أن يشد بعض العمامة على رأسه واليدين على بدنه، وعن محمد أنه قال: لا يكون الاعتجار إلا مع منتعب وهو أن يلف العمامة على رأسه، ويجعل طرفًا منه شبه المعتجر للنساء يلف حول وجهه، وإنه مكروه لما فيه من تغطية الفم والأنف ويكره أن يصلي وهو عاقص.... شعره لحديث أبي رافع أن رسول الله عليه السلام «نهى أن يصلي الرجل ورأسه معقوص» والعقص هو الإحكام والشد والمراد من المسألة أن يجمع شعره على هامِتِهِ ويشده بشمع أو غيره... عند بعض المشايخ، وعند بعضهم أن يلف ذوائبه حول رأسه كما تفعله النساء في بعض الأوقات وعند بعضهم أن يجمع الشعر كلّه من قبل القفار يحيط وخرقه كيلا يصيب الأرض إذا سجد، ويكره أن يضع يديه على الأرض قبل ركبتيه إذا انحط للسجود. وإذا قام رفع يديه قبل ركبتيه، ويجوز أن يفعل خلافه حالة العذر، والأصل فيه ما روى وائل بن حجر أن النبي عليه السلام «كان يضع ركبتيه قبل يديه»، وعن أبي هريرة أن النبي عليه السلام «نهى أن يبرك المصلي بروك الإبل»، وفي رواية بروك الجمل، وقال ليضع ركبتيه قبل يديه.
ويكره أن ينقر نقر الديك، وأن يقعي إقعاء الكلب، وتفسيره: أن يضع أليتيه على الأرض وينصب فخذيه، وقيل: تفسيره: أن يضع أليته على الأرض وينصب يديه أمامه نصبًا، وأن يفترش ذراعيه افتراش الثعلب، لحديث أبي هريرة قال: «نهاني خليلي عن ثلاثة أن أنقر نقر الديك، وأن أقعي إقعاء الكلب، وأن أفترش افتراش الثعلب».
ويكره أن يرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع لحديث جابر بن سمرة قال كنا نرفع أيدينا عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع. فخرج النبي صلى الله عليه وسلّم وقال: «ما لي أراكم رافعي أيديكم كأنها أذناب خيل شمس اسكنوا في الصلاة».
ويكره السدل في الصلاة لنهي النبي عليه السلام عن ذلك.
قال في (الأصل) وتفسيره: أن يضع ثوبه على كتفيه ويرسل طرفيه، وفي القدوري يقول في تفسيره أن يجعل ثوبه على رأسه وكتفيه ثم يرسل أطرافه من جوانبه، ومن صلى في فناء أو في مطرف أو في....... ينبغي أن يدخل يديه في كميه ويشد القباء بالمنطقة احترازًا عن السَّدل، وعن الفقيه أبي جعفر أنه كان يقول إذا صلى مع القباء وهو غير مشدود الوسط، فهو سيء وكان يقول كان فقيهًا يقول يخاف أن يدخل في الكراهة ويكره لبسه...، وذلك أن يجمع طرفي ثوبه، ويخرجهما تحت إحدى ثوبيه ويضعهما على كتفه الأخرى إذا لم يكن عليه سراويل.
وكذلك يكره له أن يضع ثوبه على رأسه ويلف به جميع بدنه بحيث لا يبقى له فُرْجَه؛ لأن فيه تغطية الفم، وإنها مكروهة، وكذلك يكره أن يلف... أو يرفعها لئلا؛ لأن فيه نوع تجبر، ويكره للمصلى ما هو من أخلاق الجبابرة، وكذلك تكره الصلاة في إزارٍ واحد بخلاف الصلاة في ثوب واحد متوشحًا به. وقدمت المسألة من قبل، وتكره الصلاة حاسرًا رأسه تكاسلًا، ولا بأس إذا فعله تذللًا خشوعًا بل هو حسن، هكذا حكي عن شيخ الإسلام أبي الحسن السغدي رحمه الله.
قال نجم الدين في كتاب (الخصائل): قلت لشيخ الإسلام: إن محمدًا يقول في (الكتاب) لا بأس بأن يصلي في ثوب واحد متوشحًا به، وقال: مراد محمد أن يكون ثوبًا طويلًا يتوشح به فيجعل بعضه على رأسه وبعضه على منكبيه، وعلى كل موضع من بدنه أما ليس فيه تنصيص على إعراء الرأس والمنكبين، وقد روي أن أصحاب رسول الله عليه السلام كانوا يكرهون إعراء المناكب في الصلاة، وكذلك يتكره الصلاة في ثياب البذلة روي أن عمر رضي الله عنه رأى رجلًا فعل ذلك، فقال: أرأيت لو كنت أرسلتك إلى بعض الناس أكنت تمر في ثيابك هذه، فقال: لا، فقال عمر: الله أحق أن تتزين له، وكذلك تكره الصلاة في ثوب فيه تصاوير.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: والمستحب للرجل أن يصلي في ثلاثة أثواب، قميص وإزار وعمامة.
والمستحبُّ للمرأة أن تصلي في قميص وخمار ومقنعة، ولا يرفع رأسه، ولا يطأطئه ولا يعبث بشيء من جسده أو ثيابه. قال عليه السلام: «إن الله تعالى كره لكم ثلاثًا العبث في الصلاة والرفث في الصوم والضحك في المقابر» ولا يفرقع أصابعه، قال عليه السلام لعليّ «لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي».
ولا يُشبك بين أصابعه، ولا يجعل يده على خاصرته. قيل: أنه استراحة أهل النار، ولا يقلب الحصى إلا أن لا يمكنه من السجود فيسوي موضع سجوده مرة أو مرتين، فلا بأس به.
ويكره مسح جبهته من التراب أثناء الصلاة وقد مرت المسألة من قبل. ويكره عد الآي والتسبيح في الصلاة، وكذلك عد السور يريد بالأصابع، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد لا بأس به.
وجه قولهما: أن المصلي قد يضطر إلى هذا لمراعاة سنّة القراءة، والصلاة والعمل بما جاءت به السنّة في صلاة التسابيح ونحوها، ولأبي حنيفة رحمه الله: أن هذا عمل ليس من أعمال الصلاة ولا حاجة إليه لمراعاة سنّة القراءة؛ لأنه يمكنه أن ينظر فيما يريد أن يقرأ قبل الشروع في الصلاة، ولو احتاج إليها كما في صلاة التسابيح عدّها إشارة أو فلا حاجة إلى العد بأصابعه، ثم من مشايخنا من قال لا خلاف في التطوع أنه لا يكره ذلك، وإنما الخلاف في المكتوبة، ومنهم من قال: لا خلاف في المكتوبة أنه يكره ذلك، وإنما الخلاف في النوافل. قال الفقيه أبو جعفر؛ وجدت رواية عن أصحابنا أنه يكره فيهما.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف؛ لا أرى بعدّ الآي في المكتوبة... ولا في التطوع، قال: وأراد بهذا العدّ العدّ بالقلب دون اللسان.
المصلي إذا مرّ بآية فيها ذكر النار أو ذكر الموت فوقف عندها وتعوِّذ من النار واستغفر، أو مر بآية فيها ذكر الرحمة فوقف عندها، وسأل الله تعالى الرحمة فهنا ثلاث مسائل.
مسألة في المتفرد، والجواب فيها أنه إن كان في التطوع فهو حسن لحديث حذيفة، قال: «صليت مع رسول الله عليه السلام صلاة الليل فما مر بآية فيها ذكر الجنة إلا وقف؛ وسأل الله تعالى الجنة، وما مرّ بآية فيها ذكر النار إلا وقف وتعوّذ بالله من النار، وما مر بآية فيها مَثَل إلا وقف عليها وتأمل وتفكر»، فإن كان في الفرض يكره؛ وذلك لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك، ولا عن الأئمة بعده فكان محدثًا وشر الأمور محدثاتها.
ومسألة في الإمام: والجواب فيها أنه لا يفعل ذلك في التطوع والفرض؛ لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله عليه السلام ولا عن الأئمة العابدين بعده؛ ولأنه يؤدي إلى تطويل الصلاة على القوم وأنه مكروه.
ومسألة في المقتدي: والجواب فيها أنه يستمع وينصت ولا يشتغل بالدعاء. قال الله تعالى {وَإِذَا قُرِئ الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] أمر بالإنصات والاستماع والأمر للوجوب والدعاء يُخلّ بالاستماع والإنصات فيخلّ بالواجب فلا يجوز، وعن هذا سقطت القراءة عن المقتدي، وعن هذا قال بعض مشايخنا: تكره قراءة القرآن جملة.
ويكره له أن ينظر إلى السماء، وقد كان رسول الله عليه السلام يفضل ذلك ندبًا، فنزل قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِمْ خَشِعُونَ} [المؤمنوه: 1، 2] يومي ببصره إلى الأرض ولا يلتفت يمينًا وشمالًا. قال عليه السلام: «لو علم المصلي من يناجي ما التفت». ومراده من المسألة؛ إذا حول بعض وجهه عن القبلة، فإما أن ينظر بموفق عينيه ولا يحول بعض وجهه لا يكره، ويكره أن يسجد على كور عمامته، ويكره له التنحنح قصدًا يعني عن اختيار إذا كان صوتًا لا حروف إلا أنه إذا صار له حروفًا كان في كونه مفسدًا اختلافًا لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما السعال الذي هو مدفوع إليه فلا يكره، ويكره التنخم قصدًا، ولا يصلي، وفي..... ولا يمنعه عن القراءة وإنْ منعه عن القراءة لم تجز الصلاة، هكذا ذكر في بعض المواضع، وذكر في موضع آخر إن منعه عن أداء الحروف أفسد الصلاة، وإن لم يمنعه عن عين القراءة وإنما يمنعه عن سنّة القراءة لا تفسد صلاته، ولكن يكره ذلك، وإن لم يمنعه عن شيء فلا بأس به.
ويكره النفخ في الصلاة ومراده نفخ لا يسمع؛ لأن في كون النفخ المسموع كلام يأتي بعد هذا في فصل المفسدات.
ويكره له أن يبتلع ما بين أسنانه إذا كان قليلًا، ويكره الجهر بالتسمية في صلاة الجهر، والجهر بالتأمين، وكذا يكره له إتمام القراءة في الركوع، وكذا يكره تحصل الأركان المشروعة في الإساءات بعد تمام الانتقال، وفيه... لأن تركها في موضعه وتحصيلها في غير موضعه.
ويكره الاتكاء على البناء، ونحوه من غير عذر في الفرائض؛ لأنه يخل بالقيام ويزيل اليد إليه عن موضع السنّة في الوضع، ويكره ذلك في التطوع، هكذا قيل، وقيل: يكره ذلك في التطوع أيضًا، وكذا يكره إمساك شيء من ثوب أو دراهم بيده؛ لأنه يشغله عن الصلاة ويمنعه عن وضع اليد موضع السنّة، فإن كان لا يشغله عن الصلاة، ولا يمنعه عن وضع اليد على موضع السنّة، فلا بأس به، وكذا يكره حمل الصبي في حالة الصلاة؛ لأنه يشغله عن الصلاة، ويكره أن يخطو خطوات من غير عذر ووقف بعد كل خطوة لأنه لو والاها قطعت الصلاة على ما يأتي بيانه بعد هذا، وإن كان بعذر لا يكره.
ويكره التمايل على يمناه مرة وعلى يسراه أخرى، فقد صح عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله عليه السلام: يقول: «إذا صلى أحدكم فليسكت أطرافه ولا يتمايل تمايل اليهود»، ويكره التربع من غير عذر، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنه نهى ابنه عن ذلك، فقال له ابنه إنك تفعل هكذا فقال له عمر إن رجلاي لا تحملاني اعتذر بالضعف.
ولا بأس بقتل العقرب والحية في الصلاة بعد الأعذار الخمسة وغير الخمسة في ذلك على السواء، قالوا: هذا إذا لم يحتج إلى المشي والمعالجة، فأما إذا احتاج إلى المشي والمعالجة، تفسد صلاته، وسيأتي الكلام فيه بعد هذا في فصل المفسدات.
وإن وجد قملة في الصلاة كره له أن يقتلها، لكن يدفنها تحت الحصا، وهذا قول أبي حنيفة وروي عنه أيضًا، لو أخذ قملة أو برغوثًا وقتله أو دفنه، فقد أساء، وعن محمد أنه يقتلها وقتلها أحب إليّ من دفنها، وأي ذلك فعل فلا بأس به، وقال أبو يوسف يكره قتلها ودفنها في الصلاة، ويكره أن يتوق في الصلاة وكذا يكره ترك الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو أن لا يقيم صلبة، ولا بأس بالصلاة على الطنافس واللبود وسائر الفرش والصلاة على الأرض، وعلى ما... الأرض أفضل، ويكره أن يطول الركعة الأولى في التطوع، ويكره تطويل الثانية على الأولى في جميع الصلوات ويكره نزع القميص والقلنسوة ولبسهما وخلع الخف لعمل يسير.
ويكره أن يشم طيبًا أو ريحانًا وأن يرّوح بثوبه أو عرقه مرة أو مرتين ولا تفسد صلاته وكثير من مسائل هذا الفصل تأتي في كتاب الكراهية والاستحسان إن شاء الله تعالى.
ومما يتصل بهذا الفصل:
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): لا بأس بأن يكون مقام الإمام في المسجد ورأسه في السجود في الطاق، ويكره أن يقوم في الطاق.
أما إذا قام في الطاق، فيكره إما؛ لأنه خص لنفسه مكانًا، وذلك مكروه لما روي عن عمار بن ياسر: أنه قام بالمدائن على الدكان يصلي بأصحابه، فجذبه حذيفة فلما فرغ من صلاته، قال له حذيفة: أما علمت أن رسول الله عليه السلام كان ينهى عن ذلك فقال عمار: لقد تذكرت ذلك حين مددتني معنى وهو أن هذا بسبب بأهل الكتاب والتشبه بهم مكروه؛ وأما لأنه إذا قام في الطاق يشتبه على القوم حاله وإنما قدم الإمام على القوم حتى يظهر لهم حاله ولا يشتبه فما يوجب اشتباه حال الإمام عليهم يكون مكروهًا وإن كان المحراب مشبكًا وقام الإمام في الطاق هل يكره على أحد الطريقين، وهو طريق تخصيص المكان وعلى الطريق الآخر وهو طريق الاشتباه حال الإمام لا يكره.
ثم إن محمدًا رحمه الله اعتبر العدم في هذه المسألة فجعل الإمام كالخارج عن الطاق إذا كان قدماه خارج الطاق، وإن كان رأسه عند السجود في الطاق، وأنه يوافق أصول أصحابنا رحمهم الله، فإنهم قالوا فيمن حلف لا يدخل دار فلان فأدخل رجليه في دار فلان يحنث في يمينه، وإن كان جميع أعضائه خارج الدار.
ولو أدخل جميع أعضائه في دار فلان ورجلاه خارج الدار لا يحنث، فكذا الصيد إذا كان قدماه في الحرم ورأسه خارج الحرم كان صيد الحرم، ولو كان على العكس لا يكون صيد الحرم، وكذلك المصلي إذا كان قدماه على مكان نجس لا تجوز صلاته، ولو كان قدماه على مكان طاهر وركبتاه ويداه على مكان نجس يجوز.
وكذلك قالوا في المأموم إذا كان أطول من الإمام وصلى بجنبه وهو بحال لو سجد يقع رأسه قبل رأس الإمام فصلاته جائزة، فقد اعتبروا العدم في هذه المسائل فكذا في مسألة (الكتاب).
ونظير مسألة (الكتاب): ما ذكر محمد رحمه الله في (الأصل) إذا كان الإمام على الدكان والقوم على الأرض أو كان الإمام على الأرض والقوم على الدكان، ففي الفصل الأول يكره رواية واحدة وفي الفصل الثاني روايتان في رواية (الأصل) يكره، وذكر الطحاوي في (مختصره) أنه لا يكره فقال بعض مشايخنا رحمهم الله: وإنما يكره.
أن يكون الإمام وحده على الدكان أو وجد على الأرض، أما إذا كان بعض القوم مع الإمام فلا بأس، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله فيما إذا كان القوم على الدكان إنما يكره على رواية (الأصل) إذا لم يكن للقوم فيه عذر أما عند العذر، فلا يكره كما في الجمعة، فإن القوم يقومون على الرفوف والإمام على الأرض ولم ينكر عليهم أحد من الأئمة لضيق المكان.
وحكي عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله نظير هذا، فإنه كان يقول: الصلاة على الرفوف في المسجد الجامع من غير ضرورة مكروه وعند الضرورة بأن امتلأ المسجد، ولم يجد موضعًا يصلي فيه فلا بأس به، وهكذا حكي عن الفقيه أبي الليث رحمه الله في مسألة الطاق، فإنه كان يقول: إذا تحققت الضرورة بأن ضاق المسجد على القوم، والإمام يقوم في الطاق لا يكره، ولم يذكر محمد في (الأصل) الدكان تقديرًا، وذكر شيخ الإسلام عن الطحاوي أنه قال: إن كان دون قامة الرجل لا يكره....، وإن كان مثل قامة الرجل إن كان الإمام على الدكان يكره رواية واحدة، وإن كان القوم على الدكان ففيه روايتان على ما مرّ.
قال رحمه الله: وهكذا روي عن أبي يوسف أنه قدّر الدكان بهذا، وذكر شمس الأئمة الحلواني عن الطحاوي قال رحمه الله: إن الكراهة فيما إذا جاوزت الدكان قدر القامة الوسط وإن كان دون ذلك لا يكره، قال رحمه الله: وقد قال بعض مشايخنا: إذا كان قدر ذراع يكره وإن كان دون ذلك لا يكره.
ويكره للمقتدي إذا كان وحده أن يقوم على يسار الإمام وخلفه، فإن السنّة أن يقوم على يمينه وكذا يكره للمنفرد أن يصلي أن بقوم في خلال صفوف الجماعة فخالفهم في القيام والقعود وكذا يكره للمقتدي أن يقوم خلف الصفوف وحده إذا وجد فرجة في الصفوف، وإن لم يجد فرجة في الصفوف، روى محمد بن شجاع والحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه لا يكره فإن جر أحدًا من الصف إلى نفسه وقام معه، فذلك أولى، وتكره الصلاة في طرق العامة، وكذا تكره الصلاة في الصحراء من غير سترة، ومقدار السترة تأتي بعد هذا في فصل على حِدَة.
ويكره للرجل أن يأم قومًا هم له كارهون، وكذا يكره له أن يتنقل على قولهم بالتطويل وكذا يكره له أن يخفف عليهم على وجهٍ يعجلهم عن إكمال سننهما، وكذا يكره له أن (يحيج) القوم إلى الفتح عليه، ويقرأها... فيه بأن عرض له شيء انتقل إلى غيره أو ركع إن قرأها تكفيه، وكذا يكره له أن يمكث في مكانه بعدما سلم طويلًا. فقد صح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام كان لا يمكث في مكان صلاته بعدما سلم مقدار أن يقول: «اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والكرام»، فبعد ذلك ينظر إن كان في صلاة يتنقل بعدها يباشر وينتقل وإن كان في صلاة لا يتنفل بعدها انحرف واستقبل القوم إن لم يخلو من يصلي، فإنه لو حادى من يصلي يكره ذلك. والأصل فيما روى ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلًا يصلي وآخر يواجهه فعلاهما بالدرة. والأولى للقوم أن ينحرفوا عن أمكنتهم، فقد روى أبو هريرة أن النبي عليه السلام قال: «أيعجز أحدكم إذا فرغ من صلاته أن يتقدم أو يتأخر» والله أعلم.

.فصل في بيان ما يفسد الصلاة وما لا يفسد:

يجب أن يعلم بأن ما يفسد الصلاة نوعان: قول وفعل.
فنبدأ بالقول، فنقول: إذا تكلم في صلاته ناسيًا أو عامدًا أو خطأً أو قاصدًا قليلًا أو كثيرًا تكلم لإصلاح صلاته بأن قام الإمام في موضع بالقعود، فقال اقعد أو قعد والإمام في موضع القيام، فقال له، المقتدي، قم أولًا لإصلاح صلاته ويكون الكلام من كلام الناس استقبل الصلاة عندنا لحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام قال: «من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم» وهذا قد تكلم فلا شيء في ظاهر هذا الحديث.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قدم من الحبشة فوجد رسول الله عليه السلام في الصلاة فسلم عليه فلم يرد عليه الصلاة والسلام فقال ابن مسعود فأخذني ما قرب وما بعد. فلما فرغ عليه الصلاة والسلام قال لي: «يا ابن مسعود إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء وإن من جملة ما أحدث أن لا يتكلم في صلاتنا»، وهذا إذا تكلم على وجه يسمع منه، فأما إذا تكلم على وجه لا يسمع منه إن كان بحيث يسمع نفسه تفسد صلاته، وإن كان بحيث لا يسمع نفسه إن لم يصحح الحروف لا يضره، وإن صحح الحروف.
حكي عن الكرخي: أنه تفسد صلاته، وحكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل أنه لا تفسد صلاته، والاختلاف في هذه المسألة نظير الاختلاف فيما إذا قرأ في صلاته ولم يسمع نفسه هل تجوز صلاته؟.
وفي (النوازل) إذا تكلم في الصلاة وهو في النوم تفسد صلاته هو المختار؛ لأن الكلام قاطع للصلاة مطلقًا. قال عليه السلام: «إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس».
وإذا عطس رجل فقال له رجل في الصلاة: يرحمك الله فسدت صلاته، ذكر المسألة في (الجامع الصغير) من غير ذكر خلاف، وذكر في موضع آخر، وقال أبو يوسف: لا تفسد صلاته، وجه قول أبي يوسف: أنه لم يدخل في الصلاة ما ليس منها، لأنه دعاء له بالمغفرة والرحمة، وهذا مما يوجد في الصلاة.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد: حديث معاوية بن الحكم السلمي قال: قدمت من الحبشة فعطس رجل بجنبي في الصلاة فقلت يرحمك الله فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة قال: «إن صلاتنا هذه لا تصلح لكلام الناس إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن».
وفي (فتاوى الفضلي): إذا عطس الرجل فقال رجل في الصلاة الحمد لله لا تفسد صلاته، وإن أراد به الجواب؛ لأن جواب غير العاطس للعاطس ليس هو التحميد فلم يأتِ بما يصير به مجيبًا للعاطس فلم يكن جوابًا.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: إذا عطس الرجل في الصلاة حمد الله تعالى، فإن كان وجد ما يباشر به وحرك لسانه وإن شاء أعلن وإن كان خلف إمام أسر به وحرك لسانه، وقال أبو يوسف بعد ذلك: إن كان يصلي وحده أو خلف الإمام فعطس فليحمد الله في نفسه ولا يتكلم فيه، وقال أبو حنيفة: يصمت، وعن أبي حنيفة في العاطس يحمد الله تعالى في نفسه ولا يحرك لسانه فلو حرك تفسد صلاته، وعن بعض المشايخ: إن المصلي إذا عطس وقال لنفسه يرحمك الله يعني لا تفسد صلاته؛ لأن هذا ليس بكلام؛ لأن الإنسان لا يتكلم مع نفسه فصار كأنه قال: يرحمني الله أو قال الحمد لله، وهناك لا تفسد صلاته كذا هاهنا، ولو عطس رجل في الصلاة فقال له رجل في الصلاة يرحمك الله، فقال العاطس آمين فسدت صلاته؛ لأنه إجابة.
وإذا أخبر المصلي بخبر يسوؤه، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وأراد جوابه بأن قال له: مات أبوك أو قيل له ماتت أمك فقال إنا لله وإنا إليه راجعون، فهذا يقطع الصلاة، وإن لم يرد جوابه لا تقطع الصلاة وذكر المسألة من غير ذلك وخلاف.
ولو أخبر بخبر يسوؤه بأن قيل له قدم أبوك، فقال: الحمد لله وأراد جوابه قطع الصلاة في قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف لا تقطع، وعلى الاختلاف إذا أُخبر بما يعجبه فقال: سبحان الله أو قال: لا إله إلا الله وأراد جوابه فمن مشايخنا من قال مسألة الاسترجاع على الخلاف أيضًا، وهذا القائل لا يحتاج إلى الفرق بين مسألة الاسترجاع وبين تباين المسألتين.
ومنهم من قال: مسألة الاسترجاع على الوفاق وهذا القائل يحتاج إلى الفرق لأبي يوسف، والفرق له أن الاسترجاع لإظهار المصيبة الصلاة لأجله، والتحميد لإظهار الشكر والصلاة شرعت لأجله، ولأبي حنيفة ومحمد رحمهما الله أن الجواب منتظم الكلام فيصير كأنه قال: الحمد لله على قدوم أبي وأشباه ذلك، ولو صرح بذلك أليس إنه تفسد صلاته كذا هاهنا، أو يقول: الكلام ينبني على قصد المتكلم، فمتى قصد بما قال المتعجب يجعل متعجبًا لا مُسبِّحًا كأنه قال: سبحان الله على قصد التعجب كان متعجبًا لا مسبحًا.
ألا ترى أن من رأى رجلًا اسمه يحيى وبين يديه كتاب موضوع قال: يا يحيى خذ الكتاب بقوة وأراد خطابه لا يشكل على أَحَدٍ أنه متكلم وليس بقارئ، وكذا إذا كان الرجل في سفينة؛ لأنه خارج السفينة قال يا بني إركب معنا وأراد خطابه يُجعل متكلمًا لا قارئًا وكذا إذا كان تحت المصلي رجل اسمه موسى وفي يديه عصا قال: وما تلك بيمينك يا موسى وأراد خطابه يجعل متكلمًا لا قارئًا.
وكذلك لو قال رجل للمصلي بأي موضع مررت فقال بئر معطلة وقصر مشيد وأراد جوابه يجعل متكلمًا لا قارئًا.
وكذلك إذا أنشد شعرًا فيه ذكر الله تعالى نحو قوله: تبارك ذو العلى والكبر... يجعل متكلمًا حتى تفسد صلاته في هذه الوجوه كذا في مسألتنا، وكذلك إذا قرع الباب على المصلي ونوى من الخارج فقال: ومن دخله كان آمنًا وأراد به الجواب والإذن بالدخول تفسد صلاته، وإن أراد قراءة القرآن في هذه السور كلها لا تفسد صلاته، وفي القدوري يقول: وإذا عرض للمصلي شيء في صلاته فذكر الله تعالى يريد به خطاب الغير نحو أن يزجره عن فعل أو أَمَرهُ به فسدت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف لا تفسد صلاته.
وإن عرض للإمام فسبح له، فلا بأس به، وكذا إذا سبح يَعْلَمُ غيره أنه في الصلاة لا تفسد صلاته، ولا يسبح الإمام إذا قام للأخريين، وإذا دعا في صلاته فسأل الله تعالى الرزق والعافية لا تفسد صلاته، واعلم بأن الدعاء في الصلاة مندوب إليه، قال عليه السلام: «وأما في سجودك فاجتهد في الدعاء، فإنه أرجى أن يستجاب لك بعدها».
قال في (الأصل) إذا دعا بما يشبه في القرآن ولا يشبه كلام الناس لا تفسد صلاته؛ لأنه ذِكْرٌ وذكر الله تعالى لا يكون مفسدًا للصلاة، وإن دعا بما يشبه كلام الناس تفسد صلاته لحديث معاوية بن الحكم السلمي أنه أجاب العاطس في الصلاة وقال: يرحمك الله، فلما فرغ رسول الله عليه السلام من صلاته قال لمعاوية؛ «إن صلاتنا هذه لا تصلح لشيء من كلام الناس إنما هي التهليل والتسبيح وقراءة القرآن» فقد جعل رسول الله عليه السلام قوله يرحمك الله من كلام الناس.
والفرق فيما يشبه ما في القرآن وبين ما يشبه كلام الناس أن كل ما يسأل به الله تعالى ولا يسأل به غيره فهذا مما يشبه ما في القرآن، وذلك نحو قوله: اللهم اغفر لي، اللهم أدخلني الجنة؛ لأنّ المغفرة والإدخال في الجنة لا يسأل إلا من الله تعالى، وكل ما يسأل به الله تعالى ويسأل به غيره فهذا من جملة ما يشبه كلام الناس فيفسد الصلاة، وذلك نحو قوله: اللهم زوجني فلانة، اللهم اكسُني ثوبًا، اللهم اقضِ ديني؛ لأن هذا كما يسأل به من الله تعالى لا يُسأل به مَنْ غيره يقول الرجل لغيره: زوجني ابنتك، اكسني ثوبك، اقضِ ديني، والذي يؤيد ما قلنا ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرسول الله عليه السلام: «علمني يا رسول الله دعاء أدعو به في صلاتي فقال: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم».
وذكر في (الجامع الصغير): ادع في الصلاة بكل شيء في القرآن وبنحوه، نُقل عن الإمام الجليل أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله، فإنه كان يقول: كل دعاء في القرآن إذا دعا المصلي بذلك الدعاء لا تفسد صلاته، وكان يقول: إذا قال: اللهم اغفر لوالدي لا تفسد صلاته؛ لأنه في القرآن، وكذلك إذا قال: اللهم اغفر لأبي، ولو قال: اللهم اغفر لأخي تفسد صلاته، ولو قال: اللهم إغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات لا تفسد صلاته؛ لأنه في القرآن ولو قال: اللهم إغفر لزيد أو قال لعمرو تفسد صلاته؛ لأنه ليس في القرآن ولو قال اللهم ارزقني من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها لا تفسد صلاته؛ لأن عينه في القرآن، ولو قال: اللهم ارزقني بقلًا وقثّاء وعدسًا وبصلًا؛ لأن عين هذا اللفظ ليس في القرآن.
وقول محمد في (الأصل): إذا دعا بما يشبه ما في القرآن لم يرد به حقيقة..؛ لأن الدعاء كلام العباد. والقرآن كلام الله وكلام العباد لا يشبه كلام الله، ولكن أراد به إذا دعا بدعوات يكون معناها الدعوات المذكورة في القرآن، ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: أنه إذا دعا بالدعوات التي ذكرها محمد رحمه الله في (الكتاب) فقال: اللهم أكرمني، اللهم أنعِم عليّ، اللهم عافني من النار، اللهم أصلح أمري، اللهم سددني ووفقني، اللهم اصرف عني شَرَّ كل ذي شر، أعوذ بالله من شر الجن والإنس، اللهم ارزقني حج بيتك وجهادًا في سبيلك، اللهم استعملني في طاعتك وطاعة رسولك، اللهم اجعلنا عابدين حامدين شاكرين، اللهم ارزقنا وأنت خير الرازقين فهذا كلّه حسن ولا يقطع الصلاة.
وإذا نفخ التراب من موضع سجوده فعلى وجهين:
إن كان نفخًا لا يسمع لا تفسد صلاته؛ لأن هذا نَفَسٌ لابد للحي منه. وإن كان نفخًا يسمع تفسد صلاته عند أبي حنيفة ومحمد، فظن مشايخنا أن النفخ المسموع ما يكون له حروفًا مهجأة نحو قوله أف تف ثف وغير المسموع ما لا يكون له حروفًا مهجأة وإليه مال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وبعض مشايخنا لم يشترط، والنفخ المسموع أن يكون له حروفًا مهجأة وإليه ذهب شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده.
ووجه ذلك: أن الكلام ما يكون له حروفًا مهجأة بصوت مسموع فالصوت: شطر الكلام كالحروف من حيث إنه لا يحصل الإفهام إلا بهما، ثم إقامة الحروف باللسان بدون الصوت مفسد فكذا الصوت المسموع الخارج من مخرج الكلام يجب أن يكون مفسدًا، أو كأنه قال إلى قول الكرخي فيما إذا صحح الحروف بلسانه ولم يسمع نفسه، وكان أبو يوسف رحمه الله أولًا يقول: لا تفسد صلاته إلا إذا أراد به التأفيف يريد به لغة العرب أُفْ كما في قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَنًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] وقال القائل: إذا..... إن.... مالت الريح هكذا، وكذا مال مع الريح إن مالت فأما إذا أراد.... موضع سجوده عن التراب لا يقطع صلاته ثم رجع وقال لا تفسد صلاته. وإن أراد به التأفيف لغة العرب.
ووجه هذا القول ما روي أن رسول الله عليه السلام قال في صلاة الكسوف «أف أف ثم قال رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم» وتقدم وتأخر ومضى على صلاته وقاسه بالتنحنح والعطاس، فإنه لا يقطع الصلاة، وإن كان مسموعًا وله حروف مهجأة، حجة أبي حنيفة ومحمد رحمه الله: أن رسول الله عليه السلام مرّ بمولى يقال له رباح وهو ينفخ التراب، فقال: أما علمت أن من نفخ في صلاته فقد تكلّم.
فلأن قوله أف من جنس كلام الناس؛ لأنها حروف مهجأة تذكر لمقصود.
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّهُ وَبِالْولِدَيْنِ إِحْسَنًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] والكلام قاطع للصلاة. قال الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله ذكر النفخ في (الكتاب) ولم يذكر تفسيره، قال رحمه الله: وتفسير أف توقف.
والعطاس لا يقطع الصلاة على كل؛ لأنه مما لا يمكن دفعة عنه، فكان عفوًا، والتنحنح إن كان مدفوعًا إليه لا يقطع الصلاة على كل حال أيضًا؛ لأنه مما لا يمكن الامتناع عنه، وإن لم يكن مدفوعًا إليه إلا أنه لإصلاح إلحاق ليتمكن من القراءة إن ظهر له حروف نحو قوله أح أح وتكلف لذلك كان الفقيه إسماعيل الزاهد يقول: تقطع الصلاة عندهما؛ لأنها حروف مهجأة وقال غيره من المشايخ: لا تقطع وإن لم تظهر له حروف مهجأة لا تقطع الصلاة عندهما على قياس ما ذكره شمس الأئمة، وإذا ساق الدابة بقوله هرا وساق الكلب فقال سر تقطع عندهما أيضًا؛ لأن له حروف مهجأة، وإن ساقها بما ليس له حروف مهجات لا تقطع عندهما على ما ذكره شمس الأئمة، وكذا إذا دعى الهرة بما له حروف مهجأة تقطع الصلاة عندهما، وإن دعاها بما ليس له حروف مهجأة لا تقطع.
وكذلك إذا يغيرها بما له حروف مهجأة قطع عندهما، وإذا تجشّأ ولم يكن معفوًا به وحصل به حروف مهجاة تقطع الصلاة عندهما، وإن لم يكن معفوًا به أو كان؛ إلا أنه لم يحصل به حروف لا تقطع الصلاة عندهما.
ولو أَنّ في صلاته أو تأَوّه أو بكى وارتفع بكاؤه، وإن كان من ذكر الجنة والنار فصلاته تامّة، وإن كان ذلك من وجع أو مصيبة، فسدت صلاته عند أبي حنيفة ومحمد وتفسير الأنين أن يقول آه آه، وتفسير التأوه إن يقول أوه. ولهما كان الجواب كما قلنا لحديث عائشة فإنها.. في صلاته فقالت إن كان لخشية الله تعالى لا تفسد صلاته، وإن كان لألم فسدت صلاته وهنا من ما كان من ذكر الجنة والتأوه فهو لخشية الله فيكون في معنى التسبيح؛ لأنه لتعظيم الله تعالى فَعَلَ ما فعل فكان له حكم التسبيح وقد قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرهِيمَ لاوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: 114] وكان إبراهيم يصلي ولجوفه أزيز كأزيز المرجل.
فأما ما كان من وجع أو مصيبة فهو جزع فيصير من جملة كلام الناس لوجود أحدهما فتقطع الصلاة، وعن أبي يوسف أنه إذا كان يمكن الامتناع تقطع الصلاة، وإذا كان لا يمكن لا تقطع الصلاة، وعن محمد ما هو قريب منه، فإنه قال: إذا كان المرض خفيفًا تقطع الصلاة وإن كان ثقيلًا لا تقطع الصلاة؛ لأنه لا يمكنه القعود والقيام إلا بالأنين.
وسئل محمد بن سلمة عن ذلك فقال: لا تقطع الصلاة وعلّل فقال: لأن هذا ما يبتلي به له المريض إذا اشتدّ عليه المرض لا يمكنه الامتناع عنه والمشهور عن أبي يوسف روايتان.
أحدهما: أن الأنين يوجب قطع الصلاة سواء كان من وجع أو ذكر الجنة، بعض مشايخنا قالوا في (شرح الجامع الصغير): الاختلاف في هذه المسألة بناءً على اختلافهم في التسبيح في الصلاة. عند أبي حنيفة ومحمد تقطع الصلاة وعند أبي يوسف لا تقطع.
الرواية الثانية: إذا كان الأنين بحرفين نحو آه آه لا تفسد الصلاة، وإذا كان بثلاثة أحرف نحو قوله أوه تفسد الصلاة عنده وعند بعض المشايخ سواء كان من وجع أو ذكر النار هذا بناءً على أن كل كلمة اشتملت على حرفين زائدين أو أحدها أصلية والأخرى زائدة لا تقطع الصلاة عند أبي يوسف وعند محمد تقطع.
وكل كلمة اشتملت على ثلاثة أحرف وما زاد عليها، ففي الزيادة على الثلاث تفسد الصلاة عند أبي يوسف بلا خلاف بين المشايخ، وفي الثلاث اختلاف المشايخ على قوله والحروف الزوائد عشرة جمعها البغداديون في قوله: «اليوم تنساها» وقوله أوه يتولد منه أربعة أحرف؛ لأن التشديد يقوم مقام حرف واحد، وأوه بدون التشديد يتولد منه ثلاثة أحرف فيكون في أوه بدون التشديد خلاف المشايخ، قول أبي يوسف: وفي أوه مع التشديد اتفاقًا بين المشايخ، فأبو يوسف يقول: مبنى كلام العرب على ثلاثة أحرف.
أحدها: ليبتدأ به.
والثاني: ليحسن به الكلام.
والثالث: ليست عليه، إلا أنه إذا تكلم بحرفين أصيلين.
وحد أكثر ما يبنى عليه كلام العرب فأقيم مقام كله، وبه فارق ما إذا كان أحدهما زائدًا لأن بالنظر إلى ما يبنى عليه الكلام حد الأحرف واحد، والكلام لا يقوم بحرف واحد.
والجواب عن هذا أن الزوائد من الحروف لو كانت تلغى لكان لا تفسد صلاته إذا قال أوه؛ لأن جمعها زوائد، وحكي عن الشيخ الإمام أبي حفص الكبير رحمه الله أنه كان يقول: إذا تأوه في صلاته لا تفسد صلاته وأنه خلاف الرواية، وإن جرى على لسانه حرف واحد لا تفسد صلاته عند الكل، هكذا ذكر المشايخ في شروحهم.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده في (شرحه): أن على قول أبي حنيفة ومحمد تفسد الصلاة بالصوت المسموع بحرف واحد أولى، عن هذه المسألة تصريح على مسألة النفخ فرعا أنه المصلي إذا قال: أف مخففًا لا تفسد صلاته عند أبي يوسف بلا خلاف بين المشايخ وإذا قال: أف مشددًا ينبغي أن يكون فيه اختلاف المشايخ، وعندهما تفسد الصلاة في المخفف والمشدد جميعًا والله أعلم.
قال محمد رحمه الله: في الرجل يستفتحه الرجل وهو في الصلاة فيفتح، قال هنا كلام أصح علم بأن فتح المصلي لا يخلو من ثلاثة أحرف، إما أن يكون على إمامه أو على رجل ليس هو في الصلاة أصلًا، أو على رجل هو في صلاة غير صلاة الفاتح، فإن كان الفتح على إمامه لا تفسد صلاته لقوله عليه السلام: «إذا استطعمك الإمام فأطعمه» أي: إذا استفتح منك فافتح عليه، وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة النجم وسجد فلما عاد إلى القيام ارتج عليه فلُقِّنَ إذا زلزلت فقرأها ولم يُنكر عليه؛ فلأنه يبتغي إصلاح صلاته؛ لأنه لو لم يفتح عليه ربما يجري على لسانه شيء تفسد صلاته، وفي إصلاح صلاة الإمام صلاح صلاة نفسه، وما يرجع إلى إصلاح صلاة المصلي لا تفسد الصلاة وإنْ كَثُر.
ألا ترى أنه إذا سبقه الحدث فذهب وتوضأ لا تفسد صلاته كذا هاهنا، بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا كان فيه إصلاح صلاته بأن أُرْتج على الإمام قبل أن يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة أو بعد ما قرأ إلا أنه لم ينتقل إلى آية أُخرى، أما إذا لم يكن فيه إصلاح صلاته بأن قرأ الإمام مقدار ما تجوز به الصلاة أو انتقل إلى آية أخرى تفسد صلاته؛ لأنه تعليم في غير موضع الحاجة.
وبعضهم قالوا: لا تفسد صلاته على أي حال؛ لأنه يحتاج إليه لإصلاح صلاته؛ لأنه ربما يقرأ ما يفسد صلاته لما اشتبه عليه الصواب فكان بمنزلة الفتح في موضع الاستفتاح عند الحاجة ولو أخذ الإمام من الفاتح بعدما انتقل إلى آية أخرى هل تفسد صلاة الإمام حكي عن القاضي الإمام أبي بكر.... أنه قال: تفسد وغيره من المشايخ قالوا: لا تفسد.
ولا ينبغي للإمام أن يلجأ القوم إلى الفتح؛ لأنه يلجئهم إلى القراءة خلفه وأنه مكروه، ولكن إن قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة يركع، وإن لم يقرأ مقدار ما تجوز به الصلاة ينتقل إلى آية أخرى؛ لأن الواجب قراءة القرآن مطلقًا والكل قرآن.
ولا ينبغي للمقتدي أن يفتح على الإمام من ساعته؛ لأنه ربما يتذكر الإنسان من ساعته فتكون قراءته خلفه قراءة من غير حاجة.
وإن كان الفتح على رجل ليس هو في الصلاة فهو على وجهين: إن أراد التعليم تفسد صلاته وإن لم يرد به التعليم وإنما أراد به قراءة القرآن لا تفسد صلاته.
أما إذا أراد به التعليم؛ لأنه أدخل في الصلاة ما ليس من الصلاة في الصلاة يوجب فساد الصلاة؛ فلأن هذا من كلام الناس؛ لأن معنى المسألة إن غير المصلي استفتح من المصلي فيصير فتح المصلي جوابًا عرفًا فيصير من كلام الناس حقيقة هذين المعنيين بأن تفسد صلاته إذا فتح على إمامه، لكن سقط اعتبار التعليم على المعنى الأول وسقط اعتبار الجواب على المعنى الثاني بالأحاديث ولمكان الحاجة إلى إصلاح صلاة نفسه، ولا نصّ في هذه الصورة ولا حاجة إلى إصلاح صلاة نفسه فيُعمل بقضيّة القياس.
وأما إذا أراد به قراءة القرآن لا تفسد صلاته، أما على المعنى الأول: فلأنه انتصب معلمًا في الصلاة.
وأما على المعنى الثاني: فلأنه ليس من كلام الناس بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر من الجواب فيما أراد به التعليم يجب أن يكون قول أبي حنيفة ومحمد، أما على قول أبي يوسف: ينبغي أن لا تفسد؛ لأنه قرآن فلا يتغير لقصد القارئ، وأراد أصل المسألة إذا أجاب رجلًا في الصلاة بلا إله إلا الله.
وإن كان الفتح على رجل هو في صلاة الإمام فهو على هذين الوجهين أيضًا إن أراد به التعليم تفسد صلاته إلا على قول أبي يوسف رحمه الله على ما ذكره بعض المشايخ.
وإن أراد به قراءة القرآن لا تفسد، وهل تفسد صلاة المستفتح في هذه الصورة وهو ما إذا لم يكن في صلاة واحدة لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في شيء من الكتب، وذكر الشيخ الإمام الزاهد الصفار في (شرح كتاب الصلاة): أنها تفسد؛ لأنه انتصب متعلمًا لأن المستفتح كأنه يقول لغيره ماذا فذكرني، ألا ترى أنه أفسد صلاة الفاتح لانتصابه معلمًا، وذكر القدوري في (شرحه): إذا فتح على غير الإمام فسدت صلاته من غير فصل.
ثم لم يشترط في (الجامع الصغير) للتكرار في الفتح، وشرط في (الأصل) فقال: إذا فتح غير مرة فما ذكر في (الأصل) يدل على أن بالفتح مرة لا يفسد الصلاة، والمعنى الثاني يؤيد ما ذكر في (الجامع الصغير)؛ لأن الكلام يضاد الصلاة، والشيء يبطل بضده قلّ أو كثر.
والمعنى الأول: يؤيد ما ذكر في (الأصل)؛ لأنه إذا قال ما ليس من الصلاة في الصلاة إنما يوجب فساد الصلاة إذًا، أما إذا قلّ فلا، والله أعلم.
وإذا أذّن في الصلاة وأراد به الأذان فسدت صلاته في قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: لا تفسد حتى يقول: حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، وكذلك إذا سمع المصلي وقال مثل ما قال المؤذن وأراد به جواب المؤذن فسدت صلاته في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: لا تفسد حتى يقول حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح.
وإذا جرى على لسان المصلي نعم، فإن كان ذلك يجري على لسانه في غير الصلاة فسدت صلاته؛ لأنه من كلامه، وإن لم يكن ذلك عادة له لا تفسد صلاته؛ لأنه قرآن وإن قال بالفارسية أرى هو بمنزلة قوله نعم، إن كان ذلك عادة له تفسد صلاته وإلا فلا، وكان الفقيه أبو الليث يقول: ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف الذي عرف فيما إذا قرأ القرآن بالفارسية، والصحيح ما ذكرنا؛ لأن... إذا جُعلت من القرآن صار كأنه قرأ القرآن بالفارسية وثمة لا تفسد بالإجماع، إنما الاختلاف في الاعتبار به، المصلي إذا وسوسه الشيطان، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إن كان ذلك في أمر الآخرة لا تفسد صلاته، وإن كان في أمر الصلاة تفسد صلاته، وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله إذا قال المصلي في صلاته صلى الله على محمد إن لم يكن مجيبًا لأحد لا تفسد صلاته؛ لأنه دعا بصيغته ولم يقل جوابًا حتى يغيّر والله أعلم.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا سمع اسم النبي فصلى عليه وهو في الصلاة فسدت صلاته لأن هذه إجابة.
ولو صلى عليه ولم يُسمع اسمه، فهذا ليس بإجابة فلا تفسد صلاته، وإذا قرأ المصلي من المصحف فسدت صلاته، وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد؛ لا تفسد.
حجتهما: أن عائشة أمرت ذكوان بإمامتها وكان ذكوان يقرأ من المصحف، ولأبي حنيفة وجهان:
أحدها: إن حمل المصحف وتقليب الأوراق والنظر فيه والتفكر ليفهم ما فيه فيقرأ عمل كثير، والعمل الكثير مفسد لما نبيّن بعد هذا، وعلى هذا الطريق يفرق الحال بينهما إذا كان المصحف في يديه أو بين يديه أو قرأ من المحراب والله أعلم.
الوجه الثاني: إنه تلقّن من مصحف فكأنه تلقن من معلم آخر، وذلك يُفسِد الصلاة فهذا كذلك، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله يقول. في التعليل لأبي حنيفة: أجمعنا على أن الرجل إذا كان يمكنه أن يقرأ من المصحف ولا يمكنه أن يقرأ عن ظهر قلبه أنه لو صلى بغير قراءة أنه يجد به، ولو كانت القراءة من المصحف جائزة لما أبيح له الصلاة بغير قراءة، لكن الظاهر أنهما لا يسلّمان هذه المسألة وبه قال بعض المشايخ، وتأويل حديث ذكوان أنه كان ينظر في المصحف ويتلقن ثم يقوم ويصلي يدل عليه أن هذا مكروه عندهما ولا يظن بعائشة أنها كانت ترضى بالمكروه، وإذا كان المكتوب على المحراب غير القرآن بأن كان المكتوب عليه كن في صلاتك خاشعًا، فنظر المصلي في ذلك وتأمل حتى فهم.
قال بعض مشايخنا على قياس قول أبي يوسف: لا تفسد وعلى قياس قول محمد: تفسد، وبناء بنوا هذه المسألة على مسألة اليمين، فإن من حَلَفَ لا يقرأ كتاب فلان فوصل إليه كتاب فلان... ونظر فيه حتى فهم، ولم يقرأ بلسانه: قال أبو يوسف: لا يحنث في يمينه؛ لأنه لم يقرأ حقيقة، وقال محمد: يحنث؛ لأنه وجد معنى القراءة وهو يفهم ما في الكتاب وهو المقصود من اليمين، فعلى تلك المسألة يجعل قارئًا هنا عند محمد خلافًا لأبي يوسف، وعلى قياس هذا ينبغي للفقيه أن لا يضَّيع جزء، وتعليقه بين يديه في الصلاة؛ لأنه ربما يقع نظره على ما في الجزء ويفهم ذلك فيدخل فيه شبهة الاختلاف.
ومن المشايخ من قال على قول محمد: لا تفسد صلاته، وإن فهم ما في المصحف وما على المحراب، وروي ذلك عن محمد نصًّا، وقد روي هذا القائل عن محمد عقيب هذا القول: إذا حلف لا يقرأ القرآن فنظر وعلم ما فيه لا يحنث في يمينه بخلاف قراءة الكتاب.
والفرق: أن المقصود من قراءة الكتاب لفلان يفهم ما فيه، وهو معنى القراءة لا نفس القرآن، فانصرف يمينه إليه أما نفس قراءة القرآن مقصود من غير أن يفهم ويعلم نفس القرآن فانصرف اليمين إلى القراءة باللسان ولم توجد القراءة باللسان، وهذا إذا نظر مستفهمًا، فأما إذا نظر غير مستفهم وفهم لا تفسد صلاته بلا خلاف ثم لم يفصّل في (الكتاب) في هذه المسألة، بينما لو قرأ قليلًا أو كثيرًا.
قال بعض مشايخنا: إذا قرأ مقدار آية تامة تفسد صلاته عند أبي حنيفة وفيما دون ذلك لا تفسد، وقال بعضهم: إذا قرأ مقدار الفاتحة تفسد صلاته، وفيما دون ذلك لا تفسد وكذلك لم يفصّل في (الكتاب) بين ما إذا لم يكن حافظًا للقرآن وبينما إذا كان حافظًا للقرآن.
قال الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار: إذا كان حافظًا للقرآن، ومع هذا نظر في المصحف أو في الكتاب المكتوب على المحراب، وقرأ جازت صلاته؛ لأن هذه القراءة مضافة إلى حفظه لا إلى تلقّيه من المصحف، وإن نظر إلى شيء مكتوب وفهم ما فيه، وإن نظر غير مستفهم لكنه فهم لا تفسد، وإن نظر مستفهمًا وفهم تفسد عند محمد، وبه أخذ الشيخ أبو الليث، ولا تفسد عند أبي يوسف، وبه أخذ بعض مشايخنا، وعلى هذا الطريق لا يعرف الحال بين ما إذا كان المصحف في يديه أو بين يديه أو قرأ من المحراب.
وفي (العيون): المصلي إذا سلم على أحد أو ردّ السلام على غيره فسدت صلاته، فرأيت في موضع آخر إذا أراد المصلي أن يسلم على غيره...... السلام يذكر أنه لا ينبغي أن يسلم وهو في الصلاة فيسكت تفسد صلاته والله أعلم.
النوع الثاني: في بيان الأفعال المفسدة:
ذكر محمد رحمه الله في (السير الكبير) روى ابن ثعلبة عن الأزرق بن قيس أنه رأى أبا برزة يصلي آخذًا بقياد فرسه حتى صلى ركعتين، ثم انسل قياد فرسه من يده، فمضى الفرس على القبلة فتبعه أبو برزة حتى أخذ بقياده ثم رجع ناكصًا على عقيبه حتى صلى الركعتين الباقيتين.
قال محمد في (السير الكبير): وبهذا نأخذ الصلاة تجري مع ما صنع لا يفسدها الذي صنع؛ لأنه رجع على عقيبه ولم يستدبر القبلة بوجهه أو.... حتى جعلها خلف ظهره فسدت صلاته ثم ليس في الحديث فضل بين المشي القليل والكثير فهذا يبين لك أن المشي في الصلاة مستقبل القبلة لا يوجب فساد الصلاة وإن كثر.
بعض مشايخنا أوَّلوا هذا الحديث واختلفوا فيما بينهم في التأويل فمنهم من قال: تأويله أنه لم يجاوز الصفوف أو لم يجاوز مع سجوده، أما إذا جاوز ذلك، فإن صلاته تفسد؛ لأن موضع سجوده في الفضاء مصلاه، وكذلك موضع الصفوف كالمسجد وخطأه في مصلاه عفوٌ كما قالوا في المصلي: إذا ظن أنه رعف في صلاته قدمت للبناء مستقبل القبلة ثم علم أنه ما رعف قبل، إن لم يخرج من المسجد ثم عاد إلى مكانه لا تفسد صلاته، ولو خرج من المسجد ثم عاد تفسد صلاته، وكذلك إذا كان في الفضاء فإن جاوز الصفوف أو موضع سجوده فسدت صلاته وإن لم يجاوز لا تفسد.
وكذلك إذا رأى سوادًا في صلاته فظن أنه عدو ثم ظهر أنه سواد نَفَرٍ، فإن جاوز الصفوف أو موضع سجوده تفسد صلاته، وإن لم يجاوز لا تفسد صلاته.
ومنهم من قال: تأويله أنّ مشيه لم يكن مبتدأ حقًا بل مشى خطوة وسكن ثم مشى خطوة وذلك قليل، وإنه لا يوجب فساد الصلاة، فأما إذا كان المشي ميلًا حقًا تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة؛ لأنه كثر العمل، ومنهم من قال: حديث أبو برزة محمول على أنه مشى مقدار ما يكون بين الصفّين ولا يستدبر القبلة لا تفسد الصلاة. وهذا كما قالوا في رجل كان في الصف الثاني فرأى فُرجةً في الصف الأول فمشى إليها فَسَدَّها لم تفسد صلاته؛ لأنه مأمور بالموافقة في الصفوف قال عليه السلام: «تراصّوا في الصفوف» فلم يوجب ذلك فساد صلاته لما كان المشي مقدار ما بين الصفين. ولو كان في الصف الثالث، فرأى فرجة في الصف الأول فمشى إلى الصف الأول وسدّ تلك الفرجة تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة، ومن المشايخ من أخذ بظاهر هذا الحديث ولم يقل بالفساد قلّ المشي أو اكثر استحسانًا.
والقياس: أن تفسد صلاته إذا كثر المشي كما لو انسلّ قياد الفرس من يده فمشى مشيًا كثيرًا، فإنّ هناك تفسد صلاته، وإن لم يستدبر القبلة إلا أنا تركنا القياس بحديث أبي برزة وإنه خص ماله العذر، ففي غير حالة العذر يعمل بقضية القياس، وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي يحكي عن أستاذه أنه كان يقول بجواز الصلاة وإن مشى مستقبل القبلة بعد أن يكون غازيًا، وهكذا الجواب في كل حاج أو مسافر كان سفره العبادة. وهذا كله إذا لم يستدبر القبلة.
فأما إذا استدبر القبلة فسدت صلاته، قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): لا بأس بقتل العقرب في الصلاة، وذكر في (الأصل) وذكر في صلاة (الأصل): قتل العقرب والحية في (الأصل) لا يفسدها، ولم يذكر في صلاة (الأصل) هل يُباح ذلك، ونص على الإباحة في (الجامع الصغير) في قتل العقرب ولم يذكر الحية.
واعلم بأن ها هنا حكمان: إباحة القتل، وفساد الصلاة.
فأما حكم الإباحة فمن مشايخنا من سوّى بين قتل العقرب والحية في حكم الإباحة وقال: كما يحل قتل العقرب في الصلاة يحل قتل الحية الخبيثة هي أن تكون بيضاء تمشي مستويًا، أو غير الخبيثة وهي إن تكون سوداء تمشي ملتوية في ذلك سواء وإليه مال الطحاوي في كتابه.
والأصل فيه قوله عليه السلام: «اقتلوا الأسودين الحية والعقرب ولو كنتم في الصلاة» مطلقًا من غير فصل بين حية وحية، ومن مشايخنا من بين الحية والعقرب فقال: يحل قتل العقرب في الصلاة ولا يحل قتل الحية في الصلاة الجني وغير الجني في ذلك على السواء؛ لأن قتل العقرب يتأتى بعمل قليل بوضع النعل عليه وبغمزه كما فعل رسول الله عليه السلام، فإنه روي عن رسول الله عليه السلام كان يصلي فارغة عقرب فوضع نعله عليه وغمزه حتى قتله، وقتل الحية لا يتأتى إلا بمعالجة وعمل كثير فلا يفعل ذلك من غير ضرورة ومن المشايخ من يقول: يحل قتل غير الجني ولا يحل الجني و(الأصل) فيه قوله عليه السلام: «إياكم والحية البيضاء فإنها من الجن» وهذا القائل هكذا يقول في غير حالة الصلاة أنه يحل قتل غير الجني ولا يحل قتل الجني إلا بعد الإنذار والإعذار وهو أن يقول لها: خلي طريق المسلمين.
فإن أتى حينئذٍ يحل قتله. ومن يقول بحل قتل الجني وغير الجني في الصلاة كذلك يقول خارج الصلاة وهو الصحيح من المذهب لقوله عليه السلام: «اقتلوا الأسودين» من غير فصل، ولأن رسول الله عليه السلام عاهد الجن أن لا يدخلوا بيوت أمته وإذا دخلوا لم يظهروا لهم وإذا فعلوا ذلك لا ذمة لهم، فالذي يظهر نفسه لأمة رسول الله عليه السلام فقد نقض العهد، فيستحق القتل لذلك، قالوا: وإنما يباح قتل الحية والعقرب في الصلاة إذا مرّا بين يديه وخاف أن يؤذيه، فأما إذا كان لا يخاف الأذى يكره، وهكذا روي عن أبي حنيفة، ذكر الحسن بن زياد في كتاب الصلاة والمذكور ثمة عن أبي حنيفة وأكره قتل الحية والعقرب في الصلاة إلا أن يخاف أن يؤذيه، فيحمل ما ذكر هنا على هذه الحالة.
وأما حكم فساد الصلاة بالقتل فمن مشايخنا من قال: إنْ احتاج في القتل إلى المشي وإلى الضربات تفسد صلاته؛ لأن هذا عمل كثير والعمل الكثير مفسد للصلاة، وإن لم يحتج إلى للمشي والضربات الكثيرة بل وطئها برجله أو وضع نعله عليها وغمزها أو ضربها بحجرة ضربة واحدة لا تفسد؛ لأن هذا عمل يسير والعمل اليسير لا يفسد الصلاة.
ومن المشايخ من أطلق الجواب إطلاقًا كما أطلق محمد في (الأصل)؛ لأن هذا عمل رخّص للمصلي فيه فهو كالمشي بعد الحدث والاستقبال من السير والتوضؤ، وذلك في (الأصل).
إذا رمى طائرًا بحجر وهو في الصلاة أكره له ذلك وصلاته تامة، أم الكراهة فلأنه وليس من أعمال الصلاة وله بدٌّ منه وأما صلاته تامة؛ لأن هذا عمل قليل والعمل القليل لا يفسد، ألا ترى أنه لو رمى إلى حية أو عقرب لا تفسد صلاته وإنما لا تفسد؛ لأنه عمل قليل كذا هنا إلا أنه ذكر الكراهية ها هنا ولم يذكر في قتل الحية والعقرب؛ لأنَّ الحية والعقرب مما يشغلان قلب المصلي عن صلاته فكان في قتلهما إصلاح صلاته فكان من أعمال صلاته فليس مكروهًا.
أما الطير لا يشغل قلب المصلي عن صلاته فلم يكن في قتله إصلاح صلاته وله منه بدّ فيكره قتل هذا إذا كان الحجر في يده ما إذا أخذ الحجر من الأرض ورمى به طيرًا تفسد صلاته ولكن هذا خلاف رواية (الأصل)، فإن محمدًا رحمه الله في (الأصل) قال: وصلاته تامة ولم يفصل بينهما إذا كان الحجر في يده أو أخذه من الأرض.
وفي (الأصل) أيضًا: فإذا أخذ قوسًا ورمى بها تفسد صلاته، قالوا وهذا إذا أخذ السهم ووضعه على الوَتَر ومدّ حتى رمى؛ لأنه يصير عملًا كثيرًا، فأما إذا رمى بالقوس لا تفسد صلاته؛ لأنه عمل يسير كما لو رمى بالحجر، وكذلك لو كان القوس في يده والسهم على الوتر لا تفسد صلاته إذا رمى؛ لأنه عمل قليل.
ثم اختلف المشايخ في الحد الفاصل بين العمل اليسير وبين العمل الكثير، بعضهم قالوا: العمل الكثير اشتمل على عدد الثلاث، واستدل هذا القائل بما روى الحسن عن أبي حنيفة إذا تروَّح المصلي بمروحة مرة أو مرتين لا تفسد صلاته، وإن زادت على ذلك فسدت صلاته، وبعضهم قالوا: العمل الكثير عمل يكون مقصودًا للفاعل إن تفرّد له مجلس على حدة.
وهذا القائل يستدل بامرأة صلت فلمسها زوجها أو قبلها بشهوة تفسد صلاتها، وكذا إذا مص صبي ثديها وخرج اللبن تفسد صلاتها، وبعضهم قالوا: كل عمل لا يمكن إقامته إلا باليدين فهو كثير حتى قالوا: لو شدّ الإزار فسدت صلاته وكذلك إذا...، وكل عمل يمكن صنعه بيد واحدة فهو يسير ما لم يتكرر، حتى قالوا شد الرجل الإ زار لا تفسد صلاته.
وكذلك إذا كان عليه عمامة وانتقض منها كور فسوّاه لا تفسد صلاته، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف رحمه الله أنه إذا فتح بابًا أو أغلقه بدفعة بيده... لا تفسد صلاته، وإن عالجه بمفتاح غلق أو قفل فسدت صلاته.
وقال بعضهم: كل عمل يشك الناظر في عامله أنه في الصلاة أو ليس في الصلاة فهو عمل يسير وكل عمل لا يشك الناظر أنه ليس في الصلاة فهو كثير قال الصدر الشهيد: وهكذا روى البلخي عن أصحابنا وهو اختيار الفضلي، وقال بعضهم؛ نفوض ذلك إلى رأي المبتلى به وهو المصلي إن استقبحه واستكثره فهو كثير وما لا فلا. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذا القول أقرب إلى مذهب أبي حنيفة؛ لأنه في جنس هذه المسائل لا تقدر تقديرًا بل يفوض ذلك إلى رأي المبتلى به.
وإذا ادّهن أو سرّج دابته أو حملت المرأة صبيها وأرضعته أو قاتل رجلًا أو قطع ثوبًا أو خاطه فهذا كله عمل كثير، وهو يخرج على الأقوال كلها.
وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله: إذا صلت ومعها صبي ترضعه، فإن مصّ الثدي ولم ينزل منه اللبن لا تفسد صلاتها وإن نزل منها اللبن فصلاتها فاسدة، وإذا تروح بمروحة فسدت صلاته وإذا تروح بكمه لا تفسد صلاته وهذا إشارة إلى القول الرابع.
وسئل أبو نصر: عن رجل نتف شعره في الصلاة قال: إن نتف ثلاثًا فسدت صلاته وإنه يرجع إلى القول الأول، وعن الحسن رحمه الله في المصلي على الدابة إذا ضربها لاستخراج السير فسدت صلاته وإن حرك رجليه لا تفسد صلاته وبعض مشايخنا قالوا؛ لأنه ضرب مرة أو مرتين لا تفسد؛ لأن الضرب يقام بيد واحدة، وإن ضربها ثلاثًا في ركعة واحدة تفسد صلاته يريد به إذا كان على الولاء، ولو كان في صلاة الظهر أو في أربع من النفل فضربها في كل ركعة مرة لا تفسد صلاته، ولو ضربها ثلاث مرات في ركعة واحدة تفسد يريد به إذا كان على الولاء.
وبعض مشايخنا قالوا: إذا كان معه سوط فهيبها به ونخسها لا تفسد صلاته وإن اهوى به وضربها تفسد صلاته، وإن حرك رِجْلًا واحدًا لا تفسد صلاته، وإن حرك رجليه تفسد صلاته، واعتبر هذا القائل العمل بالرجلين بالعمل باليدين والعمل برجل واحدة بالعمل بيد واحدة.
وقال بعضهم: إن حرك رجليه قليلًا لا تفسد صلاته، وإن فعل ذلك كثيرًا تفسد صلاته، ولو أكل أو شرب عامدًا أو ناسيًا فسدت صلاته؛ لأن هذا ليس من أعمال الصلاة وهو كثير عمل اليد والفم والأسنان.
وفي (الأصل)؛ إن كان بين أسنانه شيء فابتلعه لا تفسد صلاته؛ لأن ما بين أسنانه تبع لريقه، ولهذا لا يفسد به الصوم.
قالوا: وهذا إذا كان ما بين أسنانه قليلًا دون الحمصة؛ لأنه يبقى بين الأسنان، فأما إذا كان أكثر من ذلك تفسد صلاته، وسوى هذا القائل بين الصلاة والصوم. وقال بعض المشايخ: لا تفسد صلاته بما دون الفم.
وفرّق هذا القائل بين الصلاة والصوم وفي أول باب الحديث من (شرح الطحاوي): إذا بقي بين أسنانه شيء فابتلعه في الصوم؛ إن كان شيئًا يفسد به الصوم وهو قدر حمصة خمضفه تفسد به صلاته وما لا فلا، وهكذا رأينا في غريب الرواية للفقيه أبي جعفر رحمه الله.
وفي (أجناس الناطفي) إذا ابتلع المصلي ما بين أسنانه أو فضل طعام ثم أكله أو شراب قد شربه قبل الصلاة....... ولم يذكر المقدار، وهذه الرواية توافق قول محمد في باب الحديث، فإن محمدًا لم يذكر المقدار ثمة.
وعن أبي يوسف رحمه الله في المصلي إذا مضغ العلك إن صلاته فاسدة، وعنه أيضًا إذا كان في فيه.... فلاكها فسدت صلاته، ولو دخل منها شيء ولم يلوكها لا تفسد صلاته إلا إذا كثر ذلك..... إذا تناول شيئًا أو ناول شيئًا صلاته تامة ما لم يكثر ذلك أو يكون حملًا ثقيلًا يتكلف بأعضائه أن يأخذه.
وعنه أيضًا: في امرأة تصلي فباشرها رجل قليل المباشرة لا تفسد بقليلها وفي كثير المباشرة تفسد، وكذا القبلة، قال الفقيه أبو جعفر: إن كان بشهوة فسدت صلاتها على كل حال وإن كان من غير شهوة فالقليل يخالف الكثير.
وإن عبث بلحيته حك جسده لا تفسد صلاته، قيل: هذا إذا فعل ذلك مرة أو مرتين وكذلك إذا فعل ذلك مرارًا ولكن بين المرتين فرجه، فأما إذا فعل ذلك مرارًا متواليات لا تفسد صلاته، ألا ترى أنه لو نتف شعرة مرة أو مرتين لا تفسد ولو نتف ثلاث مرات على الولاء تفسد، وعلى هذا قيل..... وعن الفقيه أبي جعفر سئل عن المصلي يُقبّل قبلة في صلاته قال: لا تفسد صلاته، قيل: فإن قبل اثنتين أو ثلاثة قال: إن كان... ذلك لا تفسد وإن قبل مرة بعد مرة، وإن كان يقبل على طلبه تفسد صلاته والله أعلم.
ثم في كل عمل يحتاج فيه إلى اليدين لإقامته أو أقام ذلك العمل بيد واحدة هل تفسد على قول من يعتبر لفساد الصلاة كون العمل بحال يحتاج لإقامته إلى اليدين، وذكر نجم الدين النسفي أنه لا تفسد فإنه قال: لو تعمم بيد واحدة لا تفسد ولو تعمم بيدين تفسد، ولو رفع العمامة من الرأس ووضعها على الأرض أو رفع العمامة عن الأرض ووضعها على الرأس لا تفسد صلاته أنه يحصل بيد واحدة من غير تكرار.
ولو نزع القميص لا تفسد صلاته، ولو لبس القميص تفسد صلاته، ولو تنعّل أو خلع نعليه لا تفسد؛ لأنه لا يحتاج إلى اليدين ولا إلى المعالجة، ولو لبس الخفين تفسد صلاته لأنه يحتاج فيه إلى اليدين، وإذا صافح إنسانًا يريد بذلك التسليم عليه فسدت صلاته؛ لأنه يقوم باليدين غالبًا، وكذلك كل من رآه يحسب أنه ليس في الصلاة فكان عملًا كثيرًا، وارتكب في صلاته خطأ مستيقنًا لا تفسد صلاته إلا أن يطول فيصير عملًا كثيرًا فحينئذٍ تفسد صلاته. وحد الطول أن يزيد على ثلاث كلمات ذكره في (مجموع النوازل)، ولو كتب على يده أو على الهواء شيئًا لا يستبين لا تفسد صلاته وإن كثروا.
وإذا صبّ الدهن على رأسه بيد واحدة لم تفسد، وإن أخذ وعاء الدهن بيد ودهن رأسه بيد أخرى فسدت صلاته؛ لأنه عمل كثير.
وإذا جعل ماء الورد على نفسه فهو على التفصيل الذي ذكرنا، ولو أغلق الباب لا تفسد صلاته، لو فتح الباب المغلق تفسد صلاته واختلفوا في تخريج المسألة بعضهم؛ لأن إغلاق الباب يقام بيد واحدة على ما عليه الغالب وفتح الباب المغلق غالبًا لا يقام إلا بيدين، وبعضهم قالوا:؛ كلا الفعلين يقام بيد واحدة إلا أنّ في الغلق لا يكثر العمل؛ لأن الحاجة هناك إلى إدخال اليد في المغلاق ثم شد المغلاق، وفي الفتح يكثر العمل؛ لأن الحاجة هناك إلى إدخال اليد في المغلاق ثم تحريك المغلاق وقت الفتح ثم إخراج الغلق من موضع السد، وقد ذكرنا قبل هذا رواية أبي يوسف فيما إذا فتح بابًا أو أغلقه بدفعه بيده أنه لا تفسد، وتأويل تلك الرواية كساده وفراز كرده وأبا ركرددنا زكرده لا رار كرد.
وتأويل هذه الرواية كرده وافرار كرد ومغلق برست درته على بسته وابكشاده ولو ركب دابة فسدت صلاته؛ لأن ركوب الدابة على ما عليه الغالب لا يقوم إلا باليدين، ولو نزل من الدابة لا تفسد صلاته؛ لأن النزول ممكن بدون استعمال اليدين قبل هذا بشكل منها.
إذا حمله غيره ووضعه على السرج؛ فإن هناك تفسد صلاته، وإن كان هذا أمر يحتاج فيه إلى اليد أصلًا فضلًا من اليدين، قلنا: الجواب عنه من وجهين.
أحدهما: أن الحكم ينبني على الغالب والغالب ركوب الإنسان بنفسه أما إركاب غيره فليس بغالب، وركوبه بنفسه لا يقوم إلا باليدين.
والثاني: أن غيره لا يركبه عادة إلا بأمره وفعل الغير بأمره ينتقل إليه فكأنه ركب بنفسه.
ولو تقلّد سيفًا أو نزعه لا تفسد صلاته ولو ضرب إنسانًا بسوط أو يد فسدت صلاته، وهذا الجواب يوافق رواية الحسن في ضرب الدابة، وعلى قياس قول بعض المشايخ في تلك المسألة ينبغي أن يقال: إذا نخسه أن لا تفسد صلاته، وإن آهوى به وضربه تفسد صلاته.
وإذا أحدث في صلاته من بول أو غائط أو ريح أو رعاف متعمدًا فسدت صلاته، وإن سبق الحدث ولم يتعمد إن كان موجبه الغسل، فكذلك وذلك نحو إن احتلم أو نظر إلى امرأة، فأنزلها وتفكر فأنزل، وإن كان موجبه الوضوء فإن كان بفعل الآدمي، فكذلك الجواب تفسد، وإن لم تكن بفعل الآدمي لا تفسد الصلاة، بل يتوضأ ويبني وإذا كان على يديه دمل أو جراجة أو سرة فغمزها بيده غمزًا فسال منه الدم، فسدت صلاته؛ لأنه تعمد الحدث، وإن لم يغمزها لكنها انشقت بإصابة الداء والثوب في الركوع والسجود، وسال منها الدم فسدت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد، وهو بمنزلة ما لو رماه إنسان ببندقة أو حجر، وهناك تفسد صلاته عند أبي حنيفة، وكذلك لو سقط من السقف حجرٌ أو خشبٌ على المصلي.... إنسان ناداه.
وكذلك لو دخل الشوك في رِجل المصلي أو وضع جبهته على الأرض في السجود فسال منه الدم من غير قصده فسدت صلاته عندهما، وقيل: تفسد عند الكل؛ لأن الاحتراز عنه ممكن، فإذا لم يحترز صار كأنه تعمد ذلك، وكذلك لو كان تحت شجرة يسقط منها تمرة فجرحته.
وإذا قاء في صلاته فها هنا فصلان: فصل في القيء، وفصل في التقيء.
أما فصل القيء فنقول: لا تفسد صلاته بالقيء إذا كان أقل من ملء الفم، فإن عاد إلى جوفه وهو لا يقدر على إمساكه لا تفسد صلاته أيضًا، وإن ابتلعه وهو قادر على أن يمجه يجب أن يكون على قياس الصوم عند أبي يوسف لا تفسد صلاته كما لا يفسد صومه.
وعند محمد المسألة تكون على روايتين كما في الصوم، وفي (فتاوى الفضلي) ذكر روايتان عن أبي يوسف لا عن محمد، وإن قاء ملء الفم تنتقض طهارته ولكن لا تفسد صلاته؛ لأنه ليس بحدث عمد فيتوضأ ويغسل فمه ويبني على صلاته، فإن ابتلعه بعدما قاء وهو قادر على أن يمجه فسدت صلاته؛ لأنه عمل كثير.
وأما فصل التقيء، فإن كان أقل من ملء الفم لم تفسد صلاته، وإن (كان) ملأ الفم فسدت صلاته؛ لأنه حدث عمد، وإذا ابتلع دمًا خرج من بين أسنانه لا تفسد صلاته؛ إذا لم يكن ملء الفم.
المصلي إذا نظر إلى فرج امرأته المطلقة طلاقًا رجعيًا بشهوة يصير مراجعًا، وهل تفسد صلاته؟ حكى الناطفي في (أجناسه): أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: تفسد صلاته، وهكذا ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده والصدر الشهيد رحمه الله في شرح كتاب الصلاة قبيل باب افتتاح الصلاة، وأجاب الفقيه أبو القاسم الصفار بالفساد مطلقًا حكى عند ذلك في (النوازل). وفي (الجامع الصغير) قال ابن شجاع: إذا نظر المصلي إلى فرج امرأة بشهوة ينبغي أن تفسد صلاته في قياس قول أبي حنيفة؛ لأنه استمتع بها، ألا ترى أنه تحرّم عليه أمها وأختها وابنتها.
ثم قال صاحب (الجامع الصغير): ولنا في قياسه هذا نظر؛ لأن النظر إلى الفرج إنما جعل بمنزلة الاستمتاع في حق التحريم لا في حق شيء آخر فلا يظهر ذلك في حق فساد الصلاة فهذا شيء حكمي فيجوز أن يظهر في حق حكم دون حكم فهذا طعن (من) صاحب (الجامع الصغير)، وقد تأيّد هذا الطعن ما ذكره ابن رستم في (نوادره) فقد ذكر ثمة.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: المصلي إذا نظر إلى فرج المرأة بشهوة لا تفسد صلاته ويحرم عليه أمها وابنتها وهو قول محمد، وقال أبو يوسف في صلاة... لا تفسد صلاته، وهو رجعة لو حصل ذلك في المطلقة الرجعية، وهكذا حكى الفقيه أبو الليث في (نوادره) جواب نصر بن يحيى قال: وهو القياس، وهذا ذكر في (الواقعات)، فلو كان المذكور في (الجامع الصغير) قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، فهذا القياس مطعون بما مرّ من المعنى والرواية أيضًا، ولو كان المذكور في (الجامع الصغير) قول أبي حنيفة وأبي يوسف في المسألة روايتان.
رفع اليدين لا يفسد الصلاة منصوص عليه في باب صلاة العيدين من (الجامع)، وذكر الصدر الشهيد في شرح (الجامع الصغير) رواية مكحول عن أبي حنيفة أنه تفسد.
وإذا سلّم إنسان على المصلي فرد السلام بالإشارة باليد أو بالرأس أو بالأصبع لا تفسد صلاته، ولو طلب من المصلي إنسان شيئًا فأومأ برأسه أن نعم أو أراه إنسان درهمًا وقال... رأسه أي نعم لا تفسد صلاته، ولو تفكر في صلاته فتذكر حديثًا أو شِعرًا أو كلامًا مرتبًا ولم يذكر ذلك بلسانه لم تفسد صلاته والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا قهقه في صلاته فسدت صلاته وهذا بلا خلاف وإنما خالفنا الشافعي رحمه الله في كونه حدثًا وجد. القهقهة ما يكون مسموعًا له ولجيرانه. والتبسم وهو ما لا يكون مسموعًا له لا ينقض الصلاة هكذا ذكر شيخ الإسلام، وذكر شيح شمس الأئمة الحلواني ما فوق التبسم دون القهقهة لا ذكر له في (المبسوط)، كان القاضي الإمام يحكي عن أستاذه الشيخ الإمام أنه كان يقول: إذا ضحك حتى بدت نواجذه ومنعه عن القراءة والتسبيح نقض الصلاة، وغيره من المشايخ على أنه حتى يسمع صوته وإن قلّ. وإذا قهقه الإمام بعدما قعد مقدار التشهد قبل أن يسلم فصلاته تامة، وإن لم يكُ بلفظ السلام؛ لأن الخروج بلفظ السلام ليس بفرض عندنا. إنما الفرض على قول أبي حنيفة: الخروج بصنع المصلي وقد وجد صنع المصلي صحت صلاته وعليه الوضوء لصلاة أخرى عند علمائنا الثلاثة خلافًا لزفر.
فرق زفر بين هذا وبينما إذا حدثت القهقهة في وسط الصلاة.
والفرق: أن القهقهة جعلت ناقض الوضوء شرعًا بخلاف القياس في موضع يوجب فساد الصلاة، والقهقهة ها هنا لا توجب فساد الصلاة فلا يوجب انتقاض الوضوء، ولا كذلك القهقهة في وسط الصلاة، ولعلمائنا الثلاثة أن القهقهة لاقت حرمة الصلاة بعده.
ألا ترى لو اقتدى رجل به في هذه الحالة يصح اقتداؤه فيوجب انتقاض الطهارة كما وجدت في وسط الصلاة إلا أنه لم تنتقض صلاته؛ لأنه ليس عليه ركن من أركان الصلاة ولا واجب من واجباته، وأما صلاة القوم، فإن كانوا لاحقين أدركوا أول الصلاة فصلاتهم تامة وإن كانوا مسبوقين فصلاتهم فاسدة في قول أبي حنيفة وفي قول أبي حنيفة، وفي قولهما صلاتهم تامة.
حجتهم: أنه لم يوجد من المقتدي ما يوجب فساد صلاتهم ولو فسدت صلاتهم إنما تفسد بفساد صلاة الإمام ولم تفسد صلاة الإمام هاهنا.
حجة أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمر بن العاص عن رسول الله عليه السلام: أنه قال: «إذا رفع الإمام رأسه من السجدة الأخيرة وقعد قدر التشهد ثم أحدث فقد تمت صلاته وصلاة من كان بمثل حاله» ولولا أنّ صلاة من ليس بمثل حاله فاسدة وإلا لم يكن لهذا التخصيص فائدة.
والمعنى في ذلك: أن الإمام لما قهقهة فسد ذلك الجزء والذي لاقته القهقهة، وذلك الجزء مشترك بينه وبين القوم فيفسد مشتركًا إلا أن الإمام لم يبق عليه البناء فمضت صلاته على الصحة والقوم بقي عليهم البناء، وتعذر بناء ما بقي على هذا الجزء الفاسد، ففسدت صلاتهم، وهذا بخلاف ما لو سلّم الإمام أو تكلم أو خرج عن المسجد بعدما قعد قدر التشهد حيث لا تفسد صلاة المسبوقين بل يقومون ويقضون ما بقي من صلاتهم.
والفرق: أن السلام منتهي؛ لأنه من موجبات التحريمة فتنتهي به التحريمة والكلام قاطع لا يفسد؛ لأنه لا يفوت شرط الصلاة وهو الطهارة فلم يؤثر ذلك في حق المسبوق، فأما القهقهة والحدث العمد مفسد للصلاة لا قاطع؛ لأنه لا يفوت به شرط، ولهذا لو تكلم الإمام وسلم بعدما قعد قدر التشهد فعلى القوم أن يسلِّموا، ولو أحدث الإمام متعمدًا أو قهقهة لم يسلم الإمام، بل يقومون ويذهبون، دلّ أن الكلام قاطع وليس بمفسد فلا يمنع جواز البناء.
وكذلك الخروج من المسجد بمنزلة الكلام لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال لابن مسعود: «إذا قلت هذا أو هذا فقد تمت صلاتك إن شئت أن تقوم فقم وإن شئت أن تقعد فاقعد». وإذا تمت صلاة الإمام يقوم المسبوق، ويقضي ما عليه، وإن قهقهة الإمام والقوم جميعًا، فإن كان قهقهة الإمام أولًا فعلى الإمام إعادة الوضوء والصلاة، وليس على القوم ذلك؛ لأن القوم صاروا خارجين من الصلاة، فضحكهم لم يصادف حرمة الصلاة، وهذا ظاهر إذا لم يتقدمها ما يوجب خروج القوم عن حرمة الصلاة، وكذلك قهقهة الإمام لا يخرج عن الصلاة بخروج القوم عن الصلاة.
وكذلك إن قهقهوا معًا؛ لأن قهقهة الكل صادفت حرمة الصلاة، أما قهقهة الإمام فظاهر، فكذلك قهقهة القوم لما اقترنت قهقهتهم بقهقهة الإمام أو تكلم الإمام بعدما قعد قدر التشهد ثم ضحك القوم لا وضوء عليهم؛ لأنهم صاروا خارجين من الصلاة بكلام الإمام، فضحكهم لم يصادف حرمة صلاتهم فلا تنتقض طهارتهم.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: إمام تشهد ثم ضحك قبل أن يسلّم فضحك بعدُه مَن خلفه فعليهم الوضوء.
علّل، فقال:.... أَمَرَهم أن يسلِّموا، أشار إلى أن القوم لا يخرجون عن حرمة الصلاة بضحك الإمام، قال الحاكم أبو الفضيل رحمه الله وقد روى عن محمد رحمه الله أنه قال: آمُرُهُم أن يسلموا أشار إلى أن ضحك الإمام يخرج القوم عن حرمة الصلاة فلا يحتاجون إلى التسليم؛ لأن التسليم للتحلل.
ذكر الحاكم في (المنتقى): في إمام قعد في آخر صلاته قدر التشهد ولم يتشهد القوم على مثل حاله فضحك الإمام ثم ضحك من خلفه؛ قال: أما في قول أبي حنيفة فعلى الإمام الوضوء ولا وضوء على القوم من قبل الإمام قد أفسد عليهم ما بقي من صلاتهم، وقال أبو يوسف: عليهم الوضوء من قبل أنهم لو لم يضحكوا كان عليهم أن يتشهدوا ويسلموا، فلم يفسد الإمام عليهم شيئًا.
ولو كان الإمام والقوم تشهدوا ثم سلّم الإمام ثم ضحك القوم قبل أن يسلموا فعليهم الوضوء عندنا؛ لأن سلام الإمام لا يفسد عليهم ما بقي، وكذلك الكلام، فأما الحدث متعمدًا والضحك يُفسد عليهم ما بقي، وكذلك عند محمد لا وضوء على القوم في هذه الصورة وهو ما إذا ضحكوا بعد ما سلم الإمام؛ لأن عنده بسلام الإمام يخرج المقتدي عن حرمة الصلاة، فالضحك منه لم يصادف حرمة الصلاة فلا يوجب الوضوء، وعن محمد في عين هذه الصورة أنه ليس على القوم الوضوء، وذكر في بعض (النوادر) أنه لا تنتقض طهارته في هذه الصورة ولم ينسب هذا القول إلى أحد، والقهقهة في سجدتي السهو تنقض الوضوء ولا تفسد الصلاة لأن العود إليهما بدفع السلام دون القعدة فكأنه قهقه بعد القعدة قبل السلام فلا تفسد الصلاة.
وعن أبي يوسف رواية شاذة أن العود إلى سجدتي السهو بدفع القعدة كالعود إلى سجدتي التلاوة، فعلى تلك الرواية تلزمه إعادة الصلاة كما يلزمه إعادة الوضوء.
إمام أحدث فقدّم رجلًا قد فاتته ركعة فعليه أن يصلي بهم بقية صلاة الإمام؛ لأن المسبوق شريك الإمام في التحريمة وصحة الاستخلاف بوجود المشاركة في التحريمة، والحاجة ماسة إلى إصلاح صلاته، فيجوز تسليمه ويتم ما بقي على الأول، وإذا قالوا إنالتسليم تأخر وقدّم رجلًا من المدركين ليسلم بهم ثم يقوم هذا المسبوق ويقضي ما سبق به.
فإن قهقه الإمام الثاني وقد بقي عليه ركعة أو ركعتان، فإن صلاته وصلاة الإمام الأول وصلاة من خلفه فاسدة، أما فساد صلاته؛ من قهقهته لا في حرمة الصلاة فتفسد صلاته، وإذا فسدت صلاته تفسد صلاة من خلفه؛ لأن صلاة المقتدي بناءً على صلاة الإمام صحة وفسادًا؛ فإذا فسدت صلاة الإمام تفسد صلاة المقتدي.
وأما فساد صلاة الإمام الأول؛ لأن الأول لما استخلف الثاني تحولت الإمامة إلى الثاني وصار الأول مقتديًا بالثاني وتعلَّقت صلاته بصلاة الثاني صحة وفسادًا كما في سائر المقتدين وقد فسدت صلاة الثاني فتفسد صلاة الأول ضرورة، ولا وضوء على القوم، ولا على الإمام الأول؛ لأن القهقهة وجدت من الثاني لا منهم، فإن لم يضحك الثاني حتى توضأ الأول والإمام الثاني في الصلاة مع القوم يتابعه الإمام الأول.
ذكرنا أن الإمام الأول صار مقتديًا به فيكون حكمه كحكم سائر المقتدين، والمقتدي يتابع الإمام فكذلك ها هنا. فإن أراد الإمام الأول أن يصلي في نيّته يُنظر إن صلى بعدما فرغ الإمام الثاني من بقيّة صلاته، فصلاته تامة، وستأتي المسألة بعد هذا في فصل الاستخلاف إن شاء الله تعالى.
وإن قعد الإمام الثاني في الركعة قدر التشهد وهي له الثالثة ثم قهقة أعاد الوضوء والصلاة؛ لأنه بقي عليه ركعة، فضحكه حصل في خلال الصلاة فتفسد صلاته وطهارته، وأما صلاة من خلفه إن كان مسبوقًا، فكذلك فاسدة أيضًا؛ لأنهم خرجوا عن حرمة الصلاة، فضحك الإمام وقد بقي عليهم ركن ولا وضوء عليهم لصلاة أُخرى.
لأن القهقهة وجدت من الإمام لا منهم، فلا تنتقض طهارتهم، كما لو أحدث الإمام حدثًا آخر، وصلاة المدركين تامة؛ لأنهم خرجوا عن حرمة الصلاة، ولم يبق عليهم ركن من أركان الصلاة، ولا تفسد صلاتهم كما لو خرجوا بضحك أنفسهم.
وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني في غريب الروايات أن أبا يوسف رحمه الله قال في (الأمالي): صلاة المدركين فاسدة أيضًا، كصلاة المسبوقين؛ لأن صلاتهم مربوطة بصلاة الإمام، فمتى فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة القوم، إلا أن ظاهر الجواب ما قلنا؛ لأن صلاة القوم وإن كانت مربوطة بصلاة الإمام لكن لم يبق عليهم شيء، فمضت صلاتهم على الصحة، هكذا ذكر الإمام الزاهد الصفار وأما صلاة الإمام الأول، فإن كان فرغ من صلاته خلف الإمام الثاني مع القوم فصلاته تامة بلا خلاف..... المدركين، وإن كان في بيته لم يدخل مع الإمام الثاني في الصلاة، اختلفت الروايات فيه في رواية أبي سليمان تفسد صلاته، وهو الأشبه بالصواب، هكذا ذكر الحاكم الجليل في (مختصره)، وفي رواية أبي حفص رحمه الله: صلاة ثلاثة لأنه لأول الصلاة إلى آخره فكأنه خلف الإمام من أول الصلاة إلى آخرها من حيث الحكم والاعتبار، ولو كان خلفه حقيقة لم تفسد صلاته، فكذلك إذا كان خلفه حكمًا واعتبارًا.
وجه رواية أبي سليمان: أنه وإن كان مدركًا لأول الصلاة فقد بقي عليه شيء من صلاته بعد ما ضحك الإمام الثاني، وقد ذكرنا أن ضحك الإمام يوجب خروج المقتدي عن حرمة الصلاة، فقد خرج عليه شيء من صلاته، لأن الكلام فيما إذا بقي ركعة أو ركعتين فتفسد صلاته كما لو خرج بضحك نفسه. والإمام أبو نصر الصفار ومشايخ العراق صححوا رواية أبي حفص رحمه الله والله أعلم.
وإذا زاد في صلاته ركوعًا أو سجودًا ذكر في ظاهر الرواية: أنه لا تفسد صلاته هذا ظاهر، فإن من اقتدى بالإمام والإمام ساجد كان عليه أن يسجد معه، وكانت السجدة له زيادة وكذلك لو تلا آية السجدة في الصلاة لزمه سجدة التلاوة، وهذه السجدة ليست من موجبات تحريمته، فثبت أن زيادة السجدة في الصلاة لا تفسد الصلاة، وكذلك إن زاد سجدتين أو أكثر لا تفسد صلاته؛ لأن الجنس واحد، فهيَ وإن كثرت كأنها سجدة واحدة.
والدليل عليها: أن من ختم القرآن في صلاته تلزمه أربعة عشر سجدة وهي كلها زوائد في الحقيقة؛ لأنها ليست من موجبَات تحريمة الصلاة؛ ولأن ما شرع في الصلاة مثنى فللواحد حكم المثنى، فإن الركعة تنعقد بالسجدة الواحدة عندنا كما تنعقد بسجدتين، وكذلك التحلل يحصل بالسلام الواحد كما يحصل بالمثنى، فثبت أن ما شرع في الصلاة مثنى حكمه حكم الواحد ثم الصلاة لا تفسد بالسجدة الواحدة فكذا في المثنى، والذي هنا في السجود، كذلك في الركوع الزائد، وكذلك الركوعان وما زاد على ذلك.
فإن قيل: أليس أن المسبوق لو تابع الإمام في سجود السهو ثم تبين أنه ليس على الإمام سهو فصلاة المسبوق فاسدة وما زاد إلا سجدتين.
قلنا: فساد الصلاة هناك ليس لزيادة السجدة؛ بل لأنه اقتدى في موضع كان عليه الانفراد فيه وذلك مفسد للصلاة.
وروي عن محمد أنه قال: في السجود الزائد تفسد صلاته، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه عن أبي حنيفة، وجه هذه الرواية: أن السجدة عمدة الصلاة، ألا ترى أن الركعة يُتعَبَد بها؛ ولأنها قربة بنفسها دليل سجدة التلاوة، وإذا كانت قربة في نفسها أشبهت الركعة التامة، ولو زاد فيها ركعة تامة قبل إتمام صلاته فسدت صلاته، وكذا إذا زاد سجدة ثم فرق محمد على هذه الرواية بين السجدة وبين الركوع، فقال: بزيادة السجدة تفسد الصلاة وبزيادة الركوع لا تفسد.
والفرق: أن السجدة قربة بنفسها والركوع ليس بقربة في نفسه والركوع يتعبَد بالسجدة وما يتعبد بالركوع فدل أن للسجدة من القوة ما ليس للركوع، فجاز أن تفسد الصلاة بزيادة السجدة ولا يفسد بزيادة الركوع، وإذا جاء إلى الإمام وقد رفع الإمام رأسه من الركوع، فدخل في صلاته وركع وسجد معه السجدتين لا يصير مدركًا للركعة، ولا تفسد صلاته، وكذلك لو أدرك الإمام في السجدة الأولى فركع هذا الرجل وسجد سجدتين لا تفسد صلاته.
فرق بين هذا وبينما إذا ركع الإمام وسجد سجدة ورفع رأسه منها، فجاء رجل ودخل معه وركع وسجد سجدتين، فإنه لا تفسد صلاته، والفرق: أن في المسألة الأولى لم يدخل فيها إلا زيادة ركوع؛ لأنه وجب عليه متابعة الإمام في السجدتين، وذا لا يفسد الصلاة، أما هنا أدخل زيادة ركعة وهو الركوع والسجود وأنه يفسد الصلاة والله أعلم.
وبعض مشايخنا قالوا: إذا زاد في الركوع أو في السجود، إن كانت الزيادة عن سهو بأن ركع ركوعًا زائدًا أو سجد سجودًا زائدًا تفسد صلاته بالإجماع، وأما إذا تعمد ذلك يجب أن تكون المسألة على الاختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا تفسد صلاته، وعلى قول محمد: تفسد بناءً على اختلافهم في سجدة الشكر، وكان الفقيه محمد بن مقاتل الرازي رحمه الله يقول بالفساد في صورة العمد، والله أعلم.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل دخل (مع) الإمام في أول صلاته، ثم قام ثانية وقد سجد الإمام سجدة التلاوة، فظن هذا الرجل أنه قد ركع، وسجد.....؟ لرجل ويسجد يريد، اتباع الإمام، قال: لا تفسد عليه صلاته؛ لأنه متبع الإمام فيها وهي التلاوة، فإن سجد أخرى فسدت صلاته؛ لأنه قد زاد في صلاته ركعة وسجدة، فلا تكون سجدة التلاوة فصلًا بين الركعة والسجدة الثانية والله أعلم.

.فصل في بيان من هو أحق بالإمامة وفي بيان من يصح إمامًا لغيره، ومن لا يصح، وفي بيان تفسير حال المصلي إمامًا كان أو منفردًا أو مقتديًا وفي بيان ما يمنع صحة الاقتداء وما لا يمنع:

أما الكلام في بيان من هو أحق بالإمامة، نقول: الأولى بالتقديم الأعلم بالسنّة إذا كان يحسن من القراءة ما يجوز بها الصلاة؛ لأن القراءة يحتاج إليها في ركن واحد والعلم بالسُنّة يحتاج إليه من أول الصلاة إلى آخرها؛ فكان الأعلم بالسنّة أولى، والذي روي أن النبي عليه السلام قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى، فإن كانوا سواء، فأعلمهم بالسنّة» فإنما قال ذلك في ذلك الوقت؛ لأنهم كانوا يتلقنون القرآن بأحكامه فالأقرأ فيهم كان أعلم، فأما في زماننا فيكون الرجل ماهرًا في القراءة ولا حظ له من العلم، فالعلم بالسنّة أولى، قال: فإذا تساووا فأكثرهم ورعًا للحديث، فإذا تساووا فأسنهم عمرًا فالقوله عليه السلام «من صلى خلف عالم تقي، فكأنما صلى خلف نبي»؛ ولأن رغبة الناس في الإقتداء بالأورع....، وفي الحديث الذي روينا قدم أقدمهم هجرة على الأورع؛ لأن الهجرة كانت فريضة يومئذٍ ثم انتسخ لقوله «لا هجرة بعد الفتح»؛ ولأن أقدمهم هجرة كان أعلمهم؛ لأنهم كانوا يهاجرون لتعلم الأحكام، فإن كانوا سواء فأكبرهم سنًّا لقوله عليه السلام «الكبر الكبر»، ولأن أكبرهم سنًا يكون أعظم حرمة عادة، ورغبة الناس في الاقتداء به أكثر، والعالم بالسنّة أولى بالتقديم إذا كان تجنب الفواحش الظاهرة، وإن كان غيره أورع منه؛ لأنه أقدر على حفظ هذه الأمانة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: أكره أن يكون الإمام صاحب بدعة، ويكره الرجل أن يصلي خلفه، وهذا لأن الناس قلما يرغبون في الاقتداء به، فيؤدي إلى تقليل الجماعة، ولو أن رجلين هما في الفقه والصلاح سواء، إلا أن أحدهما أقرأ فقدم القوم الآخر ولم يقدموا أقرأهمها، فقد أساؤا فلا يأتمون، قال: وأما الفاسق فتجوز الصلاة خلفه لقوله عليه السلام: «صلوا خلف كل بر وفاجر»؛ ولأن الصحابة والتابعين لم يمنعوا عن الجمعة خلف الحجاج مع أنه كان أفسق أهل زمانه، حتى قال الحسن........ ولكن مع هذا يكره تسليمه لما فيه من تقليل الجماعة، فقل ما رغب الناس في الاقتداء بالفاسق.
وذكر شيخ الإسلام في (شرح كتاب الصلاة): في الصلاة خلف أهل الأهواء وقال: حاصل الجواب فيه، إن كان من كان من أهل قبلتنا، ولم يقل في هواه حتى لم يحكم بكونه كافرًا ولا بكونه ماجنًا بتأويل فاسد تجوز الصلاة خلفه، وإن كان هواه يكفر أهلها، كالجهمي والقدري الذي قال بخلق القرآن، والروافض المغالي الذي ينكر خلافة أبي بكر رضي الله عنه لا يجوز.
وفي (المنتقى): بشر عن أبي يوسف من انتحل من هذه الأهواء شيئًا، فهو صاحب بدعة، ولا ينبغي للقوم أن يؤمهم صاحب بدعة.
وعن الشيخ الفقيه الزاهد أبي محمد إسماعيل بن الحسن رحمه الله أنه قال: روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الصلاة خلف أهل الأهواء لا تجوز.
وفي (نوادر ابن سماعة) وهشام عن محمد أنه لا يصحُ خلف أهل الأهواء، وقال أبو يوسف: لا تجوز الصلاة خلف من يستثني في إيمانه؛ لأنهم شاكون في أصل دينهم.
وأما الصلاة خلف شافعي المذهب: ذكر شيخ الإسلام رحمه الله: أن من كان منهم يميل عن القبلة، أو يعلم يقينًا أنه احتجم ولم يتوضأ، أو خرج منه شيء من غير السبيلين ولم يتوضأ، أو أصاب ثوبه مني أكثر من قدر الدرهم ولم يغسله لا يجوز، وإن كان لا يميل عن القبلة، ولم يتيقن بالأشياء التي ذكرنا يجوز، وقال أبو يوسف لا تجوز الصلاة خلف المتكلم وإن تكلم بحق؛ لأنه بدعة فلا تجوز الصلاة خلف المبتدع، وفي (المنتقى) إبراهيم عن محمد أنه سئل هل يصلى خلف شارب الخمر؟، قال: لا ولا كرامته معنى قول محمد.... ينبغي، فأما الصلاة خلفهُ جائرة.
وفي (نوادر المعلى) المعلا عن أبي يوسف: معتوه يفيق أحيانًا إلا أنه ليس لإفاقته وقت معلوم إن كان في أكثر حالاته معتوهًا، فهو في جميع حالاته بمنزلة المطبق عليه، فإن صلى في حال إفاقته بقوم أعادوا الصلاة، وإن لإفاقته وقتًا معلومًا فهو في حال إفاقته بمنزلة الصحيح، قال ولا بأس بأن يؤم الأعمى، لما روي أن النبي عليه السلام أمر ابن أم مكتوم على المدينة مرة وعتبان بن مالك وكانا أعميين والبصير أولى؛ لأن الأعمى لا يتوقى النجاسات.
وتكره إمامة العبد وولد الزنا، أما ولد الزنا؛ فلأنه لم يكن له أب يفقهه فكان الجهل عليه غالبًا، والعبد مشغول بخدمة المولى فكان الجهل عليه غالبًا أيضًا، قال: فأما الأعرابي: فإن كان عالمًا بالسنّة فهو كغيره، إلا أن غيره أولى؛ لأن الجهل عليهم غالب والتقوى نادر، قال: فلا تجوز إمامة الصبي في صلاة الفرض، وقال الشافعي: تجوز؛ لأن العمل يصح من الصبي نفلًا لا فرضًا، واقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز عندنا على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما اقتداء البالغ بالصبي في التطوع، فقد جوزه محمد بن مقاتل..... إليه خصوصًا في ليالي رمضان في التراويح، وبه قال مشايخ بلخ والأصح عندنا أنه لا يجوز؛ لأن نفل الصبي دون نفل البالغ حتى لا يلزم الصبي القضاء بالإفساد بخلاف البالغ، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، كيف وقد قال النبي: عليه السلام؛ «الإمام ضامن» والصبي لا يصح منه ضمان فليس، فكيف يَصح منه ضمان صلاة المقتدي وفي (نوادر الصلاة) إذا افتتح الصلاة خلف غلام لم يحتلم ثم قهقه لا تنتقض طهارته؛ لأنه لم يصر شارعًا في الصلاة أصلًا، ولم يفصل بين الفرض والنفل، فعلم أن الصحيح أن إمامة الصبي كما لا تجوز في الفرض لا تجوز في النفل، أو يجوز الاقتداء لمن كان معروفًا بأكل الربا، ولكن يكره روي عن أبي حنيفة نصًا وعن أبي يوسف لا ينبغي للقوم أن يؤمهم صاحب خصومة في الدين.
وإن صلى رجل خلفه جاز قال الفقيه أبو جعفر الوزان: يكون مراد أبي يوسف الدين يناظر في دقائق الكلام، ومن صلى خلف فاسق أو مبتدع يكون محرزًا ثواب الجماعة، قال عليه السلام: «صلوا خلف كل بر وفاجر»، أما لا ينال ثواب من يصلي خلف تقي المذكور في قوله عليه السلام: «من صلى خلف تقي عالم فكأنما صلى خلف نبي»، الفاسق إذا كان يؤم ويعجز القوم عن منعه تكلموا: قال بعضهم: في صلاة الجمعة يقتدى به، ولا تترك الجمعة بإمامته أما في غير الجمعة من المكتوبات لا بأس أن يتحول إلى مسجد آخر، فلا يصلي خلفه، ولا يأثم بذلك؛ لأن قصده الصلاة خلف تقي، ومن أم قوم وهم له كارهون، إن كانت الكراهة لفساد فيه، أو لأنهم أحق بالإمامة منه كره له ذلك، وإن كان هو أحق بالإمامة لم يكره: لأن الفاسق والجاهل يكره العالم والصالح.
أبو سليمان عن محمد في (نوادره): رجل أم قومًا شهرًا ثم قال كنت على غير وضوء، وقال كان في ثوبي قذر، قال: يعيدون صلاتهم إلا أن يكون ماجنًا، فحينئذٍ لا يلتفت إلى قوله ولا يعيدون الصلاة،، وقد فسر بعض المتقدمين الماجن...... إلى النرد واللعب في هذه الصورة والله أعلم.
وأما في بيان من يصلح إمامًا لغيره، ومن لا يصلح.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): لا يؤم القاعد الذي يومي قومًا قيامًا يركعون ويسجدون، فلا قومًا قعودًا يركعون ويسجدون، والأصل في هذا أن يقال بأن صلاة المقتدي مبني على صلاة الإمام فكان كالبيع له والشيء يستتبع ما هو دونه أو ما هو مثله، ولا يستتبع ما هو فوقه كأن كان حال الإمام مثل حال المقتدي أو فوقه جاز صلاة الكل، وإن كان حال الإمام دون حال المقتدي صحت صلاة الإمام، ولا تصح صلاة المقتدي.
بيان هذا الأصل في المسائل: إذا كان الإمام يصلي قائمًا بركوع وسجود وخلفه قوم يصلون قيامًا بركوع وسجود أو قوم يصلون قعودًا بركوع وسجود أو قوم يصلون بالإيماء مستلقيًا على قفاهم، فصلاة الكل جائزة؛ لأن حال الإمام مثل حال البعض وأقوى من حال البعض.
وإن كان الإمام يصلي قاعدًا بركوع وسجود وخلفه قوم يصلون قيامًا بركوع وسجود.
القياس: أن لا تجوز صلاة القوم، وبه أخذ محمد رحمه الله؛ لأن إحرام القوم انعقد للقيام، وإحرام الإمام لم ينعقد له، فلا تتحقق...... وحال القوم أقوى من حال الإمام، وفي الاستحسان تجوز صلاة القوم وهو قولهما فقد صح أن النبي عليه السلام صلى في آخر عمره قاعدًا، والناس خلفه قيام، ولنا في رسول الله عليه السلام أسوة، لو كان القوم يصلون قعودًا بركوع وسجود كالإمام، أو يصلون قعودًا بالإيماء، فلا يقدرون على السجود، أو يصلون قيامًا بالإيماء بأن كانوا لا يقدرون على القعود، فصلاة كلهم جائرة؛ لأن حال الإمام مثل حال البعض وفوق حال البعض، فإن الصلاة قاعدًا بركوع وسجود أقوى من الصلاة قاعدًا أو قائمًا بالإيماء، ولو كان الإمام يصلي قاعدًا بالإيماء لا يقدر على السجود وخلفه قوم يصلون قعودًا بإيماء أيضًا يجوز؛ لأن حال الإمام مثل حال القوم، فإن كان خلفه قوم قيام يركعون ويسجدون، أو قوم قعود يركعون ويسجدون لا تجوز صلاة القوم، وعند زفر رحمه الله يجوز؛ لأن الكل صلاة.
ولنا: أن الاقتداء بناء والبناء على المعدوم لا يتحقق وإحرام الإمام لا ينعقد للركوع، فرع في «نوادر» الصلاة على هذا الأصل فقال: إذا كان الإمام مستلقيًا يومي وخلفه من يومي مستلقيًا ومن يومي قاعدًا، تجوز صلاته، وصلاة من هو في مثل حاله، فلا تجوز صلاة القاعد لما فيه من بناء القوي على الضعيف، فإن حال المستلقي في الإيماء دون حال القاعد.
ألا ترى أنه لا تجوز صلاة التطوع بالإيماء مستلقيًا إذا كان قادرًا على القعود وبهذا فرق أبو حنيفة وأبو يوسف بين هذا، وبين اقتداء القائم بالقاعد الذي يركع ويسجد؛ لأن حال الإمام هناك قريب من حال المقتدي، حتى يجوز أداء التطوع قاعدًا مع القدرة على القيام، وها هنا بخلافه والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير) أيضًا: عن أبي حنيفة في أمي صلى بقوم أميين، وبقوم قارئين فصلاتهم جميعًا فاسدة وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله،: صلاة الإمام ومن هو بمثل حاله تامة، يجب أن يعلم أن الأمي إذا أم قومًا أميين أن صلاتهم جميعًا جائزة بلا خلاف؛ لأن الحالة مستوية فهو كالقاريء إذا أم قومًا عراة، وكصاحب الجرح السائل إذا أم قومًا جرحى، والأمي إذا أم قومًا قارئين فصلاة الكل فاسدة، بلا خلاف، وإنما فسدت صلاة الإمام؛ لأنه ترك القراءة في صلاة مع القدرة عليها؛ لأن القارئ إذا كان يصلي معه كان يمكنه أن يقتدي به حتى تصير صلاة بقراءة؛ لأن قراءة الإمام جعلت قراءة للمقتدي، فإذا ترك الاقتداء مع القدرة عليها؛ فقد ترك القراءة مع القدرة عليها، وإذا فسدت صلاة الإمام فسدت صلاة المقتدي ضرورة، وكان أبو الحسن الكرخي يقول اقتداء القارئ بالأمي صحيح في (الأصل) ولكن إذا جاء أوان القراءة تفسد صلاته، وكان أبو جعفر الطحاوي يقول: لا يصح اقتداء القارئ بالأمي أصلًا، والقارئ إذا أم قومًا قارئين فصلاتهم جميعًا جائزة، وهذا ظاهر.
وكذلك القارئ إذا أم قومًا أميين، فصلاة الكل جائزة بلا خلاف؛ لأن الإمام أعلى حالًا من المقتدي، وإنه لا يمنع صحة الاقتداء كالمتنفل إذا اقتدى بالمفترض، وكالمومي إذا اقتدى بمن يركع ويسجد، وأما الأمي إذا أم قومًا أميين وقومًا قارئين، فصلاة الكل فاسدة عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند أبي يوسف ومحمد صلاة الإمام، ومن هو بمثل حاله من الأميين جحائزة، وصلاة القارئين فاسدة.
وفي مسألة (الجامع الصغير): والأخرس إذا أم قومًا خرسًا فصلاة الكل جائزة، وأما إذا أم أميًا ذكر في بعض المواضع: قال بعض مشايخنا: لا يجوز؛ لأن الأخرس لا يأتي بالتحريمة، وهي فرض، والأمي يأتي بها فصار كاقتداء القارئ بالأمي، وذكر في بعض المواضع لا يجوز عند علمائنا.
وذكر شيخ الإسلام في (شرح كتاب الصلاة): أن الأخرس مع الأمي إذا أراد الصلاة كان الأمي أولى بالإمامة فهذا دليل على جواز اقتداء الأمي بالأخرس، والأمي إذا أم الأخرس فصلاتهما جائزة بلا خلاف وأما الأخرس إذا أم قومًا خرسًا وقومًا قارئين، فصلاة الكل فاسدة عند أبي حنيفة، وعندهما صلاة الإمام ومن هو أخرس جائزة.
حجة أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه اقتدى هذا الإمام من هو بمثل حاله قياسًا على القارئ إذا أم قومًا كساة وعراة وقياسًا على صاحب الجرح السائل إذا أم قومًا صحاحًا وجرحى، وقياسًا على المومي إذا أم قومًا مومين وقومًا قارئين، فإن في هذه الصورة تجوز صلاة الإمام ومن وبمثل حاله بلا خلاف كذا هنا.
حجة أبي حنيفة: أن الإمام ترك القراءة مع القدرة عليها، فإنه قادر على أن يجعل صلاته بقراءة بالاقتداء بالقارئ على نحو ما بينا فهو معنى قولنا ترك القراءة مع القدرة عليها فتفسد صلاته، وإذا فسدت صلاته فسدت صلاة القوم ضرورة.
وعلى هذه الطريقة: يقول: إذا كان بجنب الأمي رجل قارئ يصلي، والأمي يعلم أن صلاته موافق لصلاة الإمام فصلى الأمي وحده لا تجوز صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله لما قلنا، وفي هذا الفصل كلمات تأتي عند تمام المسألة إن شاء الله تعالى.
بخلاف القارئ إذا صلى بقوم عراة وكساة، لأن القارئ غير قادر على أن يحصل صلاته بكسوة بالاقتداء بالكاسي؛ لأن كسوة الإمام لم تجعل كسوة للمقتدي حتى يقال إذا لم يقتد فقد ترك الكسوة مع القدرة عليها.
وبخلاف صاحب الجرح السائل غير قادر على أن يجعل صلاة بطهارة بالاقتداء بالصحيح؛ لأن طهارة الإمام لم تجعل طهارة للمقتدي حتى يقال إذا لم يقتد، فقد ترك الطهارة مع القدرة عليها، وهذا هو تخريج المومي إذا أم قومًا مومين وقادرين، ورأيت مسألة الأمي إذا كان يصلي وحده، وهناك قارئ يصلي وحده، في بعض النسخ أن القارئ إذا كان على باب المسجد وبجوار المسجد، والأمي في المسجد يصلي وحدهُ أن صلاة الأمي جائزة بلا خلاف، وكذلك إذا كان القارئ في صلاة غير صلاة الأمي جاز للأمي أن يصلي وحده ولا ينتظر فراغ القارئ من الصلاة بالاتفاق، وأما إذا كان القارئ في ناحية من المسجد والأمي في ناحية أخرى، وصلاتهما موافقة.
فقد ذكر أبو حازم: أن على قياس قول أبي حنيفة: لا يجوز وهو قول مالك، ولئن سلمنا أنه يجوز فوجه تخريجه تحريمه أنه لم يظهر من القارئ رغبة في أداء الصلاة بالجماعة، فلا يعتبر وجود القارئ في حق الأمي، وذكر الفقيه أبو عبد الله الجرجاني عن القاضي أبي حازم رحمه الله في مسألة الأخرس إذا صلى بقوم خرسًا وبقوم قارئين.
وفي مسألة الأمي إذا صلى بقوم أميين وبقوم قارئين إنما تفسد صلاة الأمي، والأخرس عند أبي حنيفة إذا علم أن حوله قارئ، أما إذا لم يعلم لا تفسد صلاته، كما قالا، إلا أن في ظاهر الرواية لا فصل بين حال العلم وبين حالة الجهل.
ووجه ذلك: أن القراءة فرض وما يتعلق بالفرائض لا يختلف بين العلم والجهل، ألا ترى أنه لو ترك القراءة ناسيًا أو جاهلًا أو عامدًا لا يجوز، وطريقهم ما قلنا، وإلى هذا كان يميل الشيخ الإمام الزاهد الصفار، وروى هشام عن محمد أنه قال: عَامة أصحابنا إذا أم الأخرس الأميين، فصلاة الأخرس تامة وصلاة الأميين فاسدة، وإن أم الأمي الأخرس فصلاتهما تامة، قال الفقيه أبو جعفر أراد محمد بقوله: قال عامة أصحابنا من كان معه من المتعلمين، أما لم يرد به أبا حنيفة؛ لأنه يخالفهم في ذلك، ثم إن محمدًا رحمه الله لم يذكر في (الجامع الصغير): أن القارئ إذا اقتدى بالأمي هل يصير شارعًا في الصلاة؟ وهذا فصل اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يصير شارعًا حتى لو كان في التطوع.... وبعضهم قالوا: يصير شارعًا ثم تفسد حتى لو كان في التطوع يجب القضاء، والصحيح هو الأول، نص عليه محمد في (الأصل).
وذكر القدوري في (شرحه): أن القارئ إذا دخل في صلاة الأمي متطوعًا ثم أفسد ما لم يلزمه القضاء عند زفر رحمه الله، قال: ولا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل، وإنما يلزمه القضاء؛ لأن الشروع بمنزلة النذر، ولو نذر القارئ أن يصلي بغير قراءة لا تلزمه، فكذا إذا شرع.
وكل جواب عرفته في القارئ إذا اقتدى بالأمي ثم أفسده على نفسه، فهو الجواب في الرجل يقتدي بالمرأة والصبي والمحدث والجنب، ثم أفسده على نفسه، فلا يؤم المومي من يركع ويسجد، وقال زفر رحمه الله: يجوز، لأن الركوع والسجود هنا سقط إلى بدل والمتاوي بالبدل كالمتاوي بالأصل، ولهذا قلنا: إن المتيم يؤم المتوضئين، وبه فارق ما تقدم؛ لأن هناك الفرض سقط لا إلى بدل، فلم يمكن إلبنا عليه قلنا: إن الإيماء ليس ببدل عن الركوع؛ لأنه بعضه وبعض الشيء لا يكون بدلًا عنه، ومتى كان بعض الأصل، لو جاز الاقتداء لكان مقتديًا في بعض الصلاة ولا البعض، وكذلك لا يجوز قال: فلا تؤم المرأة الرجل كان الرجل إن قام خلفًا، فهو منهي عنه، ضرورة الأمر بالتأخير وإن قام بحزاءها لا تجوز لهذه العلة، ولعلة المحاذاة، فإنها تفسد صلاة الرجل، ويؤم الماسح الغاسل؛ لأنه صاحب بدل صحيح.
والبدل الصحيح حكمه عند العجز عن الأصل حكم الأصل، بخلاف صاحب الجرح السائل، فإنه ليس بصاحب بدل صحيح، ويؤم القاعد الذي يركع ويسجد قومًا قيامًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: لا يؤم لقوله عليه السلام: «لا يؤمنّ أحد بعدي جالسًا»، ولأن المقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، وإنما يتحقق بناء الموجود على الموجود للبناء لموجود على المعدوم، واقتداء القائم بالقاعد بناء الموجود على المعدوم في حق القيام، ولهما ما روي أن النبي عليه السلام في مرضه صلى بالناس وهو جالس، ولأن بين القيام والقعود تفاوت، فإن القائم كلا النصفين منه، مستوي وأحد النصفين من القاعد مثني، وبينهما تقارب، والتقارب في وصف الكمال لا يمنع الاقتداء كاقتداء القائم بالراكع.
ويؤم الأحدب القائم كما يؤم القاعد، ولا يؤم الراكب النازل، والألثغ إذا أم غير الألثغ، ذكر الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل أنه لا يجوز؛ لأن ما يقول صار لغة له، وقال غيره لا تجوز إمامته.
والمفتصد إذا أم غيره إن كان يأمن خروج الدم يجوز، أمي اقتدى بقارئ بعد ما صلى ركعة فلما فرغ الإمام قام الأمي لقضاء ما عليه فصلاته فاسدة في القياس، وقيل: هذا قول أبي حنيفة، وفي الاستحسان يجزيه، وهو قولهما.
وجه القياس: وهو أنه لما اقتدى بالقارئ صارت صلاته بقراءة؛ لأن قراءة الإمام له قراءة كما روينا من الحديث،، وإن كان قراءة الإمام له قراءة صار كأنه كان قارئًا في الابتداء، ولو كان قارئًا في الابتداء ثم قام إلى قضاء ما سبق به، وعجز عن القراءة بأن نسي القرآن لا تجوز صلاته لما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، فكذلك هنا.
وجه الاستحسان، وهو: أنه إنما تلزم القراءة ضمن الاقتداء، وهو مقتدي فيما بقي على الإمام لا فيما سبق به.
يوضحه: أنه لو بنى كان مؤديًا بعض الصلاة بقراءة، وبعضها بغير قراءة.... مستقبل كان مؤديًا جميع الصلاة بغير قراءة، ولا شك إن أداء بعض الصلاة بقراءة أولى من أداء جميع الصلاة بغير قراءة، وهذا كرجل افتتح صلاة العصر مع تذكره أن الظهر عليه، فلما صلى ركعتين فغربت بالشمس فمضى على صلاته؛ لأنه لو استقبل كان مؤديًا جميع الصلاة خارج الوقت، ولا شك أن أداء بعض الصلاة في الوقت، وبعضها خارج الوقت أولى من إذا جمع الصلاة خارج الوقت، بخلاف ما إذا نسي القراءة حيث تفسد صلاته عند أبي حنيفة؛ لأنه لو استقبل كان مؤديًا جميع الصلاة بقراءة، فإن قارئًا حتى يذكره، فيتذكر فتصير جميع الصلاة قراءة، أما ها هنا لو أمرنا بالاستقبال صار مؤديًا جميع الصلاة بغير قراءة، وكذلك الجواب في الأخريين.
وفي (الأصل): الأمي إذا افتتح الصلاة بقوم بعضهم أميين وبعضهم قارئين فأحدث قبل أن يصلي شيئًا، فانصرف وقدم رجلًا من القارئين، فإن صلاتهم فاسدة، وخص قول أبي حنيفة في (الكتاب)، وأنه قولهم جميعًا أما على مذهب أبي حنيفة؛ فلأن صلاة الإمام فاسدة من الابتداء، فالاستخلاف من الأمي إنما حصل في صلاة فاسدة والاستخلاف في صلاة فاسدة فاسد.
وأما على مذهبهما؛ فلأن صلاة القارئ كانت فاسدة، فهذا قد استخلف من ليس له صلاة، فلا يصح الاستخلاف كما لو استخلف صبيًا أو محدثًا أو رجلًا جانبًا عنده ولم يشرع في صلاة الإمام كان الاستخلاف باطلًا؛ لأنه استخلاف من لا صلاة له كذا هنا إلا أن الذي..... إذا كبر ينوي الدخول في صلاة الإمام تجوز الخلافة؛ لأن الذي سبقه الحدث إمام ويصلح لإمامته، وفي مسألتنا القارئ وإن كبر بانيًا ونوى الشروع في صلاة الإمام لا تصح الخلافة أيضًا، لأنه حصل مقتديًا بالأمي، والأمي لا يصلح إمامًا للقارئ قبل سبق الحدث فبعد سبق الحدث أولى.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): قرأ في الأوليين فسبقه الحدث ثم قدم أميًا في الأخريين فسدت صلاتهم، وكذلك إن قدمه في التشهد وهو قول أبي يوسف في غير رواية (الأصول) أنه لا تفسد صلاتهم؛ لأن فرض القراءة صار مؤدى فصار الأمي والقارئ سواء في الركعتين الأخريين، ولظاهر الرواية وجهان.
أحدهما: أن تحريمة هذا الخليفة لم تنعقد للقراءة؛ لأنه لا قراءة عليه متى كان أميًا، وإذا لم تنعقد تحريمته للقراءة، لا يمكنه أن يبني على صلاة انعقدت بقراءة، ألا ترى أن الأمي إذا تعلم في وسط الصلاة فسدت صلاته لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله، وإنما فسدت صلاته لما قلنا.
الوجه الثاني: أنه استخلف من لا يصلح إمامًا له، ولهم فتفسد صلاته وصلاتهم كما لو قدم صبيًا أو امرأة؛ وهذا لأن الاستخلاف عمل كثير إلا أنه يحمل لأجل الحاجة إلى إصلاح الصلاة وليس في تقديم من لا يصلح إمامًا فتفسد.
وبيانه: أنه عاجز عن القراءة ولا صلاة في حق القارئ الإجزاء، فمن لا يقرأ لا تجوز صلاته لعدم الركن للضرورة لهذا الدليل، والفقه في ذلك أن القراءة شرط في جميع هذه العبادة، قال عليه السلام: «لا صلاة إلا بقراءة»، واسم الصلاة اشتملت جميع هذه العبادة فينبغي أن يؤخر القراءة مشتملة على كلها غير أنه لا يمكن تحصيل ذلك تحقيقًا فجعل الحاصل في البعض موجودًا في الكل تقديرًا، وإنما يمكن إثبات الشيء تقديرًا ممن يكون له أهليه تحصيله فعند استخلاف الأمي تفوت القراءة في الأخريين تقديرًا وتحقيقًا فتفسد، وأما إذا صلى ركعة ثم سبقه الحدث ثم استخلف أميًا لم يصح هذا الاستخلاف بلا خلاف؛ لأن القراءة فرض في الركعة الثانية، وقد تركها الخليفة فتفسد صلاتهم، كما لو استخلف قارئًا فلم يقرأ، وكان الأول في مكانه وترك القراءة، وأما بيان تعيين حال المصلي قال محمد رحمه الله.
في (الأصل): أمي صلى بقوم بعض صلاته ثم تعلم سورة وقرأها فيما بقي، فإنه لا تجزئه صلاته، وصلاة من خلفه بمنزلة الأخرس بزوال من الخرس في حال صلاته، وهذا قول علمائنا الثلاثة؛ لأنه يريد أن يبني صلاته بقراءة على تحريمة لم تنعقد القراءة، فلا يصح هذا البناء قياسًا على القارئ إذا اقتدى بالأمي، فإنه لا يصح اقتداؤه، وإنما لا يصح لوجهين، أحدهما: ما مر قبل هذا، والثاني: أن المقتدي يريد أن يبني صلاته بقراءة على تحريمة لم ينعقد لها، وكذا القادر على الركوع والسجود إذا اقتدى بالمومي لا يصح اقتداؤه، وإنما لا يصح اقتداؤه لما قلنا.
بيان ما قلنا: أنه بعد ما تعلم سورة لزمته القراءة وتحريمته لم تنعقد لها في الابتداء، لكونه عاجزًا عن القراءة عند التحريمة هذا لو كان إمامًا وتعلم سورة في وسط الصلاة، وكذلك الجواب فيما إذا كان منفردًا وتعلم سورة في وسط الصلاة، فأما إذا كان مقتديًا بالقارئ وتعلم سورة في وسط الصلاة لا ذكر لهذه المسألة في الكتب المشهورة وقد اختلف المشايخ كان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يقول: لا تفسد صلاته؛ لأنه كان قارئًا محكمًا في أول صلاته من حيث إن قراءة الإمام جعل له قراءة فانعقد تحريمته للقراءة، فإذا تعلم سورة، فإنما يبني صلاته بقراءة على تحريمة انعقدت لها فلا تفسد صلاته، كالقارئ إذا تعلم سورة.
وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن حامد وعامة المشايخ يقول: تفسد صلاته؛ لأن تحريمة المقتدي لم تنعقد للقراءة حقيقة؛ لأنه لم يكن قادرًا على القراءة حقيقة إلا أنه اعتبر...... حكمنا من حيث إن قراءة الإمام جعلت قراءة له، وحين تعلم السورة فقد قرأ على القراءة حقيقة، فلا يمكنه البناء على تحريمة انعقدت للقراءة من حيث الحكم؛ لأن ما لزمه فوق ذلك.
القارئ إن صلى بعض صلاته ثم نسي القراءة وصار أميًا فسدت صلاته عند أبي حنيفة ويستقبلها، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: لا تفسد صلاته ويبني عليها استحسانًا، وهو قول زفر.
حجتهم في ذلك: أن فرض القراءة في الركعتين، ألا ترى أن القارئ لو ترك القراءة في الأوليين وقرأ في الأخريين أجزأه، فإن كان قارئًا في الابتداء وقرأ في الركعتين فقد أدى فرض القراءة فعجز عن ذلك كتركه القراءة مع القدرة.
ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه إذا كان قارئًا في الابتداء فقد التزم إذًا جميع الصلاة بقراءة، ثم عجز عن الوفاء بما التزم الاستقبال.
القارئ إذا صلى بقوم وقرأ في الركعتين الأوليين ثم أحدث واستخلف أميًا فسدت صلاتهم إلا على قول زفر، فإنه يقول: الإمام الأول أدى فرض القراءة، وهي القراءة في الركعتين ولم تبق القراءة فرضًا في الركعتين الأخريين.
فاستخلاف القارئ والأمي فيه سواء، وإنا نقول القراءة فرض جميع الصلاة لصفة القراءة، والأمي عاجز عن ذلك، فلا يصح خليفة له، واشتغال الإمام باستخلاف من لا يصلح خليفة له تفسد صلاة الإمام، كما لو استخلف صبيًا أو امرأة وعلى هذا إذا رفع الإمام رأسه من أحد السجدة فسبقه الحدث فاستخلف أميًا، فسدت صلاته وصلاة القوم عندنا، فإن كان قعد مقدار التشهد، ثم سبقه الحدث واستخلف فهو على الاختلاف المعروف بين أبي حنيفة وصاحبيه، عند أبي حنيفة تفسد، وعندهما لا ويبني مرحلة الاثني عشرية، هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي وأبو عبد الله الجرجاني، وذكر الفقيه أبو جعفر في (كشف الغوامض) أن على قول أبي حنيفة لا تفسد صلاته؛ لأن هذا الفعل ليس من أفعال الصلاة، فيخرجه عن الصلاة، كما لو تكلم أو خرج من المسجد.
وفي (الأصل): الأمي إذا افتتح صلاة الظهر فقعد قدر التشهد وسلم، ثم تعلم سورة، ثم تذكر أن عليه سجدتي السهو، فإنه لا يعود وصلاته جائزة عند الكل، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ فلأنه يصير خارجًا بالسلام إذا كان عليه سهو، وإنما تعود الحرمة متى أمكنه العود إلى السجود وبعدما تعلم السورة لا يمكنه العود إلى السجود؛ لأنه متى عاد لا يكون محسوبًا من السهو، لأنه يؤدي سجدتي السهو بتحريمة لم تنعقد بقراءة بعدما صار قارئًا فلا يمكنه ذلك، كما لو تعلم سورة وقد بقيت عليه سجدة أصلية، أو قعدة؛ فإنه لا يمكنه إتيان الباقي بعد ما تعلم السورة، وإنما لا يمكنه لما قلنا كذا هنا، فإذا تعذر عليه العود بقي خارجًا بالسلام السابق فتعلم السورة يحصل بعد الخروج فلا تفسد صلاته.
نظير هذا ما لو كان مسافرًا فنوى الإمامة بعد السلام، وكان عليه سجدتي السهو، فإنه يصير خارجًا بالسلام؛ لأن العود تعذر بسبب الإقامة، كذا هنا، وعلى قول محمد: لا يخرج بالسلام لذا كان عليه السهو فكأنه تعلم السورة قبل السلام ولو تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد تجزيه صلاته؛ لأنه لم يبق عليه واجب كذا ها هنا.
وأما إذا عاد إلى سجدتي السهو فلما سجد سجدة تعلم السورة، فإن صلاته تفسد على قول أبي حنيفة وعلى قولهما: لا تفسد؛ لأنه عاد إلى الحرمة حين سجد فصار كما لو تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد فتصير المسألة اثني عشرية.
وأما إذا سلم ثم تعلم سورة، ثم تذكر أن عليه سجدة تلاوة أو قراءة؟ فتشهد لم يذكر هذا في (الكتاب) ويجب أن تكون المسألة اثنا عشرية؛ لأنه سلام ساهي فيجعل وجوده كعدمه، فكأنه تعلم قبل السلام بعدما قعد قدر التشهد فيكون على الاختلاف، وأما إذا سلم ثم تعلم سورة ثم تذكر أن عليه سجدة قال: صلاته تفسد عندهم جميعًا؛ لأنه تعلم سورة وعليه ركن من أركان الصلاة، وأما بيان ما يمنع صحة الاقتداء وما لا يمنع، وإذا كان بين الإمام وبين المقتدي حائط أجر صلاته أطلق الجواب في (الأصل) إطلاقًا قالوا: وهذا إذا كان الحائط ذليلًا قصيرًا أما إذا كان بخلافه منع صحة الاقتداء، ونص على هذا: الحاكم الشهيد رحمه الله في (المختصر)، فإنه قال: وبينه وبين الإمام حائط ذليل قصير وأشار إلى المعنى، فقال: لأنه إذا كان بهذه الصفة حائلًا، واختلف المشايخ في الحد الفاصل بين القصير الذليل وغيره.
حكي عن القاضي أبي طاهر الدباس رحمه الله أنه كان يقول: الذليل الذي يصعد عليه من غير كلفة ولا مشقة يخطو خطوة ويضع قدمه عليه، وعن محمد بن سلمة رحمه الله أنه قال: الذليل الذي لا تشتبه على المقتدي حال الإمام بسببه، وغير الذليل الذي يشتبه عليه حال الإمام بسببه.
وذكر الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: أن الذليل الذي لا يمنع المقتدي عن الوصول إلى الإمام لو قصد الوصول إليه مثل حائط؛ لأنه إذا لم يمنع الوصول إلى الإمام لم يكن حائلًا بينه وبين الإمام، والمانع من صحة الاقتداء هو الحائل، وإن كان الحائط عريضًا طويلًا بحيث يمنعه عن الوصول إلى الإمام لو أراد الوصول إليه.
ذكر في بعض المواضع أنه يمنع صحة الاقتداء اشتبه عليه حال الإمام أو لم يشتبه، وإن كان على هذا الحائط العريض الطويل نقب إن كان لا يمنعه عن الوصول إلى الإمام لا يمنع صحة الاقتداء، وإن كان النقب صغيرًا يمنعه عن الوصول إلى الإمام، ولكن لا يشتبه عليه حال الإمام سماعًا أو رؤية، فمن مشايخنا من قال: يمنع صحة الاقتداء؛ لأنه إذا لم يمكنه الوصول إلى الإمام فقد اختلف المكان، ومنهم من قال لا يمنع؛ لأن الحائط إنما يصير مانعًا لاشتباه حال الإمام عليه لا لاختلاف المكان؛ لأن القدر الذي هو مشغول بالحائط لو كان فارغًا لا يختلف المكان، وهذا هو الصحيح.
وإن كان على هذا الحائط باب إن كان الباب مفتوحًا لا يعتبر حائلًا، لأنه لا يشتبه عليه حال الإمام ولا يمنعه من الوصول إلى الإمام، فلا يمنع صحة الاقتداء، وإن كان الباب مسدودًا، قال الفقيه أبو بكر الإسكاف: يعتبر حائلًا ويمنع صحة الاقتداء؛ لأنه يمنع الوصول إلى الإمام لو قصده، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: لا يمنع صحة الاقتداء؛ لأن الباب وضع للوصول والنفاذ فيكون على ما عليه وضع الباب كالمفتوح، وإن كان الحائط طويلًا إلا أنه مشبك، فمن اعتبر الوصول إلى الإمام يجعله حائلًا، ومن اعتبر عدم اشتباه حال الإمام لا يجعله حائلًا.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أنه إذا لم يكن على الحائط العريض باب ولا خوخة ولا نقب، ففيه روايتان: في رواية يمنع الاقتداء؛ لأنه يشتبه عليه حال الإمام، وفي رواية لا يمنع، قال: وعليه عمل الناس بمكة، فإن الإمام يقف في مقام إبراهيم وبعض الناس يقفون وراء الكعبة من الجانب الآخر وبينهم وبين الإمام الكعبة ولم يمنعهم أحد من ذلك، ولو كان بينه وبين الإمام طريق عظيم أو نهر عظيم لا يجوز الاقتداء عندنا لقوله عليه السلام: «ليس مع الإمام من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق من....»؛ فلأنه يحلل بينهما ليس بمكان للصلاة حقيقة وحكمًا، واختلاف المكان يمنع صحة الاقتداء.
وتكلم المشايخ في مقدار الطريق الذي يمنع الاقتداء، قال بعضهم؛ أن يكون ما تمر فيه العجلة أو جمل بغيره وقال بعضهم؛ إذا كان طريقًا متطرفًا ما تمر فيه العامة يكون عظيمًا يمنع الاقتداء، وإن كان طريقًا لا تمر فيه العامة، وإنما يمر فيه الواحد والإثنين لا يمنع الاقتداء، وهذا إذا لم تكن الصفوف متصلة، فأما إذا اتصلت الصفوف على الطريق الذي لا يمنع الاقتداء؛ لأن الكل بحكم اتصال الصفوف فصار مكان الصلاة، وإن كان على الطريق واحد لا يثبت الاتصال، وبالثلاث يثبت الاتصال بالاتفاق، وبالمثنى خلاف: على قول أبي يوسف يثبت وعلى قول محمد: لا يثبت، وكذلك اختلفوا في مقدار النهر العظيم الذي يمنع صحة الاقتداء، وقال بعضهم: النهر العظيم ما تجري فيه السفن والزوارق، وهكذا ذكر الحاكم الشهيد.
في (المنتقى): عن أبي حنيفة وهو الصحيح؛ لأنه إذا كان هكذا يصير حائلًا، ولكن ألا يصح الاقتداء في هذه الصورة إذا كان الناس يمرون فيه، وإن كانوا لا يمرون فيه لا تمنع الاقتداء، هذه الزيادة في متفرقات الفقيه أبي جعفر وعن أبي يوسف أنه إذا كان بحيث يمكن الشيء في بطنه كان عظيمًا ومن المشايخ من قال إذا كان لا يمكن الرجل القوي أن يجتازه بوثبة فهو عظيم مانع صحة الاقتداء، وإن كان على النهر جسر وعليه صفوف متصلة لا تمنع صحة الاقتداء وللثلاثة حكم الصف بالإجماع، وليس للواحد حكم الصف بالإجماع وفي المثنى اختلاف على ما مر في الطريق، فإن كان بينه وبين الإمام بركة أو حوض إن كان بحال لو وقعت النجاسة في جانب تنجس الجانب الآخر لا يمنع الاقتداء، وإن كان لا يتنجس يمنع الاقتداء، ويكون كثيرًا كذا ذكره الإمام الزاهد الصفار، وسيأتي بعد هذا بخلافه.
وفي (فتاوى أبي الليث): رجل يصلي بقوم في فلاة كم مقدار ما ينبغي أن يكون بينه وبين القوم حتى لا تجوز صلاتهم حكي عن الفقيه أبي القاسم: أنه قال: مقدار ما يمكن أن يصطف فيه القوم، وغيره من المشايخ قال: مقدار ما يسع فيه الصفَّان.
فرق بين هذا وبين ما إذا صلى الإمام في مصلى العيد يوم العيد حيث يجوز، وإن كان بين الصفوف فصل، والفرق: أن مصلى العيد بمنزلة المسجد في حق الصلاة بالاتفاق، وإن اختلفوا فيما عدا الصلاة؛ لأن ذلك كله جعل للصلاة ولا كذلك الفلاة.
وفي (الفتاوى): إمام صلى بقوم على الطريق فاصطف الناس في الطريق على طول قال: إذا لم يكن بين الإمام وبين القوم مقدار ما يمر منه الجمل جازت صلاتهم وإلا فلا، وكذلك بين الصف الأول وبين الصف الثاني؛ لأن المانع من الاقتداء ها هنا هو الطريق لأن..... بكون الطريق...... وقدرنا الطريق المانع بهذا لما قلنا، بخلاف المسألة الأولى؛ لأن المانع ثمة مجرد الانفصال، فقدرناه بالصف أو بالصفين.
رجلان أم أحدهما صاحبه في فلاة من الأرض جاء ثالث، ودخل في صلاتهما، فتقدم الإمام حتى جاوز موضع سجوده مقدار ما يكون بين الصف الأول وبين الإمام لا تفسد صلاته، وإن جاوز موضع سجوده؛ لأن في الابتداء لو كانوا ثلاثة وكان بينه وبينهم هذا القدر جاز، فكذا إذا تقدم هذا القدر.
وفي (فتاوى الفضلي): رجل يصلي في الصحراء فأخر عن موضع قيامه مقدار سجوده لا تفسد صلاته ويعتبر مقدار سجوده من خلفه وعن يمينه وعن يساره، ويعطى لهذا القدر حكم المسجد، كما في وجه القبلة، فما لم يتأخر عن هذا الموضع لم يتأخر عن المسجد، فلا تفسد صلاته، ولا يعتبر الخط في هذا الباب حتى لو خط حوله خطًا ولم يخرج عن الخط، ولكن تأخر عما ذكرنا من المواضع فسدت صلاته.
وفي هذا الموضع أيضًا، قوم يصلون خارج المسجد أو في صحراء ووسط الصفوف موضع لم يقم فيها أحد مقدار حوض أو...... تجوز صلاة من وراء ذلك الموضع إذا كانت الصفوف متصلة حوالي ذلك الموضع؛ لأن الصفوف إذا كانت متصلة حوالي ذلك الموضع صار الكل في حكم المسجد وقد مر قبل هذا (في) مسألة الحوض والبركة، بخلاف هذا، وهذه المسألة تؤيد قول من يقول بجواز الاقتداء خارج المسجد إذا كانت الصفوف متصلة بصفوف المسجد، وإن لم يكن المسجد ملأنًا أو في باب الجمعة في صلاة (الأصل) مسألة تدل على هذا القول.
وصورتها: إذا صلى الرجل في سوق الصيارفة صلاة الجمعة مقتديًا بإمام في المسجد جاز إذا كانت الصفوف متصلة بصفوف المسجد اعتبر اتصال الصفوف ولم يعتبر كون المسجد ملأنًا.
وإذا صلى في المئذنة مقتديًا بإمام في المسجد تجوز صلاته، وكذا لو صلى على سطح المسجد مقتديًا بإمام في المسجد تجوز صلاته، هكذا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه كان يفعل ذلك؛ فلأن غالب حال سطح المسجد أن لا يخلو عن كوة ومنفذ، فصار كحائط بينه وبين الإمام عليه باب، وهذا إذا كان مقامه خلف الإمام أو على يمينه أو على يساره، فأما إذا كان أمام الإمام أو بإذائه فوق رأسه لا يجوز، هذا المنقول عن أصحابنا، ذكر هذه الجملة شمس الأئمة الحلواني في (شرح كتاب الصلاة)، وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده هذه المسألة، وجعل الجواب فيها كالجواب في الحائط إن كان عليه نقب أو باب مفتوح أو مسدود إلى آخره، هذا إذا صلى على سطح المسجد.
فإن صلى على سطح بيت وسطح بيته متصل بالمسجد، ذكر شمس الأئمة الحلواني في (شرحه) أنه يجوز، وعلل فقال: لأن سطح بيته إذا كان متصلًا بالمسجد لا يكون أشد حالًا من منزل يكون بجنب المسجد بينه وبين المسجد حائط.
ولو صلى رجل في مثل هذا المنزل مقتديًا بإمام في المسجد وهو يسمع التكبير من الإمام أو من المكبّر تجوز صلاته، فالقيام على السطح يكون كذلك، وذكر القاضي الإمام علاء الدين في (شرح المختلفات) هذه المسألة، وقال: لا يجوز الاقتداء وعلل فقال: الحائط حائل كما لو كان على أرض تلك الدار.
ووجه التوفيق بين القولين يظهر لمن تأمل في المسألة المتقدمة، وإذا قام على رأس الحائط يريد به الحائط الذي بين المسجد ومنزله، وذكر علاء الدين رحمه الله في (شرح المختلفات)، قالوا: بجوز الاقتداء؛ لأنه لا حائل هنا، وذكر علاء الدين أيضًا: إذا كان على رأس الحائط صف وصف على سطح المنزل فصحة اقتداء الذي على سطح المنزل على الخلاف فيما إذا قامت الصفوف خارج المسجد، وهناك إن كان المسجد ملأنًا يصح الاقتداء، وإن لم يكن المسجد ملأنًا، قال بعض المشايخ: لا يجوز الاقتداء، وقال بعضهم: يجوز، وهو الصحيح. وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فناء المسجد له حكم المسجد حتى لو قام في فناء المسجد، واقتدى بالإمام صح اقتداؤه، وإن لم تكن الصفوف متصلة ولا المسجد ملأنًا وإليه أشار محمد في باب صلاة الجمعة، فقال يصح الاقتداء في الطاقات بالكوفة، وإن لم تكن الصفوف متصلة فلا يصح في دار الصيارفة، إلا إذا كانت الصفوف متصلة؛ لأن الطاقات بالكوفة متصلة بالمسجد ليس بينها وبين المسجد طريق، فلا يشترط فيها اتصال الصفوف، فأما دارُ الصيارفة، فمنفصلة عن المسجد بينها وبين المسجد طريق، فيشترط فيها اتصال الصفوف، فعلى هذا يصح الاقتداء لمن قام على الدكان الذي يكون على باب المسجد؛ لأنها من فناء المسجد متصلة بالمسجد.
وفي (فتاوى أبي الليث): إمام صلى بالناس في المسجد الجامع في غير يوم الجمعة، فقام صف خلف الإمام عند المقصورة وقام صف آخر في آخر المسجد، تكلموا منهم من قال: تجوز، ومنهم من قال: لا تجوز، قال الصدر الشهيد: الأعدل من الأقاويل أن الإمام إذا كان بالمقصورة والقوم..... خاصة يجوز، وكذا إذا كان الإمام بمسجد..... والقوم.... خاصة يجوز، فإن كان الإمام بمقصورة والقوم بمسجد منارة لا يجوز، واتحاد الصلاتين شرط لصحة الاقتداء، حتى لم يصح اقتداء مصلي الظهر لمصلي العصر لا من يصلي ظهرًا لمن يصلي ظهر يوم غير ذلك، ولا اقتداء المفترض بالمتنفل، ويصح اقتداء المتنفل بالمفترض.
وقال الشافعي: يصح الاقتداء في جميع ذلك، ثم إذا لم يصح الاقتداء في هذه المسائل عندنا، ولم يصر شارعًا في الفرض، هل يصير متطوعًا شارعًا في الصلاة، ذكر في باب الحدث أنه لا يصير شارعًا، وذكر في باب الأذان أنه يصير شارعًا.
فمن المشايخ من قال: في المسألة روايتان، ومنهم من قال ما ذكر في باب الحدث، قول محمد وما ذكر في باب الأذان قولهما بناءً على أن الفريضة إذا بطلت هل تنقلب تطوعًا.
وذكر في (زيادات الزيادات): إذا اختلف الفرضان قام أحدهما صاحبه لا تجوز صلاة المأموم، وإن قهقه فيها لم يكن عليه وضوء، وهذا يدل على أنه لم يصر شارعًا في الصلاة، وذكر في باب افتتاح الصلاة إذا وقع تكبير المقتدي قبل تكبير الإمام حتى لم يصر شارعًا في صلاة الإمام هل يصير شارعًا في صلاة..... تفسد، اختلفوا فيه قال بعضهم: يصير شارعًا، وإليه أشار محمد في هذا الباب حيث قال في تعليل المسألة؛ لأنه دخل في صلاة غير صلاة الإمام.
وذكر في (نوادر أبي سليمان) وأشار إلى أنه لا يصير شارعًا، والأصح أن في المسألة روايتان: قال الصدر الشهيد: والاعتماد على أنه لا يصير شارعًا ثَمَّ بين المشايخ اختلاف في اقتداء المفترض بالمتنفل قال بعضهم: اقتداء المفترض بالمتنفل كما لا تجوز في جميع أفعال الصلاة لا تجوز في فعل واحد؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل؛ لأن الاقتداء بناءً على سبيل المشاركة، وإنما يصح بناء الموجود على الموجود لا بناء الموجود على المعدوم، واقتداء المفترض بالمتنفل بناء الموجود على المعدوم في حق صفة الفرضية، وفي حق هذا المعنى جميع أفعال الصلاة والفعل الواحد على السواء.
وبعض مشايخنا قالوا: اقتداء المفترض بالمتنفل إنما لا يجوز في جميع أفعال الصلاة أما يجوز في فعل واحد، ألا ترى إلى ما ذكر محمد رحمه الله في (الأصل): أن الإمام إذا رفع رأسه من الركوع وجاء إنسان واقتدى به فقبل أن يسجد السجدتين سبق الإمام الحدث، فاستخلف هذا الرجل الذي اقتدى به ساعتئذٍ صح الاستخلاف، ويأتي الخليفة بالسجدتين، وتكون هاتان السجدتان فعل الخليفة حتى يعيدها بعد ذلك فرضًا في حق من أدرك أول الصلاة، ومع هذا صح الاقتداء، وكذلك المتنفل إذا اقتدى بالمفترض في الشفع الأخير يجوز، وهذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة، ومع هذا صح وعامة المشايخ على أن اقتداء المفترض بالمتنفل، كما لا تجوز في جميع أفعال الصلاة لا تجوز في فعل واحد؛ لأن المعنى لا يوجب الفصل على ما مر، وأما ما ذكر من المسألتين، أما المسألة الأولى قلنا؛ نحن لا نقول بأن السجدتين نفل في حق الخليفة بل هي فرض لوجود حد الفرض، فإن حد الفرض إنه إذا لم يؤده في محله يؤمر بالإعادة إذا أمكنه.
وإذا عجز عن الصلاة بأن جنح عن حرمة الصلاة تفسد صلاته، وقد وجد هذا الحد في مسألتنا؛ وهذا لأن الخليفة قائم مقام الأول فكان الأول في مكانه ولو كان الأول في مكانه كانت السجدتان فرضًا في حقه، فكذا في حق الخليفة إلا أنه لا يعتد بها في صلاته، وكم من فرض لا يعتد به، فعدم الاعتداد لا يدل على عدم الفرضية.
وأما المسألة الثانية قلنا: صلاة المقتدي أخذت حكم الفرض بسبب الاقتداء، ولهذا لزمه قضاء ما لم يدرك مع الإمام من الشفع الأول، وكذلك لو أفسد المقتدي الصلاة على نفسه يلزمه قضاء أربع ركعات، وإذا أخذت صلاة المقتدي حكم الفرض كانت القراءة نفلًا في حقه كما في حق الإمام، فكان هذا اقتداء المتنفل بالمتنفل في حق القراءة، وإذا اقتدى أحد الناذرين بصاحبه لم يجز؛ لأن سببهما مختلف واختلاف الأسباب يوجب اختلاف الأحكام، فصار كاختلاف الفرضين، وكذا من أفسد صلاة فقضاها مقتديًا بالمتنفل لا يجوز؛ لأن القضاء لزمه بالفساد، فصار كاقتداء المفترض بالمتنفل.
ولو نذر رجل أن يصلي ركعتين فقال رجل آخر لله عليّ أن أصلي تلك المنذورة ثم اقتدى أحدهما بالآخر جاز، وإذا نذر رجل أن يصلي ركعتين وحلف آخر، وقال والله لأصلين ركعتين جاز اقتداء الحالف بالناذر، فلا يجوز اقتداء الناذر بالحالف.
ولو حلف رجلان كل واحد أن يصلي ركعتين فاقتداء أحدهما بالآخر جاز بمنزلة اقتداء المتطوع بالمتطوع، ولو أن رجلين طاف كل واحد منهما أسبوعًا واقتدى أحدهما بالآخر في ركعتي الطوف لا يصح اقتداؤه بمنزلة اقتداء الناذر بالناذر.
ولو أن حنفي المذهب اقتدى في الوتر بمن يرى مذهب أبي يوسف ومحمد، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: يصح اقتداؤه؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى نية الوتر، فلم تختلف نياتهما ولو اشتركا في نافلة فأفسداها ثم اقتدى أحدهما بالآخر في القضاء صح، ولا يجوز اقتداء المسبوق في قضاء ما سبق بمثله، وكذا اقتداء اللاحق بمثله.
وفي (النوادر) عن محمد: في رجلين صليا معًا صلاة واحدة ونوى كل واحد منهما إمامة صاحبه جاز؛ لأن كل واحد منهما منفرد في حق نفسه، ولو اقتدى كل واحد منها بصاحبه، فإن صلاتهما فاسدة؛ لأن صلاة المقتدي متعلقة بصلاة الإمام، وليس ها هنا إمام.
وإذا كان صف تام من النساء خلف الإمام ووراءهن صفوف من الرجال فسدت صلاة تلك الصفوف كلها استحسانًا، وفي القياس تفسد صلاة صف واحد خلف صف النساء؛ لأن المحاذاة وجدت في حقهم، فصار كالمرأة الواحدة وهناك تفسد صلاة رجل واحد خلف المرأة، فكذلك ها هنا.
وجه الاستحسان: حديث عمر رضي الله عنه موقوفًا عليه ومرفوعًا إلى رسول الله عليه السلام: «من كان بينه وبين الإمام نهر أو طريق أو صف من النساء فلا صلاة له» ولأن الصف من النساء بمنزلة الحائط بين الإمام والمقتدي، ووجود الحائط الكبير الذي ليس عليه فرجة بين الإمام والمقتدي يمنع صحة الاقتداء، فكذلك الصف من النساء على الاختلاف الذي مر، فإن كن ثلاثًا وقفن في الصف تفسد صلاة واحد على يمينهن وواحد على شمالهن وثلاثة خلفهن إلى آخر الصفوف، لأن الثلاث جمع متفق عليه، هذا هو جواب ظاهر الرواية، وذكر في (واقعات الناطقي): وجعل الثلاث صفًا تامًا حتى قال بفساد تلك الصفوف إلى آخرها.
فإن كانتا امرأتين فالمروي عند محمد: أن المرأتين تفسدان صلاة أربعة نفر واحد عن يمينهما، وواحد عن يسارها، واثنان خلفهما بحذائهما؛ لأن المثنى ليس بجمع تام فها هنا قياس الواحدة لا تفسدان الصلاة من خلفهما، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية جعل الثلاث كالاثنين وقال: لا تفسدان صلاة خمسة نفر واحد عن يمينهن وواحد عن يسارهن، وثلاث خلفهن بحذائهن؛ لأن الأثر جاء في صف تام والثلاث ليس بصف تام.
وفي رواية أخرى جعل المثنى كالثلاث وقال: امرأتان تفسدان صلاة واحد عن يمينها، وواحد عن يسارهما، وصلاة رجلين خلفهما إلى آخر الصفوف؛ لأن المثنى حكم الثلاث في الاصطفاف حتى يصطف خلف الإمام، وقال عليه السلام: «الاثنان فما فوقهما جماعة».
ابن سماعة عن محمد في قوم وقفوا على ظهر ظلة والمسجد تحتهم والنساء قدامهم لا تجوز صلاتهم، قال: وكذلك الطريق قال: فإن كان الرجال الذين فوق الظلة بحذائهم من تحتهم نساء أجزأتهم بمنزلة امرأة بحذاء رجل بينها وبينه حائط، وهكذا ذكر في (واقعات الناطقي).
وفي (فوائد الرستفنفي): إذا كان في المسجد رف وعلى الرف صف من النساء اقتدين بالإمام وتحت الرف صفوف الرجال هل تفسد صلاة من وقف خلف صف النساء، قال: لا تفسد وإن قام ثلاث نسوة خلف الإمام أفسدن على من قام بحذائهن خلفهن إلى آخر الصفوف، ومن لم يكن بحذائهن من أهل الصفوف فصلاتهم تامة.
بشر عن أبي يوسف في إمام صلى برجال ونساء بصف النساء بحذاء صف الرجال، قال: تفسد صلاة رجل واحد الذي بين النساء والرجال وصار ذلك الرجل كسترة أو حائط بينهم وبينهن.
ألا ترى أنه لو كان بين صف النساء وبين صف الرجال سترة قدر مؤخر الرجل إن ذلك سترة للرجال، ولا تفسد صلاة أحد منهم، وكذلك لو كان بينهم حائط وكان الحائط قدر الذراع كانت سترة، وإن كان أقل من ذلك لا تكون سترة فإن كان النساء من فوق ذلك الحائط يعني الذي هو قدر الذراع فليس بسترة، وإن كان الحائط قدر قامة أو أطول، فهو سترة بأن كان على الأرض من الرجال ولا يكون سترة لمن كان على الحائط، وإن قام الرجل على الحائط والنساء على الأرض، فهذا وما لو قامت النساء على الحائط والرجال على الأرض سواء والله أعلم.

.الفصل السابع عشر في بيان مقام الإمام والمأموم:

وإذا كان مع الإمام رجل واحد وصبي يعقل الصلاة قام عن يمينه لحديث ابن عباس رضي الله عنه قال: بت عند خالتي ميمونة، لأراقب صلاة رسول الله عليه السلام بالليل، فانتبه وقال: «نامت العيون، وغارت النجوم، وبقي الحي القيّوم»، ثم قرأ آخر آل عمران {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ} [آل عمران: 19] ثم قام إلى ستر معلق، فتوضأ وافتتح الصلاة فقمت وتوضأت ووقفت عن يساره، فأخذ بأذي وأدارني خلفه حتى أقامني عن يمينه، فعدت إلى مكاني، فأعادني ثانيًا وثالثًا، فلما فرغ قال: ما منعك يا غلام أن تثبت في الموضع الذي أوقفتك، فقلت أنت يا رسول الله، ولا ينبغي لأحد أن يشاركك في الموقف، فقال: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»، فأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلّم إياه إلى الجانب الأيمن، دليل على أنه هو المختار إذا كان مع الإمام رجل واحد، ثم في ظاهر الرواية لا يتأخر المقتدي عن الإمام.
وعن محمد قال: ينبغي أن يكون أصابع المقتدي عند كعب الإمام، وهو الذي وقع عند العوام، ولو قام خلف الإمام لا يكره هكذا ذكر في متفرقات الفقيه أبي جعفر، ولو صلى خلف الصف ولم يلحق بالصف فالمنقول عن الشيخ أبي بكر أنه لا يكره، وذكر محمد بن شجاع في كتاب تصحيح الآثار على قول أبي حنيفة يكره.
قال: وإذا كان معه إثنان قاما خلفه؛ لأن للمثنى حكم الجماعة على ما مر قبل هذا، ويقدم الإمام من..... إذا الصلاة بالجماعة، وكذلك إن كان أحدهما صبيًا لحديث أنس: «أن جدته مليكة دعت رسول الله عليه السلام إلى طعام فقال قوموا لأصلي بكم فأقاماني واليتيم من ورائه وأمي أم سليم وراءنا».
قال وإن كان معه رجل وامرأة أقام الرجل عن يمينه والمرأة خلفه، لأن رسول الله عليه السلام في حديث أنس: أقام المرأة وراء الكل، ولأن المحاذاة مفسدة للصلاة على ما نبين فتؤخذ المرأة صيانة للصلاة، قال: وإن كان رجلان وامرأة أقام الرجلين خلفه والمرأة وراءهما لما مر أن في هذه المسألة يقوم الرجلان خلف الإمام؛ لأن لهما حكم الجماعة بخلاف المسألة الأولى، وإن كان معه رجلان وقام الإمام وسطهما فصلاتهم جائزة ولم يذكر الإساءة لأن للمثنى حكم الجماعة في حق بعض الأحكام عند بعضهم حتى قال ابن عباس: إذا هلك الرجل وترك ابنتين فلهما نصف المال وهذا حكم الواحدة.... هذا القول لم يذكر الإساءة إذا لم يقمها خلفه قال: وأفضل مكان المأموم حيث يكون أقرب إلى الإمام لقوله عليه السلام: خير صفوف الرجال أولها، قال: وإذا تساوت المواضع فعن يمين الإمام أولى؛ لأن النبي عليه السلام «كان يحب التيامن في كل شيء»، وقال بعض مشايخنا: عن يسار الإمام أولى، والأول أحسن، قال: وإذا قاموا في الصفوف تراصوا وسووا من مناكبهم، لقوله عليه السلام: «تراصوا وألصقوا المناكب».
قال: وينبغي أن يجيء إلى الصلاة بالسكينة والوقار، كذا إذا أدرك الإمام في الركوع لقوله عليه السلام: «إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون عليكم بالسكينة الوقار، ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا».
رجلان صليا في الصحراء، وأتم أحدهما بالآخر، وقام على يمين الإمام، فجاء ثالث وجذب المؤتم إلى نفسه قبل أن يكبّر الافتتاح حكى عن الشيخ الإمام أبي بكر بن طرفان أنه لا تفسد صلاة المؤتم جذبه الثالث إلى نفسه قبل التكبير أو بعده؛ لأن الثالث لما توجه إلى الصلاة وقام في مكان الصلاة صار ذلك الموضع مسجدًا لهم، ويكون الثالث كالداخل في صلاتهما، وقال غيره من المشايخ: إذا جاء الثالث، لا ينبغي أن يجذب المؤتم إلى نفسه لكن يتقدم الإمام ويقوم في موضع سجوده، فيصير الثالث مع من كان على يمين الإمام خلف الإمام؛ لأن الإمام ما لم يجاوز موضع سجوده لا تفسد صلاته، وعن الفقيه أبي بكر الأعمش في رجلين أم أحدهما صاحبه، وموضع سجود المؤتم قبل الإمام وموضع قدمه وراء قدم الإمام أو بحذائه، قال: تجوز صلاته؛ لأن العبرة لموضع القدم لا لموضع السجود، ألا ترى إلى ما ذكر في (الجامع الصغير) الإمام إذا كان يصلي وهو يسجد في الطاق وقدماه في غير الطاق أنه لا يكره، ولو كان قيامه وقدميه في الطاق يكره واعتبر القدم دون موضع السجود كذا ها هنا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): في رجل صلى لم ينوِ أن يؤم النساء فجاءت امرأة فدخلت في صلاته خلفه ثم قامت إلى جنبه لم تفسد صلاته عليه، ولم تجزءها صلاتها.
يجب أن يعلم أن نية الإمام إمامة المرأة شرط لصحة اقتدائها به، لأصل معروف أن محاذاة المرأة الرجل في صلاة مطلقة مشتركة، توجب فساد صلاة الرجل استحسانًا، ولا توجب فساد صلاة المرأة استحسانًا، فلو صح اقتداؤها به لوقع الإمام في الضرر، فإنها تقوم بحذائه فتفسد صلاته وليست لها ولاية الإضرار به فيتوقف ذلك على التزامه، وذلك بالنية، فإذا لم توجد النية لا يصح الاقتداء، وإذا لم يصح الاقتداء لا تفسد صلاة الرجل بالمحاذاة، لأن المحاذاة إنما جعلت مفسدة في صلاة مشتركة ولا تصح صلاتها؛ لأن صلاتها مع الإمام تخالف صلاتها وحدها فإذا لم تصح...... لا تصح اقتداء، أو نقول بأن الإمام باقتداءها تلزمه فرضًا كان لا يلزم قبل الاقتداء وهو مراعاة الترتيب في المقام فلا تلزمه هذه الزيادة إلا بالقصد والإرادة كالمقتدي لما كان يلزمه مراعاة الترتيب في المقام بسبب الاقتداء وتلحق صلاته فسادًا من جهته بسبب ذلك تلزمه هذه الزيادة إلا بالقصد والإرادة، بخلاف صلاة الجمعة؛ لأن الجمعة لا تتأدى إلا بالجماعة.
والجماعة تتناول الرجال والنساء فإذا نوى إمامة الجماعة فقد نوى إمامة النساء، ولم يلزم القارئ إذا اقتدى بالأمي يصح بدون نية إمامته وتلحق صلاته فساد من جهته عند أبي حنيفة؛ لأنا نقول مذهب الكرخي أنه لا تصح بدون النية وإن سلمنا فنقول بمن لا يلحقه الفساد بسبب الاقتداء، فإن القارئ لو صلى وحده والأمي وحده فصلاته لا تجوز، دل أن الإفساد ليس سبب الاقتداء حتى يدفع الفساد عن نفسه بترك النية.
ثم لابد لمعرفة هذه المسألة من معرفة المحاذاة ومعرفة المرأة والصلاة المطلقة المشتركة، فنقول وبالله التوفيق.
معنى المحاذاة: أن تقوم المرأة بحذاء الرجل في مكان متحد من أن يكون بينهما حائل، حتى لو كان الرجل على الدكان، والمرأة على الأرض والدكان مثل قامة الرجل لا تفسد صلاة الرجل لاختلاف المكان، ولو كان في مكان متحد بأن كانا على الأرض أو على الدكان إلا أن بينهما أسطوانة أو ما أشبهها لا تفسد صلاة الرجل أيضًا لمكان الحائل، ونوى بالمرأة أن تكون من تصح منها الصلاة وهي بالغة أو صبية مشهاة، حتى إن المجنونة إذا حاذت الرجل لا تفسد صلاة الرجل، وإن كانت بالغة مشتهاة؛ لأنه لا تصح منها الصلاة، والصبية التي تعقل الصلاة إذا كانت لا تشتهى، فحاذت الرجل لا تفسد صلاة الرجل.
ونوى بالصلاة المطلقة الصلاة المعهودة، حتى إن المحاذاة في صلاة الجنازة لا تفسد صلاة الرجل، ونوى المشتركة أن يكونا شريكين بتحريمة وأداء، ويعني بالشركة تحريمة أن يكونا ناويين تحريمتهما على تحريمة الإمام ونعني بالشركة أن يكون لهم إمامًا فما يؤديان.
.... حقيقة أو تقديرًا، فإذا استجمعت المحاذاة هذه الشرائط، أو حدث فساد صلاة الرجل، ولا يوجب فساد صلاة المرأة استحسانًا، وإنما أوجبت بفساد صلاة الرجل؛ لأن الرجل ترك فرضًا من فروض المقام؛ لأنه مأمور بتأخير المرأة قال عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله»، والمراد من الحديث الصلاة المطلقة بدليل سياقه، وهو قوله عليه السلام: «خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها»، فإذا لم تؤخرها، فقد ترك فرضًا من فروض المقام، فأوجبت فساد صلاته كالمقتدي إذا تقدم على الإمام تفسد صلاة المقتدي، وإنما تفسد لتركه فرضًا من فروض المقام.
فإن قيل: الأمر بالتأخير في حق الرجل عرف بهذا الخبر وأنه من أخبار الأحادد، وجواز الصلاة بدون التأخير عرف بالنص المقطوع به والخبر الواحد لا يصلح ناسخًا لما ثبت بالنص المقطوع به.
قلنا: هذا ليس ينسخ بالخبر الواحد؛ لأن النسخ بالخبر إنما يكون أن لو كان الحكم مقصورًا على الخبر، والحكم هنا وهو وجوب التأخير على الرجل غير مقصود على الخبر، فإنه وهو أن تأخير النساء إنما وجب إما تفضيلًا للرجال، فإن في تأخير النساء عن الرجال إظهار كمال الرجال ونقصان مالهن، غير أن التفضيل إنما يتحقق بتأخير المرأة في مكان واحد، وفي حرمة واحدة، وتفضيل الرجال على النساء ثابت بنص مقطوع، وهو قوله تعالى: {وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] وإنما وجب تأخير النساء صيانة لصلاة الرجل عن الفساد.
فإن المرأة من فوقها إلى قدمها عورة، فربما تشوش الأمر على الرجل فيكون ذلك سببًا، لفساد صلاة الرجل فصيانة الصلاة عن الفساد واجبة بالنص المقطوع به، جاء الخبر الواحد مثبتًا لما ثبت بالنص المقطوع به لا أن يكون الحكم مقصورًا على الخبر الواحد، وهذا الكلام في صلاة الرجل.
وأما الكلام في صلاة المرأة فنقول: صلاة المرأة لا تفسد بالمحاذاة استحسانًا، وكان ينبغي أن تفسد؛ لأنها تركت فرضًا من فروض المقام أيضًا؛ لأن الرجل كما صار مأمورًا بالتأخير، فالمرأة صارت مأمورة بالتأخير؛ لأنه لا يمكن للرجل تأخيرها إلا بتأخرها، فصارت مأمورة بالتأخر ضرورة، فإذا لم تتأخر فقد تركت فرضًا من فروض الإمام.
والجواب في قول بأن الحديث لظاهرة أمر الرجال بالتأخير وليس يأمر للنساء بالتأخير ولو صارت مأمورة بالتأخر لصارت مأمورة ضرورة على الوجه الذي قلتم ولا ضرورة؛ لأنه يمكن للرجال تأخيرهم بدون تأخرها، بأن يتقدم عليها خطوة أو خطوتين، فلا ضرورة إلى إثبات الأمر في حقها.
وجوابٌ آخر: أن يقول بلى صارت مأمورة بالتأخر لكن لا قصدًا، إلا أن الأمر بالتأخر غير ثابت في حقها قصدًا أو صريحًا بل بطريق الضرورة على ما قلتم غير أن الثابت ضرورة يحفظ...... عن الثابت مقصودًا، فأظهرنا الأمر بالتأخر في حقها في حق لحوق الإثم بالترك لا في حق فساد الصلاة بالترك إظهارًا للتفرقة بين الثابت ضرورة وبين الثابت مقصودًا.
وحكى عن مشايخ العراق صورة في المحاذاة تفسد صلاة المرأة، ولا تفسد صلاة الرجل.
بيانها: إذا جاءت المرأة وشرعت في الصلاة بعدما شرع الرجل في الصلاة ناويًا إمامة النساء وقامت بحذاءه؛ وهذا لأن فساد صلاة الرجل بسبب المحاذاة لتركه فرضًا من فروض المقام، فإن الرجل مأمور بتأخير المرأة لقوله عليه السلام: «أخروهن من حيث أخرهن الله»، فإذا لم يؤخرها فقد ترك فرضًا من فروض المقام، فأما المرأة ما تركت فرضًا من فروض المقام وإن صارت مأمورة بالتأخر؛ لأن المرأة ما صارت مأمورة بالتأخير نصًا وإنما تصير مأمورة بالتأخير إذا وجد التأخير من الرجل، ليقع تأخير الرجل مفيدًا.
فإذا كانت المرأة حاضرة حين شرع الرجل في الصلاة فصلت بحذاءه أمكنه التأخير بالتقدم عليها خطوة أو خطوتين لأن ذلك مكروه في الصلاة، وإنما تأخيرها بالإشارة لو بالنداء، أو ما أشبه ذلك، فإذا فعل ذلك فقد وجد منه التأخير فيلزمها التأخر فإذا لم تتأخر فقد تركت فرضًا من فروض المقام فتفسد صلاتها، وهذه مسألة عجيبة، وإذا قامت المرأة بحذاء الإمام واقتدت به ونوى الإمام إمامتها فسدت صلاة الإمام والقوم كلهم أما فساد صلاة الإمام؛ لأنه وجد في حقه المحاذاة في صلاة مشتركة، وأما فساد صلاة القوم لأن صلاتهم مربوطة متعلقة بصلاة الإمام على ما ذكرنا غير مرة.
وكان محمد بن مقاتل رحمه الله يقول: لا يصح اقتداؤها؛ لأن المحاذاة اقترنت بشروعها في الصلاة، ولو طرأ كان مفسدًا صلاتها، فإذا اقترنت منع صحة الاقتداء، وهذا فاسد؛ لأن المحاذاة غير مؤثرة في صلاتها، وإنما تفسد صلاتها بفساد صلاة الإمام، ولا تفسد صلاة الإمام إلا بعد صحة شروعها، من المحاذاة ما لم تكن في صلاة مشتركة لا أثر لها في الإفساد، حتى أن الرجل والمرأة إذا وقفا في مكان واحد يصلي كل واحد منهما وحده لا تفسد صلاة الرجل؛ لأن الترتيب في المقام إنما يلزمه عند المشاركة، كالترتيب بين الإمام والمقتدي، والأصل فيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله عليه السلام يصلي بالليل وأنا نائمة بين يديه معترضة كاعتراض الجنازة، فكان إذا سجد خنست أرجلي، وإذا قام مددتها، وأما إذا لم ينوِ الإمام إمامتها لم تكن داخلة في صلاته.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): وإذا صلى الرجل برجال ونساء صلاة مكتوبة فأحدث رجل وامرأة ممن خلفه وذهبا يتوضئان ثم جاءا وقد صلى الإمام، فقاما يقضيان صلاتهما، فقامت المرأة بحذاء الرجل في مكان واحد فصلاة الرجل فاسدة وصلاة المرأة تامة، ولو كانا مسبوقين بأن دخلا في صلاة الإمام بعدما سبقهما الإمام بشيء من الصلاة، فلما فرغ الإمام قاما يقضيان ما سبقها به الإمام، فقامت المرأة بحذاء الرجل في مكان واحد، فصليا فصلاتها تامة، وهذا بناءً على ما ذكرنا أن محاذاة المرأة الرجل في الصلاة المطلقة المشتركة يوجب فساد صلاة الرجل دون المرأة إذا استجمعت المحاذاة شرائطها، وقد استجمعت المحاذاة شرائطها في المسألة الأولى دون الثانية، لأن المكان متحد ولا حائل والمرأة ممن تصح منها الصلاة وهي بالغة أو صبية مشتهاة والصلاة معهودة، والشركة........... تحريمتهما على تحريمة الإمام.
وأما إذا كان لهما إمامًا فيما يؤديان تقديرًا واعتبارًا؛ لأنهما الأداء مع الإمام...... الخروج عن عهدة ما التزما كما التزما، فيجعل كأنهما خلف الإمام لتمكنهما الخروج عن عهدة ما التزما، أو يقول بعبارة أخرى: أن لهما إمامًا فيما يؤديان تقديرًا واعتبارًا؛ لأنهما يقضيان ما فاتهما مع الإمام لعذر الحدث مع أنهما أدركا أول الصلاة، والقضاء يقوم مقام الأداء تقديرًا واعتبارًا.
ولو وقع الأداء في هذه الصورة حقيقة كان الأداء مع الإمام حقيقة، فإذا جاء وجد الأداء تقديرًا كان الأداء مع الإمام تقديرًا، ولهذا لا قراءة عليهما ولا سهو.
أما في المسألة الثانية وهي مسألة المسبوقين، لم توجد الشركة في الأداء، بل هما منفردان في الأداء إذا قاما إلى القضاء؛ لأنه ليس لهما إمام فيما يؤديان لا حقيقة ولا تقديرًا، أما حقيقة فظاهر، وأما تقديرًا أما على العبارة الأولى؛ لأنهما ما التزما الأداء مع الإمام فيما فات حتى يجعل كأنهما خلف الإمام فلهما الخروج عن عهدة ما التزما كما التزما، أما على العبارة الثانية لأنهما لا يقضيان ما فاتهما مع الإمام حتى يجعل الإمام الموجود حالة الأداء، كالموجود حالة القضاء تقديرًا؛ لأنهما لم يدركا ما يقضيان مع الإمام، بل هما منفردان في الأداء إذا قاما إلى القضاء، ولهذا كانت عليهما القراءة والسهو، وكان الشيخ الإمام أبو عبد الله..... يقول: أصحابنا جعلوا المسبوق فيما يقضي كالمنفرد إلا في ثلاث مسائل.
إحداها: أنه إذا قام إلى قضاء ما سبق به فجاء إنسان واقتدى به لا يصح اقتداؤه، ولو كان كالمنفرد يصح اقتداؤه، كما لو كان منفردًا حقيقة.
الثانية: إذا قام إلى قضاء ما سبق به فكبّر ونوى استئناف تلك الصلاة وقطعها يصير مسابقًا وقاطعًا، ولو كان كالمنفرد لما صار مسابقًا وقاطعًا، كما لو كان منفردًا حقيقة.
الثالثة: إذا قام إلى قضاء ما سبق وعلى الإمام سجدتا السهو فعليه أن يتابعه ولو لم يتابعه حتى فرغ من صلاته كان عليه أن يسجد سجدتي السهو، ولو كان كالمنفرد لكان لما تلزمه سجدتا السهو، بسهو سهاه الإمام.
ثم إن محمدًا رحمه الله وضع المسألة في (الكتاب): فيما إذا تحاذيا بعد العود وفرق بين المدركين وبين المسبوقين، ولم يذكر إذا تحاذيا في الطريق، قال مشايخنا: ينبغي أن لا تفسد صلاة الرجل استحسانًا سواء كانا مدركين أو مسبوقين؛ لأنهما غير مؤدين للصلاة أو مسبوقين؛ لأنهما غير مؤدين للصلاة إذ لو جعلا مؤدين للصلاة حصل الأداء مع الحدث، وفي أماكن مختلفة، وكل ذلك مانع من الأداء والمحاذاة إنما أوجبت فساد صلاة الرجل لتركه فرضًا من فروض القيام وذلك مختص بحالة الأداء، وحكي عن الشيخ الزاهد أبي الحسن علي بن محمد البزدوي رحمه الله أن القهقهة في هذه الحالة لا تكون حدثًا استحسانًا، ولكن تقطع الصلاة، والله أعلم.

.فصل في الحث على الجماعة:

الجماعة سنّة لا يجوز لأحد التأخر عنها إلا بعذر، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لقد هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس وأنظر إلى أقوام تخلفوا عن الجماعة فأحرق بيوتهم»، ومثل هذا الوعيد إنما يلحق تارك الواجب أو تارك السنّة المؤكدة، والجماعة ليست بواجبة فعلم أنها سنّة مؤكدة؛ ولأنها من أعلام الدين، فكان إقامتها هدى وتركها ضلالة إلا من عذر؛ لأن العذر أثرًا في إسقاط الفرائض وفي إسقاط السنن أولى.
وقد ذكرنا في باب الأذان أن أهل بلدة لو اجتمعوا على ترك الصلاة بجماعة إنا نضربهم ولا نعاملهم، والأعمى إذا وجد قائدًا يقوده إلى الجمعة لا يجب عليه الجمعة عند أبي حنيفة، خلافًا لهما، وقال محمد: لا يجب على المقود ومقطوع اليد والرجل من خلاف، ومقطوع الرجلين والشيخ الكبير الذي لا يقدر على المشي، لأنهم لا يقدرون عليها إلا بمشقة زائدة على المشي المعتاد، فصاروا كالمريض: قال؛ وإذا زاد على واحد فهي جماعة في غير جمعة لا لقوله عليه السلام: «الإثنان فما فوقهما جماعة»؛ ولأن الجماعة مأخوذة من معنى الاجتماع، وذلك حاصل بالمثنى وإن كان معه صبي يعقل كانت جماعة وهو إشارة إلى أن صلاة الصبي صلاة معتبرة، وإن لم تكن فرضًا ولو فاتته الجماعة جمع بأهله في منزله لما روينا أن النبي عليه السلام «جمع بأهله في منزله حين انصرف من صلح بعدما فرغ الناس من الصلاة»، وإن صلى وحده جاز لما بينا أن الجماعة سنّة ولهذا لا تجب الجماعة في القضاء، وترك السنّة لا تمنع الجواز.
قال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن الأمصار... أنأتي فيها المساجد أو نصلي في المنازل قال: ما أحب أن تتركوا حضور المساجد قال أبو يوسف: هذا أحسن ما سمعنا، في ابن سماعة قال: سأل رجل محمدًا فقال: إن لنا مسجدًا.... على الطريق أذن فيه وأقيم ولا يجتمع فيه أحد إلا أنا وابن عمي وربما كنت وحدي وبقربي مسجد يجتمع فيه جمع عظيم أترى أن أعطل هذا المسجد، وأصلي في المسجد الكبير الجماعة قال: لا تعطله ما قدرت عليه، الحسن عن أبي حنيفة في رجل جاء إلى مسجد وقد صلى فيه فسمع الإقامة في مسجد آخر قال: إن دخل فيه فلا يخرج منه حتى يصلي هنا الصلاة التي صلاها.
بشر عن عن أبي يوسف قال: سألت أبا حنيفة عن النساء هل يرخص لهن في حضور المساجد قال: العجوز تخرج للعشاء....، ولا تخرج لغيرها، والشابة لا تخرج في شيء من ذلك وقال أبو يوسف: العجوز تخرج في الصلوت كلها.

.الفصل التاسع عشر في المرور بين يدي المصلي وفي دفع المصلي المارّ، واتخاذ السترة ومسائلها:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): في امرأة تريد أن تمر بين يدي رجل وهو يصلي قال: يدرأها وإن مرت لا تقطع صلاته.
اعلم أن الكلام في هذه المسألة في مواضع: أحدها: أن المرور بين يدي المصلي لا تقطع الصلاة أي شيء كان المار، وهذا مذهبنا، وقال بعض الناس: بأن مرور المرأة والحِمار والكلب تقطع الصلاة وهو قول بعض الصحابة، واحتج هذا القائل بما روى عبد الله بن الزبير عن النبي عليه السلام: أنه قال: «تقطع الصلاة مرور ثلاثة المرأة والحمار والكلب الأسود» فقيل ما بال الأسود من الأبيض فقال: «إن الأسود شيطان»، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا يقطع مرور شيء الصلاة إلا ثلاث: الكلب والحمار والمرأة»، ولنا ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرؤا ما استطعتم»، وروي أن رسول الله عليه السلام؛ صلى في بيت أم سلمة، فأراد عمر بن أم سلمة أن يمر بين يدي رسول الله، فأشار إليه النبي عليه السلام أن قف فتوقف، ثم أرادت زينبُ بنت أم سلمة رضي الله عنها أن تمر بين يدي النبي عليه السلام، فأشار إليها النبي صلى الله عليه وسلّم أن قفي فلم تقف، ومرت بين يدي رسول الله عليه السلام، ورسول الله عليه السلام مضى على صلاته.
وروي عن عبد الله بن عباس والفضل بن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: «أتينا رسول الله عليه السلام على أتانٍ، فوجدناه يصلي فتركنا الأتان ودخلنا في صلاته، فكانت الأتان تتردد بين يدي رسول الله ورسول الله عليه السلام مضى على صلاته»، وعن أبي ذر وأبي الدرداء رضي الله عنهما أنه قال صلى الله عليه السلام: الجمعة فلما قعد أراد كلب أن يمر بين يديه فقلت سبحانك لا إله إلا أنت يا حنان يا منان يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اقتل هذا الكلب فخر الكلب ميتًا قبل أن يضع رجله موضع يديه فلما فرغ رسول الله عليه السلام من الصلاة قال: «من الداعي على الكلب» فقلت: أنا، فقال دعيت عليه في ساعة لو دعوت على أهل الأرض أن يهلكوا لهلكوا، ثم قال: «ما حملك على هذا الدعاء» فقلت: خشيت أن يمر بين يديك فيقطع صلاتك فقال عليه السلام: «لا يقطع الصلاة مرور شيء وادرؤوا ما استطعتم، وما روى من الحديث روي أن عائشة رضي الله عنها لما بلغها هذا الحديث قالت: يا أهل العراق بئس ما قرنتمونا بالكلاب والحمير، كان رسول الله عليه السلام يصلي وأنا معترضة بين يديه كاعتراض الجنازة وكان إذا سجد غمز رجلي»، ولا شك أن هذا أكثر من المرور أو كان ذلك في بدء الإسلام ثم انتسخ بما روينا من الأحاديث.
والثاني: أن المصلي هل يدرء المار وكيف يدرءه فنقول المصلي يدرء المار لما روينا من حديث ولدي أم سلمة وحديث أبي سعيد الخدري وحديث أبي ذر وحديث أبي الدرداء رضي الله عنهم والأمر بالدرء في هذه الأحاديث بطريق الرخصة، والإباحة، كالأمر بقتل الأسودين في الصلاة.
واختلف المشايخ في كيفية الدرأ منهم من قال: يدرء بالإشارة لحديث ولدي أم سلمة على ما روينا، ومنهم من قال يدرء بالتسبيح؛ لأن هذه نائبة وقعت للمصلي، وقد قال عليه السلام: «إذا وقعت لأحدكم نائبة في الصلاة فليسبح»، وذكر في (الأصل) إذا سبح وأشار بإصبعه ليصرفه عن نفسه لم تقطع صلاته، وأحب إليّ أن لا تفعل.
اختلف المشايخ في معنى قوله أحب إليّ أن لا تفعل، قال بعضهم: لأنه جمع بين الإشارة والتسبيح، وكان يكفي أحدهما، وقال بعضهم: لأنه نسخ والنص ورد بالإشارة، وقال بعضهم يحتمل أن يكون معناه أن ترك الإشارة والتسبيح للدرأ أولى؛ لأن الكراهية في المرور ثابتة من غيره وهذا ثابت بفعله، وفعل النبي عليه السلام محمول على الابتداء حين كان يجوز إدخال ما ليس من الصلاة في الصلاة، ثم أشار أو سبح أو جمع بينهما ولم يمتنع المار عن المرور، لا يزيد على ذلك، ولا يشتمل بالمعالجة، هذا هو مذهب علمائنا رحمهم الله، ومن العلماء من أطلق للمصلي أن يأخذ ببعض ثيابه أو ببعض ببدنه، فيدرأ لظاهر قوله عليه السلام: «وادرؤوا ما استطعتم»، ومن العلماء من أطلق أن يضربه ضربًا، وجعلوا أن يقابله، فإن النبي عليه السلام قال في آخر حديث أبي سعيد الخدري «ادرؤوا ما استطعتم فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان»، وعندنا لا يزيد على الإشارة والحديث محمول على الابتداء حين كان العمل في الصلاة مباحًا.
الثالث: أن المرور بين يدي المصلي مكروه والمار آثم، لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لو علم المار بين يدي المصلي ما عليه لوقف أربعين، قال أبو أيوب لا أدري أراد بقوله أربعين، أربعين عامًا أو شهرًا أو يومًا».
الرابع: في مقدار ما يجب أن يكون بين يدي المصلي وبين المار حتى لا يكره المرور، وهذا فصل لا ذكر له في (الأصل) وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم: قالوا خمسون ذراعًا، وبعضهم قالوا: موضع صلاته وهو موضع قدمه إلى سجوده، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: إذا مر في موضع يقع بصر المصلي عليه وبصره إلى موضع سجوده، فذلك مكروه، وما زاد على ذلك فليس بمكروه.
وقال الفقيه أبو القاسم الصفار: إذا كان بينه وبين المار مقدار ما بين صف الأول إلى حائط القبلة فمر وراءه لم يضره، وهذا إذا كان في الصحراء أو لم يكن له سترة، فإن كان له سترة فمر بينه وبين السترة فهو مكروه، فإن مر وراء السترة فهو ليس بمكروه، وكذلك لا يدرأه المصلي إذا مر من وراء السترة.
قال بعض مشايخنا: فإنما يكره المرور بين المصلي وبين السترة إذا كان بين المصلي والمار أقل من مقدار الصفين، أما إذا كان مقدار الصفين فصاعدًا فلا يكره، وإن كان يصلي في المسجد، فإن كان بينه وبين المار أسطوانة أو إنسان قائم أو قاعد لا يكره؛ لأن به وقعت الحيلولة بين المار وبين المصلي، وإن لم يكن بينهما حائل إن كان المسجد صغيرًا يكره في أي موضع يمر وإلى هذا أشار محمد في (الأصل)، فإنه قال في الإمام إذا فرغ من صلاته، فإن كانت صلاة لا تطوع بعدها فهو بالخيار، إن شاء انحرف عن يمينه وشماله، وإن شاء قام وذهب، وإن شاء استقبل الناس بوجهه إذا لم يكن بحذائه رجل يصلي ولم يفصل بين ما إذا كان المصلي في الصف الأول، أو في الصف الآخر وهذا هو ظاهر المذهب؛ لأنه إذا كان وجهه مقابل وجه الإمام في حال قيامه يكره ذلك، وإن كان بينهما صفوف.
ووجه الاستدلال بهذه المسألة: أن محمدًا رحمه الله جعل جلوس الإمام في محرابه وهو مستقبل له بمنزلة جلوسه بين يديه وموضع سجوده، فكذا مرور المار في أي موضع يكون من المسجد يجعل بمنزلة مروره بين يديه، وفي موضع سجوده، وإن كان المسجد كبيرًا مثل مسجد الجامع، قال بعض المشايخ: هو بمنزلة المسجد الصغير، فكره المرور في جميع الأماكن، وقال بعضهم؛ هو بمنزلة الصحراء فيكون الجواب فيه كالجواب في الصحراء ومن المشايخ من قال: الحد في المسجد قدر ثلاثة أذرع، ويترك ذلك القدر فيما وراء ذلك الأمر واسع عليه.
وإن كان الرجل يصلي على الدكان أو على السطح، فمر إنسان بين يديه على الأرض، فقد مر بين يديه إن كان السطح والدكان على أقل من قامة الرجل، هكذا ذكر بعض المشايخ في شرح (الأصل).
وذكر بعض المشايخ في شرح (الجامع الصغير): إن كان بحيث يحاذي أعضاء المار أعضاء المصلي يكره، وما لا فلا ولو مر رجلان بين يدي المصلي متحاذيين فالذي يليه هو المار بين يديه، ولو مر بين يدي المصلي خلف الدابة، فليس بمار بين يديه.
وقال محمد رحمه الله: رجل يصلي في الصحراء يستحب له أن يكون بين يديه شيء مثل العصا ونحوه، وإن كان لا يجد العصا ليستتر بحائط أو سارية أو شجرة، والكلام هنا في مواضع.
أحدها: في أصل السترة وأنه مستحب، والأصل فيه؛ ما روي عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: «رأيت رسول الله عليه السلام يصلي إليها والناس يمرون من ورائها»، وقال عليه السلام: «من كان يصلي في الصحراء فليضع بين يديه مثل مؤخرة رحله أو واسطة رجل ثم لا يضره مرور شيء بين يديه».
والثاني: أن السنّة فيها الفرز لما روينا من حديث بلال.
والثالث: ينبغي أن يكون مقدار طولها ذراع، لأن العبرة قدر ذراع ولم يذكر في (الأصل) قدرها عرضًا، قيل: وينبغي أن يكون في غلظ إصبع هكذا ذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله وأنه موفق لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يجزئ من السترة السهم، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في (السير الكبير): قال محمد رحمه الله في (السير): بلغنا أن رسول الله عليه السلام قال: «تجزئ من السترة السهم» بفتح الياء معناه يكفي، قال الله تعالى: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِى نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 48]، قال: وطول السهم قدر ذراع وغلظه قدر إصبع، وقال عليه السلام: «إذا صلى أحدكم وبين يديه أجرة الرجل أو واسطة الرجل فليصلِ إليها ولا يبالي ما مر به من كل كلب أو حمار»، وأجرة الرجل وواسطته يبلغ قدر ذراع، وأما إذا كان طول السترة أقل من ذراع ففيه اختلاف المشايخ.
قال شيخ الإسلام خواهر زاده: فعلى هذا إذا وضع قباه أو حقيبته بين يديه إن كان ارتفع قدر ذراع يصير بلا خلاف وإن كان دون ذلك يكون فيه خلافًا.
والرابع: سترة الإمام تجزئ أصحابه، فقد صح أن رسول الله عليه السلام صلى إلى العنزة بالبطحاء؛ ولم يكن للقوم سترة.
والخامس: ينبغي للمصلي أن يقرب إلى السترة، قال عليه السلام: «من صلى إلى سترة فليدن منها».
والسادس: ينبغي أن يجعل السترة على أحد جانبيه إما الأيمن أو الأيسر، والأفضل أن يجعلها على جانبه الأيمن، قال في (الكتاب)؛ لأن النبي عليه السلام لم يصل إلى شجرة ولا إلى عمود إلا جعله على جانبه الأيمن.
والسابع: إذا تعذر غرز السترة أيضًا به الأرض أو للحجر لا يضعها بين يديه عند بعض المشايخ، وعند بعضهم؛ يضع؛ لأن الشرع كما ورد بالغرز ورد بالوضع، ولكن يضع طولًا؛ لأنه لو أمكنه الغرز غرز طولًا ففي الوضع يكون كذلك.
والثامن: لا بأس بترك السترة إذا أمن المرور ولم يواجه الطريق؛ لأن الداعي إلى السترة قد زال، وقد فصل محمد رحمه الله في طريق مكة ذلك غير مرة.
والتاسع: إذا لم يكن معه خشبة أو شيء يغرز أو يضع بين يديه هل يخط خطًا بين يديه، عامة المشايخ على أنه لا يخط، وهو رواية عن محمد، وقال بعض مشايخنا: يخط، وهو قول الشافعي، وهو رواية عن محمد أيضًا والذين قالوا بالخط، اختلفوا فيما بينهم في كيفية الخط: قال بعضهم: يخط طولًا، وقال بعضهم: يخط كالمحراب، والله أعلم.

.الفصل العشرون في صلاة التطوع:

رجل افتتح التطوع، فنوى أربع ركعات ثم تكلم فعليه قضاء ركعتين في قول أبي حنيفة ومحمد، وعن أبي يوسف ثلاث روايات، في رواية ابن سماعة عنه: أنه يلزمه أربع ركعات، ولا يلزمه أكثر من ذلك، وإن نواها، وفي رواية بشر بن الزهري عنه: أنه يلزمه ما نوى، وإن نوى مئة ركعة.
وفي رواية أخرى عنه: إن كان شروعه في الأربع قبل الظهر، والأربع قبل العصر، والأربع قبل الجمعة وبعدها، يلزمه أربع ركعات، وإن كان في غير ذلك لا يلزمه إلا ركعتين، وبعض المتأخرين من أصحابنا اختاروا هذا القول، والصحيح من مذهبه أنه رجع إلى قول أبي حنيفة رحمه الله، وحاصل الكلام راجع إلى أن بالشروع في التطوع لم يلزم في ظاهر الرواية لا يلزم أكثر من ركعتين، وإن نوى أكثر من ذلك، وعند أبي يوسف يلزمه، واتفق أصحابنا أن الشرع في التطوع بمطلق النية لا يلزمه أكثر من ركعتين، إنما الاختلاف فيما إذا نوى أربع ركعات، هكذا ذكر الإمام الصفار رحمه الله.
وجه قول أبي يوسف على الرواية التي قال يلزمه وإن نوى بمئة ركعة: أن الشروع يلزم كالنذر، فنيته عند الشروع، كتسميته عند النذر فيلزمه ما نوى.
ووجه روايته التي قال تلزمه أربع ركعات ولا يلزمه أكثر من ذلك، وهو أن نية الأربع قارن سبب الوجوب فلزمه الأربع قياسًا على النذر، فإنه إذا قال: لله عليّ صلاة ونوى أربع ركعات، وإنما قلنا النية قارنت سبب الوجوب؛ لأن الأربع قارنت الشروع، والشروع سبب كالنذر.
وجه قول أبي حنيفة ومحمد: وهو أن العلماء اختلفوا في وجوب قضاء ركعتين، فعند أهل العراق: يجب، وعند أهل الحجاز: لا يجب، فاختلافهم في قضاء ركعتين اتفاق منهم على أن الأربع لا يجب؛ وهذا لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة، ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا يفسد الأول، فلا يصير شارعًا في الشفع الثاني، ما لم يفرغ من الأول، وبدون الشروع أو النذر لا يلزمه شيء.
بخلاف ما لو قال: لله عليّ صلاة، ونوى أربع ركعات حيث يلزمه أربع ركعات؛ لأن النية هناك قرنت سبب الوجوب من حيث اللفظ وهو النذر، وهنا لم يوجد النذر، لو وجب إنما يجب بالشروع، ولم يوجد الشروع في الشفع الثاني على ما بينا فلا يلزمه.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله): أن معنى قول أصحابنا: إذا شرع الرجل في التطوع، ونوى أكثر من ركعتين، لا تلزمه أكثر من ركعتين: إن ذلك في غير السنن، فأما في السنن مثل الأربع قبل الظهر، والأربع قبل العشاء الآخرة، فإنه يلزمه أربع ركعات، ولا يلزمه أكثر من ذلك، ويلزمه في كل ركعتين من القراءة والذكر والفعل ما يلزمه في صلاة الفرض، وقالوا إذا قام إلى الثالثة يستفتح كما يستفتح في الابتداء، لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة على ما مر. وإذا ترك القعدة الأولى فالقياس: أن تفسد صلاته وهو قول محمد رحمه الله، كما لو تركها من آخر الفرض، وفي الاستحسان لا تفسد، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وجه ذلك: أنه لما أدى أربعًا بتحريمة واحدة صارت هذه الصلاة بمنزلة الفرض في حق القعدة الأولى الفقهٍ، وهو أن القعدة الثانية ليست من جملة الأركان على ما مر، قبل هذا، ولكنها مفروضة شرعت للختم، وختم المفروض فرض، لهذا لم تكن القعدة الأولى فرضًا، لأنها ليست بحالة الختم، فإذا قام إلى الثالثة هنا حتى صارت الصلاة من ذوات الأربع، لم تكن حالة القعدة الأولى حالة الختم، فلم يبق فرضًا كما في الفرض، وما كان مسنونًا في الفرض، فهو مسنون في التطوع إلا أن يصلي قاعدًا وهو يقدر على القيام، أو يصلي التطوع على الراحلة، فإن ذلك يجزئه، ولا يجزئه في الفرض على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإن أفسد شيئًا من ذلك قضاه، وقال الشافعي رحمه الله: لا يجب القضاء؛ لأنه متبرع وذلك ينافي الوجوب والإلزام وقد قال عليه السلام: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام وإن شاء لم يصم»، والخلاف في الصلاة والصوم واحد.
ولنا: أن ما أدى عمل لله تعالى، لأنه إمساك لله تعالى بأمره وبدنه، فيجب صيانته عن البطلان، وذلك بالإتمام ولزمه القضاء عند الإبطال بقدر ما أدى، وإذا لزمه القضاء بقدر ما عمل لله تعالى، صار الحال في القضاء كالحال في الأداء، على معنى أن يلزمه الإتمام صيانة لما أدى، كما لزمه في الأداء.
قال: وكل ركعتين أفسدهما فعليه قضاؤهما دونما قبلهما، لما مر أن كل شفع صلاة على حدة، فلا يفسد الشفع الأول لفساد الشفع الثاني، وإذا افتتح التطوع قائمًا أراد أن يقعد من غير عذر فله ذلك عند أبي حنيفة استحسانًا، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجزئه وهو القياس.
وجه القياس: وهو الشروع يلزم كالنذر بدليل أنه لو أفسدها يلزم القضاء، ومن نذر أن يصلي ركعتين قائمًا لم يجز أن يقعد فيهما من غير عذر، فكذلك إذا شرع قائمًا.
وجه الاستحسان: وهو أن القعود في التطوع من غير عذر، كالقعود في الفرض بعذر، ثم هناك لا فرق بين الابتداء والبقاء فكذلك هنا؛ وهذا لأنه في الابتداء كان مخير بين القيام والقعود، فكذا في البقاء، لأن البقاء أسهل من الابتداء، فلما جاز افتتاحها بالقعود فالبقاء أجوز، بخلاف النذر فهو التزام بالتسمية، وقد نص على القيام فلزمه، أما هنا لم يلزم اللفظ شيئًا لو التزم إنما يلتزم بالشروع والمباشرة وإجزاء الذي باشره قائمًا وشرع فيه وأداه قائمًا، آما سائر الأجزاء لما باشرها قائمًا فلا يلزمه (إلا) قائمًا، فإن قيل: ينبغي أن لا يجب عليه القضاء إذا أفسدها على هذه القضية؛ لأن بإجزاء الذي باشره قد أدى سائر الأجزاء (التي) لم تباشر، فلا يلزمه القضاء.
قلنا: هو شرع فيما يسمى صلاة....... وإسمية الصلاة ألزمناه الأجر الآخر، أما ها هنا ليس من ضرورة استحقاق بهذا الجزاء واسمية الصلاة إلى انضمام إجراء آخر ما ضرورة استحقاق هذا.........، واسمية الصلاة التزام صفة القيام، لأن الصلاة تجوز بدون صفة القيام، لأن القيام صفة زائدة، والدليل على الفرق بين النذر، والشروع أيضًا أنه لو نذر أن يصلي ركعتين قائمًا فقعد وصلى قاعدًا من عذر لا يجزيه، وفي الشروع لا يلزمه الاستقبال، دل على التفرقة بينهما، إلا أن القيام أفضل بالإجماع، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم»، ولأن الصلاة قائمًا أشق على البدن، وقال عليه السلام: «أفضل العبادات أحمزها».
ولو نذر أن يصلي صلاة ولم يقل قائمًا أو قاعدًا، وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني: لا رواية لهذه المسألة، واختلف المشايخ فيه، قال بعضهم؛ هو بالخيار، إن شاء صلى قائمًا، وإن شاء صلى قاعدًا، إلا أن القيام زيادة وصف في التطوع، بدليل أنه تجوز الصلاة بدون القيام، فلا يلزم إلا بالشرط كالتتابع في الصوم، وقال بعضهم: يلزمه قائمًا، لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وما أوجبه الله تعالى أوجبه قائمًا، فكذا ما أوجبه العبد، بخلاف الصوم، لأنه أوجب متتابعًا وغير متتابع، فلا يلزمه التتابع إلا بالشرط، وعلى بعضهم على الاختلاف قياسًا على الاختلاف الذي بينا في الشروع، فلو أنه افتتح التطوع قاعدًا وأدى بعضها قاعدًا ثم بدا له أن يقوم فقام فصلى بعضها قائمًا وبعضها قاعدًا أجزأه عندهم جميعًا، أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يشكل، لأن عندهما التحريمة المنعقد للقعود منعقدة للقيام، بدليل أن المريض إذا افتتح المكتوبة قاعدًا ثم قدر على القيام، فإن له أن يقوم ويصلي بقية الصلاة قائمًا، لهذا المعنى أن التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام، وإنما يشكل هنا على مذهب محمد رحمه الله، لأن عنده التحريمة المنعقدة للقعود لا يكون منعقدة للقيام، حتى أن المريض إذا قدر على القيام في وسط الصلاة فسدت صلاته عنده إلا أنه قال هنا: تجوز صلاته، وفي المريض لا تجوز.
والفرق لمحمد رحمه الله: أن في المريض كان قادرًا على القيام وقت الشروع في الصلاة فما انعقدت تحريمته للقيام، فأما هنا في صلاة التطوع كان قادرًا على القيام، فانعقدت تحريمته للقيام، فلو أنه افتتح التطوع قاعدًا، وكلما جاء أوان الركوع قام وقرأ ما بقي وركع جاز، وهكذا ينبغي أن يفعل إذا صلى التطوع قاعدًا، لما روي عن عائشة رضي الله عنها: «أن النبي عليه السلام كان يفتتح التطوع قاعدًا فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام، ومن القيام إلى القعود، فدل أن ذلك جائز في التطوع.
وإذا افتتح التطوع على غير وضوء وفي ثوب نجس، لم يكن داخلًا في صلاته، لأن الطهارة عن النجاسة الحقيقية شرط لجواز الصلاة، ولم يوجد فلا يصح شروعه فيها، وإذا لم يصح شروعه في الصلاة لا يلزمها القضاء، لأن القضاء يبنى على الأداء، وإن افتتحها نصف النهار، أو حين تحمر الشمس، أو بعد الفجر قبل طلوع الشمس، أو عند طلوع الشمس، فصلى فقد أساء على ما مر قبل هذا، ولا شيء عليه، لأنه أداها كما التزم، فلا يبقى عليه شيء، كمن نذر أن يصوم يوم النحر وصام، فإنه لا يبقى عليه شيء، والمعنى ما ذكرنا، كذلك هنا، وإن قطعها فعليه القضاء عندنا، وعند زفر لا قضاء عليه، زفر رحمه الله قاس الشروع في الصلاة في الأوقات المكروهة بالشروع في الصوم يوم النحر، لعلة أنه مرتكب للنهي.
والفرق لأصحابنا وهو أن بالشروع هناك يصير قائمًا مرتكبًا للنهي، وهنا بنفس الشروع لا يصير مصليًا مرتكبًا للنهي ما لم يقيد الركعة السجدة، بدليل أنه إذا حلف لا يصلي فصلى ما دون الركعة لا يحنث، ولو حلف لا يصوم فصام ساعة يحنث، وإذا كان مرتكبًا للنهي بنفس الشروع في الصوم كان النهي مقارنًا للشروع، فلا يجب إتمامه، فلا يلزمه القضاء بالإفساد، ولما لم يكن مرتكبًا للمنهي بنفس الشروع في الصلاة ما لم يقيد الركعة بالسجدة، لم يكن المنهي مقارنًا للشروع، فصح ما أدى، وإذا صح ما أدى وجب إبقاؤها إلا أنه أمر بالقطع كيلا يقع في المنهي، لا لأن ما أدى وجب إبقاؤها إلا أنه أمر بالقطع كيلا يقع في المنهي لما تناوله المنهي ثم إن أصحابنا فرقوا بينها إذا افتتح التطوع على غير وضوء أو في ثوب نجس حدث لا يلزمه القضاء، وإذا افتتح التطوع في الأوقات المكروهة، وقطعها فعليه القضاء عندنا، خلافًا لزفر.
والفرق: أن الشروع يلزم كالنذر، والنذر بالصلاة في الأوقات المكروهة صحيحة، ولزمه المنذور به، فكذا بالشروع لزمه ما شرع فيه، فيلزمه القضاء بتركه، أما في النذر بالصلاة بغير وضوء لا يصح، فلا يلزمه النذور به، فكذا لا يلزمه بالشروع، فإذا لم يلزمه بالشروع كيف يلزمه القضاء بإفساده؟.
ثم ها هنا مسائل: إذا نذر أن يصلي ركعتين بغير وضوء، أو بغير قراءة، أو عريانًا، فعلى قول أبي يوسف في المواضع كلها يلزمه ما سمى من الصلاة الصحيحة وما زاد في كلامه فهو لغو، وعلى قول زفر: لا يلزمه شيء في الأحوال كلها، وعند محمد: إذا سمى ما لا يجوز أداء الصلاة معه بحال كالصلاة بغير طهارة لا يلزمه شيء، وإذا سمى ما يجوز معه الأداء في بعض الأحوال كالصلاة بغير قراءة يلزمه، والله أعلم.
وطول القيام أفضل في التطوع، لما روي أن النبي عليه السلام سئل عن أفضل الصلاة فقال: «طول القنوت» يعني: القيام، ولأنه أشق على البدن وقال عليه السلام، «أفضل الأعمال أدومها» أي: أشقها وروي عن أبي يوسف: إذا كان له ورد من القرآن فالأفضل أن يكثر عدد الركعات؛ لأن القيام لا يختلف ويضم إليه زيادة الركوع والسجود وإذا لم يكن له ورد فطول القيام أفضل ولا يصلي تطوع بجماعة إلا قيام رمضان فقد استثني عن النهي قيام رمضان، وكما أن قيام رمضان مستثنى عن النهي فصلاة الكسوف يجوز أداؤها بالجماعة مع أنها تطوع ذكر محمد في (الأصل) وحكى عن الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي دقيقة في كراهة أداء التطوع بالجماعة، وسيأتي بيانها في مسائل التراويح في نوع المتفرقات إن شاء الله تعالى.
قال محمد رحمه الله: رجل صلى أربع ركعات ولم يقرأ فيهن شيئًا يقضي ركعتين وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف يقضي أربع ركعات، واعلم بأن هنا ثمان مسائل:
إحداهما: هذه المسألة.
الثانية: إذا قرأ في إحدى الأولين وإحدى الأخريين.
والثالثة: إذا قرأ في الأولين.
والرابعة: إذا قرأ في الأخريين.
والخامسة: إذا قرأ في الثلاث الأول.
والسادسة: إذا قرأ في الثلاث الأواخر.
والسابعة: إذا قرأ في ركعة من الأوليين.
والثامنة: إذا قرأ في ركعة من الآخريين، والأصل في جملتها أن يترك القراءة في الشفع الأول من الركعتين أو في إحداهما لا ترتفع التحريمة، ولا تنقطع عند أبي يوسف فصح بناء الشفع الثاني على الشفع الأول بتلك التحريمة، إن قرأ في الشفع الثاني في الركعتين صح هذا الشفع وعليه قضاء الشفع الأول لا غير، وإن ترك القراءة في الشفع الثاني في الركعتين أو في إحداهما فسد هذا الشفع وكان عليه قضاء الشفعين.
وعند محمد رحمه الله: ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين أو في إحداهما رفع التحريمة وقطعها فلا يصح بناء الشفع الثاني على الشفع الثاني، ولا يلزمه قضاؤه، وعلى قول أبي حنيفة: ترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين يقطع التحريمة كما هو قول محمد باتفاق الروايات، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني عنده ولا يلزمه قضاؤه، واختلفت الروايات عنه في ترك القراءة في الشفع الأول في إحدى الركعتين روى محمد عنه أنه لا يقطع التحريمة كما هو مذهب أبي يوسف، فيصح الشروع في الشفع الثاني، ويلزمه قضاء الأربع كذا ذكر في كتاب الصلاة.
وفي (الجامع الصغير): وروى بشر بن الوليد وعلي بن جعفر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه يقطع التحريمة، فلا يصح الشروع في الشفع الثاني ولا يلزمه قضاؤه، قال مشايخنا في المسألة قياس، واستحسان، فرواية محمد عنه استحسان ورواية أبي يوسف عنه قياس وجه قول محمد: إن كل شفع من التطوع صلاة على حده، به ورد الحديث قال عليه السلام: «صلاة الليل مثنى»، وأراد به التطوع كانت القراءة في الركعتين فرضًا كما في صلاة الفجر، فإذا ترك القراءة في أحدهما فقد فات الفرض على وجه لا يمكن إصلاحه كما لو ترك القراءة في إحدى ركعتي الفجر فيفسد الأداء، وإذا فسد الأداء فسدت التحريمة؛ لأن التحريمة للأداء ومتى فسدت التحريمة لم يصح بناء الآخرين عليها، فلم يلزمه قضاؤها إن ترك القراءة فيهما أو في إحداهما.
حجة أبي يوسف: أن فساد الأداء لا يكون....... من عدم الأداء، وعدم الأداء لا يفسد التحريمة ففساد الأداء أن لا تفسد التحريمة إذ بالفساد لا تنعدم إلا صفة الجواز والفقه: أن التحريمة شرط للأداء، فلا تفسد بفساد الأداء، وإذا لم تفسد بفساد الأداء صح بناء الآخرين على التحريمة.
حجة أبي حنيفة فيما إذا ترك القراءة في الأوليين ما قلنا لمحمد، وإن ترك القراءة في إحدى الأوليين، وجه القياس على قول أبي حنيفة ما قلنا لمحمد رحمه الله والاستحسان على قوله وجهان:
أحدهما: أن التحريمة شرط الأدء، قال أبو يوسف: إلا أنه مشروعة للأداء لا تقبل الفصل عن الأداء والأداء ثم بركعة واحدة؛ لأن أركان الصلاة كلها تتم بركعة واحدة فإذا قرأ في الركعة الأولى فقد وجد فعل الأداء صحيحًا فاستحكمت التحريمة، وانتهت في الصحة بها بناء فلم تفسد بترك القراءة في الركعة الثانية، وإذا لم تفسد صح بناء الآخرين عليها بخلاف ما إذا ترك القراءة في الأوليين؛ لأن التحريمة وإن صحت في الابتداء فما صحت إلا للأداء على سبيل التمام ولم يوجد ففسد الأداء لفوات بعضه ففسدت التحريمة التي يراد منها الأداء.
الوجه الثاني: أن فساد الشفع الأول يترك القراءة في الركعتين مقطوع به؛ لأن القراءة في ركعة واحدة ثبت بدليل مقطوع به، ومن الكتاب قال الله تعالى: {فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ} [المزمّل: 20] فجاز أن يؤثر في فساد التحريمة، أما فساد الشفع الأول بترك القراءة في ركعة واحدة ليس بمقطوع به، بل هو مجتهد فيه، فإن من الناس من قال الفرض القراءة في إحدى الركعتين؛ وهذا لأن الأمر بالفعل لا يقتضي التكرار، لكن أوجبنا القراءة في الركعة الثانية احتياطًا؛ لأن الركعة الثانية تكرار للأول على ما سبق، والاحتياط هنا في أن لا يجعل القراءة فرضًا في الثانية في حق إبقاء التحريمة حتى نحكم بصحة الشروع في الشفع الثاني، فيجب عليه إتمام الشفع الثاني، ولا يحكم بصحة الأداء احتياطًا أيضًا. وأخذنا في كل حكم بالاحتياط.
وإذا عرفنا هذا (الأصل) جئنا إلى تخريج المسائل فنقول: إذا ترك القراءة أصلًا فعلى قول أبي يوسف: يجب عليه قضاء الأربع؛ لأن التحريمة عنده بقيت على الصحة، فصح الشروع في الشفع الثاني، وعند أبي حنيفة ومحمد عليه قضاء ركعتين؛ لأن التحريمة قد انقطعت عندهما بترك القراءة في الشفع الأول في الركعتين، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاؤه، وإذا قرأ في إحدى الأوليين، وفي إحدى الأخريين يعني قرأ في الركعة الأولى والثالثة، فعليه قضاء أربع ركعات عند أبي يوسف، وكذلك عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عنه بترك القراءة في إحدى الأوليين لا تبطل التحريمة، فيصح بناء الشفع الثاني عليه، فيلزمه قضاء أربع ركعات وعند محمد يلزمه قضاء ركعتين؛ لأن عنده بترك القراءة في إحدى الأوليين تبطل التحريمة، فلا يصح بناء الثاني عليهما، فيلزمه قضاء ركعتين، وإذا قرأ في الأوليين إن كان قعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء ركعتين بالإجماع؛ لأن التحريمة لم تنقطع بالإجماع، فيصح بناء الشفع الثاني عليها بالإجماع أنه بترك القراءة في الأخريين أفسد الشفع الثاني، وفساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول.
إذا قعد في الشفع الأول كما إذا أحدث متعمدًا، وإن لم يقعد على رأس الركعتين فعليه قضاء الأربع بالإجماع؛ لأن الشفع الثاني قد لزمه، وقد أفسدها بترك القراءة قبل أن يقعد على رأس الركعتين، فيؤثر في الشفع الأول.
كما لو أحدث متعمدًا في الشفع الثاني قبل أن يقعد في الشفع الأول، وإذا قرأ في الأخريين فعليه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع في الشفع الأول صحيح، والأداء قد فسد لعدم القراءة فيلزمه قضاؤه.
وأما الشفع الثاني، فعند محمد رحمه الله لم يصح الشروع فيه، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله، فلا يلزمه القضاء، وعند أبي يوسف صح الشروع فيه وصح الأداء لوجود القراءة، فلا يلزمه القضاء فإذا اتحد الجواب مع اختلاف التخريج، وإذا قرأ في الثلاث الأوائل، فإن كان قعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء الشفع الثاني بالإجماع؛ لأن الشفع الأول قد صح لوجود القراءة فيه، فيصح بناء الشفع الثاني عليه وقد فسد الشفع الثاني لترك القراءة في إحدى الركعتين، فيلزمه قضاؤه.
وإن لم يقعد على رأس الركعتين، فعليه قضاء الأربع بالإجماع.
والجواب في هذا الفصل كالجواب فيما إذا قرأ في الأوليين فقط، وإذا قرأ في الثلاث الأواخر، فعليه قضاء ركعتين عند محمد؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى انقطعت التحريمة، فلم يصح الشروع في الشفع الثاني، فلا يلزمه قضاء الشفع الثاني ولكن يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأن الشروع فيه قد صح، وفسد الأداء، وعند أبي يوسف يلزمه قضاء أربع ركعات؛ لأن بترك القراءة في الركعة الأولى لا تنقطع التحريمة، فصح الشروع في الشفع الثاني وفسد الأول؛ لأن الشفع الأول قد فسد، والثاني بناءً عليه والبناء على الفاسد فاسد.
وكذلك الجواب عند أبي حنيفة في رواية محمد عنه؛ لأن عند أبي حنيفة على رواية محمد عند التحريمة لا تنقطع بترك القراءة في إحدى الركعتين الأوليين فصح الشروع في الشفع الثاني، والتقريب ما ذكرنا.
وإذا قرأ في إحدى الأوليين، فعند محمد رحمه الله قضاء الشفعين، وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله على رواية محمد رحمه الله لما ذكرنا، وإذا قرأ في إحدى الأخريين، فعند محمد عليه قضاء الشفع الأول لا غير؛ لأن الشروع في الشفع الثاني لا يصح عنده.
وكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله: لا يصح الشروع في الشفع الثاني؛ لانقطاع التحريمة عنده بترك القراءة في الشفع الأول أصلًا، وعند أبي يوسف رحمه الله قضاء الأربع لصحة الشروع في الشفع الثاني عنده، فإن صلى أربع ركعات، ولم يقرأ في الأوليين وقرأ في الأخريين ينوي قضاء الأوليين لا يكون قضاء عن الأوليين؛ لأنه بنى بناءً على تحريم واحدة والتحريمة الواحدة لا يتسع فيها القضاء والأداء، فإن ترك القراءة في الأوليين ثم اقتدى رجل في الأخريين، فصلاهما معه فعليه قضاء الأوليين كما يقضي الإمام، لأنه لما شارك الإمام في التحريمة فقد التزم ما التزم الإمام بعد التحريمة.
وهذا إنما يستقيم على قول أبي يوسف وعلى قول أبي حنيفة على ما روى عنه محمد؛ لأن التحريمة لا تنحل بترك القراءة عندهما، فأما عند محمد رحمه الله التحريمة انحلت بترك القراءة وصار الإمام خارجًا من الصلاة، فلم يصح اقتداء الرجل بالإمام، فلا يجب عليه قضاء شيء، فإن دخل معه رجل في الأوليين، فلما فرغ منهما تكلم الرجل ومضى الإمام في صلاته حتى صلى أربع ركعات، فعلى الرجل المقتدي قضاء ركعتين الأوليين فقط؛ لأن المقتدي خرج من صلاة الإمام بالكلام قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني، وإنما يلزم الإمام الشفع الثاني بالقيام إليها، فإذا خرج المقتدي من صلاته قبل قيام الإمام إلى الشفع الثاني لم يلزمه شيء من هذا الشفع، وإنما يلزمه قضاء الشفع الأول؛ لأنه كان شارعًا فيه وقد أفسد الإمام بترك القراءة، فيلزمه قضاؤه.
وذكر الحاكم الجليل رحمه الله في (مختصره)، وإن كانت الصلاة كلها صحيحة لم يكن على الرجل إلا قضاء الركعتين قيد بالركعتين الأوليين؛ لأنه بالكلام خرج الإمام عن كونه إمامًا له قبل أن يدخل في الأخريين، ثم قال الحاكم الجليل أيضًا، إنما يصح هذا الجواب إذا أفسد الرجل الركعتين على نفسه قبل أن يفرغ منها والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير) عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: صلاة الليل إن شئت صليت بتكبيرة ركعتين، وإن شئت أربعًا، وإن شئت ستًا، وذكر في كتاب صلاة (الأصل) وإن شئت ثمانًا، وليس في المسألة اختلاف الروايتين، لكن في (الجامع الصغير)، والحال في كتاب الصلاة، واعلم بأن التطوع بالليل حسن لقوله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79]، وبعض العلماء قالوا ركعتان في كل ليلة، كمن قرأ القرآن سنّة، وقال بعضهم فريضة، وعندنا قيام ليس بسنّة ولا فريضة، ولكنه مستحب قال عليه السلام: «خصصت بصلاة الليل».
قال: وصلاة النهار ركعتان ركعتان أو أربع أربع، ويكره أن يزيد على ذلك وإن زاد لزمه، واعلم بأن هنا أحكام ثلاثة الجواز والكراهية والأفضلية، أما الكراهية، فالزيادة على الثمان في صلاة الليل بتسليمة مكروه، والزيادة على الأربع في صلاة النهار بتسليمة مكروه؛ لأن السنّة في صلاة الليل وردت إلى الثمان، وفي صلاة النهار إلى الأربع وما وردت بالزيادة، فيكره الزيادة على ذلك لعدم ورود السنّة.
فإن قيل: وردت السنّة في صلاة الليل بالزيادة على الثمان، فإنه روي «أنه كان يصلي بتسليمة واحدة تسعًا»، وروي إحدى عشر وروي ثلاثة عشر، قلنا: ما روي أنه عليه السلام صلى تسعًا بتسليمة، فتأويله أن الثلاث كان وترًا وست ركعات، لصلاة الليل وما روي أنه عليه السلام أنه صلى إحدى عشر ركعة، فثلاث منها كان وترًا وثمان ركعات لصلاة الليل وما روي أنه عليه السلام كان يصلي ثلاث عشر، ثلاث منها كان وترًا وركعتان للفجر وثمان ركعات للتطوع قال الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله هذا التفسير، منقول عن النبي عليه السلام غير مستخرج من تلقاء أنفسنا؛ وهذا لأن في ابتداء الأمر كان النبي عليه السلام يوصل صلاة الليل بالوتر والوتر بركعتي الفجر صار الوتر واجبًا، فصل من صلاة الليل والوتر وبين الوتر وركعتي الفجر، فاستقرت الشريعة على ثمان ركعات بتسليمة واحدة في صلاة الليل، فنكره الزيادة عليها؛ لأنه خلاف السنّة، لكن لو صلى يجوز لأن الكراهية لا تمنع الجواز كالصلاة في الأوقات المكروهة، فأما الكلام في الأفضلية، أما في صلاة الليل قال أبو حنيفة رحمه الله: الأفضل أربع ركعات بتحريمة واحدة. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي؛ الأفضل مثنى مثنى، ثم احتجوا بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال النبي عليه السلام «صلاة الليل مثنى مثنى»، وفي كل ركعتين، فسلم ولأنها تطوع الليل، فيكون مثنى مثنى قياسًا على التراويح في ليالي رمضان، فإن الصحابة أتفقوا على أن كل ركعتين من التراويح بتسليمة، فدل أن ذلك أفضل؛ وهذا لأن الفصل بين الركعتين بالسلام يؤدي إلى زيادة تحريمة وزيادة تسليمة ودعاء لا يوجد ذلك إذا وصل أحدهما بالآخر، وكان الفصل بتسليمة أفضل.
وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روي عن عائشة رضي الله عنه أنها سئلت عن قيام رسول الله عليه السلام في ليالي رمضان، فقالت: «كان قيامه في رمضان وغيرها سواء كان يصلي بعد العشاء أربع ركعات، لا تسل عن حسنهن وطولهن ثم أربعًا لا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم كان يوتر بثلاث»، ولأن في الأربع بتسليمة واحدة معنى الوصل والتتابع في العبادة فهو أفضل، ولأن التطوع نظير الفرض، والفرض من صلاة الليل العشاء وهي أربع ركعات بتسليمة، فكذلك لك النفل.
وقوله في كل ركعتين فسلم أي فتشهد، فالتشهد يسمى سلامًا لما فيه من السلام، وأما التراويح إنما جعلوا ركعتين بتسليمة، ليكون أرواح على البدن وما يشترك فيه العامة مبني على اليسر، فأما الأفضل فما هن أشق على البدن، وأما بعد الفراغ عن التراويح لو أراد أن يصلي في بيته، فإنه يصلي أربعًا بتحريمة واحدة، وإنه أفضل الأربع أدوم إحرامًا، وقال عليه السلام: «أفضل الأعمال أدومها»، وأما ما روي عن الحديث، وهو قوله عليه السلام؛ «صلاة الليل مثنى مثنى» قلنا: ما روي في رواية أربعًا أربعًا، فكليهما جائز والأربع أفضل؛ لأنه أدوم والدليل عليه أنه لو نذر أن يصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة، فصلى بتسليمتين لا يخرج عن عهدة النذر، وحيث لا يخرج دل أن الأربع بتسليمة واحدة أفضل، وأما في صلاة النهار، فالأفضل أربع ركعات بتسليمة واحدة عندنا.
وعند الشافعي بتسليمة واحدة، لما فيها من زيادة التكبير والتسليم، وحجتنا حديث ابن عمر رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام «كان يواظب في صلاة الضحى على أربع ركعات»؛ ولأن التطوع نظير الفرائض وفرائض النهار أربع ركعات كالظهر والعصر، فكذلك التطوع.
فالحاصل: أن عند أبي حنيفة في تطوع الليل والنهار أربع ركعات أفضل، وعند الشافعي رحمه الله ركعتان فيهما أفضل وعندهما، وهو قول ابن أبي ليلى صلاة الليل مثنى أفضل، فصلاة النهار أربع أفضل، وإذا شرع في التطوع، وأراد أن يصلي ركعتين ثم بدا له أن يصلي أربعًا بتسليمة واحدة يستحب له ذلك؛ لأنه زاد خيرًا.
وعن أبي يوسف في (الأمالي) إذا قال الرجل: لله عليّ أن أصلي أربع ركعات، فصلى ركعتين بتسليمة ثم ركعتين بتسليمة لا يجوز، ولو نذر أن يصلي ركعتين وركعتين، فصلى أربعًا بتسليمة واحدة جاز والله أعلم.

.الفصل الحادي والعشرون في التطوع قبل الفرض وبعده وفواته عن وقته وتركه بعذر وبغير عذر:

يجب أن يعلم أن التطوع قبل الفجر ركعتان اتفقت الآثار عليهما، وإنها من أقوى السنن، قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله عليه السلام: «ركعتا الفحر خير من الدنيا، وما فيها» والتطوع قبل الظهر أربع ركعات لا فصل بينهن إلا بالتشهد، يريد به أنه يصليها بتسليمة واحدة وتحريمة واحدة، ولو أدها بتحريمتين لا يكون معتدًا بها عندنا، والأصل منه حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي بعد الزوال أربع ركعات، يطيل فيهن القراءة، فقلت له ما هذه الصلاة التي تدوم عليها يا رسول الله، فقال: «هذه ساعة تفتح فيها أبواب السماء وما من شيء إلا وهو يسبح الله تعالى في هذه الساعة، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح»، فقلت أفي كلهن قراءة، فقال: «نعم» فقلنا بتسليمتين أم بتسليمة واحدة، فقال: «بتسليمة واحدة»، وبعد الظهر ركعتان لحديث عائشة رضي الله عنها، وأما قبل العصر، فإن تطوع بأربع ركعات فحسن خيره بين أن يفعل وبين أن لا يفعل؛ لأن رسول الله عليه السلام كان يفعله تارة ويتركه أخرى.
والسنّة ما واظب عليها رسول الله عليه السلام، لكن لو فعل، فحسن لحديث أم حبيبة بروايتين روى شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن رسول الله عليه السلام قال: «من صلى قبل العصر أربع ركعات كانت له جنة من النار»، وروى شيخ الإسلام الشيخ الإمام أبو نصر الصفار: أن رسول الله عليه السلام، قال: «من صلى أربع ركعات قبل العصر حرم الله تعالى لحمه ودمه على النار» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «من صلى قبل العصر أربع ركعات غفر الله تعالى له حتمًا»، ولا تطوع بعدها، والذي روي أن النبي عليه السلام صلى بعد العصر في بيت أم سلمة ركعتين، فقد سألته أم سلمة عنهما، فقال عليه السلام: «ركعتان بعد الظهر شغلني الوفد عنهما، فقضيتهما» فقالت أنقضيها نحن، فقال عليه السلام: «لا».
والتطوع بعد المغرب ركعتان، بحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله عليه السلام يصلي ركعتين بعد المغرب يطول فيهما القراءة، حتى يتفرق الناس»، وعن سعيد بن جبير أنه قال: لو تركت ركعتي المغرب خشيت أن لا يغفر لي؛ ولأنه واظب عليها رسول الله عليه السلام، فكان سنّة.
وأما التطوع قبل العشاء، فإن تطوع قبلها بأربع ركعات فحسن، والتطوع بعدها ركعتان وروى عمر وعائشة رضي الله عنهما، وإن تطوع بأربع بعدها، فهو أفضل لحديث ابن عمر رضي الله عنهما موقوفًا عليه ومرفوعًا إلى رسول الله عليه السلام «من صلى بعد العشاء أربع ركعات كن كثمان من ليلة القدر» وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده، والإمام الزاهد أبو نصر الصفار؛ لأن التطوع بعد العشاء حسن، إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل؛ لأنه لم ينقل إلينا أن رسول الله عليه السلام واظب عليه، والسنّة ما واظب عليه رسول الله عليه السلام.
من مشايخنا من قال ما ذكر في (الكتاب): أنه يتطوع بعد العشاء بركعتين قول أبي يوسف ومحمد، فأما على قول أبي حنيفة فالأفضل أن يصلي أربعًا، وجعل هذا القائل هذه المسألة.

.فرع مسألة أخرى:

أن صلاة الليل مثنى بتسليمة واحدة أفضل أو أربع، فعن أبي حنيفة أربع وعنهما مثنى والتطوع قبل الجمعة أربع ركعات، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام «كان يتطوع قبل الجمعة أربع ركعات»، وقد اختلفوا في التطوع بعدها، فعن ابن مسعود رضي الله عنه أنها أربع، وبه أخذ أبو حنيفة ومحمد، وعن علي رضي الله عنه أنه يصلي بعدها ستًا ركعتين ثم أربعًا، وروى عنه رواية أخرى أنه صلى ستًا أربعًا ثم ركعتين، وبه أخذ أبو يوسف والطحاوي، وكثير من المشايخ على هذا، قال شمس الأئمة الحلواني: الأفضل أن يصلي أربعًا ثم ركعتين، فقد أشار إلى أنه تخير بين تقديم الأربع وبين تقديم المثنى، ولكن الأفضل تقديم الأربع كيلا يصير متطوعًا بعد الفرض مثلها، وأما التطوع قبل صلاة العيد وبعدها سيأتي في باب صلاة العيد إن شاء لله تعالى.
وأما سنة الضحى فقد ورد في الترغيب فيها أحاديث من ركعتين إلى إثني عشر ركعة، وفي (فتاوى الفضلي) أوكد السنن ركعتا الفجر، وهي آكد من الأربع قبل الظهر والأربع قبل الظهر آكد من ركعتي العشاء قال وركعتي الفجر، وركعتي المغرب أثر في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّيْلِ فَسَبّحْهُ وَأَدْبَرَ السُّجُودِ} [ق: 40]، جاء في التفسير أنها ركعتا المغرب اتفق أصحابنا على أن ركعتي الفجر إذا فاتتا وحدها، بأن جاء رجل ووجد الإمام في صلاة الفجر، فدخل مع الإمام في صلاته، ولم يشتغل بركعتي الفجر أنها لا تقضى قبل طلوع الشمس، وإذا ارتفعت الشمس لا تقضى قياسًا، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وتقضى استحسانًا إلى وقت الزوال، وهو (قول) محمد وإذا فاتتا مع الفرض تقضى مع الفرض إلى وقت الزوال وإذا زالت الشمس، يُقضى الفرض، ولا تقضى السنّة، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: لا خلاف في الحقيقة، لأن عند محمد لو لم تقضَ لا شيء، وعندهما لو قضى يكون حسنًا.
ومنهم من حقق الخلاف، وقال: الخلاف في أنه إذا قضى يكون فعلًا حسنًا أو سنّة. وجه قول محمد رحمه الله: أن النبي عليه السلام قضى الفجر غداة ليلة التعريس بعد طلوع الشمس، ولهما أن السنّة إحياء طريقة رسول الله عليه السلام، والنبي عليه السلام قضاها مع الفرض، في ليلة التعريس لا بدون الفرض، فلا يكون في قضائها بدون الفرض إحياء طريقة رسول الله عليه السلام.
وأما الأداء قبل الظهر، إذا فاتته وحدها بأن شرع في صلاة الإمام، ولم يشتغل بالأربع هل يقضيها بعد الفراغ من الظهر ما دام وقت الظهر باقيًا؟ فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: لا يقضهما وعامتهم على أنه يقضيها، وهكذا روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله، وهو الصحيح، فقد روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله عليه السلام «كان إذا فاته الأربع قبل الظهر»، فقضاها بعد الظهر ثم اختلفت العامة، فيما بينهم، إن هذا يكون سنّة أو نفلًا مبتدأً، وهكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وبعضهم قالوا: يكون سنّة، وهكذا روي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وهو قول إبراهيم النخعي وهو الأظهر، فإن عائشة رضي الله عنها أطلقت عليه اسم القضاء حيث قالت: قضاها بعد الظهر.
ثم كيف يأتي بها قبل الركعتين أو بعد الركعتين، فعلى قياس قول من يقول بأن الأربع نفل مبتدأ، يقول يأتي بها بعد الركعتين؛ لأنه لو أتى قبل الركعتين تفوته الركعتان عن وقتها، وعلى قياس من يقول بأنها سنّة، يقول بأنه يأتي بها قبل الركعتين؛ لأن كل واحد منهما سنّة إلا أن إحداهما فائتة والأخرى وقتية، ولو كان عليه قضاءان وأحدهما فائت والآخر وقتي بدأ بالفائت أولًا، كذا ها هنا، وسائر النوافل إذا فاتت عن وقتها لا تقضى بالإجماع سواء فاتت مع الفرض أو بدون الفرض، هذا هو المذكور في ظاهر الرواية. وكان الفقيه أو جعفر الهندواني يقول في ركعتي المغرب أن يقضيها، ذكره في (غريب الرواية).
وفي (فتاوى أهل سمرقند): رجل ترك سنن الصلوات الخمس إن لم ير السنن حقًا فقد كفر، وإن رأى السنن حقًا منهم من قال لا يأثم، والصحيح أنه يأثم.
وفي (النوازل) إذا ترك السنن إن تركها بعذر فهو معذور وإن تركها بغير عذر لا يكون معذورًا ويسأله الله تعالى عن تركها، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:
بيان الأماكن التي يؤتى فيها بالسنن.
يجب أن يعلم بأن السنّة في ركعتي الفجر أن يأتي بهما الرجل في بيته، فإن لم يفعل، فعند باب المسجد إذا كان الإمام يصلي في المسجد، فإن لم يمكنه ذلك، ففي المسجد الخارج إن كان الإمام في الداخل، وفي الداخل إن كان الإمام في الخارج، وإن كان المسجد واحدًا، فخلف أسطوانة أو نحو ذلك، ويكره أن يصلي خلف الصفوف بلا حائل، وأشدها كراهة أن يصلي في الصف مخالطًا للقوم، وهذا كله، إذا كان الإمام والقوم في الصلاة، فأما قبل الشروع في الصلاة إذا أتى بها في المسجد في أي موضع شاء لا بأس به.
فأما السنن التي بعد الفرائض، فلا بأس بالإتيان بها في المسجد في المكان الذي يصلي فيه الفريضة، والأولى أن يتنحى خطوة أو خطوتين والإمام ينأى عن المكان الذي يصلي فيه الفريضة لا محالة.
وفي (الجامع الصغير): إذا صلى الرجل المغرب في المسجد بالجماعة يصلي ركعتي المغرب في المسجد إن كان يخاف أنه لو رجع إلى بيته يشتغل بشيء، وإن كان لا يخاف، فالأفضل أن يصلي في بيته لقوله عليه السلام: «خير صلاة الرجل في المنزل إلا المكتوبة».
وفي (شرح الآثار) للطحاوي أن الركعتين بعد الظهر وركعتين بعد المغرب يؤتى بهما في المسجد، فأما ما سواهما، فلا ينبغي أن يصلي في المسجد، وهذا قول البعض والبعض يقولون التطوع في المساجد حسن، وفي البيت أفضل، وبه كان يفتي الفقيه أبو جعفر، وكان يتمسك بقوله عليه السلام: «نوروا بيوتكم بالصلاة، فلا تجعلوها قبورًا»، وكان يقول كانت جميع السنن والوتر لرسول الله عليه السلام في بيته.
وذكر شمس الأئمة الحلواني في (شرح كتاب الصلاة) إن من فرغ من الفريضة في المسجد في الظهر والمغرب والعشاء، فإن شاء صلى التطوع في المسجد وإن شاء رجع فتطوع في منزله.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضًا:
إذا صلى ركعتين في آخر الليل ينوي بهما ركعتي الفجر، فإذا تبين أن الفجر لم يطلع لم يجزئه عن ركعتي الفجر، وكذلك إذا وقع الشك في طلوع الفجر في الركعتين أو وقع الشك في إحدى الركعتين أنها وقعت قبل طلوع الفجر لم يجزئه ذلك عن ركعتي الفجر، ولو صلى بعد طلوع الفجر ركعتين بنية التطوع كان ذلك عن ركعتي الفجر، هكذا حكي عن الفقيه أبي جعفر.
وذكر الحسن في كتاب الصلاة أنه لا يكون عن ركعتي الفجر، ولو صلى ركعتين بنية التطوع وهو يظن أن الليل باقٍ، فإذا تبين أن الفجر قد كان طلع ذكر القاضي الإمام علاء الدين محمود المفتي في (شرح المختلفات) أنه لا رواية في هذه المسألة، وقال المتأخرون تجزئه عن ركعتي الفجر، وذكر الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني في (شرح كتاب الصلاة): ظاهر الجواب أنه يجزئه عن ركعتي الفجر؛ لأن الأداء أصل في الوقت، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله بهذا، وهذه الرواية تشهد أن السنّة تحتاج إلى النية، وفي بعض الروايات أن على قول أبي حنيفة: لا يجزئه عن ركعتي الفجر، وعلى قولهما تجزئة.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): رجل دخل مسجدًا قد صلى فيه، فلا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة ما بدا له في الوقت يريد بهذا إذا كان الوقت متسعًا، وإذا ضاق تركه، من مشايخنا من قال أراد بقوله. لا بأس بأن يتطوع قبل المكتوبة التطوع قبل العصر والعشاء، دون الفجر والظهر؛ لأن سنّة الفجر واجبة، وفي سنّة الظهر وعيد معروف قال عليه السلام: «من ترك الأربع قبل الظهر لم تنله شفاعتي».
ومنهم من قال؛ لا بل أراد به الكل، فالإنسان متى صلى صلاة المكتوبة، وحده عن غير جماعة لا بأس بأن يأتي سنة الفجر والظهر، فلا بأس بأن يتركهما؛ لأن النبي عليه السلام لم يأت بهما إلا عند أداء المكتوبة بالجماعة، فإذا أتى بهما إذا صلى وحده لم يكن أتى بسنّة رسول الله، وعن الحسن بن زياد أنه قال فيمن تفوته الجمعة، فصلى في مسجد بيته إنه يبدأ بالمكتوبة ولا يتطوع، وهو إشارة إلى ما قلنا، والقول الأول أظهر، والأخذ به أحوط.
ومما يتصل بهذا الفصل أيضا:
رجل انتهى إلى الإمام والناس في صلاة الفجر إن خشي أن تفوته ركعة من الفجر بالجماعة، ويدرك ركعة صلى سنّة الفجر ركعتين عند باب المسجد، ثم دخل المسجد فيصلي مع القوم، وإن خاف أن تفوته الركعتان جميعًا دخل مع القوم في صلاتهم.
الأصل في هذا أن تكبيرة الافتتاح خير من الدنيا وما فيها، وكذلك سنّة الفجر لهما فضيلة عظيمة، قال عليه السلام: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها»، والمراد سنّة الفجر، وقال عليه السلام في ركعتي الفجر: «صلوهما فإن فيهما الرغائب»، ومهما أمكن الجمع بين الفضيلتين لا يترك أحدها، فإذا كان يدرك ركعة من الفجر مع الإمام أمكنه إجزاء الفضيلتين، فإنه إذا صلى ركعتي الفجر، فقد أحرز فضيلتهما، وإذا أدرك مع الإمام ركعة، فقد أدرك ركعة واحدة مع الإمام حقيقة وأدرك الركعة الأخرى، فعنى قال عليه السلام: «من أدرك ركعة من الفجر، فقد أدركها» فدل أنه أمكن الجمع بين الفضيلتين، فلا يترك إحداهما أو يقول لو ترك ركعتي الفجر، فاتته فضيلتها أصلًا، ولو اشتغل بهما ثم دخل مع الإمام ينال ثواب أصل الصلاة بالجماعة أنها تفوته كماله، فكان هذا أولى، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «خرج إلى حيين من أحياء العرب ليصلح منهم لشيء بلغه منهم، واستخلف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فلما رجع وجده في الصلاة، فدخل منزله وصلى ركعتي الفجر ثم خرج وصلى معه»، عبد الله بن مسعود دخل المسجد، فوجد الإمام في صلاة الفجر، فقام خلف سارية وصلى ركعتي الفجر، ثم صلى مع الإمام.
وإذا خاف أن تفوته الركعتان جميعًا لو اشتغل بالسنّة دخل مع القوم في صلاتهم؛ لأنه تعذر إحراز الفضيلتين، فيجوز أهمهما، وإحراز فضيلة الجماعة أهم من إحراز فضيلة ركعتي الفجر؛ لأنه إن ورد في ركعتي الفجر، وعد الثواب على الإتيان بها لم يرد الوعيد على قولهما، وورد الوعيد على ترك الجماعة، فكان إحراز فضيلة الجماعة أولى.
ثم فرَّق بين صلاة الفجر وبين صلاة الظهر، فقال في صلاة الفجر: إذا كان يدرك ركعة من صلاة الإمام يصلي ركعتي الفجر، وفي صلاة الظهر قال شرع في صلاة الإمام على كل حال، وإنما كان كذلك؛ إذ ليس الأربع قبل الظهر من الفضيلة بالجماعة، فيشتغل بالجماعة إحرازًا لأهم الفضيلتين، فأما لركعتي الفجر من الفضيلة ماللجماعة، فقلت بأنه يأتي بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك الركعة مع الإمام إحرازًا للفضيلتين.
ثم ذكر في الكتاب إذا كان يرجو إدراك ركعة من الفجر مع الإمام يأتي بركعتي الفجر، ولم يذكر ما إذا كان يرجو إدراك القعدة مع الإمام صريحًا، هل يشتغل بركعتي الفجر؟ وأشار إلى أنه يدخل مع الإمام، فإنه قال: إذا خشي أن تفوته الركعتان مع الإمام دخل في صلاة الإمام، وبه أخذ بعض المشايخ.
بخلاف ما إذا كان يرجو إدراك ركعة من الفجر مع الإمام؛ لأن هناك بإدراك ركعة من الفجر يصير مدركًا للفجر حكمًا؛ فإن رسول الله عليه السلام قال: «من أدرك ركعة من الفجر فقد أدركها» ولم يقل: من أدرك الإمام في القعدة، فقد أدركها، فلا يصير بإدراك القعدة مدركًا للفجر حكمًا، ومنهم من قال على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجب أن يشتغل بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك الإمام في التشهد، وعلى قياس قول محمد يدخل في صلاة الإمام، ولا يشتغل بركعتي الفجر.
أصل المسألة إذا أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد يصير مدركًا للجمعة عندهما، وعند محمد رحمه الله لا يصير مدركًا لها، فأبو حنيفة وأبو يوسف جعلا هناك إدرك الإمام في التشهد كإدراك الركعة في حق إدراك الجمعة، فكذلك في حق هذا، ومحمد رحمه الله لم يجعل هناك إدراك الإمام في التشهد كإدراكه في حالة القيام في حق إدراك الجمعة، كذلك في هذا.
ثم إن محمدًا رحمه الله ذكر في (الجامع الصغير) إذا انتهى الرجال إلى الإمام، والإمام في صلاة الفجر إن خشي أن تفوته ركعة، ويدرك ركعة من الفجر يصلي ركعتي الفجر ويدخل مع القوم في صلاتهم وذكر في كتاب الصلاة إذا انتهى إلى الإمام والإمام يريد أن يأخذ في الإقامة، وقد اختلفوا فيه قال بعضهم هذا، وذلك سواء، ويشتغل بركعتي الفجر في الحالين إذا كان يرجو إدراك ركعة مع الإمام، وقال بعضهم: إذا انتهى إلى الإمام، والإمام في الصلاة يشتغل بركعتي الفجر إذا كان يرجو إدراك ركعة مع الإمام، وأما إذا أراد الإمام أن يأخذ في الإقامة، يدخل في صلاة الإمام؛ لأن في الصورة الأولى تكبيرة الافتتاح فاتته حقيقة، وفي الصورة الثانية تكبيرة الافتتاح ما فاتته حقيقة، فلو دخل في صلاة الإمام يحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح حقيقة، وفضيلة الجماعة، فكان هذا أولى، ومن سوى بين الحالين يقول في الصورة الثانية إن كان يحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح حقيقة تقوم فضيلة ركعتي الفجر، وإذا اشتغل بركعتي الفجر يحرز فضيلة ركعتي الفجر، ويحرز فضيلة تكبيرة الافتتاح معنى وكان هذا أولى، والله أعلم.

.فصل في الرجل يشرع في صلاة ثم أقيمت تلك الصلاة أو يشرع في النفل ثم أقيمت الفرض:

أو يدخل في مسجد قد أذن فيه إذا صلى رجل ركعة من الظهر ثم أقيمت الظهر في ذلك المسجد يقطعها، ويدخل مع القوم.
يجب أن يعلم بأن نقض العبادات مقصودًا بغير عذر حرام، النقض لأداء ما هو فوقه جائز؛ لأنه ليس بنقض معنى، بل هو إكمال، فيجوز كهدم المسجد للإصلاح، وكنقص الظهر يوم الجمعة لأداء الجمعة، قلنا: والصلاة بجماعة ضرب مزية على الصلاة منفردًا، قال عليه السلام: «صلاة الرجل بجماعة تفضل على صلاة الرجل وحده بخمس وعشرين درجة»، وفي رواية «بسبع وعشرين درجة»، فيجوز نقض الصلاة منفردًا لإحراز الجماعة؛ لأن هذا النقص وسيلة إلى ما فوقه، ولكن هذا إذا لم تثبت شبهة الفراغ عن صلاة منفردًا، فأما إذا ثبت شبهة الفراغ لا ينقضها؛ لأن العبادة بعد الفراغ عنها لا تقبل البطلان إلا بالردة.
إذا ثبت هذا جئنا إلى تخريج المسألة التي ذكرناها، والجواب فيها ما ذكرنا، وإنما يقطعها ويدخل مع القوم إحرازًا لفضيلة الجماعة، ولكن يضيف إليها ركعة أخرى؛ لأنه يمكنه إحراز الجماعة مع إحراز النفل بإضافة ركعة أخرى إلى الركعة الأولى حتى تصير شفعًا، فإن التطوع شرع شفعًا لا وترًا، ومهما أمكن إحراز العبادتين لا يصار إلى إبطال إحداهما، وإن كان في الركعة الأولى قائمًا لم يتمها بعد حتى أقيمت الظهر ماذا يصنع؟ يمضي في صلاته أو يقطع للحال، هذا الفصل في (الكتاب) وقد اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يقطعها للحال؛ لأن هذا القدر ليس له حكم فعل الصلاة، ألا ترى أن من حلف لا يصلي لم يحنث بهذا القدر، وإلى هذا القول مال الشيخ الإمام فخر الإسلام علي البزودي، فإن فعل ما أدى، إن لم يكن له حكم فعل الصلاة، فهو قربة، وفي القطع إبطال القربة والجماعة سنّة، فلم يكن إبطال القربة أولى من مراعاة السنّة؟
توضيحه: أنه لو شرع في التطوع فأقيمت الظهر، وهو قائم في الركعة الأولى، فهنا كذلك يجب، قلنا: هذا إبطال صورة، لكنه وسيلة إلى ما هو أكمل منه فيكون حكمه حكم الكمال، كمن صلى وسهى فيها وكان ذلك أول ما سهى يقطعها ويستقبل الصلاة؛ لأنه يقطعها ليؤدي أكمل منه، فكذلك هنا.
بخلاف النفل؛ لأن ذلك القطع ليس للتكميل، فلا يجوز، وقال بعضهم: لا يقطع، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم الميداني إذا سئل عن هذه المسألة تارة يفتي بالمضي، وتارة يفتي بالقطع، فقيل له لم لا يثبت الشيخ على قول واحد، فقال: إن قلبي لا يثبت على شيء واحد فكيف يثبت قولي، وإذا لم يقطع على قول هؤلاء ماذا يصنع؟ اختلفوا فيما بينهم.
قال بعضهم: يخفف إذا شرع المؤذن في الإقامة، ويتم الصلاة، وقال بعضهم: يصلي ركعتين ثم يقطع، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وإن كان قد صلى من الظهر ركعتين، وقام إلى الثالثة ثم أقيمت الظهر فإن لم يقيد الثالثة بالسجدة قطعها ولم يسجد؛ لأنه لو سجد لا يمكنه النقض بعد ذلك لما نبين (بعد هذا) إن شاء الله تعالى.
ثم اختلف المشايخ بعد ذلك، قال بعضهم هو بالخيار إن شاء عاد فقعد وسلم ودخل في صلاة الإمام، وإن شاء كبّر قائمًا ينوي الدخول في صلاة الإمام.
وبعضهم قالوا يعود إلى التشهد لا محالة ويسلم، وإلى هذا مال شمس الأئمة السرخسي؛ لأنه أراد بالخروج عن صلاة معتد بها والخروج عن صلاة معتد بها لم يشرع إلا بالقعدة، ثم إذا عاد إلى القعدة على قول من يقول اختلفوا فيما بينهم أنه هل يقرأ التشهد ثانيًا أم لا، بعضهم، قالوا يقرأ؛ لأن القعدة الأولى لم تكن قعدة ختم، وقال بعضهم يكفيه التشهد الأول؛ لأن بالعود إلى القعدة يرتفض القيام؛ لأن ما دون الركعة محل الرفض فحين عاد إلى القعدة ارتفضت هذه الركعة، وجعلت، كأنها لم توجد أصلًا، فكانت هذه القعدة غير القعدة الأولى، وقد تشهد فيها، فلا يتشهد مرة أخرى ثم يسلم تسليمتين عند بعض المشايخ؛ لأنه تحلل من التحريمة، فيكون بتسليمتين، وعند بعضهم يسلم تسليمة واحدة؛ لأن التسليمة الثانية للتحلل، وهذا قطع من وجه؛ لأن التحلل في ذات الأربع لم يشرع على رأس الركعتين، وبعضهم قالوا: لا يعود إلى التشهد لا محالة؛ لأن القعدة شرط التحلل، وهذا قطع وليس بتحلل؛ لأن التحلل في الظهر لا يكون على رأس الركعتين، لكن يقطع بالسلام قائمًا.
وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في شرح هذا الكتاب في هذا الفصل: أنه لو لم يعد إلى القعدة وسلم قائمًا تفسد صلاته، قال رحمه الله: وهكذا فسر في (النوادر) وإن كان قد قيد الثالثة بالسجدة أتمها؛ لأن الثلاث أكثر الصلاة وللأكثر حكم الكل، فالآتي بها كالآتي بكل الصلاة، فثبتت شبهة الفراغ، ولو ثبتت حقيقة الفراغ لا يقبل البعض، فكذا إذا وجدت شبهة الفراغ، فإذا أتمها إن شاء دخل مع الإمام بنية التطوع.
وإن شاء لم يدخل؛ لأن ما يؤدي مع الإمام تطوع له، والناس في التطوعات بالخيار، ولكن الأفضل أن يدخل في صلاة الإمام، ويكون ما صلى مع الإمام تطوعًا؛ وهذا لأن التطوع بعد الظهر مشروع لو خرج من المسجد، ولم يصل مع الإمام ربما يتهم أنه ممن لا يرى الجماعة، فلهذا يدخل مع الإمام.
وقد ورد في عين هذه الصورة نص، وهو ما روي أن رسول الله عليه السلام فرغ من الظهر، فرأى رجلين في أخريات الصفوف، لم يصليا معه، فسألهما عن ذلك فقالا كنا صلينا في رحالنا، فقال: عليه السلام: «إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما صلاة قوم، فصليا معهم، واجعلا صلاتكما معهم سبحة»، أي: نافلة، وإن أراد أن يكون فرضه أصليًا مع الإمام، فالحيلة له أن لا يقعد في الرابعة من صلاته التي أداها وحده، ويصلي الخامسة والسادسة فيصير ذلك نفلًا له، ويكون فرضه ما صلى مع الإمام، وكذلك الحكم في صلاة العشاء؛ لأن التنفل بعد العشاء مشروع.
فإن قيل: أليس إن أدى النفل بجماعة خارج رمضان مكروه.
قلنا: نعم، ولكن إذا كان الإمام والقوم مؤدّون النفل أما إذا أدى الإمام الفرض والقوم النفل لا بأس به بدليل ما روينا من الحديث وأما في العصر لا يدخل في صلاة الإمام بعدما أتم صلاته؛ لأن النفل بعد العصر مكروه، وفيما عدا هذا الحكم العصر نظير العشاء، ونظير الظهر.
ولو كان في صلاة الفجر، وقد صلى ركعة منها ثم أقيمت الفجر في ذلك المسجد قطعها إحرازًا لفضيلة الجماعة، كذلك إذا قام إلى الثانية، ولم يقيدها بسجدة قطعها؛ لأنه لو قيد بالسجدة، لا يمكنه القطع بعد ذلك؛ لأنه يصير....... وثبتت شبهة الفراغ منها، فلو كان في المغرب وقد صلى ركعة منها ثم أقيمت في ذلك المسجد قطعها، وكذلك إذا قام (إلى) الثانية ولم يقيدها بسجدة قطعها؛ لأنه لو قيدها بالسجدة لا يمكنه القطع بعد ذلك؛ لأنه يصير...... لأكثر. وإن قيدها الثانية بالسجدة أتمها، فلا يشرع في صلاة الإمام بعدما أتمها؛ لأنه لو شرع لا يخلو إما أن يسلم على رأس الركعتين أو يسلم مع الإمام على رأس الثالثة أو يقوم، فيضيف إليها ركعة أخرى حتى يصير أربعًا لا وجه أن يسلم على رأس الركعتين؛ لأنه يصير مخالفًا لإمامه ومخالفة الإمام مكروه، قال عليه السلام: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» ولا وجه أن يسلم مع الإمام على رأس الثالثة؛ لأنه يصير متنفلًا بثلاث ركعات غير مشروع، ولا وجه إلى أن نضيف إليها ركعة أخرى لتصير أربعًا؛ لأنه يصير متنفلًا بأربع ركعات، وقد قعد على رأس الثالثة، وإنه مكروه. وعن أبي يوسف له قال الأحسن أن يدخل مع الإمام، ويصلي أربعًا يصلي ثلاث ركعات مع الإمام.
وإذا فرغ الإمام قام وأتم الرابعة أكثر ما فيه أن فيهن نوع تغيير إلا أن هذا التغيير، إنما وقع بسبب الاقتداء، والتغيير بسبب الاقتداء لا بأس به، كمن أدرك الإمام في السجدة، فإنه يتابعه فيها، والسجود قبل الركوع غير مشروع، وكمن أدرك الإمام في القعدة، فإنه يتابعه فيها، والقعدة قبل أداء الأركان ليس بمشروع، فعلم أن التغيير إذا وقع بسبب الاقتداء لا بأس به، وعندنا إن دخل في صلاة الإمام فعل كما قال أبو يوسف.
وعن أبي يوسف نظرية أخرى أنه يدخل في صلاة الإمام، ويسلم على رأس الثالثة مع الإمام؛ لأن هذا تغير وقع في التطوع بسبب الاقتداء، فلا يكون به بأس كما إذا صلى الظهر وحده أولًا، ثم يدخل في هذا الظهر مع الإمام، وترك الإمام للقراءة في الأخريين، فإنه يجوز صلاة المقتدي وهذه الصلاة تطوع في حق المقتدي، وإذا تطوع منفردًا على هذا الوجه لا يجوز، ولكن لما كان هذا تغيير بسبب الاقتداء لم يكن به بأس.
وإذا صلى الظهر في بيته يوم الجمعة ثم صلى الجمعة مع الإمام فالجمعة فريضة، ويصير الظهر نفلًا له، فهذا؛ لأنه مأمور بالسعي إلى الجمعة، قال الله تعالى: {فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، ويعد أداء الظهر في بيته هذا الأمر؟ وكان مفترضًا في أداء الجمعة لا متطوعًا، ولا يجتمع فرضان في وقت واحد، فمن ضرورة كون الجمعة فرضًا ينقلب ما أداها قبلها تطوعًا، بخلاف سائر الأيام، فإن في سائر الأيام لو صلى الظهر في بيته، ثم شرع فيها مع الإمام، فإن الأولى تكون فرضًا، والثانية تطوعًا؛ لأن بعد أداء الظهر في سائر الأيام في بيته لا يبقى مخاطبًا بشهود الجمعة في تلك الصلاة، فإذا شهد ما كان متنفلًا بها.
يوضح الفرق بينهما: أن الجمعة عبادة مقصودة بنفسها، وليست بتبع للظهر، فلا تسقط بأداء الفرض، فأما الجمعة تبع للظهر؛ لأنه وصف للظهر، فإذا سقط الأصل سقط التبع ضرورة، وأما إذا شرع في النفل ثم أقيمت الفريضة وهو قائم في الركعة الأولى لا يقطع بالاتباع، ولكن يتم ذلك بالشفع، ويدخل في الفرض.
وإن كان في الأربع قبل الظهر، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: الجواب فيها كالجواب في الظهر من أولها إلى آخرها؛ لأن حرمته لا تكون فوق حرمة الظهر، وقال بعضهم يتمها أربعًا؛ لأنه بمنزلة صلاة واحدة، حتى إن الشفيع إذا انتقل إلى الشفع الثاني بعدما أخبر بالبيع لا يبطل خياره، فعلم أنها بمنزلة صلاة واحدة، وبمنزلة شفع واحد.
والفرق بين الظهر وبين هذه ظاهر؛ لأن القطع في الظهر إنما شرع ليؤديها على أكمل الوجوه، وها هنا لو قطعها لا يعيدها على أكمل الوجوه؛ لأنها فائت من وقتها، فلا يكون الثاني مثل الأول فضلًا عن الزيادة، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: كنت أفتي زمانًا أنه يتم الأربع هنا حتى وجدت رواية عن أبي يوسف أنه يسلم على رأس الركعتين، فرجعت عن ذلك، فإن قطعها قضى على ركعتين عند أبي حنيفة ومحمد، وعلى قياس قول أبي يوسف يقضيها أربعًا كما في سائر التطوعات إذا شرع فيها ينوي أربع ركعات، وأفسدها يلزمه قضاء ركعتين عندهما، وعند أبي يوسف يلزمه قضاء الأربع، وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله يفتي في سنّة الظهر أنه يقضيها أربعًا متى قطعها في أي حال قطعها، وكان يقول في سائر التطوعات عندهما: إنما تقضى بركعتين؛ لأن كل شفع من التطوع في حكم صلاة على حدة.
ألا ترى أن فساد الشفع الثاني لا يوجب فساد الشفع الأول، فلا يعتبر شارعًا في الشفع الأول قبل الفراغ من الشفع الأول، ووجوب القضاء حالة الإفساد لصيانة ما أدى، وإلا لم يصر شارعًا في الشفع الثاني قبل الفراغ من الشفع الأول، وكان الإفساد في حق الشفع الثاني امتناعًا لا إفسادًا ولا يلزمه قضاء الشفع الثاني، وهذا المعنى للثاني في سنّة الظهر؛ لأنها بمنزلة صلاة واحدة بدليل ما ذكرنا من مسألة الشفعة، وخيار المخيرة، ألا ترى أن في سائر التطوعات تبطل الشفعة، والخيار بالانتقال إلى الشفع الثاني بعد العلم بالبيع والخيار، وفي سنّة الظهر لا تبطل، فعلم أنها بمنزلة واحدة، والتقريب ما ذكرنا، وكذلك إذا شرع في الأربع قبل الجمعة.
ثم افتتح الخطيب الخطبة، هل يقطع؟ فيه اختلاف المشايخ، منهم من قال يصلي ركعتين ويقطع، ومنهم من قال يتم أربعًا، وبه كان يفتي الصدر الشهيد برهان الأئمة رحمه الله، قال محمد رحمه الله في رجل دخل مسجدًا قد أذن فيه كره له أن يخرج حتى يصلي.
اعلم بأن هذه المسألة على وجهين: أما إن كان هذا الرجل قد صلى تلك الصلاة أو لم يصل؛ فإن لم يصل، وكان هذا المسجد مسجد حيه، لقوله عليه السلام: «لا يخرج من المسجد أحد إلا منافق أو رجل يخرج لحاجة يريد الرجعة»، ولأنه دعي إلى صلاة عليه فيلزمه طاعة الله تعالى عند سماع النداء بالإجابة.
توضيحه: أنه إذ خرج من المسجد يلزم الدخول ثانيًا، لأداء الصلاة بالجماعة، فلا يفيد الخروج من المسجد، وما لا يفيد لا يرد الشرع به، ولأنه يتهم بترك الصلاة، وقد قال عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يقفن مواقف التهم» وأما إذا كان المسجد مسجدًا آخر، فإن كان أهل مسجده قد صلوا في مسجده لا ينبغي له أن يخرج أيضًا لما روينا من الحديث، فإنه مطلق، ولما ذكرنا من المعنى، فإنه لا يجب الفصل بين مسجد ومسجد.
وإن كان أهل مسجده لم يصلوا فيه فقد اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: إن خرج ليصلي في مسجد حيه، فلا بأس فيه؛ لأن لمسجد حيه عليه حقًا، وإن صلى في ذلك فلا بأس به، والأفضل أن يصلي في ذلك المسجد لما ذكرنا، وبعضهم قالوا: إن كان هذا الرجل يقوم بأمر الجماعة في مسجده كإمام أو مؤذن وتتفرق الجماعة بسبب غيبته لم يكره له الخروج استحسانًا، صيانة للجمع في مسجد حيه، هذا إذا لم يصل الرجل تلك الصلاة، وإن كان صلى تلك الصلاة لا بأس بأن يخرج قبل أن يأخذ المؤذن في الإقامة؛ لأن الأذان دعاء لمن لم يصلِ، فلا يعمل في حق من صلى، فإذا أخذ المؤذن في الإقامة، ففي الظهر والعشاء لا يخرج، وشرع في صلاة الإمام، فيجعلها تطوعًا؛ لأن التطوع بعدهما مشروع، وفي العصر والفجر يخرج، ولا يشرع في صلاة الإمام؛ لأن التطوع بعدهما ليس بمشروع، وكذلك في المغرب لا يدخل في صلاة الإمام لما ذكرنا من المعنى، والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل:
رجل له مسجد في محلته أراد أن يحضر المسجد الجامع لكثرة جمعه لا ينبغي له أن يحضر، الصلاة في مسجده أفضل قل أهل مسجده أو كثر لأن لمسجده حقًا عليه، وليس لذلك المسجد عليه حق ليترجح كثرة الجمع، ومنها أن المؤذن إذا لم يكن حاضرًا لا ينبغي للقوم أن يذهبوا إلى مسجد آخر، بل يؤذن بعض القوم ويصلي، وإن كان واحدًا؛ لأن لمسجده عليه حقًا، فلا يجوز تركه من غير ضرورة.
ومنه مسجد إن أراد الرجل أن يصلي في أحدهما صلى في أقدمهما بناءً؛ لأن له زيادة حرمة، فإن كانا منزلة منهما ويصلي في أقربهما، وإن استويا فهو مخير؛ لأنه لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وإن كان قدم أحدهما أكثر، فإن كان هو فقيهًا يذهب إلى الذين قومه أقل ليكثر جمعه بسببه، وإن لم يكن فقيهًا يذهب حيث أحب ذكر الصدر الشهيد هذه المسائل في (واقعاته).
قال في (الجامع الصغير): في تحية المسجد بركعتين: إنها ليست بواجبة، وهذا مذهب علمائنا، وقال الشافعي، إنها واجبة، حجته: قوله عليه السلام: «من دخل مسجدًا، فليحيه بركعتين» والأمر للوجوب، وإن قول النبي عليه السلام كما أمر، فقد ذكر التحية، وإنه يدل على عدم الوجوب، فيحمل الأمر على الندب ليكون عملًا بلفظة الأمر، والتحية جميعًا، والله تعالى أعلم.

.الفصل الثالث عشر في التراويح والوتر:

مسائل التراويح تشتمل على أنواع:

.النوع الأول في بيان صفتها وكميتها وكيفية أدائها:

أما الكلام في صفتها، فنقول: التراويح سنّة هو الصحيح من المذهب، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليه نصًا، والدليل على أنها سنّة قوله عليه السلام: «إن الله تعالى فرض عليكم صيامه وسننت لكم قيامه»، وقد صح أنه عليه السلام أقامها في بعض الليالي، وبين العذر في ترك المواظبة عليها، وهو خشية أن تكتب علينا ثم واظب عليها الخلفاء الراشدون، وقال عليه السلام: «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»، وقال عليه السلام في حديث سلمان؛ «إن الله تعالى فرض عليكم صيامه وسن لكم قيامه»، فهذا الخبر يشير إلى أنه سنّة الله، ومعناه: موضع الله ومرضاته وإنها سنة الرجال والنساء جميعًا ما روى عرفجة بن عبد الله الثقفي عن علي رضي الله عنه، بدليل أنه كان يأمر النساء بصيام رمضان، وكان يجعل للرجال إمامًا وللنساء إمامًا، قال عرفجة: فأمرني فكنت إمامًا للنساء. وعن هشام بن عروة عن أبي مكية أن عائشة رضي الله عنها أعتقت ديجون عن دين، مكان قومها ومن معها في رمضان في المصحف، وقال أبو حنيفة رحمه الله لم يرد ذلك، فإنه روى في إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يكرهون أن يؤم الوصل في المصحف، لما فيه من الشبه باليهود.
وأما الكلام في كمها، فنقول إنها مقدرة العشرين ركعة عندنا والشافعي رحمه الله، وعند مالك رحمة الله عليه أنه مقدرة بست وثلاثين ركعة اتباعًا لعمر وعلي رضي الله عنهما، فإن قاموا بما قال مالك بالجماعة، فلا بأس به عند الشافعي، وعندنا يكره بناءً على أن التنفل بجماعة.......، والمكروه عندنا خلافًا للشافعي رحمه الله، وإن أتوا ما على العشرين إلى تمام ست وثلاثين فرادى، فلا بأس به وهو مستحب.
وأما الكلام في كيفيته أدائها، روي الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أن الإمام يصلي بالقوم ويسلم في كل ركعتين، وكلما يصلي ترويحة ينتظر بعد الترويحة قدر ترويحة، وينتظر بعد الترويحة الخامسة قدر ترويحة ويوتر بهم والانتظار بين كل ترويحتين مستحب بقدر ترويحة عند أبي حنيفة رحمه الله. وعليه عمل أهل الحرمين، غير أن أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين أسبوعًا، وأهل المدينة يصلون بدل ذلك أربع ركعات، وأهل كل بلدة بالخيار يسبحون أو يهللون أو ينتظرون سكوتًا، وهل يصلون؟ اختلف المشايخ، ومنهم من كره ذلك فكان أبو القاسم الصفار وإبراهيم بن يوسف، وخلف وشداد رحمهم الله، لا يكرهون ذلك، وكان إبراهيم بن يوسف يقولون: ذلك حسن جميل، وأما الانتظار والاستراحة على رأس خمس تسليمات، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يكره، وعامتهم على أنه يكره؛ لأنه يخالف أهل الحرمين.
وإذا صلى كل تسليمة إمام على حدة حتى يصير لكل ترويحة إمامان، فقد جوزه وبعض المشايخ. وعامتهم على أنه مكروه، وينبغي أن يؤدي كل ترويحة إمام على حده، وهو عمل أهل الحرمين وغيرهم.

.نوع آخر في بيان أن الجماعة:

ذكر الطحاوي في اختلاف العلماء عن المعلى، عن أبي يوسف رحمهما الله أنه قال: من قدر على أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في شهر رمضان، فأحب إليّ أن يصلي في بيته، وذكر نحوه عن مالك، وكان الشافعي رحمه الله يقول في القائم صلاة المنفرد في قيام رمضان أحب إليّ.
أن قال الطحاوي رحمه الله: وقد قال قوم: إن الجماعة في ذلك أفضل، منهم عيسى بن أبان رحمه الله، وقد ذكر الطحاوي في (مختصره) استحب له أن يصلي التراويح في بيته، إلا أن يكون فقيهًا عظيمًا يقتدى به، ويكون في حضوره ترغيب لغيره في الامتناع عن الحضور تقليل الجماعة، فحينئذٍ (لا) يستحب له أن يصلي في بيته ينبغي أن يحضر المسجد.
وفي (نوادر هشام) قال سألت محمدًا رحمه الله عن القيام في شهر رمضان في المسجد أحب إليك أم في البيت؟ قال: إن كان عمله يقتدى به فصلاته في المسجد أحب إليّ، وقال أبو سليمان كان محمد بن الحسين رحمه الله يصلي مع الناس التراويح ويؤم ثم يرجع، وهكذا كان يفعل أبو مطيع وخلف وشداد وإبراهيم بن يوسف رحمهم الله، فمن المشايخ من قال: من صلى التراويح منفردًا كان تاركًا للسنّة، وهو مسيء، وبه كان يعني ظهير الدين المرغيناني رحمه الله لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قدر ما صلى التراويح صلى بجماعة، وهكذا نقل عن الصحابة رضون الله عليهم، ومن المشايخ من قال يكون تاركًا لفضيلة، فلا بأس به، فقد صح عن ابن عمر وسالم ونافع أنهم كانوا ينصرفون، ولا يقومون، فدل عن الجماعة، وليست السنّة ولكن المشايخ على أن إقامتها بالجماعة سنّة على سبيل ثبوته حتى لو ترك أهل مسجد كلهم إقامتها بالجماعة، فقد أساؤوا وتركوا السنّة.
وإن أقيمت التراويح بالجماعة في المسجد و........، وزاد الناس وصلى في بيته، فقد ترك الفضيلة، ولم يكن مسيئًا، وإن صلوا بالجماعة في البيت، فقد اختلف المشايخ فيه، والصحيح أن للجماعة في البيت نصيبه؟...... فضيلة أخرى، فهذا قد جاء إحدى الفضيلتين وترك الفضيلة الزائدة.
ولو أن إمامًا يصلي التراويح في مسجدين في كل مسجد على الكنار لا يجوز؛ لأنه لو؟....... هكذا حكي عن أبي بكر الإسكاف رحمه الله، ثم قال أبو بكر، سمعت أبا نصر يقول يجوز لأهل كل المسجدين، قال أبو الليث رحمه الله: قول أبو بكر أحب إليّ، وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله فمن صلى العشاء والتراويح والوتر في مسجد، ثم أم قومًا آخرين في التراويح ونوى الإمامة كره له، ولا يكوه للمأمومين.
ولو لم ينوِ الإمامة وشرع في الركوع، فاقتدى الناس لم يكره لواحد منهما، والمقتدي إذا صلى في مسجدين لا بأس به؛ لأن اقتداءه في المسجد الثاني يكون اقتداء المتطوع بمن يصلي السنّة، ولكن ينبغي أن يوتر في المسجد الثاني، هكذا حكي عن الفقيه أبي القاسم رحمه الله معناه لا يوتر في المسجد الأول، ويوتر في المسجد الثاني.
ولو صلى التراويح ثم أرادوا أن يصلوا....... يصلون فرادى.

.نوع آخر في بيان وقت التراويح:

قال الشيخ الإمام الزاهد إسماعيل المستملي، وجماعة من متأخري مشايخ بلخ رحمة الله عليهم إلى وقت طلوع الفجر وقت إنهاء بعد العشاء قبل الوتر وبعد الوتر؛ لأنها مقام الليل فوقتها الليل.
وقال كافة مشايخ بخارى رحمة الله عليهم: وقتها ما بين العشاء والوتر، فإن صلاها قبل العشاء، أو بعد الوتر لم يؤدها في وقتها، وأكثر المشايخ على أن وقتهما ما بين العشاء إلى طلوع الفجر، حتى لو صلاها قبل العشاء لا تجوز، ولو صلاها بعد الوتر يجوز؛ لأنها نوافل سنّت بعد العشاء، فأشبهت التطوع المسنون بعد العشاء في غير شهر رمضان، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: هذا القول يصح قال القاضي الإمام هذا أراد مشايخ بلدتنا تقديم التراويح على العشاء، لتعجيل الناس العشاء في ليالي رمضان؛ لأجل التراويح مخافة أن يقع العشاء قبل الوقت، لكن كرهوا مخالفة السلف.
وفي (الفتاوى): إمام صلى العشاء بغير وضوء وهو لا يعلم، ثم صلى بهم إمام أخر التراويح ثم علموا، فعليهم أن يعيدوا العشاء والتراويح، وهذا الجواب في التراويح على قول من يقول أن وقت التراويح ما بين العشاء إلى آخر الليل.

.نوع آخر في نية التراويح:

إذا نوى التراويح أو سنة الليل (أو) الوقت، أو قيام الليل في النيتين يجوز وصار كما إذا نوى الظهر أو فرض الوقت، فإنه يجوز وإن نوى صلاة مطلقة، أو نوى تطوعًا فحسب، اختلف المشايخ فيه، ذكر بعض المتقدمين أنه لا يجوز؛ لأنها سنّة والسنّة لا تتأدى بنية التطوع أو بنية الصلاة المطلقة روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما ذلك في ركعتي الفجر، أو يقول: هذه الصلاة مخصوصة كالمكتوبات، فلا تتأدى بمطلق النية ولا بنية التطوع كالمكتوبات، وأكثر المتأخرين على أن التراويح وسائر السنن تتأدى بمطلق النية، لأنها نافلة لكن واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلّم والنوافل تتأدى بمطلق النية، والاحتياط في التراويح أن ينوي التراويح، أو بنية الوقت أو قيام الليل، وفي سائر السنن الاحتياط أن ينوي الصلاة متابعًا لرسول الله عليه السلام.
ولو صلى التراويح بنية الفوائت من صلاة الفجر لم تكن محتسبة في التراويح........ ليشترط النية في كل شفع، فقد اختلف المشايخ فيه.

.نوع آخر في بيان قدر القراءة في التراويح:

اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم؛ يقرأ في كل ركعة كما يقرأ في المغرب؛ لأن التراويح أخف من أخف المكتوبات، وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعة كما يقرأ في العشاء، وقال بعضهم: يقرأ في كل ركعتين في عشرين أية إلى مائتين.
وعن أبي حنيفة رحمة الله عليه: أنه يقرأ في كل ركعة عشر آيات.
والحاصل: أن السنّة الختم في التراويح مرة، والختم مرتين فضيلة، والختم ثلاث مرات في كل عشر مرة أفضل؛ لأن كل عشر من رمضان مميز مخصوص، والختم مرة يقع بقراءة عشر آيات في كل ركعة؛ لأن عدد ركعات التراويح في ثلاثين ليلة ستمائة، وآيات القرآنستة آلاف وشيء، فيكون في كل ركعة عشر آيات والختم مرتين يقع بقراءة عشرين آية في كل ركعة والختم ثلاث مرات يقع بقراءة ثلاثين آية في كل ركعة.
قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمة الله عليه، إذا قرأ بعض القرآن في سائر الصلوات بأن كان القوم الختم في التراويح، فلا بأس به. ويكون لهم ثواب الصلاة، ولا يكون لهم ثواب الختم.
وسئل أبو بكر الإسكاف رحمه الله عن الإمام في شهر رمضان أيجرد للفريضة قراءة على حدة، أو يخلط قراءة الفرض بقراءة التراويح؟ قال سهل إلى ما هو أخف للقوم.
وسئل أيضًا: عن الإمام إذا فرغ من التشهد هل يزيد عليها أو يقتصر، قال؛ إن علم أن ذلك لا يمل القوم يزيد في الصلوات والاستغفار ما شاء. وإن علم أنه يثقل على القوم لا يزيد.
قالوا: ويكره للإمام إذا ختم في التراويح أن يقرأ الإمام في ركعة واحدة إذا علم أن القوم يملون، وكذا يكره له أنه يعجل، ويختم القرآن في ليلة إحدى وعشرين إذا علم أن القوم يملون.
قال مشايخ بخارى: وينبغي للإمام إذا أراد الختم أن يختم في ليلة السابع والعشرين، أكثره ما جاء في الأخبار فيها أنها ليلة القدر، وإذا غلط في القراءة في التراويح، فترك سورة أو آية وقرأ ما بعدها، فالمستحب له أن يقرأ المتروكة ثم المقروءة ليكون قد قرأ القرآن على نحوه.
وإذا فسد شفع وقد قرأ فيه هل يعتبر بما قرأ؟ اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يعتد ليكون الختم في صلاة صحيحة، وقال بعضهم: إذا فسد شفع وقرأ..... يعتد؛ لأن المقصود هو القراءة ولا فساد في القراءة؛ وإذا ختم القرآن، فله أن يبدأ من حيث شاء بقية الشهر.
قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، وإذا ختم في التراويح مرة وصلى العشاء يقية الشهر من غير تراويح يجوز من غير كراهة؛ لأن التراويح ما شرعت بحق نفسها بل لأجل القراءة فيها، فالسنّة هو الختم مرة وقد ختم مرة، فلو أمرناه بالتراويح بعد ذلك أمرناه بهابحق نفسها وإنها ما شرعت بحق نفسها.
وعن هذا قلنا: إن في النساء من كانت قارئة تصلي عشرين ركعة في كل ليلة وتختم القرآن في الشهر مرة، ومن لم تكن قارئة منهن تصلي ستًا وثمانيًا وعشرًا.
قال القاضي الإمام هذا رحمه الله: إذا كان إمامه يخلط لا بأس بأن يترك مسجده ويطوف، وكذلك إذا كان غيره أخف قراءة وأحسن صوتًا، وهذا يبين أنه إذا كان لا يختم في مسجد حيّه يطوف. وما ذكر الصدر الشهيد رحمه الله أنه إذا كان يقرأ في مسجد حيه قدر المسنون لا يترك مسجد حيه لم يتضح في معناه.
ومما يتصل بهذا النوع:
أن الفضل تعديل الصراط بعد التسليمات، هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما وبنحوه ورد الأثر عن عمر رضي الله عنه وإن خالف هذا، فلا بأس؛ لأن السنّة هي الختم، وإنها لا تفوت بترك التعديل، وأما في التسليمة الواحدة، فلا يستحب تطويل الركعة الثانية على الركعة الأولى، كما في سائر الصلوات، أما تطويل الركعة الأولى على الركعة الثانية فقد قيل لا بأس به، من غير ذكر خلاف، وقد قيل ذكر يجب أن..... المسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله لا يطول.
بل يسوي وقال محمد رحمه الله: يستحب تطويل الأولى كما في الظهر والعصر والعشاء.

.نوع آخر في القوم يصلون التراويح قعودًا:

اعلم بأن هذا النوع على وجوه:
الأول: أن يصلي الإمام والقوم جميعًا التراويح قعودًا من غير عذر، والكلام فيه في موضعين في الجواز وفي الاستحباب. أما الكلام في الجواز فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يجوز؛ لأنها سنّة فصار كركعتي الفجر، وقال بعضهم: يجوز وهو القائل بفرق بين التراويح وبين سنّة الفجر.
والفرق: أن هذه نافلة لم تختص بزيادة تأكيد، فأشبهت سائر النوافل بخلاف ركعتي الفجر. وعلى قول من يقول بالجواز يكون ثوابه على نصف ثواب القائم، هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله، وأيضًا الكلام في الاستحباب بلا خلاف أنه لا يستحب؛ لأنه خلاف المتوارث، وخلاف عمل السلف.
الوجه الثاني: أن يصلي القوم والإمام جميعًا قعودًا بعذر، وإنه جائز بغير كراهة، والكلام فيه ظاهر.
الوجه الثالث: أن يصلي الإمام التراويح قاعدًا بعذر أو بغير عذر، واقتدى به قوم قيام، والكلام فيه في موضعين أيضًا، في الجواز والاستحباب، أما الكلام في الجواز فقد اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يجوز بناءً على اختلافهم في اقتداء القائم بالقاعد في الفرض.
ومنهم من قال يجوز الاقتداء إجماعًا، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمة الله عليه هو الصحيح، وإذا صح الاقتداء على الوفاق على قول هؤلاء هل يستحب للقوم القيام؟ اختلفوا فيما بينهم، قال بعضهم: لا يستحب احترازًا عن صورة المخالفة، وقال بعضهم عن قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما يستحب القيام، وعلى قول محمد يستحب القعود.
وذكر أبو سلمان عن محمد رحمهما الله: في رجل أم قومًا في رمضان جالسًا أيقومون؟ يعني القوم قال: نعم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، فبعض مشايخنا قالوا: إن محمدًا خص قول أبي حنيفة وأبي يوسف في بيان حكم الجواز، يعني على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: يجوز لقوم أن يصفوا قيامًا، والإمام قاعد وتخصص قولهما في بيان حكم الجواز دليل على أنه لا يصح اقتداؤهم به عند محمد رحمة الله عليه، وبعض مشايخنا قالوا خص قوليهما في بيان حكم الاستحباب يعني يستحب لهم القيام عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وعند محمد رحمه الله لا يستحب، وهذا لأن عند محمد رحمه الله الاختلاف بين الإمام والقوم في القيام والقعود اختلاف معتبر حتى يمنع الفرض من الجواز، فيمنع النفل في الاستحباب أيضًا.

.نوع آخر فيما إذا صلى ترويحة واحدة أو أكثر أو أقل بتسليمة واحدة:

يجب أن يعلم بأن هذه المسلة على وجهين:
الأول: أن يقعد على رأس الركعتين، في هذا الوجه اختلاف المشايخ، قال بعض المتقدمين: لا يجزئه إلا عن تسليمة واحدة، وقال بعض المتقدمين، وعامة المتأخرين: إنه يجزئه عن تسليمتين، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: لأنه أكمل ولم يجد بشيء إنما جمع المتفرق، واستدام التحريم، وإنه لا يؤثر في المنع في الجواز.
ألا ترى أن من أوجب على نفسه أن يصلي أربع ركعات بتسليمتين فصلى أربعًا بتسليمة واحدة، وقعد على رأس الركعتين يجوز عن جميع ما أوجبه على نفسه، كذا ها هنا. روى ذلك أصحاب (الأمالي) عن أبي يوسف رحمة الله عليه.
ولو صلى ستًا أو ثمانيًا بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين لم يجزئه إلا عن ركعتين في قول بعض المتقدمين، وبعض المتقدمين وعامة المتأخرين الذين قالوا بالجوار عن تسليمتين إذا صلى أربعًا وقعد على رأس الركعتين اختلفوا فيما بينهم، عامتهم على أنه يجزئه كل ركعتين عن تسليمه تسليمتين؛ لأنه أكمل كل ركعتين بالقعود في آخرهما، وسائر الأفعال والتسليم قطع، وخروج، وليس بمقصود.
وقال بعضهم: متى صلى عددًا بتسليمة واحدة، وهي مستحبة في صلاة الليل، وكل ركعتين من ذلك يجزئ عن تسليمة واحدة، ومتى صلى بتسليمة واحدة عددًا بعضها مستحبة في صلاة الليل، وبعضها غير مستحبة في صلاة الليل فإنما يجزئه عن القدر المستحب؛ لأنه في الزيادة مسيء، فكيف ينوب..... عن التراويح وما كان في..... اختلاف كان في هذا اختلاف أيضًا.
فعلى هذا إذا صلى ستًا أو ثمانيًا بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: يجزئه عن تسليمتين؛ لأن عندهما الزيادة على الأربع في صلاة الليل بتسليمة واحدة مكروهة، فلا تنوب الزيادة عن التراويح، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: فيما إذا صلى ستًا يقع ذلك عن ثلاث تسليمات باتفاق الروايات؛ لأن عنده إلى الست بتسليمة واحدة لا تكره باتفاق الروايات.
وفيما إذا صلى ثمانيًا يقع عن أربع تسليمات على ما ذكر في (الأصل) وعلى ما ذكر في (الجامع الصغير) يقع عن ثلاث تسليمات، وعلى ما قاله بعض المشايخ: إنه ليس في المسألة اختلاف الروايتين، ولكن طول في الأصل وأوجز في (الجامع) يجوز عن أربع تسليمات.
ولو صلى عشر ركعات بتسليمة وقعد في كل ركعتين، فعلى قولهما: يجوز عن أربع ركعات، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله في الروايات الظاهرة يجوز عن أربع تسليمات؛ لأن ما زاد على الثماني ليس بمستحب عنده باتفاق الروايات الظاهرة، وعلى قول العامة وهو الصحيح يجوز عن خمس تسليمات كل ركعتين عن تسليمة.
ولو صلى التراويح كلها بتسليمة واحدة، وقعد على رأس كل ركعتين، فعندهما يجزئه عن أربع ركعات، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز عن ثماني ركعات وعلى قول عامة المشايخ: يجوز على كل ركعتين عن تسليمة عن أبي حنيفة رحمه الله.
ولو صلى أربعًا بتسليمة واحدة، ولم يقعد على رأس الركعتين، ففي هذا الوجه القياس، وهو قول محمد رحمه الله وزفر وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهم الله: إنه تفسد صلاته، ويلزمه قضاء هذه الترويحة.
وفي الاستحسان وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، وهو المشهور، وقول أبي يوسف رحمه الله: يجوز، ولكن يجوز عن تسليمة واحدة، وعن تسليمتين، وقال بعضهم: عن تسليمتين، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وهكذا كان يفتي الشيخ الإمام أبو عبد الله الخيزاخزي رحمه الله، وكان يقول التراويح سنّة مؤكدة، فكان كسنّة الظهر.
ولو صلى سنّة الظهر أربعًا، ولم يقعد على رأس الركعتين أجزأه عن الأربع، كذا هاهنا، وكان الفقيه أبو جعفر الهنداوي رحمه الله يقول: يجزئه عن تسليمة واحدة، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله. قال القاضي الإمام أبو علي النسفي قول الفقيه أبي جعفر والشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أقرب إلى الاحتياط، فكان الأخذَ بالاحتياط، فكان الأخذ به أولى فهكذا اختار الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله، وعليه الفتوى.
فهذا لأن القعدة على رأس الثانية في التطوع فرض، فإذا تركها كان ينبغي أن تفسد صلاته أصلًا، كما هو وجه القياس.
وإنما جاز استحسانًا، فأخذنا بالقياس، فقلنا بفساد الشفع الأول، وأخذنا بالاستحسان في حق بقاء التحريمة.
وإذا بقيت التحريمة صح الشروع في الشفع الثاني، وقد أتمهما بالقعدة فجاز عن تسليمة واحدة.
وعن أبي بكر الإسكاف رحمه الله: أنه سئل عن رجل قام إلى الثالثة في التراويح، ولم يقعد على رأس الثانية، قال: إن تذكر في القيام، فينبغي أن يعود إلى القعدة فيعود ويسلم، وإن تذكر بعد ما ركع الثالثة وسجد، فإن أضاف إليها ركعة أخرى كانت هذه الأربعة عن تحريمة واحدة، ورأيت في نسخة فيما إذا صلى أربعًا بتسليمة واحدة، ولم يقعد على رأس الركعتين إن على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجوز عن تسليمتين، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله يكون عن تسليمة واحدة.
وأما إذا صلى ثلاثًا بتسليمة واحدة، إن قعد على رأس الثانية يجرئه عن تسليمة واحدة، وعليه قضاء ركعتين؛ لأنه شرع في الشفع الثاني وصح الشروع فيه، وقد أفسده فيجب عليه قضاء الشفع الثاني.
وإن لم يقعد على رأس الثانية، ساهيًا أو عامدًا لا شك أن صلاته باطلة قياسًا، وهو قول محمد وزفر وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رحمهم الله في المشهور، وهو قول أبي يوسف رحمهما الله اختلف المشايخ، قال بعضهم: يجزيه عن تسليمة، وقال بعضهم: لا يجزيه أصلًا، وكذلك الاختلاف في غير التراويح في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن الثالثة قد صحت حيث حكم بصحة التحريمة إن قعد في آخر الصلاة، ولم يكملها بضم أخرى إليها فيلزمه القضاء، وعلى قول من يقول: لا يجزئه الثلاثة أصلًا لزمه قضاء الأوليين، وهل يلزمه؛ لأجل الثالثة شيء؟ إن كان ساهيًا لا شيء عليه، لأنه شرع في مظنون. وإن كان عامدًا لزمه ركعتان في قول أبي يوسف لبقاء التحريمة، وفي قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يلزمه شيء؛ لأن التحريمة قد فسدت حين لم يقعد على رأس الثالثة، ولم يأتِ بالرابعة، فإذا قام إلى الثالثة، فقد قام إليها بتحريمة فاسدة، وذلك موجب القضاء عند أبي يوسف رحمه الله، وعند أبي حنيفة لا في الصحيح من مذهبه.
فعلى هذا إذا صلى التراويح....... تسليمات كل تسليمة ثلاث ركعات، ولم يقعد على رأس الركعتين، فعلى جواب القياس، وهو قول محمد وزفر رحمه الله: عليهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمة الله عليه قضاء التراويح كلها، ولا شيء عليه سوى ذلك.
وأما قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
فعلى قول من يقول: إذا صلى ثلاث ركعات لا غير بتسليمة واحدة يجزئه عن تسليمة واحدة أجزأه هنا عن التراويح كلها، ولا شيء عليه إن كان قام ساهيًا، وإن كان قام عامدًا فعليه قضاء عشرين ركعة، وعلى قول من يقول: لا يجزئه الثلاث عن تسليمة واحدة عليه قضاء التراويح كلها، ولا شيء عليه سوى ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله كيف ما كان. وفي قول أبي يوسف رحمه الله: إن كان ساهيًا فهو كذلك، وإن كان عامدًا فعليه مع التراويح قضاء عشرين ركعة أخرى أيضًا.
وإذا صلى التراويح كلها ثلاثًا ثلاثًا يصلي إحدى وعشرين ركعة بسبع تسليمات، كل تسليمة ثلاث ركعات، ولم يقعد على رأس الركعتين ساهيًا رأيت في نسخة (مجموع النوازل): أن عليه قضاء ركعتين لا غير عندهما، وعند محمد رحمه الله يعيد التراويح كلها، ولا يلزمه بالقيام إلى الثالثة شيء قال ثمة: والصحيح قولهما؛ لأنه لما صلى ثلاثًا ولم يقعد في الثانية وسلم ساهيًا على رأس الثالثة فهذا السلام لم يخرجه عن حرمة الصلاة، ولو قام وكبّر وصلى ثلاث ركعات صار ست ركعات قد قعد في آخرهن فقام مقام ثلاث تسليمات، ثم الثلاث....... لهذه التسليمة عما عليه، فكان عليه قضاء الركعتين وثلاث وثلاث هكذا، فتصير ثماني عشرة ركعة قائمة مقام تسع تسليمات بقي عليه تسليمة واحدة، فإذا صلى ثلاث ركعات وترك القعدة على رأس الركعتين من هذا الوجه حتى لو تذكر، وضم إلى الثالثة ركعة أخرى جاز ترويحه، ولا شيء عليه.

.نوع آخر في الشك في التراويح:

إذا سلم الإمام في ترويحة، فاختلف القوم عليه قال بعضهم: صلى ثلاثًا وقال بعضهم: صلى ركعتين، قال أبو يوسف رحمه الله يأخذ الإمام بعلم نفسه، ولا يدع علمه بقول غيره، وقال محمد رحمة الله عليه: يقبل قول غيره، ويكتمل بقول من معه. وإن كانوا أقل، وكذلك إذا وقع الاختلاف بين الإمام، وجميع القوم، وإن شك الإمام فأخبره عدلان يأخذ بقولهما.
وإذا شك أنه صلى عشر تسليمات، أو تسع تسليمات اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: لا يعيدون تسليمة؛ لأن الزيادة على التراويح ليست بمشروعة، وقال بعضهم: عليهم أن يعيدوا تسليمة بالجماعة، وليس في هذا زيادة على التراويح بجماعة، بل هو إتمام التراويح، فالزيادة على التراويح إن يتموا التراويح، ثم يصلوا ويريدوا الزيادة بنية التراويح، وها هنا يشرعون في هذه التسليمة بنية إتمام التراويح، فلا يكره.
وهو نظير التطوع بعد العصر إذا شرع فيه مع العلم أنه يكره، وإذا شرع في التطوع بنية العصر، ثم علم أنه كان أذن فإنه يتم صلاته، ولا يكره كذا هنا.
وقال بعضهم: يريدون، ولا...... تسليمة أخرى احترازًا عن الزيادة على التراويح. وقال بعضهم: يصلون تسليمة واحدة فرادى، حتى يقع الاحتياط من بعد السنّة بتمامها، ويقع الأخير من غيره إذ النافلة غير التراويح في الجماعة، وهو الصحيح.

.نوع آخر إذا صلى التراويح مقتديًا بمن صلى مكتوبة أو نافلة غير التراويح:

اختلف المشايخ فيه، منهم من بنى هذا الاختلاف في النية، حتى قال..... المشايخ: إن التراويح لا تتأدى إلا بنيتها نقول ها هنا لا يصح؛ لأنها لو كانت لا تتأدى إلا بنيتها منه لا تتأدى بنية إمامه، وهي تخالف نيته، ومن قال بأنها تتأدى من غير نيتها بل بنية مطلقة يجب أن يقول بصحة الاقتداء هاهنا، ومنهم من قال: لا يصح، قال القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله، وهو الأظهر والأصح.
وعلى هذا الخلاف إذا لم يسلم من العشاء حتى بنى عليه التراويح الصحيح: إنه لا يصح، وهذا أظهر؛ لأنه مكروه وعلى هذا الخلاف إذا بناها على السنة بعد العشاء الصحيح أنه لا يصح.
وكذلك لو كان الإمام يصلي التراويح واقتدى به رجل، ولم ينوِ التراويح، ولا صلاة للإمام لا يجوز، كما لو اقتدى رجل يصلي المكتوبة فنوى الاقتداء به، ولم ينوِ المكتوبة ولا صلاة للإمام لا يجوز وفي التراويح للقاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله:
رجل صلى العشاء بمنزله ثم أتى مجسدًا، ووجد الإمام في الصلاة ظن أنه في التراويح، فاقتدى به ثم ظهر أنه في العشاء، قال هذا متنفل اقتدى بمفترض بتحريمة، ولم يقل يجزيه عن التراويح أو عن النفل.
وفي (فتاوى النسفي): إذا ظن المقتدي أن إمامه افتتح الوتر وأتم التراويح، ونوى الوتر ثم تبين أنه في التراويح فتابعه في ذلك قال: يجوز عن شفع يتأدى بنية النفل، هكذا: ونحوه في (فتاوى النسفي) وقد ذكرنا في قصد النية أن التراويح لا تتأدى إلا بنية التراويح، أو بنية سنّة الوقت أو قيام الليل في شهر رمضان عن بعض المشايخ.
وفي التراويح للقاضي الإمام أبي علي النسفي رحمه الله: إذا اقتدى الإمام في التراويح ينوي العشاء، بأن لم يأت لسنّة العشاء حتى قام الإمام إلى التراويح أجزأه.
وإذا اقتدى في التسليمة الأولى أو الثانية ثم يصلي التسليمة الخامسة أو السادسة، اختلف المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد رحمه الله؛ فالصحيح أنه يجوز قال؛ لأن الصلاة واحدة ونية الأولى أو الثانية لغو الأولى أنه لو نوى الثالثة بعد الأولى لم يكن إلا الثانية.
وألا ترى أنه لو اقتدى في الركعتين بعد الظهر، فمن يصلي الأربع بعد الظهر يجوز، فهذا كذلك. وإذا لم يدر المقتدي أن الإمام في التراويح أو العشاء، فنوى أنه إن كان في العشاء، فقد اقتديت به. وإن لم يكن في العشاء وكان في التراويح ما اقتديت به لا يصح الاقتداء، سواء كان في العشاء أو في التراويح.
وإن نوى أنه إن كان في العشاء اقتديت به وإن كان في التراويح أيضًا اقتديت، فظهر أنه كان في التراويح أو في العشاء صح الاقتداء، وإذا فاتته ترويحة أو ترويحتان، وقام الإمام إلى الوتر يتابعه في الوتر أم يأتي بما زاد فإنه من الترويحات؟ فقد اختلف مشايخ زماننا فيه.
وذكر في (واقعات الناطفي) عن أبي عبد الله الزعفراني أنه يوتر مع الإمام، ثم يقضي ما فاته من الترويحات.

.نوع آخر في إمامة الصبي في التراويح:

جوزها أكثر علماء خراسان، ولم يجوزها مشايخ العراق، وفي (الفتاوى) عن نصر بن يحيى قال: لا بأس بأن يؤم الصبي في شهر رمضان، إذا بلغ عشر سنين يعني في التراويح، وقال أحمد بن سلمة رحمه الله: إنه لا يجوز، وعن محمد بن مقاتل رحمه الله: أنه قال: يجوز في التراويح خاصته.
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يؤم عائشة رضي الله عنها في التراويح، وإنه صبي، وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: يفتي بالجواز وكان شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: يفتي بعدم الجواز، وكان يقول الإمام ضامن والصبي لا يصلح للضمان، ولأن صلاة القوم صلاة حقيقية، وصلاة الصبي ليست حقيقية، ولا يجوز بناء الحقيقي على غير الحقيقي، فعلى..... لو أن هذا الصبي أم صبيًا....
وفي (المنتقى): لو أن قومًا صلوا خلف صبي لا تجوز صلاتهم؛ لأنهم يصلون للتقيد لا تقيد فيما ينفله الصبي، ولهذا قلنا إن الصبي لو أحرم ثم بلغ لا يمضي على إحرامه.

.نوع آخر إذا فاتت التراويح عن وقتها هل تقضى؟

اختلف المشايخ فيه قال بعضهم يقضي ما لم يدخل وقت تراويح آخر، وقال بعضهم: يقضي ما لم يمضِ رمضان، وقال بعضهم: لا يقضي أصلًا وهو الأصح؛ لأن التراويح ليست بأكثر من في السنّة بعد المغرب والعشاء، وهي لا تقضى، فهذا أولى.
والدليل عليه: أنها لا تقضى بالجماعة بالإجماع، ولو كانت تقضى لقضيت كما فانت، فإن قضاها منفردًا كان نفلًا مستحبًا كسنّة المغرب إذا قضيت.
وفي (الفتاوى)، من ترك السنّة سئل عن تركها وإذا فاتت عن وقتها لا يؤمر بالقضاء، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: من ترك السنّة بعذر، فهو معذور في تركه بغير عذر، فهو غير معذور، وإذا تذكرها في الليلة الثانية أنه فسد عليهم شفع سنّته الأولى، فأرادوا أن يقضوا يكره لهم؛ لأنهم لو قضوا بنية التراويح تزيد على تراويح هذه الليلة، وإنه مكروه.

.نوع آخر في المتفرقات:

إمام شرع في الوقت على ظن أنه...... التراويح، فلما صلى ركعتين تذكر أنه ترك تسليمة يسلم على رأس الركعتين، لم يجزئ ذلك عن التراويح؛ لأنه ما صلى بنية التراويح، ويكره للمقتدي أن يقعد في التراويح، فإذا أراد الإمام أن يركع يقوم؛ لأن هذا إظهار للكاسد في الصلاة والتشهد كالمنافقين، قال الله تعالى {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} [النساء: 142] وكذلك إذا غلبه النوم يكره له أن يصلي، بل ينصرف حتى يسقط لأن في الصلاة مع النوم تهاونًا وغفلة وترك تقيد.
وكذا لو صلى على السطح في شدة الحر، لقوله تعالى {قل نار جهنم أشد حرًا لو كانوا بفقهون} [التوبة: 81]، وكذا يكره أن يضع يديه على الأرض عند القيام، بل يقوم بواحدة؛ لأن وضع اليد على الأرض تشبه بالمنافقين، إلا أن لا يستطيع، فحينئذٍ لا يكره، ويكره عد الركعات في التراويح لما فيه من إظهار الملالة، ولا يصلي تطوعٌ بجماعة إلا قيام رمضان، لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجده إلا مكتوبة»، ولو كان أداء النافلة بالجماعة لكان أداؤها في المسجد أفضل، كما في المكتوبة، ولأن الجماعة لإظهار السعاية، فيختص بالمكتوبات فأما قيام رمضان، فقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المسجد..... الحديث، واستشهاد عمر رضي الله عنه الصحابة رضوان الله عليهم أن يجمع الناس على قارئ فلم يخالفوه، فجمعهم على أبي بن كعب، فدل ذلك على جوازه فباعده، فردوه إلى الأصل وحكي من الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن التطوع بالجماعة إذا صلوا التطوع...... سبيل التداعي أما إذا اقتدى واحد بواحد لا يكره، وإذا اقتدى ثلاثة بواحدة، ذكر هو رحمه الله: أن فيه اختلاف المشايخ، قال بعضهم: يكره وقال بعضهم: لا يكره. وإذا اقتدى أربعة بواحد يكره بلا خلاف.

.فصل في الوتر:

جئنا إلى مسائل الوتر: ذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله: أن الوتر بالجماعات أحب إليّ في رمضان، قال وأجاز علماؤنا رحمهم الله: أن يوتر في منزله في رمضان كما اجتمعوا على التراويح فيها بعمر رضي الله عنه كان يؤمهم فيها في رمضان، وأبي بن كعب كان لا يؤمهم فيها.
والوتر ثلاث ركعات عندنا. وقال الشافعي إن شاء أوتر بركعة أو ثلاث أو خمس أو سبع أو إحدى عشرة، لقوله عليه السلام: «من شاء أوتر بركعة، ومن شاء أوتر بثلاث أو بخمس».
ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: أن النبي عليه السلام «أوتر بثلاث ركعات»، وقال الحسن أجمع المسلمون أنه يصلى الوتر ثلاث ركعات لا يسلم إلا في آخرهن، وما روى الخصم محمول على ما قبل استقرار الوتر، وإنها سنّة عن أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهما وعن أبي حنيفة رحمه الله في الوتر ثلاث روايات، في رواية هي واجبة، وفي رواية قال هي سنّة وفي رواية هي فرض.
وفي الصحيح أنها واجبة عنده، ومعنى قولنا إنه فرض عنده أنها فرض عملًا لا اعتقادًا حتى إن جاحده لا يكفر، ومعنى قوله على رواية: إنها سنّة أن وجوبه ثلاث بالسنّة.
حجة أبي يوسف ومحمد رحمة الله عليهما في المسألة قوله عليه السلام: «ثلاث كتبت علي ولم تكتب عليكم الوتر والضحى والأضحى»، وفي رواية: «خصصت بثلاث وهي لكم سنّة الوتر الضحى والأضحى»؛ ولأن هذه صلاة لم يشرع لها أذان ولا إقامة، ولا جماعة ولا يشرع لها وقت على حدة وشرعت القراءة في الركعات، وكل ذلك إبانة كونها سنّة.
ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي عن..... رضي الله عنه خرح علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم مستبشرًا وقال: «إن الله تعالى زادكم صلاة على صلواتكم الخمس ألا وهي الوتر، فحافظوا عليها» فالاستدلال بها من وجهين:
أحدهما: أن النبي عليه السلام سمى الوتر زيادة، والزيادة من جنس المزيد عليه، لا يقال زادني الثمر إذا وهب.
والثاني: أمر بالمحافظة عليها، والأمر للوجوب، وما روي من الحديث محمول على الابتداء، وإنما لم يشرع لها أذان وإقامة وجماعة؛ لأن هذه الأشياء شرعت فيما هو فرض عملًا واعتقادًا والوتر عندنا، فرض عملًا لا اعتقادًا، ولأنه شرع باسم الزمان، فلا يلحق بالأصل في حق الشرائط، وإنما شرعت القراءة في الكل لأنها سنّة عملًا، فأوحينا القراءة في الكل احتياطًا على أنه يجوز أن تجب القراءة في الفريضة في جميع الركعات احتياطًا، فإن من دخل في صلاة إمام قد سبقه بركعتين وأحدث الإمام، واستخلف هذا المسبوق يجب عليه أن يقرأ في هاتين الركعتين، وإذا أتم صلاة الإمام..... يستخلف أحدًا أدرك أول الصلاة حتى يسلم بهم، يقوم ويصلي ركعتين بقراءة فهذه صلاة فريضة مع ذلك افترضت القراءة فيها في جميع الركعات.
وفي (المنتقى): عن أبي يوسف رحمه الله، قال: سمعت أبا حنيفة رحمه الله يقول: الوتر فريضة واجبة فقد جمع بين صفة الفرضية وصفة الوجوب، والواجب عند أهل الفقه غير الفريضة.
والجواب: أنها فريضة عملًا لا علمًا، وواجبة علمًا، وتفسيره أن من نفى فرضيته لا يكفر أو نقول بين بقوله واجبة أن وجوبها لم يثبت بطريق قطعي، كسائر الواجبات في اليوم والليلة.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: الوتر سنّة واجبة قيل في طريق الجمع بين السنّة والواجب إنه أراد بالسنّة الطريقة بمعنى قوله الوتر سنّة واجبة ووجوب الوتر طريقة مسنونة.
وقيل أراد به بيان الطريق الذي عرفنا وجوب الوتر به؛ لأن وجوب الوتر ما عرف إلا بالسنّة، ففي القولين استناد إلى أن الوتر واجبة عند أبي يوسف رحمه الله، وإنه خلاف المشهور من قوله.
وفي (النوازل): أهل قرية اجتمعوا على ترك الوتر آذاهم الإمام وحبسهم، فإن لم يمتنعوا قاتلهم، هذا الجواب ظاهر على قول أبي حنيفة، وكذلك على قولهما على ما اختاره........ بخارى رحمهم الله، فإنهم قالوا إذا اجتمع أهل البلدة على الامتناع من أداء الوتر فجواب أئمة بخارى أن الإمام يقاتلهم كما يقاتلهم على ترك الفريضة.
ولو ترك الوتر حتى يطلع الفجر، فعليه قضاؤها في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله، وعن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية (الأصول) أنه لا قضاء عليه، وعن محمد رحمه الله في غير رواية (الأصول) أحب إليّ أن يقضيها، وما ذكر في الجواب في ظاهر الرواية ظاهر على مذهب أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الوتر على مذهبه واجب، والواجب تقضى بعد فواتها يشكل على قولهما لأنها سنّة عندهما، والسنّة إذا فاتت عن وقتها لا تقضى وبهذا الفصل يستدل أبو حنيفة رحمه الله أن قضية القياس أن لا تقضى، لكن تركنا القياس بالأثر، وهو ما روي أن النبي عليه السلام قضى الوتر ليلة....... وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من نام عن وتر أو نسيه، فليصله إذا ذكره»، وربما تذكر بعد ذهاب الوقت، والله أعلم.
ومتى قضي الوتر قضي بالقنوت؛ لأنه لا وتر بدون القنوت، فإذا وجب قضاء الوتر وجب قضاؤه بقنوته.
ثم إذا أراد أن يصلي الوتر كبر وفعل بعد التكبير ما يفعل في سائر الصلوات فإذا فرغ من نوع القراءة في الركعة الثالثة كبّر ورفع يديه حذاء أذنيه ويقنت، والأصل فيه قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، وذكر في جملتها قنوت الوتر».
والكلام في الوتر في مواضع.
أحدها: أنه لا قنوت إلا في الوتر عندنا.
والثاني: أن القنوت في الوتر مشروع عندنا قبل الركوع، وعند الشافعي بعد الركوع.
والثالث: أن القنوت في الوتر في جميع السنّة عندنا. وقال الشافعي لا قنوت إلا في النصف الآخر من شهر رمضان.
والرابع: أن مقدار القيام في القنوت قدر سورة إذا السماء انشقت وليس فيه دعاء مؤقت؛ لأن القراءة أهم من القنوت، فإذا لم يؤقت في القراءة بشيء من الصلاة، ففي الدعاء أولى، وقد روي عن محمد رحمه الله أن التوقيت في الدعاء يذهب برقة القلب.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: يريد بقوله ليس فيه دعاء مؤقت ليس فيه سوى قوله: اللهم إنا نستعينك دعاء مؤقت، والصحابة اتفقوا على هذا في الوتر وقال بعضم لا بل ليس فيه شيء مؤقت أصلًا مما ذكرنا والأولى أن يقأ: اللهم إنا نستعنيك ويقرأ بعده اللهم اهدنا فيمن هديت، هكذا علم رسول الله صلى الله عليه وسلّم الحسن بن علي رضي الله عنهما.
والخامس: إذا نسي القنوت حتى ركع فذكر في الركوع، ففي أصحابنا عنه روايتان نسي القنوت، وتذكر في الركوع في رواية يعود إلى القيام ويقنت؛ لأن الركوع له حكم القيام الأولى أنه لو أدرك الإمام في الركوع كان مدركًا للركعة، وهي رواية أخرى يمضي على ركوعه، ولا يرفع رأسه للقنوت؛ لأنها شيء فائت عن وقتها فتسقط بخلاف تكبيرات العيد إذا تذكرها في الركوع، فإنها لا تسقط.
والفرق: أن محل القنوت القيام المحض، فكذا محل القنوت، ولا يمكن أن يأتي به في الركوع؛ لأن الركوع ليس بمحله ولا يمكن نقض الركوع لأجله؛ لأن الركوع فرض والقنوت سنّة، ولا يجوز نقض الفرض لأداء السنّة، وأما تكبيرات العيد فكما شرعت في القيام المحض شرعت فيما له حكم القيام، وهو الركوع.
وذكر في بعض المواضع يعود إلى القيام، ويأتي بهما ثم إذا عاد إلى القيام وقنت على إحدى الروايتين، لا يعيد الركوع؛ لأن ركوعه لم يرتفض بالعود إلى القيام للقنوت لأن الركوع فرض والقنوت واجبة، ولا يجوز رفض الفرض لإقامة الواجب.
ولو أوتر وقرأ في الثالثة القنوت ولم يقرأ الفاتحة ولا السورة أو قرأ الفاتحة دون السورة، وركع ثم تذكر ذلك في الركوع فإنه يعود إلى القيام ويقرأ ثم يركع؛ لأن ركوعه قد ارتفض في هذه الصورة، أما إذا لم يقرأ أصلًا لأن القراءة فرض وجاز أن يرتفض الفرض بالفرض، وأما إذا قرأ الفاتحة دون السورة؛ فلأن ضم السورة إلى الفاتحة، وإن كان من الواجبات، ولكن إذا ضم السورة إلى الفاتحة يصير الكل فرضًا، فيكون هذا نقض الفرض، لأجل الفرض، ثم قال: وعليه السجود للسهو عاد أو لم يعد قنت أو لم يقنت.
السادس: إنه يجهر بالقنوت أو يخافت به وقع في بعض الكتب أن على قول محمد رحمه الله يخافت؛ لأنه دعاء والسبيل في الدعاء الإخفاء، على قول أبي يوسف رحمه الله يجهر به لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه كان يجهر به، حتى روي أن الصحابة رضي الله عنهم تعلموا القنوت في قراءة رسول الله عليه السلام، ووقع في بعض الكتب الخلاف على عكس هذا على قول أبي يوسف رحمه الله (كانت) به، وعلى قوله محمد رحمه الله يجهر به وذكر القاضي الإمام علاء الدين المعروف.... رحمه الله في (شرح المختلفات): أن المنفرد يخافت بالقنوت، والإمام يخافت عند بعض المشايخ.
منهم: الشيخ الإمام أبو بكر بن محمد الفضل، والشيخ الإمام أبو حفص الكبير رحمه الله فلولا علم في إشارة محمد بن الحسن رحمة الله عليه: أنه من سنّته المخافتة وإلا لما خالف أستاذه، وهذا لأنه دعاء على الحقيقة وخير الدعاء الخفي قال رحمه الله، وقد كانوا يستحسنون الجهر في بلاد العجم، ليتعلموا كما جهر عمر رضي الله عنه إلينا حين قدم وفد العراق، وقال بعض مشايخ زماننا إن كان الغالب في الفقه أنهم لا يعلمون دعاء القنوت، فالإمام يجهر به ليتعلموا منه. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جهر به، والصحابة تعلموا القنوت في قراءته، وإن كان الغالب فيهم أنهم يعلمون يخفي به، لأنه دعاء، والسبيل في الدعاء الخفية، وقال بعض المشايخ: يجب أن يجهر به، لأن له شبهًا بالقرآن، فإن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا فيه، قال بعضهم هما سورتان من القرآن ويجهر بما هو فرض على الحقيقة، فكذا بما له نسبة بالقرآن، وقال صاحب (شرح الطحاوي): الإمام يجهر بالقنوت، ويكون ذلك الجهر دون الجهر بالقراءة في الصلاة.
السابع: في بيان المقتدي هل يقرأ القنوت؟
ذكر القاضي الإمام عز الدين في (شرح المختلفات): إن على قول أبي يوسف رحمه الله: يقرأ، وعلى قول محمد رحمه الله: لا يقرأ، وهكذا ذكر في (الفتاوى)، وذكر في موضع آخر أن القوم يُؤمنون عند محمد رحمه الله ويسكتون، عند أبي يوسف رحمه الله القوم بالخيار إن شاؤوا قرأوا، وإن شاؤوا سكتوا.
وقال محمد رحمه الله: إن شاؤوا قرؤوا وإن شاؤوا أمنوا لدعائه، وذكر الطحاوي رحمه الله: أن القوم يتابعونه إلى قوله؛ إن عذابك بالكفار ملحق، فإذا دعا الإمام، فعند أبي يوسف رحمه الله يتابعونه، وعند محمد رحمه الله يؤمنون.
الثامن: أن في حالة القنوت يرسل يديه أو يعتمد: كان الفقيه أبو بكر الإسكاف رحمه الله يعتمد، وكان الفقيه أبو بكر بن أبي سعيد يرسل، وكذلك في صلاة الجنازة، وكذلك في الركوع والسجود، وكان الفقيه أبو جعفر يختار هذا القول.
التاسع: في الصلاة على النبي عليه السلام في القنوت، وفي الشك الواقع فيه.
قال بعضهم: هذا ليس موضع الصلاة على النبي عليه السلام يعني لا يصلي عليه، وقال الفقيه أبو الليث رحمه الله: هذا دعاء، والأفضل في الدعاء أن يكون فيه الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم فإن صلى على النبي في القنوت وفي الشك الواقع فيه لم يصلِ في القعدة الأخيرة عند بعضهم، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أن عليه السهو، وقال محمد رحمه الله:؟..... أن ألزمه السهو لأجل الصلاة على النبي عليه السلام. وإذا قنت في الركعة الأولى أو الثانية ساهيًا لم يقنت في الثالثة لأنه لا يتكرر في الصلاة الواحدة، وإن شك أنه قنت أم لا يعني في الثالثة وهو في قيام الثالثة تحرى، فإن لم يحضره شيء قنت، لأنه عسى لم يقنت.
وذكر في (الواقعات): رجل شك في الوتر وهو في حالة القيام أنه في الأولى أو الثانية أو في الثالثة فإنه يأخذ بالأقل احتياطًا إن لم يقع تحريه على شيء ويقعد في كل ركعة، ويقرأ، وأما القنوت: فقد قال أئمة بلخ: إنه يقنت في الركعة الأولى لا غير، وعن أبي حفص الكبير رحمه الله: إنه يقنت في الركعة الثانية أيضًا، وبه أخذ القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله.
ولو شك في حالة القيام أنه في الثانية أو في الثالثة تمت تلك الركعة، ويقنت فيها، لجواز أنها الثالثة ثم يقعد ويقوم فيضيف إليها أخرى، ويقنت فيها أيضًا على قول أبي حفص الكبير، والقاضي الإمام أبي علي النسفي، فرقا بين هذا وبين المسبوق ركعتين في الوتر في شهر رمضان إذا قنت مع الإمام في الركعة الأخيرة من صلاة الإمام حيث لا يقنت في الركعة الأخيرة إذا قام إلى القضاء في قولهم جميعًا.
والفرق: أن المسبوق هو مأمور بأن يقنت مع الإمام فصار ذلك موضعًا له فما أدى به مع الإمام وقع في موضعه فلا يقنت مرة أخرى لأن تكرار القنوت ليس بمشروع.
أما في مسألة الشك لم يتيقن بوقوع الأولى في موضعها فيقنت مرة أخرى، وعن الشيخ الإمام أبي بكر الفضل رحمه الله أن في مسألة الشك لا يقنت مرة أخرى كما هو قول أئمة بلخ في المسألة الأولى.
وإذا صلى الفجر خلف (من) لا يقنت فيها لا يتابعه في القنوت في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يتابعه، ولو صلى الوتر خلف من يقنت في الوتر بعد الركوع تابع فيه.
وكذلك لو اقتدى بمن نوى سجود السهو قبل السلام تابعه فيه، وكذلك لو اقتدى بمن يرى الزيادة في تكبير العيد يتابعه فيها ما لم يخرج عن حد الاجتهاد، وإن اقتدى في صلاة الجنازة بمن يرى التكبير خمسًا لا يتابعه في الخامسة.

.الفصل الرابع عشر فيمن يصلى ومعه شيء من النجاسات:

صلى ومعه نافجة مسك ذكر الفضلي في (فتاويه) إن كانت النافجة بحال متى أصابها الماء لم تفسد جاز وصلاته، لأنها بمنزلة جلد ميتة دبغ، فإن كانت وأصابها تفسد فإن كانت هذه نافجة..... لم تزل تجز صلاته بمنزلة جلد ميتة لم يدبغ.
وفي (البقالي): فأما نافجة المسك فيبسها دباغها فهذا إشارة إلى جواز الصلاة معها على كل حال.
وفي (القدوري): وكل شيء دبغ به الجلد مما يمنعه من الفساد ويعمل عمل الدباغ فإنه يطهر وإذا ألقى جلدًا للنشر في الشمس حتى يبس أو عولج بالتراب حتى نشف فهو طاهر، هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، وهذا لأن الدباغ إنما يؤثر في الجلد لاستحالته، فإذا استحال بالشمس والتراب، كان كما لو استحال..... والقرظ حتى قيل: لو لم يستحل وخف لم يطهر، وعن أبي يوسف رحمه الله إذا أتاه من الشمس والدبغ ما لو ترك لم يفسد كان دباغًا، وذكر الكرخي رحمه الله في (جامعه) عن محمد رحمه الله في جلد الميتة إذا يبس ووقع في الماء لم يفسده من غير فصل، وكذا روى عنه داود بن رشيد.
ذكر رواية داود في (المنتقى): وقيل: في جلد الميتة إذا يبس بالتراب أو الشمس ثم أصابه الماء هل يعود نجسًا فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان، واختلاف الروايات في عود النجاسة عند إصابة الماء دليل على الطهارة قبل إصابة الماء، وهذا يعني أن الصحيح في مسألة النافجة جواز الصلاة معها من غير التفصيل.
ولو صلى ومعه جلد حية أكثر من قدر الدرهم لا تجوز الصلاة، مذبوحة كانت أو غير مذبوحة، لأن جلدها لا يحتمل الدباغ لتقام الذكاة فيه مقام الدباغ، فأما قميص الحية فقد ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله في (صلاة المستفتي) قال بعضهم: هو نجس، (وقال بعضهم) هو طاهر. وأشار إلى أن الصحيح أنه طاهر، فإنه قال عين الحية طاهر، حتى لو صلى وفي كبد حية خرء الحية يجوز، وإذا كان عين الحية طاهرًا كان قميصها طاهرًا، وخرء الحية وبولها نجس نجاسة الطير.
وفي (المنتقى): عن محمد رحمه الله: رجل صلى ومعه حية أو سنور أو فأرة أجزأه، ولو صلى ومعه جرو كلب أو ثعلب لم تجزئه صلاته. وذكر لجنس هذه المسائل أصلًا فقال: كل ما يجوز التوضؤ بسؤره تجوز الصلاة معه، وما لا يجوز التوضؤ بسؤره لا تجوز الصلاة معه.
وذكر مسألة الجرو في متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله فقال: إذا كان فم الجرو أكثر من قدر الدرهم فمه خارج الفم.
وفي (القدوري): عين الكلب نجس، فإن محمدًا رحمه الله يقول في (الكتاب): وليس الكلب بأنجس من الخنزير وقد ذكرنا المسألة مع ما فيها في الاختلاف في كتاب الطهارات.
وفي (البقالي): في قطعة من جلد كلب ترق على جراحة في الرأس فيثبت أنه في معنى الدباغ ويعيد ما صلى قبل ذلك، وفي صلاة (النوازل) إذا صلى ومعه مرارة الشاة فمرارة كل شيء كقوله فكل حكم ظهر في البول فهو الحكم في المرارة والله أعلم.
وتطهر الجلود كلها بالدباغ إلا جلد الإنسان والخنزير، وهذا قول علمائنا رحمهم الله في المشهور، وعن أبي يوسف رحمه الله في جلد الخنزير إنه يطهر بالدباغ، وفي بعض الروايات عن أصحابنا رحمهم الله في جلد الكلب روايتان: في رواية يطهر وهو الصحيح، وما طهر جلده ولحمه (بالدباغ، فإنه يطهر) بالذكاة. وقال الشافعي رحمه الله لا تؤثر الذكاة فيما لا يؤكل لحمه.
قيل: ويشترط عند علمائنا رحمهم الله أن تكون الذكاة من أهلها ما بين اللبة واللميين وتكون الذكاة مقرونة بالتسمية بحيث لو كان المذبوح مأكولًا تحل بتلك التسمية. حكي فصل التسمية عن شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
قال أصحابنا رحمهم الله بأن صوف الحيوانات الميتة وعصبها ووبرها وشعرها وعظمها طاهر. ألا ترى أنه يكون على العظم دسم سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم حتى تجوز الصلاة مع هذه الأشياء عندنا جز قبل الموت أو بعده.
وقال الشافعي رحمه الله: إن كانت هذه الأشياء في مأكول اللحم جُزَّ منها قبل موتها فهي طاهرة يجوز الانتفاع بها، وإن جز منها بعد موتها فإنها نجسة، وإن كانت هذه الأشياء في غير مأكول اللحم، فإنها نجسة لا يجوز الانتفاع جز قبل الموت أو بعده.
حاصل الاختلاف راجع إلى أن لهذه الأشياء روح أم لا، فعندنا لا روح في هذه الأشياء. وعند الشافعي رحمه الله في هذه الأشياء روح كما في اللحم، وإذا لم يكن فيها روح عندنا لا تحلها الوفاة فيجعل وجود الموت في الأصل وعدمه سواء وعندنا لما كان في هذه الأشياء، فالشافعي رحمه الله احتج بقوله تعالى: {حرمت عليكم الميتة} [المائدة: 3] والميتة اسم لجميع أجزائها فيحرم الانتفاع بجميع أجزائها عملًا بهذا الطاهر، والدليل عليه قوله عليه السلام: «لا تنتفعوا في الميتة بشيء»، والمعنى فيه أن هذا جزء، ويتصل بذي روح....... الأصل فيتنجس بالموت قياسًا على سائر الأطراف.
والدليل على (أن) في العظم حياة أنه يتألم المرء بكسر العظم كما يتألم يقطع اللحم فتلحقه الوفاة ويتنجس بالموت، وكذا العظم وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا بقوله تعالى: {أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثًا ومقامًا إلى حين} [النحل: 80] الله تعالى من علينا بأن يجعل هذه الأشياء مستمتعًا لنا من غير فصل بينما إذا أخذ منه قبل الموت أو بعده، في مأكول اللحم أو من غير مأكول اللحم، وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام أنه قال: «لا...... الجلود الميتة إذا دبغت ولا بقرونها ولا بشعورها إذا غسلت بالماء» والمعنى فيه. وهو أن هذا بمعنى لو انفصل منه حالة الحياة حكم بطهارته، فكذلك إذا انفصل بعد الموت قياسًا على البيض والولد.
والدليل على أنه لا روح في هذه الأشياء أن الحي لا يتألم بقطعها، فلو كان فيه حياة لتألم بقطعها كما في اللحم، ولا نقول إن العظم يتألم بل ما هو متصل به من اللحم يتألم.
فالحاصل: أن عظم ما سوى الخنزير والآدمي من الحيوانات، إذا كان الحيوان ذكاة إنه طاهر سواء كان العظم رطبًا أو يابسًا، وأما إذا كان الحيوان ميتًا، فإن كان عظمه رطبًا فهو نجس، وإن كان يابسًا فهو طاهر؛ لأن اليبس في العظم بمنزلة الدباغ من حيث إنه يقع الأمن في العظم باليبس عن الفساد كما يقع الأمن في الجلد بالدباغ، فكذا العظم باليبس، وأما عظم الخنزير فنجس وفي عظم الآدمي اختلفوا، بعض مشايخنا قالوا: إنه نجس، وبعضهم قالوا: إنه طاهر، واتفقوا (أنه) لنقص بكرامته؛ لأن الآدمي مكلف بجميع أجزائه، وفي الانتفاع بأجزائه نوع إهانة به، والله أعلم.
وأما العصب ففيه روايتان: في رواية لا حياة (فيه، فلا ينجس، وفي رواية) فيه حياة فيتنجس بالموت، وبه أخذ شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
وأما شعر الآدمي ففي (قول) محمد رحمه الله فيه روايتان: في رواية نجس وفي رواية طاهر حتى لو صلى ومعه شعر الآدمي أكثر من قدر الدرهم تجوز صلاته، نص عليه الكرخي رحمه الله وهو الصحيح. وحرمة الانتفاع به لكرامته لحرمة الانتفاع بعظمه، وهذا لا يدل على النجاسة.
وأما شعر الخنزير فهو نجس هو الظاهر في مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، وروي أنه رخص للخزازين استعماله؛ لأن منفعه الخرز عادة لا تحصل إلا به وجرت العادة في زمن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا هذا في استعماله في الخرز من غير نكير منكر، وعن أبي يوسف رحمه الله؛ أنه لا يفسد إلا أن يغلب على..... هل يجوز بيعه؟
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: إذا لم يجد الخزاز شعر الخنزير إلا بالشراء يجوز له الشراء، ويكره للبائع بيعه لأنه لا ضرورة للبائع بخلاف المشتري، وعن ابن سيرين وجماعة من الزهاد رحمهم الله أنه لم يجوزوا الانتفاع به كذا ذكره الإمام الزاهد الصفار رحمه الله، وكانوا يقولون غيره يقوم مقامه وهو......
وأما عظم الفيل روي عن محمد رحمه الله أنه نجس؛ لأن الفيل لما يزكى كالخنزير، فيكون عظمه كعظم الخنزير، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه طاهر، وهو الأصح.
ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله لحديث ثوبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم «اشترى لفاطمة سوارًا من عاج سوارين» وظهر استعمال الناس العاج من غير نكير منكر، والعاج عظم الفيل فدل أنه طاهر.
وأما السبع إذا ذبح (هل) تجوز الصلاة مع لحمه؟ ولو وقع في الماء القليل هل ينجسه؟ قال أبو الحسن الكرخي رحمه الله: تجوز الصلاة مع لحمه ولا ينجس الماء لا يؤكل، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا تجوز الصلاة وينجس، وكان الصدر الشهيد رحمه الله يفتي بطهارة لحمه، وجواز الصلاة معه مطلقًا من غير قيد.
وأما سباع الطير كالبازي وأشباهه، والفأرة، والحية تجوز الصلاة مع لحمها إذا كانت مذبوحة؛ لأن سؤر هذه الأشياء ليس بنجس، وما لا يكون سؤره نجسًا لا يكون لحمه نجسًا، فتجوز الصلاة معه.
وعن نصر بن يحيى أنه كان يفرق بين سباع ما يكون سؤرها نجسًا، وبين سباع ما يكون سؤره طاهرًا، وكان يجوز الصلاة (مع) ما يكون سؤره طاهرًا، ولا يجوزها مع مع تجوز ما يكون سؤره نجسًا، وفي صلاة (المنتقى) لشمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: أن لحم الكلب وغيره من السباع سوى الخنزير يطهر بالذكاة، إذا كانت من اللبة واللحيين فيها إنهار الدم وإفراء الأوداج، وأما إذا عقر ومات من ذلك لا يطهر جلده. قال ثمة: وهذا إذا كان الكلب ألفًا، فأما إذا توحش فرمي بسهم، فمات من ذلك، فذلك ذكاة له، فيطهر جلده ولحمه وكذا الذئب والأسد والثعلب.
وفي (العيون) جلد ومعها صبي ميت هي حامل له، فإن كان لم يستهل فصلاتها فاسدة، غسل لو لم يغسل لأن بالغسل إنما يطهر الميت الذي كان حيًا، وكذلك إن استهل ولم يغسله، وإن استهل وغسل فصلاتها جائزة.
وكذلك إذا صلى الرجل وهو حامل رجلًا ميتًا إن غسل فصلاته جائزة وإن لم يغسل فصلاته فاسدة، وهذا في المسلم، فأما إذا كان حاملًا ميتًا كافرًا فصلاته فاسدة وإن غسل الميت، وإن صلى وهو حاملٌ شهيدًا عليه دمه جازت صلاة، وإن أصاب دم الشهيد ثوب إنسان أفسده.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف رحمهما الله: من صلى وهو حامل ميتًا قد غسله، فعليه إعادة الصلاة.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر) رحمه الله: لو أن رجلًا صلى ومعه صبي، وعلى صبي يستمسك بنفسه وهو الذي يركب عليه فإن صلاته معه تجوز، وإن كان لا يستمسك بنفسه، ويحتاج إلى من يمسكه عليه فصلاته فاسدة.
وفي (العيون): عن أبي يوسف رحمه الله: إذا قطع فضل أذنه أو قلع سنّه، وأعاد ذلك فصلى مع ذلك أول إلى مكانه، وإن أعاد سنّه وأذنه المقطوع أو السن المقلوعة في كمه، فصلاته قائمة وإن كان أكثر من قدر الدرهم، وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إن كانت سنّه جازت صلاته، وإن كان شيء غيره لم تجز صلاته، قال: وبينهما فرق وإن لم يحضرني.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمة الله عليه): إذا صلى ومعه عظم إنسان عليه لحم أو قطعة من لحمه لا تجوز، وإن كان ذلك مغسولًا، وفي العضو، نحو اليد والرجل إذا كان مغسولًا روايتان.
وفي (الجامع الأصغر): في سن الإنسان وعظمه إذا كان أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة معه، واعتبر الوزن، وفي شعر الآدمي على الرواية التي تقول بأنه نجس اعتبر...... حتى قال: لو صلى ومعه شعر الآدمي أكثر من قدر الدرهم لا تجوز صلاته.
وفي (صلاة المستفتي) إن أسنان الكلب الميت طاهرة لو صلى معها يجوز وأسنان الإنسان إذا سقطت بحبسه لو...... معها لا تجوز.
وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله عن المتقدمين أصحابنا رحمهم الله أن من أثبت مكان أسنانه أسنان آدمي آخر منع ذلك جواز صلاته؛ لأن فمه...... من النجاسة، ولو أثبت مكان أسنّته أسنان الكلب لا يمنع ذلك جواز الصلاة.
قال الفقيه أبو جعفر هذا رحمه الله: وتأويله عندي إذا أمكن قلع أسنانه من غير إلحاح ولا ضرر، أما إذا كان لا يمكن قلعها إلا بالإلحاح بالإجماع لا يمنع جواز الصلاة، وكذا إذا كسر ساقه ووصل فيه ساق إنسان أو عظم آخر من عظامه منع جواز الصلاة، وإن وصل فيه عظم كلب لا يمنع جواز الصلاة، وتأويله عند الفقيه أبي جعفر رحمه الله ما قلنا وكذا إذا احتمل الدباغ، فعولج ودبغ يطهر حتى لو صلى معه تجوز الصلاة، ولو جعل منه.... كرش الميتة يتنجس، وإن كان مائعًا.
وإذا استنجى رجل بالماء ثم خرج منه ريح بعد أن..... لا يتنجس من.... الموضع الذي يمر فيه الريح عند عامة المشايخ، وكذلك لو كان السراويل مبتلًا وأصابه هذا الريح لا يتنجس سراويله عند عامة المشايخ، وكذلك إذا دخل إنسان المربط في الشتاء وبدنه مبتل بالماء أو بالعرق يجفف البلل من حر المربط وأدخل شيء مبتل في المرابط يجف ذلك الشيء من حر المربوط، لا يتنجس البدن وذلك الشيء عند عامة المشايخ إلا (أن) يظهر أثره كصفرة ظهرت في السراويل المنبذ بعد خروج الريح، أو في ذلك الشيء بعد الإدخال في المربط إذا نشر، فإن هذا يتنجس، لأنه صار متجمد الظهور......، وكذلك بخار المربط إذا ارتفع؟...... واستجمد أو خرج من شق الباب، واستجمد أو ارتفع بخار الكنيف إلى السقف، واستجمد ثم ذاب فأيما أصاب فتلك البلة تنجسه.
وإذا ارتفع بخار البيت إلى الطاق، واستجمد إن كان ارتفاعه من موضع نجس، فهو نجس، وإذا ذاب ذلك، وأصاب شيئًا نجسه. وإن كان ارتفاعه من طاهر فهو طاهر ورأيت في موضع..... الطاق نجس قياسًا وليس بنجس استحسانًا، فصور ذلك فقال: إذا أحرقت...... في بيت فأصاب ماء الطاق ثوب إنسان لا يفسده استحسانًا ما لم يظهر أنه النجاسة فيه وبه كان يفتي الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله، وهو اختيار ظهير الدين المرغيناني رحمة الله عليه.
وكذلك الإصطبل إذا كان حالًا أو على كوته طاق أو بيت أو على كونه طابقًا أو ثبت البالوعة إذا كان عليه طائق فعرق الطائق، وتقاطر منه، وكذلك الحمام ارتفعت فيه النجاسات فعرقت حيطانه وكوته وتقاطرت، وكذلك لو كان في الإصطبل كوز معلق فيه ماء يترشح من أسفل الكوز وتقاطر في القياس ويكون نجسًا؛ لأن أسفل الكوز صار نجسًا بنجاسة الإصطبل.
وفي الاستحسان: لا يكون نجسًا؛ لأن الكوز كان طاهرًا في الأصل، وكذا الماء الذي فيه وصيرورة..... نجسًا موهوم والمتيقن لا يزول بالموهوم.
وإذا صلى وفي كمه بيضه حال محها دمًا مذرة وما جازت صلاته، وكذلك البيضة فيه فرخ ميت والبيضة الرطبة أو السحلة إذا وقعت في...... لا تفسده في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله.
وفي (الجامع الأصغر) والبيضة المذرة لا يجوز معها الصلاة عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله، وعلى قياس أبي حنيفة والحسن بن زياد رحمهما الله يجوز.
وفي (الفتاوى) عن أبي عبد الله البلخي: إن الصلاة مع البيضة المذرة جائزة، فإذا صلت امرأة ومعها دود القز لا تفسد صلاتها؛ لأنها ليست بنجسة، ولو صلى..... من شعر الكلب لا تفسد صلاته، وإذا اختصت...... نجسته وصلت بعدما غسلت اليد ثلاثًا بماء طاهر جازت صلاتها؛ لأن الذي في وسعها هذا، وقد مرت المسألة في كتاب الطهارات، وإذا كان على يد الرجل نفطة يبست ما تحتها من الرطوبة ولم تذهب الجلدة عنها، فتوضأ وأمر الماء على الجلدة جاز، وإن لم يصب الماء تحتها لأن الواجب غسل الظاهر دون الباطن.
إذا صلى ومعه درهم تنجس جانباه لا يمنع جواز الصلاة؛ لأن الكل درهم واحد إذا صلى وفي كمه قارورة فيها بول لا تجوز الصلاة سواء كانت ممتلئة أو غير ممتلئة؛ لأن هذا ليس في؟.
..... ولا في معدته.
إذا صلى الرجل وفي كمه فرخة حية فلما فرغ من الصلاة رآها ميتة، فإن لم يكن في غالب رأيه أنها ماتت في الصلاة بأن كان مشكلًا لا يعيد الصلاة؛ لأنه لم تجب الإعادة غالبًا، وإن كان في غالب رأيه أنها ماتت في الصلاة أعادها؛ لأنه وجبت الإعادة غالبًا، وإذا شق جبته فوجد فيها فأرة ميتة، ولا يعلم متى دخلت فيها إن لم يكن للجبة ثقب يعيد صلوات ثلاثة أيام ولياليها، وعندهما لا يعيد إلا أن يعلم متى ماتت فيها كما في مسألة البئر.
وإن صلى في ثوب أيامًا ثم اطلع على نجاسة بدون أن يعلم متى أصابت الثوب، لا يعيد شيئًا مما صلى حين يتيقن هو متى الإصابة.
ذكر في (الكتاب): أن هذا قولهم جميعًا، قال أبو يوسف سألت أبا حنيفة رحمة الله عليه عن هذه المسألة، فقال؛ لا يعيد صلاة صلاها قبل ذلك حين يتيقن بوقت الإصابة ولا أرى هذا يشبه البئر، وروى أبو حمزة السكوتي عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه قال في الثوب يعيد صلاة يوم وليلة، وروي عنه في رواية أخرى إن كان ظنيًا يعيد صلاة يوم وليلة، وإن كان متيقنًا يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، وبعض مشايخنا قالو: إن كان بولًا يجوز لأول ما بال فيه، وإن كان رعافًا، فلأول ما ترعف، وإن كان منيًا فلأول ما احتلم أو جامع فيه.
وذكر ابن رستم في (نوادره): إن وجد منيًا في ثوبه يعيد الصلاة من آخر نومة نامها فيه، وعن ابن رستم رحمه الله أيضًا: إن وجد في ثوبه منيًا يعيد الصلاة من آخر ما احتلم، أو جامع فيه، وإن رأى لا يعيد حتى يتيقن أنه صلى وهو فيه، هذا إذا كان ثوبًا يلبسه بنفسه، وإن كان الثوب قد يلبسه غيره، فالنطفة والدم في ذلك سواء لا يلزمه الإعادة حتى يتيقن بوقت الإصابة، رطبًا كان أو يابسًا....... التي خرجت في المقعد أو غسلت وأمسكها مصلي، وصل معها جازت صلاته. والله أعلم. هذه المسائل قد ذكرناها في كتاب الطهارات.
رجل به جرح سائل لا يرقأ ومعه ثوبان، أحدهما نجس، والآخر طاهر فأيها صلى فيه يجوز إذا كان الثوب الطاهر يفسده الدم إن لبسه؛ لأن لبس الطاهر غير مأجور عليه إذا كانت الحالة هذه؛ لأنه يفسده من ساعته.
وفي (نوادر هشام) رحمه الله، قال: سألت محمدًا رحمه الله عن رجل صلى وفي ثوبه أكثر من قدر الدرهم من النبيذ السكر أو نبيذ المنصف أو من نقيع الزبيب، يعني إذا غلى..... أن أبا حنيفة رحمه الله، قال يعيد الصلاة.
وكذلك قول أبي يوسف رحمه الله، قلنا: فما قول أبي حنيفة فيمن صلى وفي ثوبه نبيذ نقيع يعني نبيذ الزبيب المطبوخ، قال: صلاته تامة؛ لأنه كان لا يرى بشربه بأسًا، قال؛ وهو قول أبي يوسف رحمه الله، قال محمد: وأما أنا فأرى يعيد الصلاة بناءً على أن محمدًا رحمه الله لا يرى للطبخ أثرًا في الجلد، فسوَّى بين الطبيخ؛ إذ في طبخه وهي غير الطبيخ، والله أعلم.
قد ذكرنا في أول هذا الفصل بعض مسائل الجلود قال محمد رحمه الله: وما لا تقع الذكاة عليه إذا دبغ جلده لم يطهر مثل الخنزير، أما الأسد إذا دبغ جلده فقد طهر، وكذا الثعلب المفتى عن أبي يوسف رحمهما الله في شعر الخنزير يفسد الماء وقد ذكرنا قول أبي يوسف في شعر الخنزير قبل هذا أنه يفسد الماء إنما أوردنا رواية المعلى لزيادة فائدة فيها، فإن رواية المعلى شعر الخنزير يفسد الماء إن كانت شعرة، وعنده أيضًا برواية المعلى لو صلى في جلد خنزير مدبوغ، فصلاته تامة وقد أساء، قد ذكرنا حكم عظم الفيل مثل هذا، وذكرنا الخلاف فيه نهي أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وفي كتاب الحج لمحمد قال أبو حنيفة رحمه الله: لا بأس ببيع عظام الفيل وغيره من الميت إذا نزع عنه اللحم ويبس وغسل، وكذلك جلدها إذا دبغ.
وفي (نوادر إبراهيم): عن محمد رحمة الله عليهما: امرأة صلت وفي عنقها قلادة فيها سن ثعلب، أو كلب أو أسد، فصلاتها تامة؛ لأنه لا يقع عليها الذكاة، قال ألا ترى أنه أجيز بيع الكلب، فأجيز بيعه وبيع جلد الأسد والثعلب، والله أعلم.
إبراهيم عن محمد رحمهما الله مصارين شاة وصلى وهو معه، فصلاته جائزة، ألا ترى أنه يتخذ منه الأوتار قال: وكذلك لو دبغ المثانة، وأصلحها، فجعل فيها لبنًا جاز ولا يفسد اللبن، قال؛ وأما الكرش فإن كنت تقدر على إصلاحه كما تقدر على إصلاح المثانة، فلا بأس بجعل اللبن فيه، وإن صليت وهو معك أجزأك، وعن أبي يوسف رحمه الله في الكرش أنه مثل اللحم أكرهه، وإن يبسه والله أعلم.
وفي (عيون المسائل): رجل زحمه الناس يوم الجمعة فخاف أن يضيع نعله، فرفعه وهو يجيء الصلاة وكان فيه نجاسة أكبر من قدر الدرهم فقام ثم وضعه لا تفسد صلاته حتى يركع ركوعًا تامًا أو يسجد سجودًا تامًا، والنعل في يده حتى يصير مؤديًا ركنًا تامًا مع النجاسة من غير خلاف، بخلاف حالة القيام لأنه له في رفع النعل حالة القيام حالة كيلا يضيع نعله، وبخلاف ما إذا شرع في الصلاة، والبول النجس في يده لأن الشروع في الصلاة لم يصح.
وفي (المنتقى): عن إبراهيم عن محمد رحمه الله، لو أن مصليًا حمل نعله وفيه قذر أكثر من قدر الدرهم، ووضعه من ساعته فصلاته جائزة، وكذا ذكر ثمة أصلًا فقال جر النجاسة أكثر من قدر الدرهم إذا كان قليلًا لا يوجب فساد الصلاة، وإذا كان كثيرًا، ولا كذلك......

.الفصل الخامس عشر في الحدث في الصلاة:

قال: رجل دخل في الصلاة ثم أحدث حدثًا من بول أو غائط أو ريح أو شيء.... لا يتعمد به، فلا يخلو إما إن كان إمامًا أو مقتديًا أو منفردًا،.
فإن كان إمامًا تأخر وقدم رجلًا من خلفه ليصلي بالقوم، ويذهب هو فيتوضأ ويبني صلاته إن لم يتكلم عندنا استحسانًا.
وفي القياس: وهو قول الشافعي رحمه الله يستقبل الصلاة وكان مالك يقول أولًا يبني ثم رجع وقال: يستقبل فعابه محمد رحمه الله في كتاب الحج ارجوعه من الآثار إلى القياس، ولم يذكر في (الكتاب) أن المستحب أن هذا، وقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه قال: المستحب أن يقطع الصلاة ويستقبل، وأجمعوا أنه لو أحدث متعمدًا لا يجوز له البناء، إنما الاختلاف فيا إذا سبقه الحدث من غير قصد.
وأجمعوا أنه لو نام في الصلاة واحتلم لا يجوز له البناء استحسانًا، وأجمعوا على أنه لو أغمي عليه أوجن في الصلاة لا يجوز له البناء، احتج الشافعي رحمه الله في المسألة، وقال هذا حدث وجد في وسط الصلاة، فيمنع البناء مقاسًا على الحدث العمد، والاحتلام في النوم والجنون والإغماء، هذا لأن الطهارة كما هي شرط صحة التحريمة فهي شرط بقاء التحريمة؛ لأن المقصود لا يحصل بدون الطهارة، فكما لا يتحقق شروعه في الصلاة بدون الطهارة، فكذلك بقاؤها؛ لأن الحدث منافٍ للصلاة، قال عليه السلام: «لا صلاة إلا بطهور» ولا بقاء للعبادة مع وجود ما ينافيها، والدليل عليه أنه لو أخلد ساعة بعدما أحدث ثم انصرف وتوضأ لا يبني، فكذلك ها هنا.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا القياس ما قال الشافعي رحمه الله، إلا أنا تركنا القياس بالأثر، وهو ما روي عن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه السلام أنه قال: «من قاء أو رعف أو أمذى في صلاته، فلينصرف وليتوضأ، وليبنِ على صلاته ما لم يتكلم» وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «من قاء أو رعف انصرف وتوضأ وليبنِ على صلاته ما لم يتلكم».
وفي المسألة إجماع في صلاة الصحابة رضوان الله عليهم، فإنه روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وابن عباس وعبد الله بن عمر وأنس بن مالك وسلمان الفارسي رضوان الله عنهم أجمعين أنهم قالوا مثل قولنا، وترك علماؤها القياس بهذه الآثار وبقينا التحريمة بالآثار بخلاف القياس، والآثار وردت في الحدث السماوي، فلا يقاس عليه الحدث العمد؛ لأن الحدث العمد فوق السماوي.
ألا ترى أن الشرع ما أوجب القضاء والكفارة في أكل الناسي، وأوجب في أكل العامد فنأخذ (به) ولا نقيس هذا على ذلك فكذلك ها هنا.
والدليل على الفرق بينهما: أن في الحدث العمد يأثم، وها هنا لا يأثم وليس هذا كالاحتلام؛ لأنا عرفنا البناء في الحدث الصغرى بخلاف القياس، والنص الوادر في شيء يكون واردًا لما هو مثله أو دونه، (أو ما لا) يكون واردًا فيما هو فوقه، والجنابة فوق الحدث الصغرى فالنص الوارد ثم لا يكون واردًا ها هنا.
وليس هذا كالإغماء والجنون؛ لأنه إذا أغمي عليه أو جن صار محدثًا من ساعته، وكما صار محدثًا لا يمكنه الانصراف في تلك الساعة نفسها به، بل يمكث ساعة ثم يفيق، والمفيق إذا سبقه الحدث في الصلاة، فمكث ساعة ثم انصرف تفسد صلاته فلا يمكنه البناء بعد ذلك؛ وهذا لأنه متى مكث ساعته يصير مؤديًا جزءًا من الصلاة مع الحدث، وأداء الصلاة مع الحدث لا تجوز، ففسد ما أدى، وإذا أفسد ما أدى يفسد الباقي ضرورة، وإن كان مقتديًا يذهب ويتوضأ، وإن كان فرغ من الوضوء قبل أن يفرغ الإمام من الصلاة فعليه أن يعود إلى مكانه لا محالة؛ لأنه بقي مقتديًا ولو أتم يعيد الصلاة في بيته لا يجزئه؛ لأن بينه وبين إمامه ما يمنع صحة الاقتداء..... لوقوع إمامه تجير المقتدي بين أن يعود إلى المسجد، وبين أن يتمه في بيته على ما بين، وإن كان منفردًا يذهب ويتوضأ ثم يتخير بين الرجوع إلى المسجد ليكون مؤديًا جميع الصلاة في مكان واحد وبين أن يتم في بيته إذ ليس..... المشي في الصلاة، وذلك لا يضره، واختلف المشايخ في فضله للمنفرد وللمقتدي إذا فرغ الإمام من صلاته.
ذكر الإمام السرخسي رحمه الله، والإمام خواهر زاده رحمه الله: أن العود إلى المسجد أفضل، وبعض مشايخنا قالوا: الصلاة في بيته أفضل لما فيه من تقليل المشي.
وذكر في (نوادر ابن سماعة): في المقتدي أنه إذا عاد إلى المسجد بعد ما فرغ الإمام تفسد صلاته؛ لأنه مشى في صلاته من غير حاجة، إلا أن محمد بن الحسين رحمة الله عليه لم يقسم هذا التقسيم، والصحيح ما بينا.
والرجل والمرأة في حق حكم البناء سواء، هكذا ذكر محمد رحمة الله عليه في الباب الأول من (الجامع الكبير): وهذا لأن جواز البناء عرف بالحديث الذي روينا أنه يتناول الرجل والمرأة لأن النبي عليه السلام ذكره بكلمة (من) عامة للرجال والنساء جميعًا.
وعن أبي يوسف رحمة الله عليه في غير رواية (الأصول): إذا أمكنها البناء من غير كشف العورة بأن أمكنها غسل ذراعها مع الكمين، وأمكنها مسح الرأس مع الخمار بأن كانا رقيقين يصل الماء إلى ما تحتهما فكشفتها لا تبني، لأنها كشفت عورتها من غير حاجة، فهو نظير الرجل إذا كشف عورته حالة البناء من غير حاجة، وإن لم يمكنها المسح والغسل بدون الكشف بأن كان عليها جبة وخمار ثخين لا يصل الماء إلى ما تحتها، فكشفت الذراعين والرأس فإن لها البناء لأنها كشفت عورتها لحاجة.
فهو نظير الرجل إذا كشف عورته لحاجة بأن جاوزت النجاسة موضع الخروج أكثر من قدر الدرهم، حتى وجب عليه غسل ذلك الموضع يجوز له البناء، كذا هنا إلا أن محمدًا رحمه الله أطلق الجواب في (الجامع): إطلاقًا لأنه لا يمكنها غسل الذراعين من غير الكشف إلا بالغسل مع الكمين وفي ذلك حرج عليها، والحرج في الأحكام ملحق بالعجز ولو عجزت عن البناء إلا بعد كشف العورة جاز لها البناء، وكذا إذا خرجت.
وعن إبراهيم بن رستم رحمه الله: أنه قال: لا يجوز للمرأة البناء، لأن المرأة من قرنها إلى قدمها عورة فتحتاج إلى كشف العورة، فلا يجوز لها البناء.
بعض مشايخنا قالوا: ليس الأمر كما قال إبراهيم، والإطلاق في الجواب أنه لا يجوز لها البناء لا وجه إليه، لأن وجه المرأة ليس بعورة، وكذا الذراعين منها ليس بعورة في رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، والقدم منها ليس بعورة في رواية أبي حنيفة رحمه الله، بقي الرأس منها، فإن أمكنها أن تمسح على خمارها وتصل البلة إلى شعرها لا يحتاج إلى كشف العورة فيجوز لها البناء، وإن لم يصل البلة إلى شعرها، لأن يحتاج إلى كشف العورة، فلا يجوز لها البناء، ولكن كلا القولين بخلاف قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
وعن محمد رحمه الله في (النوادر): أن الرجل إذا سبقه الحدث لا يستنجي، إن استنجى من تحت ثيابه فإن صلاته لا تفسد وبنى، وإن كشف عورته فسدت صلاته، ولا يبني، وهكذا ذكر القدوري في (شرحه)، وهذا لأنه إن لم يكن مصليًا فهو في حرمة الصلاة وقد حصل الكشف عن غير ضرورة وحاجة؛ لأن الاستنجاء سنة فإن قاء في صلاته مرة أو طعامًا أو ماء أو تقيأ هل يبني على صلاته؟ فهذا على وجهين:
إن كان أقل من ملء الفم لا تفسد صلاته ولا حاجة إلى البناء، القيء والتقيؤ في سواء، وإن كان ملء الفم ففي القيء، وهو ما إذا ذرعه القيء من غير قصد، فيذهب ويتوضأ ويبني عليه صلاته ما لم يتكلم كما في الرعاف، وفي التقيؤ: لا يبني، لأن هذا حدث عمد فيفسد الصلاة، فيمنع البناء، وإذا فعل بعدما سبق الحدث فعلًا ينافي الصلاة، فإن كان فعلًا لابد منه كالمشي والاغتراف من الإناء لا يمنع البناء، وإن كان فعلًا له منه بد بأن دخل المخرج أو جامع أهله أو تغوط أما أشبه ذلك منع البناء، لأن تحمل ما لابد منه لأجل الضرورة، وذلك لا يوجد فيما له منه بد، فيرد إلى ما يقتضيه القياس.
وكذلك إذا فعل فعلًا لابد منه بحكم الحال، وله منه بد في الجملة نحو أن يستقي ماء الوضوء من البئر؛ لا يبني لأن الأحوال يعتبر لبقاء الأحكام الشرعية وإنما تعتبر الجملة وفي الجملة لا يحتاج إلى الاستقاء من البئر؛ لأن الحاجة تندفع بالاغتراف من الجب.
وفي (الفتاوى): إذا سبقه الحدث والماء بعيد ويقربه بئر يذهب إلى الماء لأنه لو نزح الماء من البئر استقبل الصلاة.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر) رحمه الله: إذا سبقه الحدث وفي إناء (ماء) فيتوضأ بذلك الماء حمل ذلك الإناء إلى موضع صلاته جاز له البناء إن كان حمل الإناء على..... حده لأنه عمل يسير، وإن ملأ الإناء وحمل مع نفسه ليتوضأ لا يبني.
ولو أدى شيئًا من صلاته مع الحدث قد فسد فيفسد الباقي ضرورة عدم التحري.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف رحمهما الله: إذا تفكر الإمام المحدث من يقدم ولم ينو بمقامه الصلاة لم تفسد صلاته شرط في حال تفكره أن لا ينوي بمقامه أبطل الأداء مع الحدث.
وفي (نوادر إبراهيم) عن محمد رحمه الله: إمام أحدث في سجوده فرفع رأسه وكبر وكبر معه الناس، قال: فسدت صلاته وصلاة القوم، قال: لأنه كبر بعد الحدث ومعه الناس فقد مع الحدث.
وفي (الفتاوى): لأبي الليث رحمه الله: إذا صلى فسبقه الحدث في قيامه في موضع القراءة، فذهب ليتوضأ، فسبح في ذلك الوقت قبل أن يتوضأ فصلاته تامة وإن قرأ فصلاته فاسدة، لأنه أدى ركنًا من الصلاة مع الحدث، والجواب بينما إذا قرأ ذاهبًا أو عائدًا عند بعض المشايخ، ومن المشايخ.... فقال: إن قرأ ذاهبًا تفسد، وإن قرأ عائدًا لا تفسد، ومنهم من قال على العكس، والمختار أنه لا فرق؛ لأنه إن قرأ ذاهبًا فقد أدى ركنًا من الصلاة مع الحدث، وإن قرأ عائدًا فقد أدى ركنًا من الصلاة مع عمل السير.
وفي (المنتقى): قال الحاكم: وفي (نوادر الصلاة): أحدثت..... فاقتضت في ما لها فتوضأت ثم تقنعت بنت، وإن رجعت إلى الصلاة غير..... قامت ثم تقنعت استقبلت، وإن قهقهة في صلاته توضأ واستقبل الصلاة ناسيًا كان أو عامدًا لأن البناء لأجل البلوى، وذلك لا يتحقق في القهقهة، ولأن جواز البناء عرف بخلاف القياس بالشرع في الحدث الحقيقي الذي يسبقه، والقهقهة حدث حكمي فيكون مردودًا إلى أصل القياس وإن ضحك دون القهقهة يبني على صلاته؛ لأن القهقهة عرفت حدثًا بخلاف القياس في الشرع.
ألا ترى أنه لا يكون حدثًا خارج الصلاة، والضحك دون القهقهة.
ألا ترى أن القهقهة لا تكون واردًا في الضحك، وإن قهقه بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلم لا تفسد صلاته، لأنه خارج من الصلاة بالقهقهة وليس عليه ركن من أركان الصلاة، ولا واجب من واجباتها، وعليه الوضوء لصلاة أخرى عندنا، خلافًا لزفر رحمة الله عليه؛ لأن هذه القهقهة لا توجب فساد الصلاة، والشرع إنما جعل القهقهة موجبة أيضًا انتقاض الطهارة في موضع أوجبت فساد الصلاة.... يرد إلى الأصل، ولعلمائنا رحمهم الله أن القهقهة لاقت حرمة الصلاة.
ألا ترى أنه لو اقتدى به إنسان في هذه الحالة إلا أن الصلاة لا تفسد؛ لأنه صار خارجًا عن الصلاة بالقهقهة وليس عليه ركن ولا واجب والله أعلم.
وإذا أصاب المصلي حدث من غير فعله بأن شجه إنسان استقبل في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: يبني؛ لأن الحدث سبق بغير صنعه فهو كالحدث السماوي.
ولهما: أن العذر فيها جاء من لا قبل من له الحق، وفي الحدث السماوي جاء من قبل من له الحق.
ألا ترى أن المريض يصلي قاعدًا ثم لا يلزمه الإعادة إذا بره...... فصلى قاعدًا ثم يعيد إذا زاد من العبد.
والفقه فيه: أن التحرز عن العباد ممكن في الجملة بخلاف العذر السماوي، فإن التحرز عنه لا يمكن فلم يجز إلحاق هذا بذلك، ولو سقط من السطح....... يسبح برأسه رأيته إن كان بمرور الماء فهو على الاختلاف، وإن كان لا بمرور ماء فمن مشايخنا من قالوا: شيء فلا خلاف؛ لأنه حصل لا بصنع من جهة العباد، ومنهم من قال: على الاختلاف؛ لأن الشرط مضاف إلى الواضع، ولو وقع الكمثري من الشجر على رأسه فهو على هذا.
منهم من قال: لا يبني لأنه حصل بصنعه، فإنه يمكنه التحفظ منه، ومنهم من قال: على الاختلاف، ولو أضاف بدنه أو ثوبه نجاسة إن أصاب بسبب مطلق له البناء بأن قاء أو رعف فأصاب ثوبه أو بدنه من ذلك يغسل ويبني؛ لأن هذه نجاسة حقيقية أصابته لا بصنع من جهة العباد فيعتبر بنجاسة تصيبه لا من جهة العباد، ولأن الشرع لما جوز البناء بمطلق رعاف مع علمه أن ذلك قد لا يخلو عن النجاسة علم أنه جعله عفوًا، فأما إذا أصابته لا بسبب يطلق له البناء، فإن انتضح البول على ثوبه أكثر من قدر الدراهم فغسلها يبني.
وعن أبي يوسف رحمة الله عليه: إنه يبني، وقيل الغسل: لو أمكنه النزع فإن يجد ثوبًا آخر ينزع من ساعته أجزأه، لأن النجاسة الكثيرة في مدة قليلة بمنزلة النجاسة القليلة في مدة كثير، كما أن الكشف الكبير من مدة قليلة بمنزلة الكشف القليل في مدة كثيرة.
وإن لم يمكنه النزع من ساعته بأن لم يجد ثوبًا آخر، فإن أدى جزءًا من الصلاة مع ذلك الثوب تفسد صلاته بالإجماع، وإن لم يؤد جزءًا من الصلاة ولكن مكث كذلك لم تفسد صلاته، وإن طال مكثه وإن أمكنه النزع في ساعته بأن كان يجد ثوبًا آخرًا، فلم ينزع ولم يؤد جزءًا من الصلاة اختلف أصحابنا فيه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: تفسد صلاته فيذهب ويغسل الثوب ويستقبل الصلاة، وقال محمد رحمه الله: لا تفسد صلاته، فيغسل ويبني...... أصاب جسده.
وعلى هذا الاختلاف مسائل: إحداها في النجس حملت ساعة فإن كان بعذر بأن لم يمكنه أن يتحول ولم يؤد شيئًا، فإن صلاته لا تفسد، وإن مكث بغير عذر، ولم يؤد شيئًا فهو على الاختلاف.
وكذلك المصلي إذا سقط عنه ثوبه فمكث عريانًا ولم يستتر من غير عذر ولم يؤد شيئًا فعلى هذا الاختلاف محمد رحمه الله يقول: لم يؤد شيئًا في الصلاة فلا تفسد، كما لو مكث بعذر وهما يقولان: مكث من غير عذر فتفسد كما لو أدى ركنًا، وهذا لأن بقاء الحرمة بعد فوات هذه الشرائط بخلاف القياس والشرع إنما...... الانصراف من ساعته، والله أعلم.
وإن أصابه الدم بسبب الرعاف وأصابه بغير أدنى سبب آخر، وذلك أقل من قدر الدرهم لكن مع الرعاف أكثر من قدر الدرهم فغسل النجاسة التي لا تسبب الرعاف تثبت صلاته سواء كانا في محلة واحدة أو في محلتين، وإن سال من دمل به دم توضأ وغسل ويبني ما لم يتكلم، ولو أصاب ثوبه من ذلك الدم، فإنه يغسل الثوب ويبني بخلاف ما إذا أصابته نجاسة أخرى فغسلها حيث لا يبني، وإن عصر الدمل حتى سال أو كان في موضع ركبتيه فانفتح من اعتماده على ركبتيه في سجوده فهذا بمنزلة الحدث العمد فلا يبني على صلاته، ولو خاف المصلي سبق الحدث فانصرف ثم سبقه فتوضأ ليس له أن يبني في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يبني ذكر الاختلاف في اختلاف.
.... ويعقوب.
حجته: أن الخوف من سبق الحدث كسبق الحدث من حيث الحكم، والمعنى حجة أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أن جواز البناء عرف بالنص بخلاف القياس عند سبق الحدث، فلا يجوز الانصراف قبل سبق الحدث، ولو ظن الإمام أنه أحدث ثم علم أنه لم يحدث، وهو في المسجد رجع وبنى.
وروي عن محمد رحمه الله: أنه لا يبني وإن خرج من المسجد فسدت صلاته ولو ظن أنه على غير وضوء أو أن في ثوبه نجاسة فابتعد وتحول إلى القبلة فسدت صلاته، وكذا المتيمم إذا رأى سرابًا فظنه ماء ولم يسلم في الركعتين ساهيًا على ظن أنه تيمم ثم يبني له ذلك صار حكمه وحكم الذي ظن أنه أحدث سواء على الاختلاف الذي ذكرنا.
وجه (ما) روي عن محمد رحمة الله عليه وهو القياس أنه انحرف عن القبلة بغير عذر فتفسد صلاته كالذي ظن أنه على غير وضوء كالمتيمم إذا رأى سرابًا ظنه ماء.
وجه الاستحسان؛ إن عرضه إصلاح صلاته والاستدبار بهذا القصد ليس بقاطع بدليل أنه لو تحقق ما توهم بنى فلم يكن على هذا القصد قاطعًا، لأن الصلاة يلائمها ما يصلحها الأداء..... مسجد؛ لأن اختلاف المكانين قاطع للصلاة لا عند العذر وبخلاف ما لو ظن أنه على غير وضوء، والمتيمم إذا رأى سرابًا ظنه ماء؛ لأن..... لم يكن فيما صنع قاصدًا إلى إصلاح صلاته بل كان قاصدًا رفض التحريمة بدليل أنه لو تحقق ما توهم يبني والانحراف عن القبلة بهذا القصد مفسد للصلاة، وإذا كان يصلي في الصحراء فظن أنه أحدث فذهب عن مكانه ثم علم أنه لم يحدث بأن كان يصلي وحده فموضع سجوده ككونه في المسجد، وكذلك يمينه وشماله وخلفه، وإن كانوا يصلون بالجماعة فإن انتهى إلى آخر الصفوف ولم يجاوز الصفوف صلى ما بقي استحسانًا، وإن جاوز الصفوف استقبل الصلاة، وإن تقدم إمامه وليس بين يديه بناء ولا سترة إن تقدم بمقدار ما لو قام جاوز الصفوف فسدت صلاته، وإن كان أقل من ذلك لا تفسد وصلى ما بقي.
وإن كان بين يديه حائط أو سترة، فإذا جاوزها بطلت صلاته، وذكر هشام عن محمد رحمة الله عليهما: لا تفسد صلاته حتى يتقدم مثل ما لو تأخر خرج من الصفوف وجاوز أصحابه وإن كان بين يديه سترة، والله أعلم.

.الفصل السادس عشر في الاستخلاف:

وكل موضع جاز البناء فللإمام أن يستخلف؛ لأنه عجز عن إتمام ما ضمن القوم، الوفاء به فيستوي بمن تعذر عليه والأثر في ذلك ما روي عن النبي عليه السلام لما ضعف في مرضه قال: «مروا أبا بكر رضي الله عنه يصلي بالناس»، فقالت عائشة رضي الله عنها لحفصة: قولي لرسول الله صلى الله عليه وسلّم إن أبا بكر رجل أسيف إذا وقف في مكانك لا يملك نفسه فلو أمرت غيره، فقالت ذلك، فقال:؟..... «صواحب يوسف، مروا أبا بكر يصلي بالناس»، فلما افتتح أبو بكر رضي الله عنه الصلاة وجد رسول الله عليه السلام في نفسه خفة، فخرج وهو يتهادى بين علي والفضل بن عباس رضي الله عنهم، وتصل رجليه بخطاب الأرض حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حسه فناجز القوم رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصلى أبو بكر فصلى بصلاته، والناس يصلون بصلاة أبي بكر يعني: أبو بكر يصلي بتكبير الرسول والناس يصلون بتكبير أبي بكر بين يدي الله ورسوله، فصار هذا أصلان: إن في كل موضع عجز الإمام عن الإتمام أن يتأخر ويستخلف معه، وما لا يصح منه البناء كالحدث العمد، فلا استخلاف فيه، لأن الاستخلاف في القائم، وقد فسدت صلاته بما صنع والإمام يحدث على بناء إمامته ما لم يخرج من المسجد أو يستخلف رجلًا ويقوم الخليفة في مقام ينوي أن يقوم الناس فيه أو يستخلف القوم غيره حتى لو لم يوجد شيء من ذلك يقوما في جانب المسجد والقوم ينتظر فيه ورجع إلى صلاته وأتم صلاته بهم آخر أتم.
وإنما صح فنفذت ولايته عليهم فيما يرجع إلى تصحيح صلاتهم، فإذا استخلف القوم الخليفة فيه فصار هو الإمام وبطلت الإمامة في حق الأول؛ لأنه لا يجتمع في الصلاة الواحدة إمامان، وكذا إذا استخلف القوم صح استخلافهم بحاجتهم إلى تصحيح صلاتهم، وصار المقدم إمامًا وبطلت الإمامة في حق الأول لما مر، فإن لم يستخلف الإمام ولا القوم حتى خرج من المسجد فسدت صلاة القوم، ويتوضأ الإمام ويبني لأنه في حق نفسه كالمنفرد.
والقياس: أن لا تفسد صلاة القوم فإن بعد الحدث بقوا مقتدين به حتى لا يوجد الماء في المسجد فتوضأ وعاد إلى مكانه وأتم تتمة الصلاة أجزأه فكذلك بعد خروجه ولكن استحسن...... أن يكون قوم في الصلاة في المسجد وإمامهم في الصلاة في المسجد وإمامهم في أهله وإمامًا آخر في المسجد فكأنه في المحراب؛ لأن المسجد في كونه مكان الصلاة كبقعة واحدة فلم يكن بينه وبينهم في الاقتداء بخلاف ما نحن فيه وكل من يصلح إمامًا للإمام الذي سبقه الحدث في الابتداء يصلح خليفة له، ومن لا يصلح إمامًا له في الابتداء لا يصلح خليفة.
ولو لم يكن مع الإمام إلا رجل واحد فهو إمام نفسه قدمه المحدث أم لا، لأن التقديم إنما يحتاج إليه للتعيين، والذي مع الإمام المحدث بناء معتبر فاستغنى عن التعيين، ولو اقتدى رجل بهذا الإمام المحدث قبل أن يخرج من المسجد صح دخوله، وإن كان بعد انصرافه؛ لأن حكم الإمامة قائم بخيار البناء عليه، وإن كان بعد انصرافه لأن المسجد مع تباين أطرافه وتباعد أكنافه جعل بمكان واحد بدليل جواز الاقتداء به، وإن كان المقتدي في آخر المسجد، فصار كأن الإمام في مكان الإمامة بعد فيؤد ذلك ينظر إن قدم المحدث خليفة يصلي بالقوم جازت صلاة الداخل، وإن لم يقدم حتى خرج من المسجد فصلاة الداخل فاسدة، وهذا هو الحكم في حق الذي كان مع الإمام قبل الحدث.
ولو قدم الإمام امرأة فسدت صلاتهم جميعًا الرجال والنساء، والإمام المقدم، وقال زفر رحمه الله: صلاة المقدمة والنساء تامة، لأنها صلحت إمامًا للنساء واعتبر ذلك بالابتداء.
ولنا: أن المرأة..... لما تصلح لإمامة الرجال صار الإمام ولا استقبال باستخلاف من لا يصلح خليفة له معرضًا عن الصلاة فتفسد صلات النساء، وصلاته تفسد صلاة القوم، لأن الإمامة لم تتحول عنه.
وكذلك إذا قدم صبيًا فسدت صلاته وصلاة القوم؛ لأن الصبي لا يصلح إمامًا في الفرض ولا يصلح خليفة له.
وكذلك إذ قدم رجلًا على غير وضوء فسدت صلاته وصلاة القوم؛ لأن المحدث لا يصلح إمامًا له، فلا يصلح خليفة له فصار بمنزلة ما لو استخلف امرأة.
ولو أن الإمام حين قدم واحدًا من هؤلاء لم يتقدم المقدم بنفسه، ولكن استخلف هو رجلًا آخر ذكر هذه المسألة في باب الجمعة: وإن المقدم على غير وضوء فإن استخلافه غير جائز، وإن كان المقدم امرأة أو صبيًا أو كافرًا لا يجوز استخلافه غيره.
والفرق: أن المقدم إذا كان على غير وضوء فهو من أهل الإمامة في الجملة، فإن أهلية الإمام بالإسلام والذكورة والبلوغ من عقد وقد وجد ذلك من حقه فصح استخلافه؛ إلا أنه عجز عن الأداء لعدم الطهارة فيعتبر كما لو كان الأول على حاله وعجز عن الأداء لعدم الطهارة، وهناك يجوز الاستخلاف كذا هنا.
فأما المرأة ليست من أهل الإمامة للرجال، وكذا الصبي ليس بأهل إمامة البالغين فلم يصح استخلافها أصلًا، وإذا لم يصح استخلافهما كيف يصح الاستخلاف منهما؟
وإذا أحدث الإمام وخلفه نساء لا رجال معهن، فتقدمت واحدة منهن من غير تقديم الإمام قبل خروج الإمام، قال: هذا والأول سواء، قيل: أراد به مسألة استخلاف واحدة منهن يعني تفسد صلاة الإمام وصلاة النسوة.
وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما، نصًا أن صلاة الإمام تفسد بتقدم واحدة منهن من غير تقديم منه؛ لأن تقديم الإمام واحدًا من القوم وتقدم النسوة، ولا تفسد صلاة الإمام وقد روي عن محمد نصًا في هذه الصورة، وهو ما إذا تقدمت واحدة منهن بنفسها من غير تقديم الإمام أنه لا تفسد صلاة الإمام والله أعلم.
وإذا كان مع الإمام صبي أو امرأة إن استخلفه فسدت صلاتهما وقدم هذا وإن لم يستخلفه وخرج من المسجد، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: تفسد صلاته؛ لأنه لما تعين صار كأنه استخلفه.
وقال بعضهم: إذا كان معه امرأة أنه تفسد صلاته وتفسد صلاة المقتدي وهذا أصح؛ لأن تعين الواحد للإمامة إنما كان للحاجة إلى إصلاح صلاة المقتدي، وفي جعلهما إمامًا منهما فساد صلاتهما فلم...... إما ما بقي الإمام إمامًا وليست المرأة تعذر به لا إمام لها في المسجد وعلى هذا: إذا كان خلف الإمام من يصلي التطوع إن استخلفه فسدت صلاته، وإن لم يستخلفه وخرج من المسجد يجب أن يكون فيه اختلاف المشايخ؛ لأن المتنفل لا يصلح إمامًا للمفترض فصار نظير مسألة المرأة.
وإذا أحدث الإمام ولم يقدم أحدًا حتى خرج من المسجد فصلاة القوم فاسدة؛ لأنهم مقتدون فيها لم يتولهم إمام في مكانه وهو المسجد.
ولم يذكر محمد رحمه الله في (الأصل): حكم صلاة الإمام، وذكر الطحاوي رحمه الله: أن صلاته تفسد أيضًا؛ لأن بعد سبق الحدث كان عليه الاستخلاف فيصير هو في حكم المقتدي به.....، فكما تفسد صلاة غيره من القوم، فكذا تفسد صلاته، وذكر أبو عصمة سعد بن معاذ المروزي عن محمد رحمه الله: أن صلاته ثابتة، وذكر في (مختصر الكرخي): أنه لا تفسد صلاة الإمام، ولم ينتسب هذا القول إلى أحد.
ووجه ذلك: أن الإمام ما كان يحتاج إلى الاستخلاف لإصلاح صلاته، وإنما كان يحتاج إليه لإصلاح صلاة القوم، فبقي هو منفردًا، والمنفرد إذا سبقه الحدث وخرج من المسجد ليتوضأ لم تفسد صلاته كذا هنا.
وإذا أم رجلًا واحدًا، فأحدثا وخرجا من المسجد فصلاة الإمام تامة لما مر، وصلاة المقتدي فاسدة إذا لم يبق له إمام في المسجد، وإذا أم الرجل قومًا فسبقه الحدث فقدم الإمام رجلًا والقوم رجلًا ونوى كل واحد أن يكون إمامًا فإمامٌ هو الذي قدمه الإمام.
وإذا أحدث الإمام وقدم كل فريق من القوم إمامًا، اقتدى كل فريق بإمامه فسدت صلاتهم؛ لأن هذه صلاة افتتحت بإمام، ولا يجوز إتمامها بإمامين، وليس أحدهما؛ بأن يجبذ إمامًا بأولى من الآخر ففسدت صلاة المعتدين، ومن ضرورة فساد صلاة القوم، وهذا إذا استوى الفريقان في العدد، فأما إذا قدم جماعة القوم أحد الإمامين إلا رجلًا أو رجلين واقتدى به، وقدم الآخر رجلٌ أو رجلان واقتديا به فصلاة من اقتدى به الجماعة وصلاتهم صحيحة، وصلاة الآخرين مع إمامهما فاسدة.
فأما إذا اقتدى بكل إمام جماعة، وأحد الفريقين أكبر من الآخر عددًا، فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله: صلاة الأكثرين جائزة ويبتني الفساد في حق الآخرين كما في الواحد والمثنى، وقال بعضهم: صلاة الكل فاسدة، وفي (نوادر الصلاة): صلاة الطائفة الأكثر جائزة؛ لأن الحكم للغالب.
ولو قدم الإمام رجلين فهذا وتقديم القوم إياهما سواء، ولو فضل أحدهما إلى وضع الإمامة قبل الآخر يعتبر هو للإمامة وجازت صلاته وصلاة من اقتدى به؛ لأن الاستخلاف كان للضرورة، وقد ارتفعت الضرورة بوصول هذا إلى موضع الإمامة، فاستخلاف الآخر وجوده وعدمه بمنزلة.
ولو تقدم رجل من غير تقديم آخر، وقام مقام الأول قبل أن يخرج الإمام من المسجد وصلى بالقوم أجزأهم ولو كان الإمام قد خرج من المسجد قبل وصول هذا إلى موضع الإمامة فسدت صلاتهم، وصلاة الإمام تامة.
وإذا كان مع الإمام رجل وأحدث الإمام وتعين الرجل الذي خلفه للإمامة على ما مر، فتوضأ الإمام ورجل دخل مع هذا في صلاته؛ لأن هذا قد تعين للإمامة، وإن لم يرجع الأول حتى أحدث هذا وخرج من المسجد فسدت صلاة الأول؛ لأن الإمامة تحولت إلى الثاني، فإذا خرج الثاني عن المسجد لم يبق للأول إمام في المسجد فسدت صلاته، هكذا ذكر القاضي الإمام علاء الدين في (شرح المختلفات).
وذكر الحكم في (المختصر): عن علي قول أبي عصمة رحمه الله: لا تفسد صلاته، ووجه ذلك: أن صيرورة الباقي إمامًا كان بطريق القصد ليظهر في حق الأحكام كلها، وإنما كان بطريق الضرورة حتى لا تفسد صلاته بخروج الإمام عن المسجد ليتطهر، والله أعلم.
وصلاة الثاني تامة؛ لأنه منفرد في حق نفسه، وإن لم يخرج الثاني من المسجد حتى رجع الأول ثم خرج الثاني صار الإمام هو الأول؛ لأنه متعين لإصلاح هذه الصلاة، فيكون متعينًا للإمامة، وإذا كان الأول متعينًا للإمامة صار الثاني مقتديًا، فجازت صلاتهما جميعًا، وإن جاء ثالث واقتدى بالثاني فسبقه الحدث فخرج من المسجد فحولت الإمامة إلى الثالث لكونه متعينًا، فإن أحدث الثالث فخرج من المسجد قبل رجوع أحد الأولين فسدت صلاتهما، لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد وإن كان رجع أحد الأولين قبل خروج الثالث تحولت الإمامة إلى ذلك بخروج الثالث، وإن كانا رجعا جميعًا، فإن استخلف الثالث أحدهما صار هو الإمام، وإن لم يستخلف حتى خرج فسدت صلاتهما، لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد، لأنه ليس أحدهما بالإمامة بأولى من الآخر.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: إذا أحدث الإمام وليس معه إلا رجل واحد، فوجد الماء في المسجد وتوضأ، قال: يتم صلاته مقتديًا بالثاني، لأنه متعين للإمامة بنفس الانصراف تتحول الإمامة إليه، فإن كان معه جماعة فتوضأ في المسجد عاد إلى مكان الإمامة وصلى بهم، لأن الإمامة لا تتحول منه إلى غيره في هذه الحالة إلا بالاستخلاف ولم يوجد.
إمام صلى برجلين فسبقه الحدث فقدم أحدهما وذهب صار المقدم إمامًا لهما، فإن سبقه الحدث فخرج فهذا الذي بقي صار إمامًا إذا نوى الإمامة كذا قال في (نوادر الصلاة)، قالوا: معناه: ترك المضي على الاقتداء، حتى لو بقي على اقتدائه بإمامه ولم يعمل عمل المنفرد لم يجز، فأما نية الإمامة ليست بشرط، ويختار بكون الجواب فيما إذا كان خلف الإمام رجل واحد هكذا أنه لو بقي على اقتدائه، فإمامه ولم يعمل عمل المنفرد إنه لا يجوز في (الخصائل).
إمام أحدث فانتقل وقدم رجلًا جاسيًا....... فإنه ينظر إن كبّر قبله سبق الإمام الحدث صح استخلافه؛ لأنه........ الإمام في الصلاة، وكذلك إذا نوى الدخول في صلاة الإمام وكبّر قبل خروج الإمام من المسجد، لأنه ما دام في المسجد كأنه في الصلاة، وعلى قول...... رحمه الله؛ لا يصح استخلافه هنا، قال: لأن حدث الإمام من المقتدي، كحدثه. بنفسه، وكونه محدثًا يمنع من الشروع في الصلاة ابتداء، فيمنع الاقتداء به أيضًا، فإن بقاء الاقتداء بعد الحدث عرفناه بالسنّة، والابتداء ليس في معنى البقاء، ولكنا نقول: التحريمة باقية في حق الإمام حتى إذا عاد بنى على صلاته، وكذلك صفة الإمامة له باقية ما لم يخرج من المسجد، حتى لو توضأ في المسجد عاد إلى مكان الإمامة جاز فاقتداء صحيح في هذه الحالة، وإذا صح الاقتداء جاز استخلافه.
وإن كان حتى كبّر نوى الدخول في صلاة نفسه ولم ينوِ الاقتداء بالأول فصلاته تامة، لأنه افتتحها منفردًا وأداها منفردًا ولم ينوِ الاقتداء، فتكون صلاته تامة، وصلاة القوم فاسدة؛ لأنهم كانوا مقتدين بالأول، فلا يمكنهم إتمامها مقتدين بالثاني لأن الصلاة الواحدة لا تؤدى بإمامين بخلاف خليفة الأول، فإنه قائم مقام الأول، فكأنه هو نفسه، فكان الإمام واحدًا معنىً، وإن كان مثنى صورة، وها هنا الثاني ليس بخليفة الأول، لأنه لم يقتد به قط فتحقق إذ الصلاة الواحدة خلف إمامين صورة ومعنى، فبهذا لا تجزئهم صلاتهم، وأما صلاة الإمام الأول لم يذكر في (الكتاب)، واختلف المشايخ: قال بعضهم: لا تفسد صلاته، وقال: تفسد وهو الأصح، لأنه اقتدى بمن ليس في الصلاة فتفسد صلاته كما لو استخلفوا جنبًا أو محدثًا أو امرأة.
إمام أحدث فقدم رجلًا من آخر الصفوف ثم خرج من المسجد، فإن نوى الثاني أن يكون إمامًا من ساعته، ونوى أن في ذلك المكان جازت صلاة الخليفة وصلاة الإمام الأول، ومن كان على يمين الخليفة وعلى يساره في صفه ومن كان خلفه، ولا تجوز صلاة من كانوا أمامه في الصفوف؛ لأنهم صاروا أمام الإمام، وإن نوى الثاني أن يكون إمامًا إذا قام مقام الأول، وخرج الإمام الأول قبل أن يصلي الثاني إلى مقام الأول فسدت صلاتهم؛ لأنه كما خرج الإمام الأول فلا مكان للإمامة عن الإمام، والإمام الأول يتوضأ ويبني على صلاته في الأحوال كلها.
إذا أحدث واستخلف رجلًا من خارج المسجد والصفوف متصلة بصفوف المسجد لم يصح استخلافه، وتفسد صلاة القوم في (نوادر أبي حنيفة) وأبي يوسف رحمهما الله، وفي فساد صلاة الإمام روايتان، فقيل: والأصح هو الفساد.
إمام سبقه الحدث واستخلف رجلًا، واستخلف الخليفة غيره: قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن كان الإمام لم يخرج من المسجد، ولم يأخذ الخليفة مكانه حتى استخلف غيره جاز، ويصير كأن الثاني تقدم بنفسه، أو قدمه لإحكام ما للأول وإن كان غير ذلك لا يجوز.
إمام توهم أنه رعف فاستخلف غيره، فقبل أن يخرج الإمام من المسجد ظهر أنه كان ماء ولم يكن دمًا، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: إن كان الخليفة أدى ركنًا من الصلاة لم يجز للإمام أن يأخذ الإمامة مرة ثانية، لكنه يقتدي بالخليفة؛ لأن الخلافة تأكدت بأداء ركن، وإن لم يؤدِ ركنًا لكنه قام في المحراب، قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمة الله عليهما: له أن يأخذ الإمامة مرة أخرى؛ لأن المسجد كمكان واحد، فيجعل كأن لم يحول وجهه عن القبلة، وقال محمد رحمه الله: لا يجوز؛ لأنه حول وجهه عن القبلة بالشك لا بالتيقن بالحدث، فتفسد صلاته عند محمد رحمه الله.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله): إذا ظن الإمام أنه أحدث من غير حدث فاستخلف رجلًا ثم تبين له قبل أن يخرج من المسجد أنه لم يحدث قال: إن كان لم يأت بالركوع جازت صلاتهم يعني الخليفة، وإن أتى بالركوع فسدت صلاتهم.
قال الفقيه: هذا وفي رواية محمد بن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما: أنه قال: إذا قام مقام الإمام فسدت صلاتهم وإن لم يأت بركن من أركان الصلاة، وإذا لم يقم الخليفة مقام الإمام الأول جازت صلاتهم، قال: وكان الشيخ الإمام يفتي بهذا إذا ظن الإمام أنه أحدث فاستخلف رجلًا وخرج من المسجد، ثم علم أنه لم يكن حدثًا فسدت صلاة الكل هو الصحيح.
ظن الإمام أنه أحدث، وأنه على غير وضوء، فانصرف القوم رجلًا (رجلًا) ثم استيقن بالطهارة فسدت صلاة الكل خرج الإمام من المسجد أو لم يخرج الإمام.
إذا صار مطالبًا بالبول، فذهب واستخلف غيره لا يصح استخلافه، إنما يصح الاستخلاف بعد خروج البول، وكذا إذا أصابه وجع البطن أو غير ذلك، وكذلك إن عجز عن القيام بذلك السبب قعد وصلى قاعدًا لا يجوز.
إمام سبقه الحدث فاستخلف رجلًا وتقدم الخليفة ثم تكلم الإمام قبل أن يخرج من المسجد أو أحدث متعمدًا، قالوا: يضره ولا يضر غيره، ولو جاء رجل في هذه الحالة، فإنه يقتدي بالخليفة ولو بدا للأول أن يقعد في المسجد فلا يخرج كان الإمام هو الثاني، ولو توضأ الأول في المسجد وخليفته قائم في المحراب لم يؤد ركنًا يتأخر الخليفة ويتقدم الإمام الأول، ولو خرج الإمام الأول من المسجد، فتوضأ ثم رجع إلى المسجد وخليفته لم يؤد ركنًا كان الإمام هو الثاني، وإن نوى الثاني بعدما تقدم إلى المحراب أن لا يخلف الأول ويصلي صلاة نفسه لا تفسد ذلك صلاة من اقتدى به.
رجل صلى في المسجد وأحدث، وليس معه غيره، فلم يخرج من المسجد حتى جاء رجل وكبّر ينوي الدخول في صلاته ثم خرج الأول، فإن الثاني يكون خليفة الأول عند أصحابنا رحمهم الله، وكذا لو توضأ الأول في ناحية من المسجد، ورجع ينبغي أن يقتدي بالثاني؛ لأن الثاني صار إمامًا له عينه أو لم يعينه.
إذا أحدث الإمام واستخلف رجلًا وخرج من المسجد ثم أحدث الثاني ثم جاء الأول بعدما توضأ قبل أن يقوم الثاني مقام الأول جاز للثاني أن يقدمه، وإذا حضر الإمام من القراءة فتأخر وقدم رجلًا أجزأهم، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجزئهم.
حجتهما: أن...... في القراءة بأن ينسى جميع القرآن نادر غاية الندرة، فلا يلحق بالحدث، بل ملحق بالجنابة.
حجة أبي حنيفة رحمة الله عليه: أن العلة في حق الذي سبقه الحدث عجزه عن الأداء، والعجز ها هنا ألزم؛ لأن المحدث ربما يصيب ماء في المسجد فيتوضأ ويبني من غير استخلاف، وأما الذي ينسى ما حفظ ذلك لا يعلم إلا بالتعلم أو بالتذكر، وذلك يكون بعد مدة، فيمتنع المعنى لا محالة، وهذا إذا لم يقرأ مقدار ما تجوز به، ولا يجوز الاستخلاف بالإجماع، وإذا صار جانيًا بحيث لا يصدر على المعنى ذكر في غير رواية (الأصول): أن على قول أبي حنيفة رحمه الله: ليس له أن يستخلف، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: له ذلك، فأبو حنيفة رحمه الله فَرَّق بين هذه المسألة وبين مسألة.
......
والفرق: وهو أن العجز عن القراءة ليس بنادر، أما صيرورته جانبًا في الصلاة على وجه يعجز عن المعنى نادر فبمنزلة الجنابة.
لو أن قارئًا صلى بقوم ركعتين من الظهر، وقرأ منهما، وسبقه الحدث ثم استخلف أميًا جاز عند أبي يوسف رحمه الله؛ لأن الإمام قد أدى فرض القراءة، فلا حاجة إليها في الأخريين، فكان الأمي وغيره فيهما سواء.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: فسدت صلاة الكل؛ لأن استقباله باستخلاف من لا يصلح إمامًا له تفسد، وكذا استخلاف الأمي في القعدة الأخيرة قبل قدر التشهد على هذا إذا قعد قدر التشهد.
قال في (الجامع الصغير): يجوز عند أبي يوسف رحمه الله وسكت عن ذكر قول أبي حنيفة رحمه الله، قالوا وعنده: يجوز أيضًا.
وفي (النوادر): الإمام إذا نسي القراءة في الأوليين من الظهر ثم سبقه الحدث فاستخلف رجلًا.....، فعلى الثاني أن يقرأه في الأخريين قضاء عن الأولين، وإذا انتهى إلى موضع سلام الإمام واستخلف من يسلم بهم، وقام لقضاء الأولين، وقرأ فيهما، ولو ترك القراءة فيهما فسدت صلاته وإن قرأ مرة في ركعتين، لأن تلك القراءة التحقت بالأولين، فتعينت الأخريان. بغير قراءة، فإذا قضى الأولين فلابد له من القراءة فيهما، والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): صلى رجل بقوم الظهر، فلما صلى ركعة وسجدة ثم أحدث فقدم مدركًا، فسهى عن الثلاث السجدات، وصلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث، فقدم مدركًا وتوضأ الأئمة الأربعة وجاؤوا قال: ينبغي للإمام الخامس أن يسجد السجدة الأولى؛ لأن الأئمة كلهم خلفًا للأول فعليهم ما على الأول ويسجد معه القوم وللأئمة جميعًا؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة وقد فاتتهم تلك السجدة، فإذا أدركوها في موضعها كان عليهم أداؤها ثم يقوم الإمام الأول فيصلي ثلاث ركعات بغير قراءة؛ لأنه قد أدرك أول الصلاة وكأنه خلف الإمام.
ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثانية ويسجد معه القوم والأئمة؛ لأنهم أدركوها في موضعها إلا أن الإمام الأول لا يسجد السجدة الثانية؛ لأن عليه أركانًا يصليها وهي الركعة الثانية؛ إلا أن يكون أدى الركعة الثانية، وانتهى إلى هذه السجدة، فحينئذٍ يسجد مع الإمام الخامس هذه ثم يقوم الإمام الثاني فيصلي ركعتين بغير قراءة، لأنه مدرك لأول الصلاة وكأنه خلف الإمام ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثالثة، ويسجد معه القوم والأئمة الأول والثاني؛ لأنهم أدركوها في موضعها على ما ذكرنا.
ثم يقوم الإمام الثالث فيصلي ركعة بغير قراءة على ما بينا، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الرابعة ويسجد معه القوم والإمام الرابع لما بينا، ولا يسجد مع الأول والثاني والثالث؛ إلا أن يكونوا فرغوا من أداء ما عليهم وانتهوا إلى هذه السجدة، ثم يتشهد الإمام الخامس ويسجد السهو ويسجد معه القوم والإمام الرابع، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث؛ لأنهم مدركون، والمدرك لا يتابع الإمام في سجود السهو إلا أن يكون فرغ من أداء ما عليه، هذا هو الجواب في هذه المسألة.
وإذا عرفت الجواب في ذوات الأربع ظهر لك الجواب في ذات الركعتين؛ لأن الكلام في ذات الركعتين أظهر وأوضح؛ لأن هنا نحتاج إلى بيان أحكام الأئمة الخمسة، وهناك نحتاج إلى بيان أحكام الأئمة الثلاثة.
قال محمد رحمه الله: الأول مقيم صلى بقوم مقيمين ركعة من الظهر وسجدة، ثم أحدث فقدم رجلًا جاسيًا....... وصلى بهم ركعة وسجدة ثم أحدث وقدم رجلًا جاسيًا......... وصلى بهم ركعة وسجدة ثم...... وقدم رجلًا....... ثم توضأ الأئمة الأربعة وجاؤوا، قال: ينبغي للإمام الخامس أن يسجد بهم والسجدة الأولى لما ذكرنا أنه خليفة للأول ويسجد معه القوم والإمام الأول لما ذكرنا أنهم أدركوها في موضعها؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة، ولا يسجد معه الإمام الثاني والثالث والرابع؛ لأنهم مستوفون بهذه الركعة، وإذا حضرا هذه الركعة..... يسجد بهما، فلا فائدة في متابعتهم الإمام الخامس فيها، فلا يتابعونه ثم يقوم الأول فيصلي ثلاث ركعات بغير قراءة؛ لأنه مدرك أول الصلاة فهو فيما يأتي مؤدٍ وليس بقاضٍ، فهذا لا يقرأ، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الثانية، ويسجد معه القوم والإمام الثاني ولا يسجد معه الإمام الأول إلا أن يكون قد انتهى إلى هذه السجدة، وكذا لا يسجد معه الإمام الثالث والرابع؛ لأنه لا فائدة من ذلك؛ لأنهم مستوفون بهذه الركعة وهي الركعة الثانية فيقضونها بسجدتيها عند قضاء الركعة ثم يقوم الإمام الثاني فيقضي ركعتين بغير قراءة؛ لأنه مدرك لهما، فهو فيهما مؤدٍ ثم يسجد بهم الإمام الخامس السجدة الثالثة.
ويسجد معه القوم والإمام الثالث، ولا يسجد معه الإمام الأول، والإمام الثاني إلا أن يكونا انتهيا إلى هذه السجدة، وكذلك لا يسجد معه الإمام الرابع ثم يقوم الإمام الثالث، ويؤدي ركعة بغير قراءة، ثم يسجد الإمام الخامس السجدة الرابعة، ويسجد معه القوم والإمام الرابع، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث، إلا أن يكونوا انتهوا إلى هذا الموضع، ثم يتشهد الإمام الخامس، فإذا انتهى إلى موضع السلام تأخر من غير أن يسلم وقدم رجلًا أدرك أول الصلاة، فيسلم بهم، ويسجد سجدتي السهو، ويسجد معه القوم والإمام الربع والخامس؛ لأن الإمام الرابع والخامس مسبوقان، والمسبوق يتابع الإمام في سجود السهو، ولا يسجد معه الإمام الأول والثاني والثالث؛ إلا أن يكونوا انتهوا إلى هذا الموضع، ويسلم الإمام السادس، ويسلم معه القوم، ولا يسلم معه واحد من الأئمة، إلا أن الإمام الأول إذا كان فرغ من أداء ما عليه ثم يقوم الثاني، فيقضي ركعة بقراءة إن كان فرغ من الأداء؛ لأنه مسبوق بركعة، ويقوم الإمام الثالث ويقضي ركعتين بقراءة إن كان فرغ من الأداء؛ لأنه سبق بهما، ويقوم الرابع ويقضي ثلاث ركعات يقرأ في الركعتين منهما، وفي الثالثة بالخفاء ثم يقوم الإمام الخامس ويقضي أربع ركعات يقرأ في الأوليين وفي الأخريين بالخفاء.
وذكر في (نوادر الصلاة): أن الإمام الخامس إذا سجد السجدة الأولى سجد معه القوم والأئمة جميعًا، وإذا سجد السجدة الثانية سجد معه القوم والأئمة الإمام الأول، وكذلك على هذا القياس في الثالثة والرابعة، وإنما أجزأهم بذلك وإن كان لا يحتسب ذلك من صلاتهم بطريق المتابعة، ألا ترى أن المسبوق يتابع الإمام في السجدة التي أدركها وإن كان لا يحتسب ذلك من صلاته والله أعلم.
قال في (الأصل) أيضًا: إمام أحدث فاستخلف مدركًا قد نام خلفه حتى صلى الإمام ركعة وقدمه، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا ينبغي للإمام أن يقدم هذا ولا لهذا أن يتقدم، وهذا؛ لأن الذي لم ينم خلف الإمام والذي هو مسبوق قدر على إمامة ما بقي على الإمام من غير مكث ولبث، وكذا المسبوق، وهذا لا يقدر على إتمام ما بقي على الإمام إلا بعد مكث ولبث؛ لأنه يلزمه أن يبدأ بالأول فالأول، فكان غيره أولى، مع هذا لو قدمه الإمام وتقدم هو جاز، والأصوب له أن يشير إلى القوم حتى..... هذا هو بما قام خلف الإمام، فيؤدي ذلك، فإذا انتهى إلى ما انتهى إليه إمامه أمهم من ذلك، فلو لم يفعل هكذا، ولكن بدأ بما بقي على الإمام وأخر ما نام فيه إلى أن يتشهد ثم قام، فأدى ما كان نام فيه، ثم سلم جازت صلاته استحسانًا، وللقياس أن لا يجزئه هو قول زفر رحمه الله وعلى هذا القياس والاستحسان؛ إذا نام المقتدي خلف الإمام حتى صلى الإمام ركعة أو ركعتين، ثم استيقظ يتابع الإمام فيما أدرك فيه وأخر ما نام فيه إلى آخر الصلاة، فلم يعتبر الترتيب في حق اللاحق، واعتبره في حق المسبوق حتى قال بأن المسبوق يتابع الإمام فيما أدرك مع الإمام ثم ينتقل ببعض ما سبق، فلو أنه استقبل نقصانًا سبق أولًا قبل أن يتابع الإمام فيما أدرك تفسد صلاته.
والفرق يأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى، ولو أن هذا الذي تقدم، استقبل فإذا ما بقي على الإمام..... ركعة تذكر ركعته تلك، والأفضل له أن يومي إليهم لينتظروه حتى يقضي تلك الركعة، ثم يصلي بهم بعيد صلاته كما كان في الابتداء يفعله وإن لم يفعل وتأخر حتى يذكر ذلك وقدم رجلًا منهم يصلي بهم فهو أفضل من الأول..... إن لم يتأول، ولكنه صلى بهم وهو ذاكر لركعة أجزأه أيضًا لما بينا، وإذا أتم صلاة الإمام فقدم رجلًا من المدركين حتى يسلم بهم، والله أعلم.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن أبي يوسف رحمهما الله: رجل صلى بقوم ركعة من الظهر فأحدث، وانتقل ليتوضأ وقد قدم رجلًا ثم تذكر أن عليه صلاة الغداة فصلاته فاسدة وصلاة القوم تامة، ولم يظهر فساد صلاته في حق فساد صلاة القوم؛ لأن فساد صلاته بسبب فوات الترتيب مختلف فيه؛ لأن الشافعي رحمه الله لا يرى الترتيب مستحقًا، فلم يكن الفساد قويًا، فلا يظهر في حق القوم، ولم يفصل في رواية ابن سماعة بينما إذا تذكر ذلك بعد خروجه من المسجد أو قبل خروجه من المسجد ورأيت في الموضع أن الإمام المحدث إذا تذكر فائتة قبل أن يخرج من المسجد فسدت صلاته وصلاة الثاني والقوم؛ لأن الإمام الأول ما دام في المسجد وكأنه في المحراب بعد.
ولو كان في المحراب وباقي المسألة بحالها، فإن الجواب كما بينا ويجب أن يشترط ها هنا شرط آخر، وهو أن يتذكر الأول الفائتة قبل أن يخرج من المسجد وقبل أن يقوم الخليفة في مقام ينوي أن يؤم الناس فيه لفساد صلاة الكل وإن تذكر فائتة بعدما خرج من المسجد فسدت صلاته خاصة؛ لأن بعد الخروج من المسجد أو قبل خروجه ولكن بعدما قام الثاني في مقام ينوي أن يؤم الناس فيه.
وفي (القدوري) إذا صلوا في غير مسجد يعني في الصحراء وأحدث الإمام فمجاوزة الصفوف كالخروج من المسجد يريد به إذا رجع الإمام خلفه حتى جاوز الصفوف ولم يقدم أحدًا فسدت صلاة القوم بمنزلة ما لو صلى في المسجد وخرح الإمام من المسجد بعدما أحدث قبل أن يقدم أحدًا؛ لأن مكان الصفوف بحكم الاقتداء صار كالمسجد وإن لم يرجع خلفه ولكن مشى قدامه وليس بين يديه بناء ولا سترة لم تفسد صلاتهم حتى جاوز من بين يديه مقدار الصفوف إلى خلفه هكذا روى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله اعتبارًا ما بجنبه الأخرى؛ لأن...... لا يختلف القاطع، وهكذا روي عن محمد رحمه الله.
وإن كان بين يديه حائط أو سترة، فإذا تجاوز أحدًا فسدت صلاتهم، هكذا روي عن أبي يوسف رحمه الله، لأن السترة تجعل ما دونها في حكم المسجد بدليل اقتصار كراهة المرور على ما دون الستر ولم يذكر في القدوري ما إذا كانت السترة سوطًا موضوعًا بين يديه في الطول أو بالعرض.
وفي (نوادر المعلى) عن أبي يوسف رحمهما الله: أنه لا تفسد صلاتهم حتى يجاوز قدر موضع أصحابه الذي خلفه كما لو لم يكن بين يديه سترة أصلًا إذا ذهب الإمام المحدث ليتوضأ وقد كان قدم رجلًا فتوضأ وأراد أن يصلي في بيته أو في مسجد آخر ينظر إن كان الخليفة قد فرغ من صلاته صلاة الإمام في بيته وفي مسجد آخر وإن لم يكن فرغ الخليفة من صلاته لا تجوز صلاة الإمام في بيته ولا في مسجد آخر هكذا ذكر في (الأصل).
وذكر في (نوادر ابن سماعة) عن محمد رحمهما الله: أن صلاة الإمام المحدث في بيته فاسدة حتى تكون صلاته بعدما يشهد هذا الإمام المقدم قالوا: وهذا إذا كان بين الإمام المحدث وبين خليفتهما يمنع صحة الاقتداء من الحيطان والجدر والنهر وما أشبه ذلك، وإن لم يكن بينهما ما يمنع صحة الاقتداء تجوز صلاة الإمام المحدث في بيته قبل فراغ الخليفة من الصلاة أو بعده.

.الفصل السابع عشر في سجود السهو:

الأصل في سجود السهو ما روي أن النبي عليه السلام سها في صلاته فسجد، وفي حديث ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم (قال) لكل سهو سجدتان بعد السلام، وهكذا الفصل يشمل على أنواع:
الأول في بيان صفة هذه السجدة وكيفيتها ومحلها:
أما بيان صفتها: كان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: هو واجب استدلالًا. بما قال محمد رحمه الله: إذا سها الإمام وجب على المؤتم أن يسجد.
ووجهه: أنه جبر لنقصان العبادة، وكان واجبًا..... قرأ بجبر في الحج، وهذا لأن أداء العبادة بصفة الكمال واجب، وصفة الكمال لا تحصل إلا بجبر النقصان.
وقال غيره من أصحابنا رحمهم الله: إنه سنّة استدلالًا لما قاله محمد رحمه الله: إن العود إلى سجود السهو لا يرفع التشهد ولو كان واجبًا لكان رافعًا للتشهد كسجدة التلاوة ولأنه يجب بترك بعض السنن والخلف لا يكون فوق الأصل.
وأما الكلام في كيفيتهما:
قال القدوري رحمه الله: في كتابه يكبر بعد سلامة الأول ويخر ساجدًا ويسبح في سجوده ثم يفعل ثانيًا كذلك ثم يتشهد ثانيًا، قوله يكبر بعد صلاته الأول يشير إلى أنه يكتفي بتسليمة واحدة، وهذا فصل اختلف فيه المشايخ عامتهم على أنه يكتفي بتسليمة واحدة لأن الحاجة إلى السلام للفصل بين الأصل وبين الزيادة الملحقة به، وهذا يحصل بتسليمة واحدة، وذكر الشيخ الإمام شيخ الإسلام رحمة الله عليه في شرح كتاب الصلاة أنه لو سلم تسليمتين؛ لأن محمدًا رحمه الله ذكر السلام في (الأصل) مطلقًا، فينصرف إلى السلام من الجانبين.
ثم اختلفوا في الصلاة على النبي عليه السلام، وفي الدعوات أنها في قعد الصلاة أم في قعدة سجدتي السهو.
ذكر الكرخي رحمه الله في (مختصره): أنها في قعدة سجدتي السهو؛ لأنها من القعدة الأخيرة في الحاصل، فإن ختم الصلاة بها والفراغ منها يحصل بهذه القعدة.
الطحاوي رحمه الله قال: لكل قعد في آخرها سلام ففيها صلاة على النبي عليه السلام، فعلى هذا يصلي على النبي عليه السلام في القعدتين جميعًا، ومنهم من قال: في المسألة اختلاف، عند أبي حنيفة رحمه الله يصلي في القعدة الأولى، وعند محمد رحمه الله يصلي في القعدة الأخيرة وهو قعدة سجود السهو بناءً على أصل أن سلام من عليه السهو يخرجه من الصلاة عندنا، فإذا كان يخرجه من الصلاة كانت القعدة الأولى من قعدة الختم، فيصلى فيه على النبي صلى الله عليه وسلّم ويدعو الله تعالى فيه ليكون خروجه منها بعد الفراغ من الأدعية والسنن والمستحبات.
وعند محمد رحمه الله: سلام من عليه سجود السهو لا يخرجه من الصلاة فيؤخر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلّم إلى قعدة سجدتي السهو؛ فإنهما من الأخيرة له.
وهذا الاختلاف إنما يظهر إذا ضحك بعد السلام قبل سجود السهو لا تنتقض طهارته عندهما، وعند محمد رحمه الله تنتقض، قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: القعدة بعد سجدتي السهو ليست بركن، وإنما أمر بها بعد السجود ليقع ختم الصلاة بها، فيوافق ذلك موضوع الصلاة ويوليها، وأما أن يكون ركنًا فلا، حتى لو تركها بأن سجد سجدتين بعد السلام ثم قام وذهب لم تفسد صلاته؛ لأنه لو لم يسجد للسهو لا تفسد صلاته، فإذا سجد ولم يقعد أولًا أن لا تفسد صلاته.
وأما بيان محلها:
فنقول سجود السهو بعد السلام سواء كان من زيادة أو نقصان، وقال الشافعي رحمه الله: يسجد قبل السلام.
حجته: حديث عبد الله بن مسعود أن النبي عليه السلام سجد سجدتي السهو بعد السلام، ولأن السجدة شرعت تجبر النقصان فيجب أن يقع في الصلاة.
ولنا: حديث ثوبان على ما مر، وما روى محمول على ما قبل السلام الثاني، فإن عندنا يسجد للسهو بعد السلام الأول قبل السلام الثاني، عليه عامة المشايخ رحمهم الله ولأن سجدة السهو تأخرت عن وقت السهو مع أن الحكم لا يتأخر عن السبب في الأصل لحكمة، وهو: التحرز عن وهم التكرار، وما قبل السلام متوهم فيه السهو فيتوهم التكرار، فيؤخر عن السلام، ثم يعود إلى حرمة الصلاة بالسجود لتحقق الجبر في الصلاة، ولو سجد بعد السلام أجزأه عندنا.
قال القدوري رحمه الله: هذا رواية (الأصول)، قال: وروي عنهم أنه لا يجزيه؛ لأنه أراه قبل، وفيه وجه رواية (الأصول): أن فعله حصل في فصل مجتهد فيه، فلا يحكم بفساده..... بالإعادة يتكرر السجود، وهذا لم يقل به أحد من العلماء، وحكم السهو في صلاة الفرض والنفل سوى حديث ثوبان على ما مر، من غير فصل، ولأن الفرض والنفل إنما يفترقان في وصف الفريضة والنفلية دون الأركان والشروط.

.نوع في بيان ما يجب به سجود السهو وما لا يجب:

تكلم المشايخ رحمهم الله في هذا وأكثرهم على أنه يجب بستة أشياء: بتقديم ركن، وبتأخير ركن، وتكرار ركن، وبتغيير واجب، وبترك واجب، وبترك سنّة تضاف إلى جميع الصلاة.
أما تقديم الركن؛ فهو أن يركع قبل أن يقرأ، أو يسجد قبل أن يركع.
وتأخير الركن أن يترك سجدة صلبية سهوًا فيتذكرها في الركعة الثانية، فيجسدها، أو يؤخر القيام إلى الثالثة بالزيادة على قدر التشهد.
وتكرار ركن: أن يركع ركوعين أو يسجد ثلاث سجدات.
وتغيير الواجب: أن يجهر فيما يخافت، أو يخافت فيما يجهر.
وترك الواجب: نحو أن يترك القعدة الأولى في الفرائض.
وترك السنّة المضافة إلى جميع الصلاة: نحو أن يترك التشهد في القعدة الأولى، وكان القاضي الإمام صدر الإسلام رحمه الله يقول: وجوبه شيء واحد، وهو ترك الواجب، وهذا أجمع ما قيل فيه.
فإن هذه الوجوه الستة تخرج على هذا، أما التقديم والتأخير؛ فلأن مراعاة الترتيب واجبة عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله: وإن لم يكن فرضًا كما قاله زفر رحمة الله عليه، فإذا ترك الترتيب فقد ترك واجبًا، وإذا كرر ركنًا فقد أخر الركن الذي بعده، والركن واجب من غير تأخير، والجهر في محله واجب، والمخافتة كذلك، فأما التشهد في القعدة الأولى فإنه كان يقول: إنه واجب، وعليه المحققون من أصحابنا، وهو واضح.
وكذلك يجب سجود السهو في ترك التكبير الأولى، في القنوت (وعليه المحققون من) أصحابنا وهو واضح وفي القراءة وفي تكبيرات العيد وقراءة التشهد وفي السلام، أما في تكبيرة الافتتاح بأن شك في حالة القيام أو بعده...... كبر للافتتاح أم لا وطال تفكره فيه وعلم أنه قد كبر فبنى أو ظن أنه لم يكبّر فكبّر وقرأ شيء عليه، فعليه سجدتا السهو فيهما، وأما في القراءة، فمن كان من واجب القراءة يجب سجود السهو بتركه حتى إذا ترك فاتحة الكتاب أو السورة فعليه، وتذكر بعدما قرأ بعض السورة يعود فيقرأ بالفاتحة ثم بالسورة، وكذلك إذا تذكر بعد الفراغ من السورة أو في الركوع، فإنه يأتي بالفاتحة ثم يعيد السورة ثم يسجد للسهو.
وذكر ابن سماعة في (نوادره) وعن محمد رحمهما الله: إذا قرأ فاتحة الكتاب ساهيًا فعليه السهو يريد به إذا لم يقرأ السورة.
وعلل فقال من قبل أنه ترك قراءة السورة التي بعد الفاتحة، وقراءة السورة بعد الفاتحة واجبة، ولو قرأ فاتحة الكتاب وسورة ثم قرأ فاتحة الكتاب فلا سهو عليه.
وعن هذا قيل: إذا قرأ في صلاة الجمعة سورة السجدة وسجد لها ثم قام وقرأ الفاتحة وقرأ: {ننجافى جنوبهم} [السجدة: 16] لا سهو عليه، وإن قرأ الفاتحة مرتين؛ لأن ما قرأها على الولاء.
وروى إبراهيم عن محمد رحمة الله عليهما: إذا قرأ الفاتحة في ركعة مرتين، فإن كان ذلك في الأولين فعليه السهو من غير فصل بينهما إذا قرأ بينهما سورة أو لم يقرأ، وإن كان في الآخريين فلا سهو عليه.
وذكر هشام عن محمد رحمه الله: إذا سها عن....... من فاتحة الكتاب فعليه السهو، وإذا بدأ بقراءة غيرها في الركعة الأولى أو الثانية وقرأ آخر فأوجب عليه السهو، وإذا قرأ في الآخرين من الظهر أو العصر الفاتحة والسورة ساهيًا فلا سهو عليه هو المختار.
فإن محمدًا رحمه الله يقول في (الكتاب): إن شاء قرأ في الآخرين وإن شاء سكت، ذكر القراءة مطلقًا.
وإذا قرأ في الركعة الثانية سورة قبلها، فلا سهو عليه، ولو قرأ مع فاتحة الكتاب آية قصيرة وركع ساهيًا، فعليه السهو؛ لأن قراءة ثلاث آيات فصاعدًا مع الفاتحة أو آية طويلة مع الفاتحة من واجب الصلاة بالإجماع.
وعن الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليه إذا لم يقرأ في الأخريين من الظهر أو العصر أو العشاء ولم يسبح..... إن كان متعمدًا وإن كان ساهيًا فعليه سجود السهو وروي عن أبي يوسف رحمه الله.
وكذلك إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر ساهيًا يجب عليه سجود السهو عندنا، خلافًا للشافعي رحمه الله.
حجته: ما روى قتادة أن رسول الله عليه السلام كان يسمعنا الآية، والآيتين في الظهر والعصر، ولو كان ذلك يوجب السهو لما فعل رسول الله عليه السلام الجهر والمخافتة من هيئة القراءة، فتكون سنّة كهيئة الفعل نحو أخذ الركب، وهيئة العقدة.
ولو قعد متوركًا أو متربعًا اختيارًا ساهيًا لا يجب عليه سجود السهو كذا هنا، بل أولى؛ لأن الفعل في الركعتين أقوى من القراءة.
ولنا قوله عليه السلام: «لكل سهو سجدتان بعد السلام» من غير فصل بين سهو وسهو، ولأن الجهر في حق الإمام واجب؛ لأن قراءته أقيمت مقام قراءة المقتدي، لأن ما هو المقصود وهو التأمل يحصل بالإسماع فيقوم الاستماع مقام القراءة كان ذلك وكذلك المخافتة واجبة؛ لأن المخافتة في الأصل شرعت صيانة للقرآن عن إلغاء الكفرة و...... وإليه و..... الإشارة في قوله تعالى: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26]
وصيانة القرآن عن مثل هذا واجب، فإذا خافت فيما يجهر أو جهر فيما يخافت فقد ترك واجبًا من واجبات الصلاة فيلزمه سجود السهو، وأما هيئة الفعل فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: هيئة الفعل واجبة إذا تركها اختيارًا ساهيًا يجب سجود السهو، ومن مشايخنا من قال: عرفنا الأخذ بالركب سنّة لحديث عمر رضي الله عنه فإنه قال: سن لكم الركب نقيس عليه هيئات سائر الأفعال.
وأما الحديث فتأويله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقول ذلك عمد السنن أن القراءة مشروعة في الظهر والعصر، ومع العمد لا يجب سجود السهو عندنا في ظاهر رواية (الأصل) سوى بين الجهر والمخافتة، فقال: إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر فعليه سجود السهو من غير تفضيل، وذكر في (النوادر): أنه إن جهر فيما يخافت فلعليه السهو قل ذلك أو كثر.
وإن خافت فيما يجهر إن كان ذلك في فاتحة الكتاب أو في أكثرها فعليه السهو وإلا فلا.
وإن وقع هذا في سورة أخرى إن خافت ثلاث آيات أو آية طويلة عند الكل أو آية قصيرة عند أبي حنيفة رحمه الله فعليه السهو، وإلا فلا، وهذا لأن حكم الجهر فيما يخافت غلط من حكم المخافتة فيما يجهر؛ لأن حكم الشرع في ابتداء الإسلام الجهر في الصلاة كلها الصلاة ثم انتسخ الجهر في البعض دون البعض، فإذا جهر فيما يخافت فقد عمل بالمنسوخ خف حكمه، ولأن للصلاة بالجهر حظًا من المخافتة حتى يخافت بالفاتحة في الآخرين.
وكذلك المنفرد يتخير بين الجهر والمخافتة، فأما صلاة المخافتة لا حظ لها من الجهر والمنفرد لا يتخير فأوجبنا السهو في الجهر قل أو كثر، وشرطنا الكثير في المخافتة، ففي الفاتحة شرطنا أكثرها؛ لأنها إن كانت قولها على الحقيقة أقيم مقام الدعاء في الآخرين.
ولو كان دعاء من كل وجه لا يجب عليه السهو بتغيير هيئة، وإذا كان دعاء من وجه أوجب.... فاكتفي فيها بما يتعلق به جواز الصلاة.
ووجه التسمية على رواية (الأصل) ما ذكرنا أن الجهر على الإمام في صلاة الجهر واجب، وكذلك المخافتة في صلاة المخافتة واجب عليه، فإن ذلك ترك فقد ترك الواجب، وقيل ما ذكر في كتاب الصلاة قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن جواز الصلاة عنده يستوي فيه القليل والكثير.
وذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله فيما إذا جهر فيما يخافت أو خافت فيما يجهر أنه إذا فعل ذلك مقدار ما تجوز به الصلاة من فاتحة الكتاب أو غيرها فعليه السهو، وما لا فلا، وأما المنفرد فلا سهو عليه، أما إذا خافت فيما يجهر؛ لأنه ما ترك واجبًا من واجبات الصلاة، لأن الجهر غير واجب عليه، ولهذا خير بين الجهر والمخافتة.
والتخيير ينافي الوجوب، وكذلك إذا جهر فيما يخافت لم يترك واجبًا عليه؛ لأن المخافتة إنما وجبت لنفي، وإنما يحتاج إلى هذا في صلاة تؤدى على سبيل الشهرة، والمنفرد يؤدي على سبيل الخفية، وذكر أبو سليمان في (نوادره): أن المنفرد إذا نسي حالة في الصلاة حتى ظن أنه إمام فجهر في صلاته كما يجهر الإمام سجد للسهو؛ لأن الجهر بهذه الصفة سنّة الإمام دون المنفردين، فإذا جهر كذلك فقد غير نظم القراءة، وها هنا بعدها سجود السهو.
وكذلك إذا أخر القراءة إلى الآخرين فعليه السجود فاختلف المشايخ في حد الجهر والمخافتة، قال الشيخ أبو الحسن الكرخي رحمه الله: أدنى الجهر أن يسمع نفسه، وأقصاه أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة تحصل الحروف.
وقال الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله، والشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أدنى الجهر أن يسمع غيره، وأدنى المخافتة أن يسمع نفسه، وعلى هذا يعتمد، وإذا و...... التشهد وقراءة الفاتحة سهو فلا سهو عليه، وإذا قرأ الفاتحة مكان التشهد فعليه السهو.
وكذلك إذا قرأ الفاتحة ثم التشهد كان عليه السهو، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله في (واقعات الناطفي) رحمه الله، وذكر هناك إذا بدأ في موضع التشهد بالقراءة ثم تشهد فعليه السهو، ومثله لو بدأ بالتشهد ثم بالقراءة فلا سهو عليه؛ لأن في الوجه الأول لم يقع التشهد موضعه.
وفي الوجه الثاني وضع التشهد موضعه، وفي غريب الرواية: إذا قرأ قاعدًا يعني في حالة التشهد، فعليه السهو؛ لأن الموضع ليس موضع القراءة.
وكذلك لو قرأ آية في ركوعه أو سجوده، ولو قرأ التشهد قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا لا سهو عليه، لأن التشهد ثناء، والقيام موضع الثناء والقراءة.
أرأيت لو افتتح فقال: السلام عليك أيها النبي إلى قوله عبده ورسوله، فإنه يكون بمنزلة الدعاء، ولا سهو عليه.
وعن أبي يوسف رحمه الله: فيمن تشهد قائمًا فلا سهو عليه، وإن قرأ في جلوسه فعليه السهو، أرأيت لو كبّر فقرأ بعد الثناء؛ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، فقال هذا أو نحوه هل يجب عليه سجود السهو لأنه إن كان في موضع الثناء، فموضع الثناء منه معروف، وإن قرأ في الركعتين الأخيرتين، فليس عليه سجود السهو؛ لأنه يتخير في الركعتين الآخيرتين.
وأما السهو في القنوت إن ترك القنوت ساهيًا ثم يتذكر بعدما يركع أو يسجد وفي هذه الصورة لا يعود إلى القيام ولا يقنت بل يمضي في صلاته ويسجد للسهو في آخره.
وكذلك إذا تذكر بعدما قام من الركوع، يمضي أم يقنت، ولو تذكر في الركوع هل يعود إلى القيام ففيه روايتان، وقد ذكرنا المسألة من قبل.
وأما السهو في تكبيرات العيد فهو بتحصلها في غير محلها أو بالزيادة فيها أو بالنقصان عنها أو تركها، وفي كل ذلك يجب سجود السهو، فأما السهو في التشهد بأن نسي حتى قام إلى الثالثة ثم تذكر وتشهد في القعدة الأخيرة حتى سلم سجد للسهو في ذلك كله، ولو ترك تكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتهما فلا سهو فيهما.
والقياس في قراءة التشهد وقنوت الوتر وتكبيرات العيد لا سهو عليه؛ لأن هذه الأذكار سنّة، بتركها لا يتمكن النقصان كما في تكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتهما استحسانًا ذلك في قراءة التشهد، وقنوت الوتر وتشهد الصلاة، فبتركهما يتمكن النقصان والتغيير في الصلاة فيجب الجبر بسجدتي السهو بخلاف تكبيرات الركوع والسجود؛ لأنها سنّة لا تضاف إلى جميع الصلاة، وإنما تضاف إلى ركن فيهما، فبتركهما لا يتمكن النقصان في الصلاة.
وكذلك إذا ترك الاستفتاح لم يسجد لأنها سنّة لا تضاف إلى جميع الصلاة بل إلى الافتتاح، وإذا شرع في الصلاة على النبي عليه السلام بعد الفراغ من التشهد في الركعة الثانية ناسيًا، ثم تذكر فقام إلى الثالثة.
قال السيد الإمام أبو شجاع والقاضي الإمام الماتريدي؛ غير أن السيد الإمام قال: إذا قال: اللهم صلِ على محمد وجب، وقال القاضي الإمام: لا يجب ما لم يقل وعلى آل محمد، وفي أخريات الدخول في الصلاة، ولا يزيد في القعدة الأولى في التشهد، ولا يصلي على النبي عندنا، ولم يذكر.....، وفي (أمالي الحسن) عن أبي حنيفة رحمه الله: الصلاة..... عندك أنه يلزمه سجود السهو، وعن أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: أنه لا يلزمه في (شرح الكافي) للصدر الشهيد رحمه الله، وكان الشيخ الإمام ظهر الدين المرغيناني رحمة الله عليه يقول: لا يجب سجود السهو بقوله: اللهم صلِ على محمد ونحوه إنما المعتبر مقدار ما يؤدي فيه ركنًا.
وفي (واقعات الناطفي): إذا زاد في التشهد الأول حرفًا قال أبو حنيفة رحمه الله: وجب سجود السهو.
وفي غريب الرواية ذكر الشعبي أن من زاد في الركعتين على التشهد فعليه السهو، قال ابن مقاتل رحمه الله: ذكرت ذلك لابن زياد رحمه الله قال: هو في قول أبي رحمة الله عليه، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: بلغني عن أبي قاسم الصفار رحمه الله: أنه لا سهو عليه في هذا، وإذا تشهد مرتين فلا سهو عليه.
قيل: أراد به في القعدة الأخيرة وفي صلاة جمع.....: إذا كرر التشهد في القعدة الأولى فعليه سجود السهو، وإن كررها في القعدة الثانية فلا، ولا كذلك في سجود السهو في الأفعال بأن قام في موضع القعود، أو قعد في موضع القيام، أو سجد في موضع الركوع، أو ركع في موضع السجود، أو كرر الركن أو قدم الركن أو أخره.
ففي هذه الفصول كلها يجب سجود السهو في القدوري: ومن ترك من صلاته فعلًا وضع فيه ذكر فعليه سجود السهو لما روي أن النبي عليه السلام قام إلى الثالثة فسبح له ولم يرجع وسجد للسهو، ولأن الفعل إذا وضع فيه ذكر فذاك أمارة كونه مقصودًا في نفسه فيتمكن بتركه النقص في صلاته فيجب جبره بسجدتي السهو، وإن كان فعل لم يوضع فيه ذكر وليس فيه سجود السهو كوضع اليمنى على الشمال وكقومته التي من الركوع والسجود، لأنه إذا لم يكن فيه ذكر لم يكن مقصودًا في نفسه فلا يجب له السهو؛ لأن السهو مقصود بنفسه.... الأحكام شيء مقصود، وإن زاد فعلًا من جنس أفعال الصلاة، فعليه سجود السهو.
والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام قام إلى الخامسة، فسبح له ورجع وسجد للسهو، ولأن الزيادة في الصلاة نقصان إذ لابد وأن يتأخر بسببها شيء من أفعال الصلاة، وذلك يوجب نقصًا في الصلاة، وإذا قعد المصلي في صلاته قدر التشهد ثم شك في شيء من صلاته بأن شك أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا حتى شغله ذلك عن التسليم لم أستيقن أنه صلى أربعًا وليتم صلاته فعليه سجدتا السهو؛ لأنه أخر فرضًا من فرائض الصلاة، وهو السلام.
وإن شك في ذلك بعدما سلم تسليمة واحدة، فلا سهو عليه؛ لأنه بالتسليمة الواحدة خرج على حرمة الصلاة، فإنما وقع الشك بعد الخروج عن الصلاة، فلا يعتبر لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وإذا أحدث في صلاته وذهب ليتوضأ فوقع له هذا الشك حتى شغله عن وضوءه؟.....، فعليه سجدتا السهو، لأن حرمة الصلاة باقية بهذا شك وقع لحرمة الصلاة وقد أخر واجبًا أو ركنًا فيلزمه سجود السهو.

.نوع آخر في سهو الإمام..... إلى صاحبه:

سهو الإمام موجب عليه وعلى من خلفه السجود، أما عليه فظاهر، وأما على من خلفه لوجهين:
أحدهما: أن السجود إنما وجب على الإمام لجبر نقصان تمكن في صلاته بسبب السهو وصلاة من خلفه بصلاته صحة وفسادًا، وكذا في حق تمكن النقصان.
والثاني: أن القوم مع الإمام فما يجب على الإمام يجب على القوم بحكم التبعية، ألا ترى أن الإمام لو نوى الإمامة في وسط الصلاة تصير صلاة المقتدي أربعًا، وإن لم توجد منهم النية، وما كان ذلك إلا بحكم التبعية.
وكذلك إذا تلا الإمام آية السجدة في صلاة يخافت بها وسجد، فعلى القوم أن يسجدوا وإن لم توجد منهم النية، وما كان ذلك إلا بطريق التبعية كذا ها هنا وسهو المؤتم لا توجب السجدة، أما على الإمام فلا، صلاة الإمام غير متعلقة بصلاته صحة وفسادًا، فكذا في حق تمكن النقصان، ولأنه ليس يتبع للمؤتم ليلزمه السجدة بحكم التبعية، وأما على المؤتم؛ لأنه لو وجب عليه السجدة صار مخالفًا لإمامه، وقد قال عليه السلام: «فلا تختلفوا عليه» ولو ترك الإمام سجود السهو فلا سهو على المأموم؛ لأنه إنما وجب الأداء على المقتدي بحكم التبعية، فلا يمكنه الأداء منفردًا.

.نوع آخر فيمن صلى الظهر خمسًا وفيه السهو عن القعدة:

رجل صلى الظهر خمسًا وقعد في الرابعة قدر التشهد يضيف إليها ركعة أخرى، ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهود، ويتشهد ويسلم ثانيًا، لم يرد محمد رحمه الله بقوله؛ صلى الظهر خمسًا الظهر على وجه الحقيقة لأن الظهر لا يكون خمسًا وإنما أراد به المجاز كما يقال؛ صلى فلان بغير طهارة؛ لأن الظهر لا يكون خمسًا، والصلاة بغير (طهارة) لا تكون صلاة على الحقيقة، وإنما يراد به المجاز، وإنما وضع محمد رحمه الله المسألة في الظهر وإن كان الجواب لا يختلف بين الظهر والعصر والعشاء؛ لأن هذه واقعة رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم هذه المسألة على وجهين:
إما إن قعد في الرابعة قدر التشهد أو لم يفعل، وبدأ محمد رحمه الله بما إذا قعد قدر التشهد في الرابعة، ثم قام إلى الخامسة وإنه على وجهين:
إن تذكر قبل أن يقيد الخامسة بالسجدة أنها الخامسة عاد إلى القعدة وسلم ليكون خروجه من الفرض بالسلام، فإصابة لفظ السلام عندنا واجب لم يكن فرضًا ولا يسلم قائمًا كما هو؛ لأن السلام حالة القيام في الصلاة المطلقة غير مشروع، وبعد ذلك، أو سلم لا تفسد صلاته، وإن تذكر بعدما قيد الخامسة بالسجدة لا يعود إلى القعدة، ولا يسلم بل يضيف إليها ركعة أخرى بخلاف ما إذا لم يقيد الخامسة بالسجدة حيث يعود إلى القعدة؛ لأن ما دون الركعة ليس له حكم الصلاة، فلم يستحكم خروجه من الفرض فيعود إلى القعدة ليكون الخروح عن القعدة بالسلام، فأما الركعة فهي صلاة حقيقة وحكمًا فيستحكم خروجه عن الفريضة بها، فلا يعود إلى القعدة، ألا ترى أن المسبوق إذا قام إلى قضاء ما سبق، ثم عاد الإمام إلى سجود السهو قبل أن يعيد المسبوق الركعة بالسجدة تابع الإمام فيها.
وإن عاد الإمام إليها بعد ما قيد المسبوق الركعة بالسجدة لا يتابعه فيها، وإنما يضيفه إلى الخامسة ركعة أخرى، لأنها نفل فيضيف إليها ركعة أخرى حتى يصير شفعًا، فإن النفل شرع شفعًا لا وترًا ثم لا يحكم بفساد الفرض.
وإن انتقل من الفرض إلى النفل؛ لأنه انتقل بعد تمام الفرض؛ لأن تمام الفرض بأداء أركانها، ومن أدى جميع الأركان إنما بقي إضافة لفظ السلام، وإنها عندنا واجب وليس بركن، وترك الواجب لا يفسد الصلاة.
وقد صح عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله عليه السلام قال له: «إذا رفعت رأسك من السجدة الأخيرة، وقعدت قدر التشهد فقد تمت صلاتك» ثم إن محمدًا رحمه الله ذكر في (الجامع الصغير): أنها تضاف إليها ركعة أخرى ولم يذكر أنه على معنى التخيير أو على معنى الاستحباب أو على معنى الإيجاب، وفي (الأصل): ما يدل على الوجوب، فإنه قال في.....: عليه أن يضيف، وكلمة على للإيجاب، وإذا أضاف إليها ركعة أخرى يتشهد ويسلم، ويسجد سجدتي السهو ثم يتشهد ويسلم، وإنما وجب سجدتا السهو، لأنه ترك لفظة السلام وإصابة لفظ السلام عندنا واجب حتى إذا شك في صلاته، فسلم يدر أصلى ثلاثًا أو أربعًا، فشغله تفكره حتى آخر السلام لزمه سجود السهو، والضمان إنما يجب بتأخر الواجب، فقد ترك واجبًا من واجبات الصلاة، فيلزمه سجود السهو، هذا جواب الاستحسان، والقياس أن لا يلزمه سجود السهو.
وجه القياس: أن هذا سهو وقع في الفرض وقد انتقل منه إلى النفل، ومن سها في صلاة لا يجب عليه أن يسجد في صلاة أخرى.
وجه الاستحسان: أنه انتقل إلى النفل إلى الفرض؛ إلا أن النفل بناءً على التحريمة الأولى، فيجعل في حق وجوب السهو كأنها صلاة واحدة، هذا كما صلى ست ركعات تطوعًا بتسليمة واحدة فقد سها في الشفع الأول، فسجد للسهو في آخر الصلاة، وإن كان كل شفع في التطوع كصلاة على حدة لهذا إن الشفع الثاني والثالث كله بناءً على التحريمة الأولى، فيجعل في حق السهو كأنه صلاة واحدة كذلك في هذا قالوا.
وهذا القياس والاستحسان بناءً على مسألة أخرى، وهو أن المسبوق إذا انتقل بقضاء ما فاته ولم يتابع الإمام في سجود السهو، هل يسجد في آخر الصلاة أو لا يسجد؟ ولأن السهو وقع في صلاة الإمام وهو انتقل إلى صلاة أخرى.
وفي الاستحسان: يجب، لأن صلاته بناءً على صلاة الإمام، فيجعل كأنها صلاة واحدة في حق وجوب السهو، كذلك في هذا قبل هذا القياس، والاستحسان على قول محمد رحمه الله؛ لأن عنده سجود السهو في هذه المسألة وجب لنقصان تمكن في الفرض بترك السلام.
وجه القياس: أن السهو في صلاة والسجدة في صلاة أخرى، أما على قول أبي يوسف رحمه الله: سجود السهو في هذه المسألة إنما تجب لنقصان تمكن في النفل حيث شرع فيها من غير تحريمة مبتدأة، والشرع جعل الشروع في الصلاة بالتحريمة، فيكون السهو والسجدة في صلاة واحدة، فتجب السجدة قياسًا واستحسانًا، ثم إذا أضاف إليها ركعة أخرى فيها، فهاتان الركعتان هل تنوبان عن التطوع المسنون بعد الظهر؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في (الأصل)، وقد اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: ينوبان، قيل: هذا قولهما، وبعضهم قالوا؛ لا ينوبان، وقيل: هذا قول أبي حنيفة رحمه الله: وهو الصحيح.
واختلفت عبارة المشايخ في تخريج المسألة على مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه، بعضهم قالوا: لأن المشروع صلاة كاملة على صفة السنّة، فلا تتأدى بالناقص، وفي هذا نقصان؛ لأنه شرع فيها من غير تحريمة مقصودة، وقال بعضهم: لأن السنّة عبارة عن طريقة الرسول صلى الله عليه وسلّم ولا يظن برسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه يصلي بركعتين من غير قصد و...... إنه لم يضف إلى الخامسة ركعة أخرى وأفسدها فليس عليه قضاء شيء عندنا، خلافًا لزفر رحمه الله بناءً على أن من شرع في التطوع على ظن الفرض ثم تبين أنه لم يكن عليه شيء يبقى في نفل غير لازم عندنا.
وعند زفر رحمة الله عليه: يبقى في نفل لازم، وكذلك في الصوم، وأجمعوا على أنه لو شرع في الحج على ظن أنه عليه، ثم تبين أنه ليس عليه يبقى في إحرام لازم.
وكذلك من تصدق على فقير على ظن أنه عليه الزكاة ثم تبين أنه لم يكن عليه شيء تبقى الصدقة ماضية بصفة اللزوم لا يتمكن من استردادها بحال، المسألة معروفة في المختلف.
قال: جاء إنسان واقتدى به في هاتين الركعتين وجب عليه أن يصلي ست ركعات عند محمد رحمه الله، وعند أبي يوسف يجب عليه ركعتان بناءً على أن إحرام الفرض انقطع عند أبي يوسف لما انتقل إلى النفل؛ إذ لا يتصور كونه في أخراهن، فمن ضرورة انتقاله إلى النفل انقطاع الفرض.
وعند محمد رحمه الله: إحرام الظهر باقٍ؛ لأن إحرام الفرض كان مشتملًا على أصل الصلاة، ووصف الفريضة والانتقال إلى النفل موجب انقطاع الوصف دون الأصل، وقول محمد رحمه الله أقيس، فإن كان المبتدي قضاء ركعتين ذكر الاختلاف في (النوادر) محمدٌ رحمه الله كما لا قضاء على الإمام لو أفسدها.
وعند أبي يوسف رحمه الله: يجب على المقتدي قضاء ركعتين، ذكر الاختلاف في (النوادر) محمد رحمه الله: يقول: هذه الصلاة غير مضمونة على الإمام، فلا يكون مضمونة على المقتدي، لأن المقتدي مع الإمام، والتبع لا يخالف الأصل، ولأنها لو كانت مضمونة على المقتدي وحتى غير مضمونة على الإمام يكون هذا مفترضًا خلف المتنفل، وذا لا يجوز.
ولأبي يوسف رحمه الله: أن النفل مضمون الأصل؛ لأنه قربة يجب صيانتها عن الإبطال، وإنما سقط الضمان على الإمام بعارض يخصه، وهو أنه شرع فيه على عزم الإسقاط لا على عزم التطوع، هذا المعنى يحصل بسقط بإسقاط الضمان على الإمام، فبقي مضمونًا على الإمام في حق المقتدي، وكل جواب عرف في الظهر فهو الجواب في العشاء؛ لأن المعنى لا يتفات، ولم يذكر محمد رحمه الله العصر في (الأصل) وقد اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: يقطع، ولا يضيف إلى لخامسة ركعة أخرى؛ لأن التنفل بعد العصر مكروه، وإلى هذا أشار محمد رحمة الله عليه (زيادات الزيادات)، فإنه قال: فيمن شرع في العصر على ظن أنه عليه ثم تبين أنه أداها قال: يقطعها، وبعضهم قالوا: يضيف إليها ركعة أخرى، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وهشام عن محمد رحمهم الله؛ لأن المكروه يقتدي بالتطوع إما أن يصير ساهيًا فيه فلا.
ألا ترى أن من صلى العصر ثم وجد جماعة يصلون العصر فشرع معهم وقد كان يسيء صلاة نفسه، ثم تذكر أنه قد صلاها فإنه يمضي فيها، ولا يقطع كذا ها هنا.
ونظير هذا ما قلنا: إن التطوع يوم الجمعة بعد خروج الإمام مكروه.
ثم لو افتتح رجل التطوع قبل خروج الإمام بعدما صلى ركعة لا يقطعها بل يتمها ركعتين أو أربعًا على حسب ما اختلفوا؛ لأن المكروه أن يبتدئ بالتطوع قبل خروج الإمام إما أن يصير شارعًا فيه فلا، هذا إذا قعد في الرابعة قدر التشهد ثم قام إلى الخامسة ساهيًا، أما إذا لم يفعل على رأس الرابعة حتى قام إلى الخامسة ساهيًا إن تذكر قبل أن يقيد الخامسة بالسجدة عاد إلى القعدة؛ لأن في الفصل الأول يوفر بالعود لإصابة لفظة السلام مع أن للصلاة جوازًا بدونها، فلأن يؤمر ها هنا بالعود ولا جواز للصلاة بدون الفعل كان أولى، وإن قيد الخامسة بالسجدة فسد ظهره عندنا، خلافًا للشافعي رحمه الله بناء على أن عنده الركعة وما دونها في احتمال الرفض سواء، وعندنا دون الركعة يحتمل الرفض، والركعة لا تحتمل الرفض.
ووجه الفساد عندنا: أنه ترك العودة الأخيرة والعودة الأخيرة فرض، فقد ترك فرضًا من فرائض صلاته، فيفسد فرضه هذا.
ثم اختلف أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: فيما بينهما في وقت فساد ظهره، قال أبي يوسف رحمه الله: لا تفسد صلاته حتى يرفع رأسه من السجود، ففرض السجود عند أبي يوسف رحمه الله يتأدى بوضع الرأس، وعند محمد رحمه الله: بالوضع والرفع.
وفائدة الاختلاف تظهر فيما إذا أحدث في هذه السجدة عند أبي يوسف رحمة الله عليه: لا يمكنه إصلاحها، وعند محمد رحمه الله: يمكن إصلاحها، فيذهب ويتوضأ.
وجه قول أبي يوسف: أن السجدة هو الإنحناء والانخفاض، وذلك، يحصل بمجرد الوضع.
وجه قول محمد رحمه الله: أن تمام كل شيء بآخره، وآخر السجدة الرفع، ألا ترى أنه لو سجد قبل الإمام ثم أدركه الإمام في آخرها يجزئه، ولو تمت السجدة بوضع الرأس لا يجزئه؛ لأن كل ركن أدي قبل الإمام لا يعتد به.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): عقيب هذه المسألة؛ وأحب إليّ أن يشفع الخامسة بركعة فيضيف إليها ركعة أخرى، ثم يسلم ويستقبل الظهر، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
أما قول محمد رحمه الله: لا يضيف إليها ركعة أخرى بناءً على أن عند أبي حنيفة رحمه الله: أن تطلب صفة الفرضية ها هنا لم تعطل أصل الصلاة، فيضيف إليها ركعة أخرى يصير متنفلًا بست ركعات، وعند محمد رحمة الله عليه: بطل أصل الصلاة ها هنا لأصلين مختلفين:
أحدهما: أن من أصل محمد رحمه الله: أن كل فرض فسد بسبب من الأسباب يبطل التحريمة أصلًا؛ لأن للصلاة جهة واحدة عنده، فإذا فسدت صفة الفريضة بطل أصل الصلاة.
والثاني: أن صلاته لو لم تفسد أصلًا ها هنا تصير تطوعًا، وترك القعدة على رأس الركعتين في التطوع تفسد الصلاة عنده، فإذا لم يقعد على رأس الرابعة تبطل صلاته أصلًا، وإذا بطلت صلاته لا يضيف إلى الخامسة ركعة أخرى.
وعندهما: ترك القعدة على رأس الركعتين في التطوع لا يبطل الصلاة، وإذا بطل صفة الفريضة بسبب من الأسباب لا تبطل؛ لأن الفرضية صفة زائد على أصل الصلاة، فبطلان التحريمة في حق صفة الفريضة لا توجب بطلان التحريمة في حق أصل الصلاة، وإذا تعينت التحريمة في أصل الصلاة عندهما يضيف إليها ركعة حتى يصير متنفلًا بست ركعات؛ لأن النفل شرع شفعًا لا وترًا.
وإذا بقي أصل الصلاة عندهما لو جاء إنسان واقتدى به في هذه الصلاة صح اقتداؤه، فإن قطعها الإمام على نفسه، فلا شيء عليه؛ لأنه شرع في تطوع مظنون لا يوجب اللزوم كما في الصوم.
ولو قطعها المقتدي على نفسه يلزمه قضاء ست ركعات عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمة الله عليهما.
فرق أبو يوسف بين هذا الفصل وبين الفصل الأول، وهو ما إذا قعد قدر التشهد في الرابعة فإن هناك قال يقضي ركعتين، وها هنا قال: يقضي ست ركعات، بعض مشايخنا رحمهم الله لم يشتغلوا بالفرق.
وقالوا: الفرق في غاية الإشكال، وبعضهم اشتغلوا قالوا بأن هناك لما قعد قدر التشهد فقد تم فرضه فيصير شارعًا في النفل، ومن ضرورة شروعه في النفل خروجه عن الفرض، فإذا اقتدى به إنسان قائمًا التزم ركعتين لا غير، فلا يلزمه بالإفساد إلا قضاء ركعتين، وهاهنا لم يتم الفرض حتى يصير شارعًا في النفل ويخرج عن الفرض ضرورة شروعه في النفل بل بترك القعدة بطلت الفرضية أصلًا وانعقد إخراجه في الابتداء لست ركعات، فإذا اقتدى به إنسان قائمًا اقتدى به في تحريمة انعقدت الست، فيصير ملتزمًا الست، فيلزمه بالإفساد قضاء الست.
والجواب هنا في العشاء مثل الجواب في الظهر كما في الفصل الأول، وكذلك الجواب في العصر هنا مثل الجواب في الظهر والعشاء بغير خلاف، وفي الفصل خلاف؛ لأن ها هنا لما بطلت الفرضية صار متنفلًا قبل العصر، والتنفل قبل العصر غير مكروه، وفي الفصل الأول الفرض قد تم فيصير متنفلًا بعد العصر، والتنفل بعد العصر مكروه، باقي الخلاف على نحو ما بينا، ولو كان هذا في صلاة الفجر، فإن قام إلى الثالثة وقيدها بالسجدة إن كان قعد على رأس الثانية قدر التشهد فقد تمت صلاة الفجر فيقطع صلاته، ولا يضيف إلى الثالثة ركعة أخرى عند بعض المشايخ، وهو رواية هشام عن محمد، ورواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهم الله ولا يضيف إليها ركعة عند بعض المشايخ؛ لأنه يصير متنفلًا قبل الفجر، والتنفل قبل الفجر مكروه كالتنفل بعد الفجر عند بعض المشايخ، وهو رواية هشام عن محمد رحمة الله عليهما، ورواية الحسن عن أبي (حنيفة) رحمة الله عليهما: لا يقطع، ويضيف إليه ركعة أخرى؛ لأنه وقع في النفل؛ لأنه قصد.
ثم إن محمدًا رحمة الله عليه في هذه المسائل: إذا قعد قدر التشهد ولم يبين مقدار التشهد، وقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: هو مقدر بالشهادتين، وقال بعضهم: هو مقدر بالتشهد إلى آخره، وهو الأظهر والأصوب.

.نوع آخر في الرجل يسلِّم وعليه سجود السهو، فجاء رجل واقتدى به:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): عن أبي حنيفة رحمه الله في رجل يسلم وعليه سجدتا السهو ورجل وصل في صلاته بعد التسليم فإن سجد الإمام كان داخلًا وإلا لم يكن، وقال محمد رحمه الله: هو داخل سجد الإمام أو لم يسجد، وأصله أن سلام من عليه السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة أصلًا عند محمد رحمه الله، وعندهما يخرجه خروجًا موقوفًا إن عاد إلى سجود السهو ينبئ أنه لم يخرجه، وإن لم يعد ينبئ أنه أخرجه، ويتولد من هذا الأصل ثلاث مسائل:
إحداهما: مسألة (الكتاب): فإن عند محمد رحمه الله صح الاقتداء على سبيل النيات، وعندهما وُقِف.
والثانية: إذا ضحك قهقهة في هذه الحالة عند محمد رحمه الله: عليه الوضوء لصلاة أخرى خلافًا لهما.
الثالثة: إذا نوى المسافر الإقامة في هذه الحالة تحول فريضته أربعًا عند محمد خلافًا لهما.
محمد رحمه الله يقول: المقصود من سجود السهو جبر نقصان تمكن في الصلاة، وإنما ينجبر النقصان المتمكن في الصلاة بسجود السهو إذا كان حرمة الصلاة قائمة؛ لأن القائم يجبر، أما المقضي؛ فلا يمكن جبره فيتأخر حكم السلام إلى سجود السهو، وأحكام الأسباب قد تتراضى عنها الحاجة.
ولهما: أن هذا سلام عامد، فيوجب خروجه عن حرمة الصلاة؛ وهذا لأن السلام محلل شرعًا، قال عليه السلام: «وتحليلها السلام» والمحلل من وجه يجب أن يقيد حكمه بالحاجة، وهو التحلل لو لم يعمل؛ إنما لا يعمل لحاجته إلى أداء سجود السهو، والثابت بالحاجة يقدر بقدر الحاجة، فإن عاد إلى سجدتي السهو جاءت الحاجة، فتعتبر الحرمة باقية وإن لم يعد إلى سجدتي السهو لم توجد الحاجة، فيعمل المحلل عمله من حيث وجوده، ثم إذا سجد الإمام حتى صار الرجل داخلًا في صلاته بالإجماع سجد هذا الرجل معه؛ لأن المسبوق يتابع الإمام فيما يدركه فيه، فإن سجد مع الإمام ثم قام يقضي لم يكن عليه أن يعيد السهو وإن كان ذلك السهو وسط الصلاة، ومحله آخر الصلاة؛ لأن هذا آخر صلاته حكمًا، فإنه آخر صلاة الإمام حقيقة، فتكون آخر صلاته كأنما تحقق للمتابعة، فإن سها الرجل فيما يقضي فعليه أن يسجد السهو وسجوده الأول مع الإمام لا يجزئه عن سهوه؛ لأن المسبوق فيما يقضي منفرد، والسجود مع الإمام لا يقع عن السهو في صلاته.

.نوع آخر في بيان ما يمنع الإتيان بسجود السهو:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): وإذا سلم يريد به قطع الصلاة، وعليه سجود السهو فعليه أن يسجد السهو، وبطلت من القطع عندهم جميعًا، أما عند محمد رحمه الله؛ فلأن هذا لم يشرع محللًا للحال، فلا يصير محللًا لقصده؛ إذ ليس للعبد تغيير المشروع.
وعندهما: هذا السلام اعتبر محللًا على سبيل التوقف، فمتى قصد أن يجعلها محللًا على سبيل الثبات، فقد قصد تغيير الشروع، فيرد عليه قصده.
فقد ذكر في (الجامع الصغير): مطلقًا أنه يسجد للسهو، وذكر هذه المسألة في (الأصل)، وشَرَطَ لأداء الصحة شرطًا زائدًا، فقال: إذا سلم وهو لا يريد أن يسجد لسهوه لم يكن تسليمه ذلك قطعًا، حتى لو بدا أن يسجد له وهو في مجلسه قبل أن يقوم وقبل أن يتكلم، فإنه يسجد سجدتي السهو، فقد شرط لأداء سجدتي السهو شرطًا زائدًا، وهو أن لا يتكلم، ولا يقوم عن مجلسه ذلك، فهذا إشارة إلى أنه متى قام عن مجلسه واستدبر القبلة أنه لا يأتي بسجدتي السهو، وإن كان لم يخرج عن المسجد.
وذكر في (الأصل): بعد هذه المسألة بمسائل أنه يأتي بهما قبل أن يتكلم ويخرج من المسجد وإن مشى وانحرف عن القبلة، وبه قال بعض المشايخ.
وأشار محمد رحمه الله في مسألة أخرى إلى ما يدل على هذا، فإنه قال: إذا سلم الرجل عن يمينه وسها عن التسليمة الأخرى، فما دام في المسجد يأتي بالأخرى وإن استدبر القبلة، وعامة المشايخ على أنه لا يأتي بها متى استدبر القبلة؛ لأنه انحرف عن القبلة من غير عذر، ومثل هذا الانحراف يخرجه عن حرمة الصلاة.
كما لو انحرف عن القبلة على ظن أنه لم يمسح رأسه، ثم تذكر أنه كان قد مسح رأسه وهو في المسجد بعد، فإنه يستقبل الصلاة، وإن تكلم أو خرج من المسجد لا يأتي بهما؛ لأنه خرج عن حرمة الصلاة على الثبات وبقاء حرمة الصلاة شرط لأدائهما، ولا تفسد صلاته؛ لأن سجود السهو ليس بركن، بل هو واجبة، وترك الواجب لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان في مكانه ذلك فبدا له أن يسجد وفي القوم من تكلم أو خرج من المسجد ومنهم من لم يتكلم ولم يخرج من المسجد فعلى من لم يتكلم أن يتابعه فيهما، ولا شيء على من تكلم؛ لأن الذي تكلم أو خرج من المسجد خرج عن حرمة الصلاة بعد أداء أركانها والفراغ منها، فلا شيء عليه، والذي لم يتكلم وهو في مكانه بعد لم يخرج عن حرمة الصلاة، فيلزمه المتابعة، فإن كان من نيته حتى سلم أن يسجد السهو فلم يسجد حتى تكلم أو خرح من المسجد فقد قطع صلاته، فلا شيء عليه، وإن لم يتكلم ولم يخرج من المسجد وكان في مجلسه ذلك حتى تذكر عليه أن السهو، فإنه يسجدهما.

.نوع آخر في سلام السهو:

إذا سلم في الظهر على رأس الركعتين ساهيًا مضى على صلاته؛ لأن هذا سلام السهو، وسلام السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة، ويسجد للسهو؛ لأنه أخر ركنًا من أركان الصلاة عن وقته، وقوله مضى على صلاته استحسان.
والقياس وهو: أن سلام الساهي ككلامه، ولو تكلم ساهيًا فسدت صلاته، فكذلك إذا سلم ناسيًا يدل عليه أن سلام العامد جعل ككلامه وإن وجد في غير موضع السلام فكذلك سلام الناسي وجب أن يجعل ككلامه.
وجه الاستحسان وهو: أن النبي عليه السلام سلم على رأس الركعتين من الظهر ساهيًا ثم قام فأتم صلاته، ولأن السلام ليس بكلام محض، وإنما هو كلام يشبه معنى الذكر، وإنه ما يجزئ في السجدة، ولو كان كلامًا محضًا لم يصلح في الصلاة، فثبت أنه يشبه الذكر من وجه، ويشبه الكلام من وجه، فيعطى له حظًا منهما، ففي حالة النسيان عيّنّا جهة الذكر ولم تفسد صلاته، وفي حالة العمد عيّنّا جهة الكلام وأفسدنا صلاته، ويجوز أن يكون الكلام واحدًا ويختلف الحكم بالقصد.
ألا ترى أن الجنب إذا قال: الحمد لله رب العالمين، وأراد به الشكر جاز له ذلك من غير كراهة، وإن أراد به تلاوة القرآن كره له ذلك، فاختلف الجواب لاختلاف القصد وإن كان الكلام واحدًا كذا ها هنا.
ثم السهو عن التسليمة؛ لا يخلو التسليم عن أحد الوجهين:
إما إن وقع في أصل الصلاة أو في وصفها، إن وقع في أصل الصلاة يوجب فساد الصلاة، وإن وقع في وصف الصلاة لا يوجب فساد الصلاة.
بيان الأول: إذا سلم في الركعتين على ظن أنه في صلاة الفجر أو في الجمعة أو في السفر، فإنه تفسد صلاته؛ لأن في زعمه أن عليه التسليم على رأس الركعتين، وهذا رأس الركعتين، فهذا في التسليم وقع في أصل الصلاة، وكان هذا سلام عمد في أصل وسط الصلاة، فيوجب فساد الصلاة ولا يوجب سجود السهو.
وبيان الثاني: إذا سلم على رأس الركعتين على ظن أنها رابعة لا تفسد صلاته؛ لأن في زعمه أن الواجب عليه التسليم على رأس الرابعة، وفي زعمه أنه أتمها أربعًا، فإذا ظهر أنه لم يتم لكون هذا سهوًا وقع في وصف الصلاة، لأن تمام الشيء وصفه، وكان هذا سلام الساهي فلا تفسد صلاته، فعليه أن يقوم ويصلي ركعتين ويسجد سجدتي السهو؛ لأنه آخر ركنه.
ومما يتصل بهذا الفصل:
قال محمد رحمه الله في (الأصل): إذا سلم ساهيًا وعليه سجدة، فهذه المسألة لا تخلو إما أن يكون عليه سجدة تلاوة أو سجدة صلبية أو سجدة سهو، وأيًا ما كان، فإنه يأتي بها؛ لأنه في حرمة الصلاة بعد؛ لأن سلام الساهي لا يجزئه عن حرمة الصلاة، وإذا لم يخرجه عن حرمة الصلاة صار وجود هذا السلام والعدم بمنزلة، ولو لم يوجد السلام أليس إنه يأتي بها، كذا ها هنا، وإذا أتى بها بعد ترتفض القعدة، فإن كانت سجدة تلاوة أو سجدة صلبية ترتفض القعدة؛ لأن القعدة شرعت بعدهما والإتيان بهما يوجب في رفض القعدة ضرورة، ثم هذا الإشكال في السجدة الصلبية؛ لأن الصلبية ركن، والقعدة الأخيرة فرض، ورفض السنن قبله جائز كما في الجمعة مع الظهر، فإنه يجوز رفض الظهر بالجمعة؛ لأنه فرض مثل الظهر، وإنما الإشكال في سجدة التلاوة؛ لأن سجدة التلاوة واجبة، والقعدة الأخيرة فرض، ولا يجوز رفض الفرض بالواجب كما لو تذكر القنوت في الركوع، فإنه لا يعود، لأنه متى عاد صار قضاء الركوع بالواجب، فلا يجوز وقد فقد ها هنا وجهه؛ لأن القعدة الأخيرة وإن كانت فرضًا إلا أنه لم يتم ما لم يخرج عن الصلاة؛ لأن القعدة ما شرعت بعينها وإنما شرعت للخروج، فإن الخروج عن الصلاة لا يصح بدون القعدة فما لم يوجد ما هو المقصود من القعدة، فإنها لا تتم، وإذا لم يتم حقيقة جاز رفضها بالتلاوة، لأن رفض الفرض قبل التمام لمكان الواجب جائز، كمن شرع في الظهر، فصلى ركعة أو ركعتين ثم أقيمت الصلاة، فإنه يتركها ويشرع مع الإمام في الجماعة ليدرك فضيلة الجماعة، والجماعة سنّة، فلما جاز رفض الفرض قبل التمام لمكان السنّة، فلما كان الواجب أولى بخلاف ما لو ترك القعدة الأولى ثم تذكر بعدما استتم قائمًا، فإنه لا يعود؛ لأن القيام مشروع نفسه، فإذا وجد أدنى ما يطلق عليه اسم القيام تم الركن في نفسه، فلو عاد إلى القعدة يصير رافضًا للركن بعد التمام لمكان الواجب، وهذا لا يجوز، وكذلك الركوع ركن شرع لعينه فمتى وجد أدنى ما ينطلق عليه اسم الركوع وهو انحناء الظهر تم الركن في نفسه لوجود نفسه.
فلو قلنا: إنه يعود إلى القنوت يصير رافضًا للركوع بعد التمام لمكان الواجب، وإنه لا يجوز، فلا يعد في إحدى الروايتين حتى لو تذكر قبل أن تم انحناء..... بأنه يعود إلى القنوت باتفاق الروايات.
وكذلك إذا تذكر..... قبل أن يستتم قائمًا، فإنه يعود إلى القعدة على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
فإن قيل: هذا يشكل بما لو تذكر السورة في حالة الركوع فإنه يعود إلى السورة ويرتفض الركوع، وقراءة السورة واجبة والركوع ركن، بينا قراءة السورة واجبة قبل أن يقرأها، فأما متى عاد إليها تصير فرضًا كما لو قرأ الفاتحة والسورة قبل أن يركع؛ لأنه ليس أحدهما بأن يجعل فرضًا بأولى من الآخر، فيجعل الكل فرضًا، فإذا عاد إليها يصير فرضًا، فلو ارتفض الركوع إنما يرتفض بفرض مثله، فإنه جائز بخلاف القنوت والقعدة الأولى؛ لأنه وإن عاد إليهما لا يصيران فرضًا بل يكونان واجبًا، فإن قعد لو تذكر سجدة التلاوة في حالة الركوع يعود إليها، وإن صار تاركًا الفرض لمكان الواجب، فإن سجدة التلاوة واجبة، والركوع ركن.
قلنا: يعود إليها، ولكن لا يرتفض الركوع، بل يبقى الركوع معتبرًا بعد العود حتى لو لم يعد الركوع ثانيًا تجزئة صلاته، فدل أنه لا يصير رافضًا الركوع بالعود إلى التلاوة، وإنما يصير تاركًا الفرض، وترك الفرض لمكان الواجب جائز، كما لو قرأ في حالة القيام سجدة التلاوة، فإنه يأتي بها وإن صار تاركًا للفرض كذا هنا.
ورأيت في موضع آخر أن في ارتفاض القعدة بالعودة إلى سجدة التلاوة..... في رواية، وهو اختيار شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: لا ترتفض، وإن كان عليه سجدة سجود فعاد إليها يرتفض السلام ولا ترتفض القعدة؛ لأن محله بعد الفراغ من القعدة والسلام إلا أن ارتفاع السلام به للضرورة حتى يكون مؤديًا في حرمة الصلاة، ولا ضرورة إلى ارتفاع القعدة به، حتى لو تكلم بعد ما سجد قبل أن يقعد فصلاته تامة.
وإذا سها عن قراءة التشهد في القعدة الأخيرة حتى سلم ثم تذكر، فإنه يعود إلى قراءة التشهد؛ لأنه ترك واجبًا وقد أمكنه التدارك؛ لأن سلام السهو لا يخرج عن حرمة الصلاة، فقد أدرك الواجب في محله فيأتي به، وإذا عاد إلى قراءة التشهد هل ترتفض القعدة؟ حتى لو تكلم قبل أن يقعد بعدها هل تفسد صلاته؟
ذكر الشيخ الإمام شيخ الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمهما الله في شرح كتاب الصلاة: أنه ترتفض القعدة كما ترتفض إذا عاد إلى سجدة التلاوة والصلبية، وذكر الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري رحمة الله عليه في (فتاويه): أنه لا ترتفض القعدة، قال إلى أن ترتفض قال: فإن قراءة التشهد واجبة ومحلها قبل الفراغ من القعدة، فالعود إليها يرفع القعدة كما يعود إلى الصلبية، وسجدة التلاوة، ومن قال: فإنه لا ترتفض يقول في سجدة التلاوة والصلبية: إنما ارتفضت القعدة بالعود إليها؛ لأنه عاد إلى بين موضعه قبل القعدة، فيصير رافضًا للقعدة، هذا المعنى لا يتأتّى هنا؛ لأن محل التشهد القعدة فبالعود إليه لا يصير رافضًا للقعدة.
وذكر في (النوادر): أن من نسي التشهد حتى يسلم ثم تذكر، فجعل يقرؤه، فلما قرأه بعضه ندم فسلم قبل تمامه.
قال أبو يوسف رحمه الله: تفسد صلاته؛ لأن القعدة الأولى قد ارتفضت بعوده إلى قراءة التشهد وقد سلم قبل تمام القعدة الثانية، فتفسد صلاته.
وقال محمد رحمه الله: لا تفسد صلاته؛ لأن قدر ما قرأ من التشهد يرتفض من القعدة الأولى فأما ما ورده لا يرتفض، فإنما سلم عن قعود تام فتجزيه صلاته.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ولهذا نظير اختلف فيه المتأخرون، ولا رواية فيه، وهو أنه إذا نسي الفاتحة أو السورة حتى ركع ثم تذكر في ركوعه فانتصب قائمًا ليقرأ ثم ندم قبل القراءة، فسجد ولم يعد للركوع منهم من قال: تفسد صلاته؛ لأنه قد ارتفض ركوعه حتى انتصب ليقرأ، ومنهم من قال: لا تفسد صلاته..... لا يرتفض، لأن عليه فرضي قيام وقراءة، فما لم يأت بهم جميعًا لا ينتقض ركوعه.
قال شمس الأئمة هذا رحمه الله، وذكر في (النوادر) أنه إذا تلا آية السجدة بعدها قدر التشهد فإنه يسجد لها ويعيد القعدة، والقعدة الأولى ترتفض بسجوده، حتى إنه لو سجد لها ولم يعد القعدة فسدت صلاته، لأنه سلم قبل سجدة قال رحمه الله: ومن أصحابنا رحمهم الله من لم يأخذ بهذه الرواية، وقال: ها هنا لا ترتفض القعدة وإنما ترتفض في سجدة سبق القعدة وجوبها، وإذا..... وعليه سجدة فقط قطع صلاته بسلامه، ثم ينظر إن كان المتروك سجدة صلبية فعليه إعادة الصلاة؛ لأنها ركن، وترك الركن يفسد الصلاة..... كان المتروك سجدة تلاوة فليس عليه إعادة الصلاة، وكذلك إذا كان المتروك قراءة التشهد؛ لأن قراءة التشهد واجبة، وترك الواجب لا يوجب..... الفساد.
وفي (الأصل): إذا سلم في الرابعة ساهيًا بعد قعوده مقدار التشهد ولم يقرأ التشهد، فإن عليه أن يعود إلى قراءة التشهد لما مر، ثم يسلم ويسجد للسهو ويتشهد ويسلم، ولو سلم وهو ذاكر أنه قعد قدر التشهد لكنه لم يقرأ التشهد، ثم تذكر أن عليه سجدة التلاوة لا يعود؛ لأنه سلام عمد، وصلاته تامة؛ لأنه لم يترك ركنًا.
وكذلك لو سلم وهو ذاكر أن عليه سجدة التلاوة ثم تذكر أنه لم يتشهد، فإنه لا يعود إلى التشهد ولا يسجد للتلاوة، وصلاته تامة.
وفي (الأصل) أيضًا: وإذا نهض من الركعتين ساهيًا فلم يستتم قائمًا حتى ذكر فقعد فعليه سجود السهو.
معناه: رجل صلى ركعتين من الظهر فقام إلى الثالثة قبل أن يقعد مقدار التشهد، فإنه ينظر إن استتم قائمًا يعني استوى قائمًا ثم تذكر، فإنه يمضي في صلاته ولا يعود إلى القعدة وسجد للسهو، أما لا يعود لأن القيام ركن والقعدة واجبة أو سنّة، وليس من الصواب ترك الركن لأجل الواجب أو السنّة، بخلاف القعدة الأخيرة؛ لأن ذلك فرض ورفض الشيء بمثله جائز.
... سجود السهو؛ لأنه ترك واجبًا من واجبات الصلاة أو سنّة مضافة إلى جميع الصلاة فليزمه سجود السهو، وإن لم يستتم قائمًا فإنه يعود ويسجد للسهو.
وأصل هذا ما روي عن النبي عليه السلام أنه قام من الثانية إلى الثالثة قبل أن يقعد فسبحوا له فعاد، وروي أيضًا لم يعد، ولكن سبح...... فقاموا.
ووجه التوفيق بين الحديثين: أن ما روي أنه عاد كان لم يستتم قائمًا، وما روي أنه لم يعد كان بعدما استتم قائمًا ويسجد للسهو لأنه بالتحريك للقيام غير تسليم الصلاة، فيلزمه سجود السهو.
وذكر أبو يوسف رحمه الله في (الأمالي): أنه إذا تذكر قبل أن يستتم قائمًا إن كان إلى القعود أقرب فإنه يعود ويقعد؛ لأنه كالقاعد من وجه، وإن كان إلى القيام أقرب لا يعود كما لو استتم قائمًا، ولو كان إلى القعود أقرب وعاد وقعد هل يلزمه سجود؟ حكى الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه إذا كان إلى السجود أقرب فكأنه لم يقم، وقال غيره: يلزمه سجود السهو؛ لأنه أخر الواجب عن وقته لما اشتغل بالقيام، فيلزمه سجود السهو، كذا ذكر الشيخ الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله قال شمس الأئمة: ومشايخنا رحمهم الله استحسنوا رواية أبي يوسف.
قال: نسي فاتحة الكتاب في الركعة الأولى أو في الركعة الثانية وقرأ السورة ثم تذكر فإنه يبدأ فيقرأ فاتحة الكتاب ثم يقرأ السورة هكذا ذكر في (الأصل)، وروى الحسن عن أبي يوسف رحمة الله عليهما: أنه يركع ولا يقرأ الفاتحة؛ لأن فيه بعض الفرض بعد التمام لمكان الواجب؛ لأن قراءة السورة وقعت فرضًا، وقراءة الفاتحة واجبة.
وجه ظاهر الرواية: أن باعتبار الحال هذا بعض الفريضة لأجل الفرض، فإذا قرأ الفاتحة تصير جميع القراءة فرضًا وصار كما لو تذكر السورة في الركوع فإنه يرجع إلا أن أبا يوسف رحمه الله: إنما يمنع تلك المسألة على قياس هذه المسألة.
في (المنتقى): إبراهيم عن محمد رحمه الله: رجل تشهد في الركعتين من الظهر ثم تذكر أن عليه سجدة من صلب الصلاة، فسجدها، قال: إن كانت السجدة في الركعة الأولى لم يعد التشهد، وإن كانت من الركعة الثانية أعاد التشهد من أي ركعة كانت السجدة.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف رحمه الله: رجل صلى ركعة ونسي سجدة منها ثم تذكرها وهو ساجد في الثانية قال: إن شاء رفض هذه السجدة التي هو فيها وسجد التي هي عليه ثم عاد إلى ما كان فيها وأربعًا اعتد بها ورفع رأسه منها وسجد التي هي عليه، ثم يمضي في صلاته، ورواه عن أبي حنيفة، وإن ذكر السجدة وهو راكع في الثانية قال أبو يوسف رحمه الله: إن شاء اعتد بها ورفع رأسه منها، ثم سجد التي هي عليه ثم سجد سجدتي الركعة الثانية، وسجد سجدتي من السهو، وإن شاء رفض ركوعه وسجد السجدة التي عليه ثم أعاد القراءة الثانية وركع عليها.
وكذلك إن كانت السجدة التي تركها من الثانية تذكرها وهو راكع في الثالثة فعلى نحو ما بينا في الركعة الثانية، وإن كان رفع رأسه من الركعة الثانية في الفصل الأول أو من الركعة الثالثة في الفصل الثاني ثم تذكر السجدة التي عليه لا ترتفض هذه الركعة؛ لأنها ركعة تامة، وإن لم يكن بعينها سجدة ويسجد التي عليه ثم يسجد لهذه الركعة سجدتين.

.نوع آخر فيمن يصلي التطوع ركعتين ويسهو فيهما ويسجد لسهوه بعد السلام ثم أراد أن يبني عليها ركعتين أخراوين:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): عن أبي حنيفة رحمه الله: في رجل صلى ركعتين تطوعًا وسها فيهما وسجدة لسهوه بعد السلام ثم أراد أن يبني عليهما ركعتين أخراوين: لم يكن له أن يبني، لأنه لو فعله فقد أبطل سجود السهو لوقوعها في وسط الصلاة.
فرق بين هذا وبين المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وسها فيها وسجد بسهوه ثم نوى الإقامة، فإنه ملزم لإتمام صلاته؛ لأن هناك إن حصل سجود السهو في وسط الصلاة ولكن بمعنى شرعي لا يفعل.... باختياره.
وحقيقة الفرق بينهما: أن السلام يحلل في جميع المواضع ثم بالعود إلى سجود السهو يصير عائدًا إلى حرمة الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لضرورة أن يكون سجود السهو مؤديًا إلى حرمة الصلاة، وهذه الضرورة فيما يرجع إلى إكمال تلك الصلاة لا فيما يرجع إلى صلاة أخرى، ونية الإقامة عملها في إكمال تلك الصلاة، فتظهر عود الحرمة في حقها، فأما كل شفع من التطوع صلاة على حدة، فلا يظهر عود الحرمة في حق شفع آخر، فلهذا لا يبني عليهما ركعتين، ولو أنه بنى عليه ركعتين أخراوين جاز، وهل يعيد سجدتي السهو في آخر الصلاة؟
فيه اختلاف المشايخ، والمختار أنه يعيد؛ لأن الشفع الثاني بناءً على التحريمة التي يتمكن فيها السهو فلا يمنعه من أداء سجود السهو.
ومن هذا الجنس:
لو صلى ركعتين تطوعًا فسها فيها، وتشهد ثم قام وصلى ركعتين أخراوين فعليه أن يسجد للسهو في الأولين إذا سلم؛ لأن الشفع الثاني بناءً على التحريمة التي تمكن فيها السهو، فلا يمنعه من أداء سجود السهو.
ومن هذا الجنس:
رجل افتتح التطوع ونوى ركعتين فصلى ركعتين وسها فيها ثم بدا له أن يجعل صلاته أربعًا فزاد عليه ركعتين أخراوين، فإنه يجب عليه سجود السهو في آخر صلاته؛ لأن الشفع الثاني (بناءً) على التحريمة التي تمكن فيها السهو، فلا يمنعه من أداء سجود السهو.

.نوع آخر فيمن يصلي الظهر أو العشاء ويسلم وعليه سجدة صلبية وسجدة سهو وسجدة تلاوة:

رجل صلى العشاء فسها فيها وقرأ سجدة التلاوة فلم يسجدها، وترك سجدة من ركعة ساهيًا ثم سلم، والمسألة على أربعة أوجه.
إما إن كان ناسيًا الكل أو عامدًا للكل أو ناسيًا للتلاوة عامدًا للصلبية أو على العكس.
أما على الوجه الأول: لا تفسد صلاته بالاتفاق؛ لأن هذا سلام السهو وسلام السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة على ما ذكرنا.
وفي الوجه الثاني والثالث: تفسد صلاته بالاتفاق لما ذكرنا أن سلام العمد يخرجه عن حرمة الصلاة.
وفي الوجه الرابع، فكذلك في ظاهر الرواية؛ تفسد صلاته، وروى أصحاب (الإملاء) عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا تفسد صلاته.
ووجه ذلك الرواية: أن سجد التلاوة من الواجبات لا من الأركان فسلامه فيما هو ركن سلام سهو وذلك لا يفسد الصلاة.
ووجه ظاهر الرواية وهو: أنه سلم وهو ذاكر لواجب يؤدى قبل السلام وكان سلامه قطعًا لصلاته، وإنما قطعها قبل إتمام أركانها، ولأنا لو لم نفسد صلاته حتى يأتي بالصليبية...... أن يقول يأتي بسجدة التلاوة بعد السلام عامدًا أيضًا، لبقاء التحريمة، ولا وجه إلى ذلك، فقد سلم وهو ذاكر للتلاوة وكان قطعًا في حقه.
قال شمس الأئمة رحمه الله: وصاحب (الكتاب) ذكر في (شرحه) معنىً آخر فقال: لأن التلاوة وإن لم تكن فرضًا ولكن العود إليها يوجب القعدة لما ذكر من أن العود إلى سجدة التلاوة يرفض القعدة، وتلك القعدة فرض، فإذا كان يعقب فرضًا ويؤدي إليه استوى الصلبية فصار كأنه ترك ركعتين وسلم وهو ذاكر لأحدهما ناس للآخر، وهناك صلاته فاسدة فكذلك هنا.

.نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات:

رجل يصلي المغرب فيجيء رجل ويقتدي به يصلي المغرب تطوعًا، فقام الإمام إلى الرابعة ناسيًا ولم يقعد على رأس الثالثة وقيد الرابعة بالسجدة وتابعه المقتدي في ذلك، قال: فسدت صلاة الإمام فرضًا لا نفلًا عند أبي حنيفة رحمه الله وأبي يوسف رحمه الله. ولا يقال على هذا بأن صلاة الإمام انقلبت نفلًا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله: فينبغي أن لا تفسد صلاة المقتدي؛ لأنا نقول: صلاة الإمام وإن صارت نفلًا إلا أنها كانت فرضًا، فصار في الحكم منتقلًا من تحريمة الفرض إلى تحريمة النفل، وصار كأنه صلى صلاتين بتحريمتين، وصار المقتدي كأنه صلى صلاته واحدة...... فلا يجوز.
ومن عليه سجود السهو في صلاة الفجر إذا لم يسجد حتى طلعت الشمس وكان ذلك بعد السلام لم يسجد، وكذلك إذا كان في قضاء الفائتة فلم يسجد حتى احمرت الشمس لم يسجد؛ لأنها تجب لجبر نقصان مجزى حتى يجزئ القضاء؛ لأن الإكمال عليه، والقضاء لا يصح في هذا الوقت.
ومن سلم عن يساره قبل سلامه عن يمينه فلا سهو عليه، ومن سلم وعليه سهو فبعدما يقطع الصلاة لم يسجد؛ لأن الحادث منعه عن العود إلى التحريمة، فلا يمكنه إلا ذا وقد صحت صلاته؛ لأن ترك سجود السهو لا يوجب فساد الصلاة.
وإذا سها في الجمعة وخرج الوقت بعدما سلم قبل أن يسجد للسهو سقط عنه السجود وإذا ترك الصلاة ترك العشاء وقضاها نهارًا وأمّ وخافت ساهيًا بالليل ناسيًا وقضاها في النهار وأم فيها وخافت ساهيًا، كان عليه السهو، وينبغي أن يجهر ليكون القضاء على وفق الأداء. وإن أم ليلًا في صلاة النهار يخافت ولا يجهر، وإن جهر ساهيًا كان عليه السهو، ولو أم في التطوع في الليل وخافت متعمدًا فقد أساء، وإن كان ساهيًا فعليه السهو إذا سبقه الحدث بعدما سلم قبل أن يسجد للسهو وقبل ما سجد سجدة واحدة للسهو توضأ وعاد وأتم الصلاة؛ لأن حرمة الصلاة ناهية، وسبق الحدث لا يمنع البناء بعد الوضوء.
وإذا أحدث الإمام وقد سها فاستخلف رجلًا، سجد خليفته للسهو بعد السلام؛ لقيامه مقام الأول، وإن سها خليفته فيما يتم أيضًا كفاه سجدتان لسهوه ولسهوه الأول، كما لو سها الأول مرتين، وإن لم يكن الأول سها وإنما سها خليفته؛ لأن الأول صار مقتديًا بالباقي كغيره من القوم، فيلزمه سجدتا السهو لسهو إمامه.
ألا ترى أنه لو أفسد الصلاة على نفسه فسدت صلاة الأول، فكذا السهو الثاني، فتمكن النقصان في صلاة الأول ولو سها الأول بعد الاستخلاف لا يوجب سهوه شيئًا؛ لأنه مقتدٍ بالثاني.
وإذا سلم المسبوق حتى سلم الإمام ساهيًا بنى على صلاته، وعليه سجود السهو، أما البناء؛ فلأن هذا سلام سهو، وإنه لا يخرجه عن حرمة الصلاة، وأما وجوب سجدة السهو فلأنه متى سلم الإمام صار هو كالمنفرد وقد سها حتى سلم قبل هذا فتلزمه سجدة السهو قبل هذا إذا سلم بعد الإمام، فأما إذا سلم مع الإمام فلا سهو عليه؛ لأن الإمام لم يخرج عن الصلاة بعد، فكان كأنه سها خلف الإمام.
إذا لم يرفع المصلي رأسه من الركوع حتى خر ساجدًا ساهيًا جازت صلاته في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعليه السهو.
المصلي إذا نسي سجدة التلاوة في موضعها ثم ذكرها في الركوع أو في السجود أو في القعود، فإنه يخر لها ساجدًا ثم يعود إلى ما كان، يعيده استحسانًا، وإن لم يعد جازت صلاته، وإن أخرها إلى آخر صلاته أجزأه؛ لأن الصلاة واحدة، وإن كان إمام فصلى ركعة وترك فيها سجدة، وصلى ركعة أخرى وسجد لها وتذكر المتروكة في السجود، فإنه يرفع رأسه في السجود ويسجد المتروكة ثم يسجد ما كان فيها؛ لأنها ارتفضت فيعيدها استحسانًا، فأما ما قبل ذلك إلى المتروكة.... وبعض إن كان ما تخلل بين المتروكة وبين الذي تذكر فيه ركعة تامة لا يرتفض باتفاق الروايات، فلا يلزمه إعادة ذلك، وإن لم يكن ركعة تامة فكذلك في ظاهر الرواية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه يرتفض.
إذا سلم الإمام وعليه سجدة التلاوة فتذكر من مكانه بعدما تفرق القوم فإنه يسجد للتلاوة ويقعد قدر التشهد، فإن سجد للتلاوة ولم يقعد فسدت صلاته لارتفاض القعدة أيضًا باتفاق الروايات. وفي رواية على ما مر، ولا تفسد صلاة....... لانقطاع المتابعة يصلي الأربع إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الثالثة وتذكر أنه لم يسجد في الثانية إلا سجدة واحدة فإنه يسجد تلك السجدة ثم يتشهد..... ثم يسجد الثالثة سجدتين ثم يتم صلاته؛ لأن عوده إلى السجدة المتروكة لا يرتفض الركوع بعد تمامه، وهذا إنما يستقيم على ظاهر الرواية على ما ذكرنا في المسألة المتقدمة، ويلزمه السهو؛ لأنه أخر السجدة في الركعة الثانية عن محلها.
وإن تذكر وهو راكع في الثالثة أنه ترك من الثانية سجدة، فإنه يسجد السجدة المتروكة ويتشهد ثم يقوم ويصلي الثالثة والرابعة بركوعهما وسجودهما؛ لأن الركوع والسجود قبل التمام قابل للرفض، فإذا.... من الركوع من الركعة الثالثة أن عليه سجدة الركعة الثانية وعاد إليها فقد ارتفض هذا الركوع، فيجب إعادته بخلاف ما بعد رفع الرأس من الركوع؛ لأن الركوع قد تم بعد رفع الرأس منه، والركوع بعد التمام ليس بقابل للرفض على ظاهر الرواية.

.الفصل الثامن عشر في مسائل الشك، وفي الاختلاف الواقع بين الإمام والقوم في مقدار المؤدى:

قال محمد رحمة الله عليه في (الأصل): إذا سها ولم يدر ثلاثًا صلى أو أربعًا، وذلك أول ما سها استقبل الصلاة، قال عليه السلام: «من شك في صلاته فلم يدر أثلاثًا أو أربعًا فليستقبل»، ولأن الاستقبال لا يريبه، والمضي بعد الشك يريبه، وقال عليه السلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، ولأنه قادر على إسقاط ما عليه من الفرض بيقين من غير شك فيلزمه ذلك قياسًا على ما لو شك في أصل الصلاة أنه صلى أو لم يصلِ وهو في الوقت لزمه أن يصلي، وقياسًا على ما لو ترك صلاة واحدة في يوم وليلة ولا يدري أيّة صلاة..... يصلي خمس صلوات حتى يخرج عما عليه بيقين، وكذلك ها هنا.
وإن بقي ذلك غير مرة تجزئ الصلاة وليتم الصلاة على ذلك، لحديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من شك في صلاته فليتحرّ الصواب»، ولأنا لو أمرناه بالاستقبال يقع له الشك ثانيًا وثالثًا إذا صار ذلك عادة له، فتعذر عليه المضي في الصلاة، فلهذا يجزئ، فإن وقع تحريه على شيء أخذ به، وإن لم يقع تحريه على شيء أخذ بالأول؛ لحديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «من شك في صلاته فليأخذ بالأول»، ولأن الأداء واجب عليه بيقين، فلا يترك هذا اليقين إلا بيقين مثله، وذلك في الأقل، إلا أن في كل موضع فتوهم أنه أخر صلاته يقعد لا محالة؛ لأن القعدة الأخيرة فرض، والاشتغال بالنفل قبل إكمال الفرض يفسد الصلاة.
ثم اختلف المشايخ في معنى قوله: أول ما سها، قال بعضهم: معناه: أنه أول سهو وقع له في عمره ولم يكن سها في صلاته قط من حيث بلغ فها هنا استقبل الصلاة، فأما إذا وقع له ذلك في شيء من الصلوات فإنه يتحرى. وقال بعضهم: معناه أنه أول سهو وقع له في تلك الصلاة، فإن ها هنا يستقبل، وإن وقع ذلك مرة أو مرتين يتحرى ويبني على الأول. والأول أشبه.
ثم الشك لا يخلو إما إن وقع في ذوات المثنى كالفجر أو في ذوات الأربع كالظهر والعصر، أو في ذوات الثلاث كالمغرب، وإن وقع الشك في صلاة الفجر فلم يدر أنها الركعة الأولى أم الثانية وهو قائم يتحرى في ذلك بأن وقع تحريه على شيء عمل به، وإن لم يقع تحريه على شيء وهو قائم يبني على الأول ويجعلها أولى، يتم تلك الركعة، ثم يقعد لجواز أنها ثانية، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد لجواز أن ما صلى كان أولى وهذه ثانيته ثم يسلم لأنها ثانيته حكمًا، وإن شك في الفجر أنها ثانية أو ثالثة عمل بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع تحريه على شيء وإن كان قائمًا، فإنه يقعد في الحال ولا يركع؛ لجواز أنها ثالثته.
فلو قلنا: إنه يمضي ولا يقعد فقد ترك القعدة على رأس الركعتين فتفسد صلاته، فلهذا قال: لا يمضي ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى يقعد لجواز أن القيام الذي رفضها بالقعود ثانيته وقد ترك ذلك، فعليه أن يصلي ركعة أخرى حتى يتم صلاته، وإن كان قاعدًا والمسألة بحالها، فإنه يتحرى في ذلك إن وقع تحريه أنها ثانيته مضت صلاته على الصحيح.
وإن وقع تحريه أنها ثالثته يتحرى في القعدة إن وقع تحريه أنه قعد على رأس الركعتين يمضي على صلاته على الوجه الذي عرف.
وإن وقع تحريه أنه لم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته؛ لأن القعدة على رأس الركعتين فرض وقد ترك ذلك، وترك الفرض يوجب فساد الصلاة، وإن لم يقع يجزيه..... فسدت أيضًا؛ لأنه يحتمل أنه قعد على رأس الركعتين فصحت صلاته، ويحتمل أنه لم يقعد ففسدت صلاته، فدارت الصلاة بين الصحة والفساد، فتفسد على ما هو الأصل المعروف.
وإن وقع الشك في ذوات الأربع أنها الأولى أو الثانية عمد بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع تحريه على شيء يبني على الأول، فيجعلها أولى ثم يقعد لجواز أنها ثانيته، فتكون القعدة فيها واجبة، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى لأنا جعلناها في الحكم ثانيته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد لجواز أنها رابعته، والقعدة على رأس الرابعة فرض.
وكذلك إذا شك أنها الثانية أم الثالثة عمل بالتحري كما ذكرنا، فإن لم يقع يجزيه على شيء يقعد في الحال لجواز أنها رابعته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى ويقعد؛ لأنها جعلناها رابعته، فالحكم وإن وقع الشك في ذوات الثلاث فهو على قياس ما ذكرنا في ذوات المثنى والأربع، وهذا كله إذا وقع الشك في الصلاة.
وأما إذا وقع الشك بعد الفراغ من الصلاة بأن شك بعد السلام في ذوات المثنى أنه صلى واحدة أو شك في ذوات الأربع بعد السلام أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، أو في ذوات الثلاث شك بعد الصلاة أنه صلى ثلاثًا أو ثنتين، فهذا عندنا على أنه أتم الصلاة حملًا لأمره على الصلاح، وهو الخروج عن الصلاة في أولته.
ولو شك بعد ما فرغ من التشهد في القعدة الأخيرة على نحو ما بينا، فكذلك الجواب عمل على أنه أتم صلاته هكذا روي عن محمد رحمه الله.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد رحمهما الله فيمن نسي ثلاث سجدات أو أكثر من صلاته، فإن كان ذلك أول ما وقع له في صلاته استقبلها، وإن كان يقع له ذلك كثيرًا مضى على أكثر رأيه فيه، وإن لم يكن له في ذلك رأي أعاد الصلاة، هكذا ذكر ها هنا، قال الحاكم أبو الفضل رحمه الله: هذا خلاف ما ذكره محمد رحمه الله في كتاب الصلاة، وإذا شك في صلاته فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا وتفكر في ذلك تفكرًا ثم استيقن أنه صلى ثلاث ركعات فإن لم يطل تفكره حتى لم يشغله تفكره عن أداء ركن بأن يصلي ويتفكر فليس عليه سجود السهو؛ لأنه لم يؤخر ركنًا ولم يترك واجبًا لم يؤخره وإن طال تفكره حتى شغله عن ركعة أو سجدة أو يكون في ركوع أو في سجود فيطول في تفكره ذلك، ويعبر عن حاله بالتفكير فعليه سجود السهو استحسانًا.
وفي القياس: لا سهو عليه؛ لأن تفكره ليس إلا إقامة القيام أو الركوع أو السجود، وهذه الأذكار سنّة، وتأخير الأركان بسبب إقامة السنّة لا توجب السهو كما لا يوجب الإساءة إذا كان عمدًا.
وجه الاستحسان: أنه أخر واجبًا أو ركنًا ساهيًا لا بسبب إقامة السنّة بل بسبب التفكر، والتفكير ليس من أعمال الصلاة، فيلزمه سجود السهو، كما لو زاد ركوعًا أو سجدة في صلاته بخلاف ما إذا أطال الركوع أو السجود أو القيام ساهيًا حيث لا يلزمه سجود السهو؛ لأن التأخر حصل بفعل هو من أفعال الصلاة، وذلك سنّة وإن لم يكن واجبًا وتأخير الركن الواجب..... فإنه فعل من أفعال الصلاة ساهيًا لا يوجب سجدتي السهو.
قال الشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله: هذا كله إذا كان التفكر يمنعه من التسبيح، فأما إذا كان لا يمنعه من التسبيح فإن سبح ويتفكر ويقرأ ويتفكر لا يلزمه سجود السهو في الآخرين كلها، وإن شك لو شك في صلاة صلاها وهو في صلاة أخرى قد صلاها قبل هذه الصلاة فيتفكر في ذلك، وهو في هذه الصلاة لم يكن عليه سجود السهو وإن شغله تفكره؛ لأنه لم يشك في هذه الصلاة، ولأن المصلي لا يخلو من هذا النوع من الشك، فلا يجب سجود السهو بهذا.
قال شمس الأئمة رحمه الله: ما قال في (الكتاب): وإن شغله تفكره ليس يريد به أنه شغله الشك عن ركن أو واجب فإن ذلك يوجب سجدتي السهو بالإجماع، ولكن أراد به شغل قلبه بعد أن كانت جوارحه مشغولة بأداء الأركان على نحو ما بينا في المسألة المتقدمة.
وفي (فتاوى أبي الليث رحمه الله): رجل شك في صلاته أنه قد صلاها أم لا، وكان في الوقت فعليه أن يعيد؛ لأن سبب الوجوب قائم، فإنما لا يعمل هذا السبب بشرط الأداء قبله، وفيه شك، وإن خرج الوقت ثم شك فلا شيء عليه؛ لأن سبب الوجوب قد فات، وإنما يجب القضاء..... عدم الأداء..... وفيه شك، وكذلك لو شك في ركعة بعد الفراغ من الصلاة لا شيء عليه، وفي الصلاة يلزمه أداؤها.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): أن من شك في إتمام وضوء إمامه جازت صلاته ما لم يستيقن أنه ترك بعض أعضائه سهوًا أو عمدًا؛ لأن الظاهر أنه لم يترك.
قال: يصلي الفجر إذا شك في سجوده، أنه صلى ركعتين أو ثلاثًا، قالوا: إن كان في السجدة الأولى يمكنه إصلاح صلاته بأن يعود إلى القعدة؛ لأنه إن كان صلى ركعتين كان عليه إتمام هذه الركعة؛ لأنها ثانيته، فإذا عاد إلى القعدة فقد أتمها فيجوز، ولو كان بالبدء لا تفسد صلاته عند محمد رحمة الله عليه؛ لأنه لما تذكر في السجدة الأولى ارتفضت تلك السجدة أصلًا، وصارت كأن لم تكن، كما لو سبقه الحدث في السجدة الأولى من الركعة الخامسة وإن كان هذا الشك في السجدة الثانية فسدت صلاته لاحتمال أنه يصلي الثالثة بالسجدة الثانية وخلط المكتوبة بالنافلة قبل إكمال المكتوبة تفسد المكتوبة.
ولو شك في صلاة الفجر في قيامه أيهما الأولى من صلاته أو ثالثته؟ قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: يمكنه إصلاح صلاته بأن يرفض ما هو إلى القيام ويعود إلى القعدة، فإن كانت هذه الركعة ثالثته فقد رفضها بالعود إلى القعدة وتمت صلاته ثم يقوم فيصلي ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة ثم يتشهد ويسجد سجدتي السهو؛ لأن تلك الركعة إن كانت هي الأولى فلم يأت بشيء من صلاته...... بجميع أركانها ولا يقعد بينهما؛ لأنه في حال يلزمه ركعتان وفي حال لا يلزمه شيء، فلا يقعد.
قد ذكرنا أنه إذا شك في صلاة الفجر أصلى ركعتين أم واحدة وكان الشك في حالة القيام أنه يتم هذه الركعة ويقعد قدر التشهد ثم يقوم فيصلي ركعة ويقعد ويسجد للسهو في آخرها بخلاف ما إذا شك أنها ثالثته أو الأولى، فإنه ها هنا لا يتم ركعتين ثم يقعد قدر التشهد؛ لأن ها هنا يحتمل أنها ثالثته، فلو بالمضي فيها تفسد صلاته فلذلك أم بالعود إلى القعدة، أما هناك شك في أنه أدى الركعة الثانية أو لم يؤد، فإما أن تكون هذه الركعة الأولى أو الثانية، وكيف ما كان لا تفسد صلاته فإتمام هذه الركعة، وإذا أتمها يقعد قدر التشهد لاحتمال أنها ثانيته ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى.
وإن شك وهو ساجد إن شك أنها الركعة الأولى أو الثانية المعنى فيهما سواء شك في السجدة الأولى أو في السجدة الثانية؛ لأنهما إن كانت الأولى يلزمه المضي فيها، وإن كانت ثانية يلزمه تكميلها، وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية يقعد قدر التشهد ثم يقوم ويصلي ركعة. ولو غدت على ظنه في الصلاة أنه أحدث في الصلاة أجزأته لم يمسح تيقن بذلك لا شك له فيه لم يتيقن أنه لم يحدث وتيقن أنه قد مسح، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمة الله عليه: ينظر إن كان أدى ركنه حال ما كان مسبقًا بالحدث وتقدم المسح فإنه يستقبل الصلاة، وإن لم...... فما معنى في صلاته؟
ولو شك في صلاته أنه هل كبّر للافتتاح أم لا؟ هل أحدث أم لا؟ أصابت النجاسة ثوبه أم لا؟ هل مسح رأسه أم لا؟ إن كان ذلك أول مرة استقبل الصلاة، وإن كان يقع له ذلك كثيرًا جاز له المضي، ولا يلزمه الوضوء ولا غسل الثوب رجل دخل في صلاة الظهر ثم شك أنه هل صلى الفجر أم لا؟ فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه لم يصلِ الفجر فإنه يصلي الفجر ثم يعيد الظهر، لأنه لما استيقن بعد الفراغ من الصلاة أنه لم يصلِ الفجر كان مستيقنًا في ذلك الوقت كالمصلي بالتيمم إذا رأى ماء فظن أنه سراب، فلما فرغ من الصلاة تيقن أنه كان ماء فإنه يتوضأ ويعيد، ولو تذكر يوم الجمعة وقت الخطبة أنه لم يصلِ الفجر فإنه يقوم ويصلي الفجر..... ويسمع الخطبة؛ لأنه لو لم يصلِ الفجر حتى يفرغ الإمام من الخطبة لا يمكنه قضاء الفجر مع الجمعة من الخطبة يصلي الظهر.
إذا صلى ركعة من الظهر ثم شك في الثانية أنه في العصر ثم شك في الثالثة أنه في التطوع ثم شك في الرابعة أنه في الظهر، قالوا: هو في الظهر، والشك ليس بشيء.
رجل صلى ركعتين وشك أنه مقيم أو مسافر فسلم في حالة الشك، ثم علم أنه مقيم، فإنه يعيد صلاة المقيمين؛ لأنه سلام عمد والله أعلم.

.مسائل الاختلاف الواقع بين الإمام والقوم:

وإذا وقع الاختلاف بين الإمام والقوم فقال القوم: صليتَ ثلاثًا، فقال الإمام: صليتُ أربعًا، فإن كان بعض القوم مع الإمام يؤخذ بقول من كان مع الإمام ويترجح قول من كان مع الإمام بسبب الإمام، وإن لم يكن بعض القوم مع الإمام ينظر إن كان الإمام على يقين لا يعيد الإمام الصلاة، فإن لم يكن على يقين أعاد بقولهم، هكذا ذكر المسألة في (واقعات الناطفي).
ورأيت في موضع آخر: إذا كان مع الإمام رجل واحد يترجح قوله بسبب الإمام، ولا يعيد الصلاة، فإذا لم يكن مع الإمام واحد وأعاد الصلاة وأعاد القوم معه مقتدين به صح اقتداؤهم؛ لأنه إن كان هو الصادق كان هذا اقتداء المتنقل بالمتنفل، وإن كان الصادق هو القوم كان هذا اقتداء المفترض بالمفترض.
وفي (فتاوى واقعات الناطفي): إمام صلى وقت الظهر فهي الظهر، وإن كان في وقت العصر فهي العصر؛ لأن الظاهر شاهد من يدعي ما يوافقه الوقت، وإن كان مشكلًا جاز للفريقين في القياس بمنزلة قطرة من الدم وقعت فمن خلف الإمام ولا يدري ممن هو؛ لأن الشك في وجوب الإعادة، والإعادة لا تجب بالشك.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): إذا صلى الإمام بقوم واستيقن واحد منهم أن الإمام صلى أربعًا، واستيقن واحد منهم أنه صلى ثلاثًا والإمام والقوم في شك، فليس على الإمام والقوم شيء؛ لأن هذا شك بعد الفراغ من الصلاة وإنه غير معتبر، ولا يستحب للإمام الأعلى لما بينا، وعلى الذي استيقن بالنقصان الإعادة؛ لأن تعيينه لا يبطل بتعيين غيره.
زاد في (المنتقى): كذلك إذا كان......، فإن كان الإمام يستيقن بالنقصان وواحد منهم يستيقن بالتمام يقتدي القوم بالإمام؛ لأن الإمام تيقن أنه لم يؤد ولا يعيد الذي استيقن بالتمام؛ لأنه متيقن أنه......، هكذا ذكر من (فتاوى أهل سمرقند)، وهكذا وقع في بعض نسخ (المنتقى)، وفي بعضها يقتدي القوم بالإمام.
وفي هذا الموضع أيضًا؛ إذا شك الإمام فأخبره عدلان يأخذ بقولهما؛ لأنه لو أخبره عدل يستحب أن يأخذ بقوله، فإذا أخبره عدلان يجب الأخذ بقولهما بخلاف ما إذا شك الإمام والقوم واستيقن واحد بالتمام، واستيقن واحد من القوم بالنقصان حيث يعيد الذي استيقن بالنقصان، فصلاة الإمام والقوم تامة وإن أخبره المستيقن بالنقصان؛ لأن قول المستيقن بالنقصان عارضه قول المستيقن بالتمام، فكأنهما لم يوجدا.
ولو شك الإمام والقوم ويستيقن واحد من القوم بالنقصان الأحب أن يعيدوا، فإن لم يعيدوا ليس عليهم شيء حتى يكون.
رجلين عدلين رجل صلى واحدة، وصلى بقوم، فلما سلم أخبره رجل عدل أنك صليت الظهر ثلاث ركعات، قالوا: إن كان عند المصلي أنه صلى أربع ركعات لا يلتفت إلى قول المخبر وإن شك المصلي في المخبر أنه صادق أو كاذب روي عن محمد رحمه الله أنه يعيد صلاته احتياطًا، وإن شك في قول رجلين عدلين أعاد صلاته وإن لم يكن المخبر عدلًا لا يقبل قوله.
رجل صلى بقوم، فلما صلى ركعتين وسجد السجدة الثانية شك أنه صلى ركعتين أو ركعة، أو شك في الرابعة والثالثة فلحظ إلى من خلفه ليعلم بهم إن قاموا قام هو معهم وإن قعدوا قعد تعمد بذلك، فلا بأس به ولا سهو عليه والله أعلم.
وفي (نوادر إبراهيم): عن محمد رحمهما الله: صلى الإمام بقوم فقال له عدلان: إنك لم تتم الصلاة أعاد الصلاة، قال محمد رحمه الله: ولو كنت أنا لأعدته بقول الواحد تنزهًا وليس يرجع إلى الحكم؛ لأن الصلاة صحت ظاهرًا، أو إبطال ما صح ظاهرًا بقول الواحد لم يرد الشرع به والله أعلم.
في (الجامع الصغير) (روى) محمد عن يعقوب عن أبي حنيفة رحمهم الله في رجل تذكر وهو راكع أو ساجد أن عليه سجدة، فانحط من ركوعه فسجدها أو رفع رأسه من سجوده أو سجدها، فإنه يعيد الركوع والسجود يريد به على سبيل الرواية وإن لم يعد أجزأه، واختلف المشايخ في تعليل المسألة.
بعضهم قالوا: إنما يعيد لتكون صلاته على الولاء والترتيب وإذا لم يعد إنما تجوز لأن الترتيب في أفعال الصلاة عندنا ليس بشرط.
وقال بعضهم: الانتقال حصل مع الطهارة فيصلح متممًا لما فيه إلا أنه لم يكن على قصد الإتمام، فمن حيث إنه يصلح متممًا لو اعتد بها أجزأه، ومن حيث إنه لم يكن على قصد الإمام كان الإعادة أولى.
فإن قيل: الانتقال حصل لأداء ركنًا..... فهلا جعله رافعًا لما كان فيه؟
قلنا: النفل يقصد قضاء با...... بمحل الأداء، فصار من حيث المعنى كأن الذي وجد فيه بعده والله أعلم.

.الفصل التاسع عشر في وقت لزوم الفرض:

الأصل عند أبي حنيفة: أن وجوب الصلاة يتعلق بآخر الوقت وأوله بسبب الأداء، وكان ابن شجاع رحمه الله يقول: الوجوب تعلق بأول الوقت وجوبًا موسعًا ويتضيق بآخر الوقت، وعلى هذا كل عبادة مؤقتة يتسع وقتها لأداء أمثالها و...... الوقت..... يتخير المكلف بأول الوقت بين الاتخاذ والترك لا إلى بدل على عدم تعلق الوجوب بأول الوقت؛ إذ الواجب ما لا يتخير المرء فيه من الاتخاذ والترك.
وما قال ابن شجاع لا يصح، لأن وقوع الشيء موقع الفرض لا يدل على الوجوب كما لو كره قبل الحول والتكفير بعد الجرح قبل الموت.
قال: واختلف قول أبي الحسن رحمه الله: فيما إذا صلى في أول الوقت، ففي قول..... فرضًا ويتعين ذلك الوقت للوجوب فيه، وفي قول يتوقف فيه، فإن تبع آخر الوقت وهل أهل الوجوب دفع فرضًا، وإن خرج من أن يكون أهلًا كان نفلًا، وفي قول الواقع نفلًا، فإذا تبع آخر الوقت يسقط به الفرض، واختيار القاضي الإمام الكبير أبي زيد الدبوسي رحمه الله: أن الوقت حول للأداء وكل الوقت ليس بسبب؛ لأنه ظرف الأداء أيضًا، فلا يمكن أن يجعل كل الوقت سببًا بل السبب خروجه، فإذا. وجد الجزء، والأول جعلناه سببًا لوجوده وعدم غيره، وعند قوله: يجعل الجزء والذي يليه سببًا، هكذا إلى آخر الوقت، فإذا شرع في الأداء بقي الجزء الذي تقدم على الشروع سببًا ضرورة تصحح الأداء.
قال: واختلف أصحابنا رحمهم الله في حكم آخر الوقت، فقال أكثرهم الوجوب يتعلق بمقدار التحريمة من آخر الوقت، وقال زفر رحمه الله: يتعلق إذا بقي من الوقت مقدار ما يؤدي فيه الصلاة، وهذا القول اختاره القدوري رحمه الله، والأول اختاره الشيخ أبو الحسن، والمحققون من أصحابنا كالقاضي الإمام أبي زيد الدبوسي رحمه الله تعالى.
وثمرة الاختلاف تظهر في الحائض إذا طهرت في آخر الوقت، والصبي يبلغ والكافر يسلم، والمجنون، والمغمى عليه سيان، والمسافر إذا نوى الإقامة والمقيم إذا سافر فعلى قول أكثر أصحابنا رحمهم الله: يجب، ويتعين الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ما توجد فيه التحريمة، وعند زفر رحمه الله: ومن تابعه من أصحابنا لا يجب ولا يتعين الفرض إلا إذا أدرك من الوقت ما يمكن الأداء فيه؛ لأن الخطأ والأداء، فلابد من تصور الأداء؛ ولأنه إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن الأداء لم يكن مخيرًا بين الإيجاد والترك، بل لزمه الإيجاد بل أثم، وهذا دليل على تعلق الوجوب به.
وجه قول أصحابنا رحمهم الله: أن الوقت لما تعين سببًا للوجوب في الذمة، ثم الخروج عن عهدة ما وجب به يكون بالأداء، وقد يكون بالقضاء كالطهر في حق الحائض سبب للوجوب في ذمتها، والخروج عن القضاء دون الأداء ومتى كان الوقت معتبرًا للوجوب في الذمة، ولا يعتبر الوقت الذي يمكن الأداء فيه لا محالة.
قال: وإذا اعترضت هذه العوارض في آخر الوقت سقط الفرض بالإجماع أما على قول أبي الحسن وأكثر أصحابنا رحمهم الله؛ فلأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت، وهذه العوارض مانعة من الوجوب.
وأما على قول زفر رحمه الله: فلأن التكليف زال في البعض فيزول في الكل، ولو أن غلامًا صلى العشاء ونام واحتلم في منامه، ولم يستيقظ حتى طلع الفجر، فعليه قضاء العشاء إجماعًا، وهذه واقعة محمد سأل عنها أبا حنيفة رحمهما الله، فأجابه بما قلنا، فأعاد العشاء.

.الفصل العشرون في قضاء الفائتة:

يجب أن تعلم بأن الترتيب في الصلوات المكتوبة فرض عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: سنة.
حجته في ذلك: أن كل واحد من الفرضين أصل بنفسه؛ فلأن يكون أداء أحدهما شرطًا لجواز الآخر، ولهذا سقط الترتيب عند النسيان، وضيق الوقت، وكثرة الفوائت، وشرائط الصلاة لا تسقط بعذر النسيان وضيق الوقت كالطهارة واستقبال القبلة، وأما ما روى ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام قال: «من نام عن الصلاة أو نسيها فلم يذكرها إلا وهو مع الإمام فليصل التي هو فيها ثم ليصل التي ذكرها ثم ليعد التي صلى مع الإمام» فهذا دليل على فرضية الترتيب، وبهذا الحديث أخذ أبو يوسف رحمه الله من أوله إلى آخره، ومحمد رحمه الله لم يأخذ بأوله، وأمر بقطع الصلاة التي فيها عند تذكر الفائتة، عملًا بقوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها»، فإن ذلك وقتها وجعل وقت التذكير وقت الفائتة، فإذا صلى فيه غيرها لم يؤد الصلاة في وقتها، فلا يجوز.
والمعنى فيه: وهو أن الصلوات المكتوبات وجبت مرتبة وقتًا وفعلًا، والترتيب وإن سقط من جهة الوقت لمكان العذر وجب أن يراعى من جهة العقد، وكان الحسن بن زياد رحمه الله يقول: إنما يجب مراعاة الترتيب على من علم به أي: علم بوجوب الترتيب لا على من لا يعلم به أما الترتيب في نفس أفعال الصلاة ليس يقرأ من عندنا، حتى أن من أدرك الإمام ونام في أول الصلاة خلفه أو سبقه الحدث، فسبقه الإمام أو توضأ لعاد، فعليه أن يقضي أولًا ما سبقه الإمام به ثم يتابع الإمام إذا أدركه، ولو تابع الإمام أولًا قبل قضاء ما لم يصل ثم قضى ما لم يصل بعد تسليم الإمام جاز عندنا.
وكذلك في الجمعة إذا زحمه الناس، فلم يقدر على أداء الركعة الأولى مع الإمام بعدما اقتدى به، وبقي قائمًا كذلك، ثم أمكنه الأداء مع الإمام، فإنه يؤدي الركعة الأولى أولًا، ولو أنه أدى الركعة الثانية أولًا مع الإمام ثم قضى الركعة الأولى بعد فراغ الإمام جاز عندنا، فنقول هذا الترتيب يسقط بعذر النسيان، وبضيق الوقت وبكثرة الفوائت، أما بالنسيان؛ فلأنه عاجز عن شرائط التكليف ولا تكليف مع العجز؛ ولأن مراعاة الترتيب عرفت بالخبر، والخبر يتناول حالة الذكر لا حالة النسيان بل في حالة النسيان خبر آخر بخلافه، وهو ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم خرج يومًا ليصلح بين حيين، فنسي صلاة العصر، وصلى المغرب بأصحابه ثم قال لأصحابه: «هل رأيتموني صليت العصر، فقالوا: لا» فصلى العصر ولم يعد المغرب ولو أنه نسي صلاة، ثم ذكر في الوقت الفائتة فصلى الفائتة وهو ذاكر للمنسية، وفي الوقت سعة لم يجز.
وأما إذا ذكرها بعد أيام فقد ذكر الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله: أنه لا تجوز الوقتية أيضًا، ونسب هذا القول إلى مشايخه وأشار إلى المعنى، فقال وقت التذكر وقت الفائتة، قال عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» فإن صلى الوقتية فقد صلاها في غير وقتها، فلا يجوز، وذكر محمد رحمة الله عليه في (الأصل): أنه يجوز.
هكذا ذكر الحاكم في (المنتقى): عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمهم الله: أنه تجوز الوقتية، وهكذا ذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله في (عيون المسائل)، وعليه الفتوى؛ لأن الترتيب بين الوقتية وبين الفائتة ليس بواجب؛ لأن المتخلل كثير والله أعلم.
أما بضيق الوقت؛ فلأنه لو لم يسقط الترتيب عند ضيق الوقت تفوته الوقتية عن وقتها، وأداء الوقتية ثابت في وقتها بكتاب الله تعالى، ومراعاة الترتيب في الصلوات ثبت بأخبار الآحاد، ولا شك أن العمل بما ثبت بالكتاب أولى من العمل بما ثبت بالخبر الواحد، فإن عند سعة الوقت أيضًا لو بقي الترتيب معتبرًا يؤدي إلى ترك العمل بما ثبت بكتاب الله تعالى، ثبت الجواز كما زالت الشمس.
ولو أوجبنا الترتيب ومنعنا الجواز، قلنا: لو لم يبق الترتيب معتبرًا في هذه الحالة فقد تركنا ما ثبت بالخبر الواحد أصلًا، ولو بقي الترتيب معتبرًا لا يبطل ما ثبت بكتاب الله تعالى، بل يتأخر، ولا شك أن تأخير ما ثبت بكتاب الله تعالى أولى من ترك ما ثبت بالخبر الواحد أصلًا.
ثم اختلف المشايخ فيما بينهم: أن العبرة لأصل الوقت، أم للوقت المستحب الذي لا كراهة فيه؟ قال بعضهم: العبرة لأصل الوقت، وقال بعضهم: العبرة للوقت المستحب، وقال الطحاوي على قياس قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: العبرة لأصل الوقت، وعلى قياس قول محمد رحمه الله: العبرة للوقت المستحب.
بيانه: إذا شرع في العصر وهو ناسٍ للظهر ثم تذكر الظهر في الوقت، لو اشتغل بالظهر يقطع العصر في وقت مكروه على قول من قال: العبرة لأصل الوقت يقطع العصر ويصلي الظهر ثم يصلي العصر، وعلى قول من قال: العبرة للوقت المستحب يمضي في العصر ثم يصلي الظهر بعد غروب الشمس.
وفي (المنتقى) و(نوادر الصلاة): إذا افتتح العصر من أول وقته وهو ناسٍ للظهر ثم احمرت الشمس ثم ذكر الظهر يمضي في العصر، وهذا يظن شرع في العصر في أول الوقت، وهو ذاكر للظهر أن العبرة للوقت المستحب، وإن افتتح العصر في أول وقتها، وهو ذاكر للظهر ثم احمرت الشمس قطع العصر ثم استقبلها مرة أخرى؛ لأنه افتتحها فاسدة بخلاف الفصل الأول، لو افتتح العصر في آخر وقتها، فلما صلى ركعتين غربت الشمس ثم تذكر أنه لم يصل الظهر، فإنه يتم العصر ثم يقضي الظهر؛ لأنه لو افتتح العصر في آخر وقتها مع تذكر الظهر يجوز، فهذا أولى، ولو تذكر في وقت العصر أنه لم يصل الظهر وهو متمكن من أداء الظهر قبل تغير الشمس، إلا أن عصره أو بعض عصره يقع بعد التغير عندنا يلزمه الترتيب، لا يجوز أداء العصر قبل قضاء الظهر، وعلى قول الحسن: لا يلزمه الترتيب إلا إذا تمكن من أداء الصلاتين قبل العصر.
وأما لكثرة الفوائت، فلأن كثرة الفوائت في معنى ضيق الوقت؛ لأن الفوائت إذا كثرت لو راعى الترتيب فاتته الوقتية، فمراعاة الترتيب في هذه المواضع سقط لأجل العذر، وليس إذا كان الحكم يثبت في موضع بعذر ما يدل على أنه يثبت في موضع آخر بغير عذر، وقال زفر رحمه الله: الترتيب لا يثبت بكثرة الفوائت إذا كان الوقت يسع لها وللوقتية، وإن كانت الفوائت عشرًا أو أكثر؛ لأن مراعاة الترتيب حكم الخبر الواحد، وليس في العمل به ترك حكم الكتاب، فإن الوقت يسع للكل فيجمع بينهما، أما إذا كان الوقت حد الكثرة يسع للكل، فالعمل بخبر الواحد يؤدي إلى ترك العمل بالكتاب، فنقدم حكم الكتاب على حكم الخبر حده الكثرة في ظاهر الرواية أن تصير الفوائت ستًا، وروى محمد بن شجاع البلخي رحمة الله عليه عن أصحابنا رحمة الله عليهم: أن تصير الفوائت خمس صلوات، والصحيح ما ذكر في ظاهر الرواية.
وفي (القدوري) قال أبو حنيفة، وأبو يوسف رحمة الله عليهما: إذا فاتته ست صلوات، ودخل وقت السابعة سقط الترتيب، وقال محمد رحمة الله: إذا دخل وقت السادسة سقط الترتيب، ومن تذكر صلاة عليه وهو في الصلاة، فقد حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله مذهب علمائنا رحمهم الله أن تفسد صلاته، قال: ولكن لا تفسد حين ذكرها بل يتمها ركعتين، ويعدها تطوعًا سواء كان الفائت قديمًا أو حديثًا، ثم إذا كثرت الفوائت حتى سقط الترتيب، لأجلها في المستقبل سقط الترتيب في نفسها أيضًا حتى قال أصحابنا رحمهم الله: فيمن كان عليه صلاة شهر، فصلى ثلاثين فجرًا ثم صلى ثلاثين ظهرًا هكذا الضرورة؛ وهذا لأن الفوائت عند كثرتها لما أسقطت الترتيب في أغيارها؛ فلأن يسقط في نفسها كان ذلك أولى، هكذا ذكر بعض مشايخنا رحمهم الله المسألة في (شرح كتاب الصلاة)، وفي المسألة كلمات تأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
ثم الفوائت نوعان: قديمة وحديثة، فالحديثة تسقط الترتيب بلا خلاف، وفي القديمة اختلاف المشايخ.
وتفسير القديمة: رجل ترك صلاة شهر في حال صباه ومجانه وفسقه ثم ندم على ما وقع، فاشتغل بأداء الصلاة في مواقتها فقبل أن يقضي تلك الفوائت ترك صلاة، وصلى أخرى وهو ذاكر لهذه المتروكة الحديثة، قال بعض المتأخرين من مشايخنا رحمهم الله: لا تجوز هذه الصلاة، ويجعل الماضي من الفوائت كأن لم يكن احتياطًا، وزجرًا عن التهاون، وأن لا تصير المعصية المقضي وسيلة إلى التخفيف والتيسير.
وبعضهم قالوا: يجوز وعليه الفتوى؛ لأن الاشتغال بهذه الفائتة ليس بأولى من الاشتغال بتلك الفوائت والاشتغال بالكل يفوت الوقتية عن وقتها، ولم تنقل هذه المسألة عن المتقدمين من مشايخنا رحمهم الله في كل موضع سقط الترتيب بحكم كثرة الفوائت، ثم عادت الفوائت إلى القلة بالقضاء، هل يعود الترتيب؟ وعن محمد رحمه الله روايتان.
وقد اختلف المشايخ فيه بيانه إذا ترك الرجل صلاة شهر، وقضاها إلا صلاة أو صلاتين ثم صلى صلاة داخل وقتها، وهو ذاكر لما بقي عليه، بعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: لا تجوز، وإليه مال الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وهو إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وبعضهم قالوا: تجوز، وإليه مال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير رحمة الله عليه، وعليه الفتوى.
وعلل هو فقال الترتيب قد سقط والساقط لا يحتمل العود كما قليل نجس دخل عليه الماء الجاري حتى كثر وسال ثم عاد إلى القلة، لا يعود نجسًا والمعنى ما قلنا، أنه سقط اعتبار النجاسة بالسيلان والساقط لا يحتمل العود كذا هاهنا.
وروى ابن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما: في رجل ترك صلاة يوم وليلة، ثم صلى من الغد مع كل صلاة صلاة أمسيته إن الأمسيات كلها صحيحة، قدمها أو آخرها، وأما اليوميات، فإن بدأ بها فهي فاسدة؛ لأنه متى أدى اليوميات صارت سادسة المتروكات، إلا أنه إذا قضى متروكة بعدها عادت المتروكات خمسًا ثم لا يزول، هكذا فلا يعود إلى الجواز، وإن بدأ بالأمسيات وأخر اليوميات، فاليوميات فاسدة إلا العشاء الآخرة، وإن العشاء الآخرة جائزة، وأما فساد ما وراء العشاء الآخرة في اليوميات؛ لأنه كلما صلى أمسيته عادت الفوائت أربعًا ففسدت الوقتية ضرورة، وأما العشاء الآخرة فما ذكر في الجواب أنها جائزة محمول على ما إذا كان الرجل جاهلًا؛ لأنه صلاها وعنده أنه لم يبق عليه فائتة، فصار كالناسي، فأما إذا كان الرجل عالمًا لا تجزئه العشاء الآخرة أيضًا؛ لأنه صلاها وعنده أن عليه أربع صلوات، وهذه الرواية هي الرواية التي ذكرناها قبل هذا أن إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: إذا كثرت الفوائت وسقط الترتيب ثم عادت الفوائت إلى القلة أنه يعود الترتيب.
قال في (الأصل): رجل صلى الظهر على غير وضوء ثم صلى العصر على وضوء ذاكرًا لذلك، وهو يحسب أنه يجزئه، فعليه أن يعيدهما جميعًا.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: معنى المسألة: أنه صلى الظهر بغير وضوء ناسيًا، فإنه لو تعمد ذلك كفر في أصح القولين لأصحابنا رحمهم الله، وإنما كان عليه أن يعيدهما أما الظهر فظاهر، وأما العصر؛ فلأن مراعاة الترتيب واجب على ما مر، ولمجرد ظنه لا يسقط عنه ما هو مستحق عليه، كمن ظن أن الصلاة أو الزكاة ليس بواجب عليه، فإن أعاد الظهر وحدها ثم صلى المغرب، وهو يظن أن العصر له جائز، قال: تجزئه المغرب ويعيد العصر فقط؛ لأن ظنه هذا استند إلى خلاف معتبر بين العلماء.
فإن أهل المدينة لا يرون الترتيب في الصلوات، وهو قول الشافعي رحمه الله الأول أن المغرب مجزئة وهذا موضع الاجتهاد، وأحوال المتأولين في المجتهدات فيما لا، فإنه مخالف للنص لا يبطل بل يغير.
وإن كان الحكم فيما اجتهد بخلاف ذلك هذا كما يقول في القصاص، إذا كان بين اثنين، فعفا أحدهما وظن صاحبه أن عفو أخيه لا يؤثر في حقه، فقتل ذلك القاتل، فإنه لا يقاد منه ومعلوم أن هذا قتل بغير حق، ولكن لما كان جاهلًا أو مجتهدًا في ذلك صار ذلك التأويل مانعًا وجوب القصاص، وإن كان مخطئًا في التأويل، كذلك هاهنا حتى إذا كان عنده أن العصر لا تجزئه لا تجوز له المغرب نص عليه ابن سماعة عن محمد رحمهم الله، هكذا ذكر الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمهما الله.
وحاصل الفرق: أن فساد الصلاة بترك الطهارة فساد قوي مجمع عليه يظهر أثره، فيما يؤدي بعده، فأما فساد العصر بسبب الترتيب فساد ضعيف مختلف فيه، فلا يتعدى حكمه إلى صلاة أخرى، كمن جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد، بطل العقد فيهما، بخلاف ما إذا جمع بين قن ومدبر حيث صح العقد في حق القن، والمعنى ما ذكرنا كذلك هاهنا.
وكذلك رجل صلى الظهر بغير وضوء تام بأن ترك مسح الرأس ناسيًا، وظن أن وضوءه تام فإنه تجزئه العصر إذا مسح الرأس أو جدد الوضوء للعصر؛ لأنه صلى العصر وعنده أنه لا ظهر عليه، فيجزئه كما لو ترك الظهر أصلًا، وعنده أنه صلى الظهر، فإنه يجزئه العصر، فإن لم يصل الظهر حتى صلى المغرب، وهو ذاكر للظهر لا يجزئه المغرب؛ لأن هذا اجتهاد يخالف النص؛ لأنه صلاها وهو ذاكر للظهر وذكر الظهر نص أو كنص، فكان هذا اجتهاد مخالف النص، فيلغو وعلى قول الحسن بن زياد رحمه الله: تجزئه المغرب إذا كان يجتهد أن الترتيب ركن أو فرض كما ذكرنا قبل هذا، وكثير من مشايخ بلخ أخذوا بقول الحسن بن زياد رحمه الله.
رجل ترك الصلاة شهرًا ثم أراد أن يقضي المتروكات، فقضى ثلاثين فجرًا ومعه واحدًا ثم ثلاثين ظهرًا ثم ثلاثين عصرًا، هكذا فعل في جميع الصلوات، قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمة الله عليه: الفجر الأول جائزة، لأنه ليس قبلها متروكة فتعين والفجر من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها أربع متروكات ظهر اليوم الأول وعصره ومغربه وعشاؤه والفجر من اليوم الثالث جائزة؛ لأن قبلها ثمان صلوات أربع من اليوم الأول وأربع من اليوم الثاني ثم ما بعدها من صلوات الفجر إلى آخر الشهر جائزة.
وأما صلوات الظهر، فالظهر من اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبلها متروكة وظهر اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها ثلاث صلوات من اليوم الأول وصلاة الظهر من اليوم الثالث جائزة؛ لأن قبلها ست صلوات متروكة ثلاث من اليوم الأول وثلاث من اليوم الثاني وما بعدها من صلوات الظهر إلى آخر الشهر جائزة.
وأما صلوات العصر، فالعصر من اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبل العصر متروكة من ذلك اليوم، وصلاة العصر من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن عليه المغرب والعشاء من اليوم الأول، وصلاة العصر من اليوم الثالث فاسدة؛ لأن عليه قبلها المغرب والعشاء في اليوم الأول والمغرب والعشاء من اليوم الثاني، وصلاة العصر من اليوم الرابع جائزة؛ لأن عليه قبلها ست صلوات المغرب.
فصلوات المغرب في اليوم الأول جائزة؛ لأنه ليس قبلها متروكة، وصلاة المغرب من اليوم الثاني فاسدة؛ لأن قبلها متروكة وهي العشاء من اليوم الأول وصلاة المغرب من اليوم الثالث فاسدة؛ لأن قبلها صلاتان العشاء من اليوم الأول والعشاء من اليوم الثاني، وصلاة المغرب من اليوم الرابع فاسدة؛ لأن قبلها ثلاث صلوات عشاء اليوم الأول وعشاء اليوم الثاني وعشاء اليوم الثالث ومن اليوم الخامس كذلك؛ لأن قبلها أربع صلوات، ومن اليوم السادس كذلك؛ لأن قبلها خمس صلوات ثم ما بعدها من صلوات المغرب إلى آخر الشهر جائزة.
وأما صلوات العشاء، فكلها جائزة؛ لأنه ليس قبلها صلوات متروكة وهذه المسألة على الترتيب الذي قلنا: إنما تستقيم على إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وعلى قول من يقول من المشايخ: أن الترتيب إذا سقط بكثرة الفوائت يعود إذا قلت الفوائت، فأما على إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله، وعلى قول من يقول من المشايخ: أن الترتيب لا يعود وإن قلت الفوائت تجوز الصلوات كلها، وقد ذكرنا الروايتين مع اختلاف المشايخ فيما تقدم.
قال في العصر: رجل صلى العصر وهو ذاكر أنه لم يصل الظهر، فهو فاسد إلا أن تكون في آخر الوقت بناءً على ما قلنا: أن الترتيب في الصلوات المكتوبات فرض، وإنما سقط الترتيب بالنسيان أو بكثرة الفوائت أو بضيق الوقت، ولكن إذا فسدت الفريضة لا تبطل أصل الصلاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد رحمه الله تبطل، والمسألة معروفة، ثم عند أبي حنيفة رحمه الله فرض العصر يفسد صلاة موقوفة، حتى لو صلى ست صلوات أو أكثر، ولم يعد الظهر عاد العصر جائزًا لا تجب إعادته.
وعندهما تفسد فسادًا بائنًا، لا جواز لها بحال، فالأصل: أن عند أبي حنيفة رحمه الله مراعاة الترتيب بين الفائتة والوقتية كما يسقط بكثرة الفوائت يسقط بكثرة المؤدى؛ وهذا لأن كثرة الفوائت إنما أوجبت سقوط الترتيب؛ لأن الاشتغال بالفوائت يوجب فوات الوقتية عن وقتها، وهذا المعنى موجود عند كثرة المؤدي؛ لأن الاشتغال بالمؤدى يفوت الوقتية عن وقتها، وإذا سقط مراعاة الترتيب ظهر أن ما أدى كان جائزًا.
قال مشايخنا رحمهم الله: وإنما لا تجب إعادة الفوائت عند أبي حنيفة رحمة الله عليه إذا كان عند المصلي أن الترتيب ليس بواجب، وأن صلاته جائزة، أما إذا كان عنده فساد الصلوات بسبب الترتيب، فعليه إعادة كما قاله أبو يوسف رحمة الله عليه؛ لأن العبد يكلف ما عنده.
ومن هذا الجنس مسألة أخرى: أن من ترك خمس صلوات، وصلى السادسة فهذه السادسة موقوفة، فإن صلى السابعة بعد ذلك جازت السابعة بالإجماع، وجازت السادسة بجواز السابعة عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن التوقف كان لأجل الترتيب فإذا صلى السابعة سقط الترتيب فعادت السادسة إلى الجواز، ولا يبعد أن يتوقف حكم الصلاة المؤداة على ما تبين في الحال، كمصل الظهر يوم الجمعة إن أدرك الجمعة تبين أن المؤدى كان تطوعًا، وإن لم يدرك كان فرضًا، كصاحبة العادة إذا انقطع دمها فيما دون عادتها، وصلت صلوات ثم عاودها الدم تبين أنها لم تكن صلاة صحيحة، وإن لم يعاودها الدم تبين أنها كانت صحيحة كذا هاهنا.
رجل ترك الظهر، وصلى بعدها ست صلوات، وهو ذاكر للمتروكة كان عليه المتروكة لا غير، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهم الله يقضي المتروكة وخمسًا بعدها، ولو صلى بعد المتروكة خمس صلوات ثم قضى المتروكة، كان عليه الخمس التي صلاها في قولهم جميعًا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): في رجل يصلي الفجر وهو ذاكر أنه لم يوتر فالفجر فاسد إلا أن تكون في آخر وقت الفجر بخلاف أن يفوته الفجر تمامًا، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله الوتر سنّة، وعند أبي حنيفة رحمه الله واجب.
وثمرة الاختلاف تظهر في موضعين: أحدهما في هذه المسألة، فإن عندهما الوتر لما كان سنّة لا يجب مراعاة الترتيب ويثبت الفجر، فإن مراعاة الترتيب لها يوجب في المكتوبات، وعند أبي حنيفة رحمه الله لما كان واجبًا يجب مراعاة الترتيب.
والمسألة الثانية: إذا صلى العشاء بغير وضوء فإنه يصلي العشاء، ولا يعيد الوتر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يعيد الوتر أيضًا؛ لأن الوتر عندهما سنّة وكان تبعًا للفرض، فإذا وجبت إعادة ما هو فرض وجبت إعادة ما هو تبعًا له، وعند أبي حنيفة رحمه الله: الوتر واجب كالعشاء، وقد أداه في وقته بطهارة، فلا يلزمه الإعادة.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا وقع الشك في الفوائت.
رجل نسي صلاة، ولا يدري أي صلاة نسيها ولم يقع تحريمه على شيء يقدر صلاة وليلة عندنا حتى يخرج عما عليه مضى، قال بعض مشايخ بلخ رحمهم الله: يصلي الفجر بتحريمة ثم المغرب بتحريمة، ثم يصلي أربع ركعات، وينوي ما عليه من صلاة هذا اليوم وليلته.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: يصلي أربع ركعات ويقعد على رأس الركعتين، ورأس الثالثة ورأس الرابعة، وينوي ما عليه من صلاة يومه وليلته، فيجزئه عن أي صلاة فاتت، ولا حاجة إلى قضاء الخامس لنا: أن ما قلنا أولى؛ لأن هذا يؤدي إلى أركان، وهو القعود على رأس الثالث، وهو على ما قاله بعض مشايخ بلخ يقع الخلل في هيئة القراءة، فإنه الخمس والثلاث يدرى أنه يجهر في القراءة أو يخافت، وربما يؤدي إلى ترك الواجب، وهو الخروج عن الصلاة لا بلفظة السلام، فالخروج عما عليه يبقى من غير أن يقع الخلل في شيء مما قاله أصحابنا رحمهم الله، وعلى هذا إذا نسي صلاتين في يومين لا يدري أي صلاتين هما، قال: يعيد صلاة يومين، هكذا رواه أبو سليمان عن محمد رحمهما الله، وعلى هذا إذا نسي ثلاث صلوات من ثلاثة أيام، ولا يدري أي: صلوات هي قال: يعيد صلاة ثلاثة أيام ولياليها، رواه إبراهيم عن محمد رحمهما الله.
ولو ترك صلاتين من يومين الظهر والعصر، ولا يدري أيهما تركها أولًا، ولا يقع تحريمه على شيء، قال أبو حنيفة رحمه الله: بأنه يصلي إحدى الصلاتين مرتين والأخرى مرة احتياطًا، فإن بدأ بالظهر ثم بالعصر ثم بالظهر كان أفضل؛ لأن الظهر أسبق وجوبًا في الأصل، وإن بدأ بالعصر ثم بالظهر ثم بالعصر يجوز أيضًا؛ لأنه صار مؤديًا ومراعيًا للترتيب بيقين وتقع إحديهما نافلة، وعندهما إن لم يقع تحريمه على شيء يصلي كل صلاة مرة إن شاء بدأ بالظهر، وإن شاء بدأ بالعصر، فمن مشايخنا من قال: لا خلاف بينهم، فإن ما قاله أبو حنيفة رحمه الله: جواب الأفضل، وما قالهما جواب الحكم ومنهم من حقق الخلاف حجتهما: أنه لو وجب إعادة ما بدأ به إنما يجب لمراعاة الترتيب، والترتيب ساقط، فإنه في معنى الناسي، لأنه حتى بدأنا بأحديهما كان لا يعلم أن عليه صلاة قبلها، وأبو حنيفة رحمه الله يقول بأنه ليس بمعنى الناسي؛ لأنه متى صلى الأولى كان يعلم أن عليه صلاة أخرى، إلا أنه لا يعلم أنها قبل هذه أو بعدها، فدار بين أن يكون في وقتها، فيجوز وبين أن لا يكون في وقتها فلا يجوز فتجب الإعادة ليخرج عن الواجب بيقين؛ لأن الجواز لا يثبت بالشك، وفي الناسي أدى الوقتية في الوقت حقيقة، فلو لم يجز لا يجوز لكون الوقت وقت الفائتة، ولها معتبر كذلك، بالذكر، ولم يوجد.
فأما إذا كان المتروك ثلاث صلوات في ثلاثة أيام ظهر وعصر ومغرب، فالجواب على قولهما ما سبق أنه يصلي كل صلاة مرة، وبأيهما بدأ جاز، وقول أبي حنيفة رحمه الله غير مذكور في (الكتاب)، وقد اختلف المشايخ على قوله بعضهم قالوا: يصلي تسع صلوات؛ لأن المتروك لو كان صلاتين يصلي ثلاثًا على ما سبق وكذا هاهنا، ثم يصلي بعد ذلك الثالثة وهو المغرب ثم الثلاث التي بدأ بها لجواز أن تكون المغرب من المتروكة أولًا، وأما إذا كان المتروك أربعًا بأن ترك معها العشاء، فالجواب عندهما على ما بينا.
وأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فقد اختلف المشايخ قال بعضهم: يصلي خمسة عشرة صلاة؛ لأن في الثلاث يصلي السبع على ما بينا؛ فكذلك هاهنا ثم يصلي الرابعة، فصار ثمانية ثم يعيد السبع لجواز أن تكون الرابعة هي المتروكة أولًا.
فأما إذا كان المتروك خمسًا، فكذلك الجواب عندهما، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله اختلف المشايخ بعضهم قالوا: يعيد إحدى وثلاثين؛ لأنه لو كان المتروك أربعًا يصلي خمسة عشرة ثم يصلي الخامسة، فصار ست عشرة، ويحتمل أن تكون الخامسة هي الأولى، وما أدي قبلها كان نفلًا، فيصلي خمسة عشرة، فصار إحدى وثلاثين وبعض مشايخنا قالوا: الجواب في هذه المسائل، وهو ما إذا كان المتروك ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا على قول أبي حنيفة رحمه الله نظير الجواب على قولهما بخلاف ما إذا كان المتروك صلاتين؛ لأنه إذا كان المتروك صلاتين أو اعتبرنا الترتيب على قوله يلزمه قضاء ثلاث صلوات، فلا يؤدي إلى الحرج، ولا إلى فوات الوقتية عن الوقت، أما إذا احتاج إلى قضاء السبع أو الزيادة على ذلك يؤدي إلى الحرج، وإلى فوات الوقتية عن الوقت، فيصلي ما فاته، ويبدأ بأيهما شاء ولا يعيد شيئًا كما هو مذهبهما، وعليه الفتوى على ما تقدم أن من نسي صلاة ذكرها بعد شهر وصلى الوقتية مع ذكرها جاز أداء الوقتية، وعليه الفتوى، فها هنا كذلك يصلي العصر إذا تذكر أنه ترك سجدة واحدة، ولا يدري أنها من صلاة الظهر أو من صلاة العصر التي هو فيها، فإنه يتحرى، فإن لم تقع يجزئه على...... يتم العصر ويسجد سجدة واحدة لاحتمال أنه تركها من العصر ثم يعيد الظهر ثم يعيد العصر، وإن لم يعد لا شيء عليه ولو توهم أنه لم يكبر تكبيرة الافتتاح ثم تيقن أنه كان كبر جاز له المضي وإن أدى ركنًا.
وإذا صلى الظهر ثم تذكر أنه ترك من صلاته فرضًا واحدًا، قال: يسجد سجدة واحدة ثم يقعد ثم يقوم، ويصلي ركعة بسجدة واحدة ثم يقعد ثم يسجد أخرى، هذا إذا علم أنه ترك فعلًا من أفعال الصلاة، فإن تذكر أنه ترك قراءة تفسد صلاته لاحتمال أنه صلى ركعة بقراءة ثلاث ركعات بغير قراءة.
ومما يتصل بهذا الفصل من المسائل المتفرقة:
إذا أراد أن يقضي الفوائت ذكر في (فتاوى أهل سمرقند): أنه ينوي أول ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها، وإذا أراد ظهر آخر ينوي أيضًا أول ظهر لله عليه؛ لأنه لما قضى الأول صار الثاني أول ظهر لله عليه، ورأيت في موضع آخر أنه ينوي آخر ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها، وإذا أراد ظهرًا آخر أيضًا أول ظهر لله عليه؛ لأنه لما قضى الأول صار الثاني أول ظهر لله عليه، ورأيت في موضع آخر أنه ينوي آخر ظهر لله عليه، وكذلك كل صلاة يقضيها وإذا أراد أن يصلي ظهرًا ينوي أيضًا آخر، ظهر لله عليه، لأنه لما أدى الآخر صار الذي قبله آخرًا، وإذا قضى الفوائت إن قضاها بجماعة كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة يجهر فيها الإمام، وإن قضاها وحده يخير إن شاء جهر، وإن شاء خافت والجهر أفضل ويخافت فيما يخافت فيها حتمًا، وكذلك الإمام.
وفي (فتاوى أهل سمرقند) مصلٍ نوى ظهر يوم الثلاثاء فتبين أنه يوم الأربعاء الظهر إذا نوى أن هذا الظهر ظهر يومه هذا يوم الثلاثاء فتبين أن ذلك اليوم يوم الأربعاء جاز لظهره؛ لأنه نوى صلاة بعينها وهو الظهر في وقت بعينه، وهو اليوم الذي هو فيه إلا أنه غلط في اسم الوقت.
ونظير هذا ما ذكر في (النوازل): إذا صلى الرجل خلف رجل وهو يظن أنه خليفة فلان إمام هذا المسجد فاقتدى به وهو خليفة في زعمه، فإذا هو غيره يجزئه وإن نوى الخليفة حتى كبر يريد به واقتدى بالخليفة لا يجوز؛ لأن في الوجه الأول اقتدى بالإمام مطلقًا، وفي الوجه الثاني اقتدى بالخليفة ولم يوجد.
وفيه إذا افتتح المكتوبة ثم نسي، فظن أنها تطوع، فصلى على نية التطوع حتى فرغ من صلاته، فالصلاة هي المكتوبة، ولو كان على العكس فالصلاة هي التطوع؛ لأن النية لا يمكن اقترانها بكل جزء من أجزاء الصلاة، فشرط قرانها بأول الصلاة بقي الفصل الأول المقارن لأول الجزء من المكتوبة، وفي الفصل الثاني المقارن لأول الجزء ونية التطوع، وإذا كبر للتطوع ثم كبر ونوى به الفرض، وصلى فالصلاة هي الفرض ولو كان على العكس، فالصلاة هي التطوع؛ لأنه لما كبّر ونوى الآخر صار داخلًا في الصلاة الأخرى، وإذا أخر الصلاة الفائتة عن وقت التذكر مع القدرة على القضاء هل يكره، فالمذكور في (الأصل) أنه يكره؛ لأن وقت التذكر هو وقت الفائتة، وتأخير الصلاة عن وقتها مكروه بلا خلاف.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر): عن خلف بن أبي أيوب عن أبي يوسف رحمة الله عليهم، فيمن فاتته صلاة واحدة ومضى على ذلك شهر ثم تذكرها فله أن يؤخرها ويقضي ثم يقضيها، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: وكذلك من وجبت عليه كفارة يمين، فأخرها جاز ذلك ولم يكره والله أعلم.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): رجل صلى خمس صلوات ثم علم أنه لم يقرأ في الأوليين من إحدى الصلوات الخمس ولا يعلم تلك الفائتة، فإنه يعيد الفجر والمغرب؛ لأنه إذا قرأ في الأخريين من الظهر والعصر والعشاء أجزأه بخلاف الفجر والمغرب، فيعيدهما احتياطًا، ولو تذكر أنه ترك القراءة في ركعة واحدة ولا يدري من أي صلاة تركها، قالوا: يعيد صلاة الفجر والوتر؛ لأنهما تفسدان بترك القراءة في ركعة واحدة منهما؛ ولو تذكر أنه ترك القراءة في أربع ركعات يعيد صلاة الظهر والعصر والعشاء ولا يعيد الوتر والفجر والمغرب، ولو أن... في بعض... في صلاة الفجر في وقتها وصلى بعدها الظهر والعصر والمغرب والعشاء أشهرًا، كذلك على حسبان أنه يجوز، فالفجر الأول جائز؛ لأنه أداها، ولا فائتة عليه والصلوات الأربع التي يعيدها لا تجوز، وكذلك الفجر الثاني؛ لأنه صلاها وعليه أربع صلوات والفجر الثالث يجوز؛ لأنه صلاها وعليه أكثر من يوم وليلة، قالوا وينبغي أن ينقلب الفجر الثاني جائزًا على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن فساد الفجر الثاني موقوف عنده لما علم في أصله، قال: وكذلك هل الفجر جائز وغير الفجر لا يجوز والله أعلم.

.الفصل الحادي والعشرون في سجدة التلاوة:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.الأول: في بيان صفتها وبيان مواضعها:

فنقول سجدة التلاوة واجبة عندنا، وعند الشافعي رحمه الله سنّة حجته في ذلك ما روي أن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قرأ آية السجدة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلم يسجد لها زيد، ولم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقال: «كنت إمامنا لو سجدت سجدنا معك»، ولو كانت واجبة لما تركها زيد، ولما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلّم بترك زيد.
وحجتنا في ذلك: أن آيات السجدة دالة على الوجوب، فإن في بعضها أمرًا بالسجود، وفي بعضها إلحاق الوعيد بتاركه وفي بعضها ما يستدل على إسكات الكفرة إنكار الكفرة عن السجود، والاحتراز عن التشبه بهم واجب، وفي بعضها إخبار عن فعل الملائكة وغيرهم والاقتداء بهم لازم؛ ولأنه يجوز قطع الفعل المفروض لأجلها وهو الخطبة، وهو دليل على كونها واجبة، والحديث محمول على الفور يعني لو سجدت للحال سجدنا معك، فإذا لم يسجد للحال سجدنا في أي وقت نشاء.
وأما بيان مواضعها فنقول: موضع السجود معلومة في القرآن، والخلاف في موضعين، عندنا سجدة التلاوة في سورة الحج واحدة وهي الأولى، وعند الشافعي رحمه الله فيها سجدتان لحديث عقبة بن عامر قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم «في الحج سجدتان أو قال: فضلت الحج لسجدتين من لم يسجدهما فلا يقرأها»، وهو مروي عن عمر رضي الله عنه، ومذهبنا مروي عن ابن عباس رضي الله عنه وابن عمر رضي الله عنه، قالا: سجدة التلاوة في الحج هي الأولى، والثانية سجدة الصلاة وهو الظاهر، فقد قرنها الله تعالى بالركوع فقال: {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77] وهو تأويل الحديث، «فضلت الحج لسجدتين» أحدهما: سجدة التلاوة والأخرى سجدة الصلاة، وأما سجدة سورة (ص)، فهي سجدة تلاوة.
وقال الشافعي رحمه الله: هي سجدة الشكر، لما روي أن النبي عليه السلام: قرأ في خطبته سورة (ص)، فتشزن الناس السجود، فقال عليه السلام «علام تشزنتم إنها توبة نبي»، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال في السجدة (ص): «سجدها داود صلوات الله عليه للتوبة وخرّو نحن نسجدها شكرًا».
ولنا: ما روي أن رجلًا من الصحابة، قال: «يا رسول الله رأيت ما يرى النائم كأني أكتب سورة (ص)، فلما انتهيت إلى موضع السجدة سجدت الدواة والقلم فقال عليه السلام نحن أحق بها من الدواة والقلم ما مر حتى تليت في مجلسه وسجدها مع أصحابه»، وإنما لم يسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلّم في خطبته ليبين لهم أنه يجوز التأخير، وروي «أنه سجدها في خطبته مرة» وهو دليل على أنه سجدها تلاوة، فإن... عباده بها... العبد، وجبت قطع الخطبة لأجلها، وما روي أنه سجدها داود عليه السلام توبة، ويخر شكر كونها سجدة تلاوة آلا وفيه معنى الشكر.
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: سببه وجوبها، فنقول لا خلاف أن التلاوة سبب لوجوبها، فإنها تضاف إلى التلاوة ويتكرر بتكررها، وأما السماع هل هو سبب؟ قال بعض المشايخ: إنه سبب، فإن الصحابة رضوان الله عليهم، قالوا: السجدة على من سمعها، كما قالوا: على من تلاها، ولأنه إنما وجبت على التالي؛ لأنه طلب منه بحكم أنه مخالفة للكفرة، وقد فهم من طلب منه فيلزمه، وكذا السامع.
والصحيح: أن السبب هو التلاوة، فإنها تضاف إليها دون السماع لكن السماع شرط، لتعمل التلاوة في حق غير التالي أما، ليس في الحديث بيان السبب فيه بيان الوجوب على السامع.
ولو تلاها بالفارسية، فعليه أن يسجدها وعلى من سمعها على قياس قول أبي حنيفة رحمه الله، سواء فهم أو لم يفهم إذا أخبر له سجدة، وقال أبو يوسف رحمه الله: تجب على من فهم، ولا تجب على من لم يفهم؛ لأن عنده أنها تجوز بالفارسية إذا لم يقدر على العربية، فاعتبر تلاوة القرآن من وجه دون وجه، فأوجبها على من فهم دون من لم يفهم عملًا بالدليلين بقدر الإمكان.
فأما التلاوة بالعربية توجب السجدة على من فهم أو لم يفهم؛ لأنها تلاوة القرآن من كل وجه، والسبب متى وجد لا يتوقف عمله على الفهم، فهذا أبطل ما قاله أبو يوسف رحمه الله؛ لأنه إن كانت التلاوة بالفارسية تلاوة للقرآن ينبغي أن تجب على كل حال، وإن لم تكن لا تجب على كل حال، أما أن تجب في حال ولا تجب في حال، فهذا ليس من الفقه في شيء.
وإذا تلا آية السجدة ومعه نائم أو مغشيًا، عليه فلم يسمعها، فقد اختلف المشايخ في وجوب السجدة عليه، والأصح أنه لا تجب وإذا سمعها من طير لا تجب عليه السجدة، وإذا سمعها من نائم، فقد اختلف المشايخ فيه.
والصحيح: أنها لا تجب، ولو سمعها من الصداى وتقال بالفارسية بجواك لا تجب عليه السجدة، ذكره الشيخ الإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمه الله، ولو تهجى بالقرآن لا تجب عليه السجدة، وكذلك إذا كتب لا تجب عليه السجدة، ولا تجوز بالتيمم مع القدرة على الماء ويبطلها ما يبطل الصلاة من الكلام والحدث والضحك، ولا تبطل الطهارة بالضحك قهقهة في سجدة التلاوة وتبطل بالضحك قهقهة في الصلاة.

.نوع آخر في بيان شرائط جوازها:

فنقول شرائط جوازها ما هو شرائط جواز الصلاة من طهارة البدن عن الحدث والجنابة وطهارة الثوب عن النجاسة وستر العورة، واستقبال القبلة؛ لأنها ركن من أركان الصلاة، ويكبر عند الانحطاط، والرفع اعتبارًا بالسجدة الصلاتية، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما: أنه لا يكبر عند الانحطاط؛ لأن تكبير الانتقال من الركن، وعند الانحطاط لا ينتقل من الركن ولم يذكر في (الأصل) أنه ماذا يقول في هذه السجدة، وفي (القدوري) يسبح فيها ولا يسلم، وأما التسبيح اعتبارًا بالصلاتية، ولم يذكر أيضًا ماذا يقول في التسبيح، والأصح أن يقول في هذه السجدة في التسبيح ما يقول في السجدة الصلاتية، وبعض المتأخرين استحبوا أن يقولوا: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولًا، ما يقول فيها وكذلك استحبوا أن يقول ويسجد لقوله تعالى: {قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أُوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرُّون للأذقان سجَّدًا} [الإسراء: 107] والخرور هو السقوط من القيام.
وأما عدم السلام، فإن السلام شرع للتحلل عن التحريمة، وليس فيها تحريمة وإن لم يذكر فيها شيء أجزأه؛ لأنها لا تكون أقوى من السجدة الصلاتية، فتلك تجزئ وإن لم يذكر فيها شيئًا فهاهنا أولى.
وقال القدوري: وإذا وجبت السجدة في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة فسجدها، وفي الأوقات المكروهة لم تجز؛ لأنه التزمها كاملة وأداها ناقصة، فلا تجوز كمن افتتح الصلاة في وقت غير مكروه، وأفسدها وقضاها في وقت مكروه، فإن تلاها في هذه الأوقات وسجدها جاز، فإن لم يسجده في تلك الساعة، فسجدها في وقت آخر مكروه جاز؛ لأنه لا تفاوت بين المؤدى والواجب، هكذا ذكر القدوري؛ وهو نظير ما إذا افتتح الصلاة في وقت مكروه وأفسدها وقضاها في وقت مكروه، وذلك جائز كذا ها هنا، وذكر في بعض الروايات أنه يومئ عندنا، وكذلك إذا سمعها وهو راكب يجزئه أن يومئ على أنه لا يجوز والله أعلم.
ولو تلاها راكبًا أجزأه على الدابة، وإن تلاها أو سمعها ماشيًا لم تجزئه أن يومئ لها وهو في ركب يكون خارج المصر، أما الراكب الذي هو في المصر إذا أومأ لتلاوته، فقد جرى عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز، وهو قياس مذهبه على التطوع على الدابة في المصر، ولو تلاها على الدابة ثم نزل ثم ركب، فأداها بالإيماء جاز ماشيًا إلا على قول زفر رحمه الله، وهاهنا آخر في نوع المتفرقات في هذا الفصل والله أعلم.

.نوع آخر في بيان حكمها:

فنقول من حكم هذه السجدة التواجد حتى يكفي في حق التالي سجدة واحدة، وإن اجتمع في حق التلاوة والسماع وشرط الترك حل اتحاد؛ لأنه اتحاد المجلس حتى لو اختلف المجلس واتحدت؛ لأنه لا تتداخل ولو اتحد المجلس واختلفت الآية لا تتداخل، ولها سبب على التداخل، لوجوه:
أحدها: ما حكى القاضي أبو القاسم عن القضاة الثلاثة رحمهم الله: أنه يعيد مكرر عرفًا، فإن من قرأ أية واحدة في مجلس واحد بالحكمة، وقرأ خطبة واحدة في مجلس واحد مرارًا يقال في العرف كرره، وهذا عرف تأيد بالحكمة، فإن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يكون في الإقرار التالي مكررًا ومعيدًا، وإذا كان مكررًا ومعيدًا عرفًا كان التالي الأول، فلا يكون التالي حكم نفسه، ولا عرف فيما إذا اختلف المجلس أو اختلف، ما حكي عن القاضي أبي عاصم العامري رحمه الله أن المجلس يجمع الكلمات المتفرقة من جنس واحد ويجعلها ككلمة واحدة، ألا ترى أن من أقر بالزنا أربع مرات في مجلس واحد يجعل مقرًا مرة واحدة، فكذا هاهنا يجعل كأنه قرأ مرة واحدة، فأما المجالس المختلفة لا تجمع الكلمات المتفرقة، ولا تجعلها ككلمة واحدة كما لو أقر بالزنا أربع مرات في أربع مجالس لا يجعل معبرًا مرة واحدة، فكذا هاهنا لا يجعل كأنه قرأ مرة واحدة.
والثالث: ما ذهب إليه مشايخ ما وراء النهر: أن الحاجة إلى تكرار كلام الله تعالى للتعليم والتعلم وليحفظ صاحبه ما بينه فلو أوجبنا بكل مرة سجدة على حدة يقع في الحرج، ولأنه تنقطع عليه القراءة، بخلاف ما إذا اختلفت الآية في مجلس واحد؛ لأنه لا حرج ثم؛ لأن آيات السجدة في القرآن محصورة مضبوطة أما التكرار للتعلم وللحفظ غير محصورة ولا مضبوطة؛ ولأن الإنسان لا يقرأ جميع آيات السجدة في مجلس واحد غالبًا، أما تكرار آية واحدة في مجلس واحد، فاللتعليم والتعلم والحفظ غالبًا فظهرت التفرقة بينهما.
ولم يذكر في (الأصل): حكم الصلاة على النبي عليه السلام إذا ذكر في مجلس واحد مرارًا، وعلى قول الكرخي رحمه الله: لا يصلي عليه إلا مرة واحدة؛ لأن من مذهبه أنه لا تجب عليه الصلاة إلا مرة واحدة، فإن كان هذا الرجل قد كان عليه صلى مرة واحدة لا يلزمه هاهنا شيء، وإن كان لم يصل عليه يلزمه هاهنا مرة واحدة لكل مرة، وإن كرر اسمه في مجلس واحد؛ لأن هذا حق الرسول عليه السلام قال عليه السلام: «لا تجفوني بعد موتي» قيل وكيف نجفي بعدك يا رسول الله قال: «إن كان أذكر عند أحدكم، فلا يصلي عليّ» وبه كان يفتي شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.

.نوع آخر في بيان من تجب عليه هذه السجدة:

فنقول التالي لآية السجدة تلزمه السجدة بتلاوته إذا كان أهلًا لوجوب الصلاة عليه، وإن كان منهيًا عن القراءة كالجنب؛ لأن النهي عن التصرف لا يمنع اعتباره في حق الحكم كسائر التصرفات المنهي عنها، وكل من لا تجب عليه الصلاة ولا قضاؤها، كالحائض والنفساء والكافر والمجنون والصبي فلا سجود عليه للتلاوة لما ذكرنا، لأن السجدة من أركان الصلاة، فلا تجب على من لا تجب عليه سائر الأركان.
وكذلك الحكم في حق السامع من كان أهلًا لوجوب الصلاة عليه تلزمه السجدة بالسماع، ومن لا يكون أهلًا لوجوب الصلاة عليه نحو الحائض أو الكافر أو الصبي أو المجنون لا تلزمه السجدة بالسماع.
وإن لم يكن التالي أهلًا لوجوب الصلاة عليه، نحو الحائض أو الكافر أو الصبي أو المجنون والسامع أهلًا لوجوب الصلاة تجب على السامع السجدة، أو ليس فيه أكبر من كون التالي منهما منهي عن القراءة المنهي عن التصرف لا يمنع اعتباره الحكم غير أنه إنما يعتبر التصرف في حق الحكم، في حق من هو أهل لذلك، والتالي إن لم يكن أهلًا، فالسامع أهل فتجب عليه السجدة.
وذكر مسألة المجنون في (نوادر الصلاة): أن الجنون إذا قصر، فكان يومًا وليلة أو أقل تلزمه السجدة بالتلاوة والسماع حالة الجنون فيؤديها بعد الأهلية، إذا قرأ آية السجدة ولم يسجد لها، حتى ارتد والعياذ بالله ثم ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية أنه لا قضاء عليه، والصبي الذي يعقل الصلاة إذا قرأ آية السجدة أمر أن يسجد، وإن لم يسجد لم يكن عليه أيضًا.
والسكران إذا قرأ آية السجدة، روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه تلزمه السجدة.
المرأة إذا قرأت آية السجدة في صلاتها، ولم تسجد لها حتى حاضت سقطت عنها السجدة، مصلي التطوع إذا قرأ آية السجدة، وسجد لها ثم فسدت صلاته وجب عليه قضاؤها، لا تلزمه إعادة تلك السجدة، وإذا قرأ الرجل ومعه قوم سمعوها، فسجد سجدوا معه ولا يرفعوا رؤوسهم قبله.
والأصل في ذلك ما روي «أن شابًا قرأ آية السجدة بين يدي رسول الله ولم يسجد لها، فقال عليه السلام: يا شاب كنت إمامنا لو سجدت سجدنا معك»، فقد جعل التالي إمامًا وعلى المأموم أن يتابع الإمام في السجدة، فلا يرفع رأسه من السجدة قبل رفع التالي جازت سجدته كما في السجدة الصلاتية.

.نوع آخر في بيان ما يبطل هذه السجدة وما لا يبطلها:

إذا تكلم في السجدة أو ضحك قهقهة أو أحدث متعمدًا أو خطأ، فعليه إعادتها اعتبارًا بالصلاتية، ولا وضوء عليه في القهقهة؛ لأن الضحك عرف حدثًا بالأمر، والأثر ورد في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، وإن سبقه الحدث توضأ وأعادها؟ قال شيخ الإسلام هذا الجواب مستقيم على قول محمد رحمه الله، فإن عنده تمام السجدة بوضع الجبهة ورفعها، فإذا أحدث فيها أو ضحك فيها أعادها، أما قول أبي يوسف رحمه الله: تمام السجدة بوضع الجبهة لا غير، فإذا وضع الجبهة، فقد تمت السجدة وإن قل، فكيف يتصور القهقهة فيها؟ فإذا ضحك بعد ذلك فقد ضحك بعد تمام السجدة، فلا تلزمه الإعادة.
ومحاذاة المرأة الرجل في سجدة التلاوة لا تفسد صلاة الرجل، وإن نوى إمامتها؛ لأن المحاذاة لها عرفت مفسدة ضرورة وجوب التأخر على الرجل بأمر الشرع، والأمر إنما ورد في الصلاة المطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، فلم تكن المحاذاة فيها مفسدة.

.نوع آخر في بيان ما يتعلق به وجوب هذه السجدة:

ذكر في (الرقيات): فيمن قرأ السجدة كلها إلا الحرف الذي في آخرها قال لا يسجد، ولو قرأ الحرف الذي يسجد فيه وحده لم يسجد إلا أن يقرأ أكثر من آية السجدة، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: إذا قرأ حرف السجدة ومعها غيرها قبلها أو بعدها فيه أمر بالسجدة سجد، وإن كان دون ذلك لا يسجد، وفي فوائد الإمام الزاهد السنكريتي رحمه الله: إن من تلا في أول السجدة أكثر من نصف الآية، وترك الحرف الذي فيه السجدة لم يسجد، وإن قرأ الحرف الذي فيه السجدة إن قرأ ما قبله أو بعده أكبر من نصف الآية تجب السجدة، وما لا فلا، وعن أبي علي الدقاق رحمه الله فيمن سمع سجدة من قوم قرأ كل واحد منهم حرفًا ليس عليه أن يسجد، لأنه لم يسمعها من قائلها.

.نوع آخر في تكرار آية السجدة:

رجل قرأ آية السجدة فسجدها ثم قرأها في مجلسه، فليس عليه أن يسجدها، وإن قرأها فلم يسجدها حتى قرأها ثانية في مجلسه، فعليه سجدة واحدة، وهذا استحسان والقياس أن تجب بكل تلاوة سجدة؛ لأن السجدة حكم التلاوة، والحكم يتكرر بتكرر السبب اعتبارًا للسبب، ولا معنى للبدل؛ لأن السجدة عبادة والعبادات يحتاط في إقامتها، ولا يحتال لدرئها بخلاف الحدود، فإنها عقوبات، والأصل في العقوبات إسقاطها لا استيفائها.
وجه الاستحسان ما روي أن جبريل صلوت الله عليه كان ينزل بآية السجدة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكان يكرر عليه مرارًا، وكان رسول الله عليه السلام يسجد لها سجدة واحدة، وروي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان يعلم الناس القرآن في المسجد بالكوفة، وكان يكرر آية السجدة في مكان واحد.
وفيما كان يخطو خطوة أو خطوتين، وكان يسجد لذلك مرة واحدة، والنص لها ورد في مكان واحد وفي آية واحدة فيما عدا ذلك يبقى على أصل القياس، والمعنى ما ذكرنا من الوجوه الثلاث في صدر هذا الفصل، فإن قرأ فسجد وذهب وعاد وقرأها ثانيًا، فعليه سجدة أخرى، وكذلك إن لم يكن سجد للأولى حتى ذهب ثم عاد، فقرأ ثانيًا تلزمه سجدتان؛ لأنه اختلف المجلس ولا يمكن إثبات الاتحاد، وهذا إذا ذهب بعيدًا، فأما إذا ذهب قريبًا تكفيه سجدة واحدة مقدر حد الفاصل، الحد الفاصل بين القريب والبعيد أنه إذا مشى خطوتين أو قلنا بذلك قريب، فإن كان أكثر من ذلك كان بعيدًا.
قال محمد رحمه الله: فإن كان نحوًا من عرض المسجد وطوله فهو قريب، وهذا إذا كان المجلس مجلس القراءة كما روي عن أبي موسى الأشعري أنه كان يقرئ الصحابة وهم خلف كبيرة، فأما إذا لم تكن هكذا تلزمه ثانيًا، لأن المجلس يختلف والله أعلم.
ولو قرأها قاعدًا ثم قام وقرأها ثانية تكفيه سجدة واحدة ولا يجعل المجلس مختلفًا؛ لأن مكان التالي لم يختلف لها إلا اختلاف هيئته، وهذا بخلاف المخيرة إذا قامت من مجلسها حيث يبطل خيارها؛ لأن ذلك ليس لاختلاف المجلس؛ بل للإعراض دلالة؛ لأن من حزبه أمر وهو قائم يقعد إذ القعود أجمع للرأي، وكان قيامها دليل الأعراض، والخيار يبطل بالأعراض صريحًا، ودلالة، أما ها هنا الحكم يتعدد باختلاف المجلس ولم يوجد، وإن أكل بيديه أكلًا طويلًا أو نام مضطجعًا أو أخذ في بيع أو في شراء أو عمل عملًا يعرف أنه قطع لما كان قبله لذلك، ثم قرأ فعليه سجدة أخرى استحسانًا.
والقياس: أن تكفيه سجدة واحدة، وجه القياس: أن المجلس ما تبدل حقيقة، فإنه لم ينتقل عنها إلى مكان واحد فكفته سجدة واحدة كما لو كان العمل يسيرًا.
وجه الاستحسان: وهو أن المجلس قد يبدل اسمًا وحكمًا، وإن لم يتبدل حقيقة؛ لأن الفعل إذا كبر يضاف المجلس إليه، ألا ترى أن القوم إذا جلسوا للدرس يقولون أنه مجلس الدرس ثم يشتغلون بالأكل، فيقولون إنه مجلس الأكل ثم يقتتلون، فيصير مجلسهم مجلس القتال وصار تبدل المجلس بهذه الأعمال كتبديله بالذهاب والرجوع.
وإن نام قاعدًا أو أكل لقمة أو شرب شربة أو عمل عملًا يسيرًا ثم قرأها فليس عليه سجدة أخرى؛ لأن المجلس لم يتبدل لا حقيقة، ولا حكمًا، أما حقيقة فلا إشكال فيه؛ لأنه لم ينتقل عنها إلى مكان آخر، وأما حكمًا؛ لأنه لا يضاف المجلس إلى الأكل بأكل لقمة، ولا إلى الشرب بشرب شربة، وإلى النوم بالنوم قاعدًا ساعة، إذا لم يتبدل المجلس حقيقة، وصار وجود هذا وعدمه سواء.
وفي الذي... إذا كرر آية سجدة واحدة اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم تكفيه سجدة واحدة، فإن المجلس واحد من حيث الاسم، فإن المجلس يضاف إلى هذا الفعل، والأصح أنه يلزمه بكل مرة سجدة؛ لأن المجلس تبدل حقيقة بتبدل المكان ولو أنه اختلف حقيقة لا يعتبر واحدًا باتحاد العمل، كما لو كان راكبًا فتلا آية السجدة مرارًا والدابة تسير لا تكفيه سجدة واحدة، وإن كان العمل وهو السير واحدًا والتي تلاها على... اختلف المشايخ فيه مثل اختلافهم في تسدية الثوب، وحجتهم ما ذكرنا في تسدية الثوب والتي تلاها على الشجرة على غصن ثم انتقل إلى غصن آخر، وتلا تلك الآية في ظاهر الرواية يلزمه سجدتان، وعن محمد رحمه الله: أنه يكفيه سجدة واحدة محمد رحمه الله، اعتبر أصل الشجرة أنه واحد.
وجه ظاهر الرواية وهو أنه تبدل المكان لاختلاف الغصن، ألا ترى أنه لو سقط يكون الموضع الذي سقط غير ذلك الموضع حتى لو تلاها على الأرض، ثم انتقل مقدار الغصن يلزمه سجدتان، والسابح في الماء إذا تلا السابح في الماء... الماء شيء يلزمه بكل مرة سجدة على حدة، قالوا إذا كان سبح في حوض أو غدير له حد معلوم تكفيه سجدة واحدة، وعن محمد رحمه الله إذا كان طول الحوض مثل طول المسجد وعرضه تكفيه سجدة واحدة.
ولو قرأها في زوايا المسجد الجامع تكفيه سجدة واحدة كذلك حكم البيت والدار قيل: في الدار إذا كانت كبيرة كدار السلطان فتلا في دار منها ثم تلا في دار أخرى يلزمه سجدة أخرى، وأما في المسجد الجامع إذا تلا في دار ثم تلا في دار أخرى يلزمه يكفيه؛ لأن دور المسجد الجامع، وإن كثرت جعلت كمكان واحد في حق جواز الإقتداء، وكذا في حق حكم السجدة، ولا كذلك دور السلطان، وإذا قرأها مرارًا على الدابة والدابة تسير، فإن كان في الصلاة تكفيه سجدة واحدة؛ لأن حرمة الصلاة تجمع الأماكن المختلفة، وإن كان خارج الصلاة يلزمه بكل مرة سجدة.
فرق بين هذا وبين السفينة، وبسفينة تجري يكفيه سجدة واحدة، وفي الدابة يلزمه بكل مرة سجدة، والفرق: هو أن سير السفينة مضاف إلى السفينة، لا إلى راكبها شرعًا وعرفًا، أما شرعًا فلقوله تعالى: {وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين} [هود: 42] الله تعالى أضاف الجري إلى السفينة، لا إلى الراكب، وأما عرفًا؛ فلأن الناس يقولون: سارت السفينة كذا كذا مرحلة، وإذا صار مضافًا إلى السفينة، فالمكان يتحد في حق الراكب، وإن اختلف في حق السفينة.
فأما سير الدابة مضاف إلى الراكب عرفًا، فإن الناس يقولون في العرف سرت كذا وكذا فرسخًا اليوم، وإذا صار السير مضافًا إلى الراكب تبدل المكان حقيقة وحكمًا بعض مشايخنا قالوا؛ ما ذكر في (الكتاب) إذا قرأ آية السجدة على الدابة مرارًا والدابة تسير، فإن كان في الصلاة، فعليه سجدة واحدة محمول على ما إذا قرأها مرارًا في ركعة واحدة، فإن كان ذلك في ركعتين يجب أن يكون على الاختلاف الذي يذكر فيما إذا تلاها على الأرض في الصلاة في ركعتين على قول أبي يوسف رحمه الله: يكفيه سجدة واحدة، وعلى قول محمد رحمه الله: يلزمه سجدتان، ومنهم من قال: الجواب في هذه المسألة في الركعتين والركعة الواحدة سواء بالإجماع، ويكفيه سجدة واحدة بالإجماع.
والفرق لمحمد رحمه الله بين المصلي على الأرض، والمصلي على الدابة: أن المصلي على الأرض يصلي بركوع وسجود، وإنه عمل كثير يتخلل بين التلاوتين، والراكب نوى وهو عمل يسير، ولا يتحدد وجوب السجدة في الراكب على الدابة، ويتحدد في المصلي على الأرض، بهذا، وإذا سمع هذا الراكب المصلي آية السجدة من غيره مرتين وهو يسير فعليه سجدتان إذا فرغ من صلاته؛ لأن حرمة الصلاة لها تجمع الأماكن المختلفة في حق أفعال الصلاة، فأما ما ليس من أفعال الصلاة يبقى على الحقيقة، والمكان مختلف حقيقة، وسماعه ذلك الرجل قرأ راكبًا ونزل فقرأ ليس من أفعال الصلاة، فلا يثبت اتحاد المكان في حقه، وإذا لم يثبت اتحاد المكان في حقه يلزمه بكل تلاوة سجدة، وإن قرأها راكبًا، ثم نزل قبل أن يسير فقرأها فعليه سجدة واحدة استحسانًا.
وفي القياس: عليه سجدتان وجه القياس: وهو أن المكان اختلف حقيقة؛ لأنه كان على الدابة... وعلى الأرض، واختلاف المكان بهذا الصدر وإن كان لا يوجب تبدل المجلس، إلا أنه وجد معه عمل آخر وهو النزول وللعمل أثر في قطع المجلس، فإذا اجتمعا أوجب تبدل المجلس، وكان يجب أن تلزمه سجدتان.
وجه الاستحسان: وهو أن النزول عمل قليل وما وجد من اختلاف المكان قليل أيضًا لو... ولم يوجب ذلك تبدل المجلس، فكذلك مع النزول وإن كان سار ثم نزل، فعليه سجدتان؛ لأن سير الدابة كمشيه فتبدل به المجلس.
وإن قرأها على الأرض ثم ركب فقرأها قبل أن يسير سجدها سجدة واحدة على الأرض، ولو سجدها على الدابة لم يجزئه عن الأولى؛ لأنه إذا سجدها على الدابة فالمؤداة أضعف من الأولى، فأما إذا سجدها على الأرض، فالمؤداة أقوى من الأولى والمكان واحد فينوب المؤدى عنهما، وإن قرأها راكبًا ثم نزل ثم ركب، فقرأها وهو على مكانه، فعليه سجدة واحدة وتجزئه على الدابة؛ لأنه التزمها على الدابة، فإذا أداها على الدابة، فقد أداها كما التزم.
وإذا تبدل مجلس التالي، ولم يتبدل مجلس السامع يتكرر الوجوب على السامع عند بعض المشايخ وعند عامة الشايخ لا يتكرر؛ لأن الوجوب على السامع بالسماع ومكان السامع متحد، ولو تبدل مجلس السامع دون التالي تكرر الوجوب، وإن قرأها في غير صلاة وسجد ثم افتتح الصلاة في مكانه، فقرأها فعليه سجدة أخرى؛ لأن التي وجبت بالتلاوة صلاتية، فلا تنوب عنها المؤداة قبل الشروع في الصلاة؛ لأنها أضعف، وإن لم يكن سجد أولًا ثم شرع في الصلاة في مكانه، فقرأها يسجد لهما جميعًا أجزأه عنهما في ظاهر الرواية، وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله وهو إحدى روايتي (نوادر الصلاة) أنه لا يجزئه عنهما، وعليه أن يسجد للتي تلاها خارج الصلاة بعد الفراغ من الصلاة.
وجه هذه الرواية: أنه لا يمكن إدخال الأولى في الثانية؛ لأنه خلاف موضع التداخل، فلابد من اعتبار كل واحد منهما على حدة، والصلاتية تؤدى في الصلاة وغير الصلاتية، وهي الأولى أن تؤدى بعد الفراغ من الصلاة وجه ظاهر الرواية، وهو أن السبب واحد، فإن المتلو آية واحدة والمكان واحد والمؤداة أكمل من الأولى؛ لأن لها حرمتان، ولو كانت مثل الأولى نابت، فإذا كانت أكمل أولى أن تنوب عنهما، إذا قرأ المصلي آية السجدة وسمعها من أجنبي أيضًا أجزائه سجدة واحدة، هكذا ذكر في (الجامع الصغير).
وفي (الجامع الكبير)، وذكر في (نوادر أبي سليمان) وهو رواية ابن سماعة عن محمد رحمهم الله: أنه لا يكفيه سجدة واحدة ولا تنوب المتلوة عن المسموعة وعليه أن يسجدها للمسموعة إذا فرغ من صلاته، وجه رواية ابن سماعة وهو أن السماعية ليست بصلاتية وجه ظاهر الرواية وهو أنه سمع وتلا في مكان واحد فتدخل المسموعة في المتلوة وتنوب المتلوة عنهما جميعًا؛ لأن المتلوة أقوى من السماعية؛ لأن لها حرمتين حرمة الصلاة وحرمة التلاوة، والمسموعة لها حرمة واحدة، والقوي ينوب عن الضعيف ولو استويا في القوة نابت إحديهما عن الأخرى، فلأن ينوب القوي عن الضعيف أولى.
قال شمس الأئمة رحمه الله: وبين الناس كلام كثير في هذه المسألة، قال بعضهم: إن كان السماع والتلاوة في مقام واحد، ففيه روايتان كما ذكرنا، فأما إذا كانت التلاوة في مقام والسماع في مقام آخر، ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف، عند أبي يوسف رحمه الله يكفيه سجدة واحدة، وعند محمد رحمه الله يلزمه سجدتان، وذكر الفقيه أبو جعفر أن جواب (الجامع الصغير) عندي فيما إذا كانت تلاوته وسماعه معًا بأن كانا يقرآن معًا هذه السجدة هذا في الصلاة، وذاك خارج الصلاة فهاهنا تتداخلان، وتنوب المتلوة عن المسموعة؛ لأنها أقوى كما ذكرنا.
فأما إذا كانا على التعاقب بأن كان السماع أولًا ثم التلاوة أو كانت التلاوة أولًا ثم السماع، ففيه روايتان وإن كانا جميعًا في مقام واحد، هذا إذا كانت المتلوة والمسموعة سجدة واحدة، فأما إذا سجد في الصلاة لا يجب عليه أخرى في ظاهر الرواية؛ لأن الباقي أعلى للأولى للاتحاد المجلس سجدة أخرى للمسموعة إذا فرغ من الصلاة وإن سمع المصلي آية السجدة من رجل وسجد لها ثم أحدث وذهب، ثم عاد وسمع من ذلك الرجل مرة أخرى، فإنه يسجد سجدة أخرى، قيل: قرأ في الصلاة وسجد ثم أحدث ورجع وبنا وقرأ تلك الآية هذا على رواية (النوادر).
وعلى هذا قالوا لو قرأ آية السجدة في الصلاة ثم أحدث وذهب ليتوضأ ثم عاد، وأعادها يسجد سجدة أخرى، ويستوي سماعه وتلاوته مرتين في إيجاب السجدتين، ولو قرأ رجل سجدة في الصلاة، فسجدها ثم سلم وتكلم قرأها ثانية، فعليه إن لم يسجدها وإن كان لم يسجدها يكفيه سجدة واحدة كذا ذكر في (الأصل).
وذكر في (نوارد أبي سليمان) رحمه الله: إذا قرأ آية السجدة في الصلاة وسجد ثم سلم وقرأها في مقامه ذلك، فلا سجود عليه من مشايخنا رحمهم الله من قال في المسألة اختلاف الروايتين، ومنهم من قال: إنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع ما ذكر في (النوادر) أنه سلم لا غير ومجرد السلام لا يوجب تبدل المجلس؛ لأنه كلام يسير؛ لأنه كلامان لا غير وموضوع ما ذكر في الصلاة أنه سلم وتكلم به يكثر الكلام؛ لأنه تكلم ثلاث مرات بسلامين وكلام آخر، فيوجب تبدل المجلس، ولو قرأ آية السجدة في الركعة الأولى، فسجد ثم أعادها في الثانية، فلا سجود عليه في قول أبي يوسف رحمه الله، وقال محمد رحمه الله يسجد استحسانًا، وهذا من المسائل التي رجع أبو يوسف رحمه الله فيه من الاستحسان إلى القياس.
وجه الاستحسان: أن القول باتحاد التلاوتين غير ممكن هنا، لأنا لو قلنا: بالاتحاد تفوت القراءة من إحدى الركعتين حكمًا والقراءة في كل ركعة ركن، فاعتبرنا كل قراءة تلاوة على حدة.
وللقياس وجوه: أحدها: أن يثبت الاتحاد بقدر ما تتعلق به السجدة لا غير.
والثاني: أن يثبت الاتحاد في حق السجدة لا في حق الصلاة.
والثالث: أن يثبت الاتحاد في حق سببية السجدة لا في حق القراءة، وتفسيره: أن يجعل كلاهما تلاوة واحدة، وإذا سجد للتلاوة وتلا في السجدة آية أخرى لا تلزمه سجدة أخرى، وكذا لو تلا في الركوع ذكر في صلاة الفارسية؛ لأن هذه التلاوة محجور عنها سجد للتلاوة، فقرأ في السجدة أية أخرى.

.نوع آخر في سماع المصلي آية سجدة ممن معه في الصلاةأو ممن ليس معه في الصلاة وسماع غير المصليآية السجدة من المصلي ثم اقتداؤه بالمصلي:

قال محمد رحمه الله: إذا تلا آية سجدة خلف الإمام يسمعها الإمام والقوم ليس عليهم أن يجسدوها ما داموا في الصلاة، وهذا حكم الثابت بالإجماع؛ لأنه يؤدي إلى قلب الشريعة فإن التالي يتبع في هذه الصلاة وينقلب متبوعًا بسبب السجدة، لأن التالي إمام السامعين، قال عليه السلام للتالي «كنت إمامنا لو سجدت لسجدنا» ولهذا كانت السنّة أن يتقدم التالي بالسجدة، ويصطفون خلفه فلو... الأداء في الصلاة انقلب التبع متبوعًا، وذلك باطل، فإن فرغوا من الصلاة لا يسجدونها أيضًا عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله يسجدونها؛ لأن التلاوة صحت من أهلها فوجبت السجدة أكثر ما في الباب أن حرمة القراءة على المقتدي خلف الإمام إلى حرمة القراءة لا يكون مانعًا وجوب السجدة كحرمة القراءة على الجنب والحائض والنفساء والكافر، فتلاوة هؤلاء، فإنها لا تمنع وجوب السجدة، فكذلك ها هنا.
ولهما: أن المقتدي محجوب عن القراءة خلف الإمام بدليل يعد أنه قراءة الإمام عليه قال عليه السلام: «من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة»، وذلك دليل الولاية، والولاية دليل حجر المولى عليه وتصرف المحجور عليه لا ينعقد بحكم كسائر تصرفاته، بخلاف قراءة الجنب والحائض؛ لأنهما ليسا بموليين عليهما ولا محجورين، بل كانا منهيين عن التلاوة والتصرفات المنهي عنها ينعقد حكمها.
وفرق بين الحجر وبين النهي، فأثر الحجر في منع اعتبار السببية، وأثر النهي في حرمة الفعل دون مولى الاختيار والفقه فيه: أن النهي... مصدر المنهي عنه بعد النهي، كما كان قبل النهي بخلاف الحجر على أنا نقول الجنب والحائض ليسا بممنوعين عن قراءة ما دون الآية على ما ذكره الطحاوي رحمه الله، وذلك القدر كافٍ لتعلق الوجوب، فأما المقتدي ممنوع عن قراءة ما دون الآية ومحجور عليه على ما مر.
وأما إذا سمعها من المقتدي رجل ليس معهم في الصلاة ذكر في (نوادر أبي سليمان) رحمه الله: أنه يلزمه نفل هو قول محمد رحمه الله ولئن كان قول الكل بالحجر ثبت في حق المقتدي، فلا يعدوهم إن قرأها رجل ليس معهم في الصلاة يسمعها القوم والإمام، فعليهم أن يسجدوها إذا فرغوا من الصلاة ولا يسجدوها في الصلاة إما تجب سجدة لصحة التلاوة من غير حجر، ولا يجوز أن يسجد في الصلاة؛ لأنها ليست فيها؛ لأن تلك التلاوة ليست من أفعال الصلاة حتى تكون السجدة صلاتية، فيكون إذا قالها في الصلاة وجبت كاملة، فلا ينادى بالنهي ولكن مع هذا لو سجدوا في الصلاة لا تفسد صلاتهم، لأن السجدة من أفعال الصلاة في ذاتها وفساد الصلاة بما هو من أفعال الصلاة لا يكون، وذكر في (النوادر) أنه تفسد صلاتهم؛ لأنهم تركوا الصلاة حين انتقلوا لها وزادوا في الصلاة ما ليس منها، والصحيح ما قلنا بدئًا؛ لأنهم ما تركوا الصلاة ولا أتوا بما ينقضها.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): إذا قرأ الإمام آية السجدة سمعها رجل ليس معه، ثم دخل الرجل في صلاة الإمام، فهذه المسألة على وجهين.
الأول: أن يكون اقتداؤه قبل أن يسجد الإمام، وفي هذا الوجه عليه أن يسجد مع الإمام؛ لأنه لو لم يكن سمع السجدة من الإمام قبل الاقتداء به كان عليه أن يسجد مع الإمام بحكم المتابعة، فإذا سمعها خارج الصلاة منه أولى أن يسجد معه، وإذا سجد مع الإمام سقط عنه لزمه بحكم سماعه قبل الإمام؛ لأنه لما اقتدى به صارت قراءة الإمام قراءة له، ألا ترى أنه لو أدرك الإمام حالة الركوع نابت عنه قراءة الإمام، وإن لم يكن مع الإمام حال قراءته، وإذا جعل قراءة الإمام قراءة المقتدي صار كأن المقتدي شرع في صلاة نفسه وتلا في صلاته ما سمع ثانيًا، ولو كان هكذا سجد في الصلاة وسقط عنه ما وجب خارج الصلاة كذا ها هنا.
الوجه الثاني: إذ اقتدى به بعدما سجد فليس عليه أن يسجدها في الصلاة كيلا يصير مخالفًا للإمام وليس عليه أن يسجدها بعد الفراغ من الصلاة أيضًا، قالوا، وتأويل هذه المسألة إذا أدرك الإمام في آخر تلك الركعة يصير مدركًا للركعة من أولها، فيصير مدركًا بالقراءة وما تعلق بالقراءة من السجدة، فأما إذا أدرك الإمام في الركعة الأخرى كان عليه أن يسجدها بعد الفراغ؛ لأنه إذا أدرك الإمام في الركعة الأخرى لم يصر مدركًا للركعة التي قرأ فيها، فلم يصر مدركًا لتلك القراءة، ولا لما تعلق بتلك القراءة من السجدة فقد جعله مدركًا للسجدة بإدراك تلك الركعة، ونظير هذا ما لو أدرك الإمام في الركوع في الركعة الثالثة من الوتر في شهر رمضان يصير مدركًا للقنوت، حتى لا يأتي بالقنوت في الركعة الأخيرة، هكذا ذكر في (النوادر).
ولو أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيدين كان عليه أن يأتي بالتكبيرات ولا يصير مدركًا التكبيرات بإدراك تلك الركعة.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن كل ما لا يمكنه أن يأتي به من الركعة في الركوع نحو التلاوة وقنوت الوتر، فبإدرك الإمام في الركوع في تلك الركعة يصير مدركًا لذلك، وكل ما يمكنه أن يأتي به من الركعة في الركوع كتكبيرات العيدين، فبإدراك الإمام في الركوع من تلك الركعة لا يصير مدركًا لها.

.نوع آخر فيما إذا تلا آية السجدة وأراد أن يقيم ركوع الصلاة مقام السجود:

قال في (الأصل): وإذا قرأ آية السجدة في صلاته وهي في آخر السورة إلا آيات يعني، فإن شاء ركع لها وإن شاء سجد لها، واعلم أن هذه المسألة على أوجه، إما إن كانت السجدة قريبة من آخر السورة، وبعدها آيتان إلى آخر السورة، فالجواب ما ذكرنا أنه بالخيار إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد، بعضهم قالوا: إن شاء سجد لها سجدة على حدة، وإن شاء ركع لها ركوعًا على حدة وبكل ذلك، ورد الأثر؛ وهذا لأن السجدة غير مقصودة بنفسها، إنما المقصود إظهار الخشوع أو مخالفة الكفار، فإنهم استنكفوا عن السجدة لله تعالى قال الله تعالى: {وإذا قرأ عليهم القرآن لا يسجدون} [الإنشقاق: 21] والخشوع والمخالفة كما يحصل بالسجود يحصل بالركوع غير أن السجدة أفضل، كذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، لوجهين:
أحدهما: في السجود أداء الواجب بصورته ومعناه وفي الركوع بالمعنى دون الصورة، فكان السجود أكمل، ولأنه متى سجد يصير مقيمًا صورتين ومتى ركع يصير مقيمًا صورة واحدة أولى من ولو سجد يعود إلى القيام؛ لأنه يحتاج إلى الركوع والركوع لها يكون من القيام، ويقرأ بقية السورة ليس ثم يركع إن شاء، كيلا يصير ثان الركوع على السجدة ولو شاء ضم إليها من السورة الأخرى أية حتى يصير ثلاث آيات، قال الحاكم الشهيد: وهو أحب إليّ، وهذه القراءة بعد السجدة بطريق الندب لا بطريق الوجوب حتى أنه لو لم يقرأ جعلها، ويكره غير أن في الركوع يحتاج إلى النية ينوي الركوع للتلاوة وفي السجدة لا يحتاج إلى النية؛ لأن الواجب الأصل السجدة والركوع إن كان موافق السجود صورة يخالفها معنى فمن حيث إنه يوافقها معنى ينادى به ومن حيث إنه يخالفها صورة يحتاج إلى النية بخلاف السجدة؛ لأنها هي الواجب الأصل، فلا يحتاج فيها إلى النية، وبعضهم قالوا: معنى قوله: إن شاء ركع لها وإن شاء سجد وإن شاء أقام ركوع الصلاة مقام سجدة التلاوة وهذا التفسير منقول عن أبي حنيفة رحمه الله نقل عنه أبو يوسف رحمه الله، وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما ما يدل على أن سجدة الركعة تنوب عن سجدة التلاوة، فقد روي عنه إن كانت السجدة في آخر السورة مثل الأعراف والنجم أو سائرها من مثل بني إسرائيل وانشقت وركع حتى فرغ من السورة حتى أجزأته سجدة الركعة عن سجدة التلاوة.
وهذا فصل اختلف فيه المشايخ: أنه إذا لم يسجد للتلاوة سجدة على حدة، ولم يركع لها ركوعًا على حدة، وإنما ركع للصلاة وسجد للصلاة والركوع ينوب عن سجدة التلاوة أو السجدة بعده، بعضهم قالوا: الركوع أقرب إلى موضع التلاوة فهو الذي ينوب عن سجدة التلاوة، وقال بعضهم: إن سجدة الصلاة تنوب، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما؛ لأن المجانسة بينهما وبين سجدة التلاوة أظهر؛ ولأن الركوع لا يعرف قربة إلا في الصلاة والسجدة قربة في الصلاة وخارج الصلاة، فكانت السجدة أولى في كونها قربة فكانت هي أولى؛ ولأن الركوع لافتتاح السجود، والسجدة هي الأصل، ولهذا لا يلزمه الركوع في الصلاة إذا كان عاجزًا عن السجدة، فإنما ينوب ما هو الأصل ثم اختلاف أن ركوع الصلاة لا ينوب بدون النية، وأما سجود الصلاة، هل ينوب بدون النية؟ اختلف المشايخ فيه، قال محمد بن سلمة وجماعة من أئمة بلخ رحمهم الله: لا تنوب ما لم ينو في ركوعه أو بعد ما يستوي قائمًا أنه يسجد لصلاته، وتلاوته جميعًا، وغيرهم قالوا: النية فيها ليست بشرط وسجدة الصلاة تقع عن الصلاة والتلاوة بدون النية، وجه قول من قال النية ليست بشرط أنهما من جنس واحد، وإحداهما أقوى... ومتى سجدة الصلاتية، فتدخل التلاوة فيه وإن لم ينوِ كصوم رمضان تنوب عن صوم الاعتكاف وإحرام الحج ينوب عن إحرام الدخول بمكة، وإن لم يوجد منه النية.
وجه من قال: بأن النية شرط أنهما اختلفا سببًا، فإن سبب الصلاتية الصلاة وسبب الأخرى التلاوة، وهما مختلفان، واختلاف السبب يوجب اختلاف الحكم، ثم قوله: إن شاء ركع لها، وإن شاء سجد لها قياس.
وفي الاستحسان: لا يجزئه الركوع عن سجدة التلاوة ولا سجدة الصلاة عن سجدة التلاوة نص على القياس والاستحسان في (الأصل)، قال محمد رحمة الله عليه وبالقياس نأخذ، وجه القياس ما مر.
ووجه الاستحسان: أن السجدة أقوى من الركوع في معنى الخشوع فلا ينوب الركوع عن السجود، وكذا سجدة الصلاة لا تنوب عن سجدة التلاوة استحسانًا كما لا تنوب إحدى سجدتي الصلاة عن الأخرى، من أصحابنا من قال هذا غلط من الكاتب والصحيح أنه يجوز استحسانًا، لا قياسًا، ومن أصحابنا من قال موضع القياس والاستحسان خارج الصلاة، يعني إذا قرأ آية السجدة خارج الصلاة وأراد أن يركع بدلًا عن السجدة يجوز قياسًا، ولا يجوز استحسانًا. وجه القياس ما مر.
ووجه الاستحسان: أن الركوع خارج الصلاة ليس بقربة والسجدة قربة وغير القربة لا ينوب عن القربة بخلاف الركوع في الصلاة؛ لأنه قربة فينوب عن السجدة قياسًا واستحسانًا.
الوجه الثاني: إذا كان بعد السجدة ثلاث آيات إلى آخر السورة أو كانت السجدة في آخر السورة وهو الوجه الثالث: أو كانت السجدة في وسط السورة، وهو الوجه الرابع: والحكم في هذه الوجوه كلها ما ذكرنا في الوجه الأول فلو أنه، في هذه الوجوه لم يركع لها ولم يسجد على الفور، ولكن قرأ ما بقي من السورة أو خرج إلى سورة أخرى وقرأ منها شيئًا آخر إن قرأ بعدها أنه... يجزئة الركوع وسجدة الصلاة عن سجدة التلاوة.
أما إذا قرأ بعدها ثلاث آيات أو كانت السجدة في وسط السورة لم يجز الركوع عن السجود؛ لأنه إذا قرأ ثلاث آيات بعد آية السجدة، فقد صارت السجدة دينًا في ذمته لفوات محل الأداء؛ لأن وقتها وقت وجوبها، إلا أن وقتها يقدر بأدائها أو، لابد للتلاوة من وقت مقدر وكأن وقتها مقدر بأدائها، كما في سائر أفعال الصلاة إذا تقدر وقتها بأدائها، فإذا وجد من الفاصل قدر ما يقع به الأداء لو اشتغل بالأداء صارت فائتة، فلا ينوب الركوع والسجدة من التلاوة، وإذا لم يوجد من الفاصل قدر ما يقع به كان وقت الأداء باقيًا، فلا تصير فائتة، فينوب الركوع أو السجدة عنها.
وقدرنا وقت الأداء بثلاث آيات؛ لأن وقت أدائها يمضي بآيات كثيرة، ولا يمضي بقراءة آية أو آيتين فقدرنا الكثرة بالثلاث، لأنه أول الجمع الصحيح، فما لم يقرأ ثلاث آيات كان وقت الأداء باقيًا وكان وقتها، ولا يعتبر الركوع فاصلًا، فلا يمنع... السجدة بعد الركوع عن التلاوة وحتى لا تصير السجدة دينًا بالركوع؛ لأن نفس الركوع يتأدى بالانحناء دون الطمأنينة، فإذا لم يصر قراءة آية أو آيتين فاصلًا فهذا أولى، بخلاف ما إذا ركع على الفور؛ لأنها ما صارت دينًا لبقاء محلها، وبخلاف ما إذا قرأ بعد آية السجدة آية أو آيتان؛ لأنها ما صارت دينًا بعد حين لم يقرأ بعدها ما تتم به سنّة القراءة.

.نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): ويكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: إنما كره لمعانٍ.
أحدها: أن ترك الآية من بين السورة يقطع النظم وإعجاز القرآن، فأشبه تحريف القرآن عن موضعه، فيكون فيه رعاية على تحريفه قابل ما في الباب أن يكره.
والثاني: أن فيه ترك القراءة سنّة، فإن السنّة أن يقرأ فيها السورة على نحوها قال عليه السلام لبلال: «إذا قرأت سورة، فاقرأها على نحوها» وخلاف السنّة مكروه.
والثالث: أن ترك الآيتين به من بين السورة يؤدي إلى إلغاء القرآن، ومن ألغى في القرآن فقد أجرم فيكره لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
والرابع: أنه تركها فرارًا من السجدة، فيكره لقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60].
والخامس: أن ترك السجدة من بين السورة يؤدي إلى هجر القرآن، فيكره لقوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يرَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30] وقال النبي عليه السلام: «ليس شيء من القرآن بمهجور»، فلا ينبغي أن يدع آية السجدة فبعد ذلك ينظر إن كان التالي وحده يقرأ كيف شاء أو كان معه جماعة قال مشايخنا رحمهم الله: إن كان القوم متهيئين للسجود ويقع في قلبه أنه لا يشق عليهم أداء السجدة، فله أن يقرأ جهرًا حتى يسجد القوم معه؛ لأن في هذا حثهم على الطاعة، وإن كانوا محدثين ونظر أنهم يسمعون أو لا يسجدون أو يقع به جملته أنه يشق عليهم بآية السجدة ينبغي أن يقرأها في نفسه، لئلا يكون تاركًا ترتيب القرآن أو نظمها ولا يجهر تحرزًا عن تأثم المسلم، وذلك مندوب إليه، ولا فرق بينها إذا قرأها خارج الصلاة أو في الصلاة.
قال الشيخ الإمام الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله في (شرح الجامع الصغير): ومن الناس من كره ذلك خارج الصلاة ولم يكرهه في الصلاة، ولكن هذا خلاف الرواية، فإن محمدًا قال في (الجامع الصغير): وأكره أن يقرأ السورة في الصلاة أو غيرها ويدع آية السجدة، قال وكان لا يرى بأسًا باختصار السجود في غير صلاة، وهو أن يقرأ آية السجدة... السورة لما فيه من الإقبال على السجود على وجه القربة؛ ولأنه قرأ ما تيسر عليه، وقال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَىِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءانِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَى وَءاخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الاْرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَءاخَرُونَ يُقَتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءواْ مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزَّكَوةَ وَأَقْرِضُواُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المزمل: 20] وجاء عن النبي عليه السلام «أنه كان يقرأ في خطبته بعض الآي من القرآن لا يقرأ قبلها ولا بعدها من ذلك»، ثم قال وجب إلا أن يقرأ معها آية أو آيتين؛ لأنه أبلغ في إظهار الإعجاز، وأدل على المعنى وأكمل النظم، ولم يذكر اختصار السجدة في الصلاة، بل قيده بغير حالة الصلاة، قالوا: ويجب أن يكره في حالة الصلاة؛ لأن الاقتصار على آية واحدة في الصلاة مكروه.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: رجل قرأ آية السجدة، وهو ليس في الصلاة يسمعها رجل هو في الصلاة فيسجدها التالي ويسجد معه المصلي قال إن أراد... بعد فسدت صلاته، ويجب عليه إعادة السجدة، وإذا أخر سجدة التلاوة عن وقت القراءة أو عن وقت السماع ثم أداها يكون مؤديًا لا قاضيًا عندنا، فأداؤها ليس على الفور عندنا، وهذا يكره تأخيره عن وقت... القراءة ذكر في بعض المواضع أنه إذا قرأ مكروه عن وقت القراءة، أما في الصلاة فتأخيرها المواضع إن تأخيرها خارج الصلاة لا يكره وذكر الطحاوي مطلقًا أن تأخيرها مكروه.
وإذا قرأ آية السجدة عند طلوع الشمس وسجدها عند استواء النهار أو عند غروب الشمس أجزأه عند أبي يوسف رحمة الله عليه، ومحمد رحمه الله كذا ذكر في (عيون المسائل)، وذكر في موضع آخر عن أبي يوسف أنه لا يجوز؛ لأنه كما ارتفع النهار فقد قدر على الأداء كاملًا، فلا يجوز الأداء ناقصًا، وبه كان يفتي الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله.
وقيل: لو قرأها عند غروب الشمس وأداها عند طلوع الشمس لا يجوز؛ لأن وقت الغروب أكمل حيث يجوز أداء عصر يومه في ذلك الوقت، ولا يجوز أداء الفجر في وقت طلوع الشمس.
ذكر محمد رحمه الله في (الأصل) ولا ينبغي للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة في صلاة لا يجهر فيها، وهذا لأنه إذا قرأها يلزمه أن يخر ساجدًا لها، فيظن القوم أنه سجد للصلاة ونسي الركوع، فلا يتابعونه فيها، فيكون قد فتن القوم ودون هذا مذكرة للإمام قال عليه السلام: «أفتان أنت يا معاذ» وأشار الحاكم في (شرحه) إلى حرف آخر، قال؛ لأنه إذا تلاها وسجد حسب القوم أنه قد غلط فيلجئهم إلى التسبيح ولا يجيبهم إلى ما يدعونه إليه ولا يتابعه القوم في سجوده، وفي هذا من التسبيح، ما لا يخفى على أحد وهذا الذي بينا جواب الاختيار وأما إذا قرأها فعليه أن يسجد لها، وعليهم أن يتابعونه فيها وهذا لما روينا عن النبي عليه السلام رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه «أنه صلى الظهر وسجد فيها حتى ظنوا أنه قرأ فيها {آلم تنزيل} السجدة» والله أعلم.
وفي (العيون): إذا افتتح الصلاة وهو راكب، وافتتحها آخر يسير معه، فقرأ أحدهما آية سجدة واحدة مرتين فسمعها صاحبه وقرأ صاحبه آية سجدة أخرى مرة فسمعها الأول يسجد الذي قرأ آية واحدة مرتين، سجدتين سجدة لقراءته؛ لأن تلاوة آية واحدة مرتين في الصلاة لا يوجب على الثاني لا سجدة واحدة، وسجدة إذا فرغ من صلاته لما سمع في صلاته من صاحبه، أما الذي قرأ مرة يسجد سجدة لقراءته؛ لأنه قرأ مرة ويسجد مرتين إذا فرغ من صلاته لما سمع من صاحبه؛ لأنه سمع تلاوته آية واحدة مرتين في مجلسين؛ لأن سماعه تلك التلاوة ليس من الصلاة وفيما ليس من الصلاة يفيد أن المجلس باليسير، وإنما الحد بالتحريمة فيما كان من الصلاة، وكان مجلس التالي متحدًا، ومجلس السامع متعدد أو في مثل هذه الصورة يتعدد الوجوب على السامع يوجب عليه سجدتان، وذكر في (مختصر القصاص) أنه يسجد مرة وعليه الفتوى، أما إن نظرنا إلى مكان السامع، فهو واحد وإن نظرنا إلى مكان التالي فمكانه جعل كمكان واحد في حقه، فيجعل كذلك في حق السامع أيضًا؛ لأن السماع ما على التلاوة، المصلي إذا قرأ آية السجدة على الدابة مرارًا وخلفه رجل يسوق الدابة سجد المصلي سجدة واحدة والسائق يسجد كذلك.
وإذا قرأ الإمام آية السجدة في صلاة الجمعة، فعليه أن يسجد ويسجد معه أصحابه؛ لأن الجمعة ظهر مقصورة، فيقاس بالظهر الممدودة ولو قرأها في الظهر الممدودة فعليه أن يسجدها ويسجد معه أصحابه، فكذلك إذا قرأها في الجمعة، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، قال مشايخنا المسألة في زماننا، إذا قرأها الإمام في الجمعة أن لا يسجد لها لامتداد الصفوف، وكثرة القوم؛ فإن المكبر إذا كبر لها ظن القوم أنه كبر للركوع، فيركعون وفيه من الفتنة ما لا يخفى، وهكذا في صلاة العيد قال شمس الأئمة هكذا سألت القاضي الإمام الأستاذ رحمه الله هل يكره للإمام أن يقرأ سورة فيها سجدة يوم الجمعة كما يكره في صلاة الظهر؟ قال: ليست فيه رواية وينبغي أن يكره؛ لأن الجمع في حق من لا يسمع قراءة الإمام كصلاة ما يجهر فيها بالقراءة.

.الفصل الثاني والعشرون في صلاة السفر:

يجب أن يعلم بأن للشروع بالسفر أحكامًا من جملة ذلك قصر الصلاة لقول الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ في الاْرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَفِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا} [النساء: 101] وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه صلى ركعتين حين ذهب إلى مكة وبمكة، وقال لأهل مكة بعدما سلم على رأس الركعتين «يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر» والله أعلم، وهذا الفصل يشتمل على أنواع:

.الأول في معرفة فرض المسافر.

قال أصحابنا رحمهم الله: فرض المسافر في كل صلاة رباعية ركعتان، وقال الشافعي رحمه الله فرضه أربع وركعتان رخصة حتى أن عند علمائنا رحمهم الله إذا صلى المسافر أربعًا ولم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاته، لانشغاله بالنفل قبل إكمال الفرض، وإن كان قعد تمت صلاته وهو مسيء لخروجه عن الفرض ودخوله في النفل لا على وجه المسنون، حجة الشافعي في المسألة قوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} [النساء: 101]، وقاس الصلاة بالصوم، فإن السفر أثر في رخصة الإفطار في الصوم، لا في الإسقاط، فكذا في الصلاة.
حجة علمائنا رحمهم الله حديث عائشة رضي الله عنها: «فرضت الصلاة في الأصل ركعتين إلا المغرب، فإنها وتر ثم زيدت في الحضر وأقرت في السفر» وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: «صلاة المسافر ركعتان تمام غير قصر» يتكلم على لسان عليه السلام؛ ولأن الشفع الثاني سقط عن المسافر لا إلى بدل، وعلامة الفرض الأداء أو القضاء به، فلأن الصوم ولا قصر، لأن القصر للتخفيف، فلا حاجة إليه في النوافل في ذوات الثلاث والمثنى؛ لأن شرطها ليس بصلاة ولا قصر في النوافل أيضًا؛ لأن له أن لا يفعلها وتكلموا في الأفضل في السفر، فقيل هو الترك ترخصًا، وقيل: هو الفعل معتزمًا، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله يقول بالفعل في حالة النزول والترك في حالة السير.

.نوع آخر في بيان مدة السفر الذي يتعلق به قصر الصلاة:

قال علمائنا رحمهم الله: أدناها مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، والأصل في ذلك قوله عليه السلام: «يمسح المقيم يومًا وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها» ذكر المسافر بلام التعريف... فقد جوّز لكل مسافر مسح ثلاثة أيام ولياليها ولا يتصور أن يمسح كل مسافر ثلاثة أيام ولياليها إلا وأن تكون أقل مدة السفر ثلاثة أيام ولياليها.
والمعنى في ذلك: أن القصر في السفر لمكان الحرج والمشقة والحرج والمشقة في أن يحمل رحله من غير أهله، ويحط في غير أهله وذلك لا يتحقق فيما دون الثلاث، لأن في اليوم الأول يحمل من أهله وفي اليوم الثاني يحط في أهله، أما يتحقق في الثلاث؛ لأن في اليوم الثاني يحمل الرحل في غير أهله ويحط في غير أهله، فتحقق معنى الحرج، فلهذا قدر بثلاثة أيام ولياليها.
ثم وصف في (الكتاب): السير فقال سير الإبل ومشي الأقدام وهو سير الوسط والعام الغالب، وهذا لأن أعجل السير سير البريد وأبطأه سير العجلة، وخير الأمور أوساطها ثم معنى قول علمائنا رحمهم الله أدنى مدة السفر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها السير الذي يكون في ثلاثة أيام ولياليها مع الاستراحات التي تكون في خلال ذلك، وهذا لأن المسافر لا يمكنه أن يمشي أبدًا بل يمشي في بعض الأوقات، وفي بعض الأوقات يستريح ويأكل ويشرب، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه اعتبر ثلاث مراحل، فعلى قياس هذه الرواية من بخارى إلى أرمينة مدة سفر، وكذلك إلى فربر وبه أخذ بعض مشايخ بخارى رحمهم الله.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قدره بيومين، والأكثر من اليوم الثالث مقام كله، وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله، وابن سماعة عن محمد رحمة الله عليهما ثم على قياس هذه الرواية، إذا قدر بالمراحل عند أبي حنيفة يقدر بالمرحلتين والأكثر من المرحلة الثالثة، وهو على قياس تقدير أقل مدة الحيض على قول أبي يوسف ولم يعتبر بعض مشايخنا الفراسخ، قالوا: لأن ذلك يختلف باختلاف الطرق في السهولة والصعوبة والجبال والبر والبحر.
وعامة مشايخنا قدروه بالفراسخ أيضًا، واختلفوا فيما بينهم، بعضهم قالوا: أحد وعشرين فرسخًا، وبعضهم قالوا: ثمانية عشر فرسخًا أدنى مدة السفر ثمانية عشر فرسخًا، وبعضهم قالوا: خمسة عشر، والفتوى على ثمانية عشر؛ لأنها أوسط الأعداد، وإن كان السفر سفر جبال، فعبارة بعض مشايخنا رحمهم الله أن التقدير فيه بمنزلة ثلاثة أيام ولياليها على حسب ما تبين بحال الجبل، وعبارة الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمة الله عليه: أن التقدير فيه بالمراحل لا محالة يقدر ثلاثة مراحل مرحلة الجبل، لا مرحلة السهل.
وإن كان السفر سفر بحر فقد اختلف المشايخ فيه أيضًا، والمختار للفتوى أنه ينظر أن السفينة كم تسير ثلاثة أيام، ولياليها حال استواء الريح، فيجوز ذلك أصلًا ويقصر الصلاة إذا قصد مسيرة ثلاثة أيام ولياليها على هذه السفينة في البحر، فلو سار في الماء سيرًا سريعًا، ويكون ذلك على البرية ثلاثة أيام ولياليها، فقد ذكر الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه...، وهذا شيء يعرفه الملاحون، فيرجع في ذلك إلى قولهم، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا خرج إلى مصر في طريق في ثلاثة أيام وأمكنه أن يصل إليه في طريق آخر في يوم واحد قصر، وقال الشافعي إذا كان بغير عرض لم يقصر؛ لأن ما يكون بغير عرض لا يكون معتدًا به، فيكون وجوده وعدمه بمنزلة ولا هو له رخصة السفر، وأما بقول أن الحكم متعلق بالسفر دفعًا للحرج، فيتعلق بالسفر دون الغرض ثم سلوكه أحد الطريقين بغير عرض لا يكون أعلى من سفره بغير عرض، ولو سافر بغير عرض تعلق به رخصة السفر كذلك هاهنا.
وفي (نوادر ابن سماعة): في مصر له طريقان؛ وأحدهما: مسيرة يوم والآخر مسيرة ثلاثة أيام ولياليها إن أخذ في الطريق الذي مسيرة يوم لا يقصر الصلاة، وإن أخذ في الطريق الذي هو مسيرة ثلاثة أيام ولياليها قصر الصلاة، المسافر إذا بكر في اليوم الأول، ومشى إلى وقت الزوال حتى بلغ المرحلة، فينزل فيها للاستراحة وبات فيها ثم بكر في اليوم الثاني ومشى إلى ما بعد الزوال حتى بلغ المرحلة ونزل فيها للاستراحة وبات فيها ثم بكر في اليوم الثالث ومشى حتى بلغ إلى المقصد وقت الزوال هل يصير مسافرًا بهذا، وهل يباح له القصر قال: بعضهم لا؛ لأنه لم يمش في بقية اليوم الثالث، فهذا أقل من ثلاثة أيام ولياليها.
قال شمس الأئمة الحلواني: الوجه الصحيح أن يصير مسافرًا، فهذه النية ويقصر الصلاة، لأن المسافر لابد له من النزول لاستراحة نفسه أو لاستراحة دابته أما أشبهه، وهل الشرط أن يذهب من الفجر إلى الفجر، لأن الأدميين يطيقون ذلك وكذلك الدابة بل إذا مشى في بعض النهار فذلك يكفي.

.نوع آخر في بيان من يثبت القصر في حقه:

قال علمائنا رحمهم الله: القصر ثابت في حق كل مسافر سفر الطاعة وسفر المعصية في ذلك سواء، وقال الشافعي رحمه الله: سفر المعصية لا يعتد الرخصة، حجته أن الرخصة لها تثبت في حق المسافر نظرًا وتخفيفًا عليه، وهذا لا يليق بالمعصية.
ولنا قوله عليه السلام: «فرض المسافر ركعتان من غير قصر»، ولأن السفر له صار مرخصًا باعتبار مشقة تلحقه المشي بالأقدام، والغيبة عن الوطن ولا خطر في هذا، ولنا الخطر في مقصوده لا في عين السفر، فيبقى بعين السفر مرخصًا مبيحًا.
وعلى هذا الأصل المرأة إذا حجت من غير محرم، وكذا جواز الصلاة على الراحلة إذا خاف، وكذا جواز أكل الميتة من غير الضرورة، وكذا بجواز استكمال يده المسح على الخفين في السفر، فإن كان السفر معصية ويسوى في ذلك حال قصد الطاعة والمعصية، والمعنى في ذلك ما مر، أنه لا خطر في نفس السفر والقصر من كل مسافر يصلي وحده أو كان إمامًا أو مقتديًا بمسافر فأما إذا اقتدى بمقيم متابعة له وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله تعالى.

.نوع آخر في بيان المسافر متى يقصر الصلاة:

فنقول القصر حكم ثبت في حق المسافر، فلابد من بيان أن الشخص متى يصير مسافرًا بمجرد نية السفر، بل يشترط معه الخروج.
وفرق بين السفر والإقامة، فإن المسافر يصير مقيمًا بمجرد النية، إذا كان في موضع يصلح للإقامة، ولم يكن تابعًا لغيره لما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
والفرق: أن في السفر الحاجة إلى العقل والفعل ولا يكفيه مجرد النية، أما في الإقامة الحاجة إلى ترك الفعل؛ لأن الأفضل الأصل وهو الإقامة ولهذا يبطل حكمه بالسفر، فيحتاج إلى ترك العارض ليظهر حكم الإقامة، وفي الترك يكفيه مجرد النية.
ونظير هذا: قال في كتاب الزكاة: من كان له عبد الخدمة فنوى أن يكون للتجارة حتى يبيعه وإن كان للتجارة فنوى أن يكون للخدمة خرج من التجارة بالنية، وما افترقا إلا من حيث إن في الفصل الأول الحاجة إلى الفعل وفي الفصل الثاني الحاجة إلى ترك الفعل.
قال محمد رحمه الله: ويقصر حين يخرج من مصره ويخلف دور المصر، وفي موضع آخر يقول: ويقصر إذا جاوز عمرانات المصر قاصدًا مسيرة ثلاثة أيام ولياليها، وهذا لأنه ما دام في عمران المصر فهو لا يعد مسافرًا، والأصل في ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه خرج من البصرة يريد السفر فحان وقت العصر فأتمها ثم نظر إلى خص أمامه، فقال: إنا لو كنا جاوزنا هذا الخص قصرنا، وهكذا إن كانت المحلة منفصلة من المصر وكانت قبل ذلك متصلة بالمصر فإنه لا يقصر حتى يجاوز تلك المتصلة ويخلف دورها لأن تلك المحلة من المصر بخلاف القرية؛ لأن تلك القرية لا تكون من المصر وربما تكون من القرى وربما يترادف القرى ويتعارف المصر إلى فرسخ أو فرسخين المصر، فلو نهى عن القصر حتى يجوز القرية التي..المصر لنهي عن القصر في هذه القرى أيضًا، وهذا بعيد فعرفنا أن الشرط أن يتخلف عن عمران المصر، وبنيانه لا غير.
ثم يعتبر الجانب الذي منه يخرج المسافر من البلدة، ولا تعتبر الجوانب الذي بحذاء البلدة حتى أنه إذا خلف البنيان الذي خرج منه قصر الصلاة، وإن كان بحذاءه بنيان أخرى من جانب آخر من المصر، وهذا كله بهذا الترتيب محفوظ عن محمد رحمه الله، ذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية ذكر هذه الجملة شمس الأئمة الحلواني في شرح صلاته.
وذكر الصدر الشهيد عمي رحمة الله عليه في (واقعاته): أن رجلًا خرج مسافرًا من بخارى، فلما بلغ أرض أزبكستان... أو إلى رباط وليان اختلف المشايخ فيه، والمختار: أنه يقصر الصلاة؛ لأنه جاوز الربض ومتى جاوز الربض فقد جاوز عمران البلدة.
وعن الحسن رحمه الله القرى، إذا كانت متصلة بالمصر في القرى إذا كانت متصلة بالرمض إلى ثلاث فراسخ قال: لا يقصر حتى يجاوز البيوت وإن كان ثلاث فراسخ وإن كان بين البلدة، والقرية مقدار... لا يكون مجاوزًا وإن كان قدر مائة ذراع كان مجاوزًا، ومن مشايخنا من اعتبر مجاوزة فناء المصر إن كان بين المار وبين فنائه أقل من قدر غلوة ولم يكن بينهما مزرعة، وإن كان بينهما مزرعة أو كانت المسافة بين المصر وفنائه قدر غلوة، ولا يعتبر مجاوزة الفناء، وهذا القائل يقول: إذا كانت القرى متصلة بفناء المصر لا بربض المصر يعتبر مجاوزة الفناء لا غير، بخلاف ما إذا كانت القرى متصلة بربض المصر حتى تعتبر مجاوزة القرى، والصحيح ما ذكرنا أنه يعتبر مجاوزة عمران المصر إلا إذا كان ثمة قرية أو قرى متصلة بربض المصر، فحينئذٍ يعتبر مجاوزة القرى.

.نوع آخر في بيان مدة الإقامة:

ولا بد من معرفتها؛ السفر يبطل بالإقامة فنقول أدنى مدة السفر الإقامة عندنا خمسة عشر يومًا، وقال الشافعي رحمه الله أربعة أيام حتى لو نوى الإقامة أربعة أيام يتم الصلاة عنده.
وعندنا ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يومًا لا يتم الصلاة.
حجة الشافعي: ما روي عن عثمان رضي الله عنه: أنه كان يقول: من أقام أربعًا صلى أربعًا، وفي رواية أخرى إذا نوى أن يقيم أربعة أيام صار مقيمًا.
حجتنا: حديث جابر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام دخل مكة صبيحة الرابع من ذي الحجة وخرج منها في اليوم الثامن من ذي الحجة، وكان يقصر الصلاة حتى قال بعرفات: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر» فعلم أنه لا يصير مقيمًا بأربعة أيام، ولأن المسافر لا يجد بدًا من المقام في المثال أيامًا إما لاستراحته وأما لاستراحة دابته أو لطلب الرفقة، وربما تعبت دابته عقر ويحتاج إلى معالجتها أو أخرى ولا يتم ذلك بأربعة أيام، فيحتاج إلى الزيادة عليها.
فقدرنا ذلك بخمسة عشر يومًا، لأن مدة الإقامة في معنى مدة الطهر بأنها تعيد ما كان سقط من الصوم والصلاة ثم أقل مدة الطهر مقدر بخمسة عشر يومًا بأقل مدة الإقامة، يجب أن يقدر بها الأولى، أما قدر أدنى مدة السفر بثلاثة أيام ولياليها اعتبارًا بأدنى مدة الحيض من حيث أن مدة السفر نظير مدة الحيض، فإنه تسقط بهما الصلاة والصوم ولو أنه أقام في موضع أيامًا ولم ينو الإقامة لا يصير مقيمًا عندنا وإن طال إقامته والأصل في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «أقام رسول الله عليه السلام بحنين أربعين يومًا وكان يصلي ركعتين»، وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه أقام بقرية من قرى...، وكان يقصر الصلاة وعن عمر رضي الله عنه: أنه أقام بأذربيجان ستة أشهر، وكان يصلي ركعتين وعن علي رضي الله عنه: أنه أقام بخوارزم سنتين، وكان يصلي ركعتين، والمعنى في هذه المسألة وهو أن الإقامة ضد السفر، ثم أجمعنا أن المقيم لا يصير مسافرًا إلا بالنية، وإن وجد منه حقيقة السفر وهو السير، فإنه إذا كان يسير مرحلة جميع الدنيا ولا ينوي سفرًا لا يصير مسافرًا، فكذا لا يصير مقيمًا، وإن وجد منه حقيقة الإقامة ما لم ينو الإقامة، والله أعلم.

.نوع آخر في بيان المواضع التي تصح نية الإقامة فيها والتي لا تصح نية الإقامة فيها:

فنقول إنما تصح نية الإقامة إذا كان الإقامة إذا كان الموضع الذي نوى الإقامة فيه محل للإقامة حتى أن أهل العسكر إذا نووا الإقامة في دار الحرب خمسة عشر يومًا أو أكثر، وهم يحاصرون أهل المدينة لا تصح منهم والأصل في ذلك ما روي «أن النبي عليه السلام حاصر أهل الطائف سبعة عشر يومًا، وكان يقصر الصلاة» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا سأله وقال إنا نطيل.
.. المقام في أرض الحرب، فقال: «صل ركعتين حتى ترجع إلى أهلك»؛ ولأن دار الحرب ليس موضع الإقامة في حق المحاربين من المسلمين لأن الغلبة فيها لأهل الحرب والظاهر أنهم يقاتلون المسلمين والمسلمون لا يقاومونهم لقلتهم فينوون نية الإقامة لا يصار محلها، ولا تصح كما لو نوى السفر في غير موضع السفر، وكذلك إذا نزلوا المدينة، وحاصروا أهلها في الحصن لا تصح منهم الإقامة؛ لأنه لا قرار لهم ما داموا محاصرين، وكانت نية الإقامة في غير موضعها، وكذا أهل البغي إذا ابتغوا في دار البغي، فحاصرناهم لا تصح فيه الإقامة، لأن دارهم ليس موضع لنا فيها كدار الحرب.
وقال أبو يوسف رحمه الله في (الإملاء): إذا كان العسكر استولوا على الكفار بذلوا إنسانيتهم وأرواحهم وركبانهم وللمسلمين منعة وشوكة فأجمعوا على الإقامة خمسة عشر يومًا أكملوا الصلاة، وإذا كانوا في عسكر في الأخبية والفساطيط في سفر فأجمعوا على الإقامة خمسة عشر يومًا صلوا ركعتين.
وفرق بين الأبنية وبين الأخبية والفرق: أن البناء موضع الإقامة والطرء دون الصحراء، وإن حاصروا أهل أخبية وفساطيط لم يصيروا مقيمين سواء نزلوا بساحتهم، أو في أخبيتهم وخيامهم فنووا الإقامة فيها بالإجماع؛ لأن هذا لا يعد إقامة، ألا ترى أنهم يحملونها على الدواب حيث ما قصدوا واستخفونها يوم ظعنهم ويوم إقامتهم، وإذا هي حمولة وليس بمنازل.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وهكذا عسكر المسلمين إذا قصدوا موضعًا، ومعهم أخبيتهم وخيامهم وفساطيطهم، فنزلوا مفازة في الطريق ونصبوا الأخبية والفساطيط وعزموا فيها على إقامة خمسة عشر يومًا لم يصيروا مقيمين لما بينا، أنها حمولة وليست بمساكن.
واختلف المتأخرون في الذين يسكنون في الخيام والأخبية والفساطيط كالأعراب... الذين في زماننا منهم من يقول: لا يكونوا مقيمين؛ لأنهم ليسوا في موضع الإقامة، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أنهم مقيمون؛ لأن الإقامة للمراصد والسفر عارض وهم لا ينوون السفر وإنما ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى مرعى، فكانوا مقيمين باعتبار الأصل.
وروي عن أبي يوسف رحمة الله عليه: في الرعاة إذا كانوا يطوفون في المفاوز وينتقلون من كلأ إلى كلأ ومعهم أثقالهم وخيامهم إنهم مسافرون حيث نزلوا أو طافوا إلا في خصلة واحدة، وهي إذا نزلوا في مرعى كثيرًا بكلأ والماء وأعدوا الخيام ونصبوا وعزموا على إقامة خمسة عشر يومًا، وكان الكلأ والماء يكفيهم، فإني استحسن أن أجعلهم مقيمين وآمرهم بالإكمال.
وذكر في (المنتقى): عن الحسن بن أبي مالك عن أبي حنيفة رحمهم الله في الأعراب إذا نزلوا بخيامهم في موضع التمسوا فيه المرعى، ونووا أن يقيموا شهرًا أو أكثر للرعي ما يتموا الصلاة لأنه ليس بموضع قيام لهم، قال: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله يقول: يتمون الصلاة.
وفيه أيضًا: عن أبي حنيفة رحمه الله إذا نوى المسافر الإقامة عند أهل... ولم يكن ثم بيت، فليس بمقيم، وقال أبو يوسف: يتم الصلاة إذا كان ثمَّ قوم مستوطنون يسكنون بيوت الشهور، وإن نوى المسافر الإقامة في موطنين خمسة عشر يومًا نحو مكة ومنى أو الكوفة والحيرة لم يصر مقيمًا، لأن نية الإقامة لهما تكون في موضع واحد، فإن الإقامة ضد السفر وهو ضرب في الأرض فلا يكون إقامة، وهذا إذ انوى الإقامة في موضعين فأما إذا عزم على أن يقيم في الليالي بأحد الموضعين، ويخرج في النهار إلى موضع آخر فإذا دخل أولًا الموضع الذي عزم الإقامة فيه بالنهار لا يصير مقيمًا، وإن دخل أولًا الموضع الذي عزم فيه الإقامة بالليالي يصير مقيمًا، ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا يصير مسافرًا لأن موضع إقامة الرجل حيث يبيت فيه.
ألا ترى أنك إذا قلت للسوقي: أين تسكن؟ يقول: في محلة كذا، وإن علم أن يكون في السوق في النهار وكان هو الأصل يوجب اعتباره.
ومما يتصل بهذا النوع:
الأسرى من المسلمين، إذا كانوا في دار أهل الحرب فانفلت منهم، وهو مسافر فوطن نفسه على إقامة خمسة عشر يومًا في بخارى، وغيره قصر الصلاة؛ لأنه محارب لهم فلا تكون دار الحرب موضع الإقامة له، وكذلك إذا أسلم الرجل من أهل الحرب في دارهم فعلموا بإسلامه وطلبوه ليقتلوه، فخرج هاربًا يريد مسيرة ثلاثة أيام، فهو مسافر، إن أقام في موضع مختفيًا شهرًا منهم، أو أكثر لأنه صار محاربًا لهم حتى طلبوه ليقتلوه وكذلك المستأمن إذا غدروا به وطلبوه ليقتلوه؛ لأنه صار محاربًا لهم، وإن كان..... من هو لا مقيمًا علانية في دار الحرب، فلما طلبوه ليقتلوه اختفى فيها، فإنه يتم الصلاة لأنه كان مقيمًا بهذه البلدة، فلا يصير مسافرًا إن لم يخرج.
وكذلك إن أخرج منها مسيرة يوم أو يومين لأن المقيم لا يصير مسافرًا بنية الخروج إلى ما دون مسيرة السفر، وكذلك لو أن أهل مدينة من أهل الحرب أسلموا فقاتلهم أهل الحرب وهم مقيمون في مدينتهم، فإنهم يتمون الصلاة.
وكذلك إن غلبهم أهل الحرب على مدينتهم فخرجوا منها يريدون مسيرة يوم، فإنهم يتمون الصلاة وإن خرجوا يريدون مسيرة ثلاثة أيام قصروا الصلاة، فإن عادوا إلى مدينتهم ولم يكن المشركون عرضوا لها يعني لمدينتهم أتموا فيها الصلاة؛ لأن مدينتهم كانت دار السلام حتى أسلموا فيها فكان موضع إقامة لهم، فما لم يعرض لها المشركون فهي وطن أصلي في حقهم فيتمون الصلاة إذا وصلوا إليها.
وإن كان المشركون غلبوا على مدينتهم فيها ثم إن المسلمين رجعوا إليها وتخلى المشركون عنها، فإن كانوا اتخذوها دارًا ومنزلًا لا يبرحونها فصارت دار السلم يتمون فيها الصلاة؛ لأنها صارت في حكم دار الحرب حتى غلب المشركون عليها فحين ظهر المسلمون عليها، وعزموا على المقام فيها فقد صارت دار السلم ونية المسلم للإقامة في دار السلم صحيحة، وإن كانوا لا يريدون أن يتخذوها دارًا، ولكن يتمون فيها شهرًا ثم يخرجون إلى دار الإسلام يقصرون الصلاة فيها؛ لأن هذا الموضع مرحلة دار الحرب وهم محاربون، فلا يصيروا مقيمين بنية الإقامة فيها.
وكذلك عسكر من المسلمين دخلوا دار الحرب فغلبوا على مدينة فإن اتخذوها دارًا، فقد صارت دار السلم يتمون بها الصلاة، وإن لم يتخذوها دارًا ولكن أرادوا الإقامة بها شهرًا أو أكثر، فإنهم يقصرون الصلاة؛ لأنها دار الحرب وهم محاربون فيها هذه الجملة من (السير) عن أبي يوسف، فيما إذا غلب المسلمون على مدينة في أهل الحرب وقد ذكرنا في أول هذا النوع بخلاف ما ذكرنا في (السير).

.نوع آخر في بيان من لا يصير مقيمًا بنية إقامته ويصير مقيمًا بنية إقامة غيره:

الأصل في هذا أن من يمكنه الإقامة باختياره يصير مقيمًا بنية نفسه ومن لا يمكنه الإقامة باختياره لا يصير مقيمًا بنية نفسه، حتى أن المرأة إذا كانت مع زوجها في السفر والرقيق مع مولاه والتلميذ مع أستاذه الأجير مع مستأجره، والجندي مع أميره فهم لا يصيرون مقيمين بنية أنفسهم في (ظاهر الرواية).
وذكر هشام في (نوادره) عن محمد في الرجل يخرج مع قائده، ونوى الرجل المقام ولم ينو قائده قال هذا مقيم ويصير العبد مقيمًا بنية المولى، لأنه تبع له والحكم في التبع ثبت بشرط الأصل وكذلك كل من كان تبعًا، كالجندي مع الأمير، ومن أشبهه ممن تقدم ذكره إلا المرأة فإن فيها اختلافًا فإن من أصحابنا من قال: إن المرأة إذا استوفت صداقها فهي بمنزلة العبد تصير مقيمة بإقامة الزوج؛ لأنه ليس لها حق حبس النفس كما في العبد، وإن لم تستوف الصداق، لكن سلمت نفسها إلى الزوج ودخل بالمرأة إذا سافرت مع زوجها بها، فعلى الخلاف المعروف عند أبي حنيفة رحمه الله لها حق حبس نفسها، وعندها ليس لها حق حبس نفسها، وقيل لا خلاف في هذا الفصل؛ لأن عند أبي حنيفة رحمه الله، وإن كان لها حق حبس نفسها ولكن ما لم تحبس نفسها كان تبعًا للزوج، ولم يذكر مثل هذا الاختلاف، فيما إذا نوت المرأة الإقامة بنفسها، ولا فرق بين الصورتين فيجوز أن تكون نية المرأة. على هذا الاختلاف أيضًا.
ذكر الحاكم في (المنتقى): رجل حمل رجلًا وذهب ولا يدري أين ذهب به قال: يتم الصلاة حتى يسير ثلاثًا، فإذا سار ثلاثًا قصر، وإن علم أن الباقي بعدها يسير، ولو كان صلى ركعتين من جنس حملة أجرته، فإن سار به لعل من ثبت أعاد ما صلى.
ذكر هو رحمه الله في (المنتقى) أيضًا: ولو أن واليًا خرج من كورة إلى كورة، ومعه جنده وهم ينوون الإقامة بإقامته، والسفر بسفره، فقدم ذلك الوالي مصرًا دون المصر الذي كان أراده، ونوى الإقامة ولم يدر به بعض من معه من جنده حتى صلوا صلاة سفر ثم علموا، قال: يعيدو صلاتهم.
وفي (نوادر هشام) قال سمعت محمدًا: في رجلين مسافرين لأحدهما دين على الآخر حبس رب الدين المديون بدينه في السجن: قال إن كان المحبوس يقدر على الأداء، فالنية نيته في المقام والسفر ويعص ما لم ينو الإقامة، وإن كان لا يقدر على الأداء، فالنية نية الحابس إن نوى أن لا يخرجه خمسة عشر يومًا، فعلى المحبوس أن يتم الصلاة وليس على الحابس أن يتم الصلاة، وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف في المسافر إذا حبس بالدين وهو معسر، فإنه يتم الصلاة وكذلك إذا كان موسرًا إلا أن يكون قد وطن نفسه على أدائه، فيقصر والله أعلم.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): مسافر دخل مصرًا وأخذه غريمه وحبسه، فإن كان معسرًا صلى صلاة المسافرين؛ لأنه لا يقوم على الإقامة؛ إذ لا يحل للطالب حبسه في هذه الصورة، وإن كان موسرًا... لا يقضي دينه أبدًا صلى صلاة المقيمين؛ لأنه عزم على الإقامة أبدًا؛ لأنه يحل للطالب حبسه في هذه الصورة أبدًا، وإن لم يعتقد ولم ينو أن لا يقضي دينه أبدًا، لكن نوى أن لا يقضي دينه مدة غير معينة صلى صلاة المسافرين؛ لأنه وإن عزم على الإقامة ولكن مدة مجهولة.
وقد قال مشايخنا: إن الحجاج إذا وصلوا بغداد شهر رمضان ولم ينووا الإقامة صلوا صلاة المقيمين؛ لأن من عزمهم أن لا يحرموا إلا مع القافلة، ومن هذا الوقت إلى وقت خروج القافلة أكثر من خمسة عشر يومًا، فكأنهم نووا الإقامة خمسة عشر يومًا فتلزمهم صلاة المقيمين.
قال في (السير الكبير): والأسرى من المسلمين في أيدي أهل الحرب هم له قاهرون إن أقاموا به في موضع يريدون أن يقيموا به خمسة عشر يومًا فعليه أن يكمل الصلاة وإن كان الأسير لا يريد أن يقيم معهم، وإن كان الأسير يريد أن يقيم في موضع خمسة عشر يومًا وأخرجوه من ذلك الموضع يريدون مسيرة ثلاثة أيام قصر الصلاة لأن الأسير مقهور مغلوب في أيديهم، وكان سفره وإقامته بهم، كالعبد مع مولاه والقائد مع الأعمى والتلميذ مع الأستاذ.
وكذلك الرجل يبعث إليه الخليفة، فيؤتى به من بلد إلى بلد كان نية الإقامة، والسفر إلى الشخص لا إليه؛ لأنه مقهور من هذا الشخص، فصار كالأسير بيد الكفار وإذا كان العبد بين موليين في السفر، فنوى أحد الموليين الإقامة دون الآخر، فإن كان مقيمًا مهايأة في الخدمة، وإذا خدم المولى الذي لم ينو الإقامة يصلي صلاة السفر.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): مسلم أسره العدو وأدخله دار الحرب ينظر إن كان مسيرة العدو ثلاثة أيام، صلى صلاة المسافرين وإن كان دون ذلك صلى صلاة المقيمين، وإن كان لا يعلم بذلك سأل عنهم، فإن سأل عنهم ولم يخبره... بنى الأمر على ما كان هو في الأصل، وإن كان مسافرًا صلى صلاة المسافرين، وإن كان مقيمًا صلى صلاة المقيمين لأنه لم يعلم وجود الغير.
وكذلك العبد يخرج مع مولاه إلى وضع، فسأله فإن لم يخبره صلى صلاة المقيمين، وإن صلى أربعًا أربعًا ولم يقعد على رأس الركعتين فلما سار أيامًا أخبره مولاه أنه كان قصد مسيرة سفر يعيد الصلاة؛ لأنه صار مسافرًا من ذلك الوقت، وقيل: لا يعيد الصلوات ولا تظهر نية المولى في مقر العبد، وستأتي هذه المسألة بعد هذا.
وعلى هذا لو نوى المولى الإقامة ولم يعلم أن العبد بذلك حتى صلى أيامًا ركعتين ثم أخبره المولى كان عليه إعادة تلك الصلوات.
وكذلك المرأة إذا أخبرها زوجها بنية الإقامة منذ أيام وقد كانت هي صلت ركعتين لزمها إعادة الصلوات في ظاهر الرواية عن أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله.
العبد إذا أم مولاه في السفر، فنوى المولى الإقامة صحت بنية حتى إذا سلم العبد على رأس الركعتين كانت عليهما إعادة تلك الصلاة، وكذلك العبد إذا كان مع المولى في السفر فباعه مقيمًا والعبد كان في الصلاة ينقلب فرضه أربعًا حتى إذا سلم على رأس الركعتين كان عليه الإعادة؛ لأنه سلام عمد، وقد صار العبد مقيمًا تبعًا للمشتري.
إذا أم العبد مولاه، ومعهما جماعة من المسافرين، فلما صلى ركعة نوى المولى الإقامة صحت نيته في حقه، وفي حق عبده، ولا تظهر في حق القوم في قول محمد رحمه الله، فصلى العبد ركعتين ويقدر واحدًا من المسافرين ليسلم بالقوم ثم يقوم المولى والعبد، ويتم كل واحد منهما صلاته أربعًا.
وهو نظير ما لو صلى مسافر بجماعة مقيمين ومسافرين، فلما صلى ركعة أحدث الإمام وقدّم مقيمًا، فإنه لا ينقلب فرض القوم أربعًا، فكذلك هاهنا، ثم بماذا يعلم العبد أن المولى نوى الإقامة، قال بعضهم: يقوم المولى بأن العبد ينصب أصبعه أولًا، ويشير بأصبعه ثم ينصب أربعة أصابع، ويشير بأصابعه الأربع.
الأكابر المسافر إذا سلم ونيته، وبين مقصده أقل من ثلاثة أيام كان حكم المقيم، وكذا الصبي إذا كان في السفر مع أبيه ثم بلغ الصبي وبينه وبين وطنه أقل من ثلاثة أيام كان مقيمًا، هكذا قاله الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله، وقال غيره من المشايخ إذا بلغ الصبي يصلي أربعًا وإذا أسلم الكافر يصلي ركعتين، وهو اختيار الصدر الشهيد رضي الله عنه؛ لأن نية السفر من الكافر قد صحت، لكونه من أهل النية، فصار مسافرًا من ذلك الوقت ونية الصبي لم تصح، لأنه ليس من أهل النية ومن الموضع الذي بلغ فيه إلى المقصد أقل من مسيرة سفر، فلهذا يصلي أربعًا، وقال بعضهم يصليان ركعتين.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر): أنهما يصليان أربعًا، فأما المسلم المسافر إذا ارتد والعياذ بالله، ثم أسلم من ساعته وبين وطنه وبينه أقل من ثلاثة أيام يبقى مسافرًا، كمسلم تيمم ثم ارتد، والعياذ بكرم الله ثم أسلم لا يبطل تيممه، فكذا لا يبطل سفره والله أعلم.

.نوع آخر مسائله قريبة من مسائل هذا النوع:

قال محمد رحمة الله عليه في (السير الكبير): إذا كان للمسلمين مدينتان بينهما مسيرة يوم واحد وإحداهما أقرب إلى أرض الحرب من الأخرى، فيكتب والي المدينة القريبة إلى والي المدينة البعيدة إن الخليفة، كتب إليّ يأمرني بالغزو إلى أرض الحرب، فأعلم من بذلك، فليقدموا إلي فإني شاخص من مدينتي يوم كذا وكذا، فخرج القوم من المدينة البعيدة يريدون الغزو معه ولا يدرون أين يريد من أرض الحرب، فإن كان بين المدينة القريبة وبين أرض الحرب مسيرة يومين فصاعدًا، فإن الذين خرجوا من المدينة البعيدة يقصرون الصلاة حين يخرجون من مدينتهم، وإن كان أقل من مسيرة يومين، فإنهم قصدوا مسيرة ثلاثة أيام وفي الوجه الثاني يقصرون الصلاة؛ لأن في الوجه الأول قصدوا مسيرة أقل من ثلاثة أيام.
فإن قيل: هذا اختيار أول أرض الحرب ويجوز أن يجاوز، ويجوز أن لا يجاوز، فيثبت من المدينة القريبة أول أرض الحرب قدر مسيرة يومين أو ثلاثة أيام أو زيادة على ذلك.
قلنا: قصد الوالي إلى أرض الحرب ليس معلوم يجوز أن يجاوز، ويجوز أن لا يجاوز فيثبت من أهل المدينة البعيدة قصد مجاوزة أول أرض الحرب على أحد الاعتبارين، فكانوا قاصدين مسيرة السفر من وجه دون وجه، فلا يثبت قصد مسيرة السفر بالشك وبدونه لا يثبت إباحة القصر.
فلو أن الوالي حين كتب إليهم أخبرهم أين يريد من دار الحرب أو أخبرهم كم يريدون من المسير، وكان ذلك مسيرة يومين من المدينة القريبة فإن أهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة كما خرجوا من مدينتهم، لأنهم خرجوا قاصدين مسيرة سفر.
فإن قدموا على والي المدينة القريبة، فلم يخرج أيامًا فإن أهل المدينة البعيدة يقصرون الصلاة، ما لم يعزموا على الإقامة بالمدينة القريبة خمسة عشر يومًا، فصاعدًا، فلو أن أهل المدينة القريبة خرجوا من بلدتهم وعسكروا خارجًا منها ينتظرون خروج الوالي، فقد قصدوا مسيرة ثلاثة أيام، فمن كان منهم لم يعزم على الرجعة إلى وطنه حتى يخرج الوالي، فإنهم يقصروا الصلاة، وإن أقام في ذلك المكان شهرًا، لا يهم بالخروج صاروا مسافرين.
والمسافر يقصر الصلاة وإن كثر مقامه في موضع ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يومًا في موضع يصلح للإقامة، ومن عزم منهم على الرجعة إلى منزله قبل أن يمضي ليقضي فيه ساعة من نهار ثم يرجع إلى عسكره، فإنه يتم الصلاة ما دام في العسكر، وفي منزله حتى يخرج من المدينة راجعًا إلى العسكر؛ لأنه نوى رفض السفر قبل استحكامه، فكما نوى يصير مقيمًا.
فلو أن أهل المدينة البعيدة حين خرجوا من مدينتهم قصروا الصلاة، ومن المدينة القريبة إلى المقصد مسيرة يومين فلما انتهوا إلى المدينة القريبة قال لهم الوالي: إن الخليفة كتب إليّ أن لا أغزو أقعد أن يخرح قبل أن يخرجوا من مدينة، فإن الصلاة التي قصروها أي: إن انتهوا إلى المدينة القريبة تامة، وكذلك الصلاة التي بالمدينة القريبة تامة ما لم يسمعوا بهذا الخبر، فإذا سمعوا بهذا الخبر فعليهم أن يتموا الصلاة.
واختلفت عبارة المشايخ في تخريج هذه المسألة بعضهم، قالوا: لأن أهل المدينة البعيدة، فيخرجوا من مدينتهم وهم ليسوا تحت ولائه والي المدينة القريبة... في أيدي أنفسهم، وفي تدبيرهم، فتعتبر نياتهم وقد نووا الخروج مدة السفر فصاروا مسافرين بمجرد الخروج فقد قصروا صلاتهم وهم مسافرون، فصح القصر ما داموا على سفرهم فإذا وصلوا إلى المدينة القريبة، فقد صاروا تحت سفرهم، وتوقف على سماعهم الخبر فإذا سمعوا ظهر الإتمام في حقهم، فيتمون الصلاة بعد سماع الخبر.
وذكر شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمة الله عليه: أن ما ذكر محمد رحمه الله في هذه المسألة أن الصلاة التي قصروها أهل المدينة البعيدة في الطريق وبعدما انتهوا إلى المدينة القريبة ما لم يسمعوا بهذا الخبر الصحيح فيما إذا كان أهل المدينة البعيدة متطوعين في الغزوتان خيرهم والي المدينة القريبة بين الغزو والسفر وتركه؛ لأنهم إذا كانوا متطوعين في الغزو لم يكونوا تابعين لوالي المدينة القريبة، وقد نووا مسيرة السفر على النيات، فصاروا مسافرين والمسافر يقصر الصلاة ما لم يعزم على ترك السفر، فجاز قصرهم، وما ذكر أنهم إذا سمعوا هذا الخبر يتمون الصلاة فهذا الجواب لا يصح في حقهم، إلا إذا كان تأويله أنهم عزموا على ترك السفر حين سمعوا هذا الخبر لما ذكرنا أن العبرة لنياتهم متى كانوا متطوعين في الغزو لا لنية الوالي.
فأما إذا كانوا مجبورين على السفر، فما ذكر في الجواب قبل سماع الخبر أن الصلاة التي قصروها تامة لا يصح في حقهم؛ لأنهم لو كانوا مجبورين على السفر كانوا تابعين للوالي والعبرة بحال الأصل، لا بحال التبع، فإذا لم يصر الأصل مسافرًا كيف يصير التبع مسافرًا.
وصار كالعبد والمرأة إذا أرادا السفر مع المولى والزوج ثم بدا للزوج والمولى، وقد قصر العبد والمرأة، فإنه لا تجزئهما صلاتهما لأنهما تابعين والعبرة لحال الأصل كذا هاهنا، وما ذكر أنهم إذا سمعوا الخبر يتمون الصلاة صحيح في حقهم؛ لأن العبرة في حقهم بحال الوالي ولم يصر الوالي مسافرًا، وإن سمع هذا الخبر بعضهم ولم يسمع البعض، فعلى من سمع أن يتم صلاته، ومن لم يسمع يقصر الصلاة، لأن ما بني على السماع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل السماع.
قال: ولو أن والي المدينة القريبة كتب إلى أهل المدينة البعيدة من أراد منكم الغزو، فليوافني عند أول دار الحرب في موضع كذا وكذا في دار الحرب، ولم يخبرهم أين يريد وذلك المكان مسيرة يومين من المدينة البعيدة، فخرج أهل المدينة البعيدة من مدينتهم إلى المكان الذي أمرهم الوالي بالموافاة فيه أقل من مدة سفر والوالي لما لم يخبرهم أين يريد، ويحتمل أن لا يجاوز ذلك المكان بل يجعله مسلمة وثغرًا لم يثبت قصدهم مسيرة السفر بالشك.
ولهذا قال: يتمون الصلاة، قال قاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمة الله عليه: وهذه مسألة تصير رواية في مسألة، لا ذكر لها في (المبسوط) أن العبد إذا كان ينقله المولى من بلده ولا يعلم العبد أن المولى أين يريد ولا يخبره المولى بذلك أنه يكون على نية نفسه لا على نية مولاه حتى لو خرج من المولى، ونوى السفر على ظن أن مولاه على نية السفر يقصر الصلاة، ولم يكن من نية المولى السفر فإن صلاته جائزة.
وكذا الزوج مع الزوجة وعلى قياس ما ذكر شيخ الإسلام، قيل: هذا في العبد والزوجة، ينبغي أن لا تجوز الصلاة للعبد والمرأة في هذه الصورة؛ لأنهما تابعان والعبرة بحال الأصل، وعلى ما ذكر شيخ الإسلام قبل هذا لا تصير هذه المسألة رواية في مسألة العبد؛ لأن أهل المدينة البعيدة في هذه الصورة، متطوعين في الغزو؛ لأن الوالي ما أمرهم بذلك بل فوض إليهم حيث كتب من أراد منكم الغزو، وإذا كانوا متطوعين لا يكونون تبعًا للوالي، فتكون العبرة لنيتهم بخلاف العبد والمرأة؛ لأنهما تبع للزوج والمولى، فكانت العبرة لنية الزوج والمولى؛ فإن انتهوا إلى ذلك المكان، فأخبرهم الوالي أنه يريد مسيرة شهر في دار الحرب، فإنهم يتمون الصلاة في ذلك المكان ما لم يرتحلوا؛ لأنهم نزلوا مقيمين في هذا المكان ومن كان مقيمًا في مكان لا يصير مسافرًا بمجرد النية ما لم يخرج، فإن قصروا صلاة من صلاتهم في ذلك المكان أعادوها، فإن لم يعيدوها حتى مضى الوقت وهم في ذلك المكان بعد أعادوها قضاء، وهذا ظاهر؛ لأنهم يقصرون صلاة فاتتهم في حالة الإقامة وهم مقيمون وقت القضاء.
وإن ارتحلوا عن ذلك المكان قبل أن يعيدوها يريدون السفر ثم أرادوا إعادتها، وهم في وقت الصلاة بعد أعادوها ركعتين؛ لأن المؤداة وقعت فاسدة، فكأنهم لم يصلوها حتى ارتحلوا عن مكانهم فأرادوا أن يصلوها وهم في وقت الصلاة بعد صلوا ركعتين؛ لأن العبرة لآخر الوقت وهم مسافرون في آخر الوقت، وإن أرادوا إعادتها بعد خروج الوقت أعادوها أربعًا؛ لأنهم يقضون صلاة فائتة في حالة الإقامة.
قال: ومن دخل دار الحرب بأمان وهو كأنه في دار السلام، إن نوى بموضع منها أن يقيم خمسة عشر يومًا أتم الصلاة؛ لأن أهل الحرب لا يتعرضون له متى دخل بأمان، فصار دار الحرب بعد الأمان، ودار الإسلام سواء، ومن أسلم منهم في دار الحرب، فلم يأسروه بل تركوه على حاله، أو لم يعلموا بإسلامه فهو في صلاته بمنزلة المسلم في دار الإسلام يتم صلاته إذا كان في منزله، فإن خرج من منزله قاصدًا مسيرة السفر قصر الصلاة.

.نوع آخر في بيان ما يصير المسافر به مقيمًا بدون نية الإقامة:

المسافر إذا خرج من مصره مسافرًا ثم بدا له أن يعود إلى مصره لحاجة وذلك قبل أن يسير مسيرة ثلاثة أيام صلى صلاة المقيمين في مكانه ذلك، وفي انصرافه إلى المصر؛ لأنه فسخ عزيمة السفر بعزم الرجوع إلى وطنه قبل استحكام السفر وتأكده، فانفسخ من ساعته وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام، فيصلي صلاة المقيمين في انصرافه بهذا، ولو كان قد سار مسيرة ثلاثة أيام ثم بدا له أن يعود إلى مصره صلى صلاة المسافرين؛ لأن حكم السفر قد تأتى، وتأكد باستكمال مدته فيبقى حكمه إلى أن ينعدم بالإقامة.
وكذلك لو خرج من مصره مسافرًا ثم أحدث وانصرف ليأتي مصره، ويتوضأ وكان ذلك قبل أن يسير ثلاثة أيام ثم علم أن معه ماء، فإنه يتوضأ ويصلي صلاة المقيمين، وكذلك لو انصرف وذهب مكانًا، فوجد الماء خارج المصر يتوضأ، فإنه يصلي صلاة المقيمين لأنه فسخ عزيمة السفر قبل استحكامه على ما مر.
وكذلك إذا دخل وطنه الأصلي أو مصرًا صار وطنًا له بأن كان اتخذ فيه أهلًا صار مقيمًا، وإن لم ينو مصر غيره لا في مصر نفسه؛ لأن مكثه ومقامه في مصر غيره متردد بين أن يكون لإمكان السير وبين أن يكون للمقام فيه، فإن كان لإمكان السير فهو من السفر وإن كان لإمكان المقام فيه، فهو من الأهلية، فاحتيج إلى النية لتعيين المكث، للإقامة لا لإمكان السير أما مكثه في مصره يتعين للإقامة؛ لأن قبل السير كان يمكث للإقامة وعنه هذا المقام يحتاج إلى بيان الأوطان.
فنقول عبارة عامة المشايخ في ذلك: أن الأوطان ثلاثة وطن أصلي وهو مولد الرجل، والبلد الذي تأهل به ووطن سفر وسمي وطن حادث، وهو البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه خمسة عشر يومًا أو أكثر، ووطن سكنى وهو البلد الذي ينوي المسافر الإقامة فيه أقل من خمسة عشر يومًا.
ومن حكم الوطن الأصلي أن ينتقض بالوطن الأصلي، لأنه مثله والشيء ينتقض بما هو مثله حتى لو انتقل من البلد الذي تأهل به بأهله وعياله وتوطن ببلدة أخرى بأهله وعياله لا تبقى البلدة المنتقل عنها وطنًا له.
ألا ترى أن مكة كانت وطنًا أصليًا لرسول الله عليه السلام ثم لما هاجر منها إلى المدينة بأهله وعياله وتوطن ثم انتقض وطنه بمكة حتى قال عام حجة الوداع: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة، فإنا قوم سفر».
ولا ينتقض هذا الوطن بوطن السفر ولا بوطن السكنى؛ لأن كل واحد منهما دونه، والشيء لا ينتقض بما هو دونه، وكذا لا ينتقض بإنشاء السفر، ألا ترى أن رسول الله عليه السلام خرح من المدينة إلى الغزوات مرارًا، ولم ينتقض وطنه بالمدينة حتى ما يجدد نية الإقامة بعد رجوعه، وإن كان له أهل ببلدة فاستحدث ببلدة أخرى أهلًا فكل واحد منهما وطن أصلي، وروي أنه كان لعثمان أهل بمكة وأهل بالمدينة، وكان يتم الصلاة بهما جميعًا.
ومن حكم وطن السفر أنه ينتقض بالوطن الأصلي لأنه فوقه وينتقض بوطن السفر لأنه مثله وينتقض بإنشاء السفر لأنه ضده ولا ينتقض بالوطن السكنى؛ لأنه دونه.
ومن حكم وطن السكنى أنه ينتقض بكل شيء بالوطن الأصلي، وبوطن السفر وبوطن السكنى وبإنشاء السفر.
وعبارة المحققين من مشايخنا رحمهم الله: أن الوطن وطنان وطن أصلي ووطن سفر ولم يعتبروا وطن السكنى وطنًا وهو الصحيح، وهذا لأن المكان إنما يصير وطنًا بالإقامة فيه، ولم يثبت حكم الإقامة في الوطن للسفر بل حكم السفر فيه باقٍ لما ذكرنا أن أقل مدة الإقامة خمسة عشر يومًا، وإذا لم يثبت فيه حكم الإقامة لم يعتبر هو وطنًا أصلًا فكيف يترتب عليه حكم الانتقاض؟ بيان هذا الأصل من المسائل.
خراساني قدم بغداد، وعزم على الإقامة بها خمسة عشر يومًا ومكي قدم كوفة وعزم على الإقامة بها خمسة عشر يومًا ثم خرج كل واحد منهما من وطنه يريد قصر ابن هبيرة؛ لأنهما كانا متوطنين أحدهما ببغداد والآخر بكوفة ولم يقصدا مسيرة مدة السفر؛ لأن من بغداد إلى الكوفة مسيرة أربع ليال والقصر هو المنتصف، فكان كل واحد منهما قاصدًا مسيرة ليلتين، وبهذا لا يصيرا مسافرين، فإن عزما على الإقامة بالقصر خمسة عشر يومًا صار القصر وطن سفر لهما، وانتقض وطن الكوفي بكوفة ووطن الخراساني ببغداد بوطن مثله، فإن خرجا بعد ذلك يريدان الكوفة صليا أربعًا في الطريق، وبالكوفة؛ لأنهما قصدا مسيرة ليلتين من وطنهما، فلا يكونان مسافرين، فإن دخلا الكوفة وعزما على الإقامة أقل من خمسة عشر يومًا ثم خرجا من الكوفة يريدان بغداد ويمران بالقصر صلى كل واحد منهما أربعًا إلى القصر، وبالقصر ومن القصر إلى بغداد لأن القصر صار وطن سفر لهما، ولم يوجد ما ينقضه من الوطن الأصلي ووطن السفر، وإنشاء السفر، إنما وجد وطن السكنى ووطن السكنى لا ينقض وطن السفر، فيبقى القصر وطن سفر لهما، فهما رجلان خرجا من الكوفة يريدان بغداد والقصر وطنهما، فما لم يجاوزا القصر لا يصيرا مسافرين وبعد المجاوزة لم يبق أي القصد مسيرة سفر، فلهذا يصليان أربعًا.
وعبارة المحققين في هذه المسألة: أن القصر صار وطن سفر لهما، ولم يوجد ما ينقضه من الوطن الأصلي، ووطن السفر، وإنشاء السفر، فيبقى القصر وطنًا لهما والتقريب ما مر، ولو لم ينويا المرور على القصر يقصران كما خرجا من الكوفة، ولأنهما نويا مسيرة سفر وقد خرجا مسافرين، لعدم ما يمنع تحقق السفر، فلو كانا حين قدما القصر في الابتداء عزما على الإقامة بالقصر أقل من خمسة عشر يومًا، ثم ذهبا إلى الكوفة ليقيما بها ليلة يصليان أربعًا إلى الكوفة.
فلو خرجا من الكوفة يريدان بغداد يصليان ركعتين؛ لأن القصر صار وطن سكنى لهما، وقد انتقض ذلك بوطن سكنى مثله بالكوفة، فهما رجلان خرجا من الكوفة يريدان بغداد، وليس لهما فيما بين ذلك وطن ومن الكوفة إلى بغداد مسيرة مدة السفر، فصارا مسافرين حين خرجا، فلهذا يصليان ركعتين.
وعبارة المحققين في هذه المسألة: أنهما لما خرجا من الكوفة يريدان بغداد قصدا قصد السفر، وليس في خلال ذلك لهما وطن؛ لأن القصر لم يصر وطنًا أصلًا، فيصليان ركعتين إلى بغداد بهذا، وكذلك ببغداد، أما المكي؛ فلأنه ماضٍ على سفره، وأما الخراساني؛ فلأن بغداد كانت وطن سفر له وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر، لأنه حين نوى من الكوفة أن يقدم بغداد فقد نوى السفر وقد انتقض وطنه الذي كان ببغداد.
ولو كان كل واحد منهما في الابتداء حين خرج من وطنه لم ينوِ القصر إنما نوى وطن صاحبه ليلقى به صاحبه الخراساني نوى الكوفة، والمكي نوى بغداد، فالتقيا بالقصر يصليان ركعتين؛ لأن كل واحد منهما قصد مسيرة مدة السفر، فلو ذهبا إلى الكوفة يصليان في الطريق ركعتين، وكذلك بالكوفة، أما الخراساني؛ فلأنه ماضٍ على سفره، وأما المكي، فلأن الكوفة كانت وطن سفر له، وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر وعاد مسافرًا بسفره الأصلي، فلو خرجا من الكوفة يريدان بغداد يصليان ركعتين في الطريق وببغداد، أما المكي، فلأنه ماضي على سفره، وأما الخراساني فلأن بغداد كانت وطن سفر له، وقد انتقض ذلك بإنشاء السفر، فعاد مسافرًا بسفره الأصلي ثم تقدم السفر ليس بشرط ليثبت الوطن الأصلي بالإجماع، وهل يشترط لثبوت وطن السفر؟ لم يذكر محمد رحمه الله هذه المسألة في (الأصل).
وذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله في (جامعه): أن عن محمد رحمه الله فيه روايتان: في رواية يشترط وفي رواية لا يشترط، مثاله بخاري ذهب من بخارى إلى...... ونوى... الإقامة بها خمسة عشر يومًا ثم خرج... من يريد... فلما دخل... بدا له أن يرجع إلى بخارى، فعلى الرواية التي يشترط تقدم السفر، لثبوت وطن السفر يصلي ركعتين في الطريق إلى بخارى؛ إذ ليس من بخارى إلى... مسيرة سفر، فلم تصر وطنًا له، فهذا رجل خرج من... يريد بخارى وليس به فيما بين ذلك وطن ومن..... إلى بخارى مسيرة سفر على أصح الأقاويل، فيصلي ركعتين لهذا.
وعلى الرواية التي ما تشترط تقدم السفر يصلي أربعًا في الطريق؛ لأن..... صار وطنًا له ولم يوجد ما ينقضه، فما لم يجاوز لا يصير مسافرًا ومن...... إلى بخارى أقل من مدة السفر، فلهذا كان يصلي أربعًا.
وإذا دخل المسافر في صلاة المقيم يلزمه الإتمام سواء في أولها أو في آخرها، لأنه بالاقتداء صار تبعًا للإمام، فأخذت صلاته حكم صلاة الإمام باعتبار التبعية، فإن أفسد الإمام على نفسه كان على المسافر أن يصلي ركعتين، وقال الشافعي رحمه الله: يصلي أربعًا؛ لأن فرضه انقلب أربعًا بالاقتداء، فلا يتغير بعد ذلك.
ولنا أن فرض المسافر ركعتان على ما مر، وإنما لزمه الأربع بحكم المتابعة، فإذا انقطعت ظهر حكم الأصل والله أعلم.
ولو اقتدى المسافر بمسافر فأحدث الإمام فاستخلف مقيمًا لم يلزم المسافر الإتمام؛ لأن الثاني إنما انتصب إمامًا خلفًا عن الأول، فيلزم المسافر المقتدي من المتابعة بقدر ما التزم مع الأول ولو لم يحدث الأول ولكن نوى الإقامة أتم هو والقوم جميعًا.
والفرق بينهما: وهو أن المقتدي باقتداء الإمام التزم متابعة الإمام فصار تبعًا له وقد تغير فرض الأصل في المسألة الثانية، فتغير فرض المقتدي ضرورة أما في المسألة الأولى: لم يتغير فرض الإمام الأول، والثاني صار إمامًا بحكم الخلافة عن الأول لا أصلًا بنفسه، فيعتبر في حق المقتدي فرض الإمام الأول لا فرض الثاني الذي هو خلف عن الأول.
ومما يتصل بهذا الفصل:
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): مقيم صلى ركعة من العصر، فغربت الشمس فجاء مسافر واقتدى به في هذه الحالة لا يصح اقتداؤه، ولو أن مسافرًا صلى ركعتي العصر فغربت الشمس وجاء مقيم واقتدى به في هذه الحالة صح اقتداؤه، وصار داخلًا في صلاته.
والجملة في ذلك: أن اقتداء المسافر بالمقيم جائز في الوقت وخارج الوقت إذا اتفق الفرضان، واقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت، فلا يجوز خارج الوقت أما اقتداء المقيم بالمسافر جائز في الوقت، وخارج الوقت، لما روي: أن النبي عليه السلام جمع بين الظهر والعصر بعرفات، وصلى ركعتين ركعتين، فلما فرغ من صلاته قال: «يا أهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر».
والمعنى منه: أنه ليس في اقتداء المقيم بالمسافر الاقتداء المتنفل بالمفترض في حق القعدة من ذوات الأربع، فإن القعدة على رأس الركعتين نفل في حق المقيم فرض في حق المسافر، إلا أن اقتداء المتنفل بالمفترض جائز في جميع أفعال الصلاة، فلأن يجوز في فعل منها كان أولى، وفي حق هذا المعنى الوقت وخارج الوقت سواء.
وأما اقتداء المسافر بالمقيم يجوز في الوقت، ولا يجوز خارج الوقت؛ لأن اقتداء المسافر بالمقيم يقتضي تغير الفرض في حق المسافر، إما شرطًا لصحة الاقتداء؛ لأن الاقتداء بالإمام في بعض صلاته لا يجوز، أو لصيرورته مقيمًا في حق هذه الصلاة لكونه تبعًا للإمام داخلًا في ولايته وإقامة الأصل توجب إقامة التبع، وإذا ثبت أن اقتداء المسافر بالمقيم يقتضي تغير الفرض في حق المسافر.
بعد هذا اختلفت عبارات المشايخ رحمهم الله بعضهم قالوا: إنما يصح الاقتداء في موضع كان الفرض قابلًا للتغيير، وفي الوقت الفرض للتغير حتى يتغير بنية الإقامة، فيتغير أيضًا بالاقتداء، وإذا كان فرض المسافر يتغير بالاقتداء بالمقيم في الوقت يمكن القول بصحة اقتدائه بالمقيم، فيصح الاقتداء، أما بعد خروج الوقت الفرض غير قابل للتغير، ولهذا لا يتغير بنية الإقامة، مع أنها أبلغ في التغير، فلأن لا يتغير بالاقتداء كان أولى.
وإذا كان فرض المسافر لا يتغير باقتداء المقيم خارج الوقت لا يمكن القول بصحة اقتدائه بالمقيم؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة إن كان الاقتداء في الشفع الأول كما هو موضوع المسألة في (الكتاب)، وفي حق القراءة إن كان الاقتداء في الشفع الثاني؛ لأن القراءة في الشفع الثاني نفل في حق المقيم وقد ذكرنا أن اقتداء المفترض بالمتنفل لا يجوز.
وبعضهم قالوا: إن سبب وجوب الصلاة جزء قائم في الوقت لا ما مضى من الأجزاء على ما عرف في موضعه، فإذا وجد المغير وهو الاقتداء بالمقيم في الوقت عمل عمله للسبب، وجعل الجزء القائم من الوقت سببًا لوجوب الأربع بعدما كان سببًا لوجوب ركعتين، وإذا عمل في السبب عمل في الحكم لكون الحكم تابعًا للسبب، فيصير في فرضه أربعًا، فيمكن القول بصحة الاقتداء، وأما بعد خروج الوقت المغير لم يعمل في السبب، فلا يعمل في الحكم، فيبقى فرضه ركعتين، فلا يمكن القول بصحة الاقتداء؛ لأنه يؤدي إلى اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القعدة أو في حق القراءة على نحو ما بينا.
فإن قيل: ما ذكرتم من المعنى يشكل بما لو نسي المقيم القراءة في الشفع الأول، فاقتدى المسافر به في الشفع الثاني، وكان ذلك خارج الوقت، فإنه لا يصح اقتداؤه، وهذا اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة؛ لأن القراءة فرض عليهما في هذه الحالة.
قلنا: ليس اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة؛ لأن الشفع الأول يبقى محلًا للقراءة على سبيل الوجوب، والقراءة في الشفع الثاني قضاءً بمحلها، وصار كأنها وجدت في الشفع الأول، فكان هذا اقتداء المفترض بالمتنفل في حق القراءة أيضًا، ثم إذا اقتدى المقيم بالمسافر وسلم المسافر يقوم المقيم، ويتم صلاته كما فعل أهل مكة، وهل يقرأ المقيم في ما بين الركعتين؟ فيه اختلاف المشايخ، والأصح أنه لا يقرأ، وإليه مال الكرخي رحمه الله، لأنه لاحق أدرك أول الصلاة وقد تم فرض القراءة.
ومنهم من قال: يقرأ؛ لأنه في ما بين الركعتين ينفرد، ولهذا يلزمه سجود السهو لو سهى فيه، فأشبه المسبوق والمسبوق يقرأ، ولو ترك المسافر القراءة في الركعتين، ثم نوى الإقامة في هذه الصلاة تصح صلاته ويقرأ في الأخرتين استحسانًا عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وعند محمد فسدت صلاته؛ لأن الظهر في حق المسافر كالفجر في حق المقيم، والمقيم لو ترك القراءة في الفجر فسدت صلاته فكذلك هاهنا.
وهما يقولان: فرض الظهر يحتمل التغيير في حق المسافر بنية الإقامة، فإذا نوى الإقامة صار فرضه أربعًا، وفي ذوات الأربع لا تفرض القراءة في الكل، بل في ركعتين، فمتى أتى بالقراءة في الأخريين فقد أدى ما عليه.

.نوع آخر في هذا الفصل في المتفرقات:

وإذ سافر أول الوقت أوآخره قصر إذا بقي منه مقدار التحريمة، وهذا مذهبنا؛ لأن الوجوب يتعلق بآخر الوقت عندنا؛ لأنه في أول الوقت، مخير بين الأداء والتأخير، وإنه يبقى الوجوب، ولهذا لو فات في أول الوقت لقي الله تعالى، ولا شيء عليه فدل أن الوجوب يتعلق بآخر الوقت وإذا كان هو مسافر في آخر الوقت كان عليه صلاة السفر، وعلى هذا الأصل مسائل أحدها هذه المسألة.
والثانية: إذا أسلم الكافر وقد بقي الوقت مقدار ما يسع فيه التحريمة، فإنه تلزمه الصلاة عندنا.
والثالثة: الصبي إذا بلغ في آخر الوقت.
والرابعة: الحائض إذا طهرت في هذا الوقت.
والخامسة: الطاهرة إذا حاضت في هذا الوقت، وإذا كان مسافرًا في أول الوقت، وصلى صلاة السفر ثم أقام في الوقت لا يتغير فرضه، وإن لم يصلِ حتى أقام في آخر الوقت ينقلب فرضه أربعًا، وإن لم يبق من الوقت إلا قدر ما يسع بعض الصلاة.
وإذا أسلم الكافر في سفره وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام أو إذا أدرك الصبي في سفره وبينه وبين المقصد أقل من ثلاثة أيام، فقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: الذي أسلم يصلي ركعتين فالذي بلغ يصلي أربعًا وقال بعضهم: يصليان ركعتين.
وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر): فإنهما يصليان أربعًا؛ لأنهما لم يكونا مخاطبين؛ فلا يقصران الصلاة، وأما الحائض إذا طهرت في بعض الطريق قصرت الصلاة؛ لأنها مخاطبة.
وفي «الحاوي»: سئل عن صبي خرج من نوركارايريد بخارى، فلما بلغ كرمة بلغ، قال: يصلي ركعتين إلى بخارى، وكذلك الكافر إذا أسلم فأما الحائض إذا طهرت من حيضها تصلي أربعًا إلى بخارى.
مسافر صلى الظهر ركعتين وسهى، وسلم ثم نوى الإقامة، قال: صلاته تامة وليس عليه سجود السهو ونيته هذه قطعت الصلاة، ألا ترى أنه لو قهقه في هذه الحالة لم يكن عليه وضوء؟ ولو كان في الصلاة لكان عليه الوضوء، ذكر المسألة في رواية أبي حفص مطلقًا من غير ذكر خلاف، وذكر في رواية أبي سليمان خلافًا، فقال لا تصح نيته عند أبي حنيفة، وأبي يوسف ويكون فرضه ركعتين كما كان في الابتداء.
وعند محمد رحمه الله تصح نيته ويصير فرضه أربعًا، وهذا على أصل محمد رحمه الله مستقيم، فإن سلام من عليه السهو لا يخرجه من الصلاة عند محمد وإذا لم يخرجه من الصلاة بقي في حرمة الصلاة، فنية الإقامة ناهية حرمة الصلاة فتصح نيته ويتغير فرضه أربعًا، وأما على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله أن سلام من عليه السهو يخرجه من الصلاة خروجًا موقوفًا، إن عاد إلى سجود السهو تعود حرمة الصلاة، وإلا فلا على ما ذكرنا، فينبغي أن تكون نيته موقوفة إن عاد إلى سجود السهو صحت نيته، فإن لم يعد لا، ومع هذا لا تصح نيته؛ لأن في اعتبار هذه النية إبطالها وكل نية يكون في اعتبارها إبطالها تكون باطلًا.
وبيان هذا أنا لو صححنا هذه النية إنما صححنا بالعود إلى سجود السهو فإذا عاد إلى سجود السهو لا يقع معيدًا بهما؛ لأنهما يقعان في وسط الصلاة، فكيف تصح هذه النية بسجدة لا تقع معيدة بها حالاتها كما صحت لغت، وإن سجد لسهوه سجدة أو سجدتين ثم نوى الإقامة، فعليه أن يكمل أربع ركعات ويسجد في آخرها سجدتي السهو بالاتفاق؛ لأنه لما سجد للسهو عاد إلى حرمة الصلاة، فصار كما لو حصلت النية قبل السلام، ولو حصلت النية قبل السلام صحت نيته، وصار فرضه أربعًا كذلك هاهنا، والدليل عليه أنه لو قهقه كان عليه الوضوء ولو اقتدى به رجل كان داخلًا في صلاته.
مسافر أم قومًا مسافرين ومقيمين، فصلى بهم ركعة وسجدة وترك سجدة ثم أحدث فقدم رجلًا دخل معه في الصلاة... وهو مسافر، قال: لا ينبغي لذلك الرجل أن يتقدم؛ لأن غيره أقدر على إتمام صلاة الإمام، وينبغي للإمام أن يقدم من قد أدرك أول الصلاة لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال «من استعمل غيره عملًا، وفيهم من هو أحق منه فقد خان الله ورسوله، وخان جميع المؤمنين»، فإن تقدم هذا المسافر جاز؛ لأنه شريك الإمام كما ذكرنا وينبغي لهذا الرجل أن يسجد تلك السجدة؛ لأنه خليفة للأول، قائم مقامه، ولو كان الأول قائمًا يأتي بهذه السجدة ثم يشتغل بباقي الصلاة.
وكذلك الخليفة فلو أن الخليفة لم يأت بهذه السجدة ولكن قام وصلى بهم ركعة وسجدة وترك سجدة ثم أحدث فقدم رجلًا ثانيًا عنه فإنه لا ينبغي له أن يتقدم، ولا للإمام الثاني أن يقدم لما ذكرنا، وإن تقدم جاز لما ذكرنا فيبدأ بالسجدة التي تركها الإمام الأول ثم بالسجدة التي تركها الإمام الثاني؛ لأن الثالث قائم مقام الثاني والثاني يأتي بالأول، فكذلك الثالث، فإن لم يسجدهما حين ذهب الإمام الأول والثاني فتوضأ أو رجعا، قال: يسجد الثالث للأولى لأنه خليفة الإمامين، ويسجدها معه الإمام الأول والقوم؛ لأنهم قد صلوا تلك الركعة وإنما بقي عليهم تلك السجدة، ولا يسجدها الإمام الثاني في ظاهر الرواية.
وفي (نوادر ابن أبي سليمان): قال: يسجدها معهم، وجه رواية أبي سليمان وهو أن الإمام الثاني كالمقتدي، فالثالث يتابعه فيما يأتي به، وإن لم يكن محسوبًا من صلاته كمن أدرك الإمام في السجود.
وجه ظاهر الرواية: وهو أن الإمام الثاني مسبوق في تلك الركعة فعليه إعادتها، فلا يبدأ بالسجدة منها؛ لأن تلك السجدة غير معتد بها ثم يسجد السجدة الأخرى ويسجدها معه الإمام الثاني والقوم؛ لأنهم صلوا هذه الركعة وإنما بقي عليهم سجدة ولا يسجد الإمام الأول هذه السجدة، إلا أن يكون صلى تلك الركعة وانتهى إلى هذه السجدة، فحينئذٍ يسجدها؛ لأنه لاحق، فيبدأ بالأول فالأول.
ولهذا قلنا: يصلي الإمام الأول الركعة الثانية بغير قراءة ثم يتشهد الإمام الثالث ويتأخر ويقدم رجلًا غيره أدرك أول الصلاة من المسافرين، فيسلم بهم لأنه عاجز عن السلام بنفسه، فيستعين بمن يقدر عليه ثم يسجد هو للسهو، ويسجدون معه ولا إشكال فيه؛ لأنه لو وقع فيها سهو واحد لأمر يجبره، فكيف إذا تكرر السهو؟ ولا يسجد الإمام الأول للسهو، لأنه مدرك أول الصلاة، والمدرك يأتي بسجدتي السهو بعد فراغه من الصلاة ثم يقوم الإمام الثاني، فيقضي الركعة التي سبق بها بقراءة ثم يقوم الإمام الثالث ويصلي الركعتين اللتين سبق بهما، ويقرأ فيهما بفاتحة الكتاب ثم يقوم الإمام الأول فيقضي الركعة الفائتة بغير قراءة؛ لأنه لاحق لأول الصلاة ويكمل المقيمون صلاتهم وحدانًا بغير قراءة.
مسافر أم مسافرين يصلي بهم ركعة ثم نوى الإقامة، قال: عليه أن يكمل بهم الصلاة إن نيته استندت إلى أول الصلاة وقد التزموا متابعته، فعليهم ما على الإمام من إتمام الصلاة، فإن أحدث الإمام بعد ما نوى الإقامة، فقدم رجلًا، قال: يتم بهم الصلاة أربع ركعات؛ لأن الثاني قائم مقام الأول.
ولو كان الأول قائمًا يصلي أربع ركعات، فكذلك الثاني، فصار بهذا كمسافر اقتدى بالمقيم في الوقت، فإنه تصير صلاته أربع ركعات، فكذلك هاهنا، فإن كان الإمام الأول لم ينوِ الإقامة، ولكن الإمام الثاني ينوي الإقامة لا يتغير فرضهم؛ لأنهم ما التزموا متابعته، وإنما لزمهم ذلك ضرورة إصلاح صلاتهم، ففيما سوى ذلك، فليس عليهم متابعته.
ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: في الرجل مسافر صلى بقوم مسافرين ومقيمين ركعتين فلما قعد فيها التشهد قام بعض المسافرين وانصرف إلى منزله وقام بعض المقيمين وأكمل صلاته، وانصرف وقد كان بعض المسافرين مسبوقًا بركعة قام وقضاها، وفرغ منها وانصرف، وقد كان كل ذلك بعد سلام الإمام ثم إن الإمام نوى الإقامة، فصلاتهم تامة.
فإن كان بعض المقيمين قام ليتم صلاته حين نوى الإمام الإقامة، قال: إن كان سجد لركعة سجدة مضى في صلاته، ولم يتابع الإمام، وإن رجع إلى صلاة الإمام فسدت صلاته؛ لأنه لما قيد ركعته بالسجدة، فقد استحكم انفراده؛ لأن الركعة التامة لا تقبل الارتفاع والاقتداء في موضع الانفراد يوجب الفساد، وإن لم يقيد ركعته بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام، وإذا لم يعد فسدت صلاته؛ لأن انفراده لم يستحكم، فصار وجوده وعدمه بمنزلة ولو لم يقم الإتمام صلاته حتى نوى الإمام الإقامة لزمته متابعته كذا ها هنا.
ابن سماعة عن محمد رحمه الله: مسافر تشهد بعد ما صلى ركعتين من الظهر، ثم قام يريد أن يصلي ركعتين تمام أربع ركعات ونوى بها التطوع، فقرأ وركع ثم بدت له الإقامة، قال: ينبغي أن يجلس، فيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقوم للتطوع؛ لأن التحريمة الأولى باقية، وقد... قابلة للتغير بوجود المغير وقد وجد المغير فتغيرت، فيعود إلى الحالة التي كان عليها قبل أن يقوم للتطوع ليؤدي على الوجه الذي لزمه في إتمامها ثم يقوم، فإن شاء قرأ وإن شاء لم يقرأ لأنه قرأ في الأوليين ثم يركع؛ لأنه لما عاد إلى القعود ارتفض ركوعه؛ لأن ما دون الركعة قابل للرفض.
ذكر الحاكم: رجل صلى بقوم الظهر الركعتين في مدينة ولا يدرون مسافر هو أو مقيم فصلاتهم فاسدة، فإن سألوه فأخبرهم أنه مسافر، فصلاتهم تامة.
ابن سماعة عن محمد رحمهما الله: مسافر صلى بمسافر الظهر ركعتين وسلم الإمام وعليه سجدتي السهو، فنوى الذي خلفه الإقامة، قال: إن سجد الإمام للسهو تمم هذه الصلاة، وإن لم يسجد لم يكن على هذا أن يتم الصلاة، قال الحاكم أبو الفضل: هذا الجواب غير موافق للمشهور عن محمد في نظائره.
المسافر إذا أحدث، واستخلف مقيمًا كان خلفه، وجب على المقيم القعدة على رأس الركعتين، حتى لو تركها تفسد صلاته.
قال في (الأصل): مسافر صلى بمسافر فأحدث الإمام وخرج من المسجد، ونوى الثاني أن يصلي لنفسه جاز وصار خليفة الأول، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قوله في (الكتاب): ونوى أن يصلي لنفسه زيادة كلام لا حاجة إليه، لأنه يصير إمام نفسه، وإن لم ينوِ وقد مر هذا فيما تقدم فلو جاء رجل واقتدى بالثاني جاز؛ لأن الثاني إمام إمام الأول، فإن أحدث الثاني فخرج من المسجد تحولت الإمامة إلى الثالث لأن الثالث مع الثاني كالثاني مع الأول.
فإن أحدث الثالث فخرج من المسجد قبل أن يرجع الأولان، فصلاة الثالث تامة؛ لأنه منفرد في حق نفسه وصلاة الأوليين فاسدة؛ لأنه لم يبق لهما إمام في المسجد فإن لم يخرج هذا الثالث حتى رجع الأولان ثم خرج قبل أن يتقدم واحد منهما، فصلاته تامة وصلاة الأوليين فاسدة لأن أحدهما لم يتعين للإمامة بعد فبقيا بلا إمام، هذا هو جواب (الأصل).
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وأورد في بعض النوادر أن صلاة الثالث فاسدة أيضًا لأن عليه أن يقدم أحدهما قبل أن يخرج من المسجد، فإذا لم يقدم حتى خرج من المسجد فقد ترك فرضًا من فرائض الصلاة فتفسد صلاته.
قال رحمه الله: والصحيح هو الأول قال في (الأصل) أيضًا: مسافر صلى الظهر ركعتين بغير قراءة ثم نوى الإقامة، قال: عليه أن يصلي ركعتين بقراءة والمسافر، والمقيم فيه سواء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد وزفر رحمهما الله: صلاته فاسدة، وهذا بناءً على الأصل الذي تقدم ذكره إن للصلاة جهة واحدة عند محمد رحمه الله فإذا فسدت بترك القراءة خرج من حرمة الصلاة، فلا تصح نية الإقامة في هذه الصلاة، وعندهما للصلاة جهتان فتبطلان جهة الفرضية بترك القراءة يبقى أصل الصلاة، فتصح نية الإقامة.
حجة محمد رحمه الله في هذه المسألة، وهو أن ظهر المسافر كفجر المقيم ثم الفجر في حق المقيم يفسد بترك القراءة فيهما، أو في أحدهما على وجه لا يمكنه إصلاحه إلا بالاستقبال، فكذلك الظهر في حق المسافر، إذ لا تأثير لنية الإقامة في رفع صفة الفساد.
حجتهما: أن نية الإقامة في آخر الصلاة كهي في أولها، ولو كان مقيمًا في أول الصلاة لم تفسد صلاته بترك القراءة في الأوليين، فهذا مثله.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إن الحاكم الشهيد زاد نية آخرها، فقال أجمعنا أن نية الإقامة تؤثر في القعدة، فتصيرها نفلًا بعدما كانت فرضًا، فإن المسافر إذا صلى الظهر ركعتين وقرأ فيها ثم نوى الإقامة في القعدة صحت نيته، فلا خلاف، وصارت قعدته نفلًا بعد ما كانت فرضًا؛ لأنها قعدة الختم في حق المسافر، وقعدة الختم فرض بالإجماع، فلما جاز أن تجعل النية الموجودة في حال القعدة كالموجودة في أول الصلاة في حق القعدة حتى صيرها نفلًا، فكذلك في حق القراءة.
فرق بين هذا وبين الفجر في حق المقيم، والفرق: وهو أن فساد الفجر ما كان لترك القراءة بل لفوات محل القضاء.
ألا ترى أنه لو ترك القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر أو العصر أو العشاء لا تفسد صلاته؛ لأنه لم يفت محل القراءة بهذا الذي ذكرنا إذا وجدت النية في حالة القعدة، فإن وجدت بعد القيام إلى الثالثة أو بعدما ركع أو بعدما رفع رأسه من الركوع، فكذلك تصح نيته إلا أنه إن كان لم يقرأ في الأوليين يعيد القراءة، وإن كان قرأ في الأوليين يعيد القيام والركوع؛ لأن ما أدى كان نفلًا، فلا ينوب عن الفرض فتلزمه الإعادة لهذا، فإن لم يعد فسدت صلاته.
فإن خرّ ساجدًا ثم نوى الإقامة لم تفسد نيته، وعليه أن يستعيد الصلاة؛ لأنا لو أعملنا نيته لألزمناه ركعتين أخريين ولا وجه إلى ذلك؛ لأن ظهره يصير خمسًا ولم يشرع خمسًا وفي بعض النسخ إن قيد الثالثة بالسجدة، ثم نوى الإقامة، فصلاته تامة ويضيف إليها أخرى فتكون الركعتان نافلة أورد شمس الأئمة رحمه الله هذه الرواية والله أعلم.
مسافر دخل في صلاة مقيم ثم ذهب الوقت لم تفسد صلاته؛ لأن الإتمام لزمه بالشروع مع الإمام في الوقت، فالتحق بغيره من المقيمين، بخلاف ما إذا اقتدى بعد خروج الوقت، فإن الإتمام لا يلزمه بهذا الاقتداء، فإن أفسد الإمام الصلاة على نفسه، كان على المسافر أن يصلي صلاة السفر؛ لأن وجوب الإتمام عليه لمتابعة الإمام وقد زال ذلك بالإفساد.
فإن قيل: هو كان مقيمًا في هذه الصلاة عند خروج الوقت، فبأن صار في حكم المسافر بعد خروج الوقت لا يتغير ذلك الفرض.
قلنا: لم يكن مقيمًا في هذه الصلاة، وإنما يلزمه الإتمام بمتابعة الإمام، ألا ترى أنه لو أفسد الاقتداء في الوقت، فإنه يصلي صلاة السفر.
فرق بين هذا وبين ما إذا اقتدى المسافر بالإمام والإمام في الظهر، وهذا الرجل ينوي التطوع حتى لزمه أربع ركعات لو أفسد الإمام الصلاة على نفسه تجب على هذا الرجل، فصار أربع ركعات، وفي مسألتنا يلزمه قضاء ركعتين.
والفرق: أن الشروع يلزم كالنذر إلا أن نذر المسافر أن يصلي الظهر أربع ركعات لا يصح، ونذر المسافر أن يصلي التطوع أربعًا يصح؛ لأن النذر بالتطوع تلزم وبالفرض غير ملزم.
ويخفف القراءة في السفر في الصلوات، فقد صح أن رسول الله عليه السلام قرأ في الفجر في السفر {قُلْ يأَيُّهَا الْكَفِرُونَ} [الكافرون: 1] و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وأطول القراءة في صلاة الفجر، وأما تسبيحات الركوع والسجود يقولها ثلاثًا أو أكثر ولا ينقص عن الصلاة، وإذا أتم الإمام بمدينة وهو مسافر، فصلى بهم الجمعة أجزأه وأجزأهم، فقد أقام رسول الله عليه السلام الجمعة بمكة، وهو كان مسافرًا بها.
وكذلك الأمير يطوف في بلاد عمله فهو مسافر، والإمام هو الخليفة إذا سافر يصلي صلاة المسافرين؛ لأنه مسافر كغير الخليفة كذا ذكر في (النوازل)، فقيل: إذا طاف الخليفة في ولايته لا يصير مسافرًا، ويجوز للمسافر الجمع بين الصلاتين لعذر السفر بأن يؤخر الأول، ويعجل الثاني، وتأخير المغرب مكروه، إلا بعذر السفر.
وإذا قضى في حال سفره صلاة فاتته في حالة الإقامة صلى أربعًا وإن قضى في حال إقامته صلاة فاتته في حال السفر صلى ركعتين؛ لأن القضاء تمكن الفائت؛ لأنه إذا لما وجب من قبل فيتغير حالة الفوات نية اللاحق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وقد فرغ الإمام من صلاته ساقطة على ظاهر الرواية لا يلزمه الإتمام، بل يصلي ركعتين، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يتمها أربعًا، وهو قول زفر رحمه الله، هكذا روى أبو سليمان في (نوادره) عن محمد.
ووجهه: أن هذا الرجل لا يخلو إما إن كان ملحقًا بالمسبوق أو بالمدرك فإن كان ملحقًا بالمسبوق يصلي أربعًا؛ لأن المسبوق إذا نوى الإقامة فيما يقضي يتعين فرضه أربعًا كذلك هاهنا، وإن كان ملحقًا بالمدرك، فكذلك أيضًا؛ لأن المقتدي إذا نوى الإقامة خلف الإمام يتعين فرضه أربعًا كذا هاهنا.
وجه ظاهر الرواية في ذلك: أن اللاحق في حكم المقتدي فيكون تبعًا للإمام والإمام لو نوى الإقامة في هذه الحالة بعد الفراغ من الصلاة لم يتغير فرضه، وإن نوى اللاحق الإقامة قبل فراغ الإمام تغير فرضه؛ لأن الإمام لو نوى الإقامة في هذه الحالة تغير فرضه، وإن تكلم اللاحق ثم نوى الإقامة تغير فرضه؛ لأنه خرج من حكم المتابعة وصار أصلًا ونية الإقامة في الوقت ممن هو أصل يكون مغيرًا للفرض.
قال في (الكتاب): وكذلك دخول اللاحق المصر يريد بهذا أنه كان يصلي المصر خلف الإمام والمصر أمامه، فدخل المصر ليتوضأ للعشاء ثم بدا له الإقامة فيها يصلي ركعتين، لأن دخول المصر كالنية خارج المصر، وقد ذكرت أن بنية الإقامة لا يصير مقيمًا، فدخوله المصر كذلك.
قال: ونية المسبوق في قضاء ما عليه للإقامة يلزمه الإتمام؛ لأن المسبوق يصلي صلاة نفسه بدليل أنه تجب عليه القراءة وسجود السهو إذا سهى، قال: وكذلك دخول المصر؛ لأنه بمنزلة النية واللاحق أحد الرجلين إما أن يكون قائمًا خلف الإمام بعد فراغ الإمام من الصلاة أو يحدث خلف الإمام، فذهب ليتوضأ ثم جاء وقد فرغ من الصلاة.
قال ونية المنفرد الإقامة في صلاة افتتحها في الوقت ثم ذهب وقتها ساقطة وكذلك دخوله المصر؛ لأن بخروج الوقت صارت صلاة السفر دينًا في ذمته فلا يتغير بإقامته، كالمقيم إذا سافر بعد خروج الوقت لا يتغير ما صلى.
قال شمس الأئمة رحمه الله في مسألة أخرى لا ذكر لها في (المبسوط): وهو ما إذا كان مسبوقًا بركعة نائمًا في ركعة، فلما قام للقضاء نوى الإقامة صحت نيته الإقامة سواء نوى الإقامة في الركعة التي سبق بها أو في الركعة التي نام فيها؛ لأن عليه أن يبدأ بما نام فيها لو وجدت النية فيها، فإنها تدوم إلى آخر الصلاة، فكأنه نوى فيما سبق به.
قلنا: وإن أخر النية إلى أن قام إلى قضاء ما سبق به، فهذا مسبوق نوى الإقامة فيما يقضي، فتصح نيته والله أعلم.
مسافر صلى ركعة، فجاء مسافر واقتدى به ثم أحدث الإمام، واستخلف هذا الرجل ثم خرج الإمام الأول ليتوضأ ونوى الإقامة والإمام الثاني نوى الإقامة أيضًا، ثم عاد الإمام الأول إلى الصلاة، ماذا يفعل الإمام الأول والثاني؟
قالوا: يقتدي الإمام الأول بالثاني في الركعة الثانية، وإذا قعد الإمام الثاني قدر التشهد يقوم ويستخلف رجلًا أدرك أول الصلاة ليسلم بالقوم، ثم يقوم الإمام الثاني ويصلي ثلاث ركعات والإمام الأول ركعتين؛ لأنه بنية الإمام الثاني لم يعمل في حق القوم، فإذا صلى ركعة خرج من الإقامة.
مسافر صلى الظهر ركعتين وقام إلى الثالثة ناسيًا بعدما قعد قدر التشهد ثم تذكر ذلك في قيام الثالثة أو في ركوعها فإنه يعود ويقعد وإن تذكر بعد أن قيد الثالثة بالسجدة يتم صلاته أربعًا، وكانت الثالثة والرابعة له سنّة الظهر، وإن لم يكن قعد على الركعتين إن تذكر في قيام الثالثة عاد وإن لم يعد حتى قيدها بالسجدة، فسدت صلاته، ولو كان هذا المسافر ترك القراءة في الركعتين الأوليين أو في أحدهما ثم قام إلى الثالثة وقرأ.
وقالوا: في قياس قول أبي حنيفة، وأبي يوسف إذا نوى الإقامة في الثالثة تجوز صلاته ولو قرأ في الثالثة، وركع ثم نوى الإقامة في الركوع، قالوا: تجوز صلاته أيضًا.
مسافر أم قومًا في آخر وقت صلاة العصر، فلما صلى ركعة غربت الشمس ثم جاء رجل واقتدى به، صح اقتداؤه، فإن سبق الإمام الحدث استخلف هذا الرجل الذي اقتدى به، فتذكر الخليفة أنه لم يصل الظهر، فسدت صلاته؛ لأن الوقت ليس بضيق عند شروعه ولو تذكر هذه الفائتة بعد الغروب قبل الشروع لا يصح شروعه، فإذا تذكر في خلال الصلاة تفسد صلاته، وإن تذكر الإمام الأول أنه لم يصلِ الظهر لم تفسد صلاته سبقه الحدث أو لم يسبقه؛ لأن الوقت كان ضيقًا عند شروعه، لو تذكر الفائتة في ذلك الوقت لم يمنعه، هكذا إذا تذكر في خلال الصلاة.
مسافر صلى شهرًا جميع الصلوات ركعتين، قال أبو حنيفة رحمه الله: يعيد ثلاثين مغربًا ولا يعيد غيرها، وقال صاحباه: يعيد ثلاثين مغربًا ويعيد صلاة العشاء والفجر والظهر والعصر بعد المغرب الأولى.
مسافر صلى الظهر ركعتين، وقام إلى الثالثة ناسيًا أو متعمدًا فجاء مسافرًا واقتدى به في تلك الحالة، فصلاة الداخل موقوفة إن عاد الإمام إلى القعدة وسلم، فصلاة الداخل ركعتان كصلاة الإمام، وإن لم يعد، فنوى الإقامة في القيام الثالثة ينقلب فرضه وفرض الداخل أربعًا؛ لأنه نوى الإقامة في حرمة الصلاة، فصحت نيته وتغير فرضه أربعًا.
وكذلك فرض الداخل يتغير أربعًا؛ لأن اقتداءه به قد صح؛ لأنه كان في حرمة الصلاة حين اقتدى به، فصح اقتداؤه به وتغير فرضه أربعًا أيضًا، بحكم المتابعة، فيتابعه الداخل في الركعتين ثم يقضي ما فاته، وذلك ركعتان وإذا خرج الأمير مع جيشه لطلب العدو، ولا يعلم أين يدركهم فإنهم يصلون صلاة الإقامة في الذهاب وإن طالت المدة، وكذلك في المكث في ذلك الموضع، وأما في الرجوع، فإن كان إلى مصره مسيرة السفر يقصر الصلاة وإلا فلا.

.نوع آخر في بيان اجتماع حكم السفر والإقامة:

مقيم صلى الظهر أربعًا ثم سافر في الوقت وقصر العصر وهو مسافر، ثم تذكر في وقت العصر شيئًا نسيه في مصره فعاد إليه ثم علم أنه صلى الظهر والعصر بغير طهارة، فتوضأ وصلى الظهر ركعتين والعصر أربعًا؛ لأنه ظهر أن الأداء لم يصح وقد خرج وقت الظهر وهو مسافر فصار الظهر في ذمته صلاة السفر، وخرج وقت العصر وهو مقيم، فصار العصر في ذمته صلاة الإقامة وإذا كان مسافرًا في أول الصلاة ثم نوى الإقامة فيها في موضع الإقامة، وهو في الوقت، أتم أربعًا.
ولو كان خرج الوقت ثم نوى الإقامة أتمها شفعًا، ولو كان مقيمًا في أولها ونوى السفر في وسطها أتمها أربعًا؛ لأن النية بدون الفعل لا تعتبر.
وإن كان شرع فيها وهو في السفينة في المصر فمرت وخرجت من العمران، وهو ينوي السفر صار مسافرًا، لكنه يتم الصلاة التي شرع فيها أربعًا؛ لأنه لزمه أربعًا حين شرع فيها فلا يسقط منها شيء بنية السفر.
المسافر إذا أم قومًا مسافرين ومقيمين، فسبقه الحدث واستخلف مقيمًا صلى بهم تمام صلاة الإمام، وإذا انتهى إلى موضع التسليم لم يسلم، لأن عليه بعض الصلاة، فيستخلف من يسلم بهؤلاء المسافرين، ويقوم ويتم ما عليه والمقيمون أيضًا يتمون وحدانًا، ولا يقرؤون على أصح الأقوال، وقد مر هذا من قبل.
مسافر صلى بقوم مقيمين ومسافرين ركعة، فسبقه الحدث، فأخذ بيد رجل ليقدمه، فنوى الإقامة ثم قدمه صلى هذه الخليفة بهم أربعًا؛ لأنه نوى الإقامة وهو إمامهم؛ لأنه بالحدث لم يخرج من أن يكون إمامًا لهم، ولهذا يملك الاستخلاف، ولو لم ينو المحدث الإقامة ولكنه قدم مقيمًا فالخليفة يقعد على رأس الركعتين.
ولو لم يقعد فسدت صلاته، وصلاة القوم وإذا أتم هذه القعدة يقدم من يسلم بهم، ويقوم هو ويتم صلاة نفسه ولو أن الخليفة لم يقرأ في فائتة الإمام، فسدت صلاته وصلاة القوم كما لو لم يقرأ الإمام الأول.
مسافر صلى بمسافرين ركعتين، فلما تشهد في الثانية تكلم أو تكلم بعض من خلفه ثم نوى الإمام الإقامة صار فرضه، وفرض من بقي خلفه أربعًا، وصلاة من ذهب جائزة ركعتين، ولم تؤثر نية الإمام الإقامة في حقهم لزوال الاقتداء بالكلام والسلام قبل نية الإمام.
مسافر صلى ركعتين بغير قراءة فظن أنه صلى ركعة فقام وقرأ وركع ثم نوى الإقامة صار فرضه أربعًا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ويعيد القيام والقراءة والركوع، وتجوز لأن الأول وقع نفلًا لا فرضًا؛ لأن فرضه حال كونه مسافرًا ركعتان فلو لم يعد حتى قيد الركعة بالسجدة فسدت صلاته؛ لأنه تم انتقاله إلى النفل فلا يمكنه إصلاح الفرض ولو كان قرأ في الأوليين وقعد وقام إلى الثالثة، وقرأ وركع وسجد ثم نوى الإقامة لم يصر أربعًا؛ لأنه خرج من الفرض.
ولو كان لا يقيده بالسجدة صار أربعًا ويعيد القيام والركوع لوقوعهما نفلًا، وليس عليه إعادة القراءة؛ لأنه عليه في الأخريين من الفرض، فإن لم يعد بل مضى فسدت صلاته، لتركه القيام الفرض والركوع الفرض، فإن قام من الثانية إلى الثالثة من غير قعود ناسيًا قبل نية الإقامة، فعليه أن يعود إلى القعود، فإن نوى الإقامة لم يعد؛ لأن فرضه صار أربعًا، وإن نوى الإقامة وهو قاعد إن كان تشهد قائمًا، ولا يعيد التشهد، وإن لم يكن تشهد، فيتشهد ثم يقوم.
ومما يتصل بهذا الفصلالمقيم والمسافر إذا أمَّ أحدهما صاحبه ثم يشكان فيه.
مسافر ومقيم أم أحدهما صاحبه، فشكّا فلم يدريا من الإمام، ومن المقتدي، فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: إذ شكا بعدما صليا ركعة وإنه على خمسة أقسام:
القسم الأول: إذا شكا قبل الحدث، وفي هذ القسم تفسد صلاتهما، لتعذر المضي بيانه: وهو أن كل واحد، منهما يحتمل أن كان إمامًا في الابتداء ويحتمل أنه كان مقتديًا ومن كان إمامًا لا يصلح مقتديًا ومن كان مقتديًا لا يصلح إمامًا؛ لأن صلاة الإمام مع صلاة المقتدي غيران حكمًا.
ألا ترى أن الإمام تلزمه القراءة وتنوب قراؤته عن قراءة المقتدي، وإذا قرأ آية السجدة يلزمه ومأمومه سجدة التلاوة، وإذا سهى لزمته ومأمومه سجدة السهو وإذ فسدت صلاته فسدت صلاة مأمومه، والمقتدي لا تلزمه القراءة، وإذا قرأ آية السجدة لا يلزمه ولا إمامه سجدة التلاوة، وإذا سهى لا سهو عليه، ولا على الإمام، وإذا فسدت صلاته لا تفسد صلاة الإمام.
وألا ترى أن الإمام إذا كبر في خلال الصلاة ينوي الاقتداء بغيره في تلك الصلاة يصير خارجًا من صلاته، وكذلك إذا كبر ينوي الإقامة يصير خارجًا عن صلاته، بمنزلة من كان في صلاة الظهر فكبر ينوي العصر فثبت أنهما غيران حكمًا.
فإذا لم ينويا من الإمام ومن المقتدي لا يدري كل واحد منهما أنه يتم صلاته على الإمامة، أو على الاقتداء، فيعجز كل واحد منهما عن المضي على صلاته ففسدت صلاتهما؛ لهذا بعض مشايخنا قالوا: هذا إذا أصابتهما آفة وافترقا عن مكانهما، أما إذا كانا في مكانهما نجعل صاحب اليمين مقتديًا وصاحب اليسار إمامًا، عملًا بما جاءت به السنّة.
القسم الثاني: إذا لم يشكا حتى أحدث المقيم وخرج من المسجد، ثم أحدث المسافر وخرج ثم توضأ فأقبلا، ثم شكا فصلاة المقيم فاسدة وصلاة المسافر تامة أما صلاة المقيم فاسدة؛ لأنه إن كان مقتديًا فإذا خرج الإمام من المسجد بعده لم يبق له إمام في المسجد، وإن كان إمامًا، فإذا خرج من المسجد أولًا تحولت الإمامة إلى المسافر وصار المقيم مقتديًا به، حتى لو عاد أتم الصلاة خلفه.
فإذا خرج المسافر من المسجد بعد ذلك لم يبق المقيم إمامًا في المسجد، وخلو المسجد من الإمام يوجب فساد صلاة المقتدي، فتيقنا بفساد صلاته على كل حال، وصلاة المسافر تامة؛ لأنه إن كان إمامًا بقي على إمامته، وإن كان مقتديًا، فقد تحولت الإمامة إليه حين خرج المقيم عن المسجد، وإذا خرج عن المسجد بعد ذلك لم يبق له مؤتم في المسجد، وخلو المسجد عن المؤتم لا يوجب فساد صلاة الإمام، ولكن على المسافر أن يقرأ في الركعة الثانية ويقعد في الثانية، لاحتمال أنه كان إمامًا وكان فرضه هذا ويتم صلاته أربعًا لاحتمال أنه كان مقتديًا، وانقلب فرضه أربعًا.
القسم الثالث: إذا لم يشكا حتى أحدث المسافر وخرج من المسجد ثم أحدث المقيم وخرج ثم توضأ فأقبلا ثم شكا، فصلاة المسافر فاسدة وصلاة المقيم تامة، وصلاة المسافر في هذه المسألة نظير المقيم في المسألة الأولى، والمقيم في هذه المسألة نظير المسافر في المسألة الأولى، وعلى المقيم أن يقرأ في الركعة الثانية، ويقعد على رأس الثانية حتى أنه إذا لم يفعل أحدهما فسدت صلاته، لجواز أنه كان مقتديًا فحين أحدث إمامه وخرج عن المسجد تحولت الإمامة إليه، وافترض عليه ما كان فرضًا على إمامه وكان فرضًا على إمامه القراءة في الثانية والقعدة، فافترض عليه ذلك ثم يقوم ويصلي ركعتين أخريين تمام صلاته وهل يقرأ.
فيه اختلاف المتأخرين، قد ذكرنا قبل هذا أن مقيمًا لو اقتدى بمسافر، فلما فرغ الإمام قام المصلي يصلي الركعتين الأخرين، روى الكرخي عن محمد أنه لا يقرأ، وبه أخذ بعض المشايخ، وعن أبي طاهر الدباس: أنه يقرأ، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والاحتياط أن يقرأ.
القسم الرابع: إذا لم يشكا حتى أحدثا، وخرجا عن المسجد على التعاقب إلا أنه لا يدرى من الذي خرج أولًا ثم توضأا فأقبلا فشكا، فصلاتهما فاسدة؛ لأن الذي خرج أولًا فسدت صلاته لما ذكرنا، والذي خرج آخرًا صلاته صحيحة، وكل واحد منهما يحتمل أنه خرج آخرًا، فكانت صلاة كل واحد منها صحيحة من وجه فاسدة من وجه، فكان الحكم الفساد احتياطًا.
القسم الخامس: إذا لم يشكا حتى أحدثا معًا أو على التعاقب إلا أنهما خرجا معًا، وباقي المسألة بحالها صلاتهما فاسدة أيضًا، لأن الإمام منهما بقي على إمامته، لما ذكرنا أن الإمامة لا تتحول لمجرد الحدث وإنما تتحول بالخروج، وقد خرجا معًا فبقي الإمام على إمامته والمقتدي على اقتدائه، فصلاة الإمام تامة وصلاة المقتدي فاسدة، وكل واحد يحتمل أن يكون إمامًا ويحتمل أن يكون مقتديًا، فكانت صلاة كل واحد منهما صحيحة من وجه فاسدة من وجه فكان الحكم بالفساد.
الوجه الثاني: إذا شكا بعدما صليا ركعتين وقعدا قدر التشهد، وإنه على خمسة أقسام أيضًا.
القسم الأول: إذا شكا قبل الحدث وفي هذا القسم يقوم المقيم ويصلي ركعتين أخرين ويتبعه المسافر فيها، أما المقيم، فيصلي ركعتين أخريين لأنه إن كان إمامًا، فعليه إتمام صلاته، وإن كان مقتديًا فكذلك وأما المسافر فإنه يتبعه فيهما؛ لأنه إن إمامًا فقد أتم صلاته والمتابعة في الركعتين الأخرتين لا تضر وأن كان مقتديًا فقد صار فرضه بالاقتداء بالمقيم أربعًا، فتلزمه المتابعة في الركعة، والمتابعة في الأخريين لازمة من وجه دون وجه، فأوجبناها احتياطًا.
القسم الثاني: إذا أحدث المقيم وخرج من المسجد ثم أحدث المسافر، وخرج من المسجد فتوضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المقيم فاسدة وصلاة المسافر تامة، أما صلاة المقيم فاسدة، فلأنه إن كان مقتديًا إن كانت لا تفسد صلاته بخروجه وخروج إمامه بعد ذلك؛ لأن صلاة إمامه قد تمت بأداء الركعتين تفسد صلاته إذا كان إمامًا وخرج المسافر بعد خروجه لا بخروجه أولًا تحولت الإمامة إلى المسافر، وصار المقيم مقتديًا به، فإذا خرج المسافر من المسحد لم يبق للمقيم إمامٌ في المسجد، وخلو المسجد عن الإمام يوجب فساد صلاة المقيم، فصلاة المقيم تفسد من وجه، وهو أن يكون إمامًا، ولا تفسد من وجه، وهو أن يكون مقتديًا، فحكمنا بالفساد، وصلاة المسافر تامة؛ لأنه إن كان إمامًا بقي على إمامته، وإن كان مقتديًا فقد تحولت الإمامة إليه حين خرج المقيم من المسجد، فإذا خرج عن المسجد بعد ذلك، لم يبق له مؤتم في المسجد، وخلو المسجد عن المؤتم لا يوجب فساد صلاة الإمام، ولكن على المسافر أن يصلي أربعًا؛ لاحتمال أنه كان مقتديًا وانقلب فرضه أربعًا.
القسم الثالث: إذا أحدث المسافر وخرج من المسجد ثم أحدث المقيم وخرج من المسجد، فتوضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المسافر فاسدة لاحتمال أنه كان مقتديًا، وانقلب فرضه أربعًا، فحين خرج المقيم عن المسجد لم يبق للمسافر إمام في المسجد، وهذا يوجب فساد صلاته وصلاة المقيم تامة إن كان إمامًا بقي على إمامته وإن كان مقتديًا، فقد جاء أوان الانفراد وخروج المنفرد عن المسجد لا يوجب فساد صلاته.
القسم الرابع: إذا أحدثا وخرجا من المسجد على التعاقب، إلا أنه لا يدرى من الذي خرج أولًا ثم توضأا وأقبلا فشكا، وفي هذا القسم فسدت صلاتهما لما مر في الوجه الأول.
القسم الخامس: إذا أحدثا معًا أو على التعاقب إلا أنهما خرجا معًا، ثم توضأا وأقبلا وشكا، وفي هذا القسم صلاة المسافر فاسدة، لاحتمال أنه كان مقتديًا وانقلب فرضه أربعًا فحين خرج المقيم لم يبق الإمام في المسجد، وصلاة المقيم تامة؛ لأنه إن كان إمامًا بقي على إمامته، وإن كان مقتديًا، فحين أتم المسافر صلاته جاء أوان الانفراد في حقه وخروج المنفرد عن المسجد لا يوجب فساد صلاته.
الوجه الثالث: إذا شكا بعدما صليا ثلاث ركعات، فالقياس: أن يكون الجواب في هذا الوجه، والجواب فيما تقدم سواء لمعنى الشك وتردد الحال في حق كل واحد منهما، وفي الاستحسان الإمام هو المقيم فعليه أن يقوم فيصلي الركعة الرابعة، ويقتدي به المسافر حملًا لأمر المسلم على الصلاح، فإن فعل كل مسلم محمول على الصلاح ما أمكن، ولو جعلنا المقيم إمامًا كان حمل أمرهما على الصلاح في الركعة الثالثة.
ولو جعلنا المسافر إمامًا كان فيه حمل أمرهما على ما لا يحل شرعًا من خلط النفل بالفرض، والخروج عن الفرض والدخول في النفل لا على وجه المسنون في حق المسافر، ومن اقتداء المفترض بالمتنفل في حق المقيم، فجعلنا المقيم إمامًا لهذا.
ونظير هذا من فرغ من صلاته وسلم ثم شك أنه صلى ثلاثًا أو أربعًا، فليس عليه شيء ويحمل قوله على الصلاح، وهو الخروج عن الصلاة في وقته فكذا هاهنا.
ومعنى آخر أشار إليه محمد رحمه الله في (الكتاب): فقال: إن أمور المسلمين محمول على المتعارف والمعتاد فيما بين الناس، والمتعارف المعتاد فيما بين الناس أن المقيم يقوم إلى الثالثة والمسافر لا يقوم إلى الثالثة، إلا إذا كان مقتديًا بالمقيم، استشهد محمد رحمه الله بمن أحرم بشيئين، ثم نسيهما، فلم يدر أحجان أم عمرتان؟ يجعل قارنًا بحجة وعمرة ولا يجعل قارنًا بحجتين، ولا بعمرتين حملًا لأمره على الصلاح على المعنى الأول فإن الجمع بين الحج والعمرة صحيح مندوب إليه شرعًا والجمع بين الحجتين والعمرتين ممنوع عنه فجعل قارنًا حملًا لأمره على الصلاح، وعلى المعنى الثاني يجعل قارنًا بحجة وعمرة حملًا لأمره على المتعارف؛ لأن المتعارف فيما بين الناس الجمع بين حجة وعمرة لا الجمع بين حجتين أو عمرتين، فكذا ها هنا.
وكذلك مسافر ومقيم أم أحدهما صاحبه ولم يقعدا في الثانية قدر التشهد، ثم سلما وسجدا سجدتي السهو ثم شكا، فلم يدريا أيهما الإمام؟ يجعل الإمام هو المقيم حملًا لأمرهما على الصلاح.
وكذلك لو كانا تركا القراءة في الأوليين أو في أحدهما، فلما سلما وسجدا للسهو شكا، فإنه يجعل الإمام هو المقيم لما بينا وإذا كان في مسألتنا الإمام هو المقيم يسهل تخريج مسألة الحدث وإن أحدث المقيم أولًا، وخرج من المسجد ثم أحدث المسافر بعد ذلك وخرج من المسجد، فصلاة المقيم فاسدة لتحول الإمامة إلى المسافر فيصير هو مقتديًا فإذا خرج المسافر لم يبق الإمام في المسجد فتفسد صلاته، وصلاة المسافر جائزة تامة.
وإن كان مقتديًا لكن تحولت إمامة المقيم إليه، وخروج الإمام عن المسجد لا تفسد صلاته وإن أحدث المسافر وخرج ثم أحدث المقيم، وخرج، فصلاة المسافر فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد، وإن أحدثا معًا أو متعاقبًا لكن خرجا معًا فصلاة المقيم تامة لأنه إمام لم تتحول إمامته إلى غيره وصلاة المسافر فاسدة لأنه لم يبق له إمام في المسجد، وإن خرجا على التعاقب ولا يدري أيهما خرج أولًا؟ فصلاتها جميعًا فاسدة لما قلنا من قبل والله أعلم.

.الفصل الثالث والعشرون في الصلاة على الدابة:

قال في (الأصل): ويصلي المسافر التطوع على دابته بإيماء حيث توجهت به، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال: «رأيت رسول الله عليه السلام في غزوة إنما يتطوع على دابته بالإيماء، وجهه إلى المشرق» وزاد في آخر الحديث: «وكان إذا أراد الوتر أو المكتوبة نزل»، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام كان يصلي على دابته تطوعًا حيث توجهت به، وقرأ قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 115] وكان ينزل للمكتوبة».
واختلفت الروايات عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الوتر، روي «أنه عليه السلام يوتر على دابته» وروي عنه «أنه كان ينزل للوتر»، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال الحاكم الجليل في (إشاراته) تأويل ما روي «أنه كان يوتر على دابته» أنه كان يفعل ذلك، لعذر المطر والطين، أو كان ذلك قبل تأكد الوتر فأما بعد تأكد الوتر كان ينزل، وجاء في حديث آخر «أن النبي عليه السلام كان يصلي التطوع على حمار متوجهًا إلى خيبر»، ولأن صلاة التطوع خبر موضوع بدليل الحديث فلو لم تجز على الدابة لغاية، هذا الخبر إذ لا يمكنه النزول في كل ساعة؛ لأنه يخاف على نفسه ودابته، فيجوز لهذا العذر ولو لم يكن له في التطوع على الدابة من المنفعة إلا حفظ اللسان وحفظ النفس عن الوساوس والخواطر الفاسدة كان ذلك كافيًا، ويجعل السجود أخفض من الركوع؛ لأنه عجز عن الركوع والسجود كالمريض.
وعلى أي الروايات إن صلى أجزأه لأن الرواية وقعت باسم الدابة واسم الدابة يقع على الكل، ثم إن محمدًا رحمه الله وضع المسألة في (الأصل) في المسافر.
وذكر الكرخي في كتابه، ويجوز التطوع على الدابة في الصحراء مسافرًا كان أو مقيمًا أينما توجهت به، فروى عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله أنه يطلق ذلك للمسافر خاصة؛ لأن الجواز بالإيماء بخلاف القياس، لأجل الضرورة والضرورة إنما تتحقق في السفر لا في الحضر، والصحيح أن المسافر وغير المسافر في ذلك على السواء بعد أن يكون خارج المصر حتى أن من خرج من المصر إلى مساعه، جاز أن يصلي التطوع على الدابة، وإن لم يكن مسافرًا إلا أن الكلام بعد هذا في مقدار ما يكون بين المقيم، وبين المصر حتى يجوز له التطوع على الدابة.
وذكر في (الأصل): إذا خرج فرسخين أو ثلاثة فله أن يصلي على الدابة وهكذا ذكر الكرخي في كتابه، ومن المشايخ من قدره بفرسخين فصاعدًا، فقال: إذا كان بينه وبين المصر فرسخان، فله أن يصلي على الدابة، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز.
وقال بعضهم: إن كان بينه وبين المصر قدر ميل جاز له أن يصلي على الدابة، وإن كان أقل من ذلك فلا، وقال بعضهم: إن كان بينه وبين المصر قدر ما يكون بين المصر وبين مصلى العيد جاز له أن يتطوع على الدابة، وإن كان أقل من ذلك لا يجوز.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: والصحيح من الجواب أنه يعتبر فيه مخالطة البنيان ومفارقتهما، فما دام مخالطًا للبنيان لا يتطوع على الدابة وإذا فارق البنيان فقد خرج من المصر، فيجوز له التطوع على الدابة وهو قياس قصر الصلاة للمسافر، وعن أبي حنيفة رحمه الله: أن التطوع على الدابة جائز على المصر من غير فصل بينها إذا كان المكان الذي خرج إليه قريبًا أو بعيدًا، وإن كان بسرجه قذر لم تفسد صلاته.
وأشار في (الكتاب): إلى المعنى، وقال: والدابة أبعد من ذلك يريد بذلك أن الدواب ليسوا بطيبين ظاهرًا؛ لأنهم يتمعكون في التراب والنجاسات، فالظاهر أنهم لا يخلون عن النجاسات ثم نجاسة الدابة تمنع الجواز، فكذا نجاسة السرج بل أولى؛ لأنها أقل، من أصحابنا من قال: لم يرد محمد بقوله: وإذا كان بسرجه قذر أن يكون على سرجه نجاسة حقيقية، وإنما أراد به قذر الدابة الذي يتلطخ به الثوب، أما إذا كان على سرجه نجاسة حقيقية نحو رجيع الآدمي وما أشبه ذلك، وكانت في موضع الجلوس أو الركابين أكثر من قدر الدرهم تمنع الجواز، وهو قول الفقيه محمد بن مقاتل الرازي والشيخ الإمام الزاهد أبي حفص الكبير رحمهما الله.
وبعضهم قالوا: إذا كانت النجاسة في الركابين لا بأس به، وإن كان في موضع الجلوس يمنع الجواز، والحاكم الشهيد يشير إلى أن كل ذلك على السواء وشيء منها لا يمنع الجواز؛ لأن هذا أمر بني على الخفة والرخصة وطهارة السرج والركابين نادر، فلا يشترط طهارتها؛ ولأنه قد سقط عنه القيام والسجود وذلك ركن وطهارة المكان شرط والركن أقوى من الشرط، فسقوط الركن يدل على سقوط الشرط من طريق الأولى، ولم يذكر في ظاهر الرواية التطوع على الدابة في المصر.
قال الحاكم في (الكتاب): قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصلي النافلة على الدابة في المصر، وقال أبو يوسف: لا بأس بذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال في (الكتاب): لا يصلي النافلة على الدابة في المصر، ولكن لم يذكر أنه لو صلى يجزئه.
وذكر الفقيه أبو جعفر في (غريب الروايات)، وقال: إني لا أعرف مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (الهارونيات) أنه لا يجوز التطوع على الدابة في المصر عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف لا بأس به، وعند محمد يجوز ويكره.
فعلى ما ذكره شمس الأئمة السرخسي حجة أبي حنيفة رحمه الله، هو أنا جوزنا الصلاة على الدابة بالإيماء بالنص، بخلاف القياس والنص ورد خارج المصر والمصر ليس في معنى خارج المصر لأن سيره على الدابة في المصر لا يكون مؤبدًا عادة فرجعنا فيه إلى أصل القياس، وحكي أن أبا يوسف رحمه الله لما سمع هذا الجواب عن أبي حنيفة رحمه الله، قال: حدثني فلان، وسماه عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام ركب الحمار في المدينة، يقول سعد بن عبادة؛ وكان يصلي وهو راكب، فسكت أبو حنيفة ولم يرفع رأسه.
قيل: إنما لم يرفع رأسه رجوعًا منه.
وقيل: إنما لم يرفع رأسه؛ لأنه عده من شواذ الأخبار، وآحاده، ومثل هذا الخبر لا يكون حجة فيما تعم به البلوى، فأبو يوسف رحمه الله أخذ بهذا الحديث، ومحمد كذلك، إلا أنه كره ذلك في المصر لأن اللفظ يكثر فيها والكثرة ربما تمتلئ بالغلط في القراءة، فلهذا يكره، قيل: اللفظ صور مهمة.
وقيل: الكلام الفاحش ثم يستوي الجواز عندنا بين أن يفتتح الصلاة مستقبل القبلة، وبين أن يفتتحها مستدبر القبلة في الحالين يجزئه؛ لأن جواز التطوع على الدابة بالديار، ولا فرق في الديار بين الابتداء وبين الانتهاء.
ومن الناس من يقول: إنما يجوز التطوع على الدابة إذا توجه إلى القبلة عند افتتاح الصلاة، ثم تركها حتى انحرف عن القبلة، أما ما إذا افتتح الصلاة إلى غير القبلة لا تجوز؛ لأنه لا ضرورة في حالة الابتداء، إنما الضرورة في حالة البقاء إلا أن أصحابنا لم يأخذوا به؛ لأنه لا تفصيل في النص.
ولو أومئ على الدابة وبنى بسير لم يجز إذا قدر أن يقفها، وإن تعذر الوقف جاز؛ لأن سير الدابة مضاف إلى راكبها، ويتحقق بسبب ذلك اختلاف المكان، فلا يتحمل إلا عند تعذر الوقف ولا يصلي المسافر المكتوبة على الدابة إلا في ضرورة فإن المكتوبة في أوقات محصورة لا يشق عليه النزول؛ لأدائها بخلاف التطوع، فإنه ليس مقدر بشيء فلو ألزمناه النزول؛ لأدائها تعذر عليه أداء ما يسقط من التطوعات أو ينقطع سفره.
وكذلك ينزل للوتر عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنها واجبة عنده، وعندهما له أن يوتر على الدابة؛ لأنها سنة عندهما، وأما في حالة الضرورة له أن يصلي المكتوبة، والوتر على الدابة لما روي أن رسول الله عليه السلام كان مع أصحابه في سفر فمطروا، «فأمر مناديًا حتى نادوا صلوا على رواحلكم».
ومن الأعذار إن خاف لو نزل عن الدابة على نفسه أو على دابته لصًا أو سبعًا أو كان في طين لا يجد على الأرض مكانًا يابسًا أو كانت الدابة حمومًا إن نزل عنها لا يمكنه الركوب إلا بمعين أو كان شيخًا كبيرًا لا يمكنه أن يركب، ولا يجد من يركبه ففي هذه الأحوال كلها تجوز المكتوبة على الدابة، قال الله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239] وعلى قياس ما ذكرنا في أول بيان الأعذار.
لو صلى المكتوبة في البادية على الراحلة والقافلة تسير يجوز؛ لأنه يخاف على نفسه وثيابه لو نزل؛ لأن القافلة لا تنتظره، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه ألحق ركعتي الفجر بالمكتوبة، فقال: ينزل لها إلا بعذر، وذكر ابن شجاع: أن ذلك يجوز أن تكون لبيان الأولى يعني أن الأولى أن ينزل لركعتي الفجر ثم ها هنا مسألة لم يذكرها محمد رحمه الله في (الأصل): ولا أوردها الحاكم الشهيد في (المختصر): وهو ما إذا افتتح التطوع على الدابة خارح المصر ثم دخل المصر قبل أن يفرغ منها، وذكر في غير رواية الأصول أنه يتمها، واختلف الناس في معنى هذا، قال بعضهم: يتمها على الدابة، ما لم يبلغ منزله وأهله، لأنه التزمها راكبًا، فله أن يتمها راكبًا.
وقال كثير من أصحابنا رحمهم الله: إنه ينزل ويتمها نازلًا؛ لأنا قد روينا عن أبي حنيفة أنه كان لا يأذن بالصلاة على الدابة في المصر، وهذا لأن النزول عمل يسير لا يحتاج فيه إلى معالجة كثيرة فلهذا تجوز بقية الصلاة نازلًا.
وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: إن صلى ركعة بإيماء ثم دخل المصر لم يمكنه إتمام صلاته نازلًا؛ لأنه بناء الكامل على الناقص؛ لأن أول صلاته بإيماء وآخر صلاته بركوع وسجود. وإن لم يصل ركعة بإيماء نزل وأتمها نازلًا؛ لأنه لم يؤد شيئًا بإيماء، فله أن يكملها نازلًا بركوع وسجود.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: هذه الرواية على أصل محمد لا تستقيم؛ لأن تحريمة الصلاة وقعت للإيماء فلا يصح إكمالها بركوع وسجود على أصله؛ لأنه بناء القوي على الضعيف، وهو لا يرى ذلك؛ لأن مذهبه فيمن افتتح الصلاة قاعدًا لمرض بركوع وسجود، ثم برأ من مرضه، فقام فأتمها قائمًا، فإنه لا يجوز؛ لأنه بناء القوي على الضعيف فهذه الرواية تخالف مذهبه، فلا يدرى من أين وقع هذا؟ والله أعلم.
وإذا افتتح التطوع على الأرض، فأتمها راكبًا لم تجزئه ولو افتتحها راكبًا ثم نزل، فأتمها أجزأته لوجهين:
أحدهما: وهو أن النزول عمل يسير والركوب عمل كثير؛ لأنه يحتاج فيه إلى استعمال اليدين عادة وفي النزول لا يحتاج إلى ذلك ولكن يجعل إليته من جانب، وينزل من غير أن يحتاج إلى معالجة اليدين.
والثاني: وهو أنه افتتح الصلاة على الأرض، فلو أتمها راكبًا كان دون ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بركوع وسجود والإيماء دون ذلك، والراكب إذا نزل يؤديها أتم ما شرع فيها؛ لأنه شرع فيها بالإيماء، ويؤديها بركوع وسجود.
وعن زفر رحمه الله: أنه يبني فيهما جميعًا؛ لأنه لما جاز الافتتاح على الدابة بالإيماء مع القدرة على النزول، فالإتمام أولى، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يستقبل فيهما، أما إذا كان نازلًا، فركب لما ذكرنا، وأما إذا كان راكبًا فنزل؛ لأنه بناء القوى على الضعيف، وذلك لا يجوز كالمريض الذي يصلي بالإيماء ثم يقدر على الركوع والسجود في خلال الصلاة، فإنه لا يبني، وإنه لا يبني، لما قلنا.
والفرق بينهما على ظاهر الرواية: أن في المريض ليس له أن يفتتح الصلاة بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود، فكذلك إذا قدر على ذلك في خلال الصلاة لا يبني أما هاهنا له أن يفتتح الصلاة بالإيماء على الدابة مع القدرة على الركوع، والسجود فكذلك قدرته على الركوع والسجود بالنزول تمنعه من البناء.
وكذلك إن (نذر) على أن يصلي ركعتين فصلاهما راكبًا من غير عذر لم يجزئه؛ لأن القدرة لم تنصرف إلى أتم الوجوه وأكملها، ألا ترى أن من نذر أن يصلي ركعتين، فصلاهما عند طلوع الشمس أو عند غروبها، أو عند زوالها لا يجوز، والمعنى ما ذكرنا كذلك هاهنا.
والدليل عليه: أنه إذا نذر أن يعتق رقبة، فأعتق رقبة أعجمي، فإنه لا يجوز؛ لأنه بالنذر التزم الصلاة مطلقًا، والمطلق ينصرف إلى الكامل، فإن صلاهما على الدابة بعذر جاز؛ لأن المكتوبة تؤدى على الدابة بعذر فالمنذورة أولى والله أعلم.
رجلان في محمل واحد، فاقتدى أحدهما بالآخر في التطوع أجزأهما وهذا لا يشكل إذا كان في شق واحد، لأنه ليس بينهما حائل، فأما إذا كانا في شقين، اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: إن كان أحد الشقين مربوطًا بالآخر يجزئه؛ لأنه إذا كان مربوطًا بالآخر صار بحكم الاتصال كشق واحد أو كسفينتين ربطت أحدهما بالأخرى، فاقتدى أحدهما بصاحبه، فهذا يجوز الاقتداء بالإجماع كذا هنا، وإن لم تكن مربوطًا بالآخر لا يصح اقتداؤهما؛ لأن بينهما دابة تسير، فكان بين الإمام والمقتدي طريق، وإنه مانع جواز الاقتداء، وقال بعضهم: يجزئه كيف ما كان إذا كان على دابة واحدة، كما لو كانا على الأرض وإلى هذا أشار محمد رحمة الله في (الكتاب).
فإنه جمع في (الكتاب): بين مسألتين مسألة المحمل ومسألة الدابتين وجوز في المحمل، ولم يجوز في الدابتين بعلة الطريق وفرق بينهما واسم المحمل يقع على الشقين، وعلى شق واحد فلو كان المراد في المحمل الشق الواحد لما احتاج إلى الفرق، ولأنهما إذا كانا في محمل واحد ليس بين الإمام والمقتدي ما يمنع صحة الاقتداء.
قال في (الكتاب): وأكره أن يأتم إذا كان عن يسار الإمام اعتبارًا بما لو كان على الأرض، ولو كان كل واحد منهما على دابة لم تجز صلاة المؤتم؛ لأن بين الدابتين طريق والطريق العظيم بين الإمام والمقتدي يمنع صحة الاقتداء.
وعن محمد رحمه الله قال: أستحسن أن يجوز اقتداؤهم بالإمام إذا كانت دوابهم على القرب من دابة الإمام على وجه لا تكون الفرجة بينه والقوم إلا بقدر العرف، قياسًا على الصلاة على الأرض، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله قول محمد رحمه الله: كانا في محمل واحد يقع على الشقين جميعًا، وإنما جاز هذا لأن الرباط جمعهما فكأنهما شق واحد والرباط، كالجسر على النهر ثم الجسر يضم أحد شقي النهر بالآخر في حكم الاقتداء، فرباط المحمل أولى.
وإذا صلى على دابة في المحمل، والدابة واقفة وهو يقدر على النزول، لا يجوز له أن يصلي على الدابة إلا إذا كان المحمل على عيدان على الأرض ولو صلى على عجلة إن كان طرف العجلة على الدابة، وهي تسير أو لا تسير فهو صلاة على الدابة فيجوز في حالة العذر، ولا يجوز في غير حالة العذر وإن لم يكن طرف العجلة على الدابة جاز، وهو بمنزلة الصلاة على السرير.
وفي القدوري: لو صلى على بعير لا يسير لا يجوز، ولو صلى على عجلة لا تسير يجوز من غير فصل والله تعالى أعلم.

.الفصل الرابع والعشرون في الصلاة في السفينة:

قال محمد رحمه الله: وإذا استطاع الرجل الخروج من السفينة للصلاة، فأحب له أن يخرج ويصلي على الأرض، وإن صلى فيها جاز، أما الجواز: فلحديث ابن سيرين رضي الله عنه قال: صلينا مع أنس بن ملك رضي الله عنه في السفينة قعودًا، ولو شئنا لخرجنا إلى الجمد.
وقال مجاهد: صلينا مع جنادة بن أبي أمية قعودًا، ولو شئنا لقمنا، هكذا روى الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي، وعن مولى عبد الله بن أبي... أنه قال: صحبت أناسًا في السفينة من أصحاب رسول الله عليه السلام، منهم أبو الدرداء أو أبو سعيد الخدري وجابر، وأبو هريرة رضي الله عنهم فحضرت الصلاة، فتقدم إمامهم فصلوا فيها، ولو شئنا لخرجنا إلى الجمد، ولأن السفينة في معنى الأرض؛ لأنه يباح الجلوس عليها للقراءة كما على الأرض فكانت السفينة كالسرير.
ولو صلى على السرير تجوز صلاته، فكذلك ها هنا؛ ولأن الماء في معنى الأرض على معنى أنه يباح الجلوس عليه. للقراءة أي تمكن من الجلوس عليه.
ألا ترى لو انجمد الماء يمكن من الجلوس يجلس عليه للقراءة، فكانت السفينة كالأرض فتجوز فيها الصلاة، بخلاف ما لو صلى على العجلة، فإنه لا يجوز؛ لأن؟... ما على الدابة، فكأنه يصلي على ظهر الدابة، فلا يجوز؛ لأنها ليست في معنى الأرض، فإنه لا يباح الجلوس على ظهر الدابة للقراءة، على ما قال عليه السلام: «لا تتخذوا دوابكم كراسي» وإنما يباح الانتقال.
وأما المستحب أن يخرج ويصلي على الأرض لأن الصلاة على الأرض أكمل والصلاة في السفينة أنقص؛ لأن الغالب من حال راكب السفينة دوران الرأس واسوداد العين متى صلى قائمًا يحتاج إلى القعود، وله بد من ذلك.
فإن صلى فيها قاعدًا وهو يقدر على القيام والخروج أجزأه عند أبي حنيفة رحمه الله استحسانًا، لكن الأفضل أن يقوم أو يخرج، وعندهما لا يجزئه قياسًا.
وأجمعوا أن السفينة إذا كانت مربوطة بالشط أنه لا يجوز فيها الصلاة قاعدًا، وأجمعوا أنه إذا كان بحيث لو قام يدور رأسه تجوز الصلاة فيها قاعدًا.
وجه القياس: وهو أن السفينة كالبيت في حق راكب السفينة بدليل أنه يلزمه استقبال القبلة، ولا تجوز صلاة التطوع فيها بالإيماء مع القدرة على الركوع والسجود كما في البيت؛ وهذا لأن سقوط القيام في المكتوبة للعجز والمشقة وهو قد زال لقدرته على القيام أو الخروج.
وجه الاستحسان: وهو أن الغالب من حال راكب السفينة دوران الرأس إذا قام والحكم يبنى على العام، والغالب دون الشاذ النادر.
ألا ترى أن نوم المضطجع جعل حدثًا بناءً على الغالب من حاله أنه يخرج منه شيء لزوال الإمساك، وسكوت البكر جعل رضًا، لأجل الحياء بناءً على الغالب من حال البكر.
وكذلك المترفه في السفر له أن يفطر كصاحب المشقة؛ لأن مبنى أحوالهم على المشقة والشدة، والترفه في السفر نادر، فلم يعتبر ذلك النادر في حق الترخيص بالإفطار، فهذا مثله.
ثم لم يفصل في (الكتاب) على قول أبي حنيفة رحمه الله بين أن تكون السفينة جارية أو ساكنة ماسكة، منهم من قال على قول أبي حنيفة رحمه الله إنما يصلي قاعدًا إذا كانت جارية؛ لأن الغالب دوران الرأس واسوداد العين إذا قام، فأما إذا كانت السفينة ساكنة ماسكة لم تجز الصلاة فيها قاعدًا.
قال الشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بجواهر زاده رحمه الله: وقد ذكر الحسن بن زياد في كتابه بإسناده عن سويد بن غفلة، قال: سألت أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما عن الصلاة في السفينة، فقالا: إذا كانت جارية يصلي قاعدًا وإذا كانت ساكنة يصلي قائمًا؛ لأنه يقدر على القيام في هذه الحالة، ولا يجوز للمسافر أن يصلي فيها بالإيماء سواء كانت الصلاة مكتوبة أو نافلة؛ لأنه يمكنه أن يسجد فيها، فلا يعذر في تركه، والإيماء إنما شُرع عند العجز وهذا قادر، فلا يجوز له الإيماء.
فرق بين هذا وبين الدابة والفرق وهو: أن الأثر في بالإيماء، ورد في حق راكب الدابة بخلاف القياس وما ورد في حق راكب السفينة على أصل القياس؛ ولأن راكب الدابة ليس له موضع قرار على الأرض وراكب السفينة له موضع قرار، فالسفينة كالبيت على ما ذكرنا.
ألا ترى أنه لا يجري بها، بل هي تجري به، قال الله تعالى: {وَهِىَ تَجْرِى بِهِمْ في مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ في مَعْزِلٍ يبُنَىَّ ارْكَبَ مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَفِرِينَ} [هود: 42] وراكب الدابة يجري بها حتى يملك إيقافها متى شاء، ولهذا جوزنا الصلاة على الدابة حيث كان وجهه.
والذي يوضح الفرق ويؤكده، فصل المخيرة، فإنها إن كانت راكبة الدابة تستوي الدابة وساقتها بطل خيارها، وإن كانت راكبة السفينة ففرق السفينة بها لم يبطل خيارها، وهكذا الجواب في جميع ما يتوقف بالمجلس، وينبغي للمصلي فيها أن يتوجه القبلة كيف ما دارت السفينة سواء كان عند افتتاح الصلاة أو في خلال الصلاة لأنه التوجه إليها فرض عند القدرة وهذا قادر فيتوجه لقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَآء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 144] بخلاف راكب الدابة؛ لأنه عاجز عن استقبال القبلة؛ لأنه لو استقبلها حيث ما سارت له الدابة انقطع سير الدابة وفات مقصود راكبها، وفي ذلك حرج عليه، فجعل معذورًا في ترك الاستقبال إليها حتى أن راكب الدابة إن كان يسير نحو القبلة، فانحرفت عن القبلة لم تجز صلاته، كذا ذكر شمس الأئمة فلا يصير مقيمًا بنية الإقامة فيها؛ لأن السفينة ليست بموضع قرار، ولا حتى بيت إقامة ولكنه يعد للانتقال والبحر موضع المخاوف قال النبي عليه السلام: «من ركب البحر إذا ارتج أو قال: ألتج أي موج يراوده فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله»، فلا يكون هذا أقل حالًا من الذي ينوي الإقامة في المفازة وهناك لا يصير مقيمًا فها هنا أولى، وكذلك صاحب السفينة، والملاح لا يصير مقيمًا لأن محلته للإقامة لا تختلف بين المالك والملاح وغير ذلك.
قال شمس الأئمة والحاكم رحمهما الله في (شرحه): وهذه المسألة شهدت لأبي حنيفة رحمه الله: فيمن ترك القيام في السفينة وصلى قاعدًا تجوز صلاته، فيقول: كما لم يصر صاحب السفينة والملاح مقيمًا فيها وإن أمكنه المقام فيها، فكذلك تجوز صلاة القاعد فيها وإن أمكنه القيام.
قال: إلا أن تكون السفينة تقرب من بلده أو قريبة، وأن تكون قريبة على الحد فحينئذٍ يكون مقيمًا بإقامته الأصلية، فلا يجزئ أن يأتم رجل من أصل سفينة بإمام في سفينة أخرى لأن بينهما نهرًا تجري فيه السفن، ولا خلاف بين أصحابنا أنه إذا كان بين الإمام والقوم نهر تجري فيه السفن لا يصح الاقتداء، إنما الاختلاف في نهر يمكن المشي في بطنه.
فعلى قول أبي يوسف رحمه الله: يمنع صحة الاقتداء، وعلى قول محمد رحمه الله: لا يمنع صحة الاقتداء، فإن كانت السفينتان مقرونتان، فحينئذٍ يصح الاقتداء؛ لأنه ليس بينهما ما يمنع صحة الاقتداء، فكأنهما في سفينة واحدة؛ لأن في السفينتين المقرونتين في معنى ألواح سفينة واحدة، بخلاف ما إذا كانا على دابتين وإحدى الدابتين مربوطة بالأخرى حيث لا يصح الاقتداء؛ لأنهما لا يصيران كشيء واحد؛ لأن بينها طريق يمنع صحة الاقتداء، ألا ترى أنه لا يمكن تركيب إحدى الدابتين بالأخرى، ويمكن تركيب إحدى السفينتين بالأخرى بالخشب.
وكذلك من اقتدى على الحد بإمام في السفينة أو على العكس، فإنه ينظر إن كان بينهم طريق أو طائفة من النهر لم يجز الاقتداء، وإن كان على العكس يجوز الاقتداء لأن النهر والطريق مانع صحة الاقتداء.
هنا مسألة تركها صاحب (الكتاب): وهو ما إذا وقف على الأطلال يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه إلا أن يكون أمام الإمام؛ لأن السفينة كالبيت واقتداء الواقف على السطح لمن هو في البيت صحيح، إذا لم يكن أمام الإمام فكذلك ها هنا.
ومن خاف فوت شيء من ماله وبيعه قطع صلاته، وهذا نحوه وإن كان قائمًا على الحد يصلي فانقلبت السفينة حتى خاف عليهما الغرق.
ورأى سارقًا يسرق شيئًا من متاعه أو كان نازلًا عن دابته فانقلبت الدابة فخاف عليها الضياع، أو كان راعي غنم فخاف على غنمه من السبع فإن في هذه المواضع كلها له أن يقطع الصلاة، ويسد السفينة ويتبع السارق والدابة والسبع لأن حرمة المال كحرمة النفس، قال النبي عليه السلام: «قاتل دون مالك حتى تقتل أو تقتل، فتكون من شهداء الآخرة» وفي رواية «من شهداء الجنة» وكذلك إذا خاف على نفسه من سبع أو عدو.
وكذلك إذ رأى أعمى في حرف بئر فخاف أن يقع في البئر، فيقطع الصلاة بطريق الأولى؛ لأن حرمة النفس فوق حرمة المال، فلما جاز القطع لأجل المال، فلأجل النفس أولى، ولأن الله تعالى نهانا عن إلقاء النفس في التهلكة وإضاعة المال.
فلو قلنا: فإنه يمضي على صلاته يؤدي إلى إهلاك النفس وإضاعة المال من غير خلف، ولو قلنا بأنه يقطع الصلاة يمكنه قضاء الصلاة ووصل إلى ماله، فالقطع أولى، فإن لم يقطع صلاته، وفعل ذلك الفعل تفسد صلاته إن احتاج إلى عمل كثير، فأما إذا لم يحتج إلى عمل كثير يبني على صلاته، لما روينا من حديث أبي برزة رضي الله عنه أنه كان يصلي في بعض المغازي، فانسل قياد الفرس من يده، فمشى أمامه حتى أخذ قياد فرسه ثم رجع ناكصًا على عقبيه وأتم صلاته وتأويل هذا أنه لم يحتج إلى معالجة ومشي كثير، ثم لم يفصل في (الكتاب) بين المال القليل أو الكثير.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني والسرخسي رحمه الله: وأكثر مشايخنا رحمهم الله قدروا ذلك بالدرهم، فصاعدًا، وقالوا: ما دون الدرهم حقير فلا يقطع الصلاة لأجله، قال الحسن رحمه الله: لعن الله الدانق ومن دنق الدانق، ولأن اسم المال لا يقع على الدانق بدليل أنه إذا حلف، وقال بالله مالي مال وله دون الدرهم لا يحنث في يمينه فكذلك لا يقطع الصلاة لأجله.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: هذا قول حسن لو لا ما ذكر في كتاب الحوالة والكفالة أن للطالب أن يحبس غريمه بالدانق فما فوقه، فلما جاز حبس مسلم بالدانق، فلأن يجوز قطع صلاة يمكنه قضاءها بالدوانق أولى.
قال الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: هذا إذا كان المال مال غيره فأما إذا كان المال ماله فإنه لا يقطع الصلاة ولا فصل في ظاهر الرواية، وهو الصحيح لما بينا والله تعالى أعلم بالصواب.

.الفصل الخامس والعشرون في صلاة الجمعة:

هذا الفصل مشتمل على أنواع:

.الأول في تبيين فرضية الجمعة، وفي بيان أصل الفرض يوم الجمعة:

فنقول: صلاة الجمعة فريضة بالكتاب والسنّة، وإجماع الأمة، ونوع من المعنى.
أما الكتاب قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] والمراد من الذكر المذكور في الآية هو الخطبة بإجماع أهل التفسير؛ لأنه ليس بعد الأذان ذكر الله تعالى إلا الخطبة، فالاستدلال بالآية من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر للوجوب، وإذا وجب السعي إلى الخطبة التي هي شرط جواز الصلاة، فإن أصل الصلاة أوجب.
والثاني: أن الله تعالى أمر بترك البيع المباح بعد النداء وتحريم المباح لا يكون إلا لأمر واجب.
وأما السنّة حديث جابر رضي الله عنه قال خطبنا رسول الله عليه السلام يوم الجمعة فقال في خطبته: «أيها الناس توبوا إلى ربكم قبل أن تموتوا وبادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا» إلى أن قال: «واعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في شهري هذا في مقامي هذا فريضة واجبة في حياتي وبعد مماتي إلى يوم القيامة فمن تركها عن غير عذر تهاونًا واستخفافًا وله إمام جائر أو عادل ألا فلا بارك الله له ألا فلا جمع الله شمله ألا فلا صلاة له ألا فلا زكاة له ألا فلا صوم له ألا فلا حج له إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه»، وروي عن النبي عليه السلام أيضًا أنه قال: «من ترك الجمعة من غير عذر ثلاثًا، فهو منافق» وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من ترك أربع جمع متواليات من غير عذر، فقد نبذ الإسلام وراء ظهره».
وأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على فرضية الجمعة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى يومنا هذا.
وأما المعنى فلأنا أمرنا بترك الظهر لإقامة الجمعة، والظهر فريضة ولا يجوز ترك الفرض إلا لفرضٍ هو آكد وأولى منه، فدل وجوب ترك الظهر لإقامة الجمعة على أن الجمعة أوجب وأقوى وآكد من الظهر في الفرضية، هذا بيان فرضيتها.
وأما بيان أصل الفرض في هذا الوقت، فقد اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: أصل الفرض الظهر إلا أنه إذا أدى الجمعة يسقط الظهر عنه، وقال بعضهم: أصل الفرض الجمعة، وقال بعضهم: الفرض أحدهما إلا أن الجمعة أفرضهما، وقال بعضهم: على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: أصل الفرض في هذا الوقت هو الظهر، وقد أمر بإسقاطه بالجمعة.
وقال محمد رحمه الله: الفرض هو الجمعة وله أن يسقط الجمعة بأداء الظهر، ولمحمد رحمه الله في (النوادر) قول آخر: أن الفرض أحدهما ويتعين بفعل آخر، وقال زفر رحمه الله: الفرض هو الجمعة على اليقين، الظهر بدل عنه إذا فاتت.
وإنما قال أبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد رحمهم الله: إن أصل الفرض الظهر؛ لأن أصل الفرض في حق كل أحد ما يتمكن من أدائه بنفسه، وهو إنما يتمكن من أداء الظهر بنفسه، إما ما يتمكن بأداء الجمعة، ولأنا لو جعلنا أصل الفرض الجمعة كان الظهر خلفًا عن الجمعة عند فواتها، وأربع ركعات لا تكون خلفًا عن ركعتين، ولأن الظهر كان مشروعًا في هذا الوقت قبل شروع الجمعة، لو انتسخ شرعيته إنما تنسخ معوضًا بشرعية الجمعة، وليس من ضرورة شرع الجمعة انتساخ الظهر إذا وجمع الشرع بينهما كان مستقيمًا، والدليل عليه أنه شرع في حق العبد والمريض والمسافر، حتى لو أدوا الجمعة جاز وبقي الظهر مشروعًا في حقهم، حتى لو صلى الظهر يجوز، فلو كان بينهما منافاة ما اجتمعا.
وثمرة الاختلاف مع زفر تظهر في فصلين:
أحدهما: أنه إذا صلى الظهر قبل أداء الناس الجمعة في منزله لم يعتد به في قول زفر؛ لأن الفرض هو الجمعة والظهر بدل عنها، ولا صحة للبدل مع القدرة على اتحاد الأصل، وعندهما لما كانت فرضية الظهر باقية مشروعة وقع موقعه.
الفصل الثاني: أن المعذور من المريض والمسافر والعبد إذا أدى الظهر في منزله ثم سعى إلى الجمعة انتقض الظهر:
وقال زفر: لا ينتقض؛ لأن فرضية الجمعة لم تظهر في حقه، فوقع الظهر موقع الفرض فسقط الفرض، فلا ينتقض بعد ذلك.
ولنا: أن فرضية الظهر لم تنسخ في حق المعذور، وغير المعذور أمر بإسقاط الفرض بأداء الجمعة، فإذا سعى إلى الجمعة صار ممتثلًا للأمر، فاستدعى انتقاض الظهر فإذا عرفنا هذا في غير المعذور.
نقول: إنما فارق المعذور غير المعذور في حق الترخيص على معنى أنه رخص له لذلك يترك الظهر بأداء الجمعة، فإذا لم يترخص صار هو وغير المعذور سواء، فيستدعي انتقاض الظهر في حقه كما لو حضر قبل أداء الظهر، وأدى الجمعة صار تاركًا للظهر بأداء الجمعة كغير المعذور.
وثمرة الاختلاف الذي ذكرنا مع محمد رحمه الله تظهر في مسألة أخرى، وهي أنه إذا تذكر الفجر في خلال الجمعة وهو يخاف إن اشتغل بأدائها أن تفوته الجمعة ولا تفوته الظهر، قال محمد رحمه الله: يتم الجمعة؛ لأن فرض الوقت هو الجمعة، فإذا خاف فوت فرض الوقت اشتغل به وعندهما فرضية الظهر فيه وأمر بإسقاطه بأداء الجمعة، فإذا لم يخف فوت فرض الوقت تعين مراعاة الترتيب فرضًا عليه.
وهذه المسألة في الحاصل على ثلاثة أوجه: إن كان الوقت بحال لو اشتغل بالفائتة يخرج الوقت مضى في الجمعة عند الكل؛ لأن الترتيب سقط عند ضيق الوقت وإن كان في الوقت سعة، بحيث يعلم أنه لو اشتغل بالفائتة لا تفوته الجمعة بقطع الجمعة في قولهم ويقضي الفائتة.
وإن علم أنه لو اشتغل بالفائتة تفوته لكن يمكنه أداء الظهر، فالمسألة على الخلاف على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله يقطع الجمعة، ويصلي الفائتة ثم يصلي الظهر في آخر الوقت، وقال محمد: يمضي ويصلي في الجمعة والله أعلم.

.النوع الثاني في بيان شرائط الجمعة وما يتصل من المسائل بها:

فنقول: للجمعة شرائط بعضها في نفس المصلي، وبعضها في غيره، أما الشرائط التي في غير المصلي فستة:
أحدها: المصر وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: المصر ليس بشرط وكل قرية سكنها أربعون من الأحرار البالغين لا يظعنون عنها شتاءً ولا صيفًا تقام لها الجمعة.
حجته في ذلك: قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] من غير فصل وقوله عليه السلام: «الجمعة على من سمع النداء» من غير فصل، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة جمعة جمعت بجواثا» وجواثا قرية من قرى عامر بن القيس بالجرين.
ولنا: حديث علي رضي الله عنه موقوفًا عليه، ومرفوعًا إلى رسول الله عليه السلام «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع»، وروى سراقة بن مالك عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «لا جمعة ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع»، ولأن إقامة الجمعة، وهي ركعتان مقام الظهر وهي أربع ركعات أمر عرف شرعًا بخلاف القياس فيراعى فيه جميع الشرائط التي اعتبرها الشرع، والشرع اعتبر المصر، فإن النبي عليه السلام أقامها بمدينة، ولم ينقل أنه أقامها في حوالي مدينة، وفي تسميتها جمعة دليل على أن المصر شرط فإنما تسمى جمعة؛ لأنها جامعة للجماعات حتى وجب بنداء الجماعات يوم الجمعة.
وفي قرية يسكنها أربعون رجلًا لا يتصور جمع الجماعات، فإن جماعتهم واحدة، والآية لا حجة له فيها؛ لأن المكان مضمر فيه بالإجماع حتى لا يجوز إقامة الجمعة في البوادي بالإجماع، فنحن نضمر المصر وهو يضمر القرية، وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قلنا: جواثي بلدة كبيرة وتسميتها قرية لا ينافي كونها بلدة؛ لأن اسم القرية ينطلق على البلدة قال الله تعالى: {وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ هي أَشَدُّ قُوَّةً مّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَهُمْ فَلاَ نَصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] والمراد مكة وهي بلدة.
وإذا ثبت أن المصر شرط لإقامة الجمعة نحتاج إلى بيان حد المصر الذي تقام فيه الجمعة، وقد تكلموا فيه على أقوال: روي عن أبي حنيفة رحمه الله: أن المصر الجامع ما يجتمع فيه مرافق أهلها دينًا ودنيًا، وعن أبي يوسف رحمه الله ثلاث روايات، في رواية قال: كل موضع فيه منبر وقاضي ينفذ الأحكام ويقيم الحدود فهو مصر جامع، وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية أخرى عنه كل موضع أهلها بحيث لو اجتمعوا في أكبر مساجدهم لم يسعهم ذلك فهو مصر جامع، وفي رواية أخرى قال: كل موضع يسكن فيه عشرة آلاف نفر، فهو مصر جامع.
ومن العلماء من قال: المصر الجامع ما يعيش فيه كل صانع لصنعته، ولا يحتاج إلى العود من صنعة إلى صنعة، وعن محمد رحمه الله أنه قال: كل موضع مصر للإمام فهو مصر حتى أن الإمام إذا بعث إلى قرية نائبًا لإقامة الحدود فيهم وقاضيًا يقضي بينهم صار ذلك الموضع مصرًا، وإذا عزله ودعاه إلى نفسه عادت قرية كما كانت، وقال بعض العلماء: كل مصر بلغت مساحته مصرًا جمع فيه رسول الله عليه السلام، فهو مصر جامع.
ومن العلماء من قال: كل موضع كان لأهله من القوة والشوكة، ما لو توجه إليهم عدو دفعوه عن نفسهم، فهو مصر جامع.
وقال سفيان الثوري رحمه الله: المصر الجامع ما يعده الناس مصرًا عند ذكر الأمصار المطلقة كبخارى أو سمرقند، فعلى هذا القول لا يجوز إقامة الجمعة بكرمينة وكثانية.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وظاهر المذهب أن المصر الجامع أن يكون فيه جماعات الناس، وجامع وأسواق للتجارات وسلطان أو قاضي يقيم الحدود، وينفذ الأحكام، ويكون فيه مفتي إذا لم يكن الوالي أو السلطان مفتيًا، ثم في كل موضع وقع الشك في كونه مصر أو أقام أهل ذلك الموضع الجمعة بشرائطها، فينبغي لأهل ذلك الموضع أن يصلوا بعد الجمعة أربع ركعات وينوون بها الظهر احتياطًا، حتى أنه لو لم تقع الجمعة موقعها يخرجون عن عهدة فرض الوقت بأداء الظهر بيقين.
ولا بأس بالجمعة في موضعين أو ثلاثة من مصر واحد عند محمد، وأجاز أبو يوسف في موضعين دون الثلاث، وفي رواية (الأمالي): أجاز في موضعين إذا كان مصرًا له جانبان بينهما نهر عظيم حتى يصير في حكم مصرين كبغداد، فإن لم يكن المصر بهذه الصفة فالجمعة لمن سبق منهم بأدائها فإن فعلوا معًا، فسدت صلاتهم جميعًا وكما يجوز إقامة الجمعة في المصر يجوز إقامتها خارج المصر قريبًا منه نحو مصلى العيد؛ لأن مصلى العيد أبدًا يكون في فناء المصر، وفناء المصر ألحق بالمصر فيما كان من حوائج أهل المصر وأداء الجمعة من حوائج أهل المصر، فيلحق بالمصر في أداء الجمعة، هكذا ذكر المسألة في (شرح القدوري).
وفي (فتاوى أبي الليث رحمه الله): شرط الفناء نصًا، فقال: ويجوز إقامة الجمعة خارج المصر إذا كان في فناء المصر، وفي (نوادر الصلاة) لو أن الأمير خرج للاستسقاء يدعو، وخرح معه ناس كثير فحضرت الجمعة فصلى بهم الجمعة في الجبانة على قدر غلوة من المصر أجزأهم، لأنه فناء المصر ولفناء المصر حكم المصر.
قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: اختلف الناس في تقدير فناء المصر فقدرة محمد في (النوادر) بالغلوة وفارسيته (يك تيربرتاو)، وقدره بعض المشايخ بفرسخين، وبعضهم بثلاثة أميال كل ميل ثلث فرسخ.
وبعضهم بمنتهى حد الصوت، إذا صاح في المصر إنسان أو أذن مؤذنهم لمنتهى صوته فناء المصر، فيجوز أداء الجمعة فيه، وما وراءه ليس فناء المصر، فلا يجوز أداء الجمعة فيه، والشيخ الإمام شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: قدر الفناء بالغلوة اتباعًا لما ذكره محمد في (النوادر)، وقدر أبو يوسف رحمه الله الفناء بميل أو ميلين، فإنه روي عنه: لو أن إمامًا خرج من المصر مع أهل المصر لحاجة له قدر ميل أو ميلين، فحضرته الجمعة فصلى بهم الجمعة أجزأه، وهذا بخلاف ما لو خرج المسافر عن عمران المصر حيث يقصر الصلاة؛ لأن فناء المصر إنما يلحق بالمصر فيما كان من حوائج أهل المصر، وقصر الصلاة ليس من حوائج أهل المصر، فلا يلحق الفناء بالمصر في حق هذا الحكم.
وذكر في (فتاوى أبي الليث): أن على قول أبي بكر لا تجوز الجمعة خارج المصر إذا كان ذلك الموضع منقطعًا عن العمران، وكان الفقيه أبو الليث يقول: بالجواز في فناء المصر، قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: وقد قال بعضهم: يجب أن يكون على الاختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف: يجوز إقامة الجمعة في فناء المصر وعلى قول محمد: لا يجوز بناءً على اختلافهم في الجمعة بمنى ويجوز أن يكون هذا بلا خلاف بينهم من قبل أن محمدًا إنما لم يجوز الجمعة بمنى؛ لأنه قرية ليس له حكم المصر فأما لفناء المصر حكم المصر.
وقيل: إنما يجوز إقامة الجمعة في فناء المصر إذا لم يكن بينه مزارع، فعلى قول هذا القائل لا يجوز إقامة الجمعة ببخارى في مصلى العيد، وقد وقعت هذه المسألة مرة وأفتى بعض المفتين بعدم الجواز، ولكن هذا ليس بصواب فإن أحدًا من الأئمة لم يقل بعدم جواز صلاة العيد في مصلى العيد ببخارى لا من المتقدمين، ولا من المتأخرين وكما أن المصر أو فنائه شرط جواز الجمعة، فهو شرط جواز صلاة العيد ويجوز إقامة الجمعة بمنى في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد رحمه الله: لا جمعة بمنى أجمع العلماء على أنه لا جمعة بعرفات لأنه مفازة وليست بمصر، وليست من أفنية المصر؛ لأن بينها وبين مكة أربع فراسخ، وإنما تقام الجمعة إما في المصر أو في فناء المصر، وأما بمنى محمد رحمه الله يقول: فإنه ليس بمصر والمصر شرط، وهما يقولان: إن منى مصر في أيام الموسم، فإن لها أبنية.
قيل: إنه ثلاث سكك وتنقل إليها الأسواق في أيام الموسم، فيصير مصرًا، أكثر ما في الباب أنه لا يبقى مصرًا بعد ذلك لكن بناؤه مصرًا ليس بشرط بخلاف عرفات، فإنه ليس بمصر فإنه لا أبنية له، ومن المشايخ من قال: إن عندهما إنما يجوز أداء الجمعة بمنى؛ لأنها من أفنية مكة وهذا فاسد، إلا على قول من يقدر فناء المصر بفرسخين؛ لأن بينهما فرسخان.
وقال محمد رحمه الله في (الأصل): إذا نوى الإقامة بمكة وبمنى خمسة عشر يومًا لا يصير مقيمًا، فعلم أنهما موضعان إنما الصحيح ما قلنا: لا يصلي بمنى صلاة العيد بالاتفاق، لا لعدم المصرية بل لاشتغال الحاج بأعمال المناسك في ذلك اليوم، فوضع عنهم صلاة العيد بخلاف الجمعة؛ لأنه لا يتفق كل سنة في يوم الجمعة في إقامة الرمي بمنى بخلاف صلاة العيد؛ لأنها لو شرعت كانت في كل سنة، وإنما تجوز الجمعة بمنى عندهما إذا كان فيها أمير مكة أو أمير الحجاز أو الخليفة، أو أمير الموسم فإن استعمل على مكة يقيم الجمعة بمنى عندهما أيضًا، وإن لم يستعمل على مكة إنما استعمل على الموسم لا غير، فإن كان من أهل مكة يقيم الجمعة بمنى عندهما أيضًا، وإن لم يكن من أهل مكة لا يقيم الجمعة عندهما أيضًا.
وفي (نوادر هشام): عن محمد رحمه الله قال على مذهب أبي حنيفة رحمه الله: إذا جمع أمير الموسم بهم وهو مسافر بمكة قال يجزئه، وإن صلى بهم بمنى لا يجزئه ليس له حق إقامة الجمعة، ثم في ظاهر رواية أصحابنا رحمهم الله لا يذهب شهود الجمعة، إلا على من يسكن المصر والأرباض المتصلة بالمصر حتى لا تجب على أهل السواد أن يشهدوا الجمعة سواء كان السواد قريبًا من المصر أو بعيدًا عنه.
وعن محمد رحمه الله: أنه إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال، فعليه الجمعة وإن كان أكثر من ذلك، فلا جمعة عليه وعنه في رواية نوادر أخرى أنه إذا كان بينه وبين أهل المصر أقل من فرسخين فعليه أن يشهد الجمعة، وإن كان أكثر من ذلك فلا، وعنه في رواية أخرى أن في كل موضع لو خرح الإمام إلى ذلك الموضع وأقام الجمعة فيه جاز جمعته، وعد مجمعًا في المصر فعلى أهل ذلك الموضع الرواح إلى الجمعة، وكل موضع لو خرج الإمام إليه وجمع فيه لم يعد مجمعًا في المصر، فلا جمعة عليه.
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه إذا كان بينه وبين المصر فرسخ أو فرسخان، فعليه أن يشهد الجمعة، وعنه أيضًا: أنه إذا كان بحيث لو غدا وشهد الجمعة أمكنه الرجوع إلى منزله قبل أن يؤتيه الليل، لزمه أن يشهد الجمعة، وكثير من المشايخ أخذوا بهذه الرواية.
وجه ما ذكر في هذه ظاهر الرواية أن النبي عليه السلام وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين كانوا لا يأمرون أهل السواد القريبة بالحضور إلى الجمعة؛ إذ لو أمروا لاشتهر واستفاض، والمعنى فيه أن المسافر الذي في المصر لا يجب عليه حضور الجمعة لاشتغاله بأمور السفر نفيًا للحرج، والحرج الذي يلحق القروي بدخول المصر أكبر من حرج المسافر فيسقط عن القروي بطريق الأولى.
وروى الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف: أن من كان مقيمًا في عمران المصر وأطرافه، وليس بين مكانه وبين المصر فرجة فعليه الجمعة، ولو كان بين ذلك الموضع وبين عمران المصر فرجة من المزارع والمراعي لا جمعة على أهل ذلك الموضع، وإن كان النداء يبلغهم، والغلوة والميل والأميال ليست بشيء. هذا جملة ما روى الفقيه أبو جعفر عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله، وبه كان يفتي شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، وكان يقول: لا جمعة على أهل القلع ببخارى.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن أبي يوسف: لو أن أهل مدينة حضرهم جند من أهل الشرك، فأحاطوا بالمدينة، فخرجوا إليهم من مدينتهم وعسكروا على ميلين أو ثلاثة لا يريدون سفرًا فعليهم الجمعة في عسكرهم، وكأنه أعط للمكان الذي نزلوا فيه وهو على قدر ميلين أو ثلاثة حكم المصر.
والشرط الثاني: السلطان، أو نائبه من الأمير أو القاضي، هذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: السلطان ليس بشرط، حجته في ذلك ما روي: أن عثمان رضي الله عنه حين كان محصورًا صلى علي رضي الله عنه الجمعة بالناس ولم يرو أنه صلى بأمر عثمان رضي الله عنه؛ ولأنها مكتوبة كسائر الصلوات، فلا يشترط لإقامتها السلطان كسائر الصلوت.
ولنا: قوله عليه السلام: «أربع إلى الولاة» وذكر من جملتها «الجمعة والعيدين»، وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: «من تركها استخفافًا بها والإمام عادل أو جائر» ألحق الوعيد الشديد بترك الجمعة بشرط أن يكون له إمام، والمراد به السلطان؛ لأنه وصفه بالعدل أو الجور، وذا إنما يتحقق من السلطان، ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرف شرعًا بخلاف القياس فيراعى جميع ما ورد به النص والنص ورد بإقامتها من السلطان؛ ولأن الناس يتركون الجماعة هذا اليوم لإقامة الجمعة.
فلو لم يشترط فيها السلطان أدى إلى الفتنة لأنه يسبق بعض الناس إلى الجامع، فيقيمونها لفرض لهم وتفوت على غيرهم وفيه من الفتنة ما لا يخفى، فيجعل مفوضًا إلى الإمام الذي فوض إليه أحوال الناس والعدل بينهم؛ لأنه أقرب إلى تسكين الفتنة والاحتجاج بحديث علي رضي الله عنه لا يصح لأنه يحتمل أنه فعل ذلك بإذن عثمان رضي الله عنه، فلا يصح الاحتجاج به مع الاحتمال أو إن فعل بغير إذنه وإنما يفعل أن الناس اجتمعوا عليه وعند ذلك يجوز لما نبين إن شاء الله تعالى.
وقوله: بأن هذه صلاة مكتوبة كسائر الصلوات، قلنا: نعم هذه مكتوبة إما ليست كسائر الصلوات فإنه يشترط لها من الشرائط ما لا يشترط كسائر الصلوات، بل هي صلاة عرف لها من النص فتعرف شرائطها من النص، لا في سائر المكتوبات.
وإذا ثبت أن السلطان شرط يتفرع على هذا مسائل:
أحدها: ما ذكر في (الأصل): أن رجلًا من عرض الناس لو صلى الجمعة بالناس بغير إذن الإمام أو خليفته أو صاحب شرطة أو القاضي لا يجزئهم لفوات شرطها فقد جمع في هذه المسألة بين الإمام وخليفته وصاحب شرطة والقاضي، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هذه المسألة بناءً على عرف زمانهم، فإن في زمنهم صاحب شرطة والقاضي كل واحد منهما كان موليًا أمر السياسة وإقامة الجمعة، أما في زماننا القاضي وصاحب الشرطة لا يوليان ذلك.
وفي (نوادر بشر) أبي يوسف رحمهما الله: أن لصاحب الشرطة أن يصلي الجمعة بالقوم وإن لم يخرج الأمير، ولا يصلي بهم القاضي إذا لم يخرج الأمير، وعن أبي يوسف أيضًا أنه قال: أما القوم، فالقاضي يصلي بهم الجمعة؛ لأن الخلفاء يأمرون القضاة أن يصلوا بالناس الجمعة.
قيل: أراد بهذا قاضي القضاة الذي يشهد له أنه قاضي الشرق والغرب كأبي يوسف في وقته، فأما في زماننا القاضي، وصاحب الشرطة لا يوليان ذلك.
والي مصر مات، ولم يبلغ موته الخليفة حتى مضت بهم جمع، فإن صلى بهم خليفة الميت أو صاحب الشرطة أو القاضي جاز؛ لأنه فوض إليهم أمر العامة، هكذا ذكر في (العيون)، وهذا الجواب في حق القاضي وصاحب الشرطة بناءً على عرف زمانهم على ما بينا.
ولو اجتمعت العامة على أن يقدموا رجلًا مع قيام واحد من هؤلاء الذين ذكرنا من غير أمرهم لم يجز؛ لأنه لم يفوض إليهم أمورهم إلا إذا لم يكن ثمة قاضي ولا خليفة الميت بأن كان الكل هو الميت حينئذٍ، جاز لضرورة.
ألا ترى أن عليًا رضي الله عنه صلى بالناس يوم الجمعة وعثمان رضي الله عنه محصور؛ لأن الناس اجتمعوا على علي رضي الله عنه، فقد جمع في هذه المسألة أيضًا بين القاضي وخليفة الميت، والجواب في حق القاضي بناءً على عرف زمانهم على ما ذكرنا.
إبراهيم عن محمد رحمهما الله، أنه إذا خطب الأمير ثم أحدث ولم يقدم أحدًا فتقدم عامل له لم يجز، ولا يجوز أن يقدم أحدًا إلا أحد هؤلاء الثلاثة صاحب الشرطة أو القاضي أو الذي ولاه القاضي.
والحاصل: أن حق التقدم في إقامة الجمعة حق الخليفة إلا أنه لا يقدر على إقامة هذا الحق بنفسه، في كل الأمصار، فيقيمها غيره بنيابته، والسابق في هذه النيابة في كل بلدة الأمير الذي ولي على تلك البلدة ثم الشرطي ثم القاضي ويريد به قاضي القضاة، ثم الذي ولاه قاضي القضاة، وتجوز صلاة الجمعة خلف المتغلب الذي لا عهد له أي لا منشور له من الخليفة إذا كانت سيرته في رعيته حسنه، لأمر الحكم فيما بين رعيته بحكم الولاية؛ لأن بهذه ثبتت السلطنة، فيتحقق الشرط.
الشرط الثالث: الوقت يعني به وقت الظهر، حتى لا يجوز تقديمها على الزوال ولا بعد خروج الوقت، والأصل فيه ما روي أن النبي عليه السلام لما بعث مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة قبل هجرته قال له: «إذا مالت الشمس، فصل بالناس الجمعة» وكتب إلى سعد بن زرارة «إذا زالت الشمس من اليوم الذي تتجهز فيه اليهود لسبتها، فازدلف إلى الله تعالى بركعتين»، ولأن الجمعة أقيمت مقام الظهر، فيشترط أداؤها في وقت الظهر، حتى لو خرج وقت الظهر في خلال الصلاة تفسد الجمعة، وإن خرج بعد ما قعد قدر التشهد، فكذا عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا تفسد ولو خرج بعد السلام لا تفسد بالإجماع، ثم إذا خرج وقت الظهر في خلال الصلاة حتى فسدت الجمعة يبقى أصل الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وعند محمد رحمه الله: تبطل التحريمة، ولا يبقى أصل الصلاة، وهذا بناءً على أصل معروف تقدم ذكره أن للصلاة جهتان عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله الفرضية وأصل الصلاة، فإذا بطلت صفة الفرضية يبقى أصل الصلاة، وعند محمد رحمه الله للصلاة جهة واحدة وهو الفرضية، فإذا بطلت الفرضية بطل أصل الصلاة.
وفي (فتاوى الفضلي): المقتدي إذا نام في صلاة الجمعة ولم ينتبه حتى خرج الوقت، فسدت صلاته؛ لأنه لو أتمها كان قضاء، وقضاء الجمعة لا يجوز، ولو انتبه بعد فراغ الإمام والوقت قائم أتمها جمعة؛ لأنه يصير مؤديًا الفرض في الوقت.
الشرط الرابع: الجماعة؛ لظاهر قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] فهذا خطاب للجماعة، ولأنها سميت جمعة وفي هذا الاسم ما يدل على اعتبار الجماعة فيها.
ثم إن العلماء رحمهم الله اختلفوا فيما بينهم في تقدير الجماعة، قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: يتم بثلاثة نفر سوى الإمام، وعن أبي يوسف رحمه الله: في غير رواية الأصول اثنان سوى الإمام، وقال الشافعي رحمه الله: لا تنعقد الجمعة إلا بأربعين رجلًا من الأحرار المقيمين سوى الإمام.
حجة الشافعي: ما روي أن أول جمعة أقيمت في الإسلام كانوا أربعين رجلًا، وكان رسول الله عليه السلام ينتظر اجتماع الأربعين فلو كانت تنعقد بدون الأربعين لكان لا ينتظر اجتماع الأربعين، ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر أمر عرف بخلاف القياس، فلا يقوم مقامها إلا بالشرائط التي ورد بها النص، ولم ينقل أن النبي عليه السلام أقام الجمعة بثلاثة نفر من الرجال وقد نقل أنه أقامها بأكثر من ثلاثة نفر فقدرنا الأكثر بأربعين بما روينا من الحديث.
وأبو يوسف رحمه الله يقول: للمثنى حكم الجماعة حقيقة وحكمًا، أما حقيقة، فلأن الجماعة مشتقة من الاجتماع وذلك يتحقق بالمثنى وأما حكمًا، فلأن الجماعة الإمام يتقدم عليهما، وذلك من أحكام الجماعة وربما كان يقول إذا كان سوى الإمام إثنان يكون مع الإمام ثلاثة، والثلاث جمع متفق عليه.
ولنا: قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] الآية، فالمنادي كأنه خارج عن خطاب الشرع كذلك الذاكر، وهو الإمام خارج عن خطاب السعي أيضًا، فيكون قوله: {فاسعوا} خطاب جمع الذين يسمعون النداء، فتناول هذا الخطاب كل جمع، وأقل الجمع المتفق عليه الثلاثة، فإذا أجاب المنادي ثلاثة من الناس وسعوا إلى الجمعة، وأقاموها جاز لظاهر الآية، وما قاله الشافعي: باطل لما روي أنه لما نفر الناس في اليوم الذي دخل فيه العير المدينة، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ} [الجمعة: 11]، بقي مع رسول الله عليه السلام إثني عشر رجلًا، فصلى بهم الجمعة وقد روى الزهري: أن النبي عليه السلام بعث مصعب بن عمير أميرًا إلى المدينة ثم كتب إليه أن أقم بهم الجمعة، فأقام بهم الجمعة وكانوا اثني عشر نفسًا ولا حجة له في الحديث الذي روي إذ فيه أنه أقام بأربعين وما دونه مسكوتٌ عنه على أنه روي أنهم كانوا أقل من أربعين.
وقول أبي يوسف رحمه الله: إن للمثنى حكم الجماعة فاسد؛ لأن ما دون الثلاث ليس بجمع مطلق بدليل أن أهل اللغة، فصلوا بين التثنية والجمع، والجمع والشرط هو الجماعة المطلقة، وقوله الثاني أنه إذا كان مع الإمام إثنان كان مع الإمام جماعة فاسد؛ لأن الإمام شرط للجواز سوى الجماعة، فإن كل واحد منهما شرط على حدة، ولا يعتبر الإمام مع القوم في الجماعة بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الإمام في سائر الصلوات ليس بشرط.
وكذلك الجماعة، فأمكننا أن نعد الإمام من القوم ثم يشترط في الثلاثة أن يكونوا بحيث يصلحون للإمامة في صلاة الجمعة، حتى أن نصاب الجمعة لا يتم بالنساء والصبيان، ويتم بالعبيد والمسافرين؛ لأنهم يصلحون للإمامة، ولا شك أن درجة الإمامة أعلى من درجة الاقتداء، فإذا لم يشترط الحرية والإقامة في الإمامة الذي هو أعلى، فلأن لا يشترط في الاقتداء الذي هو أدنى وفي كونه مؤتمًا كان ذلك أولى وأحرى وهذا مذهبنا.
وقال زفر رحمه الله: لا تجوز إمامة العبد والمسافر في صلاة الجمعة لأنه لا تفترض عليهما الجمعة وإنما تصح منهما الأداء بطريق التبعية، فلا يجوز أن يكون أصيلًا بالإمامة وصار كالمرأة والصبي.
ولنا: أن العبد والمسافر صلحًا إمامين في سائر الصلوات فكذا في الجمعة وامتناع الفرضية ليس لعدم الأهلية، بل لعذر رخص الشرع الترك لأجله على ما مر، فإذا حضر وأدى وقع عن الفرض، وبه فارق الصبي والمرأة فإن الصبي ليس بأهل لأداء الفرض وكذا المرأة ليست بأهل للأداء بهذا الفرض؛ لأن مبناها على الاستتار، وفيما بني على الاستتار المرأة لم تؤهل، فإذا ظهر الكلام في جواز إمامتها، ففي انعقاد الجمعة باقتدائهما يكون أظهر، وقد صح أن رسول الله عليه السلام أقام الجمعة بمكة، وهو مسافر حتى قال: «أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر».
ومما يتصل بهذا الشرط من المسائل:
ما ذكر في (الجامع الصغير): فقال: إذا نفر الناس بعدما خطب الإمام فهذا على وجهين: إما أن ينفروا قبل الشروع في الصلاة أو بعد الشرع فيها.
فإن نفروا قبل الشروع فيها إن نفر الكل فالإمام يصلي بهم الظهر؛ لأن الجماعة شرط ولم تبق الجماعة وقت افتتاح الصلاة وإن نفر البعض إن كان الباقي سوى الإمام ثلاثة صلى الجمعة عندنا؛ خلافًا للشافعي؛ وإن كان الباقي اثنان سوى الإمام صلى الظهر عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعن أبي يوسف رحمه الله في غير رواية (الأصول): أنه يصلي الجمعة؛ لأنا نجعل من ذهب من القوم كأنه لم يحضر من الابتداء غير هؤلاء كان الجواب كما قلنا، فهنا كذلك، وإن لم يبق مع الإمام إلا عبيد ومسافرون صلى بهم الجمعة عند علمائنا رحمهم الله على ما مر.
وإن نفروا بعد الشروع في الصلاة إن صلى الإمام من الجمعة ركعة أتم الجمعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، وعند زفر يصلي الظهر، وإن لم يقيد الركعة بالسجدة حتى نفروا صلى الظهر عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما يتم الجمعة.
فالأصل عند زفر: أن الجماعة شرط من أول الجمعة إلى آخرها كالطهارة والوقت، وهو القياس؛ لأن شرط الشيء يعتبر من أوله إلى آخره، وإنه ليس بصحيح، لأن شرط الشيء ما في وسع الإنسان، وإمكانه وليس في وسع الإمام وإمكانه إبقاء الجمع مع نفسه في جميع الصلاة، فلا يشترط ذلك.
والأصل عندهما: أن الجماعة شرط وقت الشروع في الصلاة؛ لأن الجماعة إذا وجدت حالة الشروع تنعقد التحريمة للجمعة بوصف الصحة، فجاز أن يتمها جمعة كما إذا نفروا بعدما قيد الركعة بالسجدة، وليس كما إذا نفروا قبل الشروع؛ لأن هناك تحريمته لم تنعقد للجمعة، فكيف يتمها جمعة.
والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله: أن الجماعة شرط في ركعة تامة؛ لأن ما دون الركعة معتبر من وجه دون وجه، معتبره من وجه، فإنه إذا تحرم ثم قطع يلزمه القضاء، وغير معتبرة من وجه، فإنه إذا أدرك الإمام في السجود لا يصير مدركًا للركعة وإذا حلف لا يصلي، فافتتح الصلاة وقرأ وركع ثم قطع لا يحنث في يمينه، وصلاة الجمعة تغيرت من الظهر إلى الجمعة، فلا يتغير إلا بيقين ولا يقين إلا وأن توجد ركعة معتبرة من جميع الوجوه.
وإذا كبر الإمام للجمعة والقوم حضور لم يشرعوا معه ثم شرعوا بعد ذلك، ذكر في (الأصل): أنهم إذا كبروا قبل أن يرفع الإمام رأسه من الركوع صحت الجمعة، وإلا استقبلها ولم يذكر في الأصل خلافًا، وفي (متفرقات الفقيه أبي جعفر) رحمه الله جعل هذا قول محمد وذكر، وقال أبو حنيفة: إن كبر قبل أن يقرأ الإمام آية قصيرة صحت الجمعة وإلا استقبلها.
وقال أبو يوسف: إن كبروا قبل أن يقرأ الإمام ثلاث آيات قصار أو آية طويلة صحت الجمعة وإلا استقبلها، وإن كبروا قبل أن يشرع الإمام في القراءة صحت الجمعة بالاتفاق، ولو خطب والقوم حضور وشرعوا في الصلاة ثم أحدث القوم فخرجوا فدخل آخرون لم يسمعوا الخطبة، ودخلوا في صلاته جاز؛ لأن الخطبة والافتتاح حصل مع الجمع، ولو ظهر أن الأولون لم يكونوا على وضوء فكبر الإمام ثم دخل آخرون هم على الوضوء استقبل بهم التكبير؛ لأن الشروع ما حصل مع الجمع والله أعلم.
والشرط الخامس: الخطبة حتى لو صلوا من غير خطبة أو خطب الإمام قبل الوقت لا يجوز، والأصل فيه قول الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] والمراد منه الخطبة، فقد أمر بالسعي إلى الخطبة، والأمر بالسعي إليها دليل على وجوبها؛ ولأن إقامة الجمعة مقام الظهر عرفت شرعًا بخلاف القياس، والشرع ما جاء بها إلا مقيدًا بالخطبة، فإن النبي عليه السلام ما أقامها في عجزه من غير خطبة.
وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: الخطبة تقوم مقام ركعتين، ولهذا لا يجوز إلا بعد دخول وقت الجمعة، وفي حديث ابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم، «إنما قصرت الصلاة لمكان الخطبة» دليل على أن الخطبة شطر الصلاة، وهذا ليس بصحيح بدليل أن الإمام لا يستقبل القبلة عند الخطبة، ولا يقطعها الكلام ويعتد بها إذا أداها وهو محدث أو جنب على ما يأتي بيانه إن شاء الله.
وإذا ثبت أن الخطبة شرط يتفرع على هذا مسائل؛ إذا خطب الخطيب وحده جاز على قول أبي حنيفة وعلى قولهما لا يجوز، ذكر الخلاف على هذا الوجه في (متفرقات الفقيه أبي جعفر)، ورأيت في موضع آخر أن عن أبي حنيفة رحمه الله في هذا الفصل روايتان.
وفي (نوادر المعلى): عن أبي يوسف إذا خطب يوم الجمعة ونفر الناس عنه، ثم رجعوا صلى بهم الجمعة، ولو لم يرجعوا وجاء قوم آخرون لا يصلي بهم الجمعة إلا أن يعيد الخطبة، وفي ظاهر الرواية يصلي بهم الجمعة من غير أن يعيد الخطبة.
ولو خطب والقوم حضور إلا أنهم محدثون، أو كانوا جنبًا فذهبوا وتوضؤوا ثم رجعوا وصلى بهم الجمعة جاز، ولو خطب وهناك رجال من بعيد لم يسمعوا الخطبة جاز، ولو خطب بالفارسية جاز عند أبي حنيفة على كل حال.
وروى بشر عن أبي يوسف: أنه إذا خطب بالفارسية وهو يحسن العربية لا يجزئه إلا أن يكون ذكر الله في ذلك العربية في حرف أو أكثر من قبل أنه يجزئ في الخطبة ذكر الله، وما زاد فهو فضل.
قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف قوله المشهور، وإذا خطب الإمام في الجمعة قبل الزوال وصلى بعد الزوال لا يجوز، فإنه شرعت الخطبة شرطًا للجواز، والشرائط تكون مقدمة على المشروط إلا أنها شرط بمنزلة الركعتين وهو الشفع الثاني، وكما لا يجوز إقامة الشفع الثاني قبل الخطبة فكذا الخطبة، ولو خطب صبي يوم الجمعة وله منشور الوالي، وصلى بالناس بالغ جاز.
وفي (فتاوى خوارزم): قال محمد رحمه الله: ويخطب الإمام قائمًا يوم الجمعة؛ لما روي أن رجلًا سأل ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهم أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائمًا أو قاعدًا، قالا: أليس يتلو قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَرَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التّجَرَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرزِقِينَ} [الجمعة: 11] كان رسول الله عليه السلام يخطب قائمًا حين انفض عنه الناس بدخول العير المدينة، وهكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، والذي روي أن عثمان رضي الله عنه كان يخطب قاعدًا، إنما فعل ذلك لمرض أو لكبر سن في آخر عمره، وفي حديث جابر بن سمرة «أن النبي عليه السلام كان يخطب قائمًا خطبة واحدة فلما أسن وكبر جعلها خطبتين وجلس بينهما جلسة» ويستقبل القوم بوجهه مستدبرًا القبلة، به جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر.
ثم السنّة أن يخطب خطبتين ويجلس جلسة خفيفة بينهما يحمد الله تعالى في الأولى، ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي عليه السلام، ويعظ الناس ويذكرهم، وفي الثانية يفعل كذلك إلا أنه يدعو مكان الوعظ، كذا جرى التوارث.
قال شمس الأئمة السرخسي في تقدير الجلسة بين الخطبتين: إنه إذا تمكن في موضع جلوسه، واستقر كل عضو منه في موضعه قام من غير مكث ولبث، وكان ابن أبي ليلى يقول: إذا مس الأرض موضع جلوسه أدنى مسه قام إلى الخطبة الأخرى.
وينبغي أن تكون الخطبة الثانية ما يخطب بها الخطباء في بلدنا اليوم: الحمد لله نحمده ونستعينه لا يبدل هذا بحال ولا يغيره، وله أن يبدل الأولى ويغيرها، فقد صح أن النبي عليه السلام كان لا يترك هذه الخطبة بحال، ولو خطب خطبة واحدة قائمًا أو قاعدًا أو خطب خطبتين قاعدًا أو إحداهما قائمًا، والأخرى قاعدًا أجزأه إلا أنه يصير مسيئًا إن فعل ذلك من غير عذر.
وكذلك إذا خطب متكئًا على عصا أو على قوس جاز، إلا أنه يكره، لأنه خلاف السنّة وإذ خطب مستقبل القبلة موليًا ظهره إلى الناس جاز، ولكن يكره؛ لأنه خلاف السنّة، ويقرأ في خطبته سورة من القرآن أو آية، فالأخبار قد توافرت أن النبي عليه السلام كان يقرأ القرآن في خطبته، وأن خطبته لا تخلوا عن سورة أو آي من القرآن، روي أنه قرأ في خطبته: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281] وروي أنه قرأ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب: 70] وروي أنه قرأ: {وَنَادَوْاْ يمَلِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّكِثُونَ} [الزخرف: 77] وروي أنه قرأ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الاْرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1].
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يقول: يستحب للإمام أن يقرأ في كل جمعة {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَا بَعِيدًا وَيُحَذّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءوفُ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30] الآية.
إلا أنه إذا أراد أن يقرأ سورة، فإنه يتعوذ في أولها ويسمي وإن قرأ آية من القرآن اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم: يتعوذ ويسمي وأكثرهم قالوا: يتعوذ ولا يسمي، ولهذا تعارف الخطباء في زماننا ترك التسمية احتياطًا، والأمان بالتعوذ على كل حال يقولون: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وقد يسمون وقد لا يسمون، وأصل الاختلاف في القراءة في غير الخطبة إذا أراد أن يقرأ سورة يتعوذ ويسمي، وإذا أراد أن يقرأ آية هل يسمي؟ فعلى الاختلاف.
وإذا قرأ الإمام على المنبر آية السجدة سجدها، وسجد معه من سمعها، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ينزل من المنبر ويسجد على الأرض، ثم قال رحمه الله: قال مشايخنا: إذا تلا الإمام آية السجدة في صلاة الجمعة لا يسجد لها؛ لأنه إذا خر للسجود كبر المكبرون، فيظن الناس أنه للركوع فيفتننون، فيكون تركها أولى ولا يطول الخطبة، جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: طولوا الصلاة وقصروا الخطبة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: طول الصلاة وقصر الخطبة مئينة في فقه الرجل.
قال القدوري في (كتابه): ويكون قدر الخطبتين مقدار سورة من طوال المفصل ويستقبل الإمام بوجههم حالة الخطبة؛ لأن الخطيب يعظهم بالخطبة ويخاطبهم فالإعراض عنهم يكون تهاونًا وجفاءً.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من كان أمام الإمام استقبله بوجهه، ومن كان عن يمين الإمام أو عن يساره انحرف إلى الإمام، فقد صح أن رسول الله عليه السلام كان إذا خطب استقبله أصحابه، فمن كان أمامه أقبل بوجهه إليه ومن كان عن يمينه أو عن يساره انحرف إليه، قال شمس الأئمة الحلواني السرخسي: والرسم في زماننا استقبال القوم القبلة، وترك استقبالهم الخطيب ما يلحقهم من الحرج بتسوية الصفوف بعدما فرغ الخطيب من الخطبة، لكثرة الزحام، قال: وهذا أحسن.
ويجزئ في الخطبة قليل الذكر، نحو قوله الحمد لله، ونحو قوله: لا إله إلا الله، ونحو قوله: سبحان الله، وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.
وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إلا إذا كان كلامًا به يسمى خطبة عادة، وقال الشافعي رحمه الله: لابد من خطبتين الشافعي يحتج بالتوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر، والمتوارث كالمتواتر.
وأبو يوسف، ومحمد رحمهما الله، قالا: بأن الشرط هو الخطبة والتكبيرة الواحدة لا تسمى خطبة، ولا يقال لقائلها خطيبًا عرفًا وعادة، وإن كانت خطبة حقيقة، فكانت خطبة من وجه دون وجه، وقع الشك في جواز الجمعة، فلا يحكم بالجواز.
وأبو حنيفة رحمه الله يحتج بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] أمر بمطلق الذكر، فمن قيده فقد نسخ المطلق، وعن رسول الله عليه السلام أنه كتب إلى مصعب بن عمير «إذا مالت الشمس من اليوم الذي تتجهز اليهود لسبتها، فاجمع من قبلك من المسلمين، وذكرهم بالله» من غير فصل بين ذكر وذكر.
وعن عثمان رضي الله عنه: أنه لما صعد المنبر في أول جمعة ولي قال: الحمد لله فأرتج عليه، فقال: «إن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يعدان لهذا المكان حقه، ألا وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وسيأتي الخطب من بعد الله أكبر ما شاء فعل» ونزل، وصلى معه خيار الصحابة من غير نكير منكر ومراده من قوله: وأنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال أن الخطباء الذين يأتون بعد الخلفاء الراشدين يكونون على كثرة المقال مع قبح الفعال، وأنا لم أكن قوالًا مثلهم فأنا على الخير دون الشر فأما أن يريد بهذه المقالة تفضيل نفسه على الشيخين فلا، ثم قوله: الحمد لله، كلمة وجيزة تحتها معاني جمة تشتمل على قدر الخطبة وزيادة، فالمتكلم بقوله: الحمد لله كالذاكر بجملة ذلك، فيكون ذلك منه خطبة لكنها وجيزة. وقصر الخطبة مندوب إليه على ما مر.
وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله: عن أستاذه الفقيه أبو بكر الأعمش رحمه الله كان يقول: التسبيحة الواحدة والتكبيرة الواحدة في مثل هذا المكان، في مثل هذه الحالة من مثل هذا الخطيب خطبة، وإن كانت لا تكون خطبة من غيره؛ لأن المكان أعد للخطبة والوقت وقت خطبة والخطيب هيأ نفسه لذلك، فإذا جاء بالذكر وإن قل يكون خطبة ولا يبعد أن يختلف الكلام باختلاف المحل.
ألا ترى أن من اعتاد التكلم بنعم في خلال الكلام كان نعم منه في خلال الكلام كفوًا، وهدرًا، وإذا قال له غيره: لي عليك كذا وكذا، فقال: نعم كان ذلك منه إقرارًا ملزمًا للمال، واختلف الكلام لاختلاف المحل كذا هنا.
وقال الحاكم الشهيد رحمه الله في (إشاراته): إن هذه المسألة، فرع مسألة أخرى: أن أبا حنيفة رحمه الله يعتبر في شروط جواز الصلاة أدناها حتى قال: لو حنى ظهره للركوع ولم يعتدل جاز، وإذا سجد بأنفه دون جبهته وإن رفع رأسه بين السجدتين أدنى الرفع جاز ووقع الفصل.
وإن قرأ في صلاته آية قصيرة جاز عنده، فجعل هذا أصلًا من أصول أبي حنيفة وخرج المسائل عليه، وعد هذه المسألة من جملتها، وقاس الخطبة بالصلاة بأدنى الأذكار والأركان، فالخطبة أولى.
وعن أبي يوسف رحمه الله أن الإمام إذا عطس على المنبر، وقال: الحمد لله، ثم نزل وصلى بالناس جازت صلاته، وكان حمده خطبة، ثم رجع، وقال: لا يكون خطبة، ومن المشايخ من قال: إذا عطس على المنبر وحمد الله تعالى، إذا نوى به الخطبة كان خطبة، وإذا نوى حمد العاطس لا يكون خطبة، وكذا فيما إذا أتى بتسبيحة إنما تجزئه عن الخطبة إذا نوى به الخطبة.
وهو نظير من حمد الله تعالى عند الذبح أجزأه عن الذبح إذا نوى به التسمية، وإن لم ينو به التسمية لا يجزئه، ولو خطب وهو جنب أو محدث ثم اغتسل أو توضأ وصلى بهم الجمعة أجزأه وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا يجوز، وهو رواية عن أبي يوسف رحمه الله بناءً على أن عند الشافعي الخطبة تقوم مقام ركعتين من الصلاة، وعندنا ليس كذلك بدليل ما ذكرنا من الأحكام.
والمعنى في المسألة: أن الخطبة ذكر الله تعالى، والجنب والمحدث لا يمنعان عن ذكر الله تعالى جاء في الحديث «أن النبي عليه السلام كان لا تحجره الجنابة عن شيء إلا عن قراءة القرآن»، إلا أنه لو تعمد ذلك يصير مسيئًا لدخوله المسجد من غير طهارة، ولأن الخطبة وإن لم تكن صلاة حقيقة إلا أنها تشبه الصلاة، ولهذا لا تجوز الجمعة بدونها، ولو كانت صلاة حقيقة لا تجوز بدون الطهارة، فإذا كانت تشبه الصلاة.
قلنا: تكره مع الحدث والجنابة ولم يذكر محمد رحمه الله في (الكتاب): أنه هل تعاد الخطبة؟ وذكر في (النوادر) عن أبي يوسف رحمه الله: أنه لا تعاد، والأذان جنبًا يعاد ولكل واحد منها شبهًا بالصلاة إلا أن الأذان أشبه بالصلاة من الخطبة فإن الأذان يؤدى مستقبل القبلة والخطبة تؤدى مستدبر القبلة.
وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله الإعادة فيهما جميعًا وإن خطب وهو طاهر، ثم أحدث وأمر رجلًا بالصلاة فإن كان الرجل المأمور قد شهد الخطبة أو بعضها أجزأه، لأنه ينشئ تحريمة الجمعة وقد وجد شرط افتتاح الجمعة في حقه وهو الخطبة؛ فيجوز، وإن لم يشهد المأمور الخطبة لا يجزئه، إلا أنه يريد أن ينشئ تحريمة الجمعة من غير شرطها، وهو الخطبة، فلا تجزئه كما إذا لم يخطب الأولى، وأراد أن يصلي بالناس الجمعة.
ولو أن الإمام الأول أحدث بعد الشروع في الجمعة، فأمر رجلًا لم يشهد الخطبة حتى يصلي بهم الجمعة يجوز؛ لأنه لا ينشئ التحريمة، بل يبني على صلاة الإمام والخطبة شرط افتتاح الجمعة، لا شرط البناء.
فإن قيل: ما ذكرتم من العذر ليس بصحيح، بدليل أن الثاني لو أفسد صلاته ثم افتتح بهم أجزأه، وهو مفتتح في هذه الحالة.
قلنا: نعم ولكن لما صح شروعه في الجمعة وصار خليفة للأول التحق بمن شهد الخطبة حكمًا، فهلذا أجاز له الافتتاح بعد الإفساد.
إذا خطب الإمام يوم الجمعة ثم قدم أمير آخر إن صلى القادم بخطبة الأول صلى أربعًا، لأن الخطبة شرط افتتاح الجمعة، وإنه غير موجود في حق القادم وإن خطب خطبة جديدة صلى ركعتين وإن صلى الأول الجمعة بالناس، فإن لم يعلم بقدوم الثاني أجزأهم؛ لأنه لا ينعزل ما لم يعلم بقدوم الثاني، وإن علم بقدوم الثاني لا يجزئهم؛ إلا أن يكون القادم أمر الأول بإقامتها، فحينئذٍ يجوز؛ لأنه يستجمع شرائط الجمعة.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وقد قيل: لا يجزئهم؛ لأن الثاني لما لم يملك إقامتها لعدم الخطبة يصح أمره الأول بها.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: إمام خطب الناس يوم الجمعة ثم قدم عليه أمير آخر مكانه بعدما فرغ من الخطبة، فأمر هذا القادم رجلًا ممن شهد الخطبة فصلى بالناس الجمعة يجزئهم من قبل أن خطبة الأول قد انتقضت حين عزل، ولو أن القادم شهد الخطبة ولم يعزل الأول، ولكنه أمر رجلًا أن يصلي الجمعة بالناس، فصلى جاز؛ لأنه لما شهد الخطبة، فكأنه خطب بنفسه، ولو أن القادم شهد خطبة الأول، وسكت عنه حتى صلى بالناس، وهو يعلم بقدومه فصلاته جائزة؛ لأنه على ولايته لم يظهر العزل.
وفي (نوادر بشر): عن أبي يوسف: في الإمام الذي له حق إقامة الجمعة إذا عزل وصلى بالناس الجمعة قبل أن يأته الكتاب بعزله أي: قبل أن يعلم بعزله جاز وإن صلى بعدما علم بعزله لا يجوز، وإن صلى صاحب شرطة جاز؛ لأن عمالهم على حالهم بعد العزل، وإذا افتتح الإمام الجمعة ثم حضر والي آخر يمضي على صلاته؛ لأن افتتاحه قد صح فصار كرجل أمره الإمام أن يصلي بالناس الجمعة ثم حجر عليه، إن حجر عليه قبل الشروع في الصلاة عمل حجره؛ وإن حجر عليه بعد الشروع لا يعمل حجره؛ وكذا ها هنا.
ولو أن الإمام سبقه الحدث قبل الشروع في الصلاة، فأمر جنبًا قد شهد الخطبة حتى صلى بالناس، وأمر المأمور طاهرًا قد شهد الخطبة، فصلى بهم جاز كما لو أمر الإمام الأول؛ وهذا لأن أمر الإمام الأول قد صح؛ لأنه فوض الجمعة إلى من هو من أهل الجمعة، فإن الجنب أهل للجمعة لكنه عاجز عن أدائها، لفقد الشرط وهو الطهارة، وإذا صح التفويض إلى الأول، لكونه أهلًا قام الثاني مقام الأول، فصار أمر الثاني كأمر الأول.
بخلاف ما إذا أمر الأول صبيًا لو محترمًا، فأمر الصبي رجلًا قد شهد الخطبة لا يجوز الثاني أن يصلي الجمعة؛ لأن التفويض إلى الصبي لم تصح لعدم أهلية الجمعة، وإذا لم يصح التفويض إليه لم يقم مقام الأول ليصير أمره كأمر الأول، وبخلاف ما إذا أمر الأول امرأة، فأمرت المرأة رجلًا قد شهد الخطبة لا يجوز لهذا الرجل أن يصلي بهم الجمعة لما ذكرنا، في حق الصبي.
وذكر الحاكم الشهيد رحمه الله في (المنتقى): أن إمامًا لو سبقه الحدث في الصلاة، فذهب وقدم امرأة، فإنه ينظر إن قامت مقامه فسدت صلاته، وإن قدمت رجلًا مكانها جازت صلاة الكل.
بعض مشايخنا ظنوا أن الاستخلاف من المرأة والصبي جائز في سائر الصلوات غير حائز في الجمعة، وليس الأمر كما ظنوا، بل الاستخلاف منها لا يجوز في الصلوات كلها؛ لأن تفويض الإمامة إلى الصبي، والمرأة لم تصح في سائر الصلوات، فلا يصح منها الاستخلاف، وإذا لم يصح استخلافهما جعل وجود الاستخلاف منهما وعدمه بمنزلة وجعل كأن خليفة الصبي، والمرأة تقدم بنفسه من غير استخلافهما إلا أنه لو تقدم بنفسه في سائر الصلوات يصير إمامًا، ويجوز له أن يصلي بهم ولو تقدم بنفسه في الجمعة لا يصير إمامًا فلا يجوز له أن يصلي الجمعة بهم؛ لأنه أقامها بغير إذن الإمام كذا ها هنا.
الإمام إذا خطب ثم أحدث وأمر من لم يشهد الخطبة أن يصلي بالناس، وأمر ذلك الرجل من شهد الخطبة فصلى بهم ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه لا يجوز، وهكذا ذكر الحاكم في (المختصر).
وفي (فتاوى أهل سمرقند): أنه يجوز؛ لأن الذي لم يشهد الخطبة من أهل الصلاة فصح التفويض لكن عجز عن الأداء، لفقد شرطه وهو سماع الخطبة، فيملك التفويض إلى الغير ولو كان الثاني ذميًا ولم يعلم الإمام به، فأمر الذمي مسلمًا حتى يصلي بهم فصلى لم يجز؛ لأن التفويض إلى الذمي لم يصح؛ لأنه ليس من أهل الصلاة فلا يصح منه التفويض إلى المسلم.
وكذا لو أن الأول أمر مريضًا يصلي بإيماء أو أخرسًا أو أميًا، فأمر هؤلاء غيرهم حتى يصلي لم يجز، وفيه فإن كان التفويض إلى هؤلاء قبل الجمعة بأيام فبرأ المريض والأخرس وتعلم الأمي، فصلى بهم الجمعة أو أمروا غيرهم جاز؛ لأن التفويض ليس بلازم، وما ليس بلازم كان لبقائه حكم الابتداء فصار كأنه فوض إليهم للحال، وهم في الحال من أهل الصلاة، فإن كان الإمام دخل في الصلاة ثم أحدث، فقدم ذميًا وقدم الذمي غيره لا يجوز، فإن أسلم الذمي بعدما قدمه إن خطب بهم وصلى الجمعة من الابتداء أو أمر غيره بأن يخطب ويصلي بهم الجمعة، بعدما أسلم جاز، وإن بنى على تلك الصلاة لم يجز لما قلنا.
وإذا أحدث الإمام قبل الشروع في الصلاة فلم يأمر أحدًا فتقدم صاحب شرطة أو القاضي أو أمر رجلًا قد شهد الخطبة، فتقدم وصلى بهم الجمعة أجزأهم، واختلفت عبارة المشايخ في علة المسألة.
بعضهم قالوا: إقامة الجمعة من أمور العامة وقد فوض إلى القاضي وصاحب الشرطة، ما هو أمور العامة، فينزلا فيها منزلة الإمام في الإمامة بأنفسهما وبالاستخلاف.
وبعضهم قالوا: القاضي وصاحب الشرطة خلفًا للإمام فيما هو من السياسة والديانة، وإقامة الجمعة وتفويضهما إلى غيرهما من الديانة، فقاما فيهما مقام الإمام وقد مر شيء من ذلك في أول الفصل.
وفي (نوادر ابن سماعة): عن أبي يوسف في إمام خطب ونزل وافتتح التطوع ركعتين خفيفتين، وأتمهما أو أفسدهما أو شرع في الجمعة ثم علم أن عليه صلاة الغداة، فقضاها فإني آمره بإعادة الخطبة، وإن لم يعدها أجزأه، وكذلك لو خطب، ثم رجع إلى منزله، فتوضأ أو قعد أو فعل شبه ذلك، ثم رجع وصلى جاز.
وفي (المنتقى): إمام خطب يوم الجمعة وأحدث، وانصرف وتوضأ، ثم جاء وصلى أجزأه؛ لأن هذا من عمل الصلاة.
ولو تغدى أو جامع فاغتسل ثم جاء استقبل الخطبة، وذكر الطحاوي رحمه الله في (شرح الآثار)، فلا ينبغي أن يكون للإمام في صلاة الجمعة غير الخطيب؛ لأن صلاة الجمعة مع الخطبة كشيء واحد من حيث المعنى؛ لأن صلاة الجمعة إنما قصرت؛ لأجل الخطبة؛ فلا ينبغي أن يقيمها اثنان ولا ينبغي للخطيب أن يتكلم في خطبته بما هو كلام الناس؛ إما لأن الخطبة تشبه الصلاة على ما بينا؛ ولا ينبغي للمصلي أن يتكلم في صلاته بما يشبه كلام الناس، أو لأن الخطبة كلمات منظومة شرعت قبل الصلاة، فأشبهت الأذان، ولا ينبغي للمؤذن أن يتكلم في أذانه بما يشبه كلام الناس، ولا بأس بأن يتكلم بما يشبه الأمر بالمعروف.
وقد صح أن رسول الله عليه السلام كان يخطب، فدخل سليك الغطفاني، وجلس، فقال عليه السلام: «أركعت ركعتين» فقال سليك: لا، فقال عليه السلام: «قم واركع ركعتين ثم اجلس»، وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يخطب يوم الجمعة، فدخل عثمان رضي الله عنه فقال عمر رضي الله عنه: أية ساعة المجيء هذه، فقال عثمان: ما زدت حين سمعت النداء على أن توضأت، فقال عمر: أتوضأ أيضًا، ورسول الله عليه السلام كان يأمر بالاغتسال يوم الجمعة.
ولأن ما يشبه الأمر بالمعروف خطبة من حيث المعنى، وإن لم يكن خطبة من حيث النظم؛ لأن الخطبة في الحقيقة وعظ وأمر بالمعروف.
ثم فرق بين الإمام والقوم فحرم على القوم التكلم في وقت الخطبة بجميع الكلام ما يشبه بكلام الناس، وما يشبه الأمر بالمعروف، وفي حق الإمام فرق بينهما.
والفرق: أن المفروض على الإمام الخطبة والأمر بالمعروف والوعظ لا يقطعها معنى، والمفروض على القوم الاستماع والإنصات، والكلام يقطع ذلك أي كلام كان.
من العلماء من قال: السكوت على القوم كان لازمًا في زمن رسول الله عليه السلام؛ لأنه كان يعرض عليهم في خطبته ما نزل عليه من القرآن فكان يلزمهم السكوت والاستجماع، ليأخذوا ويقبلوا منه ويصدقوه في ذلك، فأما اليوم، فالسكوت غير لازم لأنه قد يكون في القوم من هو أعلم من الإمام، وأورع منه، فلا يؤمر باستماع وعظ من هو دونه.
ومنهم من قال ما دام في حمد الله تعالى والثناء عليه والوعظ للناس، فعليهم أن يستمعوا، وإذا أخذ في مدح الظلمة والدعاء لهم، فلا بأس بالكلام؛ لأن مدحهم لا يخلو عن كذب فالإعراض عنه أولى، وهذا ما روي عن بعض السلف أنه كان يقلب الحصى في ذلك الوقت إنما كان يفعل ذلك، ليصير ذلك مانعًا دخول ذلك في سمعه.
وكان الطحاوي رحمه الله يقول: على القوم أن يستمعوا وينصتوا إلا أن يبلغ الخطيب قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]، فحينئذٍ يجب عليهم أن يصلوا على النبي عليه السلام ويسلموا؛ لأن الخطيب حكى عن...... الله تعالى وملائكته أنهم يصلون وحكى أمر الله تعالى بالصلاة عليه وامتثال أمر الله تعالى واجب، فيجب عليهم في هذه الحالة، والذي عليه عامة مشايخنا: أن على القوم أن يستمعوا الخطبة وينصتوا من أول الخطبة إلى آخرها.
والأصل فيه قول الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئ الْقُرْءانُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] نزلت الآية في الخطبة على ما ذكرنا، والله تعالى أمر باستماع الخطبة مطلقًا فيتناول الخطبة من أولها إلى آخرها.
وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إذا ذكر الله والرسول في الخطبة استمعوا، ولم يذكروا الله تعالى والثناء عليه ولم يصلوا على النبي عليه السلام، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يصلي الناس عليه في نفوسهم وهذا كله في حق من كان قريبًا من الإمام بحيث يسمع ما يقوله الإمام.
أما من كان بعيدًا من الإمام لا يسمع ما يقوله الإمام ماذا يصنع؟ لا رواية في هذا الفصل، قال محمد بن سلمة رحمه الله: يسكت، وهكذا ذكر المعلى في (كتاب الصلاة) عن أبي يوسف رحمه الله.
وروي عن نصير بن يحيى رحمه الله: أنه إذا كان بعيدًا من الإمام يقرأ القرآن، وروي عنه أنه كان يحرك بسيفه ويقرأ القرآن، وروى حماد عن إبراهيم أنه قال: إني لأقرأ جزأين يوم الجمعة والإمام يخطب وجه هذا القول أن المقصود من الإنصات الاستماع لما فيها من قراءة القرآن والوعظ، فإذا لم يستمع يقرأ حتى يحصل ما هو المقصود بقراءة القرآن.
ووجه ما روي عن محمد بن سلمة حديث عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: إن أجر المنصت الذي لا يسمع مثل أجر المنصت السامع، ولأنه مأمور بشيئين بالاستماع والإنصات فمن قرب من الإمام، فقد قدر عليهما ومن بعد من الإمام فقد قدر على أحدهما وهو الإنصات فيأتي بما قدر عليه، ويترك ما عجز عنه.
فأما دراسة الفقه والنظر في كتب الفقه وكتابته فمن أصحابنا رحمهم الله من كره ذلك، ومنهم من قال: لا بأس به، وهكذا روي عن أبي يوسف.
وروي أن الحكم بن زهير كان أبلغ في الفطنة من أبي يوسف حتى روى عن أبي يوسف أنه كان يقول: ما رأيت رجلًا أذكى ولا أفصح ولا أصبح وجهًا من الحكم بن زهير، وقال الحسن بن زياد رحمه الله: ما دخل العراق أحد أفقه من الحكم بن زهير، وإن الحكم كان يجلس مع أبي يوسف يوم الجمعة وكان ينظر في كتابه ويصححه بالقلم وقت الخطبة.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: هنا فصل آخر اختلف فيه المشايخ أيضًا: أنه إذا لم يتكلم بلسانه، ولكنه أشار برأسه أو بيده أو بعينه نحو إن رأى منكرًا من إنسان، فنها بيده أو أخبر بخبر فأشار برأسه هل يكره ذلك، أم لا؟ فمن أصحابنا رحمهم الله من كره ذلك، وسوى بين الإشارة بالرأس وبين التكلم باللسان، والصحيح أنه لا بأس به، فإنه روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه «أنه سلم على النبي صلى الله عليه وسلّم يوم الجمعة وهو يخطب، فرد عليه بالإشارة»، والدليل عليه ما روي «أن أبا ذر رضي الله عنه كان جالسًا إلى جنب أبي بن كعب ورسول الله عليه السلام كان يخطب يوم الجمعة فقرأ في خطبته آية من القرآن، فقال أبو ذر لأبي رضي الله عنهما: متى نزلت هذه الآية؟ ولم يجبه وغمزه ليسكت» دل أن الإشارة، لا بأس بها.
قال شمس الأئمة: وهنا فصل آخر وهو أن الدنو من الإمام أولى أو التباعد عنه، قال كثير من العلماء: التباعد أولى، كيلا يسمع مدح الظلمة ودعاؤهم، والصحيح من الجواب عن مشايخنا رحمهم الله أن الدنو منه أفضل.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): ولا تشمتوا العاطس، ولا ترد السلام يعني وقت الخطبة، ولم يذكر فيه خلافًا وروى محمد عن أبي يوسف في صلاة الأثر أنهم يردون السلام ويشمتون العاطس، ويتبين بما ذكر في صلاة الأثر أن ما ذكر في (الأصل) قول محمد.
والخلاف بين أبي يوسف، ومحمد في هذا بناءً على أنه إذ لم يرد السلام في الحال بل رده بعد ما فرغ الإمام من الخطبة على قول محمد يرد، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا يرد، فلما كان مذهب محمد الرد بعد فراغ الإمام من الخطبة كان الاستماع والإنصات أولى؛ لأنه لو رد يفوت الإنصات والاستماع، ولو استمع لا يفوت رد السلام بل يتأخر والتأخير أولى من التفويت.
وعند أبي يوسف رحمه الله لما كان لا يمكنه رد السلام ولا يشمت العاطس بعد فراغ الإمام من الخطبة، فلو رد لا يفوت الاستماع أصلًا بل يفوت البعض، ولو لم يرد يفوت الرد أصلًا وتفويت البعض دون البعض أولى من تفويت الكل، وإنما لا يمكنه رد السلام بعد الفراغ من الخطبة عند أبي يوسف؛ لأن رد السلام جواب الخطاب وجواب الخطاب ما يكون على غرار الخطاب، أما إذا تأخر يكون كلامًا مبتدءًا ولا يكون جوابًا، ومحمد رحمه الله يقول: يمكنه الرد؛ لأن المجلس واحد، فيجعل الموجود في آخر المجلس كالموجود في أوله، كما في البيع.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية (الأصول): أنه يرد بقلبه ولا يرد بلسانه؛ لأنه إن عجز عن رده بلسانه، فإنه لم يعجز عن رده بقلبه، يقوم الرد بالقلب مقام الرد باللسان كما قام الإيماء بالرأس في حق المريض مقام الركوع والسجود، ولم يذكر محمد رحمه الله في (الأصل): أن العاطس هل يحمد الله؟ وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله أن العاطس وقت الخطبة يحمد الله تعالى في نفسه، ولا يجهر، وهذا صحيح؛ لأن ذلك لا يشغله عن الاستماع.
وعن محمد رحمه الله: أن العاطس يحمد الله تعالى بقلبه فلا يحرك شفتيه، وإذا فرغ الإمام من الخطبة يحمد الله تعالى بلسانه، وهذا كالمتغوط إذا سمع الأذان يجيبه بقلبه، وإذا فرغ من التغوط يجيبه بلسانه، فلا ينبغي لهم أن يشربوا أو يأكلو والإمام يخطب لما ذكرنا أن صلاة الجمعة مع الخطبة كشيء واحد.
ثم لا ينبغي لهم أن يأكلوا ويشربوا والإمام في الصلاة فكذا إذا كان في الخطبة، وفي بعض الكتب ما يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة، وهو إشارة إلى ما قلنا.
ثم عند أبي حنيفة رحمه الله يكره الكلام من حين يخرج الإمام إلى أن يفرغ من الصلاة للخطبة، وكذلك الصلاة.
وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا بأس بأن يتكلم قبل الخطبة وبعدها ما لم يدخل الإمام في الصلاة.
وأما الكلام عند الجلسة الخفيفة، من مشايخنا رحمهم الله من قال: بأنه على هذا الخلاف، ومنهم من قال: بلا خلاف يكره، حجتهما ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي عليه السلام كان إذا نزل عن المنبر أمر ببعض حوائجه، وكان يسأل الناس عن حوائجهم وعن أسعار السوق ثم يصلي، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام، ولم يجعل خروجه قاطعًا للكلام.
وروي عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما كانا إذا صعدا المنبر أنهما يسألان الناس عن أسعار السوق، وحوائجهم؛ ولأن التكلم بما لا إثم فيه إنما حرم لأجل الاستماع ولا استماع في باقي الحال، بخلاف الصلاة؛ لأنها تمتد إلى وقت الخطبة أو إلى وقت الشروع في الصلاة.
حجة أبي حنيفة رحمه الله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الناس الأول، فالأول» الحديث إلى أن قال: «فإذا خرج الإمام طووا الصحف وجاءوا يستمتعون الذكر» وإنما يطوون الصحف إذا طوى الناس الكلام فأما إذا كانوا يتكلمون فهم يكتبون عليهم قال الله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام حتى يفرغ» فلأن الخطبة في معنى شطر الصلاة، فالمتكلم في الخطبة كالمتكلم في وسط الصلاة من وجه، فيكره وأما حديث رسول الله عليه السلام.
قلنا: إن رسول الله عليه السلام كان إمامًا، ولا بأس للإمام أن يتكلم، ألا ترى أنه يخطب والخطبة من أولها إلى آخرها كلام، وجواب آخر أن نقول: يحتمل أن رسول الله عليه السلام فعل ذلك لعذر وضرورة، ويحتمل أنه كان في ابتداء الإسلام حين كان الكلام مباحًا في الصلاة، فيكون مباحًا في حالة الخطبة بطريق الأولى، وهو الجواب عن حديث عمر رضي الله عنه.
وإن افتتح الصلاة بعدما خرج الإمام خففها، وأتمها، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أيهم الجواب في (الأصل) وفسره في (النوادر) قال: إن كان صلى ركعة أضاف إليها أخرى وسلم، وإن كان نوى أربعًا عند التكبير وإن قيد الثالثة بالسجدة أضاف إليها الرابعة وسلم وخفف القراءة فيها، فيقرأ بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة، وإن كان له ورد في القراءة ترك الورد في هذه الصورة، وإذا لم يقيد الثالثة بالسجدة، ماذا يصنع؟ لم يذكر هذا الفصل في (النوادر)، المتأخرون في هذا على قولين، منهم من قال: يمضي فيها ويتمها أربعًا ويخفف القراءة، ومنهم من قال: يعود إلى القعدة، وكأن هذا القائل قاس هذه المسألة بمسألة باب الحدث.
وصورة تلك المسألة: إذا شرع الرجل في فريضة في المسجد، ثم أقيم لها وقد كان قام إلى الثالثة، وإن لم يقيد الثالثة بالسجدة عاد إلى التشهد وسلم، وإن قيد الثالثة بالسجدة أتمها أربعًا، ويدخل في صلاة الإمام.
والشرط السادس: الإذن العام، وهو أن تفتتح أبواب الجامع، ويؤذن للناس كافة حتى أن جماعة لو اجتمعوا في الجامع وأغلقوا الأبواب على أنفسهم وجمعوا لم يجزئهم ذلك وكذلك إذا أراد السلطان أن يجمع بحشمه في داره، فإن فتح باب الدار، وأذن للناس إذنًا عامًا جازت صلاته، شهدها العامة أو لم يشهدوها، وإن لم يفتح باب الدار وأغلق الأبواب كلها، وأجلس عليها البوابين ليمنعوا الناس عن الدخول لم تجزئهم الجمعة؛ لأن اشتراط السلطان للتحرز عن تفويتها على الناس، ولا يحصل ذلك إلا بالإذن العام وكما يحتاج العام إلى السلطان لإقامة الجمعة والسلطان أيضًا يحتاج إلى العام بأن يأذن لهم إذنًا عامًا حتى تجور صلاة الكل بهذا النظر من الجانبين.
وأما الشرائط التي في المصلي: فسبعة:
أحدها: الإسلام وإنه ظاهر.
والثاني: البلوغ.
والثالث: العقل، وإنه ظاهر أيضًا؛ لأن الصبي والمجنون لا يخاطبان بشيء من العبادات.
والرابع: الإقامة؛ لأن المسافر تلحقه المشقة في دخول المصر وحضور الجمعة، وربما لا يجد من يحفظ رحله وينقطع عن أصحابه.
الخامس: الصحة؛ لأن المريض تلحقه المشقة أيضًا في حضور الجمعة، وانتظار الإمام.
والسادس: الحرية؛ لأن العبد مشغول بخدمة المولى، فيتضرر المولى بترك خدمته، وشهود الجمعة وانتظاره الإمام وأما الذكورة؛ فلأن المرأة مشغولة بخدمة الزوج، فيتضرر الزوج بترك خدمته، فلدفع الضرر والحرج أسقط الشرع الجمعة عن هؤلاء.
والأصل فيه قوله عليه السلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة إلا مسافر أو مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض» غير أن الإسلام والبلوغ والعقل شرائط الوجوب، والصحة والإقامة والحرية والذكورة شرائط الأداء، حتى أن المسافر والمملوك والمريض إذا حضروا الجمعة وأدوها جازت، وكانت فريضة؛ لأن سقوط فرض السعي منهم للضرر والحرج، فإذا تحملوها التحقوا في الأداء بغيرهم.
ومما يتصل بهذه الشروط من المسائل:
روى إبراهيم عن محمد في نصراني استعمل على مصر أو استقضي، ثم أسلم ليس له أن يصلي بالناس الجمعة، ولا أن يحكم حتى يؤمر بعد إسلامه، وكذلك الصبي، ولو قال الخليفة للنصراني: إذا أسلمت تصلي بالناس الجمعة، لو قال للصبي: إذا أدركت تصلي بهم الجمعة، ثم أسلم النصراني وأدرك الصبي، وصلى بهم الجمعة جاز.
وقد ذكرنا بعد هذا عن (فتاوى أهل سمرقند): أن الإمام إذا أمر الصبي أو النصراني على بلدة وفوض إليه أمر الجمعة، ثم أسلم النصراني، وأدرك الصبي صلى بهم الجمعة جاز، وهذه الرواية بخلاف ما ذكرنا ثمة.
وفي (النوازل): العبد إذا ظهر على ناحية، فصلى بهم الجمعة جاز، ولكن لا تجوز الأنكحة بتزويجة كالقضاء، وليس على المقعد الجمعة بالإجماع وكذلك لا جمعة على الأعمى وإن وجد قائدًا، عند أبي حنيفة، وعندهما عليه الجمعة إذا وجد قائدًا.
والفرق لهما بين المقعد والأعمى: أن الأعمى قادر على السعي إلا أنه لا يهتدي، فإذا وجد قائدًا فقد وجد من يهتدي به، فهو بمنزلة الصحيح إذا ضل الطريق، فأما المقعد فغير قادر عليه أصلًا.
وفي (نوادر هشام): عن محمد أنه لا جمعة على الأعمى، وإن وجد قائدًا، والشيخ الكبير الذي ضعف، وعجز عن السعي لا تلزمه الجمعة كالمريض، وعلى المكاتب الجمعة، وكذلك على معتق البعض إذا كان يسعى فلا جمعة على العبد المأذون، وعلى العبد الذي يؤدي الضريبة.
قال في (الأصل): وللمولى أن يمنع عبده من حضور الجمعة، ولا يكره له التخلف عنها؛ لأنه لم تكتب عليه، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في (الكتاب) محمول على ما إذا لم يأذن له المولى، أما إذا أذن له المولى، فتخلف عنها يكره كما في الحر.
قال رحمه الله: وهذا موضع اختلاف، وقد تكلم الناس فيه، قال بعضهم: له أن يتخلف عنها وإذا أذن له المولى بها.
وقال بعضهم: ليس له أن يتخلف عنها؛ لأن المولى لو أمره بخدمة نفسه يلزمه طاعته، فإذا أمره بخدمة الله تعالى أولى.
وذكر شيخ الإسلام في (شرحه): إذا أذن المولى للعبد في حضور الجمعة كان له أن يشهد الجمعة؛ لأن المنع كان حق المولى، وقد أبطل المولى حقه بالإذن، فكان له أن يشهدها، ولكن لا يجب عليه ذلك؛ لأن منافع العبد لم تصر مملوكة للعبد بإذن المولى فالحال بعد الإذن كالحال قبله.
قال في (الأصل) أيضًا: ولا ينبغي له أن يصلي الجمعة بغير إذن مولاه، قال بعض مشايخنا: إنما لا يصلي الجمعة بغير إذن مولاه إذا علم أنه لو استأذن منه في ذلك كره، أما إذا علم أنه لو استأذن منه في ذلك رضي له وأذن له لا يتخلف عنها.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وهكذا قالوا في المرأة إذا أرادت أن تصوم تطوعًا بغير إذن زوجها إن علمت أنها لو استأذنت منه أذن لها، ولم يكره تصوم، وإن علمت أنها لو استأذنت منه يكره ولا يرضى، فلا تصوم، وذكر شمس الأئمة الحلواني السرخسي رحمه الله اختلاف المشايخ في العبد يحضر مع مولاه المسجد الجامع ليحفظ دابته على باب الجامع، هل له أن يصلي الجمعة؟ قال رحمه الله: والأصح أن له ذلك إذا كان لا يخل بحق مولاه في إمساك دابته، وروي عن محمد أن له أن لا يصلي الجمعة، وإن تمكن من ذلك، وأذن له السيد في أدائها، وإذا قدم المسافر المصر يوم الجمعة على عزم أن لا يخرج يوم الجمعة لا تلزمه الجمعة ما لم ينوِ الإقامة خمسة عشر يومًا.
ومما يتصل بهذه المسائل:
ما حكي عن الشيخ الإمام أبي حفص الكبير رحمه الله: أن للمستأجر أن يمنع الأجير من حضور الجمعة، وكان الفقيه أبو علي الدقاق رحمه الله يقول: ليس له أن يمنع الأجير في المصر من حضور الجمعة لكن يسقط عنه الأجر بقدر اشتغاله بالصلاة بذلك إن كان بعيدًا، وإن كان قريبًا لا يحط عنه شيء من الأجر وإن كان بعيدًا، واشتغل قدر ربع النهار حط ربع الأجر، وليس للآجر أن يطالبه من الربع المحطوط بمقدار اشتغاله بالصلاة.
الإمام إذ منع أهل مصر أن يجمعوا، حكي عن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه إذا نهاهم مجتهدًا بسبب من الأسباب، أو أراد أن يخرج ذلك الموضع من أن يكون مصرًا لم يجمعوا، فأما إذا نهاهم متعنتًا، أو إضرارًا بهم، فلهم أن يجتمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة، ولو أن إمام مصر مصلٍ ثم نفر الناس عنه لخوف عدو وما أشبه ذلك ثم عادوا إليه، فإنهم لا يجمعون إلا بإذن مستأنف من الإمام.
القروي إذا دخل المصر يوم الجمعة تلزمه الجمعة، وإن نوى أن يخرج من المصر في يومه ذلك قبل دخول وقت الصلاة أو بعد دخول وقت الصلاة، فلا جمعة عليه؛ لأن في الوجه الأول صار كواحد من أهل المصر، وفي الوجه الثاني لا، والله أعلم بالصواب.

.نوع آخر في الرجل يصلي الظهر يوم الجمعة يتوجه إلى الجمعة أو لا يتوجه:

يجب أن نعلم أن الكلام هاهنا في فصول:
أحدها: في جواز الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة.
والثاني: في الكراهة.
والثالث: في الانتقاض إذا خرج يريد الجمعة، أما الكلام في الجواز فنقول: بجواز أداء الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأن أصل الفرض الظهر لما مر قبل هذا، وأما الكلام في الكراهة فنقول: يكره أداء الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة؛ لأنه مأمور بأداء الجمعة وبإسقاط الظهر بالجمعة، فإذا صلى الظهر قبل فراغ الإمام، فقد خالف أمر الشرع فلهذا يكره، وهذا بخلاف ما بعد فراغ الإمام من الجمعة، فإن بعد فراغ الإمام من الجمعة سقط عنه الأمر بإقامة الجمعة ولزمه أداء الظهر فكان في أداء الظهر موافقًا أمر الشرع لا مخالفًا.
قال في (الأصل): وإن كان مريضًا يستحب له أن يؤخر الظهر إلى أن يفرغ الإمام من الجمعة، ولو لم يؤخر لا يكره، والصحيح المقيم يؤخر ولو لم يؤخر يكره.
والفرق: أن المريض مأمور بأداء الجمعة لكن استحب التأخير؛ لأنه يرجى على إقامة الجمعة بزوال المرض ساعة فساعة فلا يصير بأداء الظهر مخالفًا أمر الشرع، ولا كذلك الصحيح.
وأما الكلام في انتقاض الظهر إذا خرج يريد الجمعة به، فاعلم بأن هذا الفصل على وجهين: إما إن أدرك الجمعة مع الإمام، أو لم يدرك، فإن أدركها مع الإمام ينتقض ظهره عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، المعذور نحو العبد والمسافر والمريض، وغير المعذور في ذلك على السواء، حتى لو بطلت الجمعة بوجه ما كان عليه إعادة الظهر.
وقال زفر رحمه الله في المعذور: لا ينتقض ظهره هو يقول: بأن فرض المعذور الظهر، وقد صح حين أداه في وقته فلا ينتقض بغيره.
وجه قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله: أن المعذور إنما فارق غير المعذور في حق الترخيص بترك السعي إلى الجمعة فإذا سعى التحق بغير المعذور، وأما إذا لم يدرك الجمعة مع الإمام فهذه المسألة على وجهين:
إما إن خرج من بيته والإمام قد فرغ من الجمعة أو خرج من بيته والإمام في الجمعة، فقبل أن يصل إلى الإمام فرغ الإمام من الجمعة، ففي الفصل الأول لا ينتقض ظهره بالإجماع، وفي الفصل الثاني اختلاف.
قال أبو حنيفة رحمه الله: ينتقض ظهره، وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينتقض، وهو المذكور في (الجامع الصغير)، وعلى هذا الخلاف: إذا وصل الإمام والإمام في الجمعة إلا أنه لم يحرم للجمعة حتى سلم الإمام، ولو خرج لا يريد الجمعة لا ينتقض ظهره بالإجماع.
حجتهما: أن في المسألة المختلفة أنه مأمور بنقض ظهره ضرورة أداء الجمعة لا مقصودًا؛ لأن نقض العبادات مقصودًا حرام؛ فإن وجه الأداء ينتقض الظهر، وما لا فلا، ولا يمكن أن يجعل السعي إلى الجمعة كمباشرة الجمعة في حق نقض الظهر.
ألا ترى أن من أحرم بالحج والعمرة يؤمر بتقديم أعمال العمرة، فلو أنه قدم أعمال الحج، ووقف بعرفة يصير رافضًا لعمرته، ولو سار إلى عرفات لا يصير بمجرد السير رافضًا لعمرته.
ألا ترى أنه لم يجعل السعي إلى الوقوف بعرفات بمنزلة الوقوف في حق رفض العمرة كذا في مسألتنا، ولأبي حنيفة أن الأمر كما قالا: إنه مأمور بنقض الظهر، ضرورة أداء الجمعة، إلا أن السعي من خصائص الجمعة، ألا ترى أنه أمر به في الجمعة دون سائر الصلوات؟ فيقام مقام أداء الجمعة في موضع الاحتياط، وإعادة ما صلى من باب الاحتياط.
وأما مسألة القارن فقد قيل: إنه قولهما، فأما عند أبي حنيفة رحمه الله، فالجواب في المسألتين هو أنه تنتقض العمرة بالسعي إلى الوقوف كما ينتقض الظهر هنا.
وقيل: في مسألة القارن القياس على قول أبي حنيفة رحمه الله: ترتفض عمرته، وفي الاستحسان: لا ترتفض، ووجه الفرق على جواز الاستحسان على قول هذا القائل أن السعي إلى عرفات قبل أعمال العمرة منهي عنه؛ لأن بالوقوف بعرفات يصير رافضًا لعمرته، ورفض العمرة منهي عنه، فلا يقام السعي إلى عرفات مقام الوقوف إعلامًا للنهي، أما السعي إلى الجمعة ليس منهي عنه، بل هو مأمور به، وإنه من خصائص الجمعة، فجاز أن يقام مقام أداء الجمعة في حق نقض الظهر احتياطًا والله أعلم.

.نوع آخر في الرجل يريد السفر يوم الجمعة:

وإنه على وجهين: إن كان الخروج قبل الزوال فلا بأس به بلا خلاف؛ لأن الجمعة لا تجب قبل الزوال فلا يصير بالخروج تاركًا فرضًا، وصار الخروج قبل الزوال، وليس فيه ترك فرض، نظير الخروج يوم الخميس، وإن كان الخروج بعد الزوال، فإن كان يمكنه أن يخرج من مصره قبل خروج وقت الظهر، فإنه لا بأس به بالخروج قبل إقامة الجمعة، وإن كان لا يمكنه أن يخرج من مصره قبل خروج وقت الجمعة، فلا ينبغي له أن يخرج، بل يشهد الجمعة ثم يخرج.
وهذه المسألة لا توجد بهذا التفصيل إلا في (السير): وهذا بناءً إلى أصل معروف لنا أن وجوب الصلاة وسقوطها يتعلق بآخر الوقت، فمتى كان لا يخرج وقت الظهر قبل خروجه من المصر، فهو صار مسافرًا في آخر الوقت ولا جمعة على المسافر، ولا يصير تارك فرض وإذا كان يخرج وقت الظهر قبل خروجه من مصره كان مقيمًا في آخر الوقت، وهو في المصر وكان عليه إقامة الجمعة، فيصير بالخروج تاركًا فرضًا، فلا يباح له الخروج.
قال مشايخنا رحمهم الله: وعلى قياس هذه المسألة يجب أن يكون الجواب على التفصيل متى لم يخرج للسفر، ولكن خرج بعد الزوال قبل إقامة الجمعة إلى موضع لا يجب على أهل ذلك الموضع الجمعة، هل يباح له ذلك؟ إن كان يخرج وقت الظهر قبل أن ينتهي إلى ذلك الموضع لا يباح له ذلك؛ لأنه يكون تاركًا فرضًا، وإن كان لا يخرج وقت الظهر إلا بعد أن ينتهي إلى ذلك الموضع يباح له ذلك؛ لأنه لا يصير تارك فرض؛ لأن العبرة لآخر الوقت.
حكي عن الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: أنه كان يقول عندي في جواب أصل المسألة إشكال، وجهه: أن اعتبار آخر الوقت إنما يكون فيما ينفرد هو بأدائه وهو سائر الصلوات، فأما الجمعة لا ينفرد هو بأدائها، وإنما يؤديها مع الإمام والناس، فينبغي أن يعتبر وقت أدائهم حتى إذا كان لا يخرج من المصر قبل أداء الناس الجمعة ينبغي أن يلزمه شهود الجمعة.
الرستاقي إذا سعى يوم الجمعة إلى المصر يريد إقامة الجمعة، وإقامة حوائج له في المصر ومعظم مقصوده إقامة الجمعة ينال ثواب السعي، إلى الجمعة، وإذا كان قصده إقامة الحوائج لا غير أو كان معظم مقصوده إقامة الحوائج لا ينال ثواب السعي إلى الجمعة، إذا أدرك الإمام في الجمعة بعدما قعد قدر التشهد، فعن محمد وزفر: أنه يصلي أربعًا بتحريمة الجمعة، ولا يستقبل التكبير بخلاف الإمام، إذا دخل عليه وقت العصر وهو في الجمعة، فإنه يستقبل التكبير للظهر، قال الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص رحمة الله عليه: قلت لمحمد رحمه الله: يصير مؤديًا الظهر بتحريمة الجمعة؟ فقال: ما تصنع وقد جاءت به الآثار.

.نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات:

إذا تذكر يوم الجمعة والإمام في الخطبة أنه لم يصل الفجر، فإنه يقوم يصلي الفجر، ولا يستمع الخطبة؛ لأنه لو استمع وقضى الفجر بعدها تفوت الجمعة، إذا صلى السنّة التي بعد الجمعة بنية الظهر، ينبغي أن يقرأ في جميع الركعات، وإذا صلى الإمام ركعة من الجمعة ثم أحدث خرج من المسجد، ولم يقدم أحدًا، فقدم الناس رجلًا قبل أن يخرج الإمام من المسجد، جاز ضرورة إصلاح صلاتهم، فإن تكلم المقدم أو ضحك قهقهة، فأمر غيره أن يجمع بهم لا يجوز، لأن الإمام لم يفوض إليه لكن استحسنا أن يبني على صلاة الإمام، ضرورة إصلاح صلاتهم فإذا خرج عن صلاة الإمام لم يبق إمامًا.
ولو اقتدى رجل بالإمام يوم الجمعة ونوى صلاة الإمام إلا أنه يحسب أنه يصلي الجمعة، فإذا هو يصلي الظهر جاز ظهره معه وإن اقتدى به ونوى عند التكبير أن يصلي معه الجمعة، فإذا هو يصلي الظهر لا يجزئه الظهر معه؛ لأن في الوجه الأول نوى صلاة الإمام وحسب أنها جمعة، فصحت نيته الصلاة معه وبطل بالحسبان، أما في الوجه الثاني نوى أن يصلي الجمعة فإذا تبين أن الإمام يصلي الظهر تبين أنه لم يصح الاقتداء.
إذا حضر الرجل يوم الجمعة والمسجد ملآن يتخطى يؤذي الناس لم يتخط، وإن كان لا يؤذي أحدًا بأن لا يطأ ثوبًا ولا جسدًا لا بأس بأن يتخطى ويدنو من الإمام، وذكر الفقيه أبو جعفر رحمه الله عن أصحابنا رحمهم الله: أنه لا بأس بالتخطي ما لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويكره إذا أخذ؛ لأن للمسلم أن يتقدم ويدنو من المحراب إذا لم يكن الإمام في الخطبة، ليتسع المكان على من يجيء بعده، وينال فضل القرب من الإمام، فإذا لم يفعل الأول فقد ضيع ذلك المكان من غير عذر، فكان للذي جاء بعده أن يأخذ ذلك المكان.
أما من جاء والإمام يخطب فعليه أن يستقر في موضعه من المسجد؛ لأن مشيه وتقدمه عمل في حالة الخطبة، وروى هشام عن أبي يوسف أنه للناس بالتخطي ما لم يخرج الإمام، أو يؤذ أحدًا.
رجل لم يستطع يوم الجمعة أن يسجد على الأرض من الزحام فإنه ينتظر حتى يقوم الناس فإذا رأى فرجة سجد، وإن سجد على ظهر رجل أجزأه، وإن وجد فرجة فسجد على ظهر رجل لم يجز، وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمه الله.
وقال الحسن رحمه الله: لا يسجد على ظهر الرجال على كل حال.
رجل ركع ركوعين مع الإمام في الجمعة ولم يسجد لكثرة الزحام، حتى صلى الإمام ثم رأى فرجة، قال أبو حنيفة: يسجد سجدتين للركعة الأولى، وتلغى ركعته الثانية التي ركعها مع الإمام فلا يعتد به ثم يقوم، فيركع بعدما تمكن قائمًا، ولا يقرأ ويسجد سجدتين، وإن نوى حين يسجد للركعة الثانية، بطلت نيته وكانت السجدة للأولى، وقال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا على إحدى الروايتين عن علمائنا رحمهم الله.
فأما على الرواية الأخرى: السجدتان للثانية، وقال أبو حنيفة: إن ركع مع الإمام في الأولى ولم يسجد وركع معه في الثانية وسجد معه، فالثانية تامة ويقضي الأولى بركوع وسجود، ولو كان سجد مع الإمام في الركعة الأولى سجدة أجزأته الركعتان جميعًا؛ لأنه قيد الأولى بسجدة فيسجد للأولى سجدة أخرى ويسجد للثانية سجدتين ويتشهد، وإن لم يقدر على السجود مع الإمام في واحدة من الركعتين، فلما فرغ الإمام من سجدتي الركعة الثانية، وقعد سجد الرجل سجدتين يريد بهما اتباع الإمام في سجدتي الركعة الثانية، ثم تشهد الإمام وسلم، فإن نية الرجل باطلة والسجدتان للركعة الأولى، فتمت الأولى، وبطلت الركعة الثانية، فليقم وليصل الركعة الثانية، وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في (الرقيات).
وفي (النوادر) عن محمد: رجل ركع مع الإمام في صلاة الجمعة ولم يستطع أن يسجد لكثرة الزحام، حتى قام الإمام إلى الثانية وقرأ وركع، فركع هذا الرجل معه يريد اتباعه في الثانية وسجد معه، قال: هذا السجود للثانية ولا يقعد مع الإمام، فيقوم ويقضي الأولى بركوع وإن لم يركع مع الإمام في الثانية، ولكنه سجد معه ينوي اتباعه، لا تجزئه هذه السجدة من الركعتين، فإن انحط فسجد قبله ينوي اتباعه ثم أدرك الإمام فيها فهي للأولى، وكذلك إذا سجد بعدما رفع الإمام رأسه ينوي اتباعه في الثانية، وإن سجد مع الإمام في الثانية ينوي الأولى فهي للأولى وروى ابن سماعة عن أبي يوسف، نحو هذا.
قال محمد رحمه الله: ويكره أن يصلي الظهر يوم الجمعة في المصر بجماعة في سجن وغير سجن، هكذا روي عن علي رضي الله عنه، والمعنى فيه: أن المأمور به في حق من يسكن المصر في هذا الوقت شيآن، ترك الجماعة وشهود الجمعة، فأصحاب السجون قدروا على أحدها وهو ترك الجماعة، فيأتون بذلك ولو جوزنا للمعذور إقامة الظهر بالجماعة ربما يقتدي بهم غير المعذور، وفيه تقليل الناس في الجامع.
بخلاف القرى حيث يصلي أهلها الظهر بالجماعة؛ لأنه ليس على من يسكنها شهود الجمعة، فكان هذا اليوم في حقهم كسائر الأيام، والمسافرون إذا حضروا يوم الجمعة في مصر يصلون فرادى، وكذلك أهل المصر إذا فاتتهم الجمعة، وأهل السجن والمرضى تكره لهم الجماعة والمريض الذي لا يستطيع أن يشهد الجمعة، إذا صلى الظهر في بيته بغير أذان وإقامة أجزأه، وإن صلاها بأذان وإقامة فهو حسن؛ لأن هذا اليوم في حق المريض كسائر الأيام، من صلى الظهر في بيته إن صلاها بغير أذان وإقامة، فهو جائز وإن صلاها بأذن وإقامة فحسن كذا ها هنا.
وفي القدوري ومن فاتته الجمعة صلى الظهر بغير أذان ولا إقامة، وكذلك أهل السجن والمرضى والعبيد والمسافرون، ذكر الحاكم في المسافر مثلًا مسافر أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد صلى أربعًا بالتكبير الذي دخل به معه.
الغسل يوم الجمعة سنّة بالإجماع، والأصل فيه ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من السنّة الغسل يوم الجمعة»، واختلفوا في أن الغسل للصلاة أو للوقت ذكر الفضلي في (فتاويه)، عن أبي يوسف أن الغسل لليوم.
وفي (الأصل) و(الطحاوي) و(القدوري): أن الغسل عند أبي يوسف للصلاة، وعند الحسن لليوم وفي (العصام): أن الغسل على قول أبي يوسف لليوم، وعلى قول محمد للصلاة.
قال الفضلي في (كتابه): الاغتسال للصلاة لا لليوم؛ لإجماعهم على أنه لو اغتسل بعد الصلاة، لا يكون مقيمًا للسنّة، ولو كان الغسل لليوم، لصار مقيمًا للسنّة ولكن هذا ليس بصواب، فقد ذكر في (شرح الإسبيجابي) أن الغسل يقع سنة على قول من يقول: بأن الغسل سنّة اليوم، وإذا اغتسل بعد طلوع الفجر ثم أحدث وتوضأ، وصلى لم تكن صلاة بغسل، وإن لم يحدث حتى صلى كان صلاة بغسل، وهذا على قول من يقول بأن الغسل سنّة الصلاة.
الأذان المعتبر الذي يجب السعي عنده، ويحرم البيع للأذان عند الخطبة لا للأذان قبله؛ لأن ذلك لم يكن في زمن النبي عليه السلام، هكذا ذكر في (النوازل): وفي (شرح الطحاوي) وذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله: أن الصحيح أن المعتبر هو الأذان الأول بعد دخول الوقت، وبه كان يفتي الفقيه أبو القاسم البلخي رحمه الله، وقال الحسن بن زياد: الأذان على المنارة هو الأصل، قال صاحب (شرح الطحاوي): الأذان قبل التطوع وعلى المنارة محدث، وزيادة إعلام لمصلحة الناس.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: رجل جالس على الغداء يوم الجمعة، فسمع النداء إن خاف أن تفوته الجمعة، فليحضرها بخلاف سائر الصلوات؛ لأن الجمعة تفوت على الوقت أصلًا وسائر الصلوات لا، وزان مسألتنا من سائر الصلوات إذا خاف ذهاب الوقت في سائر الصلوات، وهناك يترك الطعام ويصلي في وقتها كذا ها هنا.
ذكر الحاكم في (المنتقى): مرسلًا أمير أمر إنسانًا أن يصلي بالناس الجمعة في المسجد الجامع وانطلق إلى حاجة له، ثم دخل المصر ودخل بعض المساجد وصلى الجمعة لا يجزئه إلا أن يكون علم الناس بذلك كله، فهذا كالجمعة في موضعين وإنه جائز به ورد الأثر عن علي رضي الله عنه، وإن خرج الإمام يوم الجمعة للاستسقاء، وخرج معه ناس كثير وخلف إنسانًا يصلي بهم الجمعة في المسجد الجامع، فلما حضرت الصلاة صلى بهم الجمعة في الجبانة، وهو على غلوة من المصر وصلى خليفته في المسجد الجامع يجزئهما، ودلت المسألة على أن الجمعة في الجبانة جائزة.
ويقرأ في الجمعة بأي سورة شاء ولا يقصد سورة بعينها يديم قراءتها، والكلام في الجمعة نظير الكلام في سائر الصلوات، وفي أي حال أدرك الإمام، دخل معه، وأجزأه عن الجمعة وكذا إذا أدركه في سجدتي السهو وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
وقال محمد: لا تجزئه الجمعة حتى يدرك ركعة كاملة، لما روي عن رسول الله عليه السلام، أنه قال: «من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فقد أدركها»، ومن أدرك ما دونها صلى أربعًا ولهما قوله عليه السلام: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» وهذا عام في الصلوات كلها، ومذهبهما مثل مذهب ابن مسعود، ومعاذ، ثم عند محمد إذا لم تجز الجمعة يصلي أربعًا يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، وهل تجب عليه القعدة الأولى؟ حكى الطحاوي عنه وجوب القعدة الأولى؛ لوجوبها على الإمام، وحكى عنه المعلى أنها لا تجب؛ لأنه يصلي الظهر في حالة البداء والله أعلم بالصواب.

.الفصل السادس والعشرون في صلاة العيدين:

الأصل في صلاة العيد قول الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] جاء في التفسير: أن المراد منه صلاة العيد، والآثار قد اتفقت، وتواترت أن رسول الله عليه السلام كان يصلي صلاة العيد، وروى أنس بن مالك «أن رسول الله عليه السلام قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما»، فقال عليه السلام: «لقد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما الفطر، والأضحى» والأمة أجمعت على إقامتها من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من غير نكير منكر.
وهذا الفصل يشتمل على أنواع:

.نوع منها في بيان صفتها:

فنقول: روى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: وتجب صلاة العيدين على من تجب الجمعة، فهذا يدل على وجوبها.
وذكر في (الجامع الصغير): في العيدين اجتمعا في يوم فالأولى سنّة والثانية فريضة، وأراد بالأول صلاة العيد وبالثاني صلاة الجمعة، فقد سمّى صلاة العيد ها هنا سنّة، وقال محمد رحمه الله في (كتاب الصلاة): لا يقام شيء من التطوع بجماعة ما خلا التراويح في رمضان، وكسوف الشمس، وصلاة العيدين تؤدى بجماعة لو كان صلاة العيد تطوعًا لقال ما خلا التراويح في رمضان وكسوف الشمس وصلاة العيدين.
فمن مشايخنا من قال: في المسألة روايتان في إحدى الروايتين هي واجبة، وفي إحدى الروايتين هي سنّة، وجه الرواية التي قال بأنها سنة قوله عليه السلام: «ثلاث كتبت عليّ وهي لكم سنّة الوتر، والضحى، والأضحى» وصلاة العيد وصلاة الضحى؛ لأنها تقام عند الضحى؛ فتكون سنّة؛ ولأنها لو كانت واجبة لشرع فيها الأذان والإقامة كسائر الصلوات الواجبات.
وجه الرواية التي قال: بأنها واجبة قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] والمراد منه صلاة العيد، فقد أمر الله تعالى به، والأمر للوجوب، ولا حجة له في الحديث الذي روى؛ لأن الضحى متى أطلق يريد به صلاة الضحى لا صلاة العيد، وصلاة الضحى في سائر الأيام سنّة عندنا.
وقوله: ليس فيها أذان، ولا إقامة، قلنا: هذا لا يدل على عدم الوجوب، ألا ترى أنه لا أذان للوتر ولا إقامة، وإنها واجبة عند أبي حنيفة رحمه الله على أصح الروايات، وكذلك صلاة الجنازة ليس لها أذان ولا إقامة، وإنها واجبة وعامة المشايخ على أن المذهب أنها واجبة.
وتأويل ما ذكر في (الجامع الصغير): أنها سنّة أن وجوبها ثبت بالسنّة لا بالكتاب، وذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في (شرح كتاب الصلاة) أن الأظهر أنها سنّة، لكنها من معالم الدين أخذها هدى وتركها ضلالة.
وفي (نوادر بشر): عن أبي يوسف صلاة العيد سنّة واجبة، فقد جمع بين صفة الوجوب والسنّة، واختلفوا في بيانه، بعضهم قالوا: أراد بالسنّة الطريقة، فمعناه وجوب صلاة العيد طريقة مستقيمة ظاهرة، وبعضهم قالوا: أراد بيان الطريق الذي عرفنا وجوبه، فإن وجوب صلاة العيد ما عرف إلا بالسنّة.

.نوع آخر في بيان وقتها:

فنقول: أول وقتها من حين تبيض الشمس، وانتهاؤها من حين تزول الشمس، أما أول وقتها فلما روي «أن النبي عليه السلام كان يصلي العيد والشمس على قدر رمح أو رمحين»، وأما آخر وقتها فلما روي «أن قومًا شهدوا عند رسول الله عليه السلام برؤية الهلال في آخر يوم من رمضان، فأمر رسول الله عليه السلام بالخروج إلى المصلى من الغد للصلاة» ولو جاز الأداء بعد الزوال لم يكن للتأخير معنى، فإن تركها في اليوم الأول في عيد الفطر لغير عذر حتى زالت الشمس لم يصل من الغد، وإن كان لعذر صلى من الغد فإن ترك من الغد لم يصل بعده.
والقياس: أنها إذا فاتت عن وقتها لا تقضى كما في الجمعة، وإنما ترك القياس بالنص، والنص إنما ورد في التأخير إلى اليوم الثاني بسبب العذر، فما عداه يرد إلى ما يقتضيه القياس، وأما في الأضحى إن تركها في اليوم الأول لعذر أو لغير عذر صلى في اليوم الثاني، فإن لم يفعل ففي اليوم الثالث، فإن لم يفعل فقد فات، ولا يفعل بعد ذلك؛ لأن هذه صلاة عيد الأضحى، فتكون مؤقتة بأيام الأضحى وأيام الأضحى ثلاثة.

.نوع آخر في بيان كيفيتها:

قال أصحابنا رحمهم الله: في ظاهر الرواية التكبيرات في الفطر والأضحى سواء يكبر الإمام في كل صلاة تسع تكبيرات، ثلاث أصليات: تكبيرة الافتتاح وتكبيرتا الركوع، وست زوائد ثلاث في الأولى، وثلاث في الثانية، ويقدم التكبيرات على القراءة في الركعة الأولى ويقدم القراءة على التكبيرات في الركعة الثانية، وهذا قول عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وعقبة بن عمر الجهني، وأبي موسى الأشعري، وأبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، والبراء بن عازب، وأبي مسعود الأنصاري رضوان الله عليهم أجمعين.
وعن علي رضي الله عنه ثلاث روايات في رواية إحدى عشر تكبيرة في العيدين جميعًا ثلاث أصليات كما بينا، وثمان زوائد أربع في الركعة الأولى، وأربع في الثانية في كل عيد، وفي رواية ثمان تكبيرات ثلاث أصليات، وخمس زوائد: ثلاث في الركعة الأولى واثنتان في الركعة الثانية في العيدين جميعًا.
وفي الرواية الثالثة: وهو المشهور عنه فرق بين عيد الفطر، والأضحى، فقال: في عيد الفطر يكبر إحدى عشر تكبيرة في الركعتين، ثلاث أصليات، وثمان زوائد أربع في الأولى وأربع في الثانية، وفي عيد الأضحى يكبر خمس تكبيرات في الركعتين ثلاث أصليات واثنتان زائدتان واحدة في الركعة الأولى، وواحدة في الركعة الثانية ومن مذهبه أنه يقدم القراءة على التكبيرات في الركعتين في العيدين جميعًا.
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما خمس روايات: في رواية سبع تكبيرات ثلاث أصليات، وأربع زوائد في كل ركعة تكبيرتين في العيدين جميعًا، وفي رواية كما قال ابن مسعود رضي الله عنه والمشهور عنه روايتان في رواية ثلاث عشر تكبيرة ثلاث أصليات، وعشر زوائد خمس في الركعة الأولى وخمس في الثانية وعليه عمل الناس اليوم في عيد الفطر.
وفي رواية اثنتا عشر تكبيرة ثلاث أصليات وتسع زوائد خمس في الركعة الأولى وأربع في الثانية، وهو قول الشافعي رحمه الله ورواية عن أبي يوسف وعليه عمل الناس اليوم في عيد الأضحى، ويقدم التكبيرات على القراءة في الروايتين المشهورتين عنه.
وعن أبي بكر الصديق رحمه الله: أنه يكبر خمسة عشرة تكبيرة في كل صلاة ثلاث أصليات وثنتي عشرة زوائد ست في الأولى، وست في الثانية وهي الرواية المشهورة عن عمر رضي الله عنه، وفي رواية شاذة عن أبي بكر رضي الله عنه يكبر في كل صلاة ست عشر تكبيرة ثلاث أصليات وثلاث عشر زوائد سبع في الأولى، وست في الثانية، فقد اختلفوا في عدد التكبيرات.
وموضعها، على نحو ما بينا فيحمل اختلافهم على اختلاف فعل رسول الله عليه السلام في صلاة العيد، لأن المقادير في العبادات لا تثبت قياسًا كأصلها وإنما تثبت توقيفًا وسماعًا، فحمل ما روي عن واحد منهم على أنه رأى رسول الله عليه السلام فعل ذلك، ولم يثبت عنده نسخ ذلك، فصار المروي عنهم كالمروي عن رسول الله عليه السلام، فيجب ترجيح بعض الأقوال على البعض، لما جهل التاريخ.
فالشافعي رحمه الله رجح ما اشتهر عن أبي بكر، وابن عباس رضي الله عنهم أخذًا بالأكثر احتياطًا.
وأصحابنا رجحوا قول ابن مسعود رضي الله عنه في العدد، وفي الموضع أما في العدد؛ لأنه لا تردد في قوله، ولا اضطراب، فإنه قال قولًا واحدًا وفي أقوال غيره تعارض واضطراب، فكان قوله أثبت؛ ولأن قوله ينفي الزيادة على التسع، وأقوال غيره تثبت والنفي موافق القياس؛ إذ القياس ينفي إدخال زيادة للأذكار في الصلاة، قياسًا على غيرها من الصلوات، والإثبات مخالف للقياس.
ولا شك أن الأخذ بالموافق للقياس أولى، ولأن الجهر بالتكبير وهو ذكر مخالف للمنصوص والأصول، فالأخذ بما اتفقت الأقاويل عليه، وهو متيقن أولى؛ ولأن ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه أشهر، فإنه عمل به جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على نحو ما بينا، فكان الأخذ به أولى، وإذا وجب ترجيح قول ابن مسعود رضي الله عنه في العدد وجب ترجيحه في الموضع؛ لأن الرواية واحدة إلا أن الناس يعملون اليوم على مذهب ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأن الخلافة لأولاده وهم أخذوا على الولاة وكتبوا في مناشيرهم أن يصلوا صلاة العيد على مذهب جدهم.
وهو تأويل ما روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قدم بغداد، فصلى بالناس صلاة العيد، وخلفه هارون الرشيد، فكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، وكذا روي عن محمد رحمه الله أنه فعل ذلك فتأويله أن هارون أخذ عليهما، وأمرهما أن يكبرا تكبيرة جده، ففعلا ذلك امتثالًا لأمره، وإظهارًا لمتابعته لا مذهبًا واعتقادًا، ثم عملوا برواية الزيادة في عيد الفطر وبرواية النقصان في عيد الأضحى، ليكون عملًا بالروايتين، وإنما اختاروا رواية النقصان لعيد الأضحى لاشتغال الناس بالقرابين فيه.
ويقدم الثناء على تكبيرات العيد في ظاهر الرواية، وروى ابن كاس عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يقدم تكبيرات العيد على الثناء.
وجه هذه الرواية: أن سبيل تكبيرات العيد في الركعة الأولى أن تكون مضمومة إلى تكبيرة الافتتاح، وهذا أوجب تقديم التكبيرات على القراءة، كيلا تصير القراءة فاصلة بين تكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيد، وإنما تصير مضمومة، إلى تكبيرة الافتتاح إذا قدمنا التكبيرات على الثناء.
وجه ظاهر الرواية: أن لو قدمنا التكبيرات على الثناء يفوت الثناء عن محله أصلًا؛ لأن محله عقيب تكبيرة الافتتاح، بلا فصل كما في سائر الصلوات، ولو قدمنا الثناء على التكبيرات لا يفرق التكبيرات عن محلها، لأن ما بعد تكبيرة الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع محل التكبيرات العيد.
ألا ترى أن المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع فإنه يأتي بتكبيرات العيد في الركوع، وبعد ما رفع رأسه من الركوع لا يأتي به؟ فدل على أن ما بعد تكبيرة الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع محل التكبيرات العيد، فلو قدمنا الثناء على التكبيرات لا تفوت التكبيرات عن محلها، ولو قدمنا التكبيرات على الثناء فات الثناء عن محله، فكان تقديم الثناء أولى.
قوله: فإنه يفوت الضم في حق التكبيرات، قلنا: كما يفوت الضم في حق التكبيرات يفوت قي حق الثناء إذا قدم التكبيرات على الثناء؛ لأن سبيل الثناء أن يكون مضمومًا إلى تكبيرة الافتتاح، فإذا هو يستويان في حق تفويت الضم، ثم بتقدم الثناء على التكبيرات، لا يفوت التكبيرات عن محلها ووقتها كما ذكرنا، وبتقديم التكبيرات على الثناء يفوت الثناء عن محلها فصار تقديم الثناء أولى.
قال أبو يوسف رحمه الله: يكبر تكبيرة الافتتاح ثم يأتي بالثناء ثم يتعوذ ثم يكبر تكبيرات العيد، وقال محمد رحمه الله: يتعوذ بعد تكبيرات العيد، وبه قال الشافعي رحمه الله ذكر الاختلاف في (الزيادات) ولم يذكر هناك قول أبي حنيفة رحمه الله وروى ابن كاس عن أبي حنيفة، وزفر مثل قول أبي يوسف، وهذا الاختلاف إنما يتأتى على ظاهر الرواية؛ لأن على ظاهر الرواية يقدم الثناء على تكبيرات العيد، أما على رواية ابن كاس يقدم تكبيرات العيد على الثناء، فيقع التعوذ بعد الثناء عند أبي يوسف رحمه الله.
ثم هذه المسألة بناءً على أصل أن التعوذ شرع للصلاة أم للقراءة؟ عند محمد رحمه الله شرع للقراءة، فلا جرم يأتي به وقت القراءة، ووقت القراءة بعد تكبيرات العيد، وعند أبي يوسف رحمه الله شرع للصلاة فلا جرم يأتي به بعد الثناء قبل تكبيرات العيد احتج محمد رحمه الله بالنص، وهو قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْءانَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَنِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] الله تعالى أمر بالتعوذ حال إرادة القراءة متصلًا بالقراءة؛ لأنه ذكر بحرف الفاء وحرف الفاء للوصل، وإذا أخر التعوذ عن التكبيرات يحصل الوصل بالقراءة، وإذا قدم على التكبيرات يفوت الوصل، فوجب أن يؤخر التعوذ عن التكبيرات حتى لا يفوت الوصل.
وأبو حنيفة، وأبو يوسف رحمهما الله؛ قالا: إن محل التعوذ عقيب الثناء، بلا فصل كما في سائر الصلوات، ومحل التكبيرات بعد الافتتاح إلى أن يرفع رأسه من الركوع، فلو قدمنا التكبيرات على التعوذ يفوت التعوذ عن محله، ولو قدمنا التعوذ على التكبيرات لا تفوت التكبيرت عن محلها، ولا التعوذ عن محله، فكان تقديم التعوذ وتأخير التكبيرات أولى، قوله سبيل التعوذ أن يكون متصلًا بالقراءة.
قلنا: وسبيله أن يكون متصلًا بالثناء أيضًا، فلو أخر التعوذ عن التكبيرات كما يفوت الاتصال بالقراءة يفوت الاتصال بالثناء، فكان تقديم التعوذ كيلا يفوت واحد منهم عن محله أولى من تقديم التكبيرات على التعوذ.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): يستحب المكث بين كل تكبيرتين مقدار ما يسبح ثلاث تسبيحات، وهذا؛ لأن صلاة العيد تقام بجمع عظيم وتوالي بين التكبيرات يشتبه على من كان نائبًا عن الإمام، والاشتباه يزول بهذا القدر من المكث، وليس بين التكبيرات ذكر مسنون عندنا؛ إذ لو كان بينهما ذكر مسنون، لكان أتى به النبي عليه السلام، ولو أتى به لوصل إلينا ولم ينقل.
ويرفع يديه في تكبيرات الزوائد في العيدين، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يرفع لحديث ابن مسعود رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام كان لا يرفع يديه في الصلاة إلا في تكبيرة الافتتاح».
وجه قولهما قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن، وذكر منها العيدين»؛ ولأن رفع اليدين في تكبيرة الافتتاح إنما شرع ليتم الإعلام؛ لأن الإعلام لا يتم بالجهر وحده؛ لأن خلفه أصم وأعمى، فالأعمى إن كان يعلم بجهر التكبير فالأصم لا يعلم إلا برفع اليدين.
فالشرع شرع رفع اليدين حتى يقع الإعلام على العموم، فكذا في تكبيرات العيد لا يقع الإعلام على العموم إلا بالجهر والرفع جميعًا بخلاف تكبيرات الركوع والسجود؛ لأن الإعلام على العموم يقع بالجهر، والانتقال من القيام إلى الركوع، فلا حاجة إلى رفع اليدين ليتم الإعلام وبخلاف تكبيرات الجنازة؛ لأنه شرع بين كل تكبيرتين ذكر مقدر، فإذا فرغ منها يعلم أنه جاء أوان الآخر، فلا حاجة إلى رفع اليدين كما في تكبيرات الركوع.
أما هنا ليس بين التكبيرتين ذكر مسنون مقدر حتى يعلم بالفراغ منه أنه جاء أوان الآخر، فيحتاج إلى رفع اليدين هنا ليتم الإعلام، وما قال الحسن أنه يسبح بين كل تكبيرتين مقدار ثلاث تسبيحات ليس بمقدر لازم، بل يتفاوت بكثرة القوم وبقلته لأن المقصود إزالة الاشتباه عن القوم، وذلك يختلف بكثرة القوم وقلتهم، وإذا صلى العيد خلف إمام لا يرى رفع اليدين عند تكبيرات الزوائد فقد قيل يرفع هو.

.نوع آخر في بيان شرائطها:

قال القدوري في (كتابه): تصح صلاة العيدين بما تصح به صلاة الجمعة إلا الخطبة، فإنها في العيد تفعل بعد الصلاة، وفي الجمعة قبل الصلاة، وقوله: وتصح صلاة العيدين بما تصح به الجمعة إشارة إلى اشتراط المصر والسلطان، والأصل فيه قول النبي عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر، ولا أضحى إلا في مصر جامع»، وروي عن النبي عليه السلام «أنه فتح مكة في رمضان وخرج منها إلى هوازن، فاتفق له العيد في سفره ولم يصل» ولو جاز إقامتها خارج المصر ما تركها، والمعنى الذي أوجب اعتبار السلطان في الجمعة من دفع الفتنة الموهومة، وقطع المنازعة موجود في العيد.
ثم قال: إلا الخطبة فإنها في العيد بعد الصلاة، وفي الجمعة قبل الصلاة، هكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا، وإن خطب في العيد أولًا ثم صلى أجزأه.
والأصل في ذلك ما روي: أن عمر رضي الله عنه ربما كان يخطب في العيد قبل الصلاة كيلا يذهب الناس، فيفوتهم ثواب الخطبة ومروان بن الحكم فعل كذلك، وصلى معه نفر من أصحاب رسول الله عليه السلام.
فرق بين العيد وبين الجمعة، فإن في الجمعة لو خطب آخرًا لا يجوز، والفرق: إنما يصير التغيير بالترك في الموضعين جميعًا، إلا أنه لو ترك الخطبة في صلاة الجمعة لا يجوز، فكذا إذا غير عن موضعها، ولو ترك الخطبة في صلاة العيد تجوز صلاة العيد، فكذا إذا غير عن موضعها والخطبة في العيدين كهي في الجمعة، يخطب خطبتين بينهما جلسة خفيفة كما في صلاة الجمعة، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ويقرأ فيها بسورة من القرآن ويستمع لها القوم؛ لأن الخطبة في العيد إنما شرعت؛ لتعليم ما يجب إقامته في هذا اليوم من صدقة الفطر، أو الأضحية، وإنما يحصل التعليم بالاستماع والإنصات، والخروج إلى الجبانة لصلاة العيد سنّة، وإن كان يسعهم المسجد الجامع على هذا عامة المشايخ.
وبعضهم قالوا: الخروج إلى الجبانة ليس سنّة، وإنما تعارف الناس ذلك لضيق المسجد، والصحيح ما عليه عامة المشايخ: أنهم لا يخرجون عن المصر، بل يقيمونها في فناء المصر؛ لأن المصر شرط جواز هذه الصلاة وفناء المصر من المصر.
ألا ترى أن أفنية البيوت كأجوافها فكذا فناء المصر كجوفه، أما ما زاد على فناء المصر ليس من المصر، فلهذا قال يقيمونها في فناء المصر ثم إذا خرج الإمام إلى الجبانة، لصلاة العيد وإن استخلف رجلًا يصلي بالضعفة في الجامع، فحسن كما فعل علي رضي الله عنه، فإنه روي أنه لما قدم الكوفة استخلف أبا موسى الأشعري رضي الله عنه ليصلي بالضعفة صلاة العيد في الجامع، وخرج إلى الجبانة مع خمسين شيخًا يمشي ويمشون، ولأنه راعى حق الأقوياء، فيراعي حق الضعفاء بأن يستخلف عليهم من يصلي بهم في الجامع كيلا تفوتهم صلاة العيد، وإن لم يفعل ذلك فلا شيء عليه؛ لأنه لم ينقل عن رسول الله عليه السلام أنه فعل ذلك.
وتجوز إقامة صلاة العيد في موضعين نص على هذا في (الأصل)، وهذا لما ذكرنا أن السنّة في صلاة العيد أن تقام خارج المصر بالجبانة، ولا يمكن للضعفاء الخروج إليها إلا بحرج عظيم، فجوزنا الإقامة في موضعين دفعًا للحرج.
وأما إقامتها في ثلاث مواضع، فعلى قول محمد يجوز وعلى قول أبي يوسف لا يجوز، ولا يخرج المنبر في العيدين؛ لأنه لم يخرج على عهد رسول الله عليه السلام ولا على عهد من بعده من الخلفاء، وأول من أخرج المنبر مروان، وقد أنكر عليه بعض الصحابة وروي أن النبي عليه السلام خطب على ناقته العضا، ووجهه إلى المسلمين.
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: من خطب على الدابة يكون قاعدًا ففيه دليل على أن الخطبة قاعدًا تجوز، وروي أنه عليه السلام خطب متكئًا على عنزته، وهو قائم وليس في هذا كله إخراج المنبر.
قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: وأما في زماننا إخراج المنبر لا بأس به؛ لأنه رآه المسلمون حسنًا وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إخراج المنبر يوم العيد حسن.
واختلف الناس في بناء المنبر في الجبانة في المصلى قال بعضهم: يكره ويخطب الإمام قائمًا على الأرض أو على دابته كما فعل رسول الله عليه السلام، وقال بعضهم: لا يكره.
ويجهر بالقراءة في العيدين هكذا روى نعمان البشير وأبو واقد الليثي وزيد بن أرقم عن رسول الله عليه السلام، وجرى التوارث هكذا فالتوارث حجة. وليس في العيدين أذان ولا إقامة هكذا جرى التوارث من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.

.نوع آخر في بيان من يجب عليه الخروج في العيدين:

قال محمد رحمه الله في (الأصل): والخروج في العيدين على أهل الأمصار والمدائن لا على أهل القرى والسواد. قال ثمة أيضًا: وليس على النساء خروج العيدين وكان ترخص لهن في ذلك قال: وقال أبو حنيفة: فأما اليوم فإني أكره لهن ذلك وأكره لهن شهود الجمعة وصلاة المكتوبة وإنما أرخص للعجوز الكبيرة أن تشهد العشاء والفجر والعيدين.
وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: يرخص للعجوز في حضور الصلوات كلها وفي الكسوف والاستسقاء. واعلم بأن النساء أمرن بالقران في البيوت قال الله تعالى: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصلاة وَءاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] ونهين عن الخروج قال الله تعالى: {وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَهِلِيَّةِ الاْولَى وَأَقِمْنَ الصلاة وَءاتِينَ الزَّكَوةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] الآية. أبيح لهن الخروج في الابتداء إلى الجماعات لقوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن إذا خرجن تفلات» أي غير متطيبات، ثم منعهن بعد ذلك لما في خروجهن من الفتنة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَخِرِينَ} [الحجر: 24] المتأخرين قيل في التفسير: الآية نزلت في شأن النسوة كان المنافقون يتأخرون حتى يطلعون على عورات النساء فمنعن بعد ذلك، وقال عليه السلام: «صلاة المرأة في دارها أفضل من صلاتها في مسجدها وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في دارها»، وعن عمر رضي الله عنه: أنه نهى النساء عن الخروج إلى المساجد فشكون إلى عائشة رضي الله عنها فقالت عائشة رضي الله عنها: لو علم النبي عليه السلام ما علم عمر ما أذن لكم في الخروج.
ثم تكلموا أن في زماننا هل يرخص لهن في الخروج أم لا؟ أما الصواب فلا يرخص لهن في الخروج في شيء من الصلوات عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: يباح لهن الخروج واحتج بقوله عليه السلام: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله». واحتج أصحابنا رحمه الله بنهي عمر رضي الله عنه عن الخروج لما رأى من الفتنة.
وأما العجائز من النساء يرخص لهن الخروج إلى صلاة الفجر، والمغرب، والعشاء والعيدين، ولا يرخص لهن الخروج إلى صلاة الظهر، والعصر، والجمعة في قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يرخص لهن في الصلوات كلها، وفي الكسوف والاستسقاء، هما احتجا وقالا: ليس في خروج العجائز فتنة فالناس قل ما يرغبون فيهن وقد كن خرجن إلى الجهاد مع رسول الله عليه السلام يداوين المرضى ويسقين الماء ويطبخن، ولهذا جاز للرجال مصافحتهن، ولهذا يرخص لهن الخروج إلى صلاة الفجر والمغرب والعيدين.
واحتج أبو حنيفة رحمه الله وقال: وقت الظهر والعصر وقت يكثر فيهما الفساق فالحريص منهم يرغب في العجائز، فيصير خروجهن سببًا للوقوع في الفتنة بخلاف الفجر، والمغرب، والعشاء، فإنه لا يكثر فيها الفساق بل الصلحاء يحضرون في هذه الصلوات؛ ولأن في صلاة الفجر والمغرب، والعشاء ظلمة الليل تحول بينها وبين نظر الرجال إليهن فلا يصير الخروج في هذه الحالة سببًا للوقوع في الفتنة.
بخلاف الظهر والعصر؛ لأنهما يؤديان في ضوء النهار فيقع بصر الرجال عليها، وبخلاف الجمعة فإنها تؤدى في المصر بجمع عظيم، ولكثرة ربما تصدم وتصتدم وفي ذلك فتنة؛ لأن العجوز إن كان لا يشتهيها شاب يشتهيها شيخ مثلها وربما تحمل فرط الشبق بالشاب على أن يشتهيها ويقصد أن يصدمها، فأما صلاة العيد تؤدى في الجبانة فيمكنها أن تعتزل ناحية عن الرجال كيلا تصدم. ثم إذا خرجن في العيد هل يصلين؟ روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: يصلين؛ لأن المقصود من الخروج الصلاة، وروى المعلى عن أبي يوسف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يصلين وإنما خروجهن لتكثير سواد المسلمين، جاء في حديث أم عطية: «كن النساء يخرجن مع رسول الله عليه السلام في العيدين حتى ذات الحيض» ومعلوم أن الحائض لا تصلي فعلمنا أن خروجهن لتكثير سواد المسلمين.
قال في (الأصل): وللمولى منع عبده من حضور العيدين، ولا يكره في العبد التخلف عنها؛ لأنها لم تكتب عليه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ذكر في (الكتاب) محمول على ما إذا لم يأذن المولى، فأما إذا أذن له المولى فتخلف عنها يكره كما في الحر.
قال رحمه الله: وهذا موضع اختلاف وقد تكلموا فيه، قال بعض مشايخنا: له أن يتخلف عنه وإن أذن له المولى، وقال بعضهم: ليس له أن يتخلف عنه لأن المولى لو أمره بخدمة نفسه كان عليه طاعته لا يسعه التخلف فإذا أمره بخدمة الله تعالى أولى.
وفي شرح شيخ الإسلام رحمه الله: إذا أذن المولى للعبد أن يشهد العيدين كان له أن يشهدها؛ لأن المنع كان لحق المولى وقد أبطل المولى حق نفسه لما أذن له أن يشهدها، ولكن لا يجب عليه؛ لأن منافع العبد لم تصر مملوكة له بالإذن فالحال بعد الأذن كالحال قبله، قال: فلا ينبغي أن يشهد العيدين بغير إذن مولاه.
قال بعض مشايخنا: إنما لا يشهد العيدين بغير إذن مولاه إذا علم أنه لو استأذن رضي بذلك وهو لا يتخلف عنها، وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله اختلاف المشايخ في العيد: إذا حضر مصلى العيد مع مولاه ليحفظ دابته هل له أن يصلي صلاة العيد بغير إذن المولى؟ قال رحمه الله:.....
مولاه في إمساك دابته، وروي عن محمد رحمه الله: أن له أن لا يصلي العيد وإن تمكن من ذلك وأذن له السيد بأدائها. والله أعلم بالصواب، وبه ختم النوع.

.نوع آخر:

قال محمد رحمه الله في (الجامع): إذا أدرك الرجل الإمام في الركوع في صلاة العيد فإنه يكبر تكبيرة الافتتاح قائمًا؛ لأن الافتتاح شرع في القيام المحض والركوع ليس بقيام محض بل هو قيام من وجه دون وجه فيأتي بكبيرة الافتتاح في محلها وهو القيام لا في الركوع كما في سائر الصلوات، ثم يأتي بتكبيرات العيد قائمًا إذا كان غالب رأيه أنه يدرك شيئًا من الركوع مع الإمام لأن المحل الأصلي للتكبيرات القيام المحض، والركوع ليس بقيام محض، فإذا كان يرجو إدراك شيء من الركوع لو أتى بالتكبيرات قائمًا فقد أمكنه الإتيان بالتكبيرات في محلها الأصلي من غير فوات الركوع فيأتي بها.
فإن قيل: متى أتى بها في حالة القيام تفوته المتابعة في بعض الركوع ومتى أتى بها في الركوع لا تفوته المتابعة في بعض الركوع ولا التكبيرات، فكان الإتيان بها في حالة الركوع أولى.
قلنا: لو لم يأت بها في حالة القيام تفوته التكبيرات أصلًا عند بعض العلماء وهو أبو يوسف والشافعي رحمه الله؛ لأن عندهما لا يأتى بتكبيرات العيد في حالة الركوع على ما نبين بعد هذا إن شاء الله.
ولو أتى بها في حالة القيام لا تفوته المتابعة في الركوع أصلًا بالإجماع، فكان هذا أولى، وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله، ومحمد رحمه الله يقول: لو أتى بالتكبيرات في حالة القيام تفوته المتابعة في بعض الركوع دون البعض، ولو أتى بها في حالة الركوع تفوت جميع التكبيرات عن محلها من كل وجه، فكان ما قلناه أولى.
فإن قيل: ينبغي أن لا يأتي بتكبيرات العيد هنا، لا في حالة القيام، ولا في حالة الركوع لأنه مسبوق في حق التكبيرات، لأنه حين أتى بها الإمام لم يكن هو في تحريمة الإمام، والمسبوق منهي عن قضاء ما سبق قبل فراغ الإمام.
قلنا: الشريعة القديمة أن يأتي المسبوق بقضاء ما سبق أولًا، ثم يتابع الإمام بعد ذلك إلى أن دخل معاذ على رسول الله عليه السلام، فوجده في الصلاة وقد سبقه بشيء منها وتابعه فيما أدركه، ثم قام بعدما فرغ رسول الله عليه السلام وقضى ما سبق به، فسأله النبي عليه السلام عن ذلك، فقال: كرهت أن أصادقك على حال ولا أبايعك، فقال عليه السلام: «سن لكم معاذ سنّة حسنة فاستنوا بها ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا» فانتسخ الاشتغال بقضاء ما سبق أولًا بهذا الحديث، وهذا الحديث في فائت يجب أداؤه لو أدركه مع الإمام، ولو فاته مع الإمام يجب قضاؤه، ألا ترى أنه قال: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا».
والتكبيرات إن كان يجب أداؤها لو أدركها مع الإمام لا يجب قضاؤها لو فاتت مع الإمام، لأنه لو قضاها إما أن يقضيه مع الركعة أم بدون الركعة، لا وجه إلى الأول؛ لأن فيه إدخال الزيادة في الصلاة، ولا وجه إلى الثاني؛ لأنها شرعت في قيام الركعة فلا يثبت الانتساخ في حق التكبيرات، فبقي الأمر في التكبيرات على الشريعة القديمة، هذا إذا كان يرجو إدراك شيء من الركوع مع الإمام لو أتى بتكبيرات العيد قائمًا، فأما إذا كان لا يرجو إدراك شيء من الركوع مع الإمام لو أتى شيئًا قائمًا، لا يأتي بتكبيرات العيد قائمًا لأن في الإتيان بها قائمًا؛ لأنه إذا أتى بها يرفع الإمام رأسه من الركوع فتفوته الركعة، ولا يجتزئ بهذه التكبيرات بل يجب عليه قضاء الركعة مع التكبيرات، فلا يأتي بها بل يركع حتى لا تفوته الركعة.
فإذا ركع يأتي بالتكبيرات في الركوع، ولا يأتي بالتسبيحات في قول أبي حنيفة رحمه الله، وعلى قياس قول أبي يوسف لا يأتي بالتكبيرات بل يأتي بالتسبيحات. ذكر الخلاف على هذا الوجه في (المنتقى)، فوجه قول أبي يوسف رحمه الله: أن هذا سنّة فاتت عن محلها؛ لأن محلها القيام، والركوع ليس بقيام؛ لأن القيام هو الاستواء، والركوع انحناء، وبين الاستواء والانحناء تنافي، والسنّة إذا فاتت عن محلها لا تقضى، ألا ترى لو أدركت الإمام في الركوع لا يأتي بالقراءة.
وكذا إذا أدرك الإمام في الركوع في الوتر لا يأتي بالقنوت، وطريقه ما قلنا؛ ولأن الركوع محل للتسبيحات، فلو اشتغل فيه بالتكبيرات تفوته التسبيحات، فكان الاشتغال بالتسبيحات والركوع جعل محلًا لها أولى. ولأبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله ما أشار إليه محمد رحمه الله في (الكتاب): إذ الركوع له حكم القيام، يريد بهذا والله أعلم أن الركوع أعطي له حكم القيام شرعًا حتى صار إدراك الركوع سببًا لإدراك القيام، قال عليه السلام: «من أدرك الإمام في الركوع فقد أدركها» أي أدرك الركعة، والركعة اسم للقيام والركوع والسجود علمنا أنه أعطي للركوع حكم القيام حتى صار إدراك الركوع سببًا لإدراك القيام.
ثم تكبيرات العيد يؤتى بها في حالة القيام، فكذا في حال ماله حكم القيام، بخلاف القراءة والقنوت وتكبيرة الركوع والثناء، فإنه لا يؤتى بها في الركوع؛ لأن الركوع ليس بقيام حقيقة؛ لأن القيام حقيقة هو الاستواء والركوع انحناء إلا أنه أعطي له حكم القيام شرعًا على ما مر.
فعملنا بالحكم في حق تكبيرات العيد، وعملنا بالحقيقة في حق غيرها لتكون عملًا بالحقيقة والحكم بقدر الإمكان، وإنما عملنا على هذا الوجه، ولم نعمل على العكس، لأنا لو عملنا بالحكم في حق القراءة، وقد نهينا عن القراءة في الركوع.
قال علي رضي الله عنه: «نهاني خليلي أن أقرأ في الركوع وأن أعتد بسجدة ما لم يتقدمها ركوع». فلزمنا العمل بالحكم في حق التكبيرات من طريق الأولى، لأن التكبيرات ليست بقراءة ولا لها شبهًا بالقراءة فتعطل العمل بالحقيقة، وكذلك متى عملنا بالحكم في حق الثناء وتكبيرة الركوع وهما سنّتان فلزمنا العمل بالحكم في حق تكبيرات العيد وهي واجبة من طريق الأولى على أنه لا رواية في الثناء عن محمد رحمه الله.
وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم على أنه يأتي بالثناء في حالة الركوع؛ لأن محل الثناء وهو القيام باقي، والثناء سنّة وتسبيحات الركوع أيضًا سنّة، فكان له أن يأتي بأيهما شاء، وكذلك متى عملنا بالحكم في حق القنوت.
والشرع نهانا عن القراءة في الركوع وللقنوت شبهًا بالقرآن، فإنه ذكر مؤلف منظوم كالقرآن، ولهذا اختلف الصحابة فيه، فأبي بن كعب كان يجعله من القرآن وكان يسميه... وكتب في مصحفه بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعيك إلى قوله: ونترك من يفجرك ثم كتب بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد إلى آخره، فلزمنا العمل بالحكم في حق التكبيرات؛ لأنها ليست بقراءة ولا لها شبهًا بالقراءة فتعطل العمل بالحقيقة، فعملنا على الوجه الذي قلنا: ليمكننا العمل بالحكم والحقيقة، وقوله: إن هذه سنّة فاتت عن محلها.
قلنا: لا نسلم بأنها فاتت عن محلها؛ وهذا لأن محلها عنده القيام والركوع، ولا نقول: بأن هذا قضاء بل هو أداء لما كان الركوع محلًا له، وقوله: بأن الركوع محل للتسبيحات فلو اشتغل بالتكبيرات تفوته التسبيحات.
قلنا: ولو اشتغل بالتسبيحات تفوته التكبيرات أيضًا إلا أن التكبير من أخص الأذكار بهذه الصلاة وليس للتسبيح هذه الخصوصية، فكان الاشتغال بالتكبير أولى، فلو أنه اشتغل بالتكبيرات في الركوع فلما كبر تكبيرة أو تكبيرتين رفع الإمام رأسه من الركوع رفع هو رأسه، وسقط عنه ما بقي من التكبيرات؛ لأنه لو أتى بها لا أن يأتي في الركوع أو بعدما رفع رأسه عن الركوع لا وجه إلى الأول؛ لأن الركوع بعدما رفع الإمام رأسه ليس بقيام حكمًا لأنه إنما صار قيامًا حكمًا لكونه سببًا لإدراك الركعة أنه يصير سببًا، لإدراك الركعة بشرط المشاركة وقد انقطعت المشاركة فلا يبقى قيامًا حكمًا، ولا وجه إلى الثاني؛ لأن القومة التي بين الركوع والسجود ليس بمحل للتكبيرات.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): ولو أن رجلًا دخل مع الإمام في صلاة العيد في الركعة الأولى بعدما كبر الإمام تكبير ابن عباس رضي الله عنه ست تكبيرات، فدخل الرجل معه وهو في القراءة، والرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فإنه يكبر برأي نفسه في هذه الركعة وفي الركعة الثانية يتبع رأي الإمام.
والجملة في ذلك أن نقول: بأن المنفرد يتبع رأي نفسه، والمقتدي يتبع رأي الإمام ما لم يظهر خطأ الإمام بقين؛ وهذا لأن كل مجتهد مأمور بأن يعمل باجتهاده؛ لأن اجتهاده صواب عنده، واجتهاد غيره خطأ عنده، وكل مجتهد مأمور بأن يعمل ما هو صواب عنده، فيعمل برأي نفسه إلا إذا حكم غيره على نفسه، فينفذ حكم الحاكم عليه، فحينئذٍ يسقط اعتبار رأيه ويعمل برأي الحاكم إلا إذا ظهر خطأ الحاكم بيقين.
إذا ثبت هذا فنقول: المسبوق فيما سبق لم يحكم على نفسه أحدًا هو منفرد، فيتبع رأي نفسه وفيما بقي مقتدي حكم الإمام على نفسه، فيعمل برأي الإمام إلا إذا ظهر خطأ الإمام بيقين وهذا الداخل في صلاة الإمام في الركعة الأولى، وقد كان كبر الإمام مسبوق بالتكبيرات التي أتى بها الإمام؛ لأنه حين كبر لم يكن هذا الرجل في تحريمته وهذا هو المسبوق، فكان منفردًا في تكبيرات الركعة الأولى، فيتبع رأي نفسه.
ثم يقول محمد رحمه الله في هذه المسألة: إن الداخل يكبر حال ما يقرأ الإمام، وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا كان بعيدًا عن الإمام لا يسمع قراءته؛ لأنه يأتي بالثناء في هذه الصورة مع أن الثناء سنّة؛ فلأن يأتي بالتكبيرات وإنها واجبة أولى.
وكذلك لا يشكل فيما إذا كان قريبًا من الإمام على قول من يقول: بأن الداخل في صلاة الإمام يأتي بالثناء في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة إذا كان الإمام في القراءة وإنه يشكل على قول من يقول: فإنه لا يأتي بالثناء.
والفرق على قول هذا القائل: أن الثناء سنّة فمتى أتى به يفوته الاستماع أو يتمكن الخلل مما هو المقصود من الاستماع وهو التأمل، والاستماع واجب، وترك السنّة أهون من ترك الواجب ومن إيقاع الخلل فيما هو المقصود من الواجب، فإن تكبيرات العيد واجبة كما أن الاستماع واجب وإذ استويا في الوجوب رجحنا التكبيرات؛ لأن التكبيرات تفوته أصلًا والاستماع لا يفوته أصلًا بل يتمكن الخلل فيما هو المقصود منه وهو التأمل وإن كان لا يفوته أصلًا ولكن يفوته في البعض دون البعض فكان الترجيح للتكبيرات من هذا الوجه.
كذلك لو كان الإمام صلى الركعة الأولى وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، فدخل الرجل معه في الركعة الثانية فلما سلم الإمام قام الرجل يقضي الركعة الأولى، وهو يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، يكبر تكبير ابن مسعود؛ لأنه مسبوق في الركعة الأولى، فكان منفردًا فيتبع رأي نفسه.
واستشهد في (الكتاب): لبيان أنه يعتبر في حق المسبوق فيما سبق حاله لا حال الإمام بمسائل.
منها: إذا قرأ الرجل آية السجدة في ركعة فسجدها، ثم دخل رجل في الصلاة وقد فاتته الركعة الأولى التي قرأ الإمام فيها آية السجدة ثم قام يقضي تلك الركعة، فإنه لا يأتي بتلك السجدة التي أتى بها الإمام وإن كان يأتي بها لو كان مع الإمام؛ لهذا إنه مسبوق في تلك الركعة يتغير حاله لا حال الإمام.
ومنها: رجل صلى الظهر ولم يقعد على رأس الركعتين واستوى قائمًا، ومضى على صلاته ثم دخل رجل في صلاته، فلما فرغ الإمام قام الرجل الداخل إلى قضاء ما سبق، فإنه يقعد على رأس الركعتين، وإن كان لا يقعد لو كان مع الإمام لهذا إنه مسبوق في الركعتين، فيعتبر حاله لا حال الإمام.
ومنها: أن الرجل إذا دخل مع الإمام في صلاة الوتر وهو في التشهد، وكان قنت في الركوع، وكان ذلك من رأيه فلما فرغ الإمام من صلاته قام الرجل للقضاء فكان من رأيه القنوت قبل الركوع يقنت قبل الركوع، وإن كان يقنت بعد الركوع لو كان مع الإمام؛ لهذا إنه مسبوق في القنوت، فيعتبر فيه حاله لا حال الإمام، فكذا في مسألتنا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): وإذا دخل الرجل مع الإمام في صلاة العيد وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فكبر الإمام غير ذلك اتبع الإمام إلا إذا كبر الإمام تكبيرًا لم يكبره أحد من الفقهاء؛ فحينئذٍ لا يتابعه.
وأراد بقوله: لم يكبره أحد من الفقهاء أحد من الصحابة، وهذا لأنه بالاقتداء بالإمام حكّمه على نفسه، فيتعين حكمه عليه ما لم يخرج عن حد الاجتهاد، وإذا كبر تكبيرًا كبره أحد من الصحابة لم يخرج حكمه عن حد الاجتهاد فينفذ عليه.
وإذا كبر تكبيرًا لم يكبره أحد من الصحابة، فإن زاد على ستة عشر يعد خرج حكمه عن حد الاجتهاد فلا ينفذ عليه.
فإن قيل: أليس لو كان الإمام يرى القنوت في صلاة الفجر والمأموم لا يرى ذلك لا يتابعه ولم يخرج حكمه عن حد الاجتهاد.
قلنا: هناك خرج حكمه عن حد الاجتهاد؛ لأن القنوت في صلاة الفجر منسوخ عام لنا دلالة النسخ وبعد ما ثبت النسخ لا يبقى محلًا للاجتهاد.
وأما في تكبيرات العيد لم يعم دلالة النسخ بعض أقوال الصحابة رضون الله عليهم أجمعين فهو محل الاجتهاد، وهذا إذا كان الرجل يسمع تكبير الإمام، فإن لم يكن يسمع تكبير الإمام ولكن كبر الناس فكبر هو بتكبير الناس، فإنه يكبر ما كبر الناس، وإن زاد على ستة عشر؛ لأن الزيادة تحتمل أن من الإمام فيكون خطأ ويحتمل أن يكون من الناس بأن سبق تكبيرهم تكبير الإمام فتكون الزيادة واجبة، فدارت الزيادة بين أن تكون خطأ وبين أن تكون واجبة.
والأصل: ما دار بين البدعة والواجب كان الإتيان به أولى من تركه، وكل ما دار بين البدعة والسنّة كان تركه أولى من الإتيان به. وقد قال مشايخنا: إن الرجل إذا كبر بتكبير الناس دون الإمام والأحوط له أن ينوي الافتتاح عند كل تكبيرة حتى أنهم إذا كبروا قبل تكبير الإمام ظنًا منهم أن الإمام قد كبر ولم يكن كبر بعد يصير شارعًا في صلاة الإمام بالتكبيرة الثانية، وإن كان شارعًا في التكبيرة الأولى فنية الافتتاح لا تضره لأنه نوى الشروع في الصلاة التي هو فيها.
قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: وإذا افتتح الرجل صلاة العيد مع الإمام ثم نام حين افتتح ثم استيقظ وقد فرغ من الصلاة وكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود رضي الله عنه، فقام ليقضي صلاته فإنه يكبر تكبير ابن عباس رضي الله عنهما؛ لأنه مدرك أول الصلاة فيجعل في الحكم كأنه خلف الإمام على ما مر، ولو كان خلف الإمام حقيقة يكبر تكبير ابن عباس فكذا إذا جعل في الحكم كأنه خلف الإمام.
قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: ولو أن رجلًا فاتته ركعة في صلاة العيد مع الإمام، وقد كبر الإمام تكبير ابن مسعود رضي الله عنه ووالى بين القراءتين، وهذا الرجل يرى تكبير ابن مسعود أيضًا، فلما سلم الإمام وقام الرجل يقضي ما فاته، فإنه يبدأ بالقراءة ثم بالتكبير، هكذا ذكر في عامة الروايات.
وذكر في (نوادر الصلاة) لأبي سليمان رحمة الله عليه: أنه يبدأ بالتكبير ثم يقرأ، فمن مشايخنا رحمهم الله من قال: ما ذكر في عامة الروايات جواب الاستحسان، وما ذكر في (النوادر) جواب القياس.
ومنهم من قال: في المسألة روايتان. وقال الكرخي رحمه الله: ما ذكر في عامة الروايات جواب الاستحسان قول محمد رحمه الله، وما ذكر في (النوادر) قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، بناءً على أن ما أدرك المسبوق مع الإمام أول صلاته عند محمد وما يقضيه آخر صلاته.
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ما أدرك المسبوق مع الإمام آخر صلاته وما يقضيه أول صلاته وأنكر بعض مشايخنا رحمهم الله هذا الخلاف، وقالوا: لا رواية عن أصحابنا على هذا الوجه، وإنما نصب الكرخي الخلاف على هذا الوجه مقتضى ما ذكره محمد رحمه الله من المسائل، والمسائل متعارضة، ولكن هذا ليس بصحيح.
فالخلاف على هذا الوجه منصوص في (النوادر)، ولأجل هذا الخلاف وضع المسألة فيما إذا كان الإمام والمقتدي يريان تكبير ابن مسعود رضي الله عنه ولا تكبير ابن عباس رضي الله عنهما ولا تكبير علي رضي الله عنه، حتى يختلف الجواب متى اعتبر ما يقضي أول صلاته أو آخر صلاته؛ لأن ابن مسعود يقدم التكبيرات في أول الصلاة ويؤخرها في آخر الصلاة، وابن عباس رضي الله عنهما يقدم التكبيرات في الركعتين فيبدأ بالتكبير بالإجماع اعتبر ذلك أول صلاته أو آخر صلاته، وعلي رضي الله عنه يؤخر التكبيرات عن القراءة في الركعتين فيبدأ بالقراءة بالإجماع اعتبر ذلك أول صلاته أو آخر صلاته.
فإن كانت المسألة المذكورة هنا على الاختلاف الذي ذكره الكرخي رحمه الله فتخريجها ظاهر؛ لأن عند محمد رحمه الله ما يقضي المسبوق آخر صلاته، ومن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه البداية في القراءة في آخر الصلاة.
وعندهما ما يقضي المسبوق أول صلاته، ومن مذهب ابن مسعود رضي الله عنه البداية بالتكبير في أول الصلاة.
وإن كانت المسألة على الروايتين كما ذهب إليه بعض المشايخ القياس والاستحسان كما ذهب إليه بعض المشايخ.
فوجه القياس: وهو إحدى الروايتين أن ما يقضي المسبوق أول صلاته حكمًا وآخر صلاته حقيقة؛ لأن ما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة وآخر صلاته حكمًا من حيث إن الأول اسم لفرد سابق فيكون ما أدرك مع الإمام أولًا في حقه حقيقة، ومن حيث إنه آخر في حق الإمام؛ لأن الآخر اسم لفرد لاحق، فيكون آخرًا في حقه حكمًا تحقيقًا للتبعية وتصحيحًا للاقتداء؛ لأن بين أول الصلاة وآخرها مغايرة من حيث الحكم، فإن القراءة فرض في الأوليين نفل في الأخريين.
والمغايرة تمنع صحة الاقتداء، ولما صح الاقتداء علمنا أن ما أدرك اعتبر آخرًا في حقه حكمًا إن كان أولًا حقيقة، وإذا كان ما أدرك مع الإمام آخرًا في حقه حكمًا أولًا حقيقة كان ما يقضي أولًا في حقه حكمًا آخرًا حقيقة والعمل بالحقيقة والحكم في حق التكبيرات متعذر لما بينهما من التنافي فلابد من اعتبار أحدهما وإلغاء الآخر.
فنقول: اعتبار الحكم أولى؛ لأن الحكم قاضي على الحقيقة فسقط اعتبار الحقيقة شرعًا، ولهذا اعتبر الحكم في حق القنوت حتى لو قنت مع الإمام فيما أدرك يكون معتدًا به حتى لا يقنت فيا يقضي.
وجه الاستحسان: أن الأمر كما قلتم إنما يقضي المسبوق أول صلاته حكمًا وآخر صلاته حقيقة، وما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة، وآخر صلاته حكمًا، إلا أنه تعتبر الحقيقة فيما أدرك وفيما يقضي في حق الثناء حتى يقع في محله، وهو ما قبل أداء الأركان، ويعتبر الحكم فيما أدرك وفيما يقضي في حق القراءة، فجعلنا ما أدرك آخر صلاته وما يقضي أول صلاته فأوجبنا القراءة فيما يقضي؛ لأن القراءة ركن لا تجوز الصلاة بدونها فيعتبر الحكم في حق القراءة حتى يخرج من عهدة ما عليه بيقين، وفي حق القنوت يعتبر الحكم فيما أدرك وفيما يقضي فلا يأتي بالقنوت فيما يقضي كيلا يؤدي إلى تكرار القنوت الذي هو ليس بمشروع.
وفي حق القعدة تعتبر الحقيقة فيما أدرك وفيما يقضي فألزمناه القعدة متى فرغ مما يقضي؛ لأن قعدة الختم ركن لا تجوز الصلاة بدونها، فاعتبرنا الحقيقة في حق القعدة فأوجبنا عليه القعدة متى فرغ مما يقضي حتى يخرج عن العهدة بيقين.
وفي حق التكبيرات اعتبرنا الحقيقة فيما يقضي؛ لأن اعتبار الحكم يؤدي إلى مخالفة إجماع الصحابة، فإن الصحابة أجمعوا على عدم الموالاة بين التكبيرات، وفي اعتبار الحكم موالاة بين التكبيرات، فإنه آخر التكبيرات عن القراءة في الركعة التي أدركها مع الإمام فلو قدم التكبيرات فيما يقضي تقع الموالاة بين التكبيرات، أما لو اعتبرنا الحقيقة وبدأ بالقراءة يصير عاملًا بقول علي رضي الله عنه، فلا يؤدي إلى مخالفة إجماع الصحابة، فكان اعتبار الحقيقة في حق التكبيرات أولى.
قال السيد الإمام أبو شجاع رحمه الله: وهذا ضعيف، فإن الموالاة بين التكبيرات جائز، ألا ترى أن الإمام لو افتتح الصلاة على مذهب علي رضي الله عنه حين قدم القراءة على التكبير، فلما صلى ركعة تحول رأيه إلى رأي ابن عباس رضي الله عنهما حتى قدم التكبير على القراءة في الركعة الثانية جاز ذلك، وهذا موالاة بين التكبيرات على أنا نقول: هذا من حيث الصورة يترأى أنه موالاة بين التكبيرات، وأما من حيث المعنى فليس كذلك؛ لأن الركعة الثانية قضاء، والقضاء يلحق بمحل الأداء.
والوجه الصحيح في ذلك أن يقال: اعتبار الحكم في حق التكبيرات يؤدي إلى أمر غير مشروع عند ابن مسعود رضي الله عنه، فإن من مذهب ابن مسعود أنه لا يشتغل بالتكبيرات الزوائد إلا بعد أداء ركن من أركان الصلاة في الركعتين جميعًا، فإن في الركعة الأولى يؤتى بتكبيرات العيد بعد تكبيرة الافتتاح، وإنها ركن أو فرض على ما عرف، وفي الركعة الثانية يؤتى بالتكبيرات الزوائد بعد القراءة والقراءة في الركعتين فرض.
إذا ثبت هذا فنقول: لو اعتبرنا الحكم في حق التكبيرات يأتي بالتكبيرات في هذه الركعة أولًا، فيصير إتيانًا بالتكبيرات الزوائد قبل أداء ركن في هذه الركعة، وإنه غير مشروع على مذهبه.
ووجه آخر في المسألة أيضًا: أن ابن مسعود رضي الله عنه إنما لا يقدم التكبيرات في الركعة الأولى لا لكونها أولًا وتؤخر في الركعة الثانية لا لكونها ثانية، بل لأن السنّة في تكبيرات العيد الجمع بينهما، وإليه وقعت الإشارة في قوله عليه السلام حين صلى صلاة العيد وكبر فيها، كما هو مذهب ابن مسعود رضي الله عنه: لا تنسوا أربع كأربع الجنائز إلا أن في الركعة الأولى وقعت المعارضة بين تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع فإنهما عدتا من تكبيرات العيد، فكان الضم إلى تكبيرة الافتتاح أولى؛ لأنها أشبه بتكبيرات العيد، فإنها تؤدى في حالة القيام المحض كتكبيرات العيد.
وترفع الأيدي عندهما كما ترفع عند تكبيرات العيد. وفي الركعة الثانية لم توجد تكبيرة الافتتاح فيجب الضم إلى تكبيرة الركوع.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا قام إلى قضاء ما سبق به فهذا وإن كان أول صلاته حكمًا، إلا أن هذا أول ليس له تكبيرة الافتتاح فيضم التكبيرات الزوائد إلى تكبيرة الركوع ضرورة، فلهذا يقدم القراءة على التكبيرات في هذه الركعة. والله أعلم.

.نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات:

قال محمد رحمه الله في (الأصل): وليس قبل العيدين صلاة يريد به أنه لا يتطوع قبل صلاة العيدين، والأصل فيه حديث جابر قال: كنت آخر الناس إسلامًا فحفظت من رسول الله عليه السلام «أن لا صلاة في العيدين قبل الإمام»، ولأنه لو تطوع قبل الإمام ربما يدخل الإمام في الصلاة، فإما أن يقطع ويتابع الإمام، أو يتم ويترك المتابعة وكل ذلك لا يجوز. قال: وإن شاء تطوع بعد الفراغ من الخطبة لحديث علي رضي الله عنه: «من صلى بعد العيد أربع ركعات كتب الله تعالى له بكل نبت وبكل ورقة حسنة».
قال القاضي الإمام أبو جعفر الإسترسي: كان شيخنا أبو بكر الرازي رحمه الله يفتى بقول أصحابنا رحمهم الله: وليس قبل العيدين صلاة ليس قبل العيدين صلاة مسنونة؛ لأن الصلاة قبل العيدين مكروه، إلا أن الكرخي نص على الكراهة فإنه قال: ويكره لمن حضر المصلى يوم العيد التنفل قبل الصلاة. والله أعلم.
وقال بعض الناس: لا يكره التطوع قبل العيد ولا بعدها، لا في حق القوم ولا في حق الإمام. وقال الشافعي: يكره في حق الإمام، ولا يكره في حق القوم.
ذكر في (نوادر الصلاة): ولا شيء على من فاتته صلاة العيد مع الإمام، وقال الشافعي: يصلي وحده كما يصلي مع الإمام، وهذا بناءً على أن المنفرد هل يصلي صلاة العيد؟ عندنا لا يصلي، وعنده يصلي؛ لأن الجماعة والسلطان ليس بشرط عنده، فكان له أن يصلي وحده، فإذا فاتته مع الإمام لم يعجز عن قضائها.
فقال بالقضاء كالتراويح إذا فاتت بالجماعة في رمضان يقضيها وحده؛ لأنه قادر على قضائها، لأنه يجوز الأداء منفردًا كما يجوز بجماعة كذا هاهنا. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: لا يجوز إقامتها إلا بشرائط مخصوصة منها الإمام، فإذا فاتت مع الإمام فقد عجز عن قضائها، فلا يلزمه القضاء.
فإن قيل: صلاة العيد قائمة مقام صلاة الضحى، ولهذا تكره صلاة الضحى قبل صلاة العيد، وإذا قامت مقام صلاة الضحى، وهو قادر على صلاة الضحى إن عجز عن إقامة صلاة العيد وجب أن تلزمه صلاة الضحى لتقوم مقام صلاة العيد، كما إذا فاتته الجمعة يلزمه إقامة الظهر، وإنما تلزمه لما قلنا.
قلنا: نعم صلاة العيد أقيمت مقام صلاة الضحى، فإذا عجز عن إقامة صلاة العيد لفوات الشرائط عاد الأمر إلى الأصل وهي صلاة الضحى، وصلاة الضحى غير واجبة في الأصل بل يتخير في ذلك.
وفي أداء الجمعة لما عجز عن أداء الجمعة لفوات الشرائط سقطت عنه الجمعة، وعاد الأمر إلى ما كان قبل الجمعة، وقبل الجمعة كان يلزمه أداء الظهر، ولا يتخير في أدائه، فكذلك بعدها، فإن أحب أن يصلي صلى إن شاء ركعتين، وإن شاء أربعًا، ويكون ذلك صلاة الضحى والأفضل أن يصلي أربع ركعات، لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من فاتته صلاة العيد صلى أربع ركعات، يقرأ في الركعة الأولى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وفي الثانية: {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا} [الشمس: 1]، وفي الثالثة: {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]، وفي الرابعة: {وَالضُّحَى} [الضحى: 1]. وروي في ذلك عن النبي عليه السلام وعدًا جميلًا وثوابًا جزيلًا.
وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول: لا بأس بصلاة الضحى قبل الخروج إلى الجبانة، إنما كره ذلك في الجبانة، وكان يقول: لا بأس للمرأة أن تصلي صلاة الضحى يوم العيد قبل أن يصلي الإمام صلاة العيد.
وعامة المشايخ على الكراهة قبل الخروج إلى الجبانة وفي الجبانة، وعلى قول العامة: إذا أرادت المرأة أن تصلي صلاة الضحى يوم العيد تصلي بعدما صلى الإمام.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله: رجل أدرك الإمام في الركوع في صلاة العيد يشتغل بالتسبيحات دون الثناء، فقد قدم التسبيحات على الثناء، وفيما إذا أدرك الإمام في الركوع، وخاف أنه لو أتى بتكبيرات العيد قائمًا لا يدرك شيئًا من الركوع يأتي بتكبيرات العيد دون التسبيحات عند أبي حنيفة ومحمد وقدم تكبيرات العيد على التسبيحات؛ لأن التسبيحات سنّة والتكبيرات تسبيحات في محلها والثناء لا.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): من أدرك الإمام في ركوع صلاة العيد تابعه في الركوع، فعلى قياس ما ذكرنا أنه يكبر في الركوع تكبيرات العيد ينبغي أن يرفع اليدين؛ لأنه سنّة في تكبيرات العيد.
وفي (النوازل): إمام صلى بالناس صلاة العيد ثم علم أنه على غير وضوء، إن علم قبل الزوال يعيد في العيدين؛ لأن الوقت باقي، وإن علم بعد الزوال يخرج في العيدين من الغد لأنه تأخير بعذر، وإن علم في الغد بعد الزوال ففي الأضحى يخرج في اليوم الثالث، لأن الوقت باقي، وفي عيد الفطر لا، لأن الوقت لم يبق، فإن علم في اليوم الأول بعد الزوال، وكان عيد الأضحى وقد كان ذبح الناس يجزئ من ذبح.
وأي سورة قرأ في صلاة العيد جاز، بلغنا عن أبي بكر رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام: «قرأ في صلاة العيد سورة البقرة» وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه قرأ فيها {وَالَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَهَا}، وعن نعمان بن بشير رضي الله عنه: أن النبي عليه السلام: كان يقرأ في العيدين: {سَبِّحِ اسْمَ رَبّكَ الأَعْلَى} و{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَشِيَةِ}، وروي أنه كان يقرأ سورة الجمعة و{إِذَا جَآءكَ الْمُنَفِقُونَ}، فاختلاف يدل على أنه ليس فيها شيء مؤقت.
والمعنى فيه: وهو أن هذه صلاة شرعت فيها القراءة، فلا يتعين فيها قراءة سورة من القرآن سوى الفاتحة قياسًا على سائر الصلوات، وهذا لأن في تعيين سورة هجر الباقي، وليس شيء من القرآن بمهجور.
وإذا أدرك الإمام في صلاة العيد بعدما تشهد الإمام قبل أن يسلم أو بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو أو بعدما سجد للسهو فدخل معه، ثم سلم الإمام فإنه يقوم فيقضي صلاة العيد لأنه شارك الإمام في الصلاة فيلزمه القضاء.
من مشايخنا من قال: المذكور قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، فأما قول محمد رحمه الله: لا يصير مدركًا لصلاة العيد كما قال في الجمعة: إذا أدرك الإمام في هذه الحالة لا يصير مدركًا للجمعة عنده، حتى يصلي أربعًا عنده فكذلك ها هنا.
ومنهم من قال: هذا بلا خلاف وهو الأصح، فإن صح الخلاف لمحمد في صلاة العيد كما في الجمعة فلا حاجة لمحمد رحمه الله إلى الفرق بين صلاة الجمعة وصلاة العيد، وإن لم يصح الخلاف يحتاج محمد إلى الفرق بين صلاة العيد وبين صلاة الجمعة.
فإنه قال: في صلاة الجمعة لا يصير مدركًا للجمعة، ويصلي أربعًا، وفي صلاة العيد قال: يصير مدركًا لصلاة العيد، ويصلي صلاة العيد وحده.
ووجه الفرق لمحمد رحمه الله وهو: أن القياس ما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله في الجمعة، إلا أنه ترك القياس بالأثر، والأثر ورد في الجمعة، وما ورد في العيد، وترد صلاة العيد إلى أصل القياس، ولأن محمد رحمه الله جعله مدركًا للجمعة في تلك المسألة بدليل أنه لو ترك القعدة على رأس الركعتين لا تجزئه صلاته، كما إذا صلى الجمعة وترك القعدة على رأس الركعتين، وإذا خرج وقت الظهر فسدت صلاته إلا أنه أمر بزيادة ركعتين احتياطًا لتقوم مقام الظهر، وليس في صلاة العيد زيادة نأمره بها احتياطًا.
ثم إذا سلم الإمام وقام هو إلى القضاء كيف يصنع؟ قال الشيخ الإمام الزاهد المعروف بخواهر زاده رحمه الله: يقوم فيكبر ثلاث تكبيرات، ثم يقرأ؛ لأن ما يقضي أول صلاته في هذه الحالة بالإجماع، لأنه مسبوق بركعتين، والتكبير مقدم على القراءة الأولى ومؤخر في الثانية عندنا، فكذلك هاهنا.
قال في (الأصل): والسهو في العيدين والجمعة والمكتوبة والتطوع سواء لأن الجمعة والعيدين ساوت سائر الصلوات فيما يوجب الفساد فتساويها فيما يوجب الجبر، إلا أن مشايخنا قالوا: لا يسجدون للسهو في الجمعة والعيدين كيلا يقع الناس في الفتنة. ولا تجوز صلاة العيد راكبًا كالجمعة، ولا بأس بالركوب في الجمعة والعيدين، والمشي أفضل في حق من يقدر عليه.
في (غريب الرواية): وإذا قرأ الإمام السجدة في خطبة العيد سجدها وسجد معه من سمعها، كما في الخطبة الجمعة، وكذلك إذا قرأها في الصلاة سجدها وسجد القوم معه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا: لا يسجدون، والكلام في العيد نظير الكلام في الجمعة.
وإذا أحدث رجل في الجبانة وخاف أنه إن رجع إلى الكوفة ليتوضأ تفوته الصلاة، وهو لا يجد الماء، فإن كان قبل الشروع في الصلاة يتيمم ويصلي مع الناس. من أصحابنا من قال: هذا في جبانة الكوفة لأن الماء بعيد، أما في ديارنا الماء محيط بالمصلى فينبغي أن لا يجوز التيمم.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: والصحيح أنه متى خاف الفوت يجوز له التيمم في أي موضع كان، وكذلك إذا أحدث بعدما دخل في الصلاة تيمم وصلى، وإن لم يتيمم وانصرف إلى الكوفة وتوضأ، ثم عاد إلى المصلى وصلى جاز.
وقال أبو يوسف، ومحمد: إذا أحدث بعدما دخل في الصلاة لم يجز له التيمم، وهذا الذي ذكرنا في حق المقتدي وكذلك الحكم في حق الإمام.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله: أنه ليس للإمام أن يتيمم، لأنه لا يخاف الفوت فإنه لا يجوز للناس أن يصلوا بدون الإمام، وجه ظاهر الرواية أنه يخاف الفوت بخروج الوقت فربما تزول الشمس قبل فراغه من الوضوء، ومن تكلم في صلاة العيد بعدما صلى ركعة فلا قضاء عليه.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا على قول أبي حنيفة، فأما على قولهما: عليه القضاء بناءً على المسألة المتقدمة، وهو ما إذا أحدث في صلاة العيد ولم يجد ماء وهو يخاف الفوت إن توضأ فعلى قول أبي حنيفة يتيمم؛ لأن على قوله لا يمكنه القضاء لو لم يجز له التيمم تفوته الصلاة أصلًا، وعلى قولهما: لا يتيمم؛ لأنه يمكنه القضاء لو لم يجز له التيمم لا تفوته الصلاة أصلًا.

.الفصل السابع والعشرون في تكبير أيام التشريق:

تكبير التشريق سنّة: أجمع أهل العلم على العمل بها، والأصل فيه قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ في أَيَّامٍ مَّعْدُودتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] جاء في التفسير: أن المراد منه أيام العشر، وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام قال: «وأفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبل يوم عرفة الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» وعن جابر رضي الله عنه: أن رسول الله عليه السلام: صلى الفجر يوم عرفة وقال: «الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد» وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في ابتدائه وانتهائه.
أما الاختلاف في ابتدائه فكبار الصحابة عمر، وعلي، وابن مسعود رضي الله عنهم قالوا: يبدأ بالتكبير من صلاة الغداة يوم عرفة، وبه أخذ علماؤنا في ظاهر الرواية، وهو أحد أقوال الشافعي رحمه الله.
وصغار الصحابة كعبد الله ابن عباس، وعبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم أجمعين قالوا: يبدأ بالتكبير من صلاة الظهر من يوم النحر، وهو المشهور من أقوال الشافعي رحمه الله، وهو مروي عن أبي يوسف رحمه الله، وللشافعي رحمه الله قول ثالث أنه يبدأ بالتكبير من صلاة الفجر من يوم النحر.
وأما الاختلاف في انتهائه، قال ابن مسعود رضي الله عنه: يكبر في صلاة العصر من أول يوم النحر ويقطع فتكون الجملة عنده ثمان صلوات، وبقوله أخذ أبو حنيفة رحمه الله، وقال علي رضي الله عنه: يكبر في صلاة العصر من آخر أيام التشريق ويقطع، فتكون الجملة ثلاثًا وعشرون صلاة، وبه أخذ أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله، وعن عمر رضي الله عنه روايتان، في رواية كما قال علي رضي الله عنه وفي رواية قال: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: يكبر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق.
وقال زيد بن ثابت في رواية كما قال علي رضي الله عنه: وفي رواية قال: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشرق.
وللشافعي رحمه الله للقطع ثلاثة أقوال أيضًا قال في قول: يكبر إلى صلاة الفجر من آخر أيام التشريق، وقال في قول: يكبر إلى صلاة الظهر من آخر أيام التشريق، وقال في قول: يكبر إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق. نتكلم أولًا في ابتدائه حجة صغار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين قول الله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَآءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءاتِنَا في الدُّنْيَا وَمَا لَهُ في الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} [البقرة: 200] والفاء للتعقيب، والمراد به التكبير؛ لأنه لا يجب ذكر آخر عقيب قضاء المناسك إلا التكبير، وقضاء المناسك إنما يتم وقت الضحوة من يوم النحر فينبغي أن يكون التكبير عقيبه فيقع ابتداء التكبير من صلاة الظهر.
حجتنا قول الله تعالى: {وَاذْكُرُواْ اللَّهَ في أَيَّامٍ مَّعْدُودتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] روي عن جماعة من الصحابة أن المراد به أيام العشر، ومنهم من قال: المراد منه يوم النحر ويومان بعده، فاتفقوا على أن يوم النحر مراد بظاهره يقتضي أنه كلما طلع الفجر من يوم النحر يكبر وعنده لا يكبر في صلاة الفجر، وحديث جابر، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم على ما روينا دليل على صحة مذهبنا.
وروى أبو الطفيل عن علي، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما «أنهما سمعا رسول الله عليه السلام يكبر في دبر الصلوات المكتوبات من صلاة الغداة يوم عرفة إلى صلاة العصر من أخر أيام التشريق حتى يسلم من المكتوبات». أما الجواب عن التعليق بالآية.
قلنا: أراد به ذكر الله تعالى في الأوقات كلها لا التكبير في أوقات مخصوصة ألا ترى أنه قال: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ءابَآءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءاتِنَا في الدُّنْيَا وَمَا لَهُ في الاْخِرَةِ مِنْ خَلَقٍ} [البقرة: 200] وهم كانوا يذكرون آبائهم في الأوقات كلها على سبيل التفاخر وأمرهم الله تعالى بذكره في الأوقات كلها مقام ذكر آبائهم.
وحاصل الاختلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله على ما هو المشهور من قوله راجع إلى أن التكبير في أول يوم النحر بأي علةٍ شرعت فإن التكبير في أول يوم النحر مشروع بالإجماع.
فعند علمائنا رحمهم الله شرع؛ لأنه يوم اختص بركن من أركان الحج وهو طواف الزيارة فإنه يجوز فيه ولا يجوز قبله، فشرع التكبير فيه ليكون علمًا على أنه وقت ركن من أركان الحج.
وعند الشافعي شرع فيه؛ لأنه يوم اختص بتبع من توابع الحج وهو الرمي فإن رمي جمرة العقبة مشروع فيه، وليس بمشروع قبله، فشرع التكبير فيه ليكون علمًا على أنه وقت رمي الجمر، فنحن عللنا بما عللناه إلى يوم عرفة؛ لأن يوم عرفة يوم اختص بركن من أركان الحج، وهو الوقوف بعرفة وهو عدل بما علل إلى ثلاثة أيام التشريق؛ لأنه اختص هذه الأيام بتبع من توابع الحج وهو الرمي، فرجح الشافعي علته وقال: التكبير تبع من توابع الحج، وليس من أركان الحج فكان جعله علمًا على ما شرع تبعًا من توابع الحج أولى من جعله علمًا على ما شرع ركنًا من أركان الحج.
وعلماؤنا رحمهم الله رجحوا عليتهم فقالوا: متى عللنا بما قلنا فقد علقنا التكبير بما علقه الشرع به بيقين، ومتى عللنا بما قاله الشافعي رحمه الله فما علقنا التكبير بما علقه الشرع به بيقين.
بيانه: أن في الركن تبع وزيادة لأن الركن يستتبع التبع أما التبع لا يستتبع الركن فمتى علقنا التكبير بالركن والتبع موجود فيه فقد علقناه بما علقه الشرع به بيقين ومتى علقناه بالتبع والركن لا يوجد في التبع فما علقناه بما علقه الشرع به بيقين لأنه يحتمل أن الشرع علقه بالركن والركن لم يوجد في التبع فكان ما قلناه أولى. وقد صح عن رسول الله عليه السلام برواية جابر رضي الله عنه «أنه صلى الفجر يوم عرفة وكبر» فصار تعليلنا مؤيدًا بخبر رسول الله عليه السلام فكان أولى، هذا هو الكلام في البداية.
وأما الكلام في القطع والنهاية فأبو حنيفة رحمه الله رجح قول ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأن شرعية التكبير في أول يوم النحر لكونه مختصًا بركن من الحج ولم توجد هذه العلة في اليوم الثاني من يوم النحر، وهما رجحا قول علي رضي الله عنه فقالا: تعليل الأصل كما يجوز بعلة واحدة فيجوز بعلتين، فنحن نقول شرعية التكبير في أول يوم النحر معلولة بما قلنا وبما قاله الشافعي رحمه الله، وإحدى العلتين موجودة في هذه الأيام بعد يوم النحر فصحت التعدية.
ومحمد رحمه الله ذكر في (الكتاب): ليرجح قولهما فقال: لما اختلف أصحاب رسول الله عليه السلام في التكبيرات عقيب الصلوات كان الأخذ بقول علي رضي الله عنه، وفيه زيادة تكبير أولى؛ لأنه إن كان كبر وليس عليه ذلك أولى من أن يترك وعليه ذلك، فمن المشايخ من ناقض محمدًا في هذا فقال: أليس لم يأخذ محمد رحمه الله بتكبير ابن عباس رضي الله عنه في صلاة العيد مع أن فيه زيادة تكبير.
ومحمد رحمه الله يفرق ويقول: تكبيرات العيد يؤتى بها في الصلاة والأصل صيانة الصلاة عن إدخال الزوائد فيها كما في سائر الصلوات، إلا أن فيما اتفقت عليه الأقاويل هو الأقل عدلنا عن الأصل. وفيما اختلفت فيه الأقاويل عدنا إلى الأصل، أما تكبيرات التشريق يؤتى بها عقيب الصلوات، وهو موضع الدعاء والذكر والإكثار في الأذكار في موضعها أفضل قال الله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] بعد هذا يحتاج إلى بيان كيفية هذ التكبير وإلى بيان ما يجب عليه هذا التكبير.
أما الكلام في كيفيته فنقول: التكبير عندنا الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وقال الشافعي رحمه الله: التكبير أن يقول: الله أكبر ثلاث مرات، أو خمس مرات، أو سبع مرات، أو تسع مرات، حجته في ذلك أن المنصوص عليه في الكتاب هو التكبير لا غير قال الله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ وَبَيِّنَتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] والتكبير قول: الله أكبر وقوله: لا إله إلا الله، تهليل وقوله: ولله الحمد تحميد، فمن شرط ذلك فقد زاد على الكتاب.
حجتنا في ذلك: حديث ابن عمر رضي الله عنه وحديث جابر على نحو ما روينا في ابتداء المسألة، والأمة توارثوا التكبير من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا من الوجه الذي بينا، والتوارث حجة.
وقيل: إن مأخذ التكبير من جبريل، وإبراهيم، وإسماعيل صلوات الله عليهم، فإن إبراهيم لما أضجع إسماعيل للذبح أمر الله عزّ وجلّ جبريل عليه السلام حتى يذهب إليه بالفداء فلما رأى جبريل أنه أضجعه للذبح فقال: الله أكبر الله أكبر كيلا يعجل بالذبح، فلما سمع إبراهيم صوت جبريل عليه السلام وقع عنده أنه يأتيه باللسان.
فهلل الله تعالى وذكره بالوحدانية فقال: لا إله إلا الله والله أكبر، فلما سمع إسماعيل كلامهما وقع عنده أنه فدي، فحمد الله تعالى وشكره فقال: الله أكبر ولله الحمد، فثبوته على هذا الوجه بهولاء الأجلاء فلا يجوز أن يأتي بالبعض ويترك البعض.
وأما الكلام فيمن يجب عليه هذا التكبير فنقول: على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا تجب هذه التكبيرات مقصودًا إلا على الرجال المقيمين في الأمصار عقيب الصلوات المكتوبات بالجماعة، وهو مذهب عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: يجب على كل من تجب عليه الصلاة المكتوبة في أيام التشريق، الرستاقي والبلدي والمسافر والمقيم والذي يصلي وحده والذي يصلي بجماعة سواء، وهو قول إبراهيم، وعامر.
فوجه قولهما: أن التكبير تبع للمكتوبة فيجب على كل من تجب عليه المكتوبة بطريق التبعية.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: قوله عليه السلام: «لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع» والمراد من التشريق تكبير أيام التشريق هكذا قاله النضر بن شميل، والخليل بن أحمد وهما كانا من أئمة اللغة، ولأن التشريق حقيقته تقديد اللحم؛ لأنه تفعيل من شرق تشريقًا إذا قطع وأظهر للشمس سمي تقديد اللحم تشريقًا؛ لأن في ذلك تقطيعه وإظهاره للشمس والحقيقة وهو التقديد ليس بمراد؛ لأنه لا يختص بالمصر وله مجاز أن الصلاة والتكبير في أدبار الصلوات لأن في ذلك إظهار شعار الإسلام فإن أمكن حمله عليهما يحمل عليهما ويكون هذا تبعًا للصلاة والتكبير إلا في مصر جامع، وإن لم يمكن حمله عليهما يحمل على التكبير لأن نفي صلاة العيد إلا في المصر استفيد برواية أخرى، وهو قوله عليه السلام والتحية: «لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع» والمراد من الفطر والأضحى صلاة الفطر والأضحى فلو حمل التشريق المذكور في هذه الرواية على الصلاة كان تكرارًا ومهما أمكن حمل اللفظ على فائدة جديدة لا يحمل على التكرار، وإذا ثبت أن المصر شرط وجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة كما في الجمعة وصلاة العيدين.
فإن قيل: هذه التكبيرات شرعت تبعًا ولا يجوز أن يشترط التبع ما لا يشترط الأصل قلنا: نعم إلا أن هذه التبعية عرفت شرعًا بخلاف القياس فإنه لم يشرع في غير هذه الأيام فيراعى لهذه التبعية جميع الشرائط التي ورد بها، والنص جعل من إحدى شرائط إقامته المصر وجب أن يشترط القوم الخاص والجماعة كما في الجمعة والعيد، واختلاف المشايخ على قول أبي حنيفة رحمه الله: أن الحرية هل هي شرط لوجوب هذه التكبيرات.
وفائدة الخلاف إنما تظهر فيما إذا أم العبد قومًا صلاة مكتوبة في هذه الأيام هل يجب عليه التكبير لمن شرط الحرية قال: فإن الذكورة والمصر شرط لإقامته مقصودًا فكذا الحرية قياسًا على الجمعة وصلاة العيد.
ومن لم يشترط الحرية قال: لم يشترط لإقامته السلطان فلا يشترط الحرية كسائر الصلوات وإنما لم يشترط لإقامته السلطان عند أبي حنيفة رحمه الله لما حكي عن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري رحمه الله: أن التكبير يشبه صلاة العيد وصلاة الجمعة من حيث إنه شرط لإقامته المصر بالنص كما شرط الإقامة للجمعة والعيد ويشبه سائر الصلوات من حيث إنه يقام في يوم واحد خمس مرات، فكان له حظًا من الخصوص والعموم، فأشبه بالخصوص شرطنا القوم الخاص والجماعة وأشبه بالعموم لم يشترط السلطان توفيرًا على الشبهين حظهما بقدر الإمكان.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): وإذا صلى النساء والمسافرون مع الرجال المقيمين في مصر جماعة وجب عليهم التكبير بالإجماع إذا كان الإمام مقيمًا؛ لأنهم بالاقتداء به صاروا أتباعًا له في الصلاة، فكذا في التكبير؛ لأن التكبير من توابع الصلاة وقد يثبت الشيء تبعًا، وإن كان لا يثبت مقصودًا، ألا ترى أن الزكاة لا تجب في الجملان والفصلان مقصودًا عند أبي حنيفة رحمه الله وتجب تبعًا لغيرهن بأن كانت معهن مسنة.
وأما المسافرون إذا صلوا جماعة في مصر ففيهم روايتان في رواية الحسن: عليهم التكبير، وفي رواية أخرى لا تكبير عليهم؛ لأن السفر للفرض مسقط للتكبير ثم لا فرق في تغير الفرض أن يصلوا في المصر وبين أن يصلوا خارج المصر فكذا في التكبير ولا يكبر في شيء من النوافل لأن الجهر بالتكبير عرف قربة شرعًا بخلاف القياس والشرع إنما ورد به في المكتوبات، ففي غير المكتوبات يبقى على أصل القياس.
ولا يكبر في صلاة العيد؛ لأنها تطوع فأشبه سائر التطوعات ولا في الوتر. أما عندهما؛ فلأنه سنّة وتطوع، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه وإن كان فرضًا إلا أنه يؤدى بجماعة إلا في شهر رمضان والجماعة عند أبي حنيفة رحمه الله شرط.
قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: ولو أن رجلًا صلى بقوم صلاة في أيام التشريق، فنسي التكبير، ثم تذكر بعدما خرج من المسجد، أو تكلم لم يكن عليه تكبير.
والأصل في جنس هذه المسائل: أن ما يمنع بناء بعض الصلاة على البعض يمنع التكبير، وما لا يمنع بناء بعض الصلاة على البعض لا يمنع التكبير؛ لأن التكبير شرع متصلًا بالصلاة كأفعال الصلاة شرعت متصلة بعضها ببعض.
قلنا: وكلام الناس والخروج عن المسجد لا لإصلاح الصلاة لا من حيث الحقيقة ولا من حيث الظن يمنع البناء فيمنع التكبير، فأما إذا تحول من مكانه إلا أنه في المسجد بعد، ولم يتكلم فتذكر فإنه يأت بالتكبير أستدبر القبلة أو لم يستدبر، إن لم يستدبر فظاهر، لأن المسجد مع تباين أطرافه جعل كمكان واحد في حق الصلاة، ألا ترى أنه جاز اقتداء من كان تأخر وانصرف بالإمام، فكذا في حق التكبير فصار كأنه في مكان صلاته حقيقة مستقبل القبلة، وقد سهى عن التكبير، ثم تذكر، وهناك يأتي بالتكبير فهنا كذلك، وأما إذا استدبر القبلة، فكذلك الجواب، وكان ينبغي أن لا يأتي بالتكبير لأن الاستدبار ما كان لإصلاح الصلاة هنا؛ لأنه أتم الصلاة، والاستدبار إذا لم يكن لإصلاح الصلاة يمنع البناء.
ألا ترى أنه لو ظن أنه مسح رأسه فاستدبر القبلة ثم تذكر أنه مسح رأسه، وهو في المسجد بعد لا يمكنه البناء، فينبغي أن لا يأتي بالتكبيرات هنا أيضًا. والجواب وهو الفرق بين المسألتين: أن استدبار القبلة في تلك المسألة لا يمنع البناء؛ لأنه ما كان لإصلاح الصلاة بل لأنه كان للرفض والترك حقيقة، وهذا يمنع البناء؛ لأنه يقطع حرمة الصلاة وهنا الاستدبار لم يكن للترك والرفض؛ لأنه أتم الصلاة فشبه من هذا الوجه استدبار القبلة في مسألة الرعاف بأن سال من أنفه ماء فظن أنه رعاف فاستدبر القبلة ثم تبين أنه ماء وهو في المسجد بعد وهناك يبني؛ لأن الاستدبار ما كان للترك والرفض.
وحكي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد الشيباني رحمه الله أنه كان يقول: ما ذكر محمد رحمه الله في (الجامع) يصير رواية، فيمن سلم على ظن أنه أتم الصلاة واستدبر القبلة، ثم تذكر أنه لم يتم الصلاة وهو في المسجد بعد، ولم يتكلم بكلام الناس أنه يأتي بما بقي عليه، وكان يقول: لا يعرف لهذه المسألة رواية إلا في (الجامع)، وكان يقول أيضًا: وذكر الكرخي رحمه الله في (الجامع الصغير): أن من سلم على ظن أنه أتم صلاته ثم تذكر بعدما استدبر القبلة أنه لم يتم، وهو في المسجد بعد، لا يكون ذلك قاطعًا لصلاته عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله يكون قاطعًا. فعلى قياس ما ذكر الكرخي ينبغي أن لا يأتي بالتكبير هنا عند محمد؛ لأن هذا يمنع البناء عنده فيمنع التكبير أيضًا عنده.
قال: والحدث العمد يمنع التكبير لأنه يمنع البناء، والحدث ساهيًا لا يمنع التكبير؛ لأنه لا يمنع البناء إلا أن هناك يلزمه الذهاب لتجديد الوضوء وهنا لا يلزمه؛ لأن التكبير ليس من أفعال الصلاة، ولا يؤدي في حرمة الصلاة، فلا يشترط له الوضوء ولكن لو ذهب وتوضأ كان أفضل؛ لأن ذكر الله تعالى مع الطهارة تكون أفضل.
قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: رجل صلى بقوم في أيام التشريق فسلم ولم يكبر ساهيًا حتى خرج من المسجد، فعلى القوم أن يكبروا، والمسألة لو كان على الإمام سجود السهو لم يكن على القوم أن يسجدوا.
والفرق: أن سجود السهو من أفعال الصلاة، فإنها تؤدى في حرمة الصلاة؛ ولهذا لو أدرك الإمام في سجود السهو يصير مدركًا للصلاة، ولو قهقه في هذه الحالة يكون حدثًا وما كان من أفعال الصلاة، متى سقط عن الإمام سقط عن القوم كالقعدة على رأس الركعتين، وسجدة التلاوة واجبة في الصلاة.
فأما تكبيرات التشريق ليست من أفعال الصلاة، وإنها تؤدى خارج الصلاة بدليل عكس ما ذكرنا من الأحكام، فسقوطه عن الإمام لا يوجب سقوطه عن القوم.
يوضحه: أن المقتدي بالاقتداء صار تابعًا للإمام فيما هو من أفعال الصلاة، لا فيما ليس من أفعال الصلاة، وحكم التبع لا يخالف حكم الأصل فيما هو من أفعال الصلاة متى سقط عن الإمام فسقط عن المقتدي بطريق التبعية، ولا كذلك ما ليس من أفعال الصلاة.
فإن قيل: كان ينبغي أن لا يأتون بالتكبير عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن الجماعة عنده شرط الوجوب يجب أن يكون شرط الأداء كما في الجمعة، والجماعة إنما تتحقق بالإمام والقوم، فإذا ذهب الإمام فقد انعدمت الجماعة على ما ذكرنا.
قلنا: التكبير يشبه الجمعة ويشبه سائر الصلوات، فلشبهه بالجمعة يشترط لوجوبه الجماعة، ولشبهه بسائر الصلوات لا يشترط لأدائه الجماعة عملًا بالشبهين بقدر الإمكان. قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: إذا فاتته الصلاة في غير أيام التشريق فأراد أن يقضيها في أيام التشريق فهنا أربع مسائل:
إحداها: هذه والحكم فيها أن يقضيها من غير تكبير وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضيها بتكبير، وجه هذه الرواية قوله عليه السلام: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها» جعل وقت التذكر وقت الأداء، ووقت التذكر وقت التكبير، وجه ظاهر الرواية: أنه إن في القضاء تعتبر حالة الفوات في حق بعض الأحكام فإن من قضى الفجر في غير وقته يجهر بالقراءة فيها، ومن قضى الظهر والعصر في غير وقتها يخافت بالقراءة فيها، ومن قضى الفائتة في حالة السفر في حالة الإقامة، فصار ركعتين في ذوات الأربع ومن قضى الفائتة في حالة الإقامة في حالة السفر قضاها أربعًا.
وفي حق بعض الأحكام تعتبر حالة القضاء، ألا ترى أن المريض إذا فاتته صلاة قائمًا فقضاها بعدما قدر على الركوع والسجود فقضاها بركوع وسجود ولو فاتته صلاة بركوع وسجود، فأراد أن يقضيها حال ما لا يقدر على الركوع والسجود قضاها قائمًا، فباعتبار حالة القضاء إن كان يجب التكبير، فباعتبار حالة الأداء لا يجب التكبير.
والجهر بالتكبير عرف شرعًا بخلاف الأصل، فإن الأصل في الأذكار والأدعية الخفية فإذا وجب من وجه دون وجه لا يجب على اعتبار حالة الفوات راجح، لأنه هو المعتبر في عامة الأحكام، وإنما اعتبر حالة القضاء في المريض خاصة وإبداء العبرة للراجح. والحديث لا حجة له فيه؛ لأن الحديث يقتضي أن يكون وقت التذكر وقت الصلاة الفائتة، فكان هذا الوقت من حيث التقدير، كأنه ذلك الوقت، وذلك الوقت ليس وقت التكبير.
المسألة الثانية: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، وقضاها في غير أيام التشريق، فقضاها من غير تكبير، وعند الشافعي رحمه الله قضاها بتكبير وجه قوله: أن الفائت إنما يقضى على الوجه الذي فات كما في الجهر والمخافتة على ما مر.
وجه قولنا: أن الفائت إنما يقضى على الوجه الذي فات إذا أمكن، وهنا لا إمكان؛ لأن الجهر بالتكبير إنما عرف قربة في زمان مخصوص بالنص بخلاف القياس، فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان، فعجز عن القضاء بالتكبير فسقط.
ألا ترى: أن التضحية إذا فاتت عن وقتها لا تقضى، وكذا رمي الجمار إذا فاتت عن وقته لا تقضى؛ لأن التضحية عرف قربة في زمان مخصوص بالنص بخلاف القياس، فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان فعجز عن القضاء بالتكبير فسقط.
ألا ترى: أن التضحية لما كانت تثبت في الحقيقة فلا تكون قربة في غير ذلك الزمان فعجز عن القضاء فسقط كذا هاهنا.
المسألة الثالثة: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق، فقضاها في أيام التشريق من عامه ذلك فقضاها بتكبير؛ لأن وقت التكبير باقي؛ لأن جميع أيام التشريق وقت التكبير.
ألا ترى: أن التكبيرات تضاف إلى جميع أيام التشريق إلا أنه فات الوقت المستحب، فإن الوقت المستحب أن يأتي بها عقيب الصلوات في أوقاتها، ولكن فوات الوقت المستحب لا يوجب سقوط العبادة إذا بقي أصل الوقت. ألا ترى لو ترك رمي الجمار إلى آخر أيام التشريق ثم رمى فإنه يجزئ وكذا هاهنا.
المسألة الرابعة: إذا فاتته صلاة في أيام التشريق فقضاها في الأيام التشريق من العام القابل قضاها من غير تكبير في ظاهر الرواية، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يقضيها بتكبير؛ لأنا إن اعتبرنا وقت الفوات فهو وقت التكبير، وإن اعتبرنا وقت القضاء فهو وقت التكبير فقد قدر على القضاء بالتكبير فيلزمه ذلك.
وجه ظاهر الرواية: أن اعتبار وقت الفوات إن كان يوجب التكبير فاعتبار وقت القضاء لا يوجب التكبير؛ لأن وقت القضاء وقت التكبير عقيب الصلوات المشروعة فيه قضاء، فدار التكبير بين أن يجب وبين أن لا يجب، وهو بدعة في الأصل، فلا يجب عند التردد بخلاف ما إذا أراد أن يقضيها في أيام التشريق من عامه ذلك؛ لأن التكبير مشروع في الصلوات المشروعة في هذه الأيام، والفائت صلاة هذه الأيام، أما هنا فيخالفه.
ويبدأ الإمام إذا فرغ من صلاته بسجود السهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية إن كان محرمًا، أما تقديم سجود السهو على التكبير؛ لأن سجود السهو يؤدى في حرمة الصلاة والتكبير يؤدى في فور الصلاة لا في حرمتها، ولهذا صح الاقتداء بالإمام في سجود السهو، ولا يصح الاقتداء به في التكبير. وأما تقديم التكبير على التلبية؛ فلأن التكبير يؤدى في فور الصلاة والتكبير لا يختص أداؤه بحال في فور الصلاة، والتكبير من خصائص الصلاة، والتلبية ليست من خصائص الصلاة، فإنه يلبي كلما هبط واديًا أو علا شرفًا وبالأسحار.
يجهر بالتكبير في عيد الأضحى في طريق المصلى بلا خلاف، وإذا انتهى إلى المصلى يقطع، وفي رواية لا يقطع ما لم يفتتح الإمام الصلاة.
وفي عيد الفطر هل يجهر بالتكبير في طريق المصلى؟ روى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يجهر، وروى الطحاوي عن أستاذه أبي عمر بن العلاء عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه يجهر وهو قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله. احتجوا بما روى الزهري عن سالم عن ابن عمر عن النبي عليه السلام: «كان يكبر في الفطر والأضحى إذا خرج من بيته رافعًا صوته بالتكبير» ولأبي حنيفة رحمه الله ما روي أن ابن عباس رضي الله عنهما مر في يوم الفطر ومعه قائد فسمع الناس يكبرون فقال: أكبر الإمام، فقال: لا، قال: أفجن الناس؛ ولأن هذا وقت اختص بركن من أركان الحج فلا يشرع فيه التكبير قياسًا على رمضان؛ وهذا لأن التكبير شرع علمًا على وقت أركان الحج.
فإن قيل: كلما دخل شوال دخل وقت بعض أفعال الحج فإنه لو أحرم في شوال وسعى لها يجوز، والسعي من أفعال الحج.
قلنا: هذا من واجبات الحج لا من أركانه والواجبات تقع للأذكار فشرع التكبيرات علمًا على الأركان، وإنها أصول لا يدل على شرعها علمًا على الواجبات وإنها توابع. وعن الفقيه أبي جعفر رحمه الله أنه قال: سمعت أن مشايخنا كانوا يرون التكبير في الأيام العشر بدعة في الأسواق. والله تعالى أعلم.

.الفصل الثامن والعشرون في صلاة الخوف:

يجب أن نعلم بأن صلاة الخوف بقيت مشروعة بعد الرسول صلى الله عليه وسلّم في ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنها لم تبق مشروعة حتى لو صلى الإمام صلاة الخوف في زماننا على الوجه الذي صلاها رسول الله عليه السلام جاز في ظاهر رواية أصحابنا. وفي رواية الحسن عن أبي يوسف أنه لا يجوز وهذا ذكره محمد في الأثر عن أبي يوسف قال محمد: هذا قولي لولا الأثر أشار إلى أن القياس ما قاله أبو يوسف، لكن ترك القياس بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وجه رواية أبي يوسف: أن القياس أبى جواز صلاة الخوف لما فيه من المشي واستدبار القبلة، لكن عرفنا الجواز في زمن رسول الله عليه السلام بالنص وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَفِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا} [النساء: 102] لإدراك الناس فضيلة الصلاة خلف رسول الله عليه السلام، وليس للصلاة خلف غير الرسول من الفضيلة بالصلاة خلف الرسول، فردت صلاة الخوف في زماننا إلى أصل القياس.
وجه ظاهر الرواية: أن الصحابة صلوا صلاة الخوف بعد رسول الله عليه السلام، روي عن سعيد بن أبي العاص أنه حارب المجوس بطبرستان ومعه الحسن بن علي، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال: أيكم شهد صلاة الخوف مع رسول الله عليه السلام، فقال حذيفة: أنا، فقام وصلى بهم صلاة الخوف، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه صلى صلاة الخوف..... ولم ينكر عليهما أحد فحل محل الإجماع.
والذي قال: بأن صلاة الخوف إنما شرعت في زمن رسول الله عليه السلام لإدراك الناس فضيلة الصلاة خلف رسول الله فاسد؛ لأن ترك المشي والاستدبار في الصلاة فريضة، والصلاة خلف النبي عليه السلام فضيلة وسنّة؛ لأنه تجوز الصلاة خلف غيره، ولا يجوز ترك الفرض لإحراز الفضيلة، فلا يحال بجواز صلاة الخوف على ما قلتم، وإنما يحال على نفس الخوف؛ لأن للخوف أثرًا في إسقاط الفرض، والخوف متحقق في زماننا حسب تحققه في زمن الرسول عليه السلام، فتثبت الشرعية في زماننا حسب ثبوتها في زمن الرسول عليه السلام.
وكيفية صلاة الخوف: أن يجعل الإمام الناس طائفتين طائفة بإزاء العدو، وطائفة يفتتح الصلاة بهم ويصلي بهم، ويصلي بكل طائفة شطر الصلاة، فإن كانت الصلاة من ذوات الأربع كالظهر والعصر والعشاء في حق المقيم يصلي بالطائفة التي معه ركعتين، وتتشهد وتنصرف هذه الطائفة من غير سلام، ويقفون بإزاء العدو، وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم بقية الصلاة، ويتشهد ثم يسلم الإمام؛ لأنه تمت صلاته وتنصرف هذه الطائفة بغير سلام، ويقفون بإزاء العدو، ثم تعود الطائفة الأولى، فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة؛ لأنهم مدركون أول الصلاة، ويتشهدون ويسلمون ويذهبون، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة؛ لأنهم مسبوقون، ويتشهدون ويسلمون، وإن كانت الصلاة من ذوات المثنى نحو الفجر في حق الكل، والعصر والعشاء في حق المسافر صلى بكل طائفة ركعة على نحو ما بينا.
وإن كانت الصلاة من ذوات الثلاث نحو المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة على نحو ما بينا؛ لأن حظ كل طائفة من صلاة الخوف الشطر وشطر المغرب ركعتان بدليل أن القعدة المشروعة عقيب الشطر شرعت في الغرب عقيب الركعتين؛ ولأن للطائفة الأولى حظًا من الركعة الثانية، والركعة الواحدة مما لا يتجزأ فرجحنا الطائفة الأولى بحكم السبق.
ثم الحال لا يخلو من وجهين: إما أن يكون العدو مستدبر القبلة، أو مستقبل القبلة وكل وجه على خمسة أوجه: إما أن يكون الإمام والقوم مسافرين، أو الكل مقيمين، أو كان الإمام مقيمًا والقوم مسافرون، أو كان الإمام مسافرًا والقوم مقيمون، أو كان بعض القوم مقيمًا وبعض القوم مسافرًا، والإمام مقيم أو مسافر، فإن كان العدو مستدبر القبلة، والإمام والقوم مسافرون، وأرادوا أن يصلوا صلاة الخوف، إن لم يتنازع القوم في الصلاة خلفه، فإن الأفضل للإمام أن يجعل القوم طائفتين، فيأمر طائفة ليقيموا بإزاء العدو، ويصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة، ثم يأمر رجلًا من الطائفة التي بإزاء العدو حتى يصلي بهم تمام صلاتهم أيضًا، والطائفة التي صلت مع الإمام الأول يقومون بإزاء العدو وإن تنازع كل طائفة فقالوا: إنا نصلي معك، فإنه يجعل القوم طائفتين تقف إحداهما بإزاء العدو ويراقبون العدو، والطائفة الأخرى يقيمون الصلاة مع الإمام، فيصلي بهم ركعة، فإذا صلى بهم ركعة ذهبت هذه الطائفة التي مع الإمام، وقاموا بإزاء العدو ويراقبون العدو، ثم جاءت الطائفة التي كانت بإزاء العدو والإمام قاعد ينتظرهم، فيصلي بهم الركعة الأخرى ثم يتشهد ويسلم، ولا يسلم معه من كان خلفه، ولكن يقومون ويذهبون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى مكان صلاتهم فيصلون ركعة بغير قراءة؛ لأنهم مدركون أول الصلاة مع الإمام فصار كأنهم خلف الإمام، فإذا صلوا ركعة فقد قرأ قدر التشهد ويسلمون، ويذهبون ويقفون بإزاء العدو ويراقبونهم، ثم تجيء الطائفة الأخرى مكان صلاتهم، فيقضون ركعة بقراءة؛ لأنهم مسبوقون والمسبوق فيما يقضي يقضي بقراءة فيصلون صلاة الخوف على هذا الوجه عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله.
وللشافعي في هذه المسألة ثلاثة أقوال: قول مثل قول أبي حنيفة، ومحمد.
والقول الثاني: قال: يصلي بالطائفة التي معه تمام الصلاة، ثم تذهب الطائفة التي صلت مع الإمام تمام صلاتهم، ويقفون بإزاء العدو، وتجيء الطائفة الأخرى فيصلي بهم مرة أخرى ويجزئهم ذلك، وإن كان هذا من اقتداء المفترض بالمتنفل، ولكن اقتداء المفترض بالمتنفل جائزة عنده.
والقول الثالث: وهو المشهور أنه يجعل القوم طائفتين طائفة تقوم بإزاء العدو وطائفة يفتتح الصلاة مع الإمام، فيصلي بالطائفة التي معه ركعة، فإذا صلى ركعة قام الإمام ووقف قائمًا، ولا يقرأ حتى تصلي هذه الطائفة التي معه تمام صلاتهم، ويذهبون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو فيصلي الإمام بهم ركعة ولا يسلم بل يمكث قاعدًا حتى تصلي هذه الطائفة الثانية تمام صلاتهم، ثم يسلم الإمام مع القوم.
فإن كان العدو مستقبل القبلة، فالخوف منه كالخوف فيما إذا كان العدو مستدبر القبلة عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: إن كان العدو مستقبل القبلة، وكانوا في أرض مستوية لا يسترهم شيء، ولا يخافون الكمين من جهة العدو، فإنه يفتتح الصلاة بالقوم كلهم، ثم يركع ويركع معه كل القوم ثم يسجد ويسجد معه الصف الثاني، ولا يسجد الصف الأول، بل يحرسون الصف الثاني، ثم يمكث الإمام قاعدًا حتى يسجد الصف الأول السجدة الأولى، فإذا سجدوا السجدة الأولى سجد الإمام سجدة أخرى، ويسجد معه الصف الأول، ولا يسجد الصف الثاني، بل يحرسون الصف الأول حتى يحصل لكل طائفة سجدة مع الإمام، فيستويان، ثم يمكث حتى تسجد الطائفة الثانية السجدة الأخرى، ثم يدركون الإمام ثم يصلي بهم الركعة الأخرى على هذا الوجه إلا أنه في الركعة الثانية إن شاء تقدم الصف الثاني، وقام مقام الصف الأول حتى يستويان، وإن شاء يتقدم، وذلك أفضل وهو قول ابن أبي ليلى.
فإن كان الإمام والقوم مقيمين والصلاة من ذوات الأربع فإنه تقوم طائفة بإزاء العدو، ثم يفتتح الصلاة بالطائفة التي معه، فيصلي بهم ركعتين، ويقعد قدر التشهد؛ فإنه تذهب هذه الطائفة بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدو مكان صلاتهم، والإمام قاعد منتظر مجيئهم، فيصلي بهم ركعتين، ثم يتشهد ويسلم، ولا تسلم معه الطائفة الثانية، بل يقومون فيذهبون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الأولى مكان صلاتهم فيصلون ركعتين بغير قراءة، ويسلمون ويقفون بإزاء العدو، ثم تجيء الطائفة الثانية مكان صلاتهم، ويصلون ركعتين بقراءة على نحو ما بينا.
وإن كان الإمام مقيمًا والقوم مسافرون فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الكل مقيمين؛ لأن القوم صاروا مقيمين في حق هذه الصلاة حين اقتدوا بالمقيم.
فإن كان الإمام مسافرًا، والقوم مقيمين صلى بالطائفة التي معه ركعة، ثم انصرفوا بإزاء العدو، وصلى بالطائفة الثانية ركعة وسلم، ثم تجيء الطائفة الأولى فيصلون ثلاث ركعات بغير قراءة، نص على هذا في (الكتاب)، وهذا الجواب في الركعة الثانية لا يشكل؛ لأنهم في الركعة الثانية كأنهم خلف الإمام من حيث الحكم؛ لأنهم أدركوا أول الصلاة، إنما الإشكال في الركعتين الأخريين، لأنهم يؤدون الأخريين على سبيل الانفراد؛ لأن تحريمتهم هكذا انعقدت مع هذا قال: يقضيهما بغير قراءة.
وذكر الحسن بن زياد رحمه الله في (المجرد): أنه يقضيها بقراءة. وإن كان الإمام مسافرًا والقوم مقيمون ومسافرون صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة، فمن كان مسافرًا خلف الإمام بقي إلى تمام صلاته ركعة ومن كان مقيمًا بقي إلى تمام صلاته ثلاث ركعات، ثم ينصرفون بإزاء العدو، وترجع الطائفة الأولى إلى مكان الإمام، فمن كان مسافرًا يصلي ركعة بغير قراءة؛ لأنه مدرك أول الصلاة، ومن كان مقيمًا يصلي ثلاث ركعات بغير قراءة في ظاهر الرواية.
وفي رواية الحسن: يقرأ في الركعتين الأخريين بفاتحة الكتاب، وفي الركعة الأولى لا يقرأ فإذا تمت الطائفة الأولى صلاتهم ينصرفون بإزاء العدو وتجيء الطائفة الثانية إلى مكان صلاتهم فمن كان مسافرًا يصلي ركعة بقراءة؛ لأنه مسبوق ومن كان مقيمًا يصلي ثلاث ركعات الأولى بفاتحة الكتاب وسورة؛ لأنه كان مسبوقًا فيها، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب على الروايات كلها.
وإن كان الإمام مقيمًا، والقوم مقيمون ومسافرون، فالجواب فيه كالجواب فيما إذا كان الكل مقيمون؛ لأن المسافرين يصيرون مقيمين بالاقتداء وإن لم تقرأ الطائفة الثانية فيما يقصرون لم يجزئهم لأنهم مسبوقون، وإن اقتدى أحدهما بصاحبه فيما يقضي فسدت صلاة المقتدي، وصلاة الإمام تامة، وإذا سهى الإمام في صلاة الخوف وجب عليه سجدتا السهو.
ومن قاتل منهم في صلاته فسدت صلاته عندنا، ولو فعلوا كذلك وقال: لا تفسد صلاته وهو قول الشافعي رحمه الله، ولا يصلون وهم يقاتلون وإن ذهب الوقت لو فعلوا كذلك لا تجوز صلاتهم.
وكذلك من ركب منهم في صلاته عند انصرافه إلى وجه العدو فسدت صلاته، ولا يصلون جماعة ركبانًا إلا أن يكون الإمام والمقتدي على دابة فيصح اقتداء المقتدي به، وروي عن محمد رحمه الله: أنه جوز لهم في الخوف أن يصلوا ركبانًا بالجماعة وقال: أستحسن ذلك لينالوا فضيلة الجماعة.
عن محمد رحمه الله أنه قال: إذا كان الرجل في السفر فأمطرت السماء، فلم يجد مكانًا يابسًا ينزل للصلاة، فإنه يقف على دابته مستقبل القبلة، فإنه يصلي مستدبر القبلة بالإيماء فعل هذا إذا كان يخاف النزول عن الدابة فيصلي بالإيماء إذا أمكنه إيقاف الدابة وإن لم يمكنه إيقاف الدابة، مستقبل القبلة فإنه يصلي راكبًا مستقبل القبلة، بالإيماء إن أمكنه، وإن لم يمكنه صلى مستدبر القبلة، ثم إنما يجزئه ذلك إذا كانت الدابة تسير بسير نفسها، فأما إذا كان يسيرها صاحبها لا تجزئه، فإن كان ماشيًا هاربًا من العدو، فحضرت الصلاة، ولم يمكنه الوقوف ليصلي، فإنه لا يصلي ماشيًا عندنا بل يؤخر.
وعند الشافعي يصلي في تلك الحالة بالإيماء ثم يعيد، وإن صلوا صلاة الخوف من غير أن يعاينوا العدو جازت صلاة الإمام، ولم تجز صلاة القوم إذا صلوها بصفة الذهاب والمجيء، ولو رأوا سوادًا وظنوا أنهم العدو، فصلوا صلاة الخوف، فإن تبين أنه كان سواد العدو فقد ظهر أن سبب الترخيص كان متقررًا، فتجزئهم صلاتهم.
وإن ظهر أن السواد سواد إبل أو بقر أو غنم فقد ظهر أن سبب الترخيص لم يكن متقررًا فلا تجزئهم صلاتهم والخوف من سبع يعاينوه كالخوف من العدو؛ لأن الرخصة لدفع سبب الخوف عنهم، ولا فرق في هذا بين السبع والعدو.
والراكب إذا أمكنه أن يصلي راكبًا، ولم يمكنه النزول يصلي قائمًا، وإذا صلى بالإيماء لم تلزمه الإعادة بعد زوال العذر في الوقت وخارج الوقت، والراجل يومئ إذا لم يقدر على الركوع والسجود، والراكب إذا كان طالبًا لا يصلي على الدابة، وإن كان مطلوبًا لا بأس بأن يصلي على الدابة. والله أعلم.

.نوع آخر من هذا الفصل:

ينبني على ثلاثة أصول:
أحدها: أن الانحراف عن القبلة في خلال الصلاة في غير موضعه وأوانه مفسدة للصلاة، وترك الانحراف عن القبلة والثبات عليها في موضعه وفي غير موضعه غير مفسدة للصلاة؛ وهذا لأن نص الأصل الفساد بالانحراف مطلقًا في عموم الأحوال وإنما ترك نص هذا الأصل في صلاة الخوف مقيدًا بأوانه، وقد بينا أوان الانحرف لكل واحد من الطائفتين، فبقي ما عداه على نص الأصل، أما ترك الانحراف عن القبلة والثبات عليها في موضع الانحراف عمل بالأصل وتمسك بما هو عزيمة، فلا يصلح مفسدًا لكن يوجب الانتباه لمخالفة الجماعة أو السنّة.
الأصل الثاني: أن من أدرك الشطر الأول فهو من الطائفة الأولى، ومن أدرك الشطر الثاني فهو من الطائفة الثانية؛ لأن صلاة الخوف تقام بطائفتين لكل طائفة شطر من الصلاة، وللصلاة شطران، والتي يقام بها الشطر الأول يجعل من الطائفة الأولى، والتي يقام بها الشطر الثاني يجعل من الطائفة الثانية.
والأصل الثالث: أن المقتدي يتبع رأي الإمام لا رأي نفسه؛ لأنه بالاقتداء به ألزم متابعته، فيترك رأيه برأي الإمام إلا إذا تيقن بخطأ الإمام على ما نبين بعد هذا إن شاء الله تعالى، والمنفرد يتبع رأي نفسه؛ لأنه أصل بنفسه، ولم يلتزم متابعة غيره، والمسبوق فيما يقضي منفرد واللاحق كأنه خلف الإمام.
إذا عرفنا هذه الأصول جئنا إلى المسائل: قال محمد رحمه الله في (الزيادات): إذا صلى الإمام المغرب صلاة الخوف جعل الناس طائفتين، وصلى بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعة على ما بينا، فلو أنه أخطأ وصلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعتين ظنًا منه أن المعتبر قسمة القراءة، ثم سلم الإمام وذهبت الطائفة الثانية، وجاءت الطائفة الأولى، فصلاة الإمام تامة؛ لأنه لم ينزح عن مكانه حتى أتم صلاته.
وصلاة الطائفتين فاسدة، أما الطائفة الأولى، فلأنهم انحرفوا بعد الركعة الأولى، وهذا ليس أوان انحرافهم، وأما الطائفة الثانية فهو من الطائفة الأولى؛ لأنهم أدركوا شيئًا من الشطر الأول إلا أنهم مسبوقون بركعة، فكان ينبغي لهم أن ينحرفوا عقيب الركعة الثانية غير أن ترك الانحراف والثبات على القبلة لا تفسد الصلاة وإن كان في غير موضعه إلا أنهم انحرفوا عن القبلة بعد سلام الإمام. وهذا أوان انصرافهم إلى القبلة لا أوان انحرافهم ففسدت صلاتهم، حتى لو لم ينحرفوا لا تفسد صلاتهم.
فإن صلى بالطائفة الأولى ركعة فانحرفوا، ثم جاءت الطائفة الثانية، فصلى بهم ركعة ثم انحرفوا ثم عادت الطائفة الأولى، فصلى بهم الركعة الثالثة، ثم انحرفوا، ثم عادت الطائفة الثانية، فقضوا الركعتين ثم جاءت الطائفة الأولى، فصلاة الإمام تامة لما ذكرنا.
وصلاة الطائفة الأولى فاسدة، لأنهم انحرفوا عن القبلة في غير أوانه وهو ما بعد الركعة الأولى، ففسدت صلاتهم فحين جاؤوا وصلوا مع الإمام الركعة الثالثة، فقد بنوا تلك الركعة على تحريمة فاسدة، والبناء على الفاسد فاسد.
وصلاة الطائفة الثانية جائزة؛ لأنهم من الطائفة الأولى، وقد انحرفوا في أوانه وهو ما بعد الركعة الثانية، فصحت صلاتهم، وعليهم أن يقضوا الركعة الثالثة أولًا بغير قراءة؛ لأنهم مدركون الثالثة، ثم يقضون الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون في حق الأولى، فلو أن الطائفة الأولى حين انصرفوا للركعة الثالثة جددوا التكبير والتحريمة، وصلوا الركعة الثالثة جازت صلاتهم؛ لأنهم الطائفة الثانية في الحقيقة، وقد انحرفوا في أوانه، فإذا رجعوا فعليهم أن يصلوا ركعتين بقرءاة؛ لأنهم مسبوقون فيهما.
فإن جعل الإمام الناس ثلاث طوائف، وصلى بتلك الطائفة ركعة، ثم عادت الطائفة الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، فصلاة الإمام تامة لما مر، صلاة الطائفة الأولى فاسدة لما قلنا، صلاة الطائفتين جائزة، أما الطائفة الثانية، فلأنهم الطائفة الأولى في الحقيقة، وقد انحرفوا في أوانه، ويقضون الركعة الثالثة أولًا بغير قراءة؛ لأنهم مدركون لها، ويقضون الركعة الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها، وأما الطائفة الثالثة فإنهم في الحقيقة هم الطائفة الثانية، وقد انحرفوا في أوانه، وهو ما بعد الثالثة ويقضون الركعتين بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيهما.
قال محمد رحمه الله: وإذا صلى الإمام صلاة الظهر في المصر أو في فنائه مواقعين للعدو جعل الناس طائفتين فصلى بكل طائفة ركعتين لما ذكرنا، فإن أخطأ الإمام وظن أنه يقسم القراءة بين طائفتين، وصلى بالطائفة الأولى ركعة وبالطائفة الثانية بقية الصلاة فسدت صلاة الطائفتين جميعًا لوجود الانحراف في غير أوانه من الطائفتين، أما الطائفة الأولى؛ فلأنهم انصرفوا قبل القعدة الأولى، وأما الطائفة الثانية؛ فلأنهم من الطائفة الأولى؛ لأنهم أدركوا شيئًا من الشطر الأول، وقد انصرفوا بعد سلام الإمام، وهذا أوان عودهم لا أوان انصرافهم.
قال: ولو أن الإمام صلى بالطائفة الأولى ركعة وانصرفت، وبالطائفة الثانية ركعة وانصرفت، ثم صلى بالطائفة الأولى الركعة الثالثة، ثم بالطائفة الثانية الركعة الرابعة وانصرفوا، فصلاة الإمام تامة وصلاة الطائفة الأولى والطائفة الثانية فاسدة، أما صلاة الإمام فلما حلت غير مرة.
وأما صلاة الطائفة الأولى، فلأنهم انصرفوا في غير أوانه ففسدت صلاتهم، فلما عادوا وصلوا مع الإمام الركعة الثالثة إن لم يجددوا التحريمة فهذا بناءٌ على الفاسد، وإن جددوا التحريمة صح شروعهم، وكانوا من الطائفة الثانية في الحقيقة فلما انصرفوا بعد الركعة الثالثة كان هذا انصرافًا في غير أوانه، فإن أوان انصراف الطائفة الثانية ما بعد فراغ الإمام، فإذا انصرفوا قبل ذلك فسدت صلاتهم.
وأما الطائفة الثانية؛ فلأنهم من الطائفة الأولى لإدراكهم الركعة الثانية مع الإمام، وقد انصرفوا في أوانه، فلما جاؤوا وصلوا مع الإمام الركعة الرابعة فهذا المجيء منهم، وإن كان في غير أوانه إلا أنه لا يكون مفسدًا لصلاتهم لما مر في أصل الباب، ولكن لما سلم الإمام، وانصرفوا فسدت صلاتهم؛ لأنهم من جملة الطائفة الأولى، وليس هذا أوان الانصراف من الصلاة للطائفة الأولى، ففسدت صلاتهم، حتى لو لم تنصرف الطائفة الثانية بعد الفراغ من الرابعة لا تفسد صلاته، وعليهم أن يقضوا ركعتين الثالثة أولًا بغير قراءة؛ لأنهم لاحقون فيها، ثم الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها.
قال: ولو أن الإمام جعل الناس على أربع طوائف وصلى بكل طائفة ركعة فصلاة الإمام تامة، وصلاة الطائفة الأولى والثالثة فاسدة.
أما الطائفة الأولى: فلأنهم انصرفوا في غير أوان الانصراف لما مر غير مرة.
أما الطائفة الثالثة: فلأنهم في الحقيقة الطائفة الثانية وقد انصرفوا في غير أوان انصراف الطائفة الثانية وهو ما بعد الركعة الثالثة.
وأما صلاة الطائفة الثانية والرابعة فجائزة، أما صلاة الطائفة الثانية؛ فلأنهم من جملة الطائفة الأولى لكنهم مسبوقون بركعة، وقد انصرفوا في أوان انصراف الطائفة الأولى فجازت صلاتهم، ثم إذا جاؤوا يتمون صلاتهم فعليهم أن يصلوا ركعتين بغير قراءة وهي الثالثة والرابعة؛ لأنهم لاحقون فيهما، ثم ركعة بقراءة وهي الركعة الأولى، لأنهم مسبوقون فيهما.
وأما الطائفة الرابعة: فلأنهم من جملة الطائفة الثانية؛ لأنهم أدركوا شيئًا من وظيفة الطائفة الثانية، وانصرفوا في أوان انصراف الثانية وهو ما بعد فراغ الإمام، فجازت صلاتهم، ولكنهم مسبوقون بثلاث ركعات فعليهم أن يصلوا ركعتن بقراءة الفاتحة والسورة، وفي الثالثة بالخيار، وإن شاؤوا قرأوا الفاتحة، وإن شاؤوا سبحوا، وإن شاؤوا سكتوا كما هو الحكم في المسبوق بثلاث ركعات.
قال محمد رحمه الله: وإذا قاتل الإمام العدو يوم العيد في المصر، فأراد أن يصلي بالناس صلاة الخوف جاز لوجود العلة كما في غيرها من الصلوات فيجعل الناس طائفتين ويصلي بكل طائفة ركعة، فإن كان الإمام يرى مذهب ابن مسعود، وأتى بتسع تكبيرات في الركعتين ثلاث منها أصليات وست زوائد، ثلاث في الأولى وثلاث في الثانية، بدأ بالتكبير في الركعة الأولى، وبالقراءة في الركعة الثانية تابعته الطائفة الأولى في الركعة الأولى، وتابعته الطائفة الثانية في الركعة الثانية، وإن كان رأي كل واحدة من الطائفين خلاف رأي الإمام؛ لأن على المقتدي متابعة رأي الإمام على ما مر إلا إذا تيقن بخطأ الإمام بأن فعل ما لم يقل به واحد من الصحابة ولم يوجد ذلك هنا.
فإذا فرغ الإمام من صلاته انحرفت الطائفة الثانية وجاءت الطائفة الأولى يقضون الركعة الثانية بغير قراءة، فيقومون قدر قراءة الإمام، أو أقل أو أكثر، ثم يكبرون الزوائد، ويركعون بالرابعة كما فعله الإمام؛ لأنهم لاحقون في ذلك، فكانوا في حكم المقتدين، وإذا أتموا انحرفوا، وجاءت الطائفة الثانية يقضون الركعة الأولى بقراءة؛ لأنهم مسبوقون فيها يبدؤون بالقراءة ثم بالتكبير في رواية (الزيادات) و(الجامع) و(السير الكبير) وإحدى روايتي (النوادر)، وهو الاستحسان، وفي إحدى روايتي (النوادر) يبدؤون بالتكبير وهو القياس، وقد ذكرنا نظير هذا في فصل صلاة العيد.
قال محمد رحمه الله في (الزيادات) أيضًا: إمام صلى الظهر بالناس صلاة الخوف، وهم مقيمون فلما صلى بطائفة ركعتين انحرفوا إلا واحدًا منهم لم تفسد صلاته؛ لأنه لم يوجد منه إلا ترك الانحراف، والثبات على القبلة، وكل ذلك لا يفسد الصلاة، ولكن لا يستحب له ذلك: لأنه التزم الذهاب مع أصحابه ليكونوا رصدًا للطائفة الثانية، فإذا لم يذهب، فقد ضيعهم وترك الوفاء بما التزم فيكره له ذلك.
لهذا فإن صلى مع الإمام الركعة الثالثة، فعلم أنه أساء فيما صنع، فانحرف بعد الثالثة أو بعد الرابعة قبل أن يقعد الإمام قدر التشهد، فصلاته صحيحة؛ لأنه من الطائفة الأولى، وما بعد الشطر الأول إلى أن يفرغ الإمام من الصلاة أوان الانحراف للطائفة الأولى.
وإذا انحرف، فقد تدارك ما ترك في أوانه، وكذلك لو انحرف بعدما قعد مع الإمام قدر التشهد قبل السلام، فصلاته تامة، وإن كان هذا انحرافًا في غير أوانه، لأنه من الطائفة الأولى، وهذا أوان انصراف الطائفة الأولى إلى الصلاة إلا أنه إنما لم تفسد لانتهاء أركانها، فإن الصلاة بعد انتهاء أركانها لا تقبل الفساد حتى لو بقي عليه شيء من الأركان بأن بقي هذا الرجل بعد أداء الشطر الأول نائمًا أو قائمًا خلف الإمام، ولم يصل معه، وانحرف بعدما قعد الإمام قدر التشهد، أو كان مسبوقًا بركعة تفسد صلاته، ثم إذا لم تفسد صلاته بالانحراف بعدما قعد الإمام قدر التشهد لا يجب عليه أن ينصرف مع أصحابه، ليسلم؛ لأنه قد تمت صلاته وقد انحرف على وجه الرفض؛ لأنه انحرف ليشتغل بأمر العدو، والانحراف بعد تمام الصلاة على قصد الرفض يوجب رفض ما بقي، فلا يجب عليه العود بخلاف ما إذا أحدث بعدما قعد قدر التشهد قبل أن يسلم، وانصرف ليتوضأ ويبني، فإن عليه أن يعود ليجلس ويسلم؛ لأن هناك ما انحرف على وجه الرفض بل على وجه البناء، فلم يرفض ما بقي وقد بقي عليه سنّة، وهي الخروج بلفظة التسليم، فكان عليه أن يعود لإقامة السنّة، أما هاهنا بخلافه.
وإذا لم يكن العدو حاضرًا ولكن خاف الإمام حضور العدو لا ينبغي له أن يصلي صلاة الخوف؛ لأن صلاة الخوف إنما جازت باعتبار الضرورة، فلا تجوز قبل تحققها.
فإن افتتح الإمام صلاة الظهر، وهم مسافرون، فلما صلى ركعة أقبل العدو، فانحرفت طائفة من المصلين، ووقفوا بإزاء العدو، وبقيت طائفة مع الإمام حتى أتموا صلاتهم، فصلاتهم تامة، أما صلاة من بقي مع الإمام فظاهر، وأما صلاة من انحرف؛ فلأن هذا انحراف في أوانه والضرورة متحققة عند الانصراف، وكانت العبرة لحالة الانصراف لا لحالة الشروع؛ لأن الرخصة في الانصراف، فيعتبر قيام الرخصة وقت الانصراف.
ولو افتتح الإمام بهم صلاة الظهر وهم مقيمون، فأقبل العدو، وانحرفت طائفة من المصلين بعد الركعتين لم تفسد صلاتهم، لأنهم لو انحرفوا حال حضور العدو بعد الركعتين لا تفسد صلاتهم، لأنه أوان الانحراف كذا هنا.
وإن انحرفوا بعدما صلوا ركعة فسدت صلاتهم؛ لأن هذا ليس أوان الانحراف، ولهذا لو كان العدو حاضرًا، وانحرفوا بعد الركعة الأولى تفسد صلاتهم، ولو حضر العدو بعدما صلى الظهر ثلاث ركعات، وانصرفت طائفة منهم ليقفوا بإزاء العدو، لا ذكر لهذا الفصل في (الكتاب).
وقد اختلف المشايخ، قال بعضهم: لا تفسد صلاتهم؛ لأن بعد أداء الشطر إلى أن يفرغ الإمام أوان الانحراف للطائفة الأولى. وبعضهم قالوا: تفسد صلاتهم لأن الخوف تحقق في الشفع الثاني، فكان حكمهم حكم الطائفة الثانية، وليس هذا أوان الانحراف في حق الطائفة الثانية.
فلو أن الإمام قال لأصحابه: لتقف طائفة منكم في موضع كذا ينتظرون العدو... حضور العدو وصلى بطائفة أخرى جاز له ذلك، هكذا ينبغي للإمام أن يفعل؛ لأن العدو إذا لم يكن حاضرًا لا يجوز له صلاة الخوف، وربما يحضر العدو في حال لا يمكنهم الانحراف، فكان النظر في هذا، فإن أقبل العدو فاستقبلهم الطائفة الواقفون وانحرف طائفة من المصلين مع الإمام، إن كان الانحراف بعد الركعة الأولى تفسد صلاتهم، وإن كان الانحراف بعد الركعة الثانية لا تفسد صلاتهم لما مر.
فإن افتتح الإمام الصلاة بطائفة والعدو حاضر، ثم ذهب العدو بعدما صلوا شطر الصلاة لا ينبغي لهم أن ينحرفوا ولكن الطائفة الثانية يأتون فيصلون بقية الصلاة، فإن انحرفت الطائفة الأولى تفسد صلاتهم، لأن الانحراف مفسد للصلاة بنصية (الأصل)، وإنما رخص بالشرع لأجل الضرورة، فإذا زالت الضررة يرد إلى الأصل.

.الفصل التاسع والعشرون في صلاة الكسوف:

اعلم بأن صلاة الكسوف مشروعة ثبتت شرعيتها بالكتاب والسنّة.
أما الكتاب قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بِالاْيَتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الاْوَّلُونَ وَءاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالاْيَتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59] والكسوف آية من آيات الله المخوفة، أما أنه من آيات الله؛ لأن الخلق عاجزون عن ذلك وأنه من آيات الله المخوفة؛ لأنها مبدلة لنعمة النور إلى الظلمة، وتبديل النعمة إلى ضدها تخويف؛ ولأن القلوب تفزع بذلك طبعًا، فكانت من آيات الله المخوفة، والله تعالى إنما يخوف عباده ليتركوا المعاصي، ويرجعون إلى طاعة الله تعالى التي فيها فوزهم، وأقرب أحوال العبد في الرجوع إلى ربه حالة الصلاة.
وأما السنّة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا رأيتم من هذه الأفزع شيئًا فافزعوا إلى الصلاة». بعد هذا يحتاج إلى أربعة أشياء: إلى معرفة سبب شرعيتها، وشرط جوازها، وصفتها، وكيفية أدائها.
أما سبب شرعيتها: الكسوف؛ لأنها تضاف إليه، وتتكرر بتكرره.
وشرط جوازها: ما يشترط لسائر الصلوات.
وصفتها: أنها ليست بواجبة؛ لأنها ليست من شعار الإسلام، فإنه يوجد تعارض، ولكنها سنّة؛ لأنه واظب رسول الله عليه السلام على ذلك.
وأما كيفية أدائها: أجمعوا أنه تؤدى بجماعة لكن اختلفوا في صفة أدائها.
قال علماؤنا رحمهم الله: يصلي ركعتين كل ركعة بركوع وسجدتين كسائر الصلوت، إن شاء طولها وإن شاء قصرها، ويقرأ فيها ما أحب كما في سائر الصلاة المعهودة، ولا يوقت فيه شيء من القراءة، ثم الدعاء حتى تنجلي الشمس.
وقال الشافعي رحمه الله: يصلي ركعتين كل ركعة بركوعين وسجدتين.
وصورته: يقوم في الركعة الأولى ويقرأ فيه بفاتحة الكتاب وسورة البقرة إن كان يحفظها، وإن كان لا يحفظها يقرأ غير ذلك مما يعدلها، ثم يركع، ويمكث في ركوعه مثل ما يمكث في قيامه، ثم يرفع رأسه ويقوم، ويقرأ سورة آل عمران إن كان يحفظها عن ظهر القلب، وإن كان لا يحفظها عن ظهر القلب يقرأ غيرها مما يعدلها ثم يركع ثانيًا، ويمكث في ركوعه مثل ما يمكث في قيامه هذا، ثم يرفع رأسه ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم، فيمكث في قيامه ويقرأ فيه مقدار ما قرأ في القيام الثاني في الركعة الأولى، ثم يركع ويمكث في ركوعه مثل مكثه في هذا القيام، ثم يقوم ويمكث في قيامه مثل ما مكث في الركوع أو نحوه، ثم يرفع رأسه ويقوم مثل ثلثي قيامه في القيام الأول من هذه الركعة الثانية هكذا يفعل، ثم يسجد سجدتين ويتم الصلاة.
احتج الشافعي رحمه الله بحديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام صلى صلاة الكسوف ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات»، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي عليه السلام صلى بالناس صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة ركوعين».
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بحديث عبد الله بن عمر، والنعمان بن بشير، وأبي بكرة، وسمرة بن جندب بألفاظ مختلفة «أن النبي عليه السلام صلى في كسوف الشمس ركعتين كأطول الصلاة كان يصليها فانجلت الشمس مع فراغه منها» وفي (الكتاب) ذكر حديث إبراهيم أن النبي عليه السلام «صلى ركعتين في الكسوف ثم كان الدعاء حتى انجلت الشمس»، وهو كان مقدمًا في علم الأخبار، وكان ذا احتياط وثبت وثقة، فكان لا يأخذ ولا يروي إلا ما كان يصح عنده.
والمعنى فيه: أن صلاة الكسوف لا تخلو إما أن تكون معتبرة بالنوافل أو بالفرائض أو الواجبات وبأيها اعتبرنا لا يجوز أن يجتمع في ركعة منها ركوعان وقومتان.
وتأويل حديث عائشة، وابن عباس رضي الله عنهم ما أشار الحاكم الشهيد رحمه الله في (إشاراته): أن النبي عليه السلام إنما ركع ركوعين على وجه الصورة لا على وجه التحقيق؛ لأنه في تلك الصلاة قربت إليه الجنة والنار، وكان في تلك الصلاة يتقي شرها بيده ويتقدم ويتأخر، وقد قال في تلك الصلاة مرارًا «ألم تعدني أن لا أعذبهم وأنا فيهم»، فلما فرغ منها قال: «أدنيت مني النار حتى كنت أتقي شررها بيدي، وقربت مني الجنة حتى لو كدت أن آخذ ثمارها لفعلت». وفي رواية «حتى لو كدت أن أقطف عنبها لفعلت قائمًا» رفع رسول الله عليه السلام رأسه من الركوع فزعًا حين قربت منه النار فكان ذلك رفعًا على وجه الصورة لا على وجه الحقيقة، ثم عاد إلى الركوع حيث أمن منها جبرًا للركع الأول وإتمامًا له لا أن يكون ركوعًا ثانيًا، فلم يركع في كل قيام إلا ركوعًا واحدًا كما في الصلاة المعهودة، وإنما مثال هذا من كان في الركوع في صلاته، فتذكر سجدة تركها قبل الركوع، فإنه يرفع رأسه من الركوع ويحولها ساجدًا، ثم يعود إلى الركوع جبرًا وإتمامًا له لا أن يكون ركوعًا على حدة.
قال شمس الأئمة الحلواني: وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يذكر جوابًا آخر وهو الذي يعتمد عليه أن النبي عليه السلام طول الركوع فيها للمعنى الذي ذكرنا فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم وظن من خلفهم أن النبي عليه السلام رفع رأسه، ورفعوا رؤوسهم، ثم عاد الصف الأول إلى الركوع اتباعًا لرسول الله عليه السلام فركع من خلفهم وظنوا أنه ركع ركوعين في كل ركعة.
ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، وعائشة كانت واقفة في صف النساء، وابن عباس في صف الصبيان في ذلك الوقت، فلهذا نقلا كما وقع عندهما، وإن كان هذا صحيحًا، فكان أمرًا بخلاف المعهود، فينقله الكبار من الصحابة الذين كانوا يأتون رسول الله عليه السلام، وحيث لم ينقله أحد دل أن الأمر كما قلنا: وهو تأويل حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
ولا يصلي هذه الصلاة بجماعة إلا الإمام الذي يصلي الجمعة، فأما أن يصلي الناس في مساجدهم جماعة فإني لا أحب ذلك، وليصلوا وحدانًا، هكذا قال في (الكتاب): قال شيخ الإمام خواهر زاده: يريد به أن يصلي في موضع واحد كما يصلي الجمعة.
وروي عن أبي حنيفة في غير رواية (الأصول): أن لكل إمام مسجد أن يصلي في مسجده، وجه رواية أبي حنيفة رحمه الله وهو أن هذه صلاة تؤدى بجماعة لا يشترط لإقامتها المصر، فلا يشترط السلطان قياسًا على سائر الصلوات.
وجه ظاهر الرواية: وهو أن عليه السلام صلى صلاة الكسوف بجمع واحد وهو كان إمام الأئمة، فلا يجوز أداؤها إلا على ذلك الوجه. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: فإن عدم الإمام الذي يصلي الجمعة فإنهم يصلون وحدانًا في مساجدهم إلا إذا كان الإمام الأعظم الذي يصلي الجمعة والعيدين أمرهم بذلك، فحينئذٍ يجوز أن يصلوا بجماعة ويؤمهم فيها إمام حيهم في مسجدهم.
ولا يجهر بالقراءة في صلاة الجماعة في كسوف الشمس في قول أبي حنيفة رحمه الله، ويجهر بها عند أبي يوسف، وقول محمد فيه مضطرب، وقول الشافعي مثل قول أبي يوسف.
وجه قول أبي يوسف والشافعي: حديث علي رضي الله عنه أنه جهر بالقراءة في صلاة الكسوف؛ ولأنها صلاة مخصوصة تقام بجمع عظيم، فيجهر فيها بالقراءة كالجمعة والعيدين.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: حديث ابن عباس، وسمرة بن جندب رضي الله عنهم: أن النبي عليه السلام: «لم يسمع منه حرف من قراءته في صلاة الكسوف»؛ ولأنها صلاة النهار، وفي الحديث: «صلاة النهار عجماء» أي ليس فيها قراءة مسموعة، وتأويل حديث علي رضي الله عنه أنه وقع اتفاقًا لا قصدًا، أو تعليمًا للناس أن القراءة فيها مشروعة.
قال شمس الأئمة رحمه الله: والظاهر أن محمدًا رحمه الله مع أبي حنيفة رحمه الله، والحاكم الشهيد ذكر قول محمد مع أبي يوسف.
وفي القدوري: ولا يصلي في الكسوف في الأوقات المنهية عنها؛ لأنها تطوع كسائر التطوعات، ثم إذا فرغوا من الصلاة فالإمام يدعو؛ لأن الصلاة للدعاء، فإذا فرغوا منها يشتغلون بالدعاء، ثم الإمام في هذا الدعاء بالخيار إن شاء جلس مستقبل القبلة ودعا، وإن شاء قام ودعا، وإن شاء استقبل الناس بوجهه ودعا، ويؤمن القوم، قال شمس الأئمة الحلواني: وهذا أحسن، ولو قام واعتمد على عصا له، أو على قوس له، ودعا كان ذلك حسنًا أيضًا. وليس في هذه الصلاة خطبة وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يخطب خطبتين بعد الصلاة كما في العيدين. احتج الشافعي بما روي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «كسفت الشمس على عهد رسول الله عليه السلام، فصلى رسول الله عليه السلام ثم خطب حمد الله وأثنى عليه»، وهكذا روى سمرة بن جندب رحمه الله: أن النبي عليه السلام صلى ركعتين ثم حمد الله تعالى وأثنى عليه ولأنها صلاة تطوع تقام بجمع عظيم، فيكون من سننها الخطبة قياسًا على صلاة العيد.
وأصحابنا رحمهم الله احتجوا بما روى جابر رضي الله عنه عن النبي عليه السلام قال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته فإذ رأيتم من ذلك شيئًا فصلوا حتى تنجلي» فقد أمر بالصلاة ولم يأمر بالخطبة، وكذلك روي عن النبي عليه السلام قال: «إنه إذا رأيتم من هذه الأفزاع شيئًا فافزعوا إلى الدعاء»؛ ولأن الخطبة مشروعة لأحد أمرين: إما شرطًا للجواز كما في صلاة الجمعة، أو للتعليم كما في صلاة العيدين، فإنه يحتاج فيهما إلى تعليم صدقة الفطر والأضحية، وهنا الخطبة ليست بشرط للجواز بالإجماع، ولا يجوز أن تكون مشروعة للتعليم؛ لأنه لا حاجة إلى التعليم في صلاة الكسوف؛ لأن التعليم حصل من حيث الفعل.
ألا ترى أن في خطبة العيدين؛ لا يسن تعليم صلاة العيدين لأن التعليم حاصل بالفعل، وإنما يسن تعليم صدقة الفطر والأضحية، فأما حديث عائشة رضي الله عنها، قلنا: الحديث محمول على أن النبي عليه السلام احتاج إلى الخطبة بعد صلاة الكسوف؛ لأن الناس كانوا يقولون: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم ولد النبي عليه السلام فخطب لكي يرد عليهم ذلك، أو نقول: معنى قوله خطب أي: دعا فإن الدعاء يسمى خطبة. والله أعلم.
ومما يتصل بهذا الفصل الصلاة في خسوف القمر:
قال محمد رحمه الله: والصلاة في كسوف القمر وخسوفه حسن وحدانًا، وكذلك في الظلمة والريح والفزع لقوله عليه السلام: «إذا رأيتم من هذه الأهوال» أو قال: «من هذه الأفزاع شيئًا فأفزعوا إلى الصلاة».
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وعاب بعض أهل اللغة والأدب على محمد رحمه الله في هذا اللفظ، وقال: إنما يستعمل في القمر لفظ الخسوف، قال الله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 7، 8] والجواب عن هذا أن نقول: الخسوف ذهاب دائرته، والكسوف ذهاب ضوئه دون دائرته، ومراد محمد رحمه الله من هذا ذهاب ضوئه لا ذهاب دائرته، فلهذا ذكر الكسوف.
ثم الصلاة فيها فرادى عندنا، وعند الشافعي يصلي بجماعة، احتج الشافعي بما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «أنه صلى بهم في خسوف القمر، وقال: صليت كما رأيت رسول الله عليه السلام صلى»؛ ولأنه كسوف يصلى لأجله، فيكون من سنته الجماعة قياسًا على كسوف الشمس.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: بأن كسوف القمر يكون بالليل، فيشق على الناس الاجتماع بالليل، وربما تخاف الفتنة؛ ولأن كسوف القمر كان على عهد رسول الله عليه السلام ككسوف الشمس بل أكثر، فلو كان صلى بجماعة لنقل ذلك نقلًا مستفيضًا كما نقل في كسوف الشمس، ولأن الأصل في التطوعات ترك الجماعة فيها ما خلا قيام رمضان لاتفاق الصحابة عليه، وكسوف الشمس لورود الأثر به.
وهكذا قال في (الكتاب): ويكره في صلاة التطوع جماعة ما خلا قيام رمضان، وصلاة كسوف الشمس، ولهذا قال عليه السلام: «أفضل صلاة الرجل صلاته في بيته إلا المكتوبة». ألا ترى أن ما يؤدى بالجماعة من الصلوات يؤذن لها ويقام ولا يؤذن للتطوعات ولا يقام؟ فدل أنها لا تؤدى بالجماعة.
وأما حديث عبد الله بن عباس، فلا يصح لما بينا: أن النبي عليه السلام لو كان صلى صلاة الخسوف بجماعة لنقل عنه نقلًا مستفيضًا، وأما اعتباره بصلاة كسوف الشمس لا يصح؛ لأنا عرفنا ذلك بالأثر، وهذا ليس في معناه، فالأثر الوارد ثم لا يكون واردًا هاهنا. والله أعلم.

.الفصل الثلاثون في الاستسقاء:

ولا صلاة في الاستسقاء إنما فيه الدعاء في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يصلي فيها ركعتين بجماعة كصلاة العيد إلا أنه ليس فيها تكبيرات، وقال الشافعي رحمه الله: يصلي ركعتين كما قال محمد رحمه الله إلا أنه قال: يكبر فيها كما في صلاة العيد، يكبر سبعًا في الركعة الأولى، وخمسًا في الركعة الثانية.
حجة محمد، والشافعي رحمهما الله: حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام: «صلى ركعتين فيها كصلاة العيد» وحجة أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] فإنما أمر بالاستغفار في الاستسقاء بدليل قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّمَآء عَلَيْكُمْ مُّدْرَارًا} [نوح: 11] وما أمر بالصلاة، وفي حديث أنس رضي الله عنه «أن الأعرابي لما سأل رسول الله عليه السلام أن يستسقي وهو على المنبر وقال: أجدبت الأرض وهلكت المواشي فاستسق لنا يا رسول الله، فرفع رسول الله عليه السلام يديه إلى السماء ودعا» قال الراوي: فما نزل عن المنبر حتى نشأت سحابة، فمطرنا إلى الجمعة القابلة الحديث إلى آخره، ولم يرد أنه صلى.
وإن عمر رضي الله عنه خرج للاستسقاء فما زاد على الدعاء، وروي أنه خرج بالعباس عم النبي عليه السلام، فأجلسه على المنبر، ووقف بجنبه يدعو ويقول: اللهم إنا نتوسل إليك بعم نبيك ودعا بدعاء طويل، فما نزل عن المنبر حتى سقوا.
قال في (الكتاب): عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله لم يبلغنا في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به. اختلفت النقلة والرواة أنه لأي معنى سمي شاذًا، منهم من قال: إنما سمي شاذًا؛ لأن عمر رضي الله عنه لم يصل في الاستسقاء، وعلي رضي الله عنه كذلك، ولو كانت بهذا سنّة مشهورة لما خفيت عليهما، ولا خير في سنّة خفيت على عمر، وعلي رضي الله عنهما.
ومنهم من قال: إنما سمي شاذًا؛ لأنه ورد ونقل في بلية عامة، والواحد إذا روى حديثًا في بلية عامة يعد ذلك شاذًا ومستنكرًا منه، ثم عند محمد رحمه الله يخطب الإمام بعد الصلاة نحو الخطبة في صلاة العيدين، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يخطب خطبة واحدة؛ لأن المقصود الدعاء، فلا يقطعها بالجلسة، وقد ورد بكل واحد منهما أثر عن رسول الله عليه السلام.
وكان الزهري يقول: يخطب قبل الصلاة وهو قول مالك، وقد ورد به حديث ولكنه شاذ. قال محمد رحمه الله: أرى أن يصلي الإمام في الاستسقاء نحوًا من صلاة العيد، ولا يكبر فيها كما يكبر في العيد، ويقلب الإمام رداءه إذا مضى صدر من خطبته.
وصفته أنه إذا كان مربعًا جعل أعلاه أسفله، وإن كان مدورًا جعل الجانب الأيسر على الأيمن، والأيمن على الأيسر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يقلب رداءه.
حجة محمد ما روي عن النبي عليه السلام أنه «خرج مستسقيًا عليه خميصة سوداء فأراد أن يجعل أسفلها أعلاها فلما ثقل عليه قلبها على عاتقه فحول اليمين إلى الشمال والشمال إلى اليمين».
وأبو حنيفة، وأبو يوسف رحمهما الله احتجا بما روي أن النبي عليه السلام استسقى يوم الجمعة ولم يقلب الرداء، والمعنى فيه أنه دعاء مشروع حالة الخوف فلا يسن فيه تقليب الرداء قياسًا على كسوف الشمس، ولا تأويل في تقليب الرداء سوى أنه يقال بتغيير الهيئة يتغير الهوى ولا بأس بأن يعتمد في خطبته على عصا وأن يتنكب قوسًا ورد به الأثر، وهذا لأن خطبته تطول فيستعين بالاعتماد على عصا. وإذا قلب الإمام رداءه فالقوم لا يقلبون أرديتهم، وإنما يتبع في هذه السنّة والأثار المعروفة.
وقال مالك: يقلب القوم أرديتهم كما فعل الإمام، وعن أبي يوسف رحمه الله قال: إن شاء رفع يديه في الدعاء، وإن شاء أشار بأصبعه؛ لأن رفع اليدين في الدعاء سنّة جاء في الحديث «أن النبي عليه السلام كان يدعو بعرفات باسطًا يديه كالمتضرع المسكين».
وإنما يخرجون في الاستسقاء ثلاثة أيام لم ينقل أكثر من ذلك، ولا يخرج أهل الذمة في ذلك مع أهل الإسلام، وقال مالك: إن خرجوا لم يمنعوا من ذلك.
حجتنا في ذلك: أنه إنما يخرج الناس للدعاء وما دعاء الكافرين إلا في ضلال؛ ولأنهم بالخروج يستنزلون الرحمة، وإنما تنزل على الكفار اللعنة والسخط وقد أمر رسول الله عليه السلام بتبعيد المشركين بقوله عليه السلام: «أنا بريء من كل مسلم مع مشرك ألا لا تراءى ناراهما» فلهذا لا يمكنون من الخروج مع المسلمين وينصت القوم لخطبة الاستسقاء؛ لأنه يعظهم فيها، وفائدة الوعظ تحصل بالإنصات، ولا يخرج فيه المنبر لما بينا في صلاة العيد.
وليس فيها أذان ولا إقامة أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله فلا يشكل؛ لأنه ليس فيها صلاة بالجماعة إنما فيها الدعاء، وإن شاؤوا صلوا فرادى، وذلك في معنى الدعاء. وأما عند محمد رحمه الله، وإن كان فيها صلاة بالجماعة ولكنها تطوع فلا يكون فيها أذان ولا إقامة كصلاة العيد.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: تفسير قول محمد رحمه الله: أن الناس يخرجون إلى الاستسقاء مشاة لا على ظهورهم ودوابهم في ثياب خلقة أو غسيل أو مرقع متذللين خاضعين متواضعين ناكسي رؤوسهم في كل يوم يقدمون الصدقة قبل الخروج، ثم يخرجون هذا تفسير قول محمد رحمه الله. وإنما يكون الاستسقاء في موضع لا يكون لهم أودية وأنهار وآبار يشربون منها، ويسقون مواشيهم وزروعهم أو يكون ولا يكفي لهم ذلك. فأما إذا كانت لهم أودية وأنهار وآبار فإن الناس لا يخرجون إلى الاستسقاء؛ لأن الاستسقاء إنما يكون عند شدة الضرورة والحاجة. والله أعلم بالصواب.

.الفصل الحادي والثلاثون في صلاة المريض:

الأصل في هذا الفصل: أن المريض إذا قدر على الصلاة قائمًا بركوع وسجود، فإنه يصلي المكتوبة قائمًا بركوع وسجود ولا يجزئه غير ذلك؛ لأنه لما قدر على القيام والركوع والسجود كان بمنزلة الصحيح، والصحيح لا يجزئه أن يصلي المكتوبة إلا قائمًا بركوع وسجود كذلك هذا.
وإن عجز عن القيام وقدر على القعود، فإنه يصلي المكتوبة قاعدًا بركوع وسجود، ولا يجزئه غير ذلك؛ لأنه عجز عن نصف القيام، وقدر على النصف، فما قدر عليه لزمه، وما عجز عنه سقط.
وإن عجز عن الركوع والسجود وقدر على القعود فإنه يصلي قاعدًا بإيماء، ويجعل السجود أخفض من الركوع، وإن عجز عن القعود صلى مستلقيًا على ظهره، وإن لم يقدر إلا مضطجعًا استقبل القبلة، وصلى مضطجعًا يومئ بإيماء.
والأصل في هذا كله قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَمًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ في خَلْقِ السَّمَوتِ وَالاْرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَطِلًا سُبْحَنَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] قال الضحاك في تفسيرها: هذا بيان حال المريض في أداء الصلاة بحسب الطاقة، وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَمًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَبًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103] جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: المراد من هذا الذكر في الصلاة، وقال عليه السلام لعمران بن حصين رضي الله عنه حين عاده وهو مريض: «صل قائمًا فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى الجنب تومئ إيماءً» والمعنى في ذلك أن الطاعة بحسب الطاقة.
وقوله: فإن عجز عن القيام وقدر على القعود يصلي المكتوبة قاعدًا، لم يرد بهذا العجز العجز أصلًا لا محالة بحيث لا يمكنه القيام بأن يصير مقعدًا، بل إذا عجز عنه أصلًا، أو قدر عليه إلا أنه يضعفه ذلك ضعفًا شديدًا حتى تزيد علته لذلك، أو يجد وجعًا لذلك، أو يخاف إبطاء البرء، فها هنا وما لو عجز عنه أصلًا سواء.
وإذا كان قادرًا على بعض القيام دون تمامه كيف يصنع؟ لا ذكر لهذا الفصل في شيء من الكتب، قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: يؤمر بأن يقوم مقدار ما يقدر، فإذا عجز قعد حتى إنه إذا كان قادرًا على أن يكبر قائمًا، ولا يقدر على القيام للقراءة، أو كان يقدر على القيام ببعض القراءة دون تمامها، فإنه يؤمر بأن يكبر قائمًا، ويقرأ ما يقدر عليه قائمًا، ثم يقعد إذا عجز، وبه أخذ الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وإذا قدر على القيام متكئًا لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في شيء من الكتب، قال الشيخ الإمام شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: الصحيح أنه يصلي قائمًا متكئًا، ولا يجزئه غير ذلك، وكذلك لو قدر على أن يعتمد على عصا، أو كان له خادم لو اتكأ عليه قدر على القيام، فإنه يقوم ويتكئ خصوصًا على قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله، فإن على قولهما: إذا عجز المريض عن الوضوء وكان يجد من يوضئه لم يجزئه التيمم، وقدر بغيره كقدرته بنفسه، فكذلك هذا.
فإن كان يقدر على القيام، ولا يقدر على السجود أومأ إيماءً وهو قاعد؛ لأن القيام لافتتاح الركوع والسجود به، فكل قيام لا يتعقبه سجود لا يكون ركنًا؛ ولأن إيماء القاعد أقرب إلى التشبه بالسجود من إيماء القائم.
والمقصود من الإيماء التشبه بمن يركع ويسجد هكذا ذكر الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، وذكر الشيخ الإمام الأجل شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده، والشيخ الإمام الزاهد الصفار رحمه الله: أنه بالخيار إن شاء صلى قائمًا بإيماء، وإن شاء صلى قاعدًا بإيماء، وهو أفضل عندنا.
وزاد شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله فقال: إذا أراد أن يومئ للركوع يومئ قائمًا، وإذا أراد أن يومئ للسجود يومئ قاعدًا، لأن الإيماء بدل من الركوع والسجود، ولو كان قادرًا على الركوع والسجود فيركع قائمًا، ويسجد قاعدًا فكذلك الإيماء.
لم يذكر محمد رحمه الله في (الأصل): ما إذا لم يقدر على القعود مستويًا، وقدر عليه متكئًا، أو مستندًا إلى حائط أو إنسان، أو ما أشبه ذلك، قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: قال مشايخنا رحمهم الله: يجزئ أن يصلي قاعدًا مستندًا أو متكئًا، لا يجزئه أن يصلي مضطجعًا خصوصًا على قولهما هكذا ذكر في (النوادر)، وهذا نظير ما ذكرنا في القيام إذا كان قادرًا على القيام بالاتكاء والاستناد.
وإذا لم يستطع القعود صلى مستلقيًا على قفاه متوجهًا نحو القبلة، ورأسه إلى المشرق، ورجلاه إلى المغرب هذا هو الأفضل عندنا، وإن صلى على جنبه الأيمن يومئ إيماءً أجزأه، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير رضي الله عنهم.
وقال الشافعي رحمه الله: الأفضل أن يصلي على جنبه الأيمن كما يوضع الميت في القبر، وإن صلى مستلقيًا على قفاه جاز، احتج الشافعي رحمه الله بظاهر قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فَاذْكُرُواْ اللَّهَ قِيَمًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَبًا مَّوْقُوتًا} [النساء: 103] وأراد به في الصلاة فقد ذكر الجنب، ولم يذكر الاستلقاء على قفاه.
والدليل عليه حديث عمران بن حصين رضي الله عنه فإن النبي عليه السلام نقل الحكم من القعود إلى الجنب لا إلى الاستلقاء.
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما موقوفًا عليه، ومرفوعًا إلى رسول الله عليه السلام إلى نحو مذهبنا، ولأنه لو صلى مستلقيًا على قفاه كان أقرب إلى استقبال القبلة؛ لأن الجانبين منه إلى القبلة، وإشارته تقع إلى هوى الكعبة، وإذا صلى على جنبه الأيمن فإشارته تقع إلى جانب رجليه، وذلك ليس بقبلة، ثم ما به من العجز على وجه الزوال، إذا كان مستلقيًا لو قدر على القعود، فقعد كذلك كان وجهه إلى القبلة، ولو قدر على القيام، فقام كذلك كان وجهه إلى القبلة فهذا أولى، ثم إذا أومأ فإنه يومئ بالرأس، فإن عجز عن الإيماء بالرأس لم يصل عندنا.
ثم اختلف المشايخ بعد هذا، قال بعضهم: إن دام العجز أكثر من يوم وليلة سقطت عنه الصلاة، وإن زال قبل ذلك لا تسقط، وقال بعضهم: لا تسقط وإن دام أكثر من يوم وليلة حتى إنه إذا برأ يلزمه القضاء، ولو مات قضى عنه ورثته.
وقال بعضهم: تسقط مطلقًا من غير فصل، وإليه مال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله. وعن أبي يوسف أن المريض إذا عجز عن الإيماء بالرأس يومئ بعينه ولا يومئ بقلبه، وعن أبي حنيفة أنه لم يجز للإيماء بالعينين، وسئل محمد رحمه الله، عن ذلك فقال: لا أشك أن الإيماء بالرأس يجوز، ولا أشك أن الإيماء بالقلب لا يجوز، وأشك في الإيماء بالعين أنه هل يجوز؟
وإذا افتتح الصلاة المكتوبة بالإيماء ثم قدر على القعود، واستقبل الصلاة قاعدًا؛ لأن الصلاة قاعدًا أقوى من الصلاة بالإيماء، وبناء القوي على الضعيف لا يجوز، وكذلك إذا كان يصلي قاعدًا بركوع وسجود ثم قدر على القيام يستقبل الصلاة عند محمد رحمه الله؛ لأن عنده الصلاة قاعدًا أضعف من الصلاة قائمًا حتى لم يجز اقتداء القائم بالقاعد ابتداء على ما مر، فكذلك لا يجوز البناء هنا، وعندهما يتم الصلاة قائمًا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): في الرجل يصلي تطوعًا وقد افتتح الصلاة قائمًا ثم يضنى لا بأس بأن يتوكأ على عصا وهنا مسألتان: مسألة في القعود ومسألة في الاتكاء.
أما مسألة القعود فهي على وجهين: فإن قعد بعذر يجوز؛ لأن في المكتوبة إذا قعد بعذر يجوز ففي النافلة أولى، وإن قعد بغير عذر، فقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز، وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا يجوز.
وجه قولهما: أن الشروع يلزم كالنذر، ثم لو نذر أن يصلي قائمًا، وافتتح قائمًا ثم قعد لم يجزه كذلك هنا.
وجه قول أبي حنيفة رحمه الله: أنه كان في الابتداء مخيرًا بين أن يصلي التطوع قاعدًا، وبين أن يصليها قائمًا، فيبقى هذا الخيار إلى الانتهاء؛ لأن حكم الانتهاء أشمل من حكم الابتداء. ألا ترى أن الحدث يمنع ابتداء الصلاة، ولا يمنع البقاء.
وما يقولان بأن الشروع ملزم. قلنا: الشروع ليس بملزم بعينه إنما صار ملزمًا ليبقى ما باشر قربة وما باشر من القيام يبقى قربة، وإن لم يقم فيما بقي؛ لأن التطوع قاعدًا قربة مع القدرة على القيام بخلاف النذر؛ لأنه ملزم بنفسه من حيث التسمية، على أنا نقول: بأن الشروع إنما يلزم ما شرع فيه، وما لا ينفصل عنه، وأما ما ينفصل عما شرع فيه لا يلزمه، ألا ترى لو أنه نوى أربع ركعات، فسلم على رأس الركعتين لم يلزمه شيء آخر على ظاهر الرواية؟ لأن الشفع الأول ينفصل عن الشفع الثاني، فكذلك هنا القيام من الأول ينفصل عن القيام في الثاني بخلاف النذر؛ لأنه التزم له ذكرًا.
وأما مسألة الاتكاء فهو على وجهين أيضًا: إن اتكأ بعذر تجوز صلاته من غير كراهة؛ لأن في الاتكاء تنقيص القيام، ولو ترك جميع القيام من غير عذر يجزئه عند أبي حنيفة رحمه الله فالتنقيص لا يكره، وعندهما ترك جميع القيام بعدما شرع قائمًا لا يحزئه فتنقيصه يكره.
وبعض مشايخنا رحمهم الله قالوا: على قول أبي حنيفة رحمه الله: يجب أن يكره الاتكاء بخلاف القعود، فإنه إذا قعد بعدما افتتح قائمًا لا يكره عند أبي حنيفة رحمه الله.
ووجه ذلك: أن في الابتداء هو مخير بين أن يفتتح التطوع قائمًا وبين أن يفتتحه قاعدًا، فيبقى هذا الخيار في الانتهاء، فيجوز القعود من غير كراهة أما في الابتداء غير مخير بين أن يصلي متكئًا، وبين أن يصلي غير متكئ، بل يكره له ذلك لما فيه من سوء الأدب وإظهار التجبر، وكذلك في الانتهاء، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «دخل المسجد، فرأى حبلًا ممدودًا فسأل عن ذلك فقيل: إن فلانة تصلي بالليل ما نشطت فإذا أعيت اتكأت به فقال عليه السلام: فلانة تصلي بالليل ما نشطت فإذا أعيت نامت» مع هذا تجوز الصلاة لوجود أصل القيام.
هذا كله في التطوع، فأما في المكتوبة لا يجوز ترك القيام بالقعود من غير عذر، وكذلك يكره تنقيص القيام من عذر، وإن فعل ذلك جازت صلاته لوجود أصل القيام.
وإذا افتتح التطوع قاعدًا وأدى بعضها قاعدًا، ثم بدا له أن يقوم فقام، وصلى بعضها قائمًا أجزأه عندهم جميعًا، أما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله لا يشكل؛ لأن عندهما التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام بدليل أن المريض إذا افتتح المكتوبة قاعدًا، ثم قدر على القيام جاز له أن يقوم ويصلي بقية الصلاة قائمًا لهذا المعنى، أن التحريمة المنعقدة للقعود منعقدة للقيام، وإنما يشكل هذا على مذهب محمد رحمه الله؛ لأن عنده التحريمة المنعقدة للقعود لا تكون منعقدة للقيام، حتى أن المريض إذا قدر على القيام في وسط الصلاة فسدت صلاته عنده مع هذا قال: هنا تجوز صلاته.
وفي المريض لا تجوز صلاته، والفرق لمحمد رحمه الله، وهو أن في المريض ما كان قادرًا على القيام وقت الشروع في الصلاة، فما انعقدت تحريمته للقيام، فأما هنا في صلاة التطوع كان قادرًا على القيام، فانعقدت تحريمته للقيام، فلو أنه افتتح التطوع قاعدًا فكلما جاء أوان الركوع قام وقرأ ما بقي من القراءة وركع جاز، وهكذا ينبغي أن يفعل إذا صلى التطوع قاعدًا لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام «كان يفتتح التطوع قاعدًا فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات أو نحوها قام فأتم قراءته ثم ركع وسجد وهكذا كان يفعل، في الركعة الثانية» فقد انتقل من القعود إلى القيام ومن القيام إلى القعود فدل أن ذلك جائز في التطوع والله أعلم.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير) أيضًا: ويوجه المريض القبلة كما يوجه القبلة في اللحد، وأراد به المريض الذي قرب موته حيث أمر أن يفعل به ما يفعل بالميت، وهذا لأنه في معنى الميت، قال عليه السلام: «لقنوا موتاكم» وأراد به الذي قرب موته. واختيار أهل بلادنا الاستلقاء فإنه أسهل لخروج الروح.
وإذا أغمي على الرجل يوم وليلة أو أقل يلزمه قضاء الصلوات، وإن أغمي عليه أكثر من ذلك فلا قضاء عليه وهذا الاستحسان.
وفي القياس: إذا أغمي عليه وقت صلاة كامل لا قضاء عليه، وجه القياس: وهو أن الإغماء عذر لعجزه عن فهم الخطاب، فيأتي الوجوب إذا استوعب وقت صلاة كامل كالجنون، هكذا ذكر بعض المشايخ مسألة الجنون على طريق الاستشهاد.
وذكر مسألة الجنون في (فتاوى الصغرى): وجعلها نظير مسألة الإغماء، فلأن قليل الإغماء لو لم يكن مسقطًا لا يكون الكثير مسقطًا كالنوم، وإنه إذا نام أكثر من يوم وليلة يلزمه القضاء كما إذا نام وقت صلاة.
وجه الاستحسان: حديث علي رضي الله عنه فإنه أغمي عليه في أربع صلوات فقضاهن، وعمار بن ياسر أغمي عليه يوم وليلة فقضى الصلوات، وابن عمر رضي الله عنهما أغمي عليه في ثلاثة أيام فلم يقض الصلوات؛ ولأن الإغماء إذا قصر فهو معتبر بما يقصر عادة، وهو النوم فلا يسقط القضاء، وإذا طال فهو معتبر بما يقصر عادة وهو النوم فلا يسقط القضاء، وإن طال فهو معتبر بما يطول عادة وهو الجنون والضر فيسقط القضاء، وقدرنا الطويل والقصير بالزيادة على يوم وليلة لتدخل الصلوات في حد التكرار فيحرج في القضاء إذ للحرج أثر في إسقاط القضاء.
ثم اختلفوا في أن الزيادة على اليوم والليلة يعتبر بالساعات أم بالصلوات؟ وذكر الكرخي في (مختصره): أن المعتبر الزيادة على اليوم والليلة بالصلوات، وذكر الفقيه أبو جعفر في كتابه اختلافًا بين أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله، عند أبي يوسف رحمه الله يعتبر من حيث الساعات وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله.
وعند محمد رحمه الله يعتبر من حيث الصلوات ما لم تصر الصلوات ستًا لا يسقط القضاء، وإن كان من حيث الساعات أكثر من يوم وليلة وهو الأصح.
وإنما تظهر ثمرة هذا الخلاف فيما إذا أغمي عليه عند الضحوة ثم أفاق من الغد قبل الزوال بساعة، فهذا أكثر من يوم وليلة من حيث الساعات، فلا قضاء عليه في قول أبي يوسف رحمه الله، وفي قول محمد رحمه الله يجب عليه القضاء؛ لأن الصلوات لم تزدد على الخمس. هذا الذي ذكرنا إذا ألم الإغماء فلم يفق إلى تمام يوم وليلة وزيادة، فإن يفيق ساعة ثم يعاوده الإغماء لم يذكر محمد رحمه الله هذا في (الكتاب)، وإنه على وجهين: إن كان لإفاقته وقت معلوم نحو أن يخف مرضه عند الصبح فيفيق قليلًا، ثم تعاوده الحمى فيغمى عليه، فهذه إفاقة معتبرة تبطل حكم ما قبلها من الإغماء إن كان أقل من يوم وليلة.
فأما إذا لم يكن لإفاقته وقت معلوم، لكنه يفيق بغتة فيتكلم بكلام الأصحاء ثم يغمى عليه بغتة فهذه الإفاقة غير معتبرة، ألا ترى أن المجنون قد يتكلم في جنونه بكلام الأصحاء، ولا يعد ذلك منه إفاقة، كذا ذكره شمس الأئمة الحلواني رحمه الله.
وفي (المنتقى): المجنون يعيد صلاة يوم وليلة إذا كان مجنونًا في ذلك، وإن كان أكثر من يوم وليلة فلا قضاء عليه يعني لا قضاء عليه فيما زاد على يوم وليلة.
بيانه: فيما روى أبو سليمان عن محمد رحمه الله: إذا جن حين دخل في الظهر، ثم أفاق من الغد عند العصر، فليس عليه قضاء الظهر؛ لأن الظهر زائد على صلاة يوم وليلة، وإذا جن قبل الزوال، ثم أفاق من يومه قبل غروب الشمس يعيد الظهر والعصر.
قال: وإذا كان بجبهته جرح لا يستطيع السجود عليه لم يجزئه الإيماء، وعليه أن يسجد على أنفه؛ لأن الأنف مسجد كالجبهة، وإن لم يسجد على أنفه، وأومأ لم تجزئه صلاته؛ لأنه ترك السجود مع الإمكان عليه فلا يجزئه.
قال في (الأصل): ويكره للمومئ أن يرفع إليه عودًا أو وسادة ليسجد عليه، لما روي أن النبي عليه السلام دخل على مريض يعوده، فوجده يصلي كذلك، فقال: «إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا أومئ برأسك»، وأن ابن مسعود رضي الله عنه دخل على أخيه يعوده فوجده يصلي، ويرفع إليه عودًا فيسجد عليه فينزع ذلك من يد من كان في يده وقال: «هذا شيء عرض لكم الشيطان أومئ لسجودك» فإن فعل ذلك ينظر إن كان يخفض رأسه للركوع ثم للسجود أخفض من الركوع جازت صلاته وإن كان لا يخفض رأسه ولكن يوضع شيء على جبهته لم تجز صلاته؛ لأنه لم يوجد السجود ولا الإيماء.
ثم اختلفوا أن هذا يعد سجودًا وإيماءً، قال بعضهم: هو سجود، وقال بعضهم: هو إيماء، وهو الأصح. فإن كانت الوسادة موضوعة على الأرض فكان يسجد عليها جازت صلاته، فقد صح أن أم سلمة رضي الله عنها كانت تسجد على برقعة موضوعة بين يديها لعلة كانت بها، ولم يمنعها رسول الله عليه السلام من ذلك.
قال القدوري في (كتابه): والمريض إذا فاتته صلوات فقضاها في حالة الصحة فعل كما يفعله الأصحاء؛ لأن تحصيل الركن بكماله فرض في الأصل، وإنما سقط حالة الأداء للعذر، فإذا لم يؤد حتى صح ظهرت فرضية الأداء بتحصيل الأركان بأكمل الوجوه. وإن فاتته في الصحة، فقضى في المرض صلى بالإيماء؛ لأن فرض الوقت يجوز أداؤه مع الإيماء، فكذا القضاء لفقه أن التكليف يعتمد الوسع، وهو في حالة المرض يكلف على القضاء، كما كلف على الأداء وليس في وسعه أكثر من هذا فسقط ما عجز عنه في القضاء لهذه الضرورة، كما سقط في الأداء.
وإذا شرع في الصلاة وهو صحيح، ثم عرض له مرض بنى على صلاته على حسب الإمكان، لأنه يؤدي البعض كاملًا والبعض ناقصًا، وإنه أولى من أن يستقبل ويؤدي الكل ناقصًا، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يستقبل إذا صار إلى الإيماء.
ولو شرع وهو معذور ثم صح فإن كان الشروع بركوع وسجود بنى في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: يستقبل، وإن كان الشروع بالإيماء ثم قدر على الركوع والسجود فإنه يستقبل، وقال زفر رحمه الله: يبني.
فالكلام مع محمد رحمه الله بناءً على أصل، وهو أن المنفرد يبني آخر صلاته على أول صلاته، كما أن المقتدي يبني صلاته على صلاة الإمام، ففي كل فصل جوزنا الاقتداء به يجوز البناء هنا وإلا فلا.
وعند محمد رحمه الله القائم لا يقتدي بالقاعد، فكذا لا يبني في حق نفسه، وعندهما القائم يقتدي بالقاعد فكذلك يبني في حق نفسه. والكلام مع زفر رحمه الله بناءً على هذا الأصل أيضًا، فمن أصله أنه يجوز اقتداء الراكع بالمومئ.
وعندنا لا يجوز، فكذا البناء في حق نفسه، وإن نزع الماء من عينه، وأمر أن يستلقي أيامًا على ظهره، ونهي عن القعود والسجود أجزأه أن يصلي مستلقيًا موميًا، وعلى قول مالك، والشافعي رحمهما الله: لا يجوز، هما احتجا بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن طبيبًا قال له: بعدما كف بصره لو صبرت أيامًا مستلقيًا صحت عينك فشاور عائشة وأبا هريرة وجماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فلم يرخصوا له في ذلك، وقالوا: أرأيت لو مت في هذه الأيام كيف تصنع بصلاتك؟ فترك ذلك وصلى بركوع وسجود.
والمعنى فيه: وهو أنه إنما تجوز الصلاة بالإيماء للمريض إذا عجز عن القيام والركوع والسجود وهذا ما عجز عن القيام والركوع والسجود فلا يجزئه الإيماء. وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن حرمة الأعضاء كحرمة النفس، ولو كان قاعدًا يخاف على نفسه الهلاك بسبب العدو، أو بسبب السبع فصلى مستلقيًا بالإيماء جاز، فكذا إذا خاف على عينيه، ولأن من به رمد شديد فكان إذا وضع جبينه على الأرض ازداد وجعه واشتد، وإنه يومئ لسجوده ويجزئه ذلك فكذلك هاهنا، ولأن الرمد من أشد الأوجاع فلا يختلف عن سائر الأمراض، قال عليه السلام: «لا وجع إلا وجع العين» هكذا روى شمس الأئمة رحمه الله.
وإذ صلى المريض بالإيماء لغير القبلة متعمدًا لم يجزئه، لأن استقبال القبلة شرط من شرائط الصلاة، ولم يقع العجز عنه بسبب المرض فلا يسقط عنه، وإذا لم يسقط كان كالصحيح، والصحيح لو صلى إلى غير القبلة متعمدًا لم تجزئه صلاته فكذلك هاهنا، وإن كان ذلك منه خطأ أجزأه، يعني إذا اشتبهت عليه القبلة، ولم يكن بحضرته من يسأل عنه فتحرى وصلى جازت صلاته وإن تبين أنه أخطأ، كما تجوز من الصحيح لقول علي رضي الله عنه: قبلة المتحري جملة قصده.
والحاصل: أن مفارقة المريض الصحيح فيما هو عاجز عنه، فأما فيما يقدر عليه هو كالصحيح. فإن كان يعرف القبلة، ولكن لا يستطيع أن يتوجه إلى القبلة، ولم يجد أحدًا يحوله إلى القبلة، فإنه روي عن محمد بن مقاتل أنه يصلي كذلك إلى غير القبلة ثم يعيد؛ إذا برأ، وفي ظاهر الجواب لا يعيد؛ لأن ما عجز عنه من الشرائط لا يكون أقوى ما عجز عن الأركان، فإن وجد أحدًا يحوله إلى القبلة، فإنه ينبغي أن يأمره، حتى يحوله إلى القبلة، فإن لم يأمره وصلى إلى غير القبلة، قال أبو حنيفة رحمه الله: تجوز صلاته، وقالا: لا تجوز.
وكذلك على هذا إذا كان على فراش نجس إن كان لا يجد فراشًا طاهرًا، أو يجد فراشًا طاهرًا ولكن لا يجد أحدًا يحوله إلى فراش طاهر، فصلى على هذا الفراش الطاهر جازت صلاته، فإن كان يجد أحدًا يحوله إلى فراش طاهر ينبغي أن يأمره حتى يحوله، فإن لم يأمره وصلى على فراش نجس، قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز، وقالا: لا يجوز، وهذا بناءً على أصل معروف.
وهو أن القادر بقدرة الغير هل يصير قادرًا؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصير قادرًا، وقالا: يصير قادرًا حتى أن الأعمى لا يجب عليه الحج والجمعة، وإن كان له ألف قائد عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما: يجب الحج والجمعة. قال شمس الأئمة رحمه الله: قول محمد رحمه الله في (الكتاب): إذا صلى متعمدًا إلى غير القبلة لا يجزئه رواية أن فاعله لا يكفر بخلاف ما قاله بعض المشايخ رحمهم الله.
وإن صلى المريض قبل الوقت عمدًا أو خطأ لم يجزئه؛ لأنه صلى قبل الوجوب، وقبل وجود سبب الوجوب، وصار هذا كمن صام رمضان قبل شهر رمضان؛ ولأن المريض فيما يقدر عليه كالصحيح، والصحيح لا تجوز له الصلاة قبل الوقت، فكذا المريض.
ومعنى المسألة: وهو أن يصلي قبل الوقت مخافة أن لا يشغله المرض عن الصلاة، وكذلك لو صلى بغير قراءة، أو بغير وضوء لم يجزه أيضًا لما ذكرنا أن المريض فيما قدر عليه كالصحيح، فإن عجز عن القراءة يومئ لغير قراءة؛ لأن القيام والركوع والسجود ركن كما أن القراءة ركن، ثم العجز عن تلك الأركان يسقط الأركان حتى يصلي مضطجعًا بالإيماء، فكذا العجز عن القراءة يسقط القراءة حتى يصلي بغير قراءة، فإن عجز عن الوضوء يصلي بالتيمم.
والمومئ يسجد للسهو بإيماء؛ لأن سجدة السهو دون الصلاتية، فلما جازت الصلاتية بالإيماء حالة العجز فالسهو أولى.
وليس للمريض أن يقصر الصلاة كالمسافر؛ لأن القصر في حق المسافر عرف بالنص، ولا نص في حق المريض، وإذا أراد المريض أن يجمع بين الصلاتين، فصلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها، لأن المرض عذر كالسفر، ثم المسافر كذا يجمع بين الصلاتين، فكذا المريض، ولا يجمع بين الصلاتين في وقت واحد ولا يدع الوتر، ولا يترك القنوت في الوتر.
الأحدب إذا كان قيامه ركوعًا يشير برأسه للركوع؛ لأنه عاجز عما هو فوقه.
وفي (الفتاوى): إذا قال المريض عند القيام والانحطاط: بسم الله لما يلحقه من المشقة لا تفسد صلاته؛ لأنه ليس من كلام الناس، ولم يخرجه جوابًا. وذكر في (مختلف الرواية) أن في قياس قول أبي حنيفة: تفسد صلاته، وفي قياس قول أبي يوسف رحمه الله: لا تفسد.
رجل له عبد مريض لا يقدر على الوضوء فعلى المولى أن يوضئه هكذا روي عن محمد رحمه الله؛ لأنه ما دام في ملكه كان عليه تعاهده.
أبو سليمان عن محمد: رجل افتتح الصلاة قاعدًا من غير عذر، ثم قام يصلي بذلك التكبير لم تجز صلاته، ولو افتتح قائمًا ثم قعد من غير عذر فجعل يركع مع الإمام وهو جالس ويسجد، قال: لا يجزئه، وإن كان لم يسجد بالأرض لكنه أومأ إيماءً، فإنه يقوم ويتبع الإمام في صلاته، وهي تامة أي: صلاته تامة، وقد أساء فيما فعل يريد بقوله: يقوم ويتبع الإمام في صلاته: أنه إذا أومأ بالركوع والسجود، ولم يركع ولم يسجد ينبغي له أن يقوم ويركع ويسجد ليصير إتيانًا بالمأمور به، وصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه سوى الإيماء، وبمجرد الإيماء لا تفسد صلاته. وقوله: قد أساء فيما فعل معناه وقد أساء فيما أومأ أول مرة.
ابن سماعة عن محمد: مريض صلى أربع ركعات جالسًا، فلما قعد في الثانية منها قرأ وركع قبل أن يتشهد، قال: هو بمنزلة القيام؛ لأنه من عمل القيام، وإن كان حين رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية نوى القيام ولم يقرأ ثم عمل، قال: يعود ويتشهد وليست النية في هذا بعمل، وهذا لأنه جالس حقيقة إلا أنه في الفصل الأول وجدها هو من أعمال القيام وهو القراءة فاعتبر تباعًا، وفي الفصل الثاني لم يوجد إلا مجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في تغيير الحقائق.
مريض صلى جالسًا فلما رفع رأسه من السجدة الأخيرة في الركعة الرابعة فظن أنها ثالثة، فقرأ وركع وسجد بالإيماء فسدت صلاته؛ لأنه انتقل إلى النافلة قبل إتمام المكتوبة، ولو لم يكن في الركعة الرابعة، وإن كان في الثالثة فظن أنها ثانية، فأخذ في القراءة، ثم علم أنها ثالثة لا يعود إلى التشهد بل يمضي في قراءته، ويسجد للسهو في آخر الصلاة.
ذكر الحاكم مرسلًا: رجل صلى يومئ إيماءً فلما كان في الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام فقرأ فكان في قراءته مقدار التشهد ثم تكلم، قال: أجزأته صلاته من قبيل أن قراءته ليست في موضع قراءة تجزئه من شيء يعتد به، فلا تفسد عليه قعوده، قال: ولا يكون قائمًا بنية القيام حتى يكون مع ذلك عمل يجزئ من شيء في الصلاة، أو بزيادة ركوع أو سجود. ولو كان صلى ركعتين بإيماء، فلما رفع رأسه من السجود ظن أنها الركعة الرابعة، فنوى أن يكون قائمًا فقرأ {الْحَمْدُ للَّهِ} وسورة ثم ذكر أنها الثالثة، قال: هذا يركع للثالثة، ولا يعود ليتشهد الثانية؛ لأنه صار بالقراءة بمنزلة من قام.
ذكر الحاكم: رجل صلى الظهر بإيماء، فصلى ركعتين بغير قراءة ساهيًا، ثم ظن أنه إنما صلى ركعة، فنوى القيام، فقرأ وركع وسجد، ثم علم أنه هذه الثالثة، فصلى الرابعة بقراءة أجزأته صلاته. ولو كان قرأ في الأوليين، فلما رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام، ومكث ساعة كذلك، ثم استيقن أنها الرابعة، فلم يحدث نية في الجلوس حتى مكث كذلك مقدار التشهد لم تفسد عليه صلاته.
ومن يصلي التطوع قاعدًا بعذر أو بغير عذر ففي التشهد يقعد كما في سائر الصلوات إجماعًا، أما حالة القراءة فعن أبي حنيفة رحمه الله إن شاء فكذلك قعد، وإن شاء تربع، وإن شاء احتبى، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يحتبي، وروي عنه أنه يتربع إن شاء، وعن محمد رحمه الله أنه يتربع.
وعن زفر رحمه الله: أنه يقعد كما في التشهد، ثم قال أبو يوسف رحمه الله: يحل القعد عند السجود، وقال محمد رحمه الله: عند الركوع كذا ذكر الشيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: في أول صلاته، وذكر هو في آخر باب الحدث أنه يخير بين التربيع والاحتباء حكي عن اختلاف زفر أن في صلاة الليل يتربع عند أبي حنيفة رحمه الله من أول الصلاة إلى آخرها.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا جاء وقت الركوع والسجود يقعد كما يتشهد في المكتوبة، وقال زفر رحمه الله: يقعد من أول الصلاة إلى آخرها كما في تشهد المكتوبة، وعن أبي حنيفة رحمه الله أن الأفضل أن يقعد في موضع القيام محتبيًا. قيل: ورأينا في (مختصر الكرخي) عن محمد عن أبي حنيفة رحمهما الله يقعد كيف شاء، وهو قول محمد رحمه الله. وروى الحسن رحمه الله أنه يتربع وإذا أراد أن يركع بنى رجله اليسرى وافترشها.
قال القدوري رحمه الله: أطلق أبو الحسن رواية الحسن وهو عن أبي يوسف رحمه الله، وروى ابن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهما الله أنه يركع متربعًا، وقال زفر: يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته، وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله أن الفتوى على قول زفر في هذا. والله أعلم.
ما ذكر محمد رحمه الله في (الزيادات)
رجل بحلقه خراج ولا يستطيع أن يسجد إلا ويسل خراجه، وهو صحيح فيما سوى ذلك يقدر على الركوع والقيام والقراءة، يصلي قاعدًا يومئ إيماءً، ولو صلى قائمًا بركوع وسجود، وقعد وأومأ بالسجود أجزأه، والأول أفضل. وإنما كان هكذا وذاك؛ لأن القيام لم يشرع قربة بنفسه، وكذلك الركوع، ولكن شرعا ليكونا وسيلتين إلى السجود، ولهذا كانت السجدة قربة بانفرادها، ولا كذلك القيام والركوع، وشرعت السجود مكررة يكون في ركعة، ولم يشرع القيام والركوع مكررًا في الركعة.
قلنا: وقد أمر بترك السجود هنا؛ لأنه لو سجد سال من خراجه شيء فتصير صلاته بغير طهارة، ولو لم يسجد كانت صلاته بطهارة ولكن من غير سجود.
قلنا: الصلاة مع الحدث لم تشرع في حالة الاختيار بحال، فأما الصلاة قاعدًا وبإيماء مشروع في حالة الاختيار، حتى أن المتنفل إذا صلى قاعدًا أو على الدابة بإيماء جاز، فكان ترك السجود أهون من تحمل الحدث، وقد عرف أن من ابتلي ببليتين يختار أهونهما، وإذا أمر بترك السجود هنا، أمر بترك القيام والركوع بطريق التبعية، ولكن مع هذا إن قام وركع جاز؛ لأن السجود هنا بقي مشروعًا، ولهذا لو تكلف وفعله بلا حدث جاز، فبقي القيام والركوع أيضًا مشروعًا تحقيقًا للتبعية، فإذا أتى به فقد أتى بما هو مشروع فجاز، إلا أنه لما أمر بترك السجود لما قلنا أمر بترك القيام والركوع أيضًا بطريق التبعية، لكن مع كونهما مشروعين في نفسهما فجاز الإتيان بهما.
وكذلك إذا كان به جراحة إذا قام سال جرحه، وإذا قعد لا يسيل، أو كان شيخًا كبيرًا إذا قام سلسل بوله، وإذا قعد استمسك، يصلي قاعدًا بركوع وسجود، وإن كان لو سجد سال أيضًا صلى قاعدًا يومئ إيماءً، ويجعل السجود أخفض من الركوع لما عرف في مواضع كثيرة. وإنما كان هكذا لما قلنا: أنه لو قام صار مصليًا بدون الطهارة، وذلك غير مشروع في حالة الاختيار بحال، وإذا قعد كانت صلاته بطهارة ولكن على غير قيام، وذلك مشروع في حالة الاختيار على ما مر، فكان ترك القيام أهون من تحمل الحدث، وهذا والأول سواء إلا أن هنا لو صلى قائمًا لا يجوز، وهناك يجوز؛ لأن هنا السيلان يوجد في حالة القيام، فيصير مصليًا مع الحدث فلا يجوز، ولا كذلك الفصل الأول.
وعلى هذا لو أن شيخًا كبيرًا إذا قام ضعف وعجز عن القراءة، وإذا صلى جالسًا يركع ويسجد، ويقدر على القراءة أمر بأن يصلي قاعدًا بركوع وسجود؛ لأن الصلاة بغير قراءة لا تجوز في حالة الاختيار بحال، وتجوز الصلاة قاعدًا مع القدرة على القيام، وبالإيماء راكبًا مع القدرة على النزول، فكان ترك القيام أهون من ترك القراءة.
وإذا كان بالرجل جرح إن قعد أو قام سال، وإن استلقى على قفاه رقأ الجرح، فإنه يصلي قائمًا يركع ويسجد، وكذلك من به سلسل البول إذا كان بحيث يستمسك إذا استلقى على قفاه، وإنما كان كذلك، وذلك؛ لأن الصلاة مع الحدث في حالة الاختيار لا تجوز بحال، والصلاة مستلقيًا على قفاه فكذلك، فاستويا من هذا الوجه إلا أنه إذا صلى قائمًا فاته فرض واحد وهو الطهارة من الحدث، ولو صلى مستلقيًا على قفاه يلزمه تحمل الاستلقاء، وترك القيام والركوع والسجود، فكان ما قلنا أهون الأمرين.
وذكر في (المنتقى) عن أبي سليمان عن محمد رحمه الله: رجل به جرح إن اضطجع فأومأ لم يسل وإن قعد سال، قال: يصلي مضطجعًا ويومئ إيماءً. فعلى قياس ما ذكر في (المنتقى) ينبغي في مسألة (الزيادات) أن يصلي مستلقيًا على قفاه.
ومن هذا الجنس:
مسألة لا ذكر لها في شيء من الكتب، وهي أن المريض إذا كان يقدر على القيام لو كان يصلي في بيته، ولو خرج إلى الجماعة يعجز عن القيام يصلي في بيته قائمًا، أو يخرج إلى الجماعة ويصلي قاعدًا، اختلف المشايخ فيه.
قال بعضهم: يصلي في بيته قائمًا؛ لأن القيام فرض في الصلاة، فلا يجوز تركه لأجل الجماعة وهي سنّة. وأما من يقول: يخرج إلى الجماعة يقول: ليس في هذا ترك الفرض؛ لأن القيام إنما يفترض عليه إذا كان قادرًا عليه وقت الأداء وهو عاجز عنه حالة الأداء، وإذا لم يكن القيام فرضًا عليه حالة الأداء لعجزه، وإنما اعتبر حالة الأداء في باب الصلاة لا حالة الوجوب لم يكن سبب الجماعة مدركًا فرضًا، فكان عليه مراعاة الجماعة.
وفي (المنتقى) عن إبراهيم عن محمد رحمهما الله: في رجل إن صام رمضان يضعف ويصلي قاعدًا، وإن أفطر يصلي قائمًا، قال: يصوم ويصلي قاعدًا.
وفيه أيضًا: عن بشر بن الوليد عن أبي يوسف رحمه الله: فيمن خاف العدو إن صلى قائمًا، أو كان في خباء لا يستطيع أن يقيم صلبه فيه، وإن خرج لم يستطع أن يصلي من الطين والمطر قال: يصلي قاعدًا.
والله أعلم.

.الفصل الثاني والثلاثون في الجنائز:

هذا الفصل يشتمل على أنواع:

.الأول في غسل الميت:

وإنه ينقسم أقساما:

.الأول: في نفس الغسل:

يجب أن يعلم بأن غسل الميت شريعة ماضية والأصل فيه ما روي «أن آدم صلوات الله عليه لما قبض نزل جبريل عليه السلام بالملائكة وغسلوه، وقالوا: هذه سنّة موتاكم يا ابن آدم». وقال عليه السلام: «للمسلم على المسلم ست حقوق» وذكر من جملة ذلك أن يغسله بعد موته.
ونوع من المعنى يدل عليه وهو أن الميت في صلاة الجنازة بمنزلة الإمام للقوم إنه لا تجوز الصلاة بدونه، وشرط تقديمه على القوم كالإمام، وطهارة الإمام شرط لجواز صلاة القوم فكذا طهارة الميت؛ لأنه بمعنى الإمام، ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: الجنازة متبوعة وليست بتابعة، ولأن ما بعد الموت حالة عرضٍ على الله تعالى، ورجوع إليه فوجب تطهيره بالغسل تعظيمًا لله تعالى.
ولهذا يسن غسل الكافر، وإن كان لا يصلي تعظيمًا لله تعالى: لأنه حالة عرضٍ عليه ورجوع إليه، وبه وردت السنّة في حق الكافر لما روي «أن النبي عليه السلام أمر عليًا رضي الله عنه بغسل أبي طالب».
ثم اختلف المشايخ في علة وجوب غسل الميت، قال أبو عبد الله البلخي في (تفسير المجرد): إنما وجب غسله لأجل الحدث لا لنجاسة ثبتت بالموت؛ لأن النجاسة التي تثبت بالموت لا تزول بالغسل كما في سائر الحيوانات التي لها دم سائل إذا تنجست بالموت، فإنها لا تطهر بالغسل، والحدث مما يزول بالغسل حالة الحياة، فكذا بعد الوفاة، ونجاسة الميت لا تزول بالغسل.
علمنا أن غسل الميت شرع لإزالة الحدث لا لإزالة نجاسة الموت، ولأن الآدمي لا ينجس بالموت، وإن وجد احتباس الدم في العروق كرامة له بخلاف سائر الحيوانات، لكن يصير محدثًا؛ لأن الموت سبب استرخاء المفاصل وزوال العقل قبل الموت، وإنه حدث، فكان يجب أن يكون مقصورًا على أعضاء الوضوء كما في حالة الحياة لأن في حالة الحياة القياس: أن يجب غسل جميع البدن كما في الجنابة لا أنه سقط غسل جميع البدن، واكتفي بغسل الأعضاء الأربعة نفيًا للحرج؛ لأنه يتكرر في كل يوم.
ألا ترى أن الجنابة لما لم تتكرر لم يكتف فيها بغسل الأعضاء الأربعة وكذلك الحيض لما لم يتكرر لم يكتف فيه بغسل الأعضاء الأربعة، والحدث بسبب الموت لا يتكرر فوجوب الغسل في جميع البدن لا يؤدي إلى الحرج، فأخذ بالقياس بعد الموت، والقياس يوجب غسل جميع البدن.
وكان الشيخ أبو عبد الله الجرجاني وغيره من مشايخ العراق يقولون: الغسل وجب لنجاسة الموت لا بسبب الحدث؛ لأن الآدمي له دم سائل، فيتنجس بالموت، والدليل على أنه يتنجس بالموت أن المسلم لو وقع في بئر ماء ومات فيها، فإنه يتنجس ماء البئر كلها حتى يجب نزح جميع البئر، وكذلك لو احتمل ميتًا قبل الغسل، وصلى معه لا تجوز الصلاة، ولو كان الغسل واجبًا لإزالة الحدث لا غير لكان تجوز الصلاة مع الميت قبل الغسل، كما لو احتمل محدثًا، وصلى معه.
والدليل عليه: أن الميت لا يمسح برأسه ولو كان الغسل للحدث لسن المسح على رأسه كما في الجنب؛ لأن الحدث يزول بالمسح على الرأس، فدل أن الغسل واجب لإزالة نجاسة ثبتت بالموت كرامة للآدمي بخلاف سائر الحيوانات. وهذا القول أقرب إلى القياس؛ لأنه قال: بثبوت النجاسة بعد وجود علتها، وهو احتباس دم السائل في العروق. وقال: يزول بالغسل.
والغسل أثر في إزالة النجاسة كما في حالة الحياة إن لم يكن له أثر في إزالة نجاسة الموت في سائر الحيوانات سوى الآدمي، فكان ما قاله موافقًا للقياس من كل وجه في حق ثبوت النجاسة بعد وجود علتها، وفي الزوال بالغسل موافقًا للقياس من وجه وهو الاعتبار بحالة الحياة إن كان مخالفًا للقياس باعتبار سائر الحيوانات، وما قاله البلخي مخالفًا للقياس من كل وجه، وهو المنع عن ثبوت النجاسة مع قيام العلة الموجبة للنجاسة فإما لم نجد سبب نجاسته لا يعمل في التنجس في الآدمي حالة الحياة كرامة له، فكذا بعد الوفاة، ولا شك أن ما هو أقرب إلى موافقة القياس أولى.

.قسم آخر في بيان كيفية الغسل:

ذكر أبو حنيفة عن حماد بن إبراهيم رحمهم الله أنه قال: يجرد الميت إذا أريد غسله، وقال الشافعي رحمه الله: السنّة أن يغسل في قميص واسع الكمين حتى يدخل الغاسل يده في الكمين، ويغسل يديه، فإن كان الكمين ضيقًا خرق الكمين.
حجته: بما روي عن النبي عليه السلام «حين توفي غسل في قميصه الذي عليه»، وما كان سنّة في حق النبي عليه السلام يكون سنّة في حق غيره حتى يقوم دليل التخصيص؛ ولأن الميت متى جرد يطلع الغاسل على جميع أعضائه، وربما يطلع على عورته، وقبل الموت كان يكره الاطلاع عليه، فكذلك بعد الموت حقًا للميت بخلاف حالة الحياة. لأنه يجرد نفسه بنفسه، فلا يطلع عليه غيره.
وعلماؤنا احتجوا بما روت عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه السلام لما توفي أجمعت الصحابة رضوان الله عليهم لغسله، فقالوا: لا ندري كيف نغسله. يغسل كما نغسل موتانا أو نغسله وعليه ثيابه؟ فأرسل الله تعالى عليهم النوم فما منهم أحد إلا نام وذقنه على صدره إذ ناداهم منادي أن اغسلوا نبيكم عليه السلام وعليه قميصة ولا تنزعوا.
فقد اجتمعت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أن السنّة في سائر الموتى التجريد، والمعنى فيه وهو أن هذا غسل واجب فلا يقام مع الثياب اعتبارًا بحالة الحياة، وهذا لأن المقصود من الغسل هو التطهر، والتطهير لا يحصل إذا غسل مع ثيابه؛ لأن الثوب متى تنجس الغسالة تتنجس يديه ثانيًا بنجاسة الثوب، فلا يفيد الغسل، فيجب التجريد.
وأما الحدث قلنا: النبي عليه السلام كان مخصوصًا بذلك لعظيم حرمته ألا ترى أن الصحابة قالت: لا ندري كيف نغسله؟ والنص الوارد في حق النبي عليه السلام بخلاف القياس لا يكون واردًا في حق غيره؛ لأنه ليس لغيره من الحرمة ما للنبي عليه السلام، وقوله: يطلع على عورته.
قلنا: أصلنا بين أمرين: بين أن نغسله في ثيابه حتى لا يطلع على عورته غيره، وبين أن يجرده فيقع الاحتراز عن نجاسة تصيبه من الثوب، والتجريد أولى؛ لأن صيانته عن النجاسة فرض، واطلاع الغاسل على عورة الميت، مكروه. فكان مراعاة التطهير، وإنه فرض أولى من مراعاة الاطلاع على عورة الميت، وإنه مكروه.
وإذا جرد عن ثيابه يوضع على تخت؛ لأنه لو وضع على الأرض يتلطخ ويتلوث بالطين فيوضع على التخت كيلا يتلطخ بالطين، ولم يبين في (الكتاب) كيفية وضع التخت إلى القبلة طولًا أو عرضًا.
من أصحابنا رحمهم الله من اختار الوضع طولًا كما كان يفعله في مرضه إذا أراد الصلاة بالإيماء، ومنهم من اختار الوضع عرضًا كما يوضع في القبر. قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وعلى الأصح أنه يوضع كما تيسر فإن ذلك يختلف باختلاف الأماكن والمواضع، ويوضع على عورته خرقة؛ لأن ستر العورة واجب على كل حال، والآدمي محترم حيًا وميتًا.
ألا ترى أنه لا يحل للرجال غسل النساء ولا للنساء غسل الرجال الأجانب بعد الوفاة، ثم ظاهر الرواية أنه يستر السوءة وهي العورة الغليظة وحدها ويترك فخذاه مكشوفتين.
قال وفي (النوادر): ويوضع على عورته من السرة إلى الركبة، وهكذا ذكر الكرخي في كتابه وهو الصحيح، قال عليه السلام لعلي رضي الله عنه: «لا تنظر إلى فخذ حي وميت» ويلف الغاسل على يديه خرقة ويغسل السوءة؛ لأن مس العورة حرام كالنظر فيجعل على يده خرقة ليصير حائلًا بينه وبين العورة.
ولم يذكر محمد رحمه الله في (الكتاب): أنه هل يستنجي؟ وذكر في صلاة الأثر أن على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: أنه يستنجي، وعلى قول أبي يوسف: لا يستنجى، أبو يوسف يقول: المسكة تزول والمفاصل تسترخى بالموت وربما يزداد الاسترخاء بالاستنجاء، فيخرج زيادة نجاسة من باطنه، فلا يفيد الاستنجاء فائدته، فلا يشتغل به، وهما قالا: موضع الاستنجاء من الميت قل ما يخلو عن نجاسة حقيقة، فيجب إزالتها كما لو كانت النجاسة على موضع آخر من البدن.
ثم يوضأ وضوءه للصلاة جاءت السنّة به من رسول الله عليه السلام؛ ولأن الغسل بعد الوفاة معتبر بالغسل حالة الحياة، وفي حالة الحياة كان إذا اغتسل توضأ أولًا وضوءه للصلاة، فكذلك بعد الوفاة.
قال شمس الأئمة الحلواني: هذا في البالغ والصبي الذي يعقل الصلاة، فأما الصبي الذي لم يعقل الصلاة، فإنه يغسله، ولا يتوضأ وضوءه للصلاة؛ لأنه كان لا يصلي.
ويبدأ بغسل وجهه، ولا يغسل اليدين بخلاف حالة الحياة؛ لأن الحي يغسله بنفسه، وآلة الغسل اليد فيؤمر بغسل اليدين أولًا، فيحصل غسل الأعضاء فإنه طاهرة، والميت يغسله الغاسل، ولا يغسل بنفسه، فلا يؤمر بغسل يد الميت بل يؤمر الغاسل بغسل يده.
ويبدأ في الوضوء بميامنه، وكذلك في الاغتسال؛ لأنه في حالة الحياة يفعل كذلك، فكذلك بعد الوفاة، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «كان يحب التيامن في كل شيء»، وقد روت أم عطية أن النبي عليه السلام قال: للنساء اللاتي غسلن ابنته «إبدآن بميامنها وبمواضع وضوئها». لا يمضمض ولا يستنشق وهذا عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: يمضمض ويستنشق اعتبارًا بالغسل حالة الحياة.
ولنا ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الميت يوضأ وضوءه للصلاة إلا أنه لا يمضمض ولا يستنشق». وهذا نص في الباب؛ ولأنه بتعذره عليهم إخراج الماء من فيه فيكون سقيًا لا مضمضمة، ولو كبوه على وجهه ربما يخرج من جوفه ما هو نتن منه فيكون أخبث لفمه.
ومن العلماء من قال: يجعل الغاسل على أصبعه خرقة دقيقة ويدخل الأصبع في فمه ويمسح بها أسنانه ولهاته وشفتيه وينقيها، ويدخل من منخره أيضًا. قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: وعليه الناس اليوم: ولا يمسح برأسه بخلاف غسل الجنابة حالة الحياة: لأن إزالة الحدث بالمسح عرف نصًا بخلاف القياس حالة الحياة.
ألا ترى أنه لا يزول الحدث في سائر الأعضاء بالمسح ولا نص في حالة الموت، فيبقى على أصل القياس، ولا يؤخر غسل رجليه بخلاف حالة الحياة؛ لأن هناك يجتمع الماء المستعمل في موضع رجليه فالمفيد الغسل، وهنا لا يجتمع، ثم يغسل رأسه ولحيته بالخطمي؛ لأن الغسل شرع للتنظيف والغسل بالخطمي أبلغ في التنظيف، وهذا إذا كان له شعر على رأسه، لأن الحي إذا غسل وله شعر فعل ذلك حتى يصل الماء إلى ثنون شعره، ولا يسرح شعره؛ لأن الحي إنما يفعل ذلك للزينة وقد انقطع ذلك بالموت.
ثم بعد التوضؤ يغسل ثلاثًا؛ لأن هذا غسل مشروع بعد الوفاة، فيعتبر بالغسل المشروع حالة الحياة، ثم التثليث في الغسل حالة الحياة مشروع، وكذا بعد الوفاة، وإن زاد على الثلاث جاز كما في حالة الحياة.
ثم يغسل أولًا بالماء القراح يعني بالماء الخالص، ثم بالسدر فيطرح السدر بالماء، وفي الثالثة يجعل الكافور في الماء ويغسل، هكذا روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «يبدأ أولًا بالماء القراح، ثم بالماء والسدر، ثم بالماء وشيء من الكافور» وإنما يبدأ أولًا بالماء القراح حتى يسيل ما عليه من الدرن والنجاسة، ثم بماء السدر حتى يزول ما به من الدرن والنجاسة، فإن السدر أبلغ في التنظيف وإزالة الدرن، ثم بماء الكافور يطيب بدن الميت، كذا فعلت الملائكة بآدم عليه السلام حين غسلوه. والغسل بالماء الحار أفضل عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: الأفضل أن يغسل بالماء البارد إلا أن يكون عليه وسخ ودرن، أو نجاسة لا تزول إلا بالماء الحار، فحينئذٍ يغسل بالماء الحار.
حجته: أن الميت يسترخي، فلو غسل بماء حار ازداد الاسترخاء، فيصير سببًا لخروج ما في بطنه من النجاسات، فيؤدي إلى تنجيس الأكفان وتنجيسه ثانيًا بعد الغسل، فكان الغسل بماء بارد أفضل.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: إن غسل الميت شرع للتنظيف، والماء الحار أبلغ في التنظيف، فيكون أفضل قياسًا على حالة الحياة، قوله: يزيد في الاسترخاء، قلنا: لهذا سنّ بالماء الحار ليزيد الاسترخاء، فيخرج جميع ما في بطنه كيلا تنجس الأكفان.
ثم يضجعه على شقه الأيسر، فيغسل بالماء القراح حتى ينقيه؛ لأن البدائة بالأيمن مندوب إليه، ولا يمكنه ذلك إلا بعد أن يضعه على شقه الأيسر، فيضعه على شقه الأيسر، ويصب الماء عليه حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت من الشق الأيسر، فإذا وقع عند هذا فقد غسله مرة.
قال في (الكتاب): وقد أمرن قبل ذلك بالماء... بالسدر، فإن لم يكن بسدر فحرض، فإن يكن واحد منهما أجزأك الماء القراح. ثم يضعه على شقه الأيمن، وبصب الماء على شقه الأيسر، فيغسله بالماء القراح ثلاثًا حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه؛ لأن الأيمن قد غسل بصب الماء عليه فيغسل الأيسر يصب الماء عليه؛ لأن صب الماء أبلغ في التطهير، فيجب أن يكون بكل جانب من ذلك حظ، فإن فعل هذا فقد غسل مرتين. ثم يقعده ويسنده إلى نفسه فيمسح بطنه مسحًا رقيقًا، فقد أمره بالمسح بعد الغسل مرتين، وأمره بمسح رقيق حقًا للميت.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في غير رواية (الأصول) أنه قال: يقعده أولًا، ويمسح بطنه، ثم يغسله؛ لأن المسح قبل الغسل أولى حتى يخرج ما في بطنه من النجاسة، فيقع الغسل ثلاثًا بعد خروج النجاسة.
وجه ظاهر الرواية: وهو أن المسح بعد المرة الثانية أولى؛ لأنه ربما يكون في بطنه نجاسة منعقدة لا تخرج بعد المسح قبل الغسل، ويخرج بعد الغسل مرتين بماء حار، فكان المسح بعد المرتين أقدر على إخراج ما به من النجاسة، فيكون أولى.
والأصل في ذلك ما روي: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما غسل رسول الله عليه السلام مسح بطنه بيده وقتها طلب منه ما يطلب من الميت فلم ير شيئًا فقال: طبت حيًا وميتًا، وروي أن العباس رضي الله عنه فعل وقال: هذا، وروي أنه لما فعل به هكذا أراح ريح المسك في البيت، وانتشر ذلك الريح في المدينة.
وإن سال منه شيء مسحه، ولم يرد لهذا الاقتصار على المسح بل يغسل ذلك الموضع، وإنما أمره بالمسح قبل الغسل؛ لأنه لو لم يمسح يتعدى عن ذلك الموضع بالغسل ثم يضجعه على شقه الأيسر، فيغسله بالماء القراح وشيء من الكافور حتى ينقيه، ويرى أن الماء قد خلص إلى ما يلي التخت منه، فإذا فعل ذلك فقد غسله ثلاثًا.
ثم ينشفه بثوب كما في حالة الحياة بعدما اغتسل ينشف أعضاءه حتى لا تبتل ثيابه، فكذا ينشفه بعد الموت حتى لا تبتل الأكفان. ولا يأخذ من شعره وظفره؛ لأنه للزينة، وبالموت استغنى عن الزينة، وإن كان ظفره منكرًا، فلا بأس بأن يأخذه.
روي ذلك عن أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وهذا سبيل كل ميت مات بعد الولادة، فإن ولد ميتًا لم يغسل، ولا يصلى عليه هكذا ذكر في (الأصل).
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إذا استهل المولود سمي، وغسل، وصلي عليه، وورث وورث عنه، وإذا لم يستهل لم يسم، ولم يغسل، ولم يصلِ عليه؛ ولم يرث؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: «إذا استهل المولود غسل وصلي عليه وورث، وإن لم يستهل لم يصلِ عليه ولم يورث» وهذه الرواية موافقة لما ذكر في (الأصل).
وعن أبي يوسف رحمه الله: أنه يغسل ولا يصلى عليه وهكذا روي عن محمد رحمه الله في رواية، وبه أخذ الطحاوي رحمه الله.
وفي رواية أخرى عن محمد رحمه الله: أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وبه أخذ الكرخي.
وجه إحدى الروايتين عن محمد رحمه الله: أن المنفصل ميتًا في حكم جرو حتى لا يصلى عليه فكذا لا يغسل.
وجه رواية أبي يوسف رحمه الله: أن المولود ميتًا نفس مؤمنة، ومن النفوس من يغسل ولا يصلى عليه، فيجوز أن يكون لهذه الصفة وما يقول: بأن المولود ميتًا في حكم الجرو.
قلنا: إنه في حكم الجرو من وجه، وفي حكم النفس من وجه فيعطى له حظًا من الشبهين، فلاعتباره بالنفوس، قلنا: يغسل ولاعتباره بالأجراء قلنا: لا يصلى عليه.
وأما السقط الذي لم تتم أعضاؤه، ففي غسله اختلاف المشايخ، والمختار أنه يغسل ويلف في خرقة.
وإذا غرق الرجل في الماء ومات أو وقع في بئر ومات فعن أبي يوسف رحمه الله أن ذلك لا ينوب عن الغسل وكذلك إذا أصاب الميت المطر لا ينوب ذلك عن الغسل.
فرق بين الميت والحي، والفرق: أن الغسل في حق الحي يتكلف به لغيره، وهو الطهارة وعرف ذلك بقوله تعالى: {وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} [المائدة: 6]، وقد حصلت الطهارة من غير فعله، فأما الطهارة لم تعرف مطلوبة من غسل الميت يجوز أن يكون غسله لهذه الحكمة، ويجوز أن يكون غسله لحكمة أخرى، فلا يجوز القول بسقوط الأمر بالغسل عند حصول هذه الحكمة، وهي الطهارة؛ ولأن الأمر بغسل الميت لاقى الأحياء، فلابد من فعل منهم، ولم يوجد، والأمر في حق الحي بالاغتسال لاقاه بعينه، وقد وجد نوع فعل منه في هذه الصورة.
وإذا لم ينب ذلك عن الغسل يغسل ثلاثًا بعد ذلك في قول أبي يوسف. وعن محمد أنه إذا نوى الغسل عند إخراجه من الماء يغسل مرتين بعد ذلك وإن لم ينوِ الغسل عند إخراجه يغسل ثلاثًا بعد ذلك، وعنه في رواية أخرى يغسل مرة واحدة. وإذا غسل الميت، ثم خرج منه شيء؛ فإنه لا يعاد الغسل، ولا الوضوء عندنا، وبه ختم.

.قسم آخر في بيان الأسباب المسقطة لغسل الميت:

فنقول: غسل الميت يسقط بأسباب: أحدها: انعدام الغاسل حتى أن الرجل إذا مات بين يدي النساء في السفر ييمم، فبعد ذلك ينظر إن كن أجنبيات يممنه من وراء الثياب، وإن كانت فيهن ذو رحم محرم منه يممته بيدها.
وكذلك المرأة إذا ماتت بين يدي الرجال في السفر، فإن كانوا أجانب يمموها من وراء الثوب، وإن كان فيهم ذو رحم محرم منها يممها بيده.
وإذا كان مع النساء رجل من أهل الذمة، أو مع الرجال امرأة ذمية علم الذمي والذمية الغسل، وإذا كان مع الرجال زوجها لم يحل له أن يغسلها، ولو كان مع النساء امرأة الميت حل لها أن تغسله.
وفي (العيون): إذا ظاهر من امرأته ثم مات منها فلها أن تغسله لأن النكاح قائم ولو كان لرجل امرأتان فقال: إحداكما طالق ثلاثًا، وقد كان دخل بهما، ثم مات قبل البيان ليس لكل واحدة منهما أن تغسله لجواز أن كل واحدة منهما مطلقة، ولهما الميراث، وعليهما عدة الوفاة والطلاق.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): مات الرجل عن امرأته، وهي مجوسية؛ لأنه كان لا يحل لها المس حال حياته، فكذا بعد وفاته بخلاف الذي ظاهر منها؛ لأن الحل قائم، فإن أسلمت قبل أن يغسل غسلته اعتبارًا بحالة الحياة. وكذلك إذا مات عن امرأة، وأختها في عدته لم تغسله، فإن انقضت عدة أختها كانت لها أن تغسله.
إذا مات الرجل فأقامت امرأتان أختان كل واحدة منهما بينة أنه تزوجها، ودخل بها، ولا يعلم أيتها الأولى لم تغسله واحدة منهما، وميراث امرأة واحدة بينهما. وإذا مات الرجل وثمة أمته أو أمة غيره يممته بغير ثوب إلا من عتق بموته، ولا تغسل الأمة مولاها، وكذلك أم الولد، وعن أبي يوسف رحمه الله للمحرمة والرضاعة أن تغسل زوجها.
وإذا مات الرجل عن امرأته، فقتلت ابن الميت أو ارتدت والعياذ بالله أو وقعت المحرمية بينهما بسبب من الأسباب لم يجز لها أن تغسله.
وإذا تزوج امرأة الرجل بزوج ودخل بها الزوج الثاني حتى وجب عليها العدة، ثم فرق بينهما، وردت إلى الزوج الأول، ومات عنها وهي في العدة من النكاح الثاني لم يكن لها أن تغسله، وإن انقضت عدتها في حال حياته، أو بعد وفاته لها أن تغسله.
وإن كان معه امرأة قد بانت منه قبل موته بطلاق، أو غير طلاق لم تغسله؛ لأن النكاح ارتفع في حال الحياة، والعدة الواجبة عليها للاستبراء ولهذا تقدر بالأقراء، وكذلك لو ارتدت قبل موته ثم أسلمت. وتغسل المرأة الصبي الذي لم يتكلم؛ لأنه ليس لفرجه حكم العورة.
والثاني: انعدام ما يغسل به، فإنه إذا مات الرجل في السفر، وليس هناك ماء طاهر ييمم ويصلى عليه.
والثالث: الشهادة، فالشهيد لا يغسل عند عامة العلماء رحمهم الله، وقال الحسن البصري: يغسل.
أولًا: يحتاج إلى بيان معرفة الشهيد ثم إلى بيان معرفة حكمه، فنقول وبالله التوفيق: الشهيد اسم لكل مسلم مكلف طاهر عند أبي حنيفة رحمه الله قتل ظلمًا في قتال ثلاث.
إما مع أهل الحرب، أو مع أهل البغي، أو مع قطاع الطريق، بأي آلة قتل لم يحمل على مكانه حيًا ولم ينتفع بحياته، ولم يبق حيًا بعد الجراحة يومًا أو ليلة، ولم يجب عن دمه عوض هو مال بالإجماع.
وحكمه في الشرع أنه لا يغسل، ويصلى عليه عندنا، وقال الحسن البصري رحمه الله: يغسل، وقال الشافعي: لا يصلى عليه. أما الكلام مع الحسن رحمه الله في الغسل حجته في ذلك أن الغسل سنّة الموتى من بني آدم لما روينا أن الملائكة صلوات الله عليهم لما غسلوا آدم عليه السلام قالوا: «هذه سنّة موتاكم يا بني آدم». والشهيد ميت؛ لأن المقتول ميت بأجله عند أهل السنّة والجماعة؛ ولأن الغسل شرع كرامة للميت، والشهيد أحق بالكرامات، وإنما لم يغسل شهداء أحد؛ لأن الجراحة فشت في الصحابة في ذلك اليوم، وكان يشق عليهم حمل الماء من المدينة؛ لأن عامة جراحاتهم كانت... في رسول الله عليه السلام لذلك.
وإنا نحتج بما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال في شهداء أُحد «زملوهم بكلومهم ودمائهم» وفي رواية «واروهم بثيابهم ولا تغسلوهم فإنه ما من جريح يجرح في سبيل الله تعالى إلا وهو يأتي يوم القيامة وأوداجه تشخب دمًا»، وفي رواية «فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دمًا اللون لون الدم، والريح ريح المسك»، وشهداء أُحد كانوا مكلفين طاهرين إذ لم ينقل أنه كان فيهم صبي، أو جنب، وقد قتلوا ظلمًا في قتال أهل الحرب، وما اعتاضوا عن دمائهم عوض هو مال، وما حملوا عن مكانهم أحياء، وما انتفعوا بحياتهم، وما عاشوا يومًا أو ليلة بعد الجراحة. فكل من كان في معناهم يلحق بهم في حق سقوط الغسل، وما لا فلا.
وكذلك من قتل في قتال أهل البغي لأنه إنما حارب لإعزاز دين الله تعالى، فصار كالمحارب مع أهل الحرب، وقد صح أن عمار بن ياسر قتل بصفين فقال: لا تنزعوا عني ثوبًا، ولا تغسلوا عني دمًا، وارمسوني في التراب رمسًا، فإني رجل محاج أحاج معاوية يوم القيامة، وزيد بن صومان قتل يوم الجمل فقال: لا تنزعوا عني ثوبًا، ولا تغسلوا عني دمًا فإني مخاصمهم يوم القيامة، وعن صخر بن عدي أنه قتله معاوية، وكان مقيدًا فقال: لا تنزعوا عني ثوبًا، ولا تغسلوا عني دمًا، فإني ومعاوية ملتقي يوم القيامة على الجادة.
وكذلك من قتل في قتال قطاع الطريق؛ لأنهم في معنى أهل الحرب.
ألا ترى أن الله تعالى وصفهم بكونهم محاربين الله ورسوله.
وكذلك من قتل مدافعًا عن نفسه، أو ماله، أو أهله، فهو شهيد قال عليه السلام: «من قتل دون ماله فهو شهيد»؛ ولأنه في معنى شهداء أُحد.
والمعنى في المسألة: أن غسل الميت إنما شرع لإزالة نجاسة ثبتت بالموت بسبب احتباس الدم السائل في العروق كما في سائر الحيوانات التي لها دم سائل، والدليل على أن النجاسة إنما ثبتت بسبب احتباس الدم السائل في العروق، فإن ما ليس له دم سائل من الحيوانات لا ينجس بالموت، والقتل على سبيل الشهادة يزيل الدم السائل عن العروق فلا تثبت نجاسة الموت بخلاف الموت؛ لأن النص ما ورد فيه، فبقي هو على النجاسة الأصلية. وأما الجواب عما قاله الحسن رحمه الله: أن الجراحات فشت في الصحابة.
قلنا: هذا باطل؛ لأن النبي عليه السلام لم يأمرهم بالتيمم، ولو كان ترك الغسل لما ذكرتم من المعنى لأمرهم رسول الله عليه السلام بالتيمم، كما لو تعذر غسل الميت في زماننا لعدم الماء، وبأنه ما لم يعذرهم في ترك الدفن، ولا شك أن حفر التراب هو أشق من غسل الميت، فلما لم يعذرهم في ترك الدفن كان أولى أن لا يعذرهم في ترك الغسل، وكما لم يغسل شهداء أُحد لم يغسل شهداء بدر كما رواه عقبة ابن عامر رضي الله عنه، وهذه الضرورة لم تكن يومئذٍ.
وكذلك لم يغسل شهداء الخندق، وحنين وهذه الضرورة لم تكن يومئذٍ فظهر أنهم إنما لم يغسلوا؛ لأن الشهيد لا يغسل.
وأما حديث آدم صلوات الله عليه، قلنا: بلى الغسل سنّة الموتى من بني آدم وهذا شهيد والشهيد ليس بميت من كل وجه بل هو ميت من وجه.
وأما الكلام مع الشافعي رحمه الله في الصلاة عليه: حجته في ذلك ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي عليه السلام: ما صلى على شهداء أُحد؛ ولأنه بصفة الشهادة يطهر من دنس الذنوب، والصلاة عليه شفاعة له ودعاء لتمحيص ذنوبه، وقد استغنى عن ذلك كما استغنى عن الغسل، ولأن الصلاة مشروعة على الميت دون الحي، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أحياء لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ في سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمرن: 169] ولنا ما روي أن النبي عليه السلام: صلى على شهداء أُحد، ولأن الصلاة على الميت لإظهار كرامته، ولهذا اختص به المسلمين، والشهيد أولى بهذه الكرامة.
وأما قوله من المعنى الأول: ليسن بصحيح؛ لأن درجته لا تبلغ درجة رسول الله عليه السلام، وما يقول من المعنى الثاني: أن الشهيد حي قلنا: نعم ولكن في حق أحكام الآخرة كما قال الله تعالى: {بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبّهِمْ} أما في حق أحكام الدنيا فلا، ولهذا يقسم ماله بين ورثته، وتتزوج امرأته بعد انقضاء العدة، والصلاة عليه من أحكام الدنيا.
وأما حديث جابر فتأويله لم يكن حاضرًا حال ما صلى رسول الله عليه السلام عليهم، فقد روي أنه قتل أبوه وأخوه وخاله يومئذٍ، فرجع إلى المدينة ليدبر كيف يحملهم إلى المدينة؟ فلم يكن حاضرًا حال ما صلى عليه السلام عليهم فروى ما روى لهذا.
ومن شاهد النبي عليه السلام، وشاهد صلواته عليهم. روي أنه صلى عليهم فقد روى بعضهم أن النبي عليه السلام: «صلى على حمزة سبعين صلاة» وتأويله أن حمزة كان موضوعًا بين يديه، وكان يؤتى بواحد واحد، وكان يصلي رسول الله عليه السلام عليه فظن الراوي أنه صلى على حمزة في كل مرة، فروى أنه صلى عليه سبعين صلاة.
جئنا إلى بيان الشرائط التي شرطناها لكون المقتول شهيدًا أما كونه مكلفًا، فهو شرط عند أبي حنيفة رحمه الله خلافًا لهما حتى أن الكفار إذا دخلوا قرية من قرى المسلمين، وقتلوا الصبيان والمجانين، فإنهم يغسلون عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندهما لا يغسلون.
حجتهما: أنهم قتلوا في سبيل الله تعالى ظلمًا، فيكونوا شهداء كالبالغين.
يوضحه: أن حال الصبيان والمجانين في الطهارة فوق حال البالغين العاقلين، فإذا لم يغسل البالغ إذا استشهد؛ لأنه يطهر بالسيف، فالصبي والمجنون أولى، ولأبي حنيفة رحمه الله أنهم ليسوا في معنى شهداء أُحد إذ لم ينقل أنه كان فيهم صبي أو مجنون فلا يلحقوا بهم في حق سقوط حكم الغسل.
وقد صح أن ابني آدم لما قتل أحدهما صاحبه أوحى الله تعالى إلى آدم عليه السلام: «أن اغسله وكفنه وصلي عليه وادفنه»؛، ولأن السيف محاء للذنوب والخطايا، وليس لهؤلاء ذنوب، فكان القتل في حقهم والموت سواء.
وهما يقولان: بأن السيف يطهر ويسقط الغسل عمن له ذنوب وخطايا، فلأن يسقط الغسل عنهم أولى، والجواب لأبي حنيفة رحمه الله ما بينا، ولأن ترك الغسل لإبقاء أثر الشهادة عليه ليكون له حجة على خصمه ولو لقيه، والصبي لا يخاصم بنفسه في حقوق الدنيا، فكذا في حقوق الآخرة، وإنما الخصم عنه في الآخرة هو الله تعالى، والله تعالى غني عن الشهود، فلا حاجة إلى إبقاء أثر الشهادة عليه. وأما كونه طاهرًا فهو شرط عند أبي حنيفة رحمه الله حتى أن الجنب إذا قتله أهل الحرب، أو أهل البغي، أو اللصوص يغسل عنده، وقال أبو يوسف: لا يغسل.
والحائض والنفساء إذا طهرتا، وتم الانقطاع، ثم قتلتا قبل الغسل، فهو على الخلاف، وإن قتلتا والحيض والنفاس قائم، عندهما لا يغسلان بلا إشكال، وعن أبي حنيفة رحمه الله روايتان وأصح الروايتين عنه أن تغسل.
هما يقولان: الغسل الواجب بالجنابة سقط بالموت؛ لأن الغسل كان واجبًا عليه، فيسقط بالموت لعجزه، والغسل بسبب الموت لم يجب؛ لأنه شهيد. ولأبي حنيفة رحمه الله حديث حنظلة، فإنه استشهد وهو جنب فغسلته الملائكة.
فسأل رسول الله عليه السلام زوجته عن حاله فقالت: أحبلني البارحة فأعجله الحرب من الغسل فقتل وهو جنب، فغسلته الملائكة تعليمًا لنا، كما في قصة آدم عليه السلام؛ ولأن الأصل في بني آدم الغسل، إنما تركنا هذا الأصل بحديث شهداء أُحد، ولم يرو أنه كان فيهم جنب أو حائض؛ ولأن الشهادة عرفت مانعة ثبوت النجاسة، لا مطهرة عن نجاسة.
بيانه: أن المسلم طاهر، ولكن يتنجس بالموت، فالشهادة تمنع ثبوت النجاسة بالموت، والجنب والحائض نجس ممنوع عن دخول المسجد وتلاوة القرآن، فالشهادة لو عملت في حقهما إنما تعمل في إزالة النجاسة، والمنع من الثبوت أسهل من الرفع بعد الثبوت، ولا يقاس الأعلى على الأدنى.
وأما كونه مقتولًا ظلمًا، فهو شرط بلا خلاف حتى أن من افترسه السبع، أو سقط عليه البناء، أو الحائط، أو تردى من جبل، أو غرق في الماء، أو ما أشبه ذلك غسل كغيره من الموتى؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، وهم قتلوا ظلمًا، فلا يلحق بهم غيرهم إلا إذا كان في معناهم.
يوضحه: أن هذه الأسباب غير معتبرة في حق أحكام الدنيا، والغسل من أحكام الدنيا؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، وهذا المعنى لا يوجد في حق من مات بهذه الأسباب. وإنما عممنا الآلة؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، ولم يكن كلهم قتيل السيف والسلاح بل فيهم من دمغ رأسه بالحجر، ومنهم من قتل بالعصا، ثم عمهم رسول الله عليه السلام في الأمر بترك الغسل؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله، وفي حق هذا المعنى السلاح وغيره سواء.
وشرطنا أن لا يحمل عن مكانه حيًا حتى قلنا: إذا حمل عن مكانه حيًا ومات في بيته، أو على أيدي الناس يغسل؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، هم ما حملوا عن مصرعهم بل ماتوا كما وقعوا على الجنب. فالذي يحمل عن مكانه حيًا ليس في معنى شهداء أُحد، وقد صح أن عمر وعليًا رضي الله عنهما حملا عن مصرعهما حيين وغسلا، وعثمان رضي الله عنه أجهز عليه في مصرعه ولم يغسل، فعرفنا أن الذي لا يغسل من أجهز عليه في مصرعه. وهذا إذا حمل ليمرض فأما إذا رفع من بين الصفين كيلا يطأه الجنود فإنه لا يغسل.
والفرق الذي حمل كيلا يطأه الجنود ما نال شيئًا من راحات الدنيا فلم يخف الظلم في حقه فيكون في معنى شهداء أحد ولا يغسل ولا كذلك الذي مرض في بيته أو خيمته لأنه وصل إليه شيء من راحات الدنيا فيخف المظلم في حقه فلم يكن في معنى شهداء أُحد.
وشرطنا أن لا ينتفع بحياته، حتى قلنا: إذا أكل أو شرب في مكانه يغسل؛ لأن هذا ليس في معنى شهداء أُحد، فإنه روي أنهم طلبوا ماء، وكان الساقي يطوف عليهم، فكان إذا عرض الماء على إنسان أشار إلى صاحبه حتى ماتوا عطاشًا، ولأنه إذا أكل أو شرب، فقد وصل إليه راحة من راحات الدنيا فخف الظلم في حقه، فصار كالتمريض والارتثاث.
ولو كلم إنسانًا ثم مات قبل أن يحمل لم يغسل.
قيل: هذا إذا كان قليلًا ليس أمور الدنيا، فإن من شهداء أُحد من فعل ذلك، أما إذا كان كثيرًا من أمور الدنيا كالبيع والشراء غسل.
ولو أوصى بوصية، ثم مات لم يغسل، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يغسل. واختلف المتأخرون رحمهم الله في ذلك، منهم من قال: هذا الاختلاف فيما أوصى بشيء من أمور الآخرة، فأما إذا أوصى بشيء من أمور الدنيا يغسل بالاتفاق، ومنهم من قال: لا خلاف بينهما في الحقيقة؛ لأن ما قاله أبو يوسف رحمه الله: محمول على ما إذا كانت الوصية بأمور الدنيا والاهتمام لأولاده.
وعند مالك يغسل بالإجماع. وما قال محمد رحمه الله: محمول على ما إذا كانت الوصية بالأمر الآخرة، وعند ذلك لا يغسل بالإجماع، استدل محمد رحمه الله في (الزيادات) بحديث سعد بن الربيع فإنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال يوم أُحد: «من يأتيني بخبر سعد فقال رجل: أنا آتيك بخبره، فجعل يتفحص القتلى حتى أدركه وبه رمق، فقال: إن رسول الله يقرئك السلام ففتح سعد عينيه، وقال: رسول الله في الأحياء قال: نعم هو سالم وقد بعثني إليك، فقال: الحمد لله على سلامته الآن طابت نفسي للموت، ثم قال: أقرأ رسول الله مني السلام، وأقرأ الأنصار السلام، وقل لهم: لا عذر لكم عند الله تعالى إن قتل محمد وفيكم عين تطرف، ثم قال: أخبر النبي عليه السلام أن بي كذا كذا طعنة كلها أصابت مقتلي، ثم مات» وكان من جملة شهداء أُحد، فهذا يبين لك صحة ما قلنا.
وشرطنا أن لا يبقى بعد الجراحة حيًا يومًا أو ليلة حتى قلنا لو عاش في مكانه يومًا أو ليلة فإنه يغسل، وإن كان دون ذلك لا يغسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد، إذ لم يبق منهم أحد حيًا بعد الجراحة يومًا كاملًا أو ليلة كاملة.
يوضحه: أن القتيل يعيش قليلًا ولا يعيش طويلًا فلابد من حد فاصل بين القليل والكثير فجعلنا الحد الفاصل بين القليل والكثير يومًا كاملًا أو ليلة كاملة؛ لأن كل واحدة من هذه المدة تعرف بنفسها، أما ما دون ذلك تعرف بالساعات فيكون هذا معرفة بغيرها لا بنفسها. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إن عاش وقت صلاة كامل يغسل؛ لأنه وجبت عليه تلك الصلاة، وهذا من أحكام الأحياء.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف رحمهما الله: إذ مكث الجريح في المعركة يومًا أو أكثر منه حيًا، والقوم في القتال على قتالهم ذلك اليوم كله، وهو يعقل فكلمهم، أو لا يعقل فهو بمنزلة الشهيد، قال: ألا ترى أنه لو كان يقاتل راجلًا أو فارسًا اليوم كله، ثم خر ميتًا في آخر النهار من جراحة أصابته في أول النهار إنه يكون شهيدًا.
وإن تصرم القتال بينهم وهو مجروح في المعركة صريع يعقل، فإن مكث كذلك وقت صلاتين أو وقت صلاة فهو بمنزلة الذي حمل حيًا لا يكون شهيدًا؛ لأنه صارت الصلاة دينًا في ذمته إذا كانت الحالة هذه، وهذا من أحكام الأحياء.
وإن كانوا في معمعة القتال، فوجد جريحًا فحملوه والقوم في القتال، ثم مات فهو شهيد، قال الحاكم الشهيد رحمه الله: مجرد حمله ورفعه من المعركة والقتال على حاله فقد لا يجعله مرتثًا، وإنما ارتثاثه بذلك بعد تصرم القتال.
وشرطنا أن لا يجب عن نفسه عوض هو مال حتى قلنا: إن من قتل خطأ يغسل؛ لأنه اعتاض عن دمه بدل هو مال، فلا يكون في معنى شهداء أُحد.
يوضحه: أن الشهيد من سلم نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى لنيل الجنة قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْولَهُمْ} [التوبة: 111] فمن استوجب الدية بدلًا عن نفسه، فقد اعتاض عن دمه، فلم يتم التسليم فيغسل.
ومن وجد في المصر قتيلًا ينظر إن حصل القتل بعصا كبيرة، أو بحجر كبير ويعلم قاتله، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يغسل؛ لأن القتل على هذا الوجه عنده يوجب الدية، فقد اعتاض عن دمه بدلًا هو مال، وعلى قول أبي يوسف، ومحمد رحمهما الله: لا يغسل؛ لأن القتل على هذا الوجه عندهما يوجب القصاص ووجوب القصاص، لا يمنع الشهادة عندنا كما لو قتل بالسلاح.
وإن لم يعلم قاتله يغسل؛ لأنه وجبت الدية، والقسامة بقتله، فلم يكن في معنى شهداء أُحد. وإن حصل القتل بعصا صغيرة يغسل علم قاتله، أو لم يعلم؛ لأن هذا القتل يوجب المال على كل حال، إن حصل القتل بحديدة، فإن لم يعلم قاتله تجب الدية والقسامة على أهل المحلة، فيغسل، وإن علم القاتل لم يغسل عندنا، وعند الشافعي يغسل بناءً على أن قتل العمد يوجب الدية عنده، فقد اعتاض عن دمه بدلًا هو مال، وعندنا القتل العمد يوجب القصاص فمن اعتاض عن دمه بدل هو مال.
وحجتهما روي أن عمر وعليًا رضي الله عنهما غسلا وقد قتلا مظلومين.
وحجتنا ما روي أن عثمان رضي الله عنه لم يغسل، وقد قتل في المصر بالسلاح ظلمًا، وعلم قاتله، وكذلك صخر بن عدي لم يغسل، وقد قتل في المصر بالسلاح ظلمًا، وعلم قاتله، ولا حجة له في حديث عمر، وعلي رضي الله عنهما؛ لأنهما ارتثا فغسلا لأجل الارتثاث، لا؛ لأن وجوب القصاص يوجب خللًا في أمر الشهادة.
فإن قيل: الذي وجب القصاص بقتله ليس في معنى شهداء أُحد إذ لم يجب بقتلهم شيء.
قلنا: فائدة القصاص يرجع إلى ولي القتيل، وسائر الناس دون المقتول، فلم يحصل له بالقتل شيء كما لم يحصل شهداء أُحد بخلاف الدية؛ لأن فائدة الدية ترجع إلى الميت من حيث إنه تقضى ديونه وتنفذ وصاياه.
ومن قتل في قصاص أو رجم غسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد؛ لأنه قتل بحق وشهداء أُحد قتلوا ظلمًا؛ ولأن الشهيد من بذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، وهذا لا يوجد في الذي قتل بحق؛ لأنه باذل نفسه لإبقاء حق مستحق.
وقد صح أن ماعزًا لما رجم جاء عمه إلى رسول الله عليه السلام وقال: قتل ماعز كما تقتل الكلاب، ماذا تأمرني أن أصنع به، فقال عليه السلام: «لا تقل هذا لقد تاب ماعز توبة لو قسمت توبته على أهل الأرض لوسعتهم، اذهب فاغسله وكفنه وصل عليه». وكذلك من مات من حد أو تعزير غسل لما بينا، وكذلك من عدا على قوم ظلمًا وكابرهم فقتلوه غسل؛ لأنه ليس في معنى شهداء أُحد؛ لأن شهداء أُحد ما عدونا على غيرهم ظلمًا؛ ولأن الظالم غير باذل نفسه لابتغاء مرضات الله تعالى، فلا يكون شهيدًا.
وكذلك الباغي إذا قتل لا يصلى عليه وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: يصلى عليه؛ لأنه مؤمن قال الله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} [الحجرات: 9] إلا أنه مقتول بحق، فهو كالمقتول في رجم أو قصاص.
ولنا حديث علي رضي الله عنه: أنه لم يغسل أهل الخوارج يوم النهروان، ولم يصلِ عليهم، فقيل له: أهم كفار فقال: لا ولكنهم إخواننا بغوا علينا، أشار إلى أنه ترك الغسل والصلاة عليهم عقوبة وزجرًا لغيرهم، وهو نظير المصلوب يترك على خشبته عقوبة وزجرًا لغيرهم.
وإن وجد في المعركة ميتًا ليس له أثر القتل غسل؛ لأن المقتول يفارق الميت بالأثر، فإذا لم يكن به أثر، فالظاهر لم يكن انزهاق روحه بقتل مضاف إلى العدو، بل لما التقى الصفان انخلع قناع قلبه من شدة الفزع فمات، والجبان قد يبتلى بهذا، وقد وقع هذا في كثير من الصحابة رضوان الله عليهم.
وإن كان به أثر القتل لم يغسل؛ لأن الظاهر أن موته كان بذلك الجرح، وإنه كان من العدو فاجتماع الصفين كان لهذا، والأصل أن الحكم متى ظهر عقيب سبب موته يضاف إلى ذلك السبب.
ثم لابد من معرفة الميت الذي ليس له به أثر القتل، والذي به أثر القتل، فالذي ليس به أثر القتل أن لا يكون به جراحة ولم يخرج منه الدم من موضع ما، أو خرج الدم منه من موضع يخرج منه الدم في حالة الحياة عادة.
حتى قلنا: لو خرج من أنفه أو دبره، أو ذكره دم غسل؛ لأن المرء قد يبتلى بالرعاف، وقد يبول دمًا لمرض في الباطن، أو من شدة الفزع، وقد يبتلى المرء بالباسور، فيخرج الدم من الدبر، فلا تثبت صفة الشهادة بالشك. والذي به أثر القتل أن يكون به جراحة، أو لم يكن به جراحة إلا أنه خرج الدم منه من موضع لا يخرج منه الدم في حالة الحياة عادة.
قلنا: لو خرج الدم من أذنه أو عينه، لم يغسل؛ لأن الدم لا يخرج من هذين الموضعين عادة إلا لجرح في الباطن فالظاهر أنه ضرب على رأسه حتى خرج الدم من أذنه أو عينه.
وإن كان يخرج من فمه فهو على وجهين: إما أن ينزل من رأسه أو يعلو من جوفه، فإن كان ينزل من رأسه غسل؛ لأنه رعاف؛ لأن للدماغ والرأس منفذين منفذًا إلى المخ ومنفذ إلى الفم والحلق، وإن كان يعلو من الجوف إن كان سائلًا لم يغسل وهو شهيد لأن الدم لا يسيل من الجوف حالة الحياة إلا الجرح في الباطن فكان ذلك علامة الضرب والقتل وإنا نعلم ذلك بلون الدم وإن كان متجمدًا يفصل لأنه يحتمل أن يكون صفرًا أو سوادًا احترق فلا يكون ذلك دليل الجرح في الباطن، فلا يترك الغسل بالشك وبه ختم.

.قسم آخر يتصل بمسائل الشهيد:

ذكر محمد رحمه الله في (الزيادات): أما في الشهيد وذكر فيها مسائل كثيرة وبنى مذهب أبي حنيفة ومذهب نفسه على أصل أن من صار مقتولًا في قتال ثلاث: إما مع أهل الحرب، أو مع البغاة، أو مع قطاع الطريق لمعنى مضاف إلى العدو، وكان شهيدًا سواء كان بالمباشرة، أو بالتسبب، وكل من صار مقتولًا بمعنى غير مضاف إلى العدو لا يكون شهيدًا لأن الشهيد اسم لقتيل العدو فلابد وأن يكون القتل مضافًا إلى العدو مباشرة وتسببًا.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا صار مقتولًا في هذا القتال الثلاث كان شهيدًا، وإن لم يكن قتله مضافًا إلى العدو؛ لأن الأصل في هذا الباب شهداء أُحد، وقد كان فيهم من رمت به دابته ثم عمهم رسول الله عليه السلام في حكم الشهادة.
إذا أوطأ مشرك مسلمًا بدابته لا يغسل؛ لأنه قتيل العدو مباشرة، ولو وطئت دابة المشرك والمشرك راكبها إلا أنه لا يعلم به، فقتله لا يغسل؛ لأنه قتيل العدو مباشرة؛ لأن فعل الدابة يضاف إلى راكبها؛ لأنها تبع له يوقفها كيف شاء. وكذلك لو كدمته الدابة بفمها أو ضربته بيدها أو بعجته برجلها أو بذنبها لا يغسل بلا خلاف، وكان ينبغي أن يغسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأن هذه الأفعال غير مضافة إلى راكب الدابة.
ألا ترى أن الراكب في دار الإسلام بمثل هذه الأفعال لا يضمن فلم يكن قتل ألبتة.
قلنا:...... هل هذه الأفعال مضافة إلى راكبها لما قلنا إلا أنه سقط اعتبار الإضافة شرعًا في حق الضمان في حق من يسير على الدابة، لأن الركوب في الطريق مسير مباح في الأصل فلم يصر خائنًا بالركوب، والتحرز عن هذه الأسباب غير ممكن، فجعل ذلك عفوًا حتى لو أوقف الدابة في طريق المسلمين يجب الضمان بمثل هذه الأفعال؛ لأن الإيقاف في الطريق غير مباح في الأصل، فيصير خائنًا بالاتفاق، فما تولد منه يكون مضمونًا عليه.
فأما الحربي، فهو خائن في أصل الركوب للقتال مع المسلمين فما تولد منه يكون مضمونًا عليه سواء أمكنه التحرز عنه أو لا.
وإن كانت دابة المشرك منفلتة من المشرك وليس عليها أحد، ولا لها سائق أو قائد فأوطئت مسلمًا في القتال، فقتلته، غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأن قتله غير مضاف إلى العدو أصلًا، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يغسل؛ لأنه صار قتيلًا في قتال أهل الحرب.
وإن عثرت دابة رجل من المسلمين في القتال فرمت به فقتلته غسل عند أبي حنيفة رحمه الله خلافًا لأبي يوسف بناءً على الأصل الذي قلنا: ولو نفر مشركون دواب المسلمين فرمت دابة صاحبها وقتلته لم يغسل بالإجماع لأنه قتيل العدو تسببًا، ولو رأت دواب المسلمين دابات المشركين فتفرق من ذلك دابة من غير..... المشركين ورمت بصاحبها وقتلته فهو على الاختلاف الذي بينا.
ولو انهزم المسلمون فوطئت دابة مسلم مسلمًا وصاحبها عليها، أو سائق لها، أو قائد غسل؛ لأن قتله مضاف إلى المسلم، وإنه خطأ يوجب الدية، وكل قتيل هذا حاله لا يؤثر في سقوط الغسل.
وكذلك لو رمى مسلم المشركين بسهم، فأصاب سهمه رجلًا من المسلمين، فقتله يغسل؛ لأنه قتله مضاف إلى المسلم، وإنه خطأ تجب فيه الدية، فلا يؤثر في سقوط الغسل فاستدل في (الكتاب) بحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فإن المسلمين التفوا بسيوفهم على اليمان، فقتلوه ولم يعرفوه فقضى رسول الله عليه السلام بالدية لحذيفة، فهذا دليل على أن مثل هذا القتل يوجب الدية، ووجوب الدية يوجب خللًا في أمر الشهادة في حكم الغسل.
ولو ألجأ المشركون المسلمين إلى خندق فيه ماء أو نار فلم يجدوا بدًا من الوقوع ففرق بعضهم أو احترق غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمه الله؛ لأن قتلهم غير مضاف إلى العدو؛ لأنهم هم الذين أوقعوا أنفسهم فيه، أكثر ما في الباب أنهم كانوا مضطرين في ذلك لكن مباشرتهم ذلك بأنفسهم يقطع تسبب العدو. ولو طعنوهم بالرماح حتى ألقوهم في الماء أو النار، أو رموا بهم عن سور المدينة، فلم تعقرهم الرماح وغرقهم الماء، أو ماتوا من وقوعهم لم يغسلوا؛ لأن قتلهم مضاف إلى العدو مباشرة.
ولو أن المشركين جعلوا الحسك حولهم أو حفروا خندقًا حولهم وجعلوا فيه نارًا أو ماءً، فجاء المسلمون ليلًا ولا يعلمون بذلك، فوقعوا فيه غسلوا؛ لأن قتلهم مضاف إلى فعلهم حيث وضعوا أقدامهم على ذلك الموضع باختيارهم، وجهلهم بذلك لا يجعل فعلهم مضافًا إلى العدو، فلا يسقط الغسل إلا على قول أبي يوسف رحمه الله.
ولو أن المشركين تحصنوا في مدينة، وصعد المسلمون سورها، فمالت رجل إنسان منهم فوقع فمات غسل عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه مات من فعله لا من فعل العدو، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: لا يغسل لما قلنا. وكذلك لو أن المسلمين نقبوا الحائط فوقع عليهم من نقبهم غسلوا لما قلنا، إلا على قول أبي يوسف رحمه الله.
ولو نقب المشركون الحائط حتى سقط على المسلمين لم يغسلوا؛ لأنهم قتيل العدو. وإذا أغار أهل الحرب على قرية من قرى المسلمين فقتلوا الرجال والنساء والصبيان لا خلاف أنه لا يغسل النساء كما لا يغسل الرجال؛ لأنهن مخاطبات بمخاصمتن يوم الجمعة من قتلهن، فيبقى عليهن أثر الشهادة ليكون شاهدًا لهن كما للرجال، وأما الصبيان، فعند أبي حنيفة رحمه الله يغسلون، وعندهما لا يغسلون. قال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للصبي ذنب هجره، فالقتل في حقه والموت حتف أنفه سواء، ثم الصبي لا يخاصم بنفسه، وإنما يخاصم عنه الله تعالى، والله تعالى غني عن الشهود، فلا حاجة إلى إبقاء أثر الشهادة.

.قسم آخر في تكفين الشهداء:

ويكفن الشهيد في ثيابه الذي عليه لقوله عليه السلام: «زملوهم بلباسهم» ولحديث زيد بن صوحان وصخر بن عدي: «لا تنزعوا عني ثوبًا ولا تغسلوا عني دمًا»، ولأن في نزع ثيابه إزالة أثر الشهادة عنه.
وقد أمرنا بإبقاء أثر الشهادة عليه. ألا ترى أنا أمرنا بإبقاء الدم الذي على يديه، وكره إزالته بالغسل، فكره نزع ثيابه لهذا، غير أنه ينزع عنه السلاح والجلود والفرو والحشو والخف والقلنسوة، وكلما ليس من جنس الكفن لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: «تنزع عنه العمامة والخفان والقلنسوة».
وعن زيد بن صوحان رضي الله عنه أنه قال: «ادفنوني في ثيابي ولا تنزعوا عني إلا الحشو» ولأن ما يترك على الشهيد يترك ليكون كفنًا له، والكفن للستر، والفرو والحشو يلبسان للزينة أو لدفع الحر والبرد، والميت قد استغنى عن ذلك، ولهذا كره تكفين غير الشهيد بهذه الأشياء، فإذا كره التكفين بهذه الأشياء ابتداء، كره الترك عليه كفنًا له.
وفي (السير الكبير) يقول: ينزع عنه ما ليس من جنس الكفن نحو السلاح والسراويل والقلنسوة، ولم يذكر محمد السراويل إلا في (السير)، وكان الفقيه أبو جعفر الهندواني يقول: الأشبه أن لا ينزع عنه السراويل؛ لأن في نزعه إبراز العورة من غير الضرورة، ووافقه في ذلك كثير من المشايخ من مشايخنا رحمهم الله.
ويزيدون في أكفانهم ما شاؤوا، وينقصون ما شاؤوا، قيل: معناه يزاد على ما عليه من الثياب إذا قل حتى يبلغ السنّة، وينقص عما عليه إذا كثر حتى يبلغ السنّة، وقيل: معناه يزاد على ما عليه من الثياب ثوب جديد تكرمًا له، وإن كان ما عليه يبلغ السنّة، وينقصون ما شاؤوا كما يفعل بغيره من الموتى، إنما لا يزال عنه أثر الشهادة، فأما في سوى ذلك فهو كغيره من الموتى، وبه ختم.

.نوع آخر من هذا الفصل في تكفين الميت:

هذا النوع ينقسم أقسامًا:

.قسم في مقدار الكفن:

قال محمد رحمه الله: أدنى ما تكفن فيه المرأة ثلاثة أثواب ثوبان وخمار، وأكثر ما تكفن فيه المرأة خمسة أثواب درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة، وأدنى ما يكفن الرجل فيه ثوبان، وأكثر ما يكفن فيه الرجل ثلاثة أثواب.
يجب أن يعلم بأن الكفن أنواع ثلاثة: كفن ضرورة وكفن كفاية وكفن سنّة، أما كفن الضرورة أن يكفن فيما يوجد، فإن حمزة استشهد، وعليه نمرة إذا غطي بها رأسه بدت قدماه وإذا غطي بها قدماه بدا رأسه فغطي بها رأسه، وجعل على قدميه الإذخر.
وأما كفن الكفاية فما قال في (الكتاب): أدنى ما تكفن به المرأة ثلاثة أثواب ثوبين وخمار وأدنى ما يكفن به الرجل ثوبين إزار ولفافة.
والأصل في ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: «كفنوني في ثوبي هذين فقالت عائشة رضي الله عنها: ألا نشتري لك ثوبًا جديدًا فقال: الحي أحوج إلى الجديد من الميت»؛ ولأنه لباس مشروع بعد الوفاة فيعتبر باللباس المشروع حالة الحياة ثوبين قميص وإزار.
وأدنى ما تلبس المرأة حالة الحياة ثلاثة أثواب قميص وإزار وخمار فكذا بعد الوفاة؛ وروي عن أبي يوسف رحمه الله أن المرأة إذا كفنت في ثوبين وترك الدرع والخمار والخرقة جاز لأن المقصود هو الستر وذاك حاصل بالثوبين.
وأما كفن السنّة للرجال فثلاثة، إزار ورداء وقميص، وللنساء خمسة لفافة وإزار ودرع وخمار وخرقة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب، ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: «تكفن المرأة في خمسة أثواب والرجل في ثلاثة أثواب، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» احتراز الزيادة على الخمسة في المرأة، وعلى الثلاثة في الرجل من الاعتداء، وروي أن رسول الله عليه السلام «كفن في ثلاثة أثواب سحولية» أي بيض، وعن أم عطية أن رقية بنت رسول الله عليه السلام توفيت، «وأمر رسول الله عليه السلام بغسلها، وتكفينها، وجلس على الباب وجعل يناول الثياب حتى بلغ خمسة»؛ ولأنه لباس مشروع بعد الوفاة فيعتبر باللباس المشروع حالة الحياة.
وأكثر ما تلبس المرأة حالة الحياة للخروج خمسة أثواب درع وخمار وإزار... ونقاب فكذا بعد الوفاة تكفن بخمسة أثواب درع وخمار وإزار ولفافة وخرقة تربط فوق الأكفان من عند الصدر فوق الثديين، والبطن كيلا يقصر عليها الكفن إذا حملت على السرير.
وعن زفر رحمه الله أنه قال: تربط الخرقة على فخذيها كيلا تضطرب إذا حملت على السرير، والأولى أن تكون الخرقة بحيث تصل إلى الموضعين ليكون أستر لها.
وأكثر ما يلبس الرجل في حالة الحياة ثلاثة أثواب قميص، وسراويل وعامته عمامته فكذلك بعد الوفاة يكفن في ثلاثة أثواب إزار، وقميص ولفافة، وهذا لأن مبنى حالة المرأة على الستر فيزاد في كفنها اعتبارًا بحالة الحياة، ثم جعلنا الزيادة ثوبين ليكون الكفن وترًا لا شفعًا.
وقال الشافعي رحمه الله: لا قميص في كفن الرجل بل هي لفاف كلها؛ لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه السلام كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص ولا عمامة، وفي رواية أثواب سحولية؛ ولأن القميص يختص به الأحياء للتقلب، ولا حاجة إليه في الميت.
ولنا حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه السلام: «كفن في حلة وقميص»، والحلة اسم للثوبين عند العرب، رداء وإزار ولأن أشرف لباس الأحياء القميص، فوجب تقديمه إلا أنه لا يجعل قميصه على سنة قميص الأحياء، فلا يجعل له دخريض؛ لأن ذلك إنما يجعل في حق الحي ليتسع أسفله فيتيسر له المشي، والميت لا يحتاج إلى ذلك، ولا يجعل له الجيب أيضًا؛ لأن ذلك يفعل للحي ليكون... ولا حاجة للميت إلى ذلك، ولا يكف أطرافه؛ لأن ذلك للصيانة ولا حاجة إليه في حق الميت، والأخذ بحديث ابن عباس رضي الله؛ عنهما أولى من الأخذ بحديث عائشة رضي الله عنها لأن الرجال حضروا رسول الله عليه السلام.
وهل يعمم الرجل؟ اختلف المشايخ فيه، منهم من قال: يعمم؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما أوصى. ومنهم من يقول: إن كان في الورثة صغار لا يعمم، وإن كانوا كبارًا وعمموا برضاهم يجوز.
ومنهم من قال: إن كان عالمًا معروفًا أو من الأشراف يعمم، وإن كان من أوساط الناس لا يعمم، ومنهم من قال: لا يعمم على كل حال لما روينا من الحديث، ولأنه لو عمم... للكفن شفعًا، ويكفن الرجل بكفن مثله. وتفسير ذلك أن ينظر إلى ثيابه في حياته للخروج إلى الجمعة، والعيدين فذلك كفن مثله.

.قسم آخر في كيفية التكفين:

فنقول: يبسط للرجل اللفافة، وهي تستر من القرن إلى القدم، ثم يبسط عليها الإزار وهو يستر من القرن إلى القدم أيضًا، ثم يوضع على الإزار الميت، وبعدما يوضع على الإزار يقمص، ويوضع الحنوط في رأسه ولحيته وسائر جسده؛ لأن الحنوط طيب الميت، والطيب حالة الحياة يستعمل في هذه الأعضاء، فكذا الحنوط بعد الوفاة.
وفي (المنتقى): لا بأس بأن يجعل شيء من المسك في الحنوط، ويوضع الكافور على مساجده يريد به جبهته وأنفه ويديه وركبتيه وقدميه؛ لأنه كان يسجد على هذه الأعضاء فتخص بزيادة الكرامة، وإن لم يكن لم يضره؛ لأن الحي قد لا يستعمل الطيب حالة الحياة، فلا يضره تركه بعد الوفاة.
وفي (القدوري): لا بأس بسائر الطيب غير الزعفران والورس في حق الرجل، وتحشى منافذه إذا خيف خروج شيء، ثم يعطف الإزار عليه من قبل اليسار، ثم من قبل اليمين، ويشد الإزار عليه؛ لأن شد الإزار على القميص أستر، وفي حالة الحياة يشد الإزار أولًا، ثم القميص؛ لأن ذلك للتقلب، وشد الإزار بحسب القميص ليكن للتقلب، ثم اللفافة كذلك، وإنما يعطف اليسار أولًا ثم اليمين لمعنيين:
أحدهما: أن لليمين فضلًا على اليسار فيكون فوق اليسار.
والثاني: إنما يلبسه حالة الحياة من الثياب يعطف أولًا من قبل الأيسر، ثم من قبل الأيمن كذا هذا.
وأما المرأة تبسط لها اللفافة، والإزار على نحو ما بينا للرجل، ثم توضع على الإزار، وتلبس الدرع، ويجعل شعرها ضفيرتين على صدرها فوق الدرع، وقال الشافعي رحمه الله: يضفر شعرها خلف ظهرها اعتبارًا بحالة الحياة، وإنما نقول: إنما يفعل ذلك؛ لأجل الزينة وهذه حال حسرة وندامة، فتعتبر بمثل هذه الحالة من حالة الحياة، ثم في حالة الحياة في حالة الحسرة والندامة بأن أصابتها مصيبة لا تجعل شعرها خلف ظهرها، بل تجعل على صدرها كذا بعد الوفاة.
ثم يجعل الخمار فوق ذلك، ثم تعطف اللفافة كما بينا في الرجل، ثم الخرقة بعد ذلك تربط فوق الأكفان فوق الثديين؛ لأنه لو لم تربط الخرقة ربما يضطرب ثداياها وقت الحمل، فتنتشر أكفانها فيبدو شيء من أعضائها.
والغلام المراهق، والجارية المراهقة بمنزلة البالغ؛ لأن المراهق، والمراهقة كل واحد منهما مشتهى كالبالغ والبالغة، فكان بدن كل واحد منهما في حكم العورة كبدن البالغ والبالغة، وإن كان لم يراهق كفن في خرقتين إزار ورداء، وإن كفن في إزار واحد أجزأه؛ لأن بدنه ليس بعورة لما أنه غير مشتهى، فانحطت درجته في الستر عن درجة من هو عورة. وأما السقط فإنه يلف في خرقة؛ لأن حاله لا يبلغ حال المنفصل حيًا.
قال القدوري رحمه الله في (كتابه): والمحرم وغير المحرم في ذلك سواء، يريد به أنه يطيب ويغطى وجهه ورأسه، والكفن الخلق والجديد سواء، وروي عن محمد رحمه الله أن المرأة تكفن في الإبريسم والحرير والمعصفر، ويكره للرجال ذلك، وأحب الأكفان الثياب البيض.
وفي (المنتقى): إبراهيم عن محمد يكفن الميت في كل شيء يجوز له لبسه في حال حياته، وفي (نوادر ابن سماعة): عن محمد رحمه الله تخمر الأمة كما تخمر الحرة. والله تعالى أعلم.

.قسم آخر:

ويكفن الميت من جميع ماله قبل الوصايا والديون والمواريث، ومن لم يكن له مال فكفنه على من تجب عليه نفقته إلا المرأة، فإنه لا يجب كفنها على زوجها عند محمد رحمه الله خلافًا لأبي يوسف، فإن عنده يجب عليه الكفن وإن تركت مالًا، ومن لم يكن له من ينفق عليه، فكفنه في بيت المال هكذا ذكر القدوري.
وفي (النوازل): إذا مات الرجل، ولم يترك شيئًا ولم يكن هناك من تجب عليه نفقته يفترض على الناس أن يكفنوه إن قدروا عليه، وإن لم يقدروا عليه سألوا الناس.
فرق بين الميت والحي، إذا لم يجد ثوبًا يصلي فيه ليس على الناس أن يسألوا له ثوبًا، والفرق: أن الحي يقدر على السؤال بنفسه، والميت لا.
وفي (النوازل) أيضًا: رجل مات في مسجد قوم، فقام أحدهم وجمع الدراهم ليكفنه ففضل من ذلك شيء، إن عرف صاحب الفضل رده عليه، وإن لم يعرف كفن به محتاجًا آخر، وإن لم يقدر على صرفه إلى الكفن تصدق به على الفقراء.
وفيه أيضًا: رجل كفن ميتًا من ماله، ثم وجد الكفن في يدي رجل كان له أن يأخذه؛ لأنه بقي على ملكه لم يملكه الميت، وإن كان وهبه للورثة، وكفنه الورثة فالورثة أحق بها. وكذلك لو افترس الميت سبع وبقي الكفن فهو على التفصيل الذي قلنا: إن كان وهبه للورثة فالورثة أحق به.
وإذا نبش الميت وهو طري كفن ثانيًا من جميع المال، فإن قسم المال فهو على الوارث دون الغرماء، وأصحاب الوصايا، وإن نبش بعدما تفسخ، وأخذ كفنه كفن في ثوب واحد. وإن لم تفضل التركة من الدين فإن لم يكن الغرماء قبضوا ديونهم بدئ بالكفن، وإن كانوا قبضوا ديونهم لا يسترد منهم شيء؛ لزوال ملك الميت.
قال هشام في (نوادره): سألت محمدًا عن معتق مات ولا مال له، وترك خالته والذي أعتقه قال: كفنه على خالته.
وفي (نوادر المعلى): عن أبي يوسف رحمه الله: امرأة ماتت وتركت أباها وابنها، فالكفن عليهما على قدر مواريثهما، وكذلك البنت والأخ. والله تعالى أعلم.

.نوع آخر من هذا الفصل في حمل الجنازة:

قال محمد رحمه الله (الجامع الصغير): وتضع مقدم الجنازة على يمينك، ثم مؤخرها على يمينك ثم مقدمها على يسارك، ثم مؤخرها على يسارك هذا هو السنّة عند كثرة الحاملين، إذا تناوبوا في الحمل يبتدئ الحامل من اليمين المقدم للميت، وهو يمين الحامل أيضًا، وعند الشافعي رحمه الله السنّة أن يحملها اثنان يدخلان بين عمودي الجنازة يضع السابق منهما مقدمها على أصل عنقه، وكاهله، ويأخذ قائميها بيده، والآخر منهما يضع مؤخرها على أصل صدره، ويأخذ قائميها بيده.
وروى الشافعي بإسناده أن جنازة سعد بن معاذ حملت هكذا؛ ولأن الحمل على هذا الوجه أشق على البدن، وحمل الجنازة عبادة وما كان أشق على البدن من العبادات فهو أولى.
ولنا ما روى ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من السنّة أن تحمل الجنازة من جوانبها الأربع وعن عمر رضي الله عنه أنه كان يدور على الجنازة من جوانبها الأربع؛ ولأن عمل الناس اشتهر بهذه السنّة من غير نكير منكر وإنه حجة؛ ولأن المسارعة في حملها، والحمل بأربعة يكون أبلغ في المسارعة، وفيه تخفيف على الحاملين، وصيانة للميت عن السقوط، وتعظيم للميت بأن يحمله جماعة من المؤمنين على أعناقهم.
وإنما حملت جنازة سعد بن معاذ كما رواه الشافعي إما لازدحام الملائكة فقد روي أن النبي عليه السلام «كان يمشي على رؤوس أصابعه وصدور قدميه لكثرتهم»، أو لضيق الطريق؛ أو لأن الحامل هناك رسول الله عليه السلام، والميت هناك بمأمن من السقوط؛ لأنه كان لكل نبي قوة أربعين رجلًا، وكان لنبينا قوة أربعين نبيًا.
قال محمد رحمه الله: ورأيت أبا حنيفة رحمه الله فعل هكذا، وذلك دليل تواضعه، وذكر الحسن بن زياد رحمه الله في (المجرد): ويكره أن يقوم الرجل بين عمودي له بجنازة من مقدمه أو مؤخره.
ويسرع بالجنازة وذلك ما دون الخبب لما روي أن النبي عليه السلام سئل عن المشي بالجنازة فقال: «ما دون الخبب فإن يك خيرًا عجلتموه إليه وإن يك شرًا وضعتموه عن رقابكم» أو قال: «فبعدًا لأهل النار».
والمشي خلف الجنازة أفضل، وإن مشى أمامه كان واسعًا، وقال الشافعي رحمه الله: المشي أمامها أفضل لما روي أن أبا بكر، وعمر رضي الله عنهما كانا يمشيان أمام الجنازة، ولأن الناس شفعاء الميت والشفيع يقدم على من يشفع له.
ولنا ما روي أن النبي عليه السلام كان يمشي خلف جنازة سعد بن معاذ، وعلي رضي الله عنه كان يمشي خلف الجنازة فقيل له: إن أبا بكر، وعمر كانا يمشيان أمامهما فقال: رحمهما الله قد عرفا أن المشي خلفها أفضل ولكنهما أرادوا أن ييسرا الأمر على الناس.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فضل المشي خلف الجنازة على المشي أمامها كفضل المكتوبة على النافلة. وما يقول من المشي باطل؛ لأن الشفيع إنما يتقدم من يشفع له تحرزًا عن تعجيل من عنه الشفاعة بعقوبة من يشفع له حتى يمنعه من ذلك، وذلك لا يتحقق هنا.
ويكره أن يتقدم الكل عليها، وإن كان كلهم خلفها، فلا بأس؛ لأنه ربما يحتاج إلى التعاون في حملها، فإذا كانوا يمشون خلفها تمكنوا من التعاون عند الحاجة، فلم يكن به بأسًا، وإن كانوا أمامها لم يتمكنوا من التعاون عند الحاجة فكره لهذا.
قال الحاكم الصدر الشهيد رحمه الله في (المنتقى): وجدت في بعض الروايات أن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا بأس بالمشي أمام الجنازة وخلفها ويمنة ويسرة، وكره أبو يوسف أن يتقدمها منقطعًا عن القوم، فإذا كنت في جماعة من الناس فلا بأس بالمشي أمام الجنازة وخلفها ويمنة ويسرة.
ولا بأس بالقعود إذا وضعت الجنازة، ويكره قبله؛ لأن قبل الوضع ربما تقع الحاجة إلى التعاون، فإذا كانوا قيامًا كان أمكن للتعاون، وبعد الوضع وقع الاستغناء عن ذلك، لأن الناس إنما حضروا إكرامًا للميت، والجلوس قبل أن يوضع عن المناكب يشبه الازدراء والاستخفاف به، وبعد الوضع لا يؤدي إلى ذلك، ولا بأس بالركوب في الجنازة والمشي أفضل هكذا ذكر القدوري؛ لأنه يسير للصلاة فيجوز راكبًا وماشيًا، والمشي أفضل كما في سائر الصلوات، وهذا لأن المشي أقرب إلى الخشوع، وأليق بحال الشفيع.
وفي (نوادر المعلى): عن أبي يوسف رحمه الله قال: رأيت أبا حنيفة يتقدم أمام الجنازة وهو راكب، ثم يقف حتى تأتيه، فهذا دليل على أنه لا بأس بالركوب في الجنازة، قيل: هذا إذا بعد عن الجنازة، أما إذا قرب منها يكره؛ لأن السبيل في اتباع الجنازة أن يكون بطريق التذلل لا بطريق التكبر، فعلى قول هذا القائل يحمل فعل أبي حنيفة رحمه الله على أنه كان بعيدًا عن الجنازة، وفي المسألة دليل عليه، فإن أبا يوسف رحمه الله قال: ثم يقف حتى تأتيه.
ويكره النوح والصياح في الجنازة ومنزل الميت لما روي أن النبي عليه السلام «ينهى عن الصوتين الأجمعين الفاجرين صوت الصائحة والمغنية».
فأما البكاء من غير رفع الصوت لا بأس به وسيأتي هذا الفصل بتمامه في كتاب الكراهية والاستحسان إن شاء الله تعالى. ولا تتبع الجنازة بنار يعني الإجمار.
قال في (الكتاب): أكره أن يكون آخر زاده في الدنيا نار تتبع به، وروي «أن النبي عليه السلام خرج في جنازة فرأى امرأة في يدها مجمر فصاح عليها وطردها».
ويكره أن يحمل الصبي على الدابة لأن حمله على الدابة؛ يشبه حمل الأثقال، وفي الحمل بالأيدي إكرام الميت، والصغار من بني آدم يكرمون كالكبار، وعنى أبو حنيفة في الفطيم والرضيع لا بأس بأن يحمل في طبق يتداولونه، ولا بأس بأن يحمله راكب؛ على دابة، يريد به أن الحامل له راكب لأن الحمل من الجوانب الأربع إنما تيسيرًا على الحاملة، وصيانة للميت عن السقوط، وفي حمل الصبي الرضيع لا يحتاج إليه فيحمله واحد.
والرواية الأولى محمولة على ما إذا وضع على الدابة كوضع الأمتعة، ولا يصلى على صبي وهو على الدابة أو على أيدي الرجال حتى يوضع؛ لأن الميت بمنزلة الإمام، ولا يصلح أن يكون الإمام محمولًا، والقوم على الأرض، ولا ينبغي أن يرجع من تبع جنازة حتى يصلي عليه.

.نوع آخر من هذا الفصل في الصلاة على الجنازة:

هذا النوع ينقسم أقسامًا:

.الأول: في نفس الصلاة وصفتها:

فنقول: الصلاة على الميت مشروعة بالكتاب والسنّة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103] والسنّة تأتي في خلال المسائل إن شاء الله تعالى، والأمة أجمعت عليها.
ومن صفتها أنها فرض كفاية. إذا قام بها البعض سقط عن الباقين، أما كونها فرضًا فلأن الله تعالى أمر بها لقوله: {وَصَلّ عَلَيْهِمْ} والأمر للوجوب، وقال عليه السلام: «صلوا على كل بر وفاجر» والأمر للوجوب، وأما كونها فرض كفاية؛ لأنها تقام حقًا للميت فإذا قام بها البعض صار حقه مؤدًا فيسقط عن الباقين كالتكفين والغسل.

.القسم الثاني: في كيفية الصلاة على الميت:

فنقول: يتقدم الإمام، ويصطف الناس خلفه كما في سائر الصلوات؛ ولأن التوارث هكذا من لدن رسول الله عليه السلام إلى يومنا هذا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): يقوم الإمام عند الصلاة بحذاء الصدر من الرجل ومن المرأة هذا هو جواب ظاهر الرواية، وهذا لأن الواجب استقبال الميت، واستقبال حملته غير ممكن، فوجب استقبال الصدر؛ لأن الصدر موضع القلب، والقلب موضع الحكمة والعلم، ولأنه موضع نور الإيمان قال الله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَمِ} [الزمر: 22]... عليه، فكان الوقوف بحذاء الصدر الذي هو موضع نور الإيمان أولى.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يقوم بحذاء الوسط من الرجل ومن المرأة. إلا أن الميت إذا كان امرأة فليكن إلى رأسها أقرب، وإنما قال: يقوم بحذاء الوسط لما روي عن النبي عليه السلام «أنه كان يقوم على جنازة المرأة والرجل بحذاء الوسط»، وعن سمرة بن جندب أن رسول الله عليه السلام «صلى على امرأة، ماتت في نفاسها فقام وسطها»، وإنما قال: إذا كان الميت امرأة، فليكن إلى رأسها أقرب ليكون أبعد عن عورتها فإن عورتها أشد، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: يقوم من المرأة بحذاء الوسط، ويقوم من الرجل مما يلي الرأس هكذا روي عن أنس رضي الله عنه موقوفًا عليه ومرفوعًا إلى رسول الله عليه السلام.
والمعنى: أن الرأس معدن العقل فكان القيام عنده أولى، إلا أن في حق المرأة شرطنا القيام إلى وسطها؛ ليصير الإمام حائلًا بينها وبين عورتها الغليظة، فلا يقع بصر القوم عليها.
وإن قام في غير ذلك المكان جاز؛ لأن ترك السنّة يؤثر في الإساءة لا في منع الجواز. ويكبر فيها أربع تكبيرات، وكان ابن أبي ليلى يقول: خمس تكبيرات، وهو رواية عن أبي يوسف، والآثار اختلفت في نقل رسول الله عليه السلام، فروي الخمس والسبع والتسع وأكثر من ذلك، إلا أن آخر فعله كان أربع تكبيرات، وكان ناسخًا لما قبله.
بيانه فيما روي أن عمر رضي الله عنه جمع الصحابة حين اختلفوا في عدد التكبيرات، وقال لهم: إنكم اختلفتم فمن يأتي بعدكم أشد اختلافًا، فانظروا إلى آخر صلاة صلاها رسول الله عليه السلام على جنازة فخذوا بذلك، فوجدوه صلى على امرأة، وكبر فيها أربعًا فاتفقوا على ذلك.
وقال عليه السلام: «لا تنسوا أربع كأربع الجنائز» وروي عن علي رضي الله عنه أنه كبر أربع تكبيرات، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كبر أربعًا أيضًا؛ ولأن كل تكبيرة منها قائمة مقام ركعة، ثم الصلاة المعهودة لا تزيد على أربع ركعات، فكذا التكبير في هذه الصلاة لا يزيد على أربع تكبيرات؛ ولأن ابن أبي ليلى رحمه الله قال: التكبيرة الأولى الافتتاح، فينبغي أن يكون بعدها أربع تكبيرات كل تكبيرة قائمة مقام ركعة كما في الظهر، والعصر، والجواب أن التكبيرة الأولى وإن كانت للافتتاح، ولكن بهذا لا يخرج من أن يكون تكبيرًا.
ثم قال: يكبر الأولى. ويحمد الله تعالى بعد التكبيرة الأولى، ويثني عليه، ولم يوقت في الثناء هاهنا شيئًا، وفي سائر الصلوات وقتوا في الثناء وهو قوله: سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره، قال شمس الأئمة رحمه الله: وقد اختلفوا في هذا الثناء بعد التحريم.
قال بعضهم: يحمد الله تعالى بكل ذكر في ظاهر الرواية، وقال بعضهم: يقول سبحانك اللهم وبحمدك إلى آخره كما في الصلوات المعهودة.
ثم يكبر الثانية، ويصلي على النبي عليه السلام؛ لأن الثناء على الله تعالى يعقبه الصلاة على النبي عليه السلام.
ثم يكبر الثالثة ويستغفر للميت ويتشفع له؛ لأن الثناء على الله تعالى والصلاة على النبي عليه السلام يعقبه الدعاء والاستغفار، والمقصود بالصلاة على الجنازة الاستغفار للميت والشفاعة له، والدليل عليه ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «إذا أراد أحدكم أن يدعو فليحمد الله تعالى وليصل على النبي عليه السلام ثم يدعو»، قد روي أن النبي عليه السلام رأى رجلًا فعل هكذا بعد الفراغ من الصلاة فقال عليه السلام: «ادع فقد استجيب لك». ويذكر الدعاء المعروف: «اللهم اغفر لحينا وميتنا» إن كان يحسن ذلك، وإن كان لا يحسن ذلك يذكر ما يدعو به في التشهد «اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات» إلى آخره، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن من صلى على صبي يقول: اللهم اجعله لنا فرطًا، اللهم اجعله لنا ذخرًا، اللهم اجعله لنا شافعًا مشفعًا، ولا يستغفر له؛ لأنه لا ذنب له.
ثم يكبر الرابعة ويسلم تسليمتين؛ لأنه جاء أوان التحلل وذلك بالسلام، ثم في ظاهر المذهب ليس بعد التكبيرة الرابعة دعاء سوى السلام، وقد اختار بعض مشايخنا ما يختم به سائر الصلوات «اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة» إلى آخره، قال شمس الأئمة رحمه الله: وهو مخير بين السكوت والدعاء لما بينا، وقال بعضهم: يقرأ «ربنا لا تزغ قلوبنا» إلى آخره، وقال بعضهم: يقرأ «سبحان ربك رب العزة عما يصفون» إلى آخره.
وإن زاد الإمام على أربع تكبيرات فالمقتدي هل يتابع الإمام في الزيادة أو لا يتابع؟ فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لا يتابع، وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يتابع؛ لأنه لم يظهر خطأ الإمام بيقين فإنه روي أن عليًا رضي الله عنه كبر خمسًا، وهكذا روي عن رسول الله عليه السلام.
والصحيح مذهبهما: أنه لا يتابع؛ لأن ما زاد على الأربع صار منسوخًا بإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، ولا متابعة في المنسوخ. وإذا لم يتابع الإمام في الزيادة فماذا يصنع؟ قالوا: يسلم أو ينتظر حتى يتابع الإمام في السلام.
وذكر في (النوازل): أن عن أبي حنيفة فيه روايتان: في رواية يسلم للحال، ولا ينتظر تحقيقًا للمخالفة، وفي رواية يسكت حتى سلم معه إذا يسلم ليصير متابعًا فيما وجب فيه المتابعة وفي (روضة المقتدي): إنما لا يتابع الإمام في التكبير الزائد على الرابع إذا كان يسمع التكبير من الإمام، أما إذا كان يسمع من المنادي يتابعه كما في تكبيرات العيد على ما مر.
ولا يقرؤون في صلاة الجنازة عندنا، وقال الشافعي رحمه الله: لابد من قراءة فاتحة الكتاب، يكبرون تكبيرة ويأتون بالثناء، ثم يقرؤون فاتحة الكتاب، حجته حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه «أن النبي عليه السلام كبر على ميت أربعًا وقرأ فاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى»، وقال عليه السلام: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» وهذه صلاة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه صلى على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب وجهر بها، وقال: «إنما جهرت لتعلموا أنها سنّة»؛ ولأنها صلاة مشروعة، فلا تجوز بدون القراءة قياسًا على سائر الصلوات.
ولنا ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن صلاة الجنازة هل فيها قراءة؟ فقال: لم يوقت لنا رسول الله عليه السلام فيها قولًا ولا قراءة كبر ما كبر الإمام واختر من أطيب الكلام ما شئت، وما روي من الأحاديث يدل على الجواز لا على الوجوب، ونحن نقول بالجواز، فقد روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في صلاته أنه لو قرأ الفاتحة بدلًا عن الثناء لا بأس به، ولهذا قال ابن عباس رضي الله عنهما: «إنما جهرت لتعلموا أنها سنّة» لم يقل أنها واجبة، كيف وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه وفضالة بن عبيد، وابن عمر رضي الله عنهم: ترك القراءة في صلاة الجنازة فيصير معارضًا لقول ابن عباس رضي الله عنهما يدل عليه أن القراءة لو شرعت لشرعت مكررة عقيب كل تكبيرة، فإن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، وعنده القراءة فرض في الركعات كلها، وعندنا في الركعتين.
وفي (فتاوى أهل سمرقند): من قرأ في صلاة الجنازة بفاتحة الكتاب، إن قرأ بنية الدعاء فلا بأس به، وإن قرأ بنية القراءة لا يجوز أن يقرأ؛ لأن صلاة الجنازة محل الدعاء، وليست محل القراءة.
ويرفع يديه في تكبيرة الافتتاح في صلاة الجنازة، ولا يرفع في سائر التكبيرات:
قال الشافعي: يرفع، وبقوله أخذ كثير من أئمة بلخ رحمهم الله، حجتهم أن هذه التكبيرات يؤتى بها في حالة القيام، فتكون من سنّة الرفع كتكبيرة الافتتاح، وتكبيرات العيدين، ولأن رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح وتكبيرات العيد للحاجة إلى إعلام من خلفه من أصم أو أعمى، وهذا المعنى يقتضي رفع اليدين هنا.
حجة علمائنا رحمهم الله قوله عليه السلام: «لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن» وليس منها صلاة الجنازة، ولأن بين كل تكبيرتين ذكر مقدر فلا حاجة للإعلام، ونظير هذا ما ذكر الحسن بن زياد رحمه الله في كتاب صلاته لا ترفع صوته بالتسليم في صلاة الحنازة كما يرفع في سائر الصلاة؛ لأن رفع الصوت مشروع للإعلام ولا حاجة إلى الإعلام إذ التسليم عقيب التكبيرة الرابعة بلا فصل، ولأن كل تكبيرة قائمة مقام كل ركعة كذا ها هنا.
ومما يتصل بهذا الفصل:
إذا اجتمعت الجنائز فالإمام بالخيار إن شاء صلى على كل جنازة صلاة على حدة، وإن شاء صلى عليهم صلاة واحدة، ويجزئ عن الكل لما روي في شهداء أُحد أن رسول الله عليه السلام صلى على كل عشرة صلاة واحدة، ولأن الدعاء والشفاعة تحصل بصلاة واحدة.
قال في (الكتاب): فإن أراد أن يصلي عليها صلاة واحدة إن شاؤوا وضعوا الجنائز صفًا طولًا، وإن شاؤوا وضعوا واحدًا بعد واحد مما يلي القبلة.
والأصل فيه ما روي عن عثمان بن عبد الله بن صهيب أنه قال: صليت مع أبي هريرة رضي الله عنه ما لا أحصي صلاة الجنازة، فكان يضع مرة صفوفًا ومرة صفًا واحدًا، ولم يجعل أحدهما أفضل في ظاهر الرواية، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: إن وضعوا واحدًا بعد الآخر كان أحسن حتى يصير الإمام قائمًا بإزاء الكل، فإنه ليس البعض بأولى من البعض في أن يقوم الإمام بحذاءه، وهكذا وردت السنّة في شهداء أُحد، ولكن يجعل الرجال مما يلي الإمام، والصبيان بعده، والنساء مما يلي القبلة هكذا روي عن علي، وابن مسعود، وابن عمر رضوان الله عليهم أجمعين، ولأنه لو صلى بهم حالة الحياة فالرجل يلي الإمام والصبي يلي الرجل والمرأة تلي، الصبي فبعد الوفاة يصلي الإمام عليهم هكذا أيضًا.
وإن كان حرًا ومملوكًا فكيف ما وضعت أجزأك؛ لأنهما لا يختلفان في المقام حالة الحياة، فكذا بعد الوفاة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يضع أفضلهما مما يلي الإمام وأسنهما.
وإن كان صبيًا حرًا ومملوكًا لم يذكر هذا الفصل في (الأصل)، وذكر في (المجرد) أنه يقدم الصبي الحر على العبد وهذا على رواية أبي حنيفة رحمه الله، أما على ما هو ظاهر الرواية في الرجل الحر والمملوك كيف ما يوضع جاز.
وإن كان عبدًا وامرأة، فالعبد مما يلي الإمام والمرأة خلفه، وإن كان جنازة خنثى وامرأة ورجل يوضع الرجل مما يلي الإمام وخلفه مما يلي القبلة خنثى وخلف الخنثى المرأة والله أعلم.
وقال أبو يوسف رحمه الله: الأحسن عندي أن يكون أهل الفضل مما يلي الإمام لقوله عليه السلام: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهي».
وإذا انتهى إلى الإمام في صلاة الجنازة وقد سبقه بتكبيرة لا يكبر، ولكنه ينتظر تكبيرة الإمام حتى يكبر، فيكبر معه فإذا سلم الإمام قضى هذا الرجل ما فاته قبل أن ترفع الجنازة، وهذا مذهب أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف لا ينتظر تكبيرة الإمام بل يكبر ويدخل مع الإمام.
وتفسير هذه المسألة على قول أبي حنيفة، ومحمد إذا جاء الرجل وقد كبر الإمام تكبيرة الافتتاح، فإن هذا الرجل لا يكبر تكبيرة الافتتاح، ولكن ينتظر حتى يكبر الإمام التكبيرة الثانية، فيكبر معه التكبيرة الثانية، وتكون هذه التكبيرة تكبيرة الافتتاح في حق هذا الرجل، ويصير هذا الرجل مسبوقًا بتكبيرة يأتي بها بعد ما يسلم الإمام.
وتفسير المسألة على قول أبي يوسف: هذا الرجل حين حضر يكبر تكبيرة الافتتاح، فإذا كبر الإمام الثانية تابعه فيها، ولم يصر مسبوقًا بشيء، حجة أبي يوسف رحمه الله قوله عليه السلام: «اتبع إمامك» في أي حال أدركته وقاسه بسائر الصلوات، فإن المسبوق في سائر الصلوات يكبر حين يحضر كذا هنا.
والدليل عليه أنه لو كان حاضرًا مع الإمام فكبر الإمام ولم يكبر المقتدي يكبر ولا ينتظر فكذلك هنا، ومذهبهما مروي عن ابن عباس رضي الله عنها؛ فإنه قال في حق الذي انتهى إلى الإمام في صلاة الجنازة وقد سبقه الإمام بتكبيرة أنه ينتظر الإمام حتى يكبر معه، ولم ينكر عليه غيره فيكون إجماعًا؛ ولأن كل تكبيرة من تكبيرات صلاة الجنازة قامت مقام ركعة حتى لو ترك تكبيرة منهما لا تجزئه الصلاة كما لو ترك ركعة من ذوات الأربع.
فلو كبر قبل تكبير الإمام يصير متقدمًا على الإمام بركعة، وهذا لا يجوز، وبه فارق سائر الصلوات؛ لأن هناك لو كبر لا يصير متقدمًا على الإمام بركعة فيجوز، فإذا سلم الإمام يكبر المسبوق عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله تكبيرة صار مسبوقًا بها قبل أن ترفع الجنازة.
وعند أبي يوسف رحمه الله يسلم مع الإمام؛ لأنه لم يصر مسبوقًا بشيء. وإن كان مسبوقًا بتكبيرتين يأتي بهما بعد سلام الإمام عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه حين جاء لا يكبر تكبيرة الافتتاح ما لم يكبر الإمام الثالثة، فإذا كبر تابعه هذا الرجل، وصارت الثالثة، في حق هذا الرجل تكبيرة الافتتاح.
وصار مسبوقًا بتكبيرتين يأتي بهما بعد سلام الإمام قبل أن ترفع الجنازة. وعند أبي يوسف رحمه الله يأتي بتكبيرة واحدة؛ لأنه قد أتى بتكبيرة الافتتاح حين انتهى إلى الإمام وبتكبيرتين مع الإمام، فإذا أتى بتكبيرة أخرى بعده تم أربعًا.
وإن كان مسبوقًا بثلاث يكبر ثلاث تكبيرات بعد سلام الإمام عند أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله؛ لأنه أتى بتكبيرة واحدة مع الإمام، وهي التكبيرة الرابعة للإمام وتكبيرة الافتتاح لهذا الرجل، وبقي عليه ثلاث تكبيرات، فيأتي بها بعد سلام الإمام.
وهل يأتي بالأذكار المشروعة؟ وإن كان لا يأمن رفع الجنازة يتابع بين التكبيرات ولا يأتي بالأذكار بين التكبيرتين، ذكر الحسن رحمه الله في (المجرد): أنه إن كان يأمن رفع الجنازة فإنه يأتي بالأذكار المشروعة.
وذكر المسألة في (النوازل): مطلقة من غير تفصيل. فقال: من فاته بعض التكبيرات على الجنازة يقضيها متتابعة بلا دعاء ما دامت الجنازة على الأرض؛ لأنه لو قضى مع الدعاء يرفع الميت فيفوته التكبير.
والحاصل: أنه ما دامت الجنازة على الأرض، فالمسبوق يأتي بالتكبيرات وإذا وضع الجنازة على الأكتاف لا يأتي بالتكبيرات، وإذا رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يأتي بالتكبيرات.
وعن محمد أنه إن كانت الأيدي إلى الأرض أقرب، فكأنها على الأرض فيكبر، وإن كانت إلى الأكتاف أقرب، فكأنها على الأكتاف فلا يكبر، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله: المسبوق بثلاث تكبيرات يكبر بعد سلام الإمام تكبيرتين؛ لأنه أتى بتكبيرة حين انتهى إلى الإمام، وبتكبيرة مع الإمام، فبقي عليه تكبيرتان فيأتي بهما بعد سلام الإمام، وإن كان مسبوقًا بأربع تكبيرات لا يصير مدركًا لصلاة الجنازة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن عندهما لا يكبر إلا مع الإمام، وإذا سلم الإمام فقد فاتته الصلاة، فلا يصير مدركًا لها، وعند أبي يوسف رحمه الله: يصير مدركًا للصلاة يكبر تكبيرة، ويشرع في الصلاة، فإذا سلم الإمام يكبر ثلاث تكبيرات ثم يسلم.
وفي (المنتقى): إذا كان الرجل حاضرًا مع الإمام وقت الشروع في صلاة الجنازة فكبر الإمام ولم يكبر هو مع الإمام فإنه يكبر التكبيرة الأولى، ولا ينتظر التكبيرة الثانية، وقد ذكرنا هذا في حجة أبي يوسف في المسألة المتقدمة، فإن لم يكبر حتى كبر الإمام الثانية، فكبر الثانية عنها ولم يكبر الأولى حتى يسلم الإمام، فإن كبر الأولى مع الإمام ولم يكبر الثانية، والثالثة مع الإمام، فإنه يكبرهما اتباعًا، ثم يكبر مع الإمام ما بقي، وإن لم يكبر هو مع الإمام حتى كبر الإمام أربعًا كبر هو قبل أن يسلم الإمام، ثم يكبر ثلاثًا قبل أن ترفع الجنازة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله في هذه الصورة أنه فاتته صلاة الجنازة، وقد ذكرنا أنه إذا كان مسبوقًا بأربع تكبيرات، فعلى قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: لا يصير مدركًا للصلاة، وعلى قول أبي يوسف: يصير مدركًا؛ لأن عنده كما حضر يكبر.
وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله في هذه الصورة نظير قول أبي يوسف رحمه الله، وقال: حين حضر المقتدي يكبر تكبيرة الافتتاح عند محمد كما هو قول أبي يوسف، وقال: حين حضر المقتدي يكبر تكبيرة، وفرق لمحمد بينما إذا أدرك الإمام بعد التكبيرة الرابعة وبينما إذا أدركها بعد التكبيرة الثالثة.
والفرق: أن بعدما كبر الإمام التكبيرة الثالثة لو انتظر المقتدي تكبيرة الإمام لا تفوته الصلاة؛ لأنه يكبر مع التكبيرة الرابعة، أما بعدما كبر الإمام الرابعة لا يمكنه انتظار الإمام؛ لأنه لم يبق عليه شيء، فلو لم يكبر حين حضر تفوته الصلاة، فلهذا افترقا.
إذا كبر على جنازة تكبيرة، ثم أتي بجنازة أخرى، فوضعت، يتم الصلاة على الأولى، ويفرد الثانية بالصلاة؛ لأنه لو جمع بينهما لا يخلو إما أن يقتصر على ما بقي من التكبيرات، فيصير مكبرًا على الثانية ثلاث تكبيرات، وصلاة الجنازة لم تشرع بثلاث تكبيرات، وإما أن يزيد تكبيرة أخرى، فيصير مكبرًا على الأولى خمس تكبيرات بتحريمة واحدة، وذاك أيضًا غير مشروع بإجماع الصحابة.
فإن نوى أن يصلي على الجنازة الثانية بهذه التحريمة لا يخلو إما أن ينوي الصلاة عليها جميعًا، وفي هذا الوجه تتم الصلاة على الأولى، ويستقبل الصلاة على الثانية؛ لأنه لم يخرج عن الأولى متى نوى البقاء عليها، وإذا لم يخرج عن الأولى لا يصير شارعًا في الثانية، وكذلك إذا لم ينوِ شيئًا، أو نوى الثانية، ولم يكبر لها، وفي هذين الوجهين أيضًا يتم الصلاة على الأولى، ويستقبل الصلاة على الثانية. أما إذا لم ينو شيئًا فظاهر، وأما إذا نوى الثانية ولكن ما يكبر لها؛ فلأن بمجرد النية لا يصير خارجًا من الأولى شارعًا في الثانية ما لم يقرنه بالعمل.
وإن نوى الصلاة على الثانية لا غير، وكبر لها يتم الصلاة على الثانية، ويستقبل الصلاة على الأولى؛ لأنه لما نوى الصلاة على الثانية لا غير، وكبر لها صار شارعًا فيها، ومن ضرورة كونه شارعًا فيها أن لا يبقى داخلًا في الأولى. كذا قال محمد رحمه الله في (نوادر الصلاة).

.القسم الثالث في بيان من يصلى عليه، ومن لا يصلى عليه:

فنقول: لا يصلى على الكافر لقوله تعالى: {وَلاَ تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَسِقُونَ} [التوبة: 84]، وروي أنه لما مات أبو طالب جاء علي رضي الله عنه إلى رسول الله عليه السلام وقال: إن عمك الضال قد مات فقال عليه السلام: «اغسله وكفنه وادفنه وما تحدث به حدثًا حتى تلقاني»، أي: لا تصلِ عليه؛ ولأن الصلاة على الميت دعاء واستغفار له، والاستغفار للكافر حرام قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَسِقِينَ} [التوبة: 80]، وصلي على كل مسلم مات بعد الولادة لما تلونا من الكتاب، لا البغاة وقطاع الطريق، فإنه لا يصلى عليهم.
وقال الشافعي: يصلى عليهم؛ لأنهم مسلمون، وقال عليه السلام: «صلوا على كل بر وفاجر».
ولنا: أن الصلاة دعاء واستنزال الرحمة، ونص القرآن يشهد لقطاع الطريق بالخزي قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الاْرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مّنْ خِلَفٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الاْرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الاْخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] وحلول الخزي به ينافي الدعاء له، وكذلك البغاة؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد وقطاع الطريق.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه لم يصلِ على قتلى نهروان وغيرهم من البغاة.
وكذلك الذي يقتل غيلة بالخنق هكذا روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله: وكذلك كل من يقتل على متاع يأخذه، والمكابرون في المصر بالسلاح؛ لأنهم يسعون في الأرض بالفساد، فكان حكمهم كحكم قطاع الطريق.
ذكر الحاكم في (المنتقى): من قتل مظلومًا لم يغسل ويصلى عليه، ومن قتل ظالمًا غسل، ولا يصلى عليه، وأراد بالمقتول ظلمًا المقتول من أهل العدل قتل بسيف أهل البغي، وأراد بالمقتول ظالمًا المقتول من أهل البغي قتل بسيف أهل العدل، وإنما لا يصلي على الباغي إذا قتلوا في الحرب، فأما إذا قتلوا بعدما وضع الحرب أوزارها يصلى عليه.
وكذلك قاطع الطريق إنما لا يصلى عليه إذا قتل في حالة الحرب، فأما إذا أخذهم الإمام، ثم قتلهم صلى عليهم.
وإذا مات المولود في حال ولادته، وإن كان خرج أكثره صلى عليه، وإن كان أقل لم يصلِ عليه؛ لأن للأكثر حكم الجميع، فإذا مات بعدما خرج أكثره فكأنه مات بعد الولادة، وإذا مات بعدما خرج الأقل منه، فكأنه مات في البطن.
ومن قتل نفسه خطأً بأن نازل رجلًا من العدو ليضربه، فأخطأه وأصاب نفسه ومات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهذا بلا خلاف.
وأما من يعمد قتل نفسه بحديدة، هل يصلى عليه؟ اختلف فيه المشايخ بعضهم قالوا: لا يصلى عليه، وكان الشيخ الإمام شمس الأئمة أبو محمد عبد العزيز بن أحمد الحلواني رحمه الله يقول: الأصح عندي أنه يصلى عليه، وتقبل توبته إن كان تاب في ذلك الوقت لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48] وكان القاضي الإمام ركن الإسلام علي السغدي رحمه الله يقول: الأصح عندي أنه لا يصلى عليه، لا؛ لأنه لا توبة له، ولكن لأنه باغي على نفسه، والباغي لا يصلى عليه.
والذي صلبه الإمام هل يصلى عليه؟ فعن أبي حنيفة رحمه الله فيه روايتان.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): في صبي سبي ويسبى معه أبويه أو أحدها فمات، لا يصلى عليه إلا إذا كان أقر بالإسلام، وهو يعقل الإسلام، وإن لم يسب معه أحدهما فمات يصلى عليه.
يجب أن يعلم أن الولد الصغير يعتبر تبعًا للأبوين أو لأحدهما في الدين، فإن انعدما يعتبر تبعًا لصاحب اليد، فإن عدمت اليد يعتبر تبعًا للدار؛ لأنه يقدر اعتباره أصلًا في الدين، فلابد من اعتباره تبعًا نظيرًا له، غير أن علة التبعية في الأبوين أقوى فتعتبر أولًا تبعًا لهما أو لأحدهما، وعند انعدامهما عليه التبعية في حق صاحب اليد أقوى.
إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان مع الصبي أبواه أو أحدهما يعتبر تابعًا لهما لا للدار، فيجعل كافرًا تبعًا لهما، والأصل في ذلك قوله عليه السلام: «كل ولد يولد على الفطرة إلا أن أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرًا وإما كفورًا» قوله عليه السلام: «كل ولد يولد على الفطرة» يحتمل أنه أراد به على الخلقة التي خلق الله تعالى قبل الولادة، فإن بعض اليهود كانوا يقولون: إن الولد قبل الولادة يكون على خلاف ما يكون بعد الولادة، فأبطل ذلك بهذا.
أو يحتمل أنه أراد به على الدين الذي دان يوم الميثاق، فإن الله تعالى خاطب ذرية آدم صلوات الله عليه بعدما أخرجهم من صلبه كالذر، وأعطاهم العقول بعضهم بيض وبعضهم سود، فقال لهم: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَمَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَفِلِينَ} [الأعراف: 172]، فقالوا كلهم: بلى، إلا أن البيض قالوا: عن اعتقاد، والسود قالوا عن خوف. فالذين قالوا عن اعتقاد يموتون مسلمين، والذين قالوا عن غير اعتقاد يموتون كافرين، فيحتمل أن مراد النبي عليه السلام من هذا الكلام ذاك أي يولد كل مولود على ما دانه يوم الميثاق، وهذا مذهب أهل السنّة والجماعة.
وقوله: يهودانه أو ينصرانه معناه يستتبعانه في الدين، وقوله: إما شاكرًا معناه مسلمًا، وقوله: إما كفورًا معناه كافرًا.
وأما إذا لم يسب معه أحد أبوية صلي عليه إذا مات، ويعتبر مسلمًا تبعًا للدار عند انعدام تبعية الأبوين.
والصبي إذا وقع في يد المسلم من الجند في دار الحرب وحده، ومات هناك صلي عليه، واعتبر مسلمًا تبعًا لصاحب اليد عند انعدام تبعية الأبوين، ويستوي الجواب فيما قلنا إذا كان الصبي عاقلًا، أو غير عاقل؛ لأنه قبل البلوغ تابع للأبوين في الدين ما لم يصف الإسلام.
وقوله في المسألة الأولى: إذا سبي معه أبوان لم يصلِ عليه حتى يقر بالإسلام، وهو يعقل، فهذا يدل على أن الصبي إذا أسلم وهو يعقل إنه يصير مسلمًا، وهذا مذهبنا، والمسألة معروفة في (السير).
وقوله: يعقل الإسلام يعني: يعقل صفة الإسلام، وهذا يدل على أن من قال: لا إله إلا الله لا يكون مسلمًا حتى يعلم صفة الإيمان، وكذلك إذا اشترى جارية واستوصفها صفة الإسلام، فلم تعلم فإنها، لا تكون مؤمنة، وصفة الإسلام ما ذكر في حديث جبريل صلوات الله عليه: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر، والبعث بعد الموت، والقدر خيره وشره من الله تعالى.
ومما يتصل بهذه المسألة:
أن أولاد المسلمين إذا ماتوا حال صغرهم قبل أن يعقلوا يكونون في الجنة، فإن فيهم أحاديث كثيرة أكثرها من المشاهير، وبالأحاديث تبين أنهم قالوا: بلى يوم أخذ الميثاق عن اعتقاد، وقد رووا عن أبي يوسف رحمه الله التوقف فيهم، وهو مردود على الراوي، فإن محمدًا روى عن أبي حنيفة رحمه الله في كتابه (آثار أبي حنيفة) رحمه الله: أن الذين يصلون في جنازة أولاد المسلمين وهم صغار يقولون في التكبيرة الثالثة: اللهم اجعله لنا فرطًا، اللهم اجعله لنا ذخرًا، اللهم اجعله لنا شافعًا مشفعًا، وهذا أيضًا منه رحمه الله بإسلامهم.
وأما أولاد الكفار إذا ماتوا قبل أن يعقلوا اختلف فيه أهل السنّة والجماعة، روي عن محمد رحمه الله أنه قال: إني أعرف أن الله تعالى لا يعذب أحدًا من غير ذنب، وبعضهم قالوا: يكونون في الجنة خدامًا للمسلمين، وبعضهم قالوا: إن كان قال: بلى يوم الميثاق عن اعتقاد يكونون من أهل الجنة، وإن كان قال: من غير اعتقاد يكونون في النار. وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه: توقف فيهم وكل أمرهم إلى الله تعالى، والله أعلم.

.القسم الرابع في بيان من هو أولى بالصلاة على الميت:

ذكر محمد رحمه الله في كتاب الصلاة: أن إمام الحي أولى بالصلاة، وذكر الحسن في كتاب صلاته عن أبي حنيفة أن الإمام الأعظم، وهو الخليفة أولى إن حضر، فإن لم يحضر فإمام المصر أولى فإن لم يحضر فالقاضي أولى، فإن لم يحضر فصاحب الشرطة أولى، فإن لم يحضر فخليفة الوالي أولى، فإن لم يحضر فخليفة القاضي، فإن لم يحضر فإمام الحي، فإن لم يحضر فالأقرب من ذوي قرابة، وبهذه الرواية أخذ كثير من مشايخنا رحمهم الله.
ومن المشايخ من قال: لا اختلاف بين الروايتين، فما ذكر في كتاب الصلاة محمول على ما إذا لم يحضر الإمام الأعظم، ولا واحد ممن ذكر في رواية الحسن، أما لو حضر الإمام الأعظم، فهو أولى بالصلاة باتفاق الروايات؛ لأن في التقدم على السلطان ازدراء له، ونحن أمرنا بتوقيره، فإن لم يحضر الإمام الأعظم، فأمير المصر أولى؛ لأنه في معنى الإمام الأعظم من حيث أنا أمرنا بتوقيره، وبعده القاضي أولى لما ذكرنا في أمير المصر، وبعده صاحب الشرطة، وبعده خليفة الوالي، وبعده القاضي، وبعد هؤلاء الإمام الحي أولى؛ لأنه هو صلى بالميت حال حياته، فيكون هو أولى بالصلاة عليه.
وإنما ذكر محمد رحمه الله إمام الحي أولًا في كتاب الصلاة؛ لأن السلطان لا يوجد في كل موضع، قال الكرخي في كتابه: وتقديم إمام الحي ليس بواجب ولكنه أفضل، فأما تقديم السلطان فواجب؛ لأن في ترك تقديم السلطان ازدراء به، وفي ذلك إفساد أمور المسلمين فيجب تقديمه. فأما ليس في ترك تقديم إمام الحي إفساد أمور المسلمين، ولكنه برضى الميت حال حياته، وهذا المعنى يقتضي تفضيله على غيره، أما لا يوجب تقديمه، ثم بعد إمام الحي فولي الميت أولى، وهذا كله قول أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله.
وقال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله: ولي الميت أولى بالصلاة على الميت على كل حال، حجة أبي يوسف والشافعي قول الله تعالى: {النَّبِىُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوجُهُ أُمَّهَتُهُمْ وَأُوْلُو الاْرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَبِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَجِرِينَ إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إِلَى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ في الْكِتَبِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] من غير فصل، ولأن هذا حكم تعلق بالولاية، فيكون الولي مقدمًا على السلطان ومن سميناهم قياسًا على النكاح؛ ولأن المقصود من صلاة الجنازة الدعاء للميت والشفاعة، ودعاء القريب أرجى في الإجابة؛ لأنه أشفق على الميت، فيوجد منه زيادة تضرع في الدعاء والاستغفار لا يوجد ذلك من السلطان، فيكون هو أولى.
حجة أبي حنيفة، ومحمد رحمهما الله: أنه لما مات الحسن بن علي رضي الله عنهما خرج الحسين والناس لصلاة الجنازة، فقدم الحسين سعيد بن العاص، وكان سعيد واليًا بالمدينة يومئذٍ، فأبى سعيد أن يتقدم فقال له الحسين: تقدم ولولا السنّة ما قدمتك، ولأن هذه صلاة تقام لجماعة فيكون السلطان أولى بإقامتها قياسًا على سائر الصلوات.
فإن اجتمع للميت قريبان هما في القرب إليه على السواء بأن كان له أخوان لأب وأم أو لأب، فأكبرهم سنًا أولى، لأن النبي عليه السلام أمر بتقديم الأسن، فإن أراد الأكبر أن يقدم إنسانًا ليس له ذلك إلا برضا الآخر؛ لأن الحق لهما استوائهما في القرابة لكنا قدمنا الأسن للسنّة، ولا سنّة في تقديم من قدمه، فيبقى الحق لهما كما كان، وإن كان أحدهما لأب وأم، والآخر لأب، فالذي لأب وأم أولى، وإن كان أصغر، وإن قدم الأخ لأب وأم غيره، فليس للأخ لأب أن يمنعه عن ذلك؛ لأنه لا حق للأخ لأب أصلًا.
وإن اجتمع للميت ابن وأب، ذكر في (كتاب الصلاة) أن الأب أولى، من مشايخنا من قال: ما ذكر في كتاب الصلاة قول محمد رحمه الله، فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله الابن أولى، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الولاية لهما إلا أنه يقدم الأب احترامًا له، ورد هذا القائل هذه المسألة إلى مسألة النكاح.
ومسألة النكاح على هذا الخلاف، فإنه إذا اجتمع للمجنونة أب وابن، فالابن أولى عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد الأب أولى، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله الولاية لهما إلا أنه يقدم الأب احترامًا له.
ومنهم من قال: لا بل ما ذكر في صلاة الجنازة أن الأب أولى قول الكل؛ لأن للأب زيادة فضيلة وسن ليس للابن، وللفضيلة أثر في استحقاق الإمامة فيرجح الأب بذلك بخلاف النكاح؛ لأنه لا أثر للفضيلة هناك في إثبات الولاية، فلا يثبت الترجيح به، ونص هشام في (نوادره) عن محمد عن أبي حنيفة أن الأب أولى من الابن.
وإذا اجتمع للميت أب وأخ، فالأب أولى بالإجماع، قال القدوري: وسائر القرابات أولى من الزوج، وكذا مولى العتاقة وابنه، وهذا مذهبنا.
وقال الشافعي رحمه الله: الزوج أولى حجته في ذلك ما روي أنه لما ماتت امرأة ابن عباس رضي الله عنهما صلى عليها، وقال: أنا أحق بها.
وعلماؤنا رحمهم الله احتجوا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه لما ماتت امرأته قال لأوليائها: كنا أحق بها حين كانت حية، فإذا ماتت فأنتم أحق بها، ولأن السبب فيما بين الزوجين الزوجية، وإنها تنقطع بالموت، والسبب فيما بين الأقارب القرابة، وإنها لا تنقطع بالموت.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما محمول على أنه كان إمام حي فصلى عليها لكونه إمام حي لا لكونه زوجًا. وإن كان للمرأة التي ماتت زوج وابن منه كره للابن أن يتقدم أباه؛ لأن في تقديمه على الأب ازدراء واستخفاف بالأب، فينبغي أن يقدم الأب، ولا يتقدم عليه.
قال أبو يوسف رحمه الله: وله في حكم الولاية أن يقدم غير أبيه؛ لأن الابن هو الولي إلا أنه منع عن التقدم على أبيه لما ذكرنا من المعنى، وذلك المعنى لا يوجب انقطاع ولايته.
وإن تركت أبًا وزوجًا وابنًا من هذا الزوج لم يكن الابن أن يقدم أبًا إلا برضى الجد؛ لأن الابن ممنوع عن التقدم على الجد لكونه بمنزلة الأب، فيكون ممنوعًا عن تقديم غيره على الجد من طريق الأولى.
وإن تركت زوجًا وابنًا من زوج آخر، فلا بأس للابن أن يتقدم على هذا الزوج، ويقدم من شاء، لأنه هو الولي، ولم يوجد ما يمنع التقدم، والتقديم على هذا الزوج، وهو الازدراء بأبيه.
ومولى الموالاة أحق من الأجنبي؛ لأنه ملحق بالقريب، ولهذا كان أحق من الأجنبي؛ لأنه ملحق بالقريب، ولهذا كان أحق بميراثه عند عدم القريب. وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا كان الأقرب غائبًا المكان تفوت الصلاة بحضوره فالأبعد أولى، فإن قدم الغائب غيره بكتاب كان للأبعد منعه، وحد الغيبة هاهنا أن لا يقدر على القدوم فيدرك الصلاة، ولا يقدرون على تأخيرها لقدومه، والمريض بمنزلة الصحيح يقدم من شاء، وليس للأبعد منعه؛ لأن ولايته لم تسقط، ولهذا لو حضر مع المرض كان له أن يتقدم، ومتى كانت الولاية باقية كان له حق التقدم.
وإن قدم الأخوان من الأب والأم كل واحد منهما رجلًا، فالذي قدمه الأكبر أولى لأنهما؛ رضيا بسقوط حقهما، وأكبرهما سنًا أولى بالصلاة عليه، فيكون أولى بالتقديم. ولا حق للنساء ولا للصغار في التقديم؛ لأن حق التقديم ينبني على ولاية التقدم، وليس للنساء والصغار ولاية التقدم فلا يكون لهم حق التقديم.
عبد مات فاختصم في الصلاة عليه المولى وأب العبد أو ابنه، وهما حران فالمولى أحق بالصلاة عليه.
وكذلك المكاتب إذا مات عن غير وفاء، ولو ترك وفاء، وأديت كتابته أو لم تؤد إلا أن المال حاضر لا يخاف عليه التلف، فالابن أولى، وكذا الأب، ولكن يكره أن يتقدم جده وهو أبو المكاتب، وإن كان المال غائبًا فالمولى أحق بالصلاة.

.نوع آخر من هذا الفصل في القبر والدفن:

وإذا انتهي بالميت إلى القبر فلا يضر وتر دخله أم شفع؛ لأن المقصود وضع الميت في القبر، فإنما يدخل قبره بقدر ما يحصل به الكفاية الشفع والوتر فيه سواء.
وقد صح: أنه دخل في قبر رسول الله عليه السلام أربعة علي، والعباس وابنه فضل، واختلفوا في الرابع ذكر شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أن الرابع صالح مولى عتاقة رسول الله عليه السلام، وذكر شيخ الإسلام خواهر زاده رحمه الله: أن الرابع صهيب، وذكر شمس الأئمة الرخسي رحمه الله: أن الرابع المغيرة بن شعبة أو أبو رافع.
ويقول واضعه في القبر: بسم الله وعلى ملة رسول الله معناه: بسم الله وضعناك، وعلى ملة رسول الله سلمناك. روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عليه السلام كان إذا وضع ميتًا في القبر يقول: «بسم الله وعلى ملة رسول الله»، وهكذا روي عن علي رضي الله عنه.
ويلحد للميت ولا يشق له، وهذا مذهبنا، وقال الشافعي رحمه الله: يشق ولا يلحد، حجة الشافعي توارث أهل المدينة، فإنهم توارثوا الشق دون اللحد، وعلماؤنا احتجوا بقوله عليه السلام: «اللحد لنا والشق لغيرنا» ولأن الشق فعل أهل اليهود والتشبه بهم مكروه فيما مسته يد ولا حجة له في توارث أهل المدينة؛ لأنهم إنما توارثوا ذلك لضعف أراضيهم بالبقيع، ولأجل هذا المعنى اختاروا الشق في ديارنا، فإن في أراضي ديارنا ضعف أو رخاوة فينهار اللحد فاختاروا الشق لهذا.
وصفة اللحد: أن يحفر القبر بتمامه ثم يحفر في جانب القبلة منه حفيرة فيوضع فيه الميت، ويجعل ذلك كالبيت المسقف.
وصفة الشق: أن يحفر حفيرة في وسط القبر ويوضع فيه الميت. ويدخل الميت من قبل القبلة في القبر، وفي بعض الكتب: ويستقبل به القبلة عند إدخاله في القبر يعني توضع الجنازة فوق اللحد من قبل القبلة.
وقال الشافعي رحمه الله: يسل سلًا، قال شيخ الإسلام المعروف بخواهر زاده رحمه الله: صورة السل أن توضع الجنازة في مؤخر القبر حتى يكون رأس الميت بإزاء موضع قدميه من القبر، ثم يدخل الرجل الآخذ القبر، فيأخذ برأس الميت، ويدخله القبر أولًا، ويسل كذلك.
وقال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: صورة السل أن توضع الجنازة في مقدم القبر حتى تكون رجلا الميت بإزاء موضع رأسه من القبر، ثم يدخل الرجل الآخذ القبر، فيأخذ برجلي الميت ويدخلهما القبر أولًا ويسل كذلك.
حجتنا في ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي عليه السلام أدخل في القبر من قبل القبلة، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يدخل الميت قبره من قبل القبلة، ولأنه إذا أخذ من قبل القبلة كان وجوه الآخذين إلى القبلة، وإذا سل سلًا لا تكون وجوه الآخذين إلى القبلة، وأشرف حال الإنسان إذا كان قائمًا أو نائمًا أو قاعدًا أن يكون وجهه إلى القبلة.
ويوضع في القبر على شقه الأيمن موجهًا إلى القبلة قال عليه السلام: «يا علي استقبل به القبلة استقبالًا وضعوه لجنبه ولا تكبوه لوجهه ولا تلقوه على ظهره».
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): ويسجى قبر المرأة بثوب حتى يفرغ من اللحد؛ لأنها عورة من قرنها إلى قدمها، فربما يبدو شيء من أثر عورتها فيسجى القبر.
ألا ترى أن المرأة خصت بالنعش على جنازتها، وقد صح أن قبر فاطمة سجى بثوب ونعش على جنازتها ولم يكن النعش في جنازة النساء حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها، فأوصت قبل موتها أن تستر جنازتها، فاتخذوا لها نعشًا من جريد النخل، فبقي سنّة هكذا في جميع النساء، وإذا وضعت في اللحد استغني عن التسجية.
وإن كان رجلًا لا يسجى قبره عندنا، وعند الشافعي رحمه الله: يسجى لما روي أن النبي عليه السلام لما دخل قبر سعد بن معاذ وأسامة بن زيد معه سجى قبره، ولأصحابنا رحمهم الله ما روي عن علي رضي الله عنه أنه مر بميت وقد سجي قبره فنزعه، وقال: إنه رجل، وأوصى شريح أن لا يسجى قبره؛ ولأن مبنى حال الرجل على الانكشاف، فلا يسجى قبره إلا لضرورة وهي ضرورة دفع الحر أو الثلج أو المطر عن الداخلين في القبر.
وتأويل قبر سعد بن معاذ أنه إنما يسجى قبره؛ لأن الكفن كان لا يعم بدنه، فيسجى قبره حتى لا يقع الاطلاع على شيء من أعضائه.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): ويكره الآجر على اللحد، ويستحب القصب واللبن، قال في (الأصل): اللبن والقصب بدل المذكور في (الجامع الصغير): على أنه لا بأس بالجمع بينهما، وقد جاء في الحديث أنه وضع على قبر رسول الله عليه السلام حزمة من قصب، ورأى رسول الله عليه السلام فرجة من قبر فأخذ مدرة وناوله الحفار وقال: «سد بها تلك الفرجة، فإن الله تعالى يحب من كل صانع أن يحكم صنعته»، والمدرة قطعة من اللبن فدل أنه لا بأس باستعمال اللبن.
وحكي عن الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله أنه قال: هذا في قصب لم يعمل فأما القصب المعمول وبالفارسية بورياء بافته أزنى فقد اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يكره؛ لأنه قصب كله، وقال بعضهم: يكره لأنه لم ترد السنّة بالمعمول.
وأما الحصير المتخذ من البردي فإلقاؤه في القبر مكروه؛ لأنه لم ترد السنّة به.
وكثير من الصحابة أوصوا بأن يرمسوا في التراب رمسًا من غير شق ولا لحد، وقالوا: ليس جنبنا الأيسر بأولى من الأيمن في التراب، وكانوا يرمسون في التراب رمسًا ويهال عليهم التراب إلا أن الوجه يوقى من التراب بلبنتين أو ثلاث، وكراهة الآجر مذهبنا وقال الشافعي: لا بأس به لما روي أن دانيال النبي عليه السلام وجد في تابوت من صخرة.
ولنا: ما روي عن رسول الله عليه السلام أنه نهى عن تجصيص القبور وتقصيصها، والتجصيص هو العمل بالجص، والتقصيص هو العمل بالآجر؛ لأن القص هو الآجر، وعن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: كانوا يستحبون اللبن والقصب ويكرهون الآجر، وقوله: كانوا كناية عن الصحابة والتابعين، ولأن الآجر إنما يستعمل في الأبنية للزينة والإحكام، والقبر موضع البلى.
بعض مشايخنا قالوا: إنما يكره الآجر إذا أريد به الزينة أما إذا أريد به دفع أذى السباع أو شيء آخر لا يكره.
قال مشايخ بخارى: لا يكره الآجر في بلدتنا لمساس الحاجة إليه لضعف الأراضي، حتى قال بعضهم: بأن في هذه البلدة لو جعل تابوتًا من حديد لا يكره لكن ينبغي أن يضع مما يلي الميت اللبن.
وكذلك التابوت من الخشب. كره بعضهم على ظاهر الرواية وقال: بأن هذا في معنى الآجر؛ لأن كل واحد منها لإحكام النازل، ولا حاجة إلى الإحكام. وبعضهم فرق بينهما وقال: كراهة الآجر من حيث إنه مسته النار فلا انتقال به، وهذ المعنى معدوم في حق الخشب، ولكن هذا الفرق ليس بصحيح، ومساس النار في الآجر لا يصلح علة للكراهة، فإن السنّة أن يغسل الميت بالماء الحار، وقد مسته النار.
قال: ويسنم القبر مرتفعًا من الأرض مقدار شبر أو أكثر قليلًا ولا يزاد عليه من تراب غير القبر، ولا يربع. وقال الشافعي: يربع ويسطح ولا يسنم، والمسنم هو السفط الذي هو على رسمنا، واحتج بما روى المزني بإسناده له لما توفي إبراهيم بن رسول الله عليه السلام جعل رسول الله عليه السلام قبره مسطحًا؛ ولأنه مسكن مشروع بعد الوفاة فيعتبر بالمسكن حال الحياة، المسكن حال الحياة يكون مسطحًا مربعًا فكذا المسكن بعد الوفاة.
وعلمائنا احتجوا بحديث سعيد بن جبير وعروة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن جبريل عليه السلام صلى بالملائكة عليهم السلام على آدم عليه السلام وسنم قبره.
وعن إبراهيم النخعي رضي الله عنه أنه قال: أخبرني من رأى قبر النبي عليه السلام وقبر أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما قبل أن يدار الحائط ناشزة مرتفعة مسنمة، وروي أنه لما مات عبد الله بن عباس رضي الله عنهما بالطائف صلى عليه محمد بن الحنفية، وكبر عليه أربعًا، وجعل له لحدًا، وأدخله القبر من قبل القبلة، وجعل قبره مسنمًا، وضرب عليه فسطاطًا. ولأن تربيع القبر تشبه بصنيع أهل الكتاب، والتشبيه بصنيعهم فيما لنا مستند مكروه؛ ولأن التربيع في الأبنية للإحكام، ونختار في القبور ما هو أبعد عن الإحكام. وتأويل حديث إبراهيم بن رسول الله سطح قبره أولًا ثم سنم.
وإن خيف ذهاب أثره فلا بأس برش الماء عليه بلا خلاف، وإنما الخلاف فيما إذا لم يخف ذهاب أثره، ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يكره، وعن أبي يوسف أنه يكره. وإن خيف مع ذلك، فلا بأس بحجر توضع أو آجر، فالظاهر لا يكره على الظاهر، وقد وضع رسول الله عليه السلام على قبر أبي دجانة حجرًا وقال: هذا لأعرف به قبر أخي.
وفي (كتاب الآثار) عن محمد: لا أرى أن يزاد في تراب القبر على ما خرج، ولا أرى برش الماء عليه بأسًا، ولا يجصص ولا يطين، روي عن أبي حنيفة رحمه الله، وهكذا ذكر الكرخي في (مختصره).
وفي (طهارات النوازل): أنه لا بأس به، وعن أبي يوسف أنه كره أن يكتب عليه كتابًا وكره أبو حنيفة رحمه الله البناء في القبر وأن يعلم بعلامة. قالوا: وأراد بالبناء السقط الذي يجعل على القبور في ديارنا، وقد روي عن أبي حنيفة رحمه الله في رواية أخرى النهي عن السقط. ويكره أن يوضأ على القبر يعني بالرجل أو يقعد عليه أو يقضي عليه حاجة، ويكره أن يصلي عنده، وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا ينبغي أن يصلي على ميت بين القبور، وإن صلوا أجزأهم.
قال القدوري: وذوي الرحم المحرم أحق بإدخال المرأة القبر من غيره، وفي (نوادر إبراهيم) عن محمد رحمهما الله: الأخوال أحق بدخول القبر من بني الأعمام يريد به دخول قبر المرأة، وبنو الأعمام أحق من الزوج ومن أخ الرضاعة.
ولا يدفن الرجلان أو أكثر في قبر واحد، وعند الضرورة لا بأس به، ويقدم في اللحد أفضلهما، وجعل بينهما حاجز من الصعيد، فقد صح أن رسول الله عليه السلام أمر في شهداء أحد بأن يدفن الاثنين والثلاثة منهم في قبر واحد، وكانت الحالة حالة الضرورة.
فالأنصار يومئذٍ أصابهم قروح وجهد شديد فشكوا إلى رسول الله عليه السلام، وقالوا: الحفر علينا لكل إنسان شديد، فقال عليه السلام: «أعمقوا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة، فقالوا: من نقدم، فقال عليه السلام: قدموا أكثرهم قرآنًا».
وإن احتاجوا إلى دفن المرأة والرجل في قبر واحد قدم الرجل في اللحد، وفي الجنازة تقدم المرأة على الرجل ليكون الرجل إلى الرجل أقرب، والمرأة عنه أبعد. ثم في قوله عليه السلام: «أعمقوا» دليل على أن السنّة في القبر أن يعمق؛ لأن هذا أمر بالتعميق.
والمعنى: أن فيه صيانة الميت عن الضياع. وفي بعض (النوادر) عن محمد رحمه الله أنه قال: ينبغي أن يكون مقدار العمق إلى صدر رجل وسط القامة، قال: وكل ما ازداد فهو أفضل. وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: يعمق القبر صدر رجل، وإن عمقوا مقدار قامة الرجل فهو أحسن. والله أعلم، وبه ختم.

.نوع آخر في الكافر يموت وله ولي مسلم:

قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): كافر مات وله ولي مسلم قال: يغسله ويتبعه ويدفنه.
وقال في (الأصل): كافر مات وله ابن مسلم فما ذكر في (الأصل) خاص، وما ذكر في (الجامع الصغير): عام فإن اسم الولي يتناول كل قريب، وهذا؛ لأن الغسل سنّة الموتى من بني آدم على سبيل العموم على ما مر لكن الغسل في حق المسلم يكون تطهيرًا، وفي حق الكافر لا يكون تطهيرًا. والولد المسلم مندوب إلى بر والده، وإن كان مشركًا قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَنَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت: 8] والمراد به الوالد المشرك بدليل قوله تعالى: {وَإِن جَهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَىَّ ثُمَّ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] الآية، ومن الإحسان والبر في حقه القيام بغسله ودفنه بعد موته، ولما مات أبو طالب قال عليه السلام لعلي: اذهب واغسله وكفنه، وواره ولا تحدث به حدثًا حتى تلقاني أي لا تصل عليه.
وفي (السير الكبير): سأل رجل ابن عباس رضي الله عنهما: أن أمي ماتت نصرانية فقال: اتبع جنازتها واغسلها وكفنها، ولا تصلي عليها وادفنها، وإن الحارث بن أبي ربيعة ماتت نصرانية فتتبع جنازتها في نفر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. وقد صح أن رسول الله عليه السلام خرج في جنازة عمه أبو طالب، وكان يمشي ناحية منها.
والحاصل: أنه إذا كان خلف جنازة الكافرين من قومه من يتبع الجنازة لا ينبغي لقريبه المسلم أن يتبع الجنازة حتى لا يكون مستكثرًا سواد الكفرة، ولكن يمشي ناحية منها. وإن لم يكن خلف الجنازة من قومه الكافرين يتبعها، فلا بأس للمسلم أن يتبعها، وهذا التفصيل منقول عن محمد رحمه الله.
ولا يغسل الكافر كما يغسل المسلم يريد به أنه لا يراعى في حقه سنّة الغسل من البدائة بالميامن وغير ذلك، ولكن يصب الماء عليه على الوجه الذي تغسل النجاسات، وكذلك لا يراعى في حقه سنّة الكفن، ولكن يلف في ثوب، وكذلك لا يراعى في حقه، شبه اللحد في حقه ولكن تحفر له حفيرة، ولا يوضع فيه بل يلقى، وهذا؛ لأن مراعاة السنّة في هذه الأشياء بحق المسلم.
وكذلك كل ذي رحم محرم منه مثل الأخ والأخت والعم والعمة والخال والخالة، وكل قرابة؛ لأنه من باب التكريم، وصلة الرحم وهو من محامد الدين. وإنما يقوم المسلم بغسل قريبه الكافر وتكفينه ودفنه إذا لم يكن هناك من يقوم به من المشركين، فإن كان هناك أحد من قرابته على ملته، فإن المسلم لا يتولى بنفسه بل يفوض إلى أقربائه المشركين ليصنعوا به ما يصنعون بموتاهم.
ولم يبين في (الكتاب): أن الابن المسلم إذا مات، وله أب كافر هل يمكن أبوه الكافر من القيام بغسله وتجهيزه وينبغي أن لا يمكن من ذلك، بل فعله المسلمون.
ألا ترى أن اليهودي لما آمن برسول الله عليه السلام عند موته قال عليه السلام لأصحابه: «لوا أخاكم» ولم يخل بينه وبين والده اليهودي. قال: ويكره أن يدخل الكافر في قبر قرابته من المسلمين ليدفنه؛ لأن الموضع الذي فيه الكافر تنزل فيه اللعن والسخط، والمسلم يحتاج إلى نزول الرحمة في كل ساعة فينزه قبره من ذلك. وهذا الفصل يصير رواية في الفصل الأول. وبه ختم.

.نوع آخر من هذا الفصل في الخطأ الذي يقع في هذا الباب:

إذا دفن قبل الصلاة عليه صلي عليه في القبر ما لم يعلم أنه تفرق أجزاؤه، لا يخرج عن القبر. أما لا يخرج عن القبر؛ لأنه قد سلم إلى الله تعالى، وخرج عن أيدي الناس، جاء في الحديث عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «القبر أول منزل من منازل الآخرة» وأما الصلاة عليه في القبر فلا يرد رسول الله عليه السلام فعلًا، ولكن إنما يصلي عليه ما لم يعلم أنه تفرق أجزاؤه؛ لأن المشروع الصلاة على الميت لا على أجزائه المتفرقة قالوا: وما ذكر أنه لا يخرج من القبر، فذلك فيما إذا وضع اللبن على اللحد أو وضع ولكن لم يهل التراب عليه يخرج ويصلى عليه؛ لأن التسليم لم يتم بعد.
قال الحاكم الشهيد في (الأمالي): عن أبي يوسف رحمه الله: أنه يصلى على الميت في القبر إلى ثلاثة أيام، والصحيح: أن هذا ليس بتقدير لازم؛ لأنه يختلف تفرق الأجزاء لاختلاف الأوقات في الحر والبرد وباختلاف الأمكنة، وباختلاف حال الميت في السن والهزال. فأما المعتبر فيه أكثر الرأي، إن كان في أكبر رأيهم أنه تفرق أجزاء هذ الميت المعين قبل ثلاثة أيام لا يصلون عليه إلى ثلاثة، وإن كان في أكبر رأيهم أنه لم تتفرق أجزاؤه بعد ثلاثة أيام يصلون عليه بعد ثلاثة أيام.
فإن قيل: كيف يصلى عليه في القبر وإنه غائب عن أعين الناس بالتراب؟
قلنا: نعم، ولكن هذا لا يمنع جواز الصلاة، ألا ترى أن قبل الدفن كان غائبًا بالكفن ولم يمنع ذلك جواز الصلاة.
وإذا صلي على الميت قبل الغسل، فإنه يغسل ثم تعاد الصلاة عليه بعد الغسل، وكذلك لو غسلوه وبقي عضو من أعضائه أو...، وإن كان قد لف في كفنه وقد بقي عضو لم يصبه الماء يخرج من الكفن فيغسل ذلك العضو، وإن كان الباقي شيء يسير كالأصبع ونحوه، فكذلك الجواب عند محمد رحمه الله؛ لأن الأصبع في حكم العضو بدليل اغتسال الحي. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يخرج من الكفن؛ لأنه لا يتيقن بعدم وصول الماء إليه، فلعل وصل إليه الماء لكن أسرع إليه الجفاف لقلته، ذكر الخلاف على هذا الوجه في (نوادر أبي سليمان).
وإن دفنوه ثم تذكروا أنهم لم يغسلوه، فإن لم يهل التراب عليه يخرج ويغسل ويصلى عليه، وإن أهالوا التراب عليه لم يخرج، وهل يصلى عليه ثانيًا في القبر؟ ذكر الكرخي رحمه الله في (مختصره): يصلى عليه، وفي (النوادر) عن محمد: القياس أن لا يصلى عليه؛ لأن طهارة الميت شرط جواز الصلاة عليه ولم توجد.
وفي الاستحسان يصلى عليه؛ لأن تلك الصلاة لم يعتد بها لترك الطهارة مع الإمكان، والآن زال الإمكان، وسقط فرضية الغسل، فيصلى عليه في قبره. أو نقول: صلاة الجنازة صلاة من وجه ودعاء من وجه، ولو كانت صلاة من وجه لا تجوز بدون طهارة أصلًا، ولو كانت دعاء من وجه تجوز بدون الطهارة، فإذا كانت بينهما.
قلنا: أنه تشترط الطهارة حالة القدرة، ولا تشترط حالة العجز.
وإن سقط شيء من متاع القوم في القبر، فلا بأس بأن يحفروا التراب في ذلك الموضع، ويخرج المتاع من غير أن ينبشوا الميت، وإن لم يمكنهم ذلك إلا بحفر الكل، ونبش الميت فعلوا ذلك كذا ذكر في (الأصل)؛ لأن في إبقاء المتاع في البيت القبر إضاعة المال، ونهى رسول الله عليه السلام عن إضاعة المال.
وإذا وضع الميت في اللحد لغير القبلة أو على يساره قد عرف ذلك، فإن كان بعد إهالة التراب لا ينبش عنه قبره وإن كان قبل إهالة التراب وقد شرحوا اللبن نزع اللبن ويوضع كما ينبغي.
وإذا صلوا على جنازة والإمام على غير طهارة فعليهم إعادة الصلاة؛ لأن صلاة الإمام لم تجز لعدم الطهارة، فلا تجوز صلاة القوم لأن صلاتهم بناءً على صلاة الإمام، وإذا لم تجز صلاتهم، فهذا ميت لم يصل عليه، فيعيدوا الصلاة. وإن كان الإمام طاهرًا، والقوم على غير طهارة لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن عدم طهارة القوم لا يوجب فساد صلاة الإمام، وإذا جازت صلاة الإمام، فقد سقط الفرض بصلاة الإمام وحده، فلا يكون للباقين حق الإعادة؛ لأنه يكون تنفلًا بصلاة الجنازة، والتنفل بصلاة الجنازة غير مشروع.
وإذا ظهر أن الموضع الذي دفن فيه الميت مغصوب، أو أخذ بالشفعة، فإنه يخرج الميت عنه، ويدفن في موضع آخر.
وفي كراهية (فتاوى أهل سمرقند): حامل أتى على حملها تسعة أشهر فماتت وقد كان الولد يتحرك في بطنها، فلم يشق بطنها، ودفنت، ثم رؤيت في المنام أنها تقول: ولدت لا ينبش القبر؛ لأن الظاهر أنها لو ولدت كان الولد ميتًا. والله أعلم.

.نوع آخر من هذا الفصل في المتفرقات:

بيان صفوف النساء في صلاة الجنازة: ويصف النساء في خلف الرجال في الصلاة على الجنازة لقوله عليه السلام: «خير صفوف النساء آخرها وشرها أولها»؛ ولأنها صلاة تؤدى بجماعة، فتعتبر بالصلاة المعهودة، وفي الصلاة المعهودة تقوم النساء خلف الرجال، فكذا في صلاة الجنازة.
فإن وقعت امرأة بجنب رجل فيها لم تفسد عليه صلاته.
وفرق بين هذا وبين الصلاة المعهودة فإنها إذا قامت بحذاء الرجل في الصلاة المعهودة، وقد نوى الإمام إمامتها، فإنه تفسد صلاة الرجل، وفي صلاة الجنازة لم تفسد صلاة الرجل.
والفرق: وهو أن في الصلاة المعهودة القياس أن لا تفسد صلاة الرجل بمحاذاة المرأة كما قال الشافعي رحمه الله إلا أنا تركنا القياس بالنص، والنص ورد في صلاة مطلقة، وهذه ليست بصلاة مطلقة، ولهذا لا قراءة فيها، ولا ركوع ولا سجود بخلاف الصلاة المعهودة.
والذي يعتمد عليه ما أشار شمس الأئمة في (شرحه): وهو أن العلماء اختلفوا في محاذاتها في المكتوبات هل هي مفسدة أم لا؟ منهم من رأى ومنهم من أبى، فاختلافهم في الصلاة اتفاق منهم في جواز الصلاة المقيدة، وهذا أصل محمد، وفي الشرع عليه مسائل كثيرة من ذلك.
قال أبو حنيفة رحمه الله: في المس الفاحش ناقض للوضوء، ولأن العلماء اختلفوا في المس القليل أنه هل ينقض؟ منهم من رأى ومنهم من أبى فكان اختلافهم في المس القليل اتفاق منهم في المس الفاحش أنه ناقض للوضوء. ومن ذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: المكاتب إذا ملك أخاه لا يصير مكاتبًا، لأن العلماء اختلفوا في الحر إذا ملك أخاه هل يصير حرًا أم لا؟ منهم من رأى ومنهم من أبى، فاختلافهم في الحر اتفاق منهم في المكاتب أنه لا يصير مكاتبًا.
قال شمس الأئمة رحمه الله، وهذه المسألة تصير رواية لمسألة أخرى لا ذكر لها في (المبسوط)، وهو أنه يصح اقتداء المرأة بالإمام في صلاة الجنازة من غير أن ينوي الإمام إمامتها بخلاف الصلاة المعهودة؛ لأن في الصلاة المعهودة إنما جعل نية إمامتها شرطًا؛ لأن محاذاتها تفسد الصلاة فيتحرز بترك النية عن محاذاتها. أما هنا... من الفساد من قبل المحاذاة فلم تجعل النية شرطًا، إلا أن النساء يمنعن من شهود الجنائز. لأنه روي عن النبي عليه السلام أنه رأى نساء في جنازة فقال: «ارجعن مأزورات غير مأجورات».
ليس على من قهقه في صلاة الجنازة وضوء، وكذلك سجدة التلاوة، وهذا بناءً على الأصل الذي بينا: أن العلماء اختلفوا في انتقاض الطهارة بالقهقهة في الصلاة المكتوبة المعهودة، منهم من رأى ومنهم من أبى. فاختلافهم في الصلاة المطلقة اتفاق منهم في الصلاة المقيدة أنها لا تنقض الوضوء، ولكنها تفسد الصلاة؛ لأن القهقهة تشبه الكلام لأنه صوت خارج من مخرج الكلام، فكان شبه الكلام. الكلام على الحقيقة يشبه الصلاة، فكذا ما هو شبه الكلام. وإن صلاها قعودًا أو ركوبًا أمرهم بالإعادة استحسانًا، وفي القياس تجزئهم.
وجه القياس: وهو أن صلاة الجنازة دعاء من وجه والقيام والقعود في الدعاء سواء، تقاس هذه بالاستسقاء، فالقيام والقعود في الاستسقاء سواء، وإن كانت السنّة هو القيام وكذلك السنّة في الخطبة القيام، ثم لو خطب قاعدًا جاز فكذا هنا.
ووجه الاستحسان: وهو أن صلاة الجنازة واجبة، فلا تتأدى على الدابة، وقاعدًا مع القدرة على القيام قياسًا على الوتر، وكان القياس في سجدة التلاوة أن لا تتأدى راكبًا؛ لأنها واجبة إلا أنه جوز كيلا ينقطع السفر؛ لأن قراءة القرآن مما يكثر في السفر، فالنزول لسجدة التلاوة يؤدي إلى قطع السفر، فتتأدى على الدابة.
أما الصلاة على الجنازة لا تكثر في السفر بل توجد في الأحايين، فالنزول لها لا يؤدي إلى قطع السفر، فلا تتأدى على الدابة. وإن كان ولي الميت مريضًا، فصلى قاعدًا وصلى الناس خلفه قيامًا أجزأهم في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله، وقال محمد رحمه الله: تجزئ الإمام، ولا تجزئ المأموم لما عرف من أصله أن اقتداء القائم بالقاعد لا يجوز، وعندهما يجوز وقد مر الكلام فيه.
وإذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، إن أمكن تمييز المسلمين بالعلامة يميزون، وإن لم يمكن التمييز، وكانت الغلبة للمسلمين غسلوا ويصلى عليهم إلا من عرف بعينه أنه كافر. وهذا لأن العبرة للغالب والمغلوب ساقط الاعتبار بمقابلته.
ألا ترى أنه لو وجد ميت في دار الإسلام يصلى عليه، وإن احتمل أن يكون كافرًا؛ لأن الغلبة في دار الإسلام للمسلمين.
ولو وجد ميت في دار الحرب لا يصلى عليه، وإن احتمل أن يكون مسلمًا؛ لأن الغلبة في دار الحرب للكفار. فإذا كانت الغلبة للمسلمين جعل من حيث الحكم كأن الكل مسلمون فيصلى عليهم، لكن ينوون بالدعاء المسلمين؛ لأنه لو أمكن التمييز حقيقة يجب التمييز حقيقة، فإذا تعذر التمييز حقيقة وأمكن التمييز بالنية، وإن كان الأكثر كفارًا لم يغسلوا، ولم يصل عليهم لما ذكرنا أن العبرة للغالب.
فإن قيل: إنما تعتبر الغلبة وعدم الغلبة حالة الاختيار لا حالة الاضطرار، والحالة هاهنا حالة الاضطرار، فإن الصلاة على الميت فرض.
قلنا: كما أن الصلاة على الميت فرض، وترك الصلاة على الكافرين فرض، فإذا تعارض الدليلان اعتبرنا الغالب، وإن استويا لم يصل عليهم عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله: يصلى عليهم ترجيحًا للمسلمين على الكافرين، وإنا نقول: استوى جانب الصلاة وجانب الترك فترجح جانب الترك؛ لأن الصلاة على الكافر لا تجوز بحال، وترك الصلاة على المسلم جائز في الجملة، فإنه لا يصلى على الباغي عندنا، وعلى الشهيد عندك، فكان الميل ما يباح الحال أولى. بخلاف ما إذا كانت الغلبة للمسلمين، لأنه لما ترجح بحكم الكثرة فكأنه ليس فيهم كفار.
ولم يبين في (الكتاب): في فصل الاستواء في أي موضع يدفنون، وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يدفنون في مقابر المشركين، وبعضهم قالوا: يتخذ لهم مقبرة على حدة، وهو قول الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمة الله عليه.
وهذا بناءً على اختلاف الصحابة في نصرانية تحت مسلم حبلت من المسلم، ثم ماتت اختلف الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في دفنها، فرجح بعضهم جانب الولد وقال: تدفن في مقابر المسلمين، ورجح بعضهم جانبها وقال: تدفن في مقابر المشركين، لأن الولد في حق هذا الحكم جزء منها ما دام في بطنها، وقال عقبة بن عامر: يتخذ لها مقبرة على حدة، فكذلك هنا يتخذ لهم مقبرة على حدة، لتكون بين مقبرة المسلمين وبين مقبرة الكفار.
ولما أمكن اعتبار حالهم بين الحالتين وجب اعتباره بخلاف الصلاة؛ لأنه واسطة بين فعل الصلاة وبين تركها، فإذا تعذر فعل الصلاة وجب الترك.
وإذا لم يجدوا ماء يغسل الميت فيمموه وصلوا عليه، ثم وجدوا ماء يغسل ويصلى عليه ثانيًا في قول أبي يوسف، وعنه في رواية يغسل ولا تعاد الصلاة عليه بمنزلة جنب تيمم وصلى، ثم وجد ماء بعد ذلك. وإذا أخطؤوا بالرأس وقت الصلاة فجعلوه في موضع الرجلين وصلي عليه جازت الصلاة؛ لأنه وجد شرائط الجواز، وهو كون الميت أمام الإمام، إنما تركوا سنّة من سننها، وترك السنّة لا يوجب فساد الصلاة. فإن فعلوا ذلك عمدًا جازت الصلاة؛ لأن مثل هذا لو وقع في المكتوبة جاز ففي صلاة الجنازة أجوز.
قال شمس الأئمة، والحاكم الشهيد ذكر في (إشاراته) حرفًا فقال: إذا كان عندهم أنهم يصلون عليها إلى القبلة يعني يصلون بالتحري، ولكن جهلوا عن النية، فلما فرغوا ظهر أنهم صلوا عليها إلى غير القبلة أجزأتهم صلاتهم، وفي الصلاة المكتوبة لا تجزئهم صلاتهم إذا فعلوا مثل هذا.
وفرق بينهما فقال: في عدم صلاة الجنازة الأمر فيها واسع، فإنها لم تتمحض صلاة على ما ذكرنا أنها دعاء من وجه، فانحطت رتبتها ودرجتها عن رتبة المكتوبة ودرجتها، فأما عند مشايخنا فكلتاهما سواء، والجواب فيهما أنهما تجوزان، فإن تعمدوا ذلك فإنهم يستقبلون الصلاة عليها كما في المكتوبة؛ لأنها في وجوب استقبال القبلة كسائر الصلوات.
قال محمد رحمه الله في (الجامع الصغير): ولا بأس بالإذن في صلاة الجنازة هكذا وقع في بعض النسخ، ووقع في بعض النسخ ولا بأس بالأذان في صلاة الجماعة فإن كان الصحيح لا بأس بالإذن في صلاة الجنازة فمعناه أحد الشيئين إما إذن الولي غيره في الصلاة على الجنازة؛ لأن للولي حق الصلاة لما ذكرنا، فتكون له ولاية تحويل هذا الحق إلى غيره، وإما إذن أولياء الميت للمصلي لينصرفوا قبل الدفن؛ لأنه لا ينبغي لهم أن ينصرفوا قبل الدفن إلا بإذنهم.
لما روي عن رسول الله عليه السلام أنه قال: «أميران وليسا بأميرين» ولي الميت قبل الدفن والمرأة تكون في الركب وفي رواية «صاحب الدابة القطوف». وإن كانت الرواية لا بأس بالأذان في صلاة الجنازة فمعناه لا بأس بالإعلام قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إعلام من الله ورسوله.
والإعلام لا بأس به في صلاة الجنازة فإنه روي عن رسول الله عليه السلام أنه مر بقبر فقال: قبر من هذا فقيل: قبر فلانة ماتت ليلًا فقال: آذنتموني فقال: خشينا عليك هوام الليل فقال عليه السلام: «إذا مات منكم ميت فآذنوني فإن صلاتي عليكم دعاء ورحمة» فدل أنه لا بأس بالإعلام في صلاة الجنازة، ولأن في الإعلام إعانة وحث على الطاعة فلا بأس به لهذا.
وقد حكي عن بعض مشايخ بلخ رحمهم الله: أنه يكره النداء في الأسواق أن فلانًا مات؛ لأنه من أفعال الجاهلية، وبنحوه ذكر الكرخي رحمه الله: عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا ينبغي أن يؤذن بالجنازة إلا أهلها وجيرانها ومسجد حيها، وكثيرًا من مشايخ بخارى رحمهم الله لم يروا به بأسًا إذ ليس المقصود منه الترسم برسم أهل الجاهلية، وإنما المقصود به الإعلام حثًا على الطاعة ألا ترى أن النداء الخاص لا يكره وكذا لا يكره العام أيضًا.
ولا يصلى على ميت إلا مرة واحدة، وقال الشافعي رحمه الله: يجوز لمن لم يصلِ أن يصلي عليه.
حجته: أنه لما قبض رسول الله عليه السلام صلى على قبره الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فوجًا بعد فوج، ولأن الصلاة على الميت شرعت دعاءً واستغفارًا له، والدعاء والاستغفار مشروع مرة بعد مرة.
وعلماؤنا رحمهم الله: احتجوا بما روي أن رسول الله عليه السلام صلى على جنازة فلما فرغ جاء عمر رضي الله عنه، ومعه قوم، فأراد أن يصلي عليها فقال عليه السلام: «الصلاة على الجنازة لا تعاد، ولكن ادع للميت واستغفر له»، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنه لما مات أخوه عاصم قال لابن عاصم: أرني قبر أبيك فأراه، فقام عليه ودعا ولم يصل عليه.
والمعنى: أن صلاة الفريق الأول وقعت فرضًا أن صلاة الجنازة شرعت قضاء لحق الميت صار مقامًا بالفريق الأول، فسقط الفرض بصلاة الفريق الثاني فيكون نفلًا، والتنفل بصلاة الجنازة غير مشروع، ولو جاز ذلك لكان الأولى أن يصلي على قبر رسول الله عليه السلام من رزق زيارته الآن؛ لأنه في قبره كما وضع؛ لأن لحوم الأنبياء حرام على الأرض، به ورد الأثر عن رسول الله عليه السلام، ولم يستقبل أحد بهذا، فعلم أنه لا تعاد الصلاة على الميت.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): إلا أن يكون الذي صلى أول مرة غير الولي حينئذٍ يكون للولي حق الإعادة؛ لأن حق التقدم للولي، وليس لغيره؛ ولأنه إسقاط حقه، وهو تأويل فعل الصحابة، فإن أبا بكر رضي الله عنه كان مشغولًا بتسوية الأمور وتسكين الفتنة، وكانوا يصلون عليه قبل حضوره، وكان الحق لأبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه كان هو الخليفة. فلما فرغ صلى عليه، ثم بعده لم يصلِ عليه أحد.
وأما حديث النبي عليه السلام: كان هو الولي لمن مات بالمدينة، وغير الولي متى صلى على الميت كان للولي حق الإعادة.
وتكره صلاة الجنازة عند طلوع الشمس واستوائها وغروبها لحديث عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه أنه قال: «ثلاث ساعات نهانا رسول الله عليه السلام أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا» وذكر هذه الساعات، والمراد من ذلك صلاة الجنازة؛ لأن الدفن في هذه الأوقات غير مكروه وإن صلوها لم يكن عليهم إعادتها؛ لأن حق الميت يتأدى بما أدوا، فإن المؤدى في هذه الأوقات صلاة، وإن كان بها نقصان إلا أن السبب أوجبها كذلك؛ لأن سبب صلاة الجنازة حضور الجنازة.
ألا ترى أن الصلاة تضاف إلى الجنازة يقال: صلاة الجنازة، والحكم أبدًا يضاف إلى السبب وكذلك تتكرر الصلاة بتكرر الجنازة وهذا يدل على كون الجنازة سببًا فهو معنى قولنا: السبب أوجبها مع النقصان وقد أداها كذلك. فهو نظير ما لو تلا آية السجدة في هذه الأوقات وسجد فيها جاز، وطريقه ما قلنا، ولأنهم لو أعادوها لازدادت الكراهة.
ونظير هذا ما لو سجد للسهو قبل السلام نهي عنه، ولو سجد مع ذلك جاز، لأنه لو لم يجز صارت سجدات أربعًا فازدادت الكراهة. وهذا الرجل ما خالف الكل فإن من العلماء من يجوز السجدة قبل السلام.
وكذلك هاهنا من العلماء من يجوز الصلاة في الأوقات المكروهة، ولأن صلاة الجنازة تشبه الصلاة المطلقة حيث إنه يشترط فيها الطهارة عن الحدث، والطهارة عن النجاسة، وستر العورة، واستقبال القبلة والتحريم بالتكبير، والتحلل بالسلام، وتشبه الدعاء من حيث سقوط القراءة والركوع والسجود، فمن حيث إنها تشبه الصلاة نهي، ومن حيث إنها تشبه الدعاء إذا أداها جاز، وهو قياس سجدة التلاوة إذا تلاها في هذه الأوقات، وأراد أن يسجد لها ينهى عن ذلك، ولو سجد جاز وسقط عنه، كذلك هنا.
ولا تكره بعد طلوع الفجر، وبعد العصر لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتي بجنازة بعد العصر فقال: أسرعوا قبل أن تغرب الشمس، ولأن الصلاة على الجنازة فريضة، وإنما يكره في هذين الوقتين التطوع.
ولو حضرت الجنازة بعد غروب الشمس يبدؤون بالمغرب ثم بالجنازة لما روي عن أبي برزة الأسلمي أنه أتي بجنازة بعدما غربت الشمس ووضعت على مقبرة بالبصرة، فأمر المؤذن فأذن، وصلى المغرب ثم صلى على الجنازة، ولأن صلاة المغرب فرض عين، وصلاة الجنازة فرض كفاية، فتكون المغرب آكد، والبداية بآكد الفرضين أولى؛ ولأن تأخير المغرب مكروه، وتأخير صلاة الجنازة لا بأس به.
وروى الحسن بن زياد رحمه الله في (المجرد): أنه يبدأ بأيهما شاء؛ لأن مبنى صلاة الجنازة على المسارعة، قال عليه السلام: «ثلاث لا يؤخرن» وذكر من جملتها الصلاة على الجنازة، ومبنى المغرب أيضًا على المسارعة فاستويا فيبدأ بأيهما شاء.
وإن أوجد شيئًا من أطراف ميت كيد أو رجل أو رأس لم يغسل ولم يصلِ عليه، ولكنه يدفن.
وقال الشافعي: يغسل ويصلى عليه قل ذاك الجزء أو كثر بناءً على مذهبه أن تكرار الصلاة على ميت واحد يجوز، وعندنا لا يجوز. وهذا في الميت عند الشافعي، أما في الشهيد عنده لا يصلى على كل البدن فكيف يصلى على جزء منه. وأجمعوا أنه لو وجد أكثر البدن يغسل ويصلى عليه.
وذكر الحسن بن زياد في صلاته عن أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا وجد أكثر البدن غسل وكفن وصلي عليه ودفن. وإن كان نصف البدن، ومعه الرأس غسل وصلي عليه ودفن، وإن كان مشقوقًا نصفين طولًا، فوجد منه أحد النصفين لم يغسل، ولم يصلِ عليه، ولكنه يدفن لحرمته، وإن كان نصف البدن بلا رأس غسل، ولم يصلِ عليه. وإن كان أقل من نصف البدن ومعه الرأس غسل وكفن ودفن ولا يصلى عليه.
احتج الشافعي رحمه الله بما روي أن طائرًا ألقى يد آدمي بمكة في وقعة الجمل، فغسلها أهل مكة وصلوا عليها، قيل: إنها يد طلحة بن عبيد الله، أو يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلى على عظام بالشام، وعن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه صلى على رؤوس، ولأن هذا نقص من جملة الآدمي لا يزال عنه في حالة السلامة، فيجب الصلاة عليه قياسًا على ما لو كان الموجود في أكثر من نصف البدن، أو نصف البدن ومعه الرأس، وهذا لأن الصلاة على المسلم شرعت لحرمة المسلم وحرمة القليل كحرمة الكثير بدليل أنه لا يحل إتلاف القليل كما لا يحل إتلاف الكثير.
وأصحابنا رحمهم الله: احتجوا بما روي عن ابن عباس، وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: «لا يصلى على عضو» والمعنى: وهو أن هذا العضو لو انفصل عن الآدمي حالة الحياة لا يصلى عليه، فكذا لو انفصل عنه بعد موته وجب أن لا يصلى عليه قياسًا على الشعر والظفر؛ وهذا لأن صلاة الجنازة ما عرفت قربة بدون الميت، والميت اسم لجميع البدن، ولم يوجد جميع البدن، ولا أكثر البدن، إنما وجد منه البعض، والمعدوم أكثر من الموجود، فيرجح العدم على الموجود، فكأنه لم يوجد شيء من البدن، وبدون بدن الميت لا تقام صلاة الجنازة بخلاف إذا وجد الأكثر؛ لأن جانب الموجود يرجح على العدم، فسقط اعتبار العدم.
فأما حديث أهل مكة، قلنا: التعلق به لا يصح؛ لأنه ليس في الحديث أن الغاسل لليد والمصلي عليها من هو، فما لم يعرف الغاسل لا يكون الحديث حجة، وأما حديث عمر رضي الله عنه المراد منه الدعاء لإجماعنا أنه لا يصلى على العظام، وكذا حديث أبي عبيدة محمول على الدعاء صلى يعني: دعا.
ثم الطرف يدفن لأن الدفن إماطة الأذى، وقد ورد الأثر به فإنه روي عن النبي عليه السلام أنه قال: «الإسلام بضعة وسبعون بابًا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».
قال شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: إذا كان القوم في المصلى فجيء بالجنازة هل يقومون لها إذا رأوها قبل أن توضع؟ فيه كلام، من الناس من يقول: يقومون لما روي عن النبي عليه السلام أنه كان جالسًا فمرت عليه جنازة فقام فزعًا فقيل له: إنه جنازة يهودي فقال: «ما قمت لها وإنما قمت فزعًا من الموت»، ومنهم من قال: لا يقومون وهو الصحيح. والصلاة على الجنازة في الجبانة والأمكنة والدور سواء لما روي عن النبي عليه السلام أنه صلى على بعض في الموتى في الأمكنة وصلى على البعض في الجبانة. وإن النبي عليه السلام لما قبض صلى عليه في حجرة عائشة رضي الله عنها كان الناس يدخلون فوجًا فوجًا، فيصلون عليه وينصرفون.
وإنما تكره الصلاة على الجنازة في الجامع ومسجد الحي عندنا.
وقال الشافعي: لا تكره، وعن أبي يوسف رحمه الله روايتان: في رواية كما قال الشافعي، وفي رواية قال: إذا كانت الجنازة خارج المسجد الإمام والقوم في المسجد فإنه لا تكره وستأتي المسألة في باب الكراهية، وسيأتي لا يجهرون في صلاة الجنازة بشيء من الحمد والثناء وصلوات الرسول عليه السلام لأن هذا ذكر كله، والإخفاء في الذكر أولى كما في أذكار الصلوات.
ومشايخ بلخ يقولون: السنّة أن يسمع الصف الثاني ذكر الصف الأول، والصف الثالث ذكر الصف الثاني، والرابع ذكر الصف الثالث، وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا يجهرون كل الجهر، ولا يسرون كل السر، وينبغي أن يكون بين ذلك.
ويتيمم لصلاة الجنازة إذا خاف فوتها في المصر، وإن لم يخف الفوت توضأ، وكذلك إن كان افتتح الصلاة، ثم أحدث تيمم وبنى، وقد مر هذا في باب التيمم.
رجل تيمم وصلى على جنازة ثم أتي بجنازة أخرى إن وجد من الوقت مقدار ما يتوضأ به، والماء منه قريب بطل ذلك التيمم، وعليه إعادة التيمم للصلاة على الجنازة الثانية بالإجماع؛ لأنه يمكنه استعمال الماء بعد التيمم الأول، فبطل التيمم، وإن لم يجد من الوقت مقدار ما يتوضأ به، فله أن يصلي بالتيمم الأول على الجنازة الثانية، عند أبي يوسف رحمه الله، وعند محمد رحمه الله ليس له ذلك ويعيد التيمم للجنازة الثانية، هكذا أورده الإمام السرخسي رحمه الله في (شرح الصلاة)، وأورد الفقيه أبو الليث رحمه الله هذه المسألة في (مختلفاته)، وذكر قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف رحمهما الله.
حجة محمد رحمه الله: وهو أن التيمم إنما يجوز لضرورة، وقد ارتفعت الضرورة عند الفراغ من الأولى، فعليه تجديد التيمم للثاني.
حجة أبي يوسف رحمه الله: وهو أن العذر قائم وهو خوف الفوت لو اشتغل بالوضوء، فلهذا جاز له أن يصلي بتيممه الأول.
ويكره أن يجعل على اللحد دفوف خشب يريد به صفائح خشب توضع على اللحد؛ لأن في ذلك إضاعة المال بلا فائدة فإن اللبن يكفي، ولأن ذلك يستعمل للزينة أو لإحكام البناء، والميت غير محتاج إلى ذلك، ولكن مع هذا لو فعل لا بأس به لرخاوة الأراضي في ديارنا.
وفي (وقف النوازل) المرتد لا يدفع إلى من انتحل إليهم كاليهود أو النصارى ليدفنوه في مقابرهم، ولكن تحفر له حفيرة، فيلقى فيها كالكلب.
وفي (واقعات الناطفي): رجل مات في السفينة يغسل ويكفن ويرمى في البحر؛ لأنه الدفن نقل الميت من مكان إلى مكان سيأتي في كتاب الاستحسان والكراهية إن شاء الله تعالى.
وفي (النوازل): لا يدفن الميت في الدار وإن كان صغيرًا؛ لأن الدفن مكان الموت سنّة الأنبياء عليهم السلام لا سنّة غيرهم.
ولا تكسر عظام اليهود والنصارى التي توجد في قبورهم؛ لأن إيذائهم حرمة حتى حرم إيذاؤه في حياته فتكون لعظامه حرمة حتى لا تكسر متى وجدت بعد الموت. ولا يقوم الرجل بالدعاء بعد صلاة الجنازة؛ لأنه قد دعا مرة، لأن أكثر صلاة الجنازة الدعاء. ولا يصلى على صبي وهو على الدابة أو على أيدي الرجال كما في البالغ، وفي رواية (النوادر) يجوز.
وفي (النوازل): صلى رجل على جنازة، والولي خلفه، ولم يرض به أي لم يأمره به، فإن تابعه وصلى معه لا يجوز للولي أن يعيد الصلاة؛ لأنه قد صلى مرة، وإن لم يتابعه فإن كان الذي صلى السلطان، أو الإمام الأعظم، أو القاضي، أو والي البلدة، أو إمام حيه، فليس للولي أن يعيد، وإن كان غيرهم فله الإعادة.
وفيه أيضًا: مات رجل في غير بلده وصلى عليه غير أهله، ثم جاء أهله وحملوه إلى منزله، فإن كان الأول صلى بإذن الإمام يعني السلطان، أو القاضي لا يصلون عليه ثانيًا؛ لأن الصلاة بإذن الإمام كصلاة الإمام بنفسه.
وفي (العيون): إذا أوصى الميت أن يصلي عليه فلان، فالوصية باطلة إلا في رواية ابن رستم، فإنها جائزة في روايته، فيؤمر فلان بأن يصلي عليه.
جنازة تشاجر فيها قوم، فقام رجل ليس بولي وصلى وتابعه بعض القوم في الصلاة عليها فصلاتهم تامة، وإن أحب الأولياء إعادة الصلاة أعادوا. ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة لكن ينوي في التسليمة الأولى من على يمينه وينوي في التسليمة الثانية من على يساره.
عن أبي يوسف رحمه الله إذ كبر يريد التطوع بصلاة الجنازة يجزئه عن التطوع.
وعن أبي يوسف أيضًا في جنب وميت وعندهما من الماء ما يكفي لأحدهما الجنب أولى به يريد به إذا كان الماء مباحًا.
ومن هذا الجنس:
عريان وميت ومعهما من الثوب ما يكفي لأحدهما إن كان الثوب ملكًا لأحدهما صرف إليه، وإن كان ملكًا للميت، والحي وارثه يكفن به الميت، ولا يلبسه الحي؛ لأن الكفن مقدم على الميراث.
ثلاثة نفر في السفر جنب وحائض طهرت من الحيض، وميت، ومعهم من الماء قدر ما يكفي لأحدهم، فإن كان الماء لأحدهم فهو أولى به، وإن الماء لهم لا يصرف إلى واحد منهم؛ لأن للآخرين فيه نصيبًا، وإن كان الماء مباحًا فالجنب أحق به، وتتيمم المرأة وييمم الميت أيضًا، وهذا؛ لأن غسل الجنب فريضة، ويمكنه الإمامة، وغسل الميت ليس بفريضة فييمم الميت، ويصلي الرجل، وتقتدي المرأة به بالتيمم؛ ولأن في كون التيمم مزيلًا للجنابة خلاف. فإن عمر، وابن مسعود كانا لا يريان التيمم للجنب، فكان الصرف إلى الجنابة أولى، وكذا لو كان مكان الحائض محدثًا يصرف إلى الجنب للمعنى الثاني. والله أعلم.
وجد قتيل في دار الحرب مختونًا غير مقصوص شاربه لا يصلى عليه؛ لأن من الكفرة من يختتن، ولو وجد غير مختون، ولكنه مقصوص الشارب يصلى عليه إذ ليس منهم من يقص الشارب هكذا حكى فتوى شمس الأئمة الحلواني رحمه الله، ولم يجعل شمس الأئمة الختان علامة الإسلام، وهكذا كان يقول بعض المشايخ، وقد ذكرنا في (شرح الزيادات) أن الختان والخضاب ولبس السواد من علامات الإسلام.
وإذا وجد قتيل في دار الإسلام، وعليه زنار وفي حجره مصحف لا يصلى عليه؛ لأن المسلم في دار الإسلام لا يعقد الزنار أصلًا، أما الكافر في دار الإسلام قد يقرأ القرآن، فلو كان ذلك في دار الحرب يصلى عليه؛ لأن الكافر في دار الحرب لا يقرأ القرآن أما المسلم قد يعقد الزنار على نفسه في دار الحرب لمصلحة ترى في ذلك.
في (متفرقات شمس الأئمة الحلواني) رحمه الله: من لا يجبر على نفقة الميت حال حياته كأولاد الأعمام، والعمات، والأخوال، والخالات لا يجبر على الكفن بلا خلاف. ثوب الجنازة إذا تخرق ولم يبق صالحًا لما اتخذ له، فليس للولي أن يتصدق به، بل يبيعه ويصرف ثمنه في ثمن ثوب آخر، وينبغي أن يكون غاسل الميت على الطهارة، ويكره أن يكون جنبًا أو حائضًا، ولا بأس بجلوس الحائض والجنب عنده وقت الموت.

.الفصل الثالث والثلاثون في بيان حكم المسبوق واللاحق:

يجب أن يعلم أن المسبوق من لم يدرك أول الصلاة وبعض أحكامه من الإتيان بالثناء والإتيان بالتعوذ، والإتيان بالدعوات المشروعة بعد الفراغ من التشهد. وقيامه إلى قضاء ما سبق به قد مر في فصل ما يفعله المصلي في صلاته بعد الافتتاح، وما يتصل بذلك الفصل فلا يعد.
واللاحق من أدرك أول الصلاة إلا أنه لم يصل مع الإمام إما؛ لأنه نام أو؛ لأنه أحدث وذهب، ثم توضأ ثم عاد، وانتبه النائم، وقد صلى الإمام بعض الصلاة. ومن حكم المسبوق أنه يصلي أولًا ما أدرك مع الإمام، فإذا فرغ الإمام من صلاته يقضي ما سبق به، ومن حكم اللاحق أنه يصلي ما فاته أولًا مع الإمام، ثم يتابع الإمام فيما بقي، والمسبوق في الحكم كأنه منفرد، ولهذا كان عليه القراءة فيما يقضي.
ولو سهى فيما يقضي كان عليه السهو، واللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام، ولهذا لا قراءة عليه فيما يصلي، ولا سهو عليه إن كان قد سهى.
وكان الشيخ الإمام الزاهد عبد الله الخيراخري يقول عن أصحابنا رحمهم الله تعالى: اجعلوا المسبوق فيما يقضي كالمنفرد، إلا في ثلاث مسائل، وقد ذكرنا ذلك عامة في الفصل السابع من هذا الكتاب، ذكرنا ثمة الفرق في فصل محاذاة المرأة بين المسبوق وبين اللاحق، وذكرنا الفرق بين نية اللاحق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وقد فرغ الإمام من صلاته، وبين نية المسبوق الإقامة، وهو في قضاء ما عليه، وذكرنا أيضًا الفرق بين دخول اللاحق المصر، وبين دخول المسبوق المصر.
في فصل المسافر المسبوق إذا سلم مع الإمام ساهيًا، ومسح يديه على وجهه بعد السلام كما يفعل في العادة، ثم تذكر ليس له أن يبني، لأن مسح اليدين على الوجه عمل كثير من رآه يفعل ذلك يظنه خارج الصلاة، وهذا هو حد عمل الكثير، فيصير خارجًا من الصلاة، ويؤيده رواية مكحول النسفي عن أبي حنيفة أن من رفع يديه عند الركوع، أو عند رفع الرأس من الركوع تفسد صلاته، واعتبر عملًا كثيرًا.
وفي (نوادر أبي سليمان): عن محمد رجل فاتته ركعة مع الإمام، ثم سلم الإمام فسهى الرجل، ولا يدري أفاتته الركعة، أو لا، ثم علم، فقام فقضاها فعليه السهو، وإن كان ذلك قبل سلام الإمام، فلا سهو عليه؛ لأن قبل سلام الإمام هو على المتابعة، فلا يعتبر سهوه، بخلاف ما بعد سلام الإمام.
والمسبوق إذا لم ينتظر سلام الإمام وقام وقرأ، وركع ثم سلم الإمام، وسجد للسهو رجع إليه فسجدها معه، وأعاد القراءة والركوع، ولا سهو عليه وإذا قام الإمام إلى الخامسة وتابعه المسبوق، إن كان الإمام قعد في الرابعة فسدت صلاة المسبوق. والمسبوق يسجد سجدتي السهو مع الإمام.
وكذا المقيم إذا كان مقتديًا بالمسافر يسجد للسهو مع الإمام، واللاحق لا يأتي بسجود السهو حتى يفرغ من صلاته، فإن يسجد المسبوق ولا المقيم المقتدي بالمسافر مع الإمام سجدا إذا فرغا من صلاتهما استحسانًا.
والقياس: أن لا يسجد لأنهما انتقلا من صلاة الإمام إلى غيرها وجه الاستحسان: أن التحريمة واحدة، فكانت صلاة واحدة فإن سجدا معه، ثم سهوا أعادا السهو، فإن لم يسجدا مع الإمام وسهوا، فعليهما سجدتان عن السهوين، فإن سهى الإمام ثم أحدث ثم استخلف رجلًا فالخليفة يأتي بسجود السهو بعد تمام صلاة الإمام، وإن سهى الثاني يسجد أيضًا، وإذا اجتمع سهو الأول وسهو الثاني كفاه سجدتان، وإن لم يسهو الأول وسهى الثاني يسجد أيضًا ويتابعه الأول في ذلك.
إن أدركه رجلان سبقا ببعض الصلاة، وقاما إلى قضاء ما سبق به، واقتدى أحدهما بالآخر، فسدت صلاة المقتدي؛ لأنه اقتدى في موضع الانفراد.
رجل اقتدى بالإمام في ذوات الأربع بعدما صلى الإمام بعض صلاته، فأحدث الإمام، وقدم هذا الرجل، والمقتدي لا يدري كم صلى الإمام وكم بقي عليه، فإن المقتدي يصلي أربع ركعات، ويقعد في كل ركعة احتياطًا. وإذا ظن الإمام أن عليه سهو يسجد للسهو وتابعه المسبوق في ذلك، ثم علم أنه لم يكن على الإمام سهو ففيه روايتان: في إحدى الروايتين تفسد صلاة المسبوق، وبه أخذ عامة المشايخ، وفي إحدى الروايتين لا تفسد، وبهذه الرواية كان يفتي الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير، فإن لم يعلم أنه لم يكن على الإمام سهو لم تفسد صلاة المسبوق بلا خلاف.
الإمام إذا سبقه الحدث في ذوات الأربع فاستخلف مسبوقًا بركعتين فإن المسبوق يصلي ركعتين ويقعد حتى يتم صلاة الإمام، ثم يقوم يقضي ما سبق به، ولو أن هذا المسبوق صلى ركعتين، ولم يقعد فسدت صلاتهم، كما لو اقتدى المقيم بالمسافر، فأحدث المسافر واستخلف المقيم، فصلى المقيم ركعتين ولم يقعد، وهناك تفسد الصلاة كذا هاهنا، وهذا لأن الخليفة قائم مقام الإمام الأول ما لم يفرغ عن صلاة الأول، والأول لو ترك هذه القعدة فسدت صلاته فكذا إذا ترك الثاني.
المسبوق بركعة إذا سلم مع الإمام ساهيًا لا يلزمه سجود السهو؛ لأنه مقتد بعد، وإن سلم بعد الإمام كان عليه السهو؛ لأنه صار منفردًا. وإذا دخل الرجل في صلاة الرجل بعد ما سلم قبل أن يسجد للسهو فعلى قول محمد رحمه الله اقتداؤه به صحيح على كل حال عاد الرجل إلى سجود السهو أو لم يعد، وعلى قول أبي حنيفة اقتداؤه موقوف إن عاد الرجل إلى سجوده صح اقتداؤه، وإن لم يعد لا يصح اقتداؤه.
ولو دخل في صلاته بعدما سجد سجدة واحدة، وهو في الثانية، فإنه يسجدها معه ولا يقضي الأولى، وكذلك إن دخل في صلاته بعدما سجدهما لم يقضيها.
صلى بقوم صلاة الفجر فسلم واحد من القوم بعد الفراغ من التشهد وحال الإمام الدعاء وأخر السلام حتى طلعت الشمس فسدت صلاة الإمام على قول من يرى ذلك، ولم تفسد صلاة من سبق بالسلام، وكذلك لو تذكر الإمام تلاوة بعد سلام هذا الرجل، فسجد الإمام للتلاوة بعد سلام هذا الرجل، أو كانت الصلاة ظهرًا فأدرك الإمام الجمعة لا تفسد صلاة من سلم إذا لم يدرك الجمعة.
وكذا المسبوق بركعة إذا قام إلى قضاء ركعته بعد سلام الإمام، ثم تذكر الإمام تلاوة، وسجد لها لا تفسد صلاة المسبوق إلا إذا تابعه في السجدة بعدما قيد ركعته بالسجدة.
أحدث الإمام وعليه سجود السهو، واستخلف مسبوقًا قد ذكرنا قبل هذا أنه لا ينبغي للإمام أن يقدمه، ولا له أن يتقدم، فلو أنه تقدم مع هذا كيف يصنع؟ قال: يصلي بالقوم بقية صلاتهم فإذا انتهى الإمام الصلاة إلى السلام يتأخر، ويقدم مدركًا يسلم به، ولا يسلم هذا المسبوق، فإن لم يكن ثمة مدرك كيف يصنع هذا المسبوق؟ قال: يتأخر من غير أن يسلم ثم يقوم ويقضي ما فاته وحده، وكذلك القوم يقومون، ويقضون ما فاتهم وحدانًا، فإذا فعلوا ذلك يأتون بسجود السهو التي وجبت على الإمام استحسانًا.
قد ذكرنا أن اللاحق لا يتابع الإمام في سجوده، ولو تابعه مع ذلك، وسجد معه لا يجزئه، وعليه أن يسجد إذا فرغ من صلاته؛ لأن ما أتى به من السجدة في غير محلها؛ لأن سجدة السهو شرعت في آخر الصلاة، وهو إنما أتى بها في وسط الصلاة.
يجب أن يعلم أن ما يقضي المسبوق أول صلاته حكمًا، وآخر صلاته حقيقة؛ لأن ما أدرك مع الإمام أول صلاته حقيقة، وآخر صلاته حكمًا من حيث إن الأول اسم لفرد سابق يكون ما أدرك مع الإمام أولًا في حقه حقيقة، ومن حيث إنه آخر في حق الإمام؛ لأن الآخر اسم لفرد لاحق يكون آخرًا في حقه حكمًا تحقيقًا للتبعية، وتصحيحًا لاقتداء؛ لأن ما بين أول الصلاة وآخرها مغايرة من حيث الحكم، فإن القراءة فرض في الأوليين نفل في الآخريين، والمغايرة تمنع صحة الاقتداء.
ولما صح الاقتداء علمنا أن ما أدرك مع الإمام آخر صلاته حكمًا، وإذا كان ما أدرك أول صلاته حقيقة وآخرها حكمًا، وما يقضي آخره حقيقة أوله حكمًا، اعتبرنا الحقيقة فيما يقضي وفيما أدرك في حق الثناء.
فقلنا: بأن المسبوق يأتي بالثناء متى دخل مع الإمام في الصلاة حتى يقع الثناء في محله وهو ما قبل أداء الأركان، واعتبرنا الحكم فيما أدرك، وفيما يقضي في حق القراءة، فجعلنا ما أدرك صلاته وما يقضي أول صلاته، فتجب القراءة عليه، فيما يقضي؛ لأن القراءة ركن لا تجوز الصلاة بدونها، واعتبرنا الحكم فيما أدرك وفيما يقضي في حق القنوت، فجعلنا ما أدرك آخر صلاته في حق القنوت حتى أنه إذا أتى بالقنوت فيما أدرك مع الإمام لا يأتي بالقنوت فيما يقضي كيلا يؤدي إلى تكرار القنوت الذي هو ليس بمشروع، واعتبرنا الحقيقة في حق القعدة، وفيما يقضي، وفيما أدرك فألزمناه القعدة متى فرغ من صلاته؛ لأن قعدة الختم ركن لا تجوز الصلاة بدونها، فألزمناه القعدة في آخر الصلاة عملًا بالحقيقة ليخرج عن القعدة بيقين.
المسبوق بركعتين إذا قام إلى قضائها سبق، ولم يكن الإمام قرأ في الأوليين، وإنما قرأ في الأخريين، فإنه تجب عليه القراءة فيما يقضي، ولو ترك القراءة فيما يقضي لم تجز صلاته؛ لأن القراءة في الأخريين وقعت بطريق القضاء، فالتحقت بمحل الأداء، وصار كأنه قرأ في الأوليين، وهناك المسبوق يقرأ فيما يقضي كذا ها هنا.
وإذا قام المسبوق إلى قضاء ما سبق به قبل أن يتشهد الإمام أو بعدما تشهد قبل أن يسلم، فقد ذكرنا هذه المسألة قبيل الفصل الرابع، ومن فروعات هذه المسألة إذا قام بعدما تشهد الإمام، وعلى الإمام سجود السهو، فقرأ وركع ولم يسجد حتى عاد الإمام إلى سجود السهو، فعلى هذا الرجل أن يتابع الإمام في سجود السهو؛ لأنه لم يستحكم انفراده بأداء ما دون الركعة؛ لأن ما دون الركعة ليس له حكم الصلاة، فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، ثم يقوم للقضاء، ولا يعتد بالذي أدى؛ لأنه صار رافضًا لها بالعود إلى متابعة الإمام.
وإن لم يعد إلى متابعة الإمام ومضى على ذلك جازت صلاته، لأنه لم يبق على الإمام ركن من أركان الصلاة، ويسجد للسهو في آخر صلاته استحسانًا، وإن قيد المسبوق الركعة بسجدة، ثم عاد الإمام إلى سجود السهو لم يعد إلى متابعة الإمام لأنه استحكم انفراده بأداء ركعة كاملة، وإن عاد إلى متابعته فسدت صلاته؛ لأنه اقتدى في موضع الانفراد، والاقتداء في موضع الانفراد تفسد الصلاة.
فإن قيل: الاقتداء في موضع الانفراد إذا لم يكن بركعة كاملة ينبغي أن لا يوجب فسادًا كالانفراد في موضع الاقتداء إذا لم يكن بركعة كاملة.
قلنا: الاقتداء في موضع الانفراد إنما يفسد الصلاة، وإن حصل الاقتداء بما دون الركعة؛ لأنه لما اقتدى به زال الانفراد؛ لأن بين الاقتداء والانفراد تنافي، فأما المسبوق بالاقتداء بالإمام صار تبعًا للإمام، وبالانفراد لم تزل التبعية؛ لأنه يؤدي ما أداه الإمام، والتبعية تنفى بهذا كما في النائم، وإذا لم تزل التبعية بنفس الانفراد بقي في صلاة الإمام وإذا بقي في صلاة الإمام لم تفسد صلاته إلا أن يأتي بركعة كاملة، فحينئذٍ تفسد صلاته لا لزوال المتابعة، ولكن لشروعه في صلاة أخرى. وهذه فصول:
أحدها: في السهو.
والثاني: في الصلبية إذا تذكر الإمام سجدة صلبية بعدما قام المسبوق إلى القضاء، إن لم يكن قيد الركعة بالسجدة عاد إلى متابعة الإمام كما ذكرنا في سجود السهو، وإن لم يعد فسدت صلاته؛ لأن الصلبية من أركان الصلاة، ألا ترى أنه لو لم يأت بها الإمام كانت صلاته فاسدة، فكذلك إذا لم يتابع المسبوق فيها، وإن كان قيد الركعة بالسجدة، فصلاته فاسدة عاد إلى متابعة الإمام أو لم يعد لما ذكرنا أن السجدة الصلبية ركن وبعد إكمال الركعة عاجز عن المتابعة فلهذا تفسد صلاته.
والثالث: إذا تذكر الإمام سجدة تلاوة، فإن كان المسبوق لم يقيد الركعة بالسجدة فعليه أن يعود إلى متابعة الإمام، ولأن الركعة الناقصة تحتمل الرفض على ما ذكرنا فصار كأنه لم يقم، ولو لم يقم يتابع الإمام فكذلك هنا، فلو لم يتابع، الإمام ومضى على ذلك فإنه ينظر، إن وجد منه القيام والقراءة بعد فراغ الإمام من القعدة الثانية مقدار ما تجوز به الصلاة جازت صلاته، وإلا فلا؛ لأن عود الإمام إلى سجدة التلاوة يرفع القعدة بدليل أنه لو لم يقعد بعدها لم تجر صلاته، والقعدة فرض أو ركن كالصلبية، وإذا ارتفعت القعدة صار كأنه قام إلى قضاء ما سبق به قبل فراغ الإمام من التشهد، ومضى على ذلك، فإنه يعتبر القيام والقراءة التي وجد بعد فراغ الإمام من التشهد كذلك هنا.
فإن قيد المسبوق الركعة بالسجدة قبل أن يعود الإمام إلى سجدة التلاوة ثم عاد الإمام إلى سجدة التلاوة، فإن تابعه المسبوق فصلاته فاسدة رواية واحدة؛ لأنه لما قيد الركعة بالسجدة استحكم انفراده، فإذا تابع الإمام، فقد اقتدى في موضع كان عليه الانفراد، فيوجب فساد الصلاة، وإن لم يتابعه ففيه روايتان: قال في (الأصل): صلاته فاسدة؛ لأنه حين سجد الإمام للتلاوة، ارتفضت القعدة في حق الإمام.
وإذا ارتفضت القعدة فسدت صلاته؛ لأن القعدة الأخيرة فرض.
وفي (نوادر أبي سليمان) قال: لا تفسد صلاته؛ لأنه حين قيد الركعة بالسجدة تم انفراده، ولم يبق على الإمام ركن من أركان الصلاة بدليل أنه لو لم يسجد الإمام للتلاوة، وذهب جازت صلاته، بخلاف الصلبية على ما ذكرنا، وفقه هذا الكلام أن قعوده كان معتدًا به، وإنما انتقض في حق الإمام بالعود إلى سجدة التلاوة؛ وذلك بعدما استحكم انفراد المسبوق عنه، فلا يتعدى ذلك إلى المسبوق، كرجل صلى بقوم، ثم ارتد والعياذ بالله، بطلت صلاته ولم تبطل صلاة القوم، وكذلك رجل صلى الظهر بالناس يوم الجمعة في القرية، ثم راح إلى الجمعة، فأدركها اعتبر المؤدى في حقه تطوعًا، وصار فرضه الجمعة، وبقي المؤدى في حق القوم فرضًا كما كان، فكذلك هنا، كذا ذكره الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله.
وذكر الشيخ الإمام خواهر زاده، والإمام الزاهد أبو نصر الصفار رحمهم الله الاختلاف على عكس ما ذكره الشيخ الإمام السرخسي رحمه الله فقالا: في ظاهر الرواية لا تفسد صلاته، وفي رواية أبي سليمان تفسد صلاته.
إذا تذكر الإمام فائتة بعد الصلاة والسلام وخلفه مسبوق، حكي عن الشيخ الإمام الجليل أبي بكر، محمد بن الفضل رحمه الله أنه قال: لا رواية في هذا الفصل، وعندي أن صلاة المسبوق لا تفسد كما لو ارتد الإمام بعد السلام وخلفه مسبوق. وإذا صلى الإمام الظهر أربع ركعات، وقعد على الرابعة، وقام إلى الخامسة ساهيًا فجاء إنسان واقتدى به في صلاة الظهر.
قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله: يصح اقتداء الرجل؛ لأن الإمام لم يقيد الخامسة بالسجدة، فهو في تحريمة الظهر. وإذا كان الرجل يصلي الظهر، وخلفه مسبوق فقام الإمام إلى الركعة الخامسة تابعه المسبوق إن كان الإمام قعد على رأس الرابعة فسدت صلاة المسبوق؛ لأنه لما قعد على رأس الرابعة بقيت صلاته في حق المسبوق، فصار المسبوق في حكم المنفرد، فهذا اقتداء في موضع الانفراد، وإن لم يكن قعد على رأس الرابعة لا تفسد صلاة المسبوق؛ لأن الإمام على الصلاة الأولى حكمًا.
ولهذا قلنا: إذا لم يقعد الإمام على رأس الرابعة، وقام إلى الخامسة لا يسلم المقتدي ما لم يقيد الإمام الخامسة بالسجدة، بخلاف ما إذا قعد على رأس الرابعة فإن هناك للمقتدي أن يسلم. وكذلك قلنا في الإمام إذا كان يصلي المغرب، فقام إلى الرابعة، وتشهد المقتدي وسلم قبل أن يقيد الإمام الرابعة بالسجدة فإنه تفسد صلاة المقتدي، وطريقه ما قلنا.
وإذا جاء المسبوق إلى الإمام وهو راكع وفي يد هذا المسبوق شيء، فوضعه حتى... فكبر تكبيرتين، ودخل في الصلاة قال هشام: قال أبو حنيفة رحمه الله: لو وقع تكبيرة الافتتاح قائمًا وهو مستوي أيضًا صح الشروع، وإن وقع وهو منحط عنه غير مستوى لا يجوز.
وإن ركع المسبوق وسوى ظهره صار مدركًا للركعة قدر على التسبيح أو لم يقدر، وإن لم يقدر على تسوية الظهر في الركوع حتى رفع الإمام رأسه فاته الركوع.
ولو كبر والإمام راكع، واشتغل هو بالثناء، ولم يركع حتى رفع الإمام رأسه، ثم ركع هو لم يصر مدركًا للركعة عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله خلافًا لزفر رحمه الله، ولو كبر قبل ركوع الإمام، ولم يركع معه حتى رفع الإمام رأسه من الركوع، ثم ركع هو صار مدركًا للركعة. وإذا سلم الإمام فالمؤتم المسبوق يتأنى، ولا يتعجل في القيام، وينظر هل يشتغل الإمام بقضاء ما نسيه من صلاته فإذا تيقين فراغ الإمام من صلاته حينئذٍ يقوم إلى قضائه، ولا يسلم مع الإمام؛ لأنه في وسط صلاته.
وفيه حكاية أن أبا يوسف كان على مائدة هارون الرشيد، فسأل زفر وقال: ما تقول يا أبا هذيل متى يقوم المسبوق إلى قضائه؟ فقال زفر رحمه الله: بعد سلام الإمام، فقال أبو يوسف رحمه الله: أخطأت، فقال زفر: بعدما سلم الإمام تسليمة واحدة، فقال أبو يوسف: أخطأت، فقال زفر: قبل سلام الإمام، فقال أبو يوسف: أخطأت، ثم قال أبو يوسف رحمه الله: إنما يقوم بعد تيقنه أن الإمام فرغ من صلاته فقال زفر: أحسنت أيد الله القاضي.
قال: مكث المسبوق حتى يقوم الإمام إلى تطوعه إن كانت صلاة بعدها تطوع، ويستدبر إلى المحراب إن كانت صلاة لا تطوع بعدها، وإن لم يمكث حتى يسلم الإمام، ولكن حين فرغ الإمام من قراءة التشهد قام المسبوق إلى قضاء ما سبق، جازت صلاته بالاتفاق، ولكنه مسيء فيما صنع، وإنما جازت صلاته لفراغ الإمام من الصلاة، حتى قالوا فيمن صلى مع الإمام الجمعة، والإمام في الجامع، وهو في الطريق، وهو مسبوق، فخاف أنه لو انتظر الإمام حتى يسلم، ثم يقوم هو إلى القضاء تفسد المارة عليه صلاته، فإذا علم أن الإمام فرغ من التشهد يقوم هذا إلى القضاء وتجوز صلاته.
روى ابن سماعة، وأبو سليمان في (نوادره) عن محمد: إذا نام المؤتم خلف الإمام، وسهى الإمام عن سجدة من أول الركعة، فقضاها في آخر صلاته وسلم، ثم استيقظ ذلك الرجل، فإنه يصلي، ويسجد تلك السجدة في موضعها من الركعة الأولى.
وفي رواية أبي سليمان إن كان الإمام ترك القعود في الثانية يقعد فيها هذا اللاحق قال: لأن الإمام يقضي السجدة، ولا يقضي الجلوس، وفي رواية ابن سماعة لو استيقظ هذا النائم قبل أن يسجدها الإمام، فإنه يصلي ما صلى إمامه، ولا يسجد تلك السجدة حتى يسجدها إمامه، فيسجدها معه؛ لأنه لا يجزئه أن يسجدها قبله، وكذلك إن لم يكن نام، ولكن سبقه الحدث فذهب وتوضأ، ثم انصرف.
وفي (نوادر إبراهيم) عن محمد: رجل دخل في صلاة إمام بعدما صلى الإمام ركعة فلما كبر رعف، فذهب، وتوضأ، ثم جاء، وقد صلى الإمام ركعتين أخريتين، وبقيت عليه ركعة فاتبع الإمام حين جاء ولم يقض ما فاته، وصلى معه الرابعة، قال: يقوم ويصلي ركعة بغير قراءة ويقعد، ويصلي ركعة أخرى بغير قراءة، ويقعد؛ لأن بالنية وافقه الإمام، ثم يصلي ركعة بقراءة لأنه أول صلاته.
وفي (نوادر أبي سليمان) عن محمد لو نام الرجل خلف الإمام في التشهد الأخير، فلم يقرأ التشهد، وقرأه الإمام، ثم ضحك هذا الرجل بعدما انتبه قبل أن يتشهد، قال: عليه الوضوء لصلاة أخرى، وصلاته تامة، وإنما وجب عليه الوضوء، وإن كان الإمام قد سلم؛ لأن المقتدي إنما يخرج من حرمة الصلاة بتسليم الإمام إذا لم يكن عليه شيء من واجبات الصلاة، وهاهنا عليه التشهد.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف سبق، فقام يقضي قال أبو حنيفة: صلاته فاسدة وقال أبو يوسف: صلاته تامة، وإنما فسدت صلاته عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه بالاقتداء بالقارئ التزم صلاة بقراءة، وقد عجز عن إتمامها بذلك فجاء الفساد، وعلى هذا إذا صلى ركعة بركوع، وسجود ثم مرض، وصار إلى حالة الإتمام، فصلاته فاسدة في قول أبي حنيفة؛ لأنه التزم صلاة بركوع وسجود خلافًا لأبي يوسف. وروى المعلا عن أبي يوسف في الأخريين الخلاف على نحو ما ذكرنا في الأمي.
ابن سماعة في (الرقيات) عن محمد: رجل فاتته ركعة مع الإمام فلما تشهد الإمام قام الرجل يقضي ركعته، وقد كان الإمام نسي سجدة عليه من تلاوة، فلما سلم الإمام ذكر السجدة التي عليه من التلاوة قد فرغ الرجل من ركعته، أو لم يفرغ منها حتى سجد الإمام سجدة التلاوة، ومضى الرجل في ركعته، ولم يسجد معه سجدة التلاوة، قال محمد رحمه الله: إذا ركع، وسجد قبل أن يسجد الإمام سجدة التلاوة، فصلاته تامة؛ لأنه خرج من صلاة الإمام بالفراغ من تشهد الإمام قبل أن يبطل تشهد الإمام، فإن كان ركع وسجد بعدما سجد الإمام سجدة التلاوة، فصلاته فاسدة؛ لأن بعود الإمام يبطل تشهده؛ لأن من حق سجدة التلاوة الواجبة في الصلاة؛ أن تؤدى في الصلاة ولا تؤدى خارج الصلاة.
أرأيت لو نسي الإمام سجدة تلاوة حتى سلم، وتفرق القوم غير أن الإمام بعد في مصلاه، ثم تذكر الإمام السجدة وسجدها، فمن خرج من المسجد، أو تكلم قبل أن يسجدها الإمام فصلاته فاسدة. قال: وإنما هو بمنزلة مسافر صلى ركعتين، ثم تشهد، فخرج بعض القوم من المسجد، أو تكلم، ثم نوى المسافر الإقامة.

.الفصل الرابع والثلاثون في المصلي إذا كبر ينوي الشروع في الصلاة التي هو فيها أو في صلاة أخرى أو ينوي بخلاف ما نوى قبل ذلك:

قال محمد رحمه الله في (الجامع): في رجل افتتح الظهر؛ وصلى منها ركعة ثم افتتح العصر، أو التطوع فقد نقض الظهر؛ لأن العصر غير الظهر، وكذا التطوع غير الفرض، وله ولاية الشروع فيهما، فإذا افتتح واحدًا منهما يعني العصر، أو التطوع صح الافتتاح، وصار شارعًا فيه، وإذا صار شارعًا فيه يصير خارجًا عن الآخر ضرورة فيبطل الآخر.
وإن افتتح الظهر بعدما صلى ركعة فهي تجزئه، وتجزئه تلك الركعة عن الظهر، فيصلي بعده ثلاث ركعات ويتم الظهر؛ لأنه نوى الشروع في شيء هو فيه، وذلك باطل فلغت نيته ويبقى في ظهره، فإن صلى أربعًا بعد ذلك على تقدير أنه افتتح الصلاة، ولم يقعد في الثالثة فسدت صلاته؛ لأن هذه الثالثة رابعة صلاته حقيقة، وإن كانت ثالثة في ظنه، فقد ترك القعدة الأخيرة فتفسد صلاته.
ولو نوى بالتكبير هذه الفريضة، وفريضة أخرى أو تطوعًا لم يخرج عن هذه الفريضة إذا نوى غيرها على حدة.
رجل سلم في الركعتين من الظهر ناسيًا، ثم ذكر فظن أن ذلك يقطع الصلاة، فاستقبل التكبير، ونوى به الدخول في الظهر ثانية، وهو إمام قومه، فكبروا معه ينوون ذلك فهم على صلاتهم الأولى يصلون ما بقي منها، ويسجدون السهو، وذلك لأنه لو خرج عن الصلاة لا يخلو إما أن يخرج بالسلام، أو بالنية، أو بالتكبير لا جائز أن يصير خارجًا بالسلام؛ لأن هذا سلام الساهي لأن حد السهو أن يسلم، وعليه ركن من أركان الصلاة وهو لا يعلم به، وقد وجد هذا الحد هنا فكان سلام الساهي، وقد ذكرنا غير مرة أن سلام الساهي لا يخرج المصلي عن الصلاة. لا جائز أن يصير خارجًا بالنية؛ لأنه نوى إيجاد الموجود وذلك لغو، فصار وجود النية وعدمه بمنزلة. ولا جائز أن يصير خارجًا بمجرد التكبير؛ لأن التكبير وجد في وسط الصلاة، والتكبير في وسط الصلاة، فلا يخرجه عن الصلاة. إذا ثبت أنه لا يصير خارجًا عن الصلاة الأولى، فإذا قعد في الرابعة، ثم قام إلى الخامسة تجوز صلاته، لأنه صلى الظهر خمسًا، وقعد في الرابعة قدر التشهد تجوز صلاته؛ لأنه اشتغل بالنفل بعد إكمال الفرض. وإن لم يقعد في الرابعة قدر التشهد، فسدت صلاته؛ لأنه اشتغل بالنفل قبل إكمال الفرض.
ثم إذا جازت صلاته بأن قعد في الرابعة قدر التشهد؛ فإنه يجب عليه سجدتا السهو بتأخير الركن عن محله، وهو القيام إلى الركعة الثالثة؛ لأنه حين كان قعد على رأس الركعتين يفترض عليه القيام بعدما تشهد، فإن اشتغل بالدعوات، فقد أخر الركن، وهي الركعة الثالثة، فتجب سجدتا السهو.
فرق بين هذا وبين ما إذا كبر ينوي العصر، أو ينوي التطوع، فإنه يصير خارجًا عن الظهر داخلًا في العصر أو في التطوع، وهنا لا يصير خارجًا.
ووجه الفرق: وهو أن هناك نوى شيئًا ليس هو فيه، لأنه نوى العصر وهو ليس في العصر، فالنية الثانية أفادت غير ما أفادته الأولى، فتكون معتبرة، وإذا كانت معتبرة صار شارعًا إلى العصر، ومن ضرورة الشروع في العصر الخروج عن الظهر. فأما هنا نوى شيئًا هو فيه، فلم تفد الثانية إلا ما أفادته الأولى، فلغت الثانية، فلهذا لا يصير خارجًا عن الأولى.
ونظير هذا رجل باع شيئًا بألف، ثم باعه ثانيًا بألف، فالبيع الثاني باطل، والبيع الأول على حاله؛ لأن الثاني لم يفد غير ما أفاده الأول، فيتضمن البيع الثاني انفساخ البيع الأول كذلك هاهنا.
وفرق بين هذا وبينما إذا سلم على رأس الركعتين من الظهر، وهو يظن أنه صلاة الفجر، أو صلاة المسافر، أو سلم على رأس الثالثة، وهو يظن أنه المغرب أو الوتر، فإن هناك يصير خارجًا عن الصلاة وهنا لا.
والفرق: وهو أن هناك السلام سلام عمد؛ لأنه سلم وهو عالم أنه صلى ركعتين لا غير، والسلام العمد يخرجه من الصلاة. أما ها هنا السلام سلام الساهي؛ لأنه سلم وقد بقي عليه أركان الصلاة، وهذا هو حد السهو، والسلام الساهي لا يخرجه عن الصلاة.
فإذا صلوا أربع ركعات بعدما صلى ركعتين إن قعدوا على رأس الثانية جازت صلاته، والركعتين الأوليين من هذا الأربع فريضة تمام صلاة الظهر، والركعتين الأخرتين نافلة، ويجوز هذا؛ لأنه اشتغل بالنفل بعد إكمال الفرض. وإن لم يقعدوا على رأس الثانية فسدت صلاتهم لاشتغالهم بالنفل قبل إكمال الفرض.
وإذا صلى من المغرب ركعتين، وقعد قدر التشهد، وزعم أنه أتمها، فسلم، ثم قام وكبر ينوي الدخول في سنّة المغرب، ثم تذكر أنه لم يتم المغرب، وقد سجد للسنّة، أو لم يسجد فصلاة المغرب فاسدة؛ لأنه كبر ونوى الدخول في صلاة أخرى، فيكون منتقلًا من الفرض قبل إتمامه إلى التطوع. أما إذا سلم وتذكر فحسب أن صلاته فاسدة، فقام، وكبر للمغرب ثانيًا وصلى ثلاثًا.
إن صلى ركعة وقعد، قدر التشهد أجزأه المغرب وإلا فلا؛ لأن نية المغرب ثانيًا لم تصح بقي مجرد التكبير وذا لا يخرجه عن الصلاة. وإن افتتح المغرب، وصلى ركعة وظن أنه لم يكبر الافتتاح فافتتحها، وصلى ثلاث ركعات، وقعد على رأس الثانية جازت صلاته؛ لأنه في المرة الثانية قعد على رأس الثانية بزعمه، وهي ثالثته على الحقيقة.
ولو صلى المغرب ركعتين وظن أنه لم يفتتح، فافتتحها، وصلى ثلاث ركعات، وقعد على رأس الثانية والثالثة لا تجوز صلاته؛ لأن من حقه أن يقعد على الركعة الأولى؛ لأنها ثالثته على الحقيقة، فإذا لم يقعد، فقد ترك القعدة على رأس الثالثة وإنه يوجب فساد الصلاة.
وإذا صلى الظهر أربعًا فلما سلم تذكر أنه ترك سجدة منها ساهيًا، ثم قام واستقبل الصلاة، وصلى أربعًا، وسلم وذهب، فسد ظهره؛ لأن نية دخوله في الظهر ثانيًا لغو، فإذا صلى ركعة فقد خلط المكتوبة بالنافلة قبل الفراغ من المكتوبة.
وإذا صلى الغداة بقوم فقال له رجل من القوم: تركت سجدة من صلب الصلاة، فقام الإمام وكبروا استأنف الصلاة.
لا تجزئه لا الأولى ولا الثانية؛ لأن هذه التكبيرة لم تخرجه عن الأولى، فلقد خلط النافلة بالمكتوبة قبل الفراغ من المكتوبة.
وفي (فتاوى الفضلي): المسبوق إذا شك في صلاته بعد ما قام إلى قضائها أنه سبق بركعة أو بركعتين فكبر ينوي الاستقبال يخرج عن صلاته؛ لأن حكم صلاة المسبوق، وحكم صلاة المنفرد مختلفان ألا ترى أن الاقتداء بالمسبوق لا يصح وبالمنفرد يصح، فإذا أقبل على إحديهما وكبر ثبت الانتقال إلى الأخرى، كمن انتقل بالتكبير من فرض إلى نفل، أو من نفل إلى فرض.
وكذلك المسبوق إذا سلم مع الإمام ناسيًا، وظن أن ذلك مفسد، فكبر ونوى به الاستقبال كان خارجًا عن صلاته، والمعنى ما ذكرنا، وهذا بخلاف المنفرد إذا شك المنفرد فكبر ينوي الاستقبال حيث لا يكون خارجًا عن صلاته؛ لأن هناك الصلاة لم تختلف، فهو بمنزلة ما لو كان في الظهر، فكبر ينوي الظهر أو كان في العصر فكبر ينوي العصر، وهناك لا يصير خارجًا عن صلاته، كذا في المنفرد، ولا كذلك المسبوق على ما ذكرنا.
وفي (الرقيات): كتب ابن سماعة إلى محمد في رجل صلى خلف إمام ركعة من صلاة فريضة (ثم) أن المأمور نوى أن يصلي صلاته لنفسه، أو نوى أن يؤم إمامه فيما بقي من الصلاة، فمضى على نيته ذلك، ويركع ويسجد ينوى بذلك كله الصلاة لنفسه أو يؤم أمامه ولا ينوي اتباع الإمام في شيء من ذلك غير أن ركوعه وسجوده كان بعد ركوع الإمام وسجوده، فلم يزل يفعل ذلك حتى أتم صلاته، قال: صلاته تامة، ولا يخرجه شيء من ذلك من صلاة الإمام؛ لأنه لم يفتتح الصلاة بتكبير مستقبل.
قال: ولا يشبه هذا أن يأتم ببعض المأمومين إذا ائتم ببعض المأمومين، فقد خرج من صلاة إمام إلى صلاة إمام غيره أما هنا بخلافه، فالرجل لا يكون إمام نفسه.
وفي (نوادر بشر) عن أبي يوسف: رجل دخل مع الإمام في صلاة الظهر ينوى التطوع ثم ذكر أنه لم يصل الظهر فقطعها ثم استأنف التكبير معه ينوي الظهر، فلا قضاء عليه لما كان من النافلة؛ لأنها صلاة واحدة، فإذا صلاها لم يكن عليه أن يقضيها، وكذلك لو دخل فيها ينوي الظهر ثم تكلم، ثم استقبل التكبير والدخول فيها ينوي النافلة ثم أفسدها لم يكن عليه إلا المكتوبة.
وفي (نوادر هشام): قال: سمعت محمدًا في رجل صلى المغرب في منزله ثم أدرك الجماعة، فدخل معهم والإمام في التشهد في آخر صلاته، قال: فإذا سلم الإمام فعلى هذا الداخل معه أن يصلي أربعًا كما يصلي الظهر، لكن يقرأ في كل ركعة بالفاتحة والسورة.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: رجل صلى أربع ركعات جالسًا، فلما قعد في الثانية منها قرأ وركع قبل أن يتشهد، قال: هو بمنزلة القيام ويمضي في صلاته لأنه من عمل القيام، وإن كان حين رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الثانية نوى القيام، ولم يقرأ ثم علم، قال: يعود ويتشهد وليست النية في هذا بعمل، وهذا لأنه جالس حقيقة إلا أن في الفصل الأول وجد ما هو من أعمال القيام وهو القراءة، فاعتبر قيامًا، وفي الفصل الثاني وجد مجرد النية، ومجرد النية لا أثر لها في تغيير الحقائق.
ذكر الحاكم في (المنتقى): رجل يصلي بإيماء، فلما كان في الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام فقرأ، وكان في قراءته مقدار التشهد ثم تكلم، قال: أجزته صلاته، قال: ولا يكون قائمًا بنية القيام حتى يكون مع ذلك عمل يجزئ من شيء في الصلاة أو بزيادة ركوع أو سجود.
ولو كان صلى ركعتين بإيماء، فلما رفع رأسه من السجود ظن أنه (في) الركعة الثانية، فنوى أن يكون قائمًا، فقرأ {الحمد} وسورة ثم ذكر أنها الثالثة، قال: هذا يركع للثالثة ولا يقول التشهد الثانية؛ لأنه صار بالقراءة بمنزلة من قام.
ذكر هو في (المنتقى) أيضًا: رجل صلى الظهر بإيماء، فصلى ركعتين بغير قراءة ساهيًا، ثم ظن أنه إنما صلى ركعة، فنوى القيام، فقرأ وركع وسجد، ثم علم أن هذه الثالثة وصلى الرابعة بقراءة أجزأته صلاته.
ولو كان قرأ في الأوليين، فلما رفع رأسه من السجدة الثانية في الركعة الرابعة ظن أنها الثالثة، فنوى القيام ومكث ساعة كذلك، ثم استيقن أنها الرابعة، فلم يحدث فيه في الجلوس حتى مكث كذلك مقدار التشهد لم تفسد عليه صلاته، وبه ختم.

.الفصل الخامس والثلاثون في المتفرقات:

رجل أسلم في دار الحرب، فمكث فيها شهرًا ولم يعلم أن عليه صلاة، فليس عليه قضاؤها، وقال زفر رحمه الله عليه قضاؤها؛ لأن بقبول الإسلام صار ملتزمًا أحكام الإسلام، ولكن قصر عنه خطاب الأداء لجهله له، وذلك غير مسقط للقضاء بعد تقرر السبب، كالنائم إذا انتبه بعد مضي وقت الصلاة.
حجتنا: أن ما يجب بخطاب الشرع لا يثبت حكمه في حق المخاطب قبل علمه به، ألا ترى أن أهل قباء افتتحوا الصلاة إلى بيت المقدس بعد فرضية التوجه إلى الكعبة، وجوز ذلك لهم رسول الله عليه السلام، لأنه لم يبلغهم التوجه للكعبة، وكذلك شرب بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين الخمر بعد نزول آية التحريم قبل علمهم، وفيه نزل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّلِحَتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 93] والمعنى فيه، وهو أن الخطاب بحسب الوسع وليس في وسع الآدمي الائتمار قبل العلم، فلو ثبت حكم الخطاب في حقه كان فيه من الحرج ما لا يخفى، ولهذا قلنا أن الحجر في حق المأذون والقول في حق الوكيل لا يثبت قبل العلم.
قال: والعلم الذي (يجب) به عليهم الصلاة أن يخبره بذلك رجلان عدلان أو رجل وامرأتان في دار الحرب أو في دار الإسلام.
وإن كان ذميًا أسلم في دار الإسلام، فعليه قضاؤها استحسانًا. وقال أبو يوسف، ومحمد رحمهما الله: هما في القياس سواء، ولا قضاء عليهما حتى تلزمهما الحجة، وهو قول الحسن رحمه الله، ولكنا ندع القياس ونقول كما قال أبو حنيفة.
وجه القياس يأتينا أن الشرائع لا تلزمه إلا بالعلم والسماع، ولم يوجد، فلا يلزمه القضاء.
وجه الاستحسان: وهو أن الخطاب شائع في دار الإسلام، فيقوم شيوع الخطاب مقام العلم به؛ لأنه ليس في وسع المبلغ أن يبلغ كل واحد، إنما الذي في وسعه أن يجعل الخطاب شائعًا، ولأنه ما دام في دار الإسلام يسمع الأذان والإقامة، ويرى حضور الناس الجماعات في كل وقت، فإنما اشتبه عليه ما لا يشتبه ولأنه في دار الإسلام يجد من يسأل عنه، فترك السؤال منه تقصير بخلاف دار الحرب.
وعنه أيضًا: من أسلم ومكث سنين لا يعلم أن عليه صلاة أو زكاة أو صيام، وهو في دار الحرب أو في دار الإسلام، قال: ليس عليه قضاؤها معنى، قال: وإن أعلمه بذلك رجلان أو رجل وامرأتان ممن هو عدل، ثم فرط في ذلك كان عليه أن يقضي ما فرط فيه من وقت إعلامه، في دار الحرب كان، أو في دار الإسلام.
فإن بلغه في دار الحرب رجل واحد، فعليه القضاء فيما ترك عندهما، وهو إحدى الروايتين عند أبي حنيفة رحمه الله، وفي رواية الحسن عنه: لا يلزمه القضاء حتى يخبره رجلان عدلان مسلمان أو رجل وامرأتان، وهذا بناءً على أصل معروف، وهو أن خبر الواحد هل هو حجة ملزمة أم لا، عند أبي حنيفة: لا يكون حجة، وعندهما: يكون حجة، فالعدد ليس بشرط عندهما.
وأما العدالة هل هي شرط؟ عندها جواب (المبسوط) أنهما شرط عندهما، وروى الفقيه أبو جعفر رحمه الله في غريب الرواية أنها ليس بشرط عندهما، حتى إذا أخبره رجل فاسق أو صبي أو امرأة أو عبد، فإن الصلاة تلزمه، وموضع هذا كتاب الاستحسان.
وجه رواية الحسن: وهو أن هذا خبر ملزم، فيشترط فيه العدد كالحجر على المأذون وعزل الوكيل والإخبار بجناية العبد، ووجه الرواية الأخرى وهو قولهما وهو الأصح أن كل أحد مأمور من صاحب الشرع بالتبليغ، قال عليه السلام: «رحم الله امرءًا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها، ثم أداها إلى من لم يسمعها» فهذا المبلغ نظير الرسول من المولى والموكل، وخبر الرسول هناك يلزم فهاهنا كذلك.
وفي (المنتقى): قال أبو يوسف رحمه الله: من أخبره من عبد أو صبي أو فاسق، فهو إعلام وعليه قضاء ما لم يصلِ بعد الإعلام، وعن أبي حنيفة رحمه الله: إذا أخبره بذلك أناس من أهل الذمة لم يكن عليه أن يقضي شيئًا مما مضى، وقال أبو يوسف: إذا لم يبلغه وهو في دار الحرب لم يقض وإن كان في دار الإسلام. قضى.
ذكر الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف رحمهم الله فيمن قال: لله عليّ أن أصلي نصف ركعة أو أحج نصف حجة، قال: لا شيء عليه، ولو قال: لله عليّ أن أصلي ركعة أو أصوم من نصف يوم وجب عليه صوم يوم وصلاة ركعتين.
وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصلي نصف ركعة، فعليه ركعتان، فلو قال: لله عليّ أن أصلي ثلاث ركعات، فعليه أربع ركعات، فصار عن أبي يوسف في قوله: نصف ركعة روايتان. المعلى عن أبي يوسف إذا قال: لله عليّ أن أصلي الظهر ثماني ركعات ليس عليه إلا الأربع.
رجل دخل مع الإمام في الركعة الثالثة من المغرب ينوي به التطوع، فإنه يصلي الثالثة معه، فإذا سلم الإمام قام هو يصلي ثلاث ركعات بقراءة، يقعد في الأولى منهن؛ لأن شروعه في صلاة قد صح، فيلزمه ما على إمامه، والذي على إمامه ثلاث ركعات، إلا أن التطوع ثلاث ركعات غير مشروع، فلهذا يضم إليه الرابعة حتى يصير متطوعًا بأربع ركعات، وهذا لأن الشروع كالنذر، ثم لو نذر ثلاث ركعات يلزمه أربع ركعات، فكذلك إذا شرع في ثلاث ركعات وجب أن يلزمه أربع ركعات، ويقرأ في الثلاث كلها، لأنها تطوع والقراءة في التطوع في كل ركعة فرض، ويقعد في الأولى من الثلاث؛ لأن الأولى من الثلاث ثانية صلاته، والقعدة على رأس الركعتين من التطوع واجب، فإن لم يقعد في الأولى منهن جازت صلاته استحسانًا، وهو قولهما.
وفي القياس تفسد صلاته، وهو قول محمد وزفر رحمهما الله، ولا يقعد في الثانية من الثلاث؛ لأنها ثالثته، والقعدة على رأس الثالثة من التطوع بدعة غير مشروعة، ويقعد في الثالثة ويسلم؛ لأنها آخر صلاته، والقعدة في آخر الصلاة فرض.
الرجل إذا كان خلف الإمام، ففرغ الإمام من السورة لا يكره له أن يقول صدق الله، وبلغت رسله، ولكن الأفضل أن لا يقول ذلك. ذكره شيخ الإسلام في (شرحه).
وفي (الأصل): إذا صلى وقدامه عَذَرَة أو بول لا يفسد ذلك صلاته، ولكن المستحب له أن يبعد عن موضع النجاسة عند الصلاة، ورأيت في موضع آخر: ويكره أن يصلي وقدامه عَذَرَةٌ أو بول.
وفي (الأصل) أيضًا: يكره للمسافر أن يصلي على الطريق، بل ينبغي له أن يتنحى عن الطريق؛ لأن الطريق مشغول بحق المسلمين، فهو كما لو صلى في أرض مغصوبة، فإن وجد موضعًا مباحًا يصلي في ذلك الموضع ولا يصلي على الطريق، فإن لم يجد موضعًا مباحًا ولكن وجد أراضي الناس، فإن كانت الأراضي مزروعة لا يصلي في الأراضي، ولكن على الطريق؛ لأن الضرر في الصلاة في الأراضي في هذه الصورة أكثر من الضرر في الصلاة في الطريق، وإن لم تكن الأراضي مزروعة يصلي في الأراضي، ولا يصلي في الطريق، وإن كانت الأرض للذمي، فالصلاة في الطريق أولى من الصلاة في الأرض.
وإذا ذكر سجدتين من ركعتين بدأ بالأولى منهما؛ لأن القضاء معتبر بالأداء، فكما أن الثانية تترتب على الأولى في الأداء فكذلك في القضاء.
وعند الشافعي رحمه الله: من ترك سجدة وصلى بعدها ركعة أو ركعتين يأتي بتلك السجدة ويعيد ما صلى بعدها؛ لأنه حصل قبل أوانه. وهذا بناءً على أصله أن زيادة الركعة، والركعتين في احتمال الرفض والإلغاء كزيادة ما دون الركعة، فإنه عندنا زيادة الركعة الواحدة لا يحتمل الرفض والإلغاء والركعة تتقيد بالسجدة الواحدة، فأداء الركعة الثانية أداء معتبر، فليس عليه إلا قضاء المتروك، وعند الشافعي رحمه الله: الركعة لا تتقيد بسجدة واحدة بل تتقيد بسجدتين.
وجه قوله: أن وجود الركعة الثانية إنما يكون بعد تمام الركعة الأولى، وتمام الركعة الأولى إنما يكون بالسجدتين، وهذا الرجل لم يسجد سجدتين، فلم يصح القيام إلى الثانية، والركعة الأولى محتاجة إلى سجدة واحدة، فالتحقت السجدة الواحدة من الركعة الثانية إلى الركعة الأولى، فصارت الأولى ركعة تامة.
وعلماؤنا رحمهم الله قالوا: وجود الركعة الثانية إنما يكون بوجود الركعة الأولى، ووجود الركعة الأولى إنما يكون بوجود أركانها، وأركانها القيام والقراءة والركوع والسجود، والسجدة الأخيرة شرعت متمة للركعة، وتمام الشيء وصفه، والشيء إنما يوجد بوجود أصله، لا بوجود وصفه، وقد وجد هنا أصل الركعة وهو القيام والقراءة والركوع والسجدة، فيصح القيام إلى الثانية، وإذا صح القيام إلى الثانية، فعليه أن يسجد سجدتين، وكذلك إذا ترك ثلاث سجدات من ثلاث ركعات، ثم ذكر في الرابعة فعليه أن يسجد ثلاث سجدات، لأن عليه أن يبدأ بالأولى فالأولى، والأسبق فالأسبق، وعليه سجدتا السهو؛ لأنه أخر ركنًا وتأخير الركن يوجب سجدتي السهو إذا كان ناسيًا.
قال: وكذلك إذا كانت إحديهما تلاوة والأخرى صلبية، فإنه يبدأ بالأولى منهما، وقال زفر رحمه الله: يبدأ بالصلبية؛ لأنها أقوى، ولكنا نقول: القضاء معتبر بالأداء، فإذا كانت سجدة التلاوة من الركعة الأولى، والصلبية من الركعة الثانية بدأ بالتلاوة لتقدم وجوبها في الأداء، فكذلك في القضاء.
وإذا سلم وانصرف ثم ذكر أن عليه سجدة صلبية أو سجدة تلاوة، فإن كان في المسجد لم يتكلم عاد إلى صلاته استحسانًا، وفي القياس: إذا صرف وجهه عن القبلة لم يمكنه أن يعود إلى صلاته، وهو رواية محمد رحمه الله.
وجه القياس: وهو أن صرف الوجه عن القبلة مفسد للصلاة كالكلام، فيمنعه من البناء.
وجه الاستحسان: وهو أن المسجد من حيث إنه مكان الصلاة مكان واحد على ما عرف فبقاؤه في المسجد كبقائه في مكان الصلاة، وصرف الوجه عن القبلة غير مفسد للصلاة، كما في حق الملتفت في صلاته.
وهذا القياس والاستحسان نظير القياس والاستحسان فيمن ظن في صلاته أنه رعف، فانسحب ليتوضأ، فوجده مخاطًا، وهو في المسجد، وهناك يبنى على صلاته استسحانًا، وفي القياس: لا يبني، وروي عن محمد رحمه الله رواية أخرى، هذا إذا كان يذهبُ ووجهه إلى القبلة بأن كان باب المسجد على حائط القبلة، فأما إذا أعرض عن القبلة بوجهه تفسد صلاته وإن كان في المسجد قياسًا واستحسانًا..
فإن خرج من المسجد فسدت صلاته في الصلبية؛ لأنها من أركان الصلاة، فتركها يوجب فساد الصلاة، وإن كانت تلاوة لا توجب فساد الصلاة لما ذكرنا أنها واجبة، وترك الواجب لا يوجب فساد الصلاة، وعلل محمد رحمه الله في الصلبية لفساد صلاته بالخروج عن المسجد، فقال: لو بقي في الصلاة وقد خرج من المسجد لبقي فيها وقد مشى فرسخًا أو فرسخين، وهذا فسخ محال هذا إذا كان في المسجد.
فإن كان في الصحراء، فإن تذكر قبل أن يجاوز أصحابه عاد إلى مكان الصلاة وأتم الصلاة؛ لأن بحكم اتصال الصفوف صار ذلك الموضع كالمسجد بدليل صحة الاقتداء.
ولم يذكر في (الكتاب) إذا كان يمشي أمامه. وقيل: وقته بقدر الصفوف خلفه اعتبارًا لأحد الجانبين بالآخر، والأصح أنه إذا جاوز موضع سجوده، فذلك في حكم خروجه من المسجد لمنعه من البناء بعد ذلك.
ذكر الإمام السرخسي رحمه الله وقد ذكرنا جنس هذا فيما تقدم: رجل افتتح الصلاة، فقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام فقرأ وسجد ولم يركع، ثم ذكر ذلك قبل أن يصلي الثالثة، فهذا قد صلى ركعة واحدة؛ لأنه لما قام في الركعة الأولى فقرأ وركع، فقد صح هذا الركوع؛ لأنه حصل، بعد قيام وقراءة فوقع معتبرًا إلا أن توقف صحة هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية لم يصح قيامه؛ لأنه إنما يصح القيام من الأولى إلى الثانية بعد تمام الأولى، وهنا قام إلى الثانية قبل تمام الأولى، فلم يصح قيامه، وصار كأنه لم يكن، فالسجدتان لا تكونان معتبرتين من الركعة الثانية؛ لأنهما حصلتا قبل الركوع، والركعة الأولى محتاجة إلى وجود سجدتين، فانصرفت السجدتان إلى الركعة الأولى، فصارت ركعة تامة.
فلو أنه قام وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام في الثانية وركع وسجد ثم قام في الثالثة وسجد سجدتين ولم يركع قال: هذا إنما صلى ركعة واحدة بالاتفاق، إلا أنه اختلفت الروايات أن المعتبر هي الركعة الأولى، وفي رواية باب السهو: المعتبر هي الثانية.
وجه رواية باب الحدث وهو أنه لما قام وركع، فقد وقع هذا الركوع موقعه إلا أنه يوقف هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا لم يسجد وقام إلى الثانية لم يصح قيامه، وصار كأنه لم يكن، فالتحقت السجدتان بالركعة الأولى، فصارت ركعة تامة وبطلت الثانية والثالثة.
وجه رواية باب السهو وهو أنه لما قام إلى الثانية وركع وسجد، فقد وقعت هذه السجدة محلها؛ لأنها حصلت بعد قيام وركوع، ومن ضرورة وقوعها محلها بطلان الأولى، فكانت المعتبرة هي الركعة الثانية وبطلت الثالثة أيضًا؛ لأن هذه سجدة حصلت قبل الركوع، فلا يكون معتبرًا.
فلو أنه قام وسجد ولم يركع ثم قام في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام في الثالثة وركع وسجد، قال: هذا صلى ركعة واحدة أما في رواية باب الحدث: المعتبر هي الركعة الثانية؛ لأنه لما قام وسجد ولم يركع لا تكون هذه السجدة معتبرة؛ لأنها حصلت قبل الركوع، فلما قام إلى الثانية وركع صح هذا الركوع؛ لأنه حصل بعد قيام، إلا أنه توقف صحة هذه الركعة على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثالثة لم يصح قيامه وركوعه؛ لأنه قام وركع قبل تمام الثانية، فصار كأنه لم يقم ولم يركع وسجد سجدتين، والركعة الثانية محتاجة إلى وجود السجدتين، فانصرفت السجدتان إلى الركعة الثانية، فصار المعتبر هي الركعة الثانية، وفي رواية باب السهو المعتبر هي الركعة الثالثة، والمعنى ما بينا.
فلو أنه قام وركع ولم يسجد ثم قام في الثانية وركع ولم يسجد ثم قام في الثالثة وسجد ولم يركع، فهذا قد صلى ركعة واحدة في الزيادات كلها؛ لأنه لما قام في الأولى وركع ولم يسجد وقع هذا الركوع معتبرًا؛ لأنه حصل بعد قيام وقراءة، فإذا لم يسجد وقام إلى الثانية لم يصح قيامه وركوعه، فإذا قام إلى الثالثة وسجد التحقت السجدتان إلى الركعة الأولى، فصارت ركعة تامة وبطلت الوسطى وعليه سجود السهو في المسائل كلها؛ لأنه أخر ركنًا من أركان الصلاة، وبتأخير الركن تجب سجدتا السهو، ولا تفسد صلاته إلا في رواية عن محمد رحمه الله، فإنه يقول: زيادة السجدة الواحدة كزيادة ركعة، بناءً على أصله أن السجدة الواحدة قربة. بيانه في سجود الشكر.
فأما عند أبي حنيفة، وأبي يوسف رحمهما الله: السجدة الواحدة ليست بقربة إلا سجدة التلاوة، وزيادة ما دون الركعة لا يكون مفسدًا للصلاة إذا سلم وعليه سجدة السهو، فسجدها أو سجد إحديهما ثم أحدث متعمدًا أو قهقهة، فإن صلاته تامة وعليه الوضوء لصلاة أخرى في القهقهة؛ لأن حال ما بعد سجدتي السهو أو بعد إحديهما كحال قعود مقدار التشهد، ولو فعل شيئًا من هذه الأشياء بعدما قعد قدر التشهد لا تفسد صلاته، فكذلك هاهنا إذا اقتدى المتطوع، فصلى الظهر في أول صلاته أو في آخر صلاته قطعها، فعليه قضاء أربع ركعات، وهو قياس المسافر يقتدي بالمقيم في صلاة الظهر ثم يقطعه على نفسه.
فرق بين هذا وبين الرجل إذا افتتح التطوع ينوي أربع ركعات، فلما صلى ركعتين بدا له أن يتمها، فسلم على رأس الركعتين، فإنه لا تلزمه الركعتان عند أبي حنيفة ومحمد، وهو الظاهر من قول أبي يوسف.
افتتح الظهر، فنوى أن يصليها ستًا ثم بدا له وسلم على الأربع تمت صلاته، وكذلك إن دخل المسافر في صلاة الظهر، ونوى أن يصلي أربع ركعات، فبدا له فصلى ركعتين جازت صلاته؛ لأن الظهر في حق المسافر ركعتان كالفجر في حق المقيم فنية الزيادة على ذلك يكون لغوًا، وليس عليه شيء، معناه: لا يجب عليه سجدتا السهو.
افتتح التطوع ونوى ركعتين وصلى ركعة بقراءة وركعة بغير قراءة فسدت صلاته، فإن لم يسلم حتى قام وصلى ركعتين وقرأ فيهما ونوى قضاء عن الأولى، فإنه لا تجزئه وعليه أن يستقبل الصلاة ركعتين، وكذلك إذا صلى الفجر وقرأ في ركعة منها، ولم يقرأ في الأخرى فسدت صلاته، ولو أنه لم يسلم ولكن قام وصلى ركعتين، وقرأ فيهما ونوى قضاء عن الأوليين، فإنه لا تجزئة وعليه أن يستقبل الصلاة.
وفي (نوادر أبي سليمان) عن محمد: رجل افتتح الصلاة قاعدًا من غير عذر ثم قام يصلي بذلك التكبير لم تجزئه صلاته، ولو افتتح قائمًا ثم قعد من غير عذر، فجعل يركع مع الإمام وهو قاعد ويسجد، قال: لا تجزئة، وإن كان لم يسجد بالأرض، لكنه أومأ إيماءً، فإنه يقوم، ويتبع الإمام في صلاته وهي تامة، أي صلاته تامة، وقد أتى فيما فعل يريد بقوله: يقوم ويتبع الإمام في صلاته، أنه إذا أومأ بالركوع والسجود ولم يسجد ينبغي له أن يقوم ويركع ويسجد ليصير إتيانًا للمأمور به وصلاته تامة؛ لأنه لم يوجد منه سوى الإيماء وبمجرد الإيماء لا تفسد صلاته، وقوله: وقد أساء فيما فعل، معناه: وقد أساء فيما أومأ أول مرة والله أعلم.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد رحمه الله: إذا قعد على رأس الرابعة في ذوات الأربع، ثم سها وقام إلى الخامسة، فجاء إنسان واقتدى به يريد التطوع، فعليه قضاء ست ركعات، لأنها صلاة واحدة.
وفي (نوادر بشر بن الوليد) عن أبي يوسف: إذا سلم الإمام عن يمينه وعليه سجدتا السهو، فجاء إنسان واقتدى به في هذه الحالة يريد التطوع، ثم تكلم قبل أن يسجد الإمام، فليس عليه شيء وإن سجد الإمام ولم يسجد الرجل معه ثم تكلم، فعليه قضاء الأربع، وهذا لأن السلام محلل قاطع حرمة الصلاة، إلا أنه إذا كان عليه سهو تعود حرمة الصلاة إذا سجد، وإذا لم يسجد لم تعد، وظهر أن الاقتداء لم يصح، فلا يلزمه شيء.
وفي (نوادر ابن سماعة) عن محمد: لو أن رجلًا مسافرًا صلى ركعتين ولم يقعد على رأس الثانية حتى قام ساهيًا، وهو يظن أنه صلى ركعة، فدخل رجل معه في هذه الحالة يريد التطوع، ثم إن الإمام أخبر بما صنع فقطع صلاته، فعلى هذا الداخل معه أن يصلي ركعتين، وإن قعد المسافر على رأس الثانية ثم قام ساهيًا أو عامدًا وصلى ركعتين تمام الأربع، فدخل معه هذا الرجل في صلاته يريد التطوع، فعليه أربع ركعات.
وفي (الرقيات): عن ابن سماعة عن محمد افتتح الرجل صلاة ينويها ظهرًا ظنها عليه، ثم دخل معه رجل في آخر صلاته يريد التطوع ثم رفضها الإمام، وأفسدها لما علم أنه ليس عليه، فلا شيء عليه ولا على الداخل.
الإمام إذا قام إلى الخامسة ناسيًا قبل أن يقعد على رأس الرابعة في ذوات الأربع ثم عاد الإمام إلى القعدة ولم يعد المقتدي وقيد الخامسة بالسجدة، جازت صلاة الإمام. واختلفوا في صلاة المقتدي، والإعادة أحوط.
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «من جمع بين صلاتين بغير عذر، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر»، هكذا ذكره الفقيه أبو جعفر رحمه الله قال رحمه الله: والنوم ليس بتفريط، وروي عن رسول الله عليه السلام: «وإنما التفريط أن يدع الرجل الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى».
وفي (متفرقات أبي جعفر): أن رجلًا جاء والإمام لم يسجد بعد فكبر، ولم يشاركه في الركوع حتى رفع الإمام رأسه، قال: يسجد معه على سبيل المتابعة، قال: ولهذا قلنا: إن الرجل إذا أدرك الإمام وهو قائم، فكبر وركع الإمام ولم يركع هو معه، وسجد الإمام ولم يسجد هو معه أيضًا ولم يتابعه حتى تفرد وأدى الركوع والسجدتين جميعًا في حالة الانفراد، لا تفسد صلاته، وكذلك لو جاء والإمام راكع، فلم يتابعه في الركوع حتى رفع رأسه ثم تفرد بالركوع جازت صلاته.
رجل معه ثوبان بأحدهما نجاسة خفيفة لا يعلم بأيهما، فصلى في إحدى الثوبين الظهر وفي الآخر العصر، وفي الأول المغرب، وفي الآخر العشاء، ذكر هذه المسألة في (متفرقات الفقيه أبي جعفر رحمه الله)، وذكر أن فيها ثلاثة أجوبة عن أصحابنا رحمهم الله.
روي في كتاب (التحري) عن علمائنا المتقدمين أن صلاة الظهر والمغرب جائزتان، وصلاة العصر والعشاء فاسدتان، وروي عن خلف بن أيوب أن صلاة الظهر جائزة وما سواها فاسدة، وعن أبي القاسم أحمد بن... أن الصلوات كلها جائزة.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله......... إنه إنما اختلفت أجوبتهم لا ختلاف الوضع، فمن قال بأن الصلوات كلها جائزة، فوضع المسألة عنده أن هذا الشخص حال ما أراد أن يصلي الظهر تحرى، ووقع تحريه على أحد الثوبين أنه هو الطاهر بعلامة رأى فيه، فصلى فيه الظهر ثم ظهر عنده أن الثوب الثاني هو الطاهر بعلامة رأى فيه حال ما أراد أن يصلي العصر، فصلى العصر في الثوب الآخر، ثم ظهر عنده حال ما أراد أن يصلي المغرب أن الطاهر هو الثوب الأول، فصلى فيه المغرب، ثم ظهر عنده حال ما أراد أن يصلي العشاء أن الطاهر هو الثوب الثاني، فصلى العشاء في الثوب الثاني، وإنما جازت الصلاة كلها في هذه الصورة؛ لأن اجتهاد الرأي إذا افضى إلى طهارة ثوب يجب عليه أن يصلي فيه، ولا يسعه غير ذلك، فقد صلى في كل ثوب بإيجاب الشرع أداء الصلاة فيه فيجوز.
ومن قال بجواز صلاة الظهر والمغرب وبفساد العصر والعشاء، فوضع المسألة عنده أنه تحرى ووقع تحريه على أحد الثوبين، أنه طاهر من غير أن يرى فيه علامة تدل على طهارته، فصلى فيه الظهر، ثم صلى العصر في الآخر من غير تحر ومن غير أنه وقع في رأيه أنه هو الطاهر، ثم صلى المغرب ولم يعلم بأن عليه إحدى الصلاتين الأوليين ثم صلى العشاء، وإنما جاز ظهره في هذه الصورة لأنه أداها في ثوب طاهر عنده، وإنما فسد العصر لأنه أداها في ثوب نجس عنده، وهو غير مضطر إلى الصلاة فيه.
وإنما جاز المغرب، لأنه صلاها وفي زعمه أنه ليس عليه فائتة وإنما فسدت العشاء لأنه صلاها في حين حكمنا بنجاسته حين حكمنا بجواز الظهر، وهو غير مضطر في الصلاة فيه باجتهاده ورأيه.
ومن قال بجواز الظهر وبفساد ما عداها من الصلاة، فوضع المسألة على قوله: أنه صلى الظهر في أحد الثوبين من غير تحر، ثم صلى العصر من غير تحر في الثوب الآخر، ثم صلى المغرب وهو يعلم بفساد العصر ثم صلى العشاء والله تعالى أعلم.
مسائل هذا الكتاب مبنية على أصول معروفة في كتاب الصلاة:
أحدها: أن الترتيب في أركان الصلاة شرط أدائها إلا فيما شرعت مكرّرة كالسجدتين، فإن الترتيب في أداء السجدتين ليس بشرط، حتى لو أتى بالسجدة الأولى في آخر الصلاة تجزئه، ولا تفسد صلاته، وإنما لم يشترط الترتيب فيهما بالنص واعتبارًا بالركعات، فإن الترتيب في أداء الركعات ليس بشرط لما كانت الركعات مكررة حتى إنه لو أدرك الإمام في الركعة الثانية من صلاة الفجر وصلى معه، فإنه تجزئه، وإن صلى الثانية قبل الأولى.
وأصل آخر: أن المتروكة إذا قضيت التحقت بمحلها وصارت كالمؤداة في محلها.
وأصل آخر: أن سلام السهو لا يخرج المصلي عن حرمة الصلاة.
وأصل آخر: أن تأخير الركن يوجب سجدتي السهو.
وأصل آخر: أن السجدة إذا فاتت عن محلها لا تجوز إلا بنية القضاء، ومتى لم تفت عن محلها تجوز دون نية القضاء، وإنما تفوت عن محلها فتحلل ركعة كاملة، وبما دون الركعة الكاملة لا تفوت عن محلها، لأن ما دون الركعة محل الرفض، فكان في حكم العدم، والركعة الكاملة ليست بمحل الرفض، فلا تكون في حكم العدم.
وأصل آخر: أن زيادة ما دون الركعة الكاملة، لا يوجب فساد الصلاة، وزيادة الركعة الكاملة توجب فساد الصلاة إذا كانت الزيادة قبل إكمال أركان الفريضة، ومعنى زيادة ما دون الركعة الكاملة زيادة ركوع أو زيادة سجدة، ومعنى زيادة الركعة الكاملة ركوع وسجدة. وعن محمد أن زيادة السجدة الواحدة قبل إكمال الفريضة يفسدها.
وأصل آخر: أن الصلاة متى جازت من وجه وفسدت من وجه أو جازت من وجوه وفسدت من وجه يحكم بالفساد احتياطًا، لأمر المعتاد حتى يخرج عن عهدة ما لزمه دينًا في الذمة بيقين.
وأصل آخر: أن المأتي بها من السجدات إذا كان أقل من المتروكات فإنه يخرج المسألة عن اعتبار المأتي بها، وإن كانت المتروكات أقل من المأتي بها، فإنه يخرج المسألة على اعتبار المتروكات؛ لأن التخريج على الأقل أسهل، وإن كانا على السواء، فالمصلي به بالخيار إن شاء خرج المسألة على اعتبار المأتي بها، وإن شاء خرج المسألة على اعتبار المتروكة.
وأصل آخر: إذا شك أنه ترك سجدة أو ركعة، فإنه يأتي بهما احتياطًا ليخرج عن عهدة ما عليه بيقين، وينبغي أن يقدم السجدة على الركعة، ولو قدم الركعة على السجدة تفسد صلاته، وإنما تفسد صلاته إذا قدم الركعة على السجدة؛ لأنه ربما يكون المتروك السجدة، فإذا أتى بالركعة يصير منتقلًا من الفرض إلى النفل قبل إكمال الفرض، وإنه يتوجب فساد الصلاة، وأما إذا قدم السجدة على الركعة لا تفسد صلاته؛ لأنه إن كان المتروك هي السجدة، فإذا أتى بالسجدة فقد تمت صلاته، فبالإتيان بالركعة بعد ذلك يصير منتقلًا إلى الفعل بعد إكمال الفرض، وذلك لا يوجب فساد الصلاة، وإن كان المتروك الركعة، فإذا أتى بالسجدة تقع هذه السجدة زائدة وزيادة سجدة واحدة لا تفسد الصلاة، فلهذا قلنا: إنه يقدم السجدة، فإذا سجد يتشهد ثم يقوم ويصلي ركعة ثم يتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو.
قال محمد رحمه الله: رجل صلى الغداة وترك منها سجدة، فإنه يسجد تلك السجدة سواء علم أنه تركها من أي ركعة، وإذا أتى بها تمت صلاته إذ ليس فيه أكثر من أن يترك الترتيب في السجدة، أو أخر ركنًا بعذر إلا أن الترتيب في السجدة ليس بشرط، وتأخير الركن بعذر غير جائز، فبعد ذلك ينظر إن علم أنه تركها من الركعة الأولى ينوي القضاء؛ لأنها فاتت عن محلها، أوإن علم أنه تركها من الركعة الثانية لا ينوي القضاء؛ لأنها لم تفت عن محلها، وإن لم يعلم أنه تركها من أي ركعة ينوي القضاء؛ لأن على أحد تقديرين يلزمه فيه القضاء، وعلى التقدير الآخر لا يلزمه فيه القضاء، فقلنا بأنه ينوي القضاء احتياطًا، ويستوي إن ذكرها قبل السلام أو بعده في الحالين جميعًا إذا سجد تلك السجدة تمت صلاته؛ لأن هذا سلام السهو؛ لأنه سلم وعليه ركن من أركان الصلاة، فلم يخرج عن حرمة الصلاة، فيصير مؤديًا السجدة في حرمة الصلاة، فتتم صلاته لهذا.
ثم إذا سجد ينبغي أن يعقد قدر التشهد؛ لأن تلك القعدة قد ارتفعت بالعود إلى السجدة؛ لأن محل السجدة قبل القعدة فترتفض القعدة بالعود إلى السجدة، ليكون إتمامًا لسجدة في محلها ثم يسلم ويسجد سجدتي السهو لها لتأخير ركن عن محله أو لزيادة قعدة أتى بها في الصلاة.
وإن ترك سجدتين منها، فهذه المسألة على أربعة أوجه:
إن علم أنه تركها من الركعة الأولى، فعليه أن يصلي ركعة واحدة بكمالها؛ لأن هذا الرجل ما صلى ركعة واحدة؛ لأنه أتى بركوعين؛ أحدهما: في الركعة الأولى، والثاني: في الركعة الثانية ثم أتى بسجدتين عقيبهما فهاتان السجدتان تنقلان إلى الركوع الأول على رواية باب الحدث وإن نقص الركوع الثاني، وعلى رواية باب السهو هاتان السجدتان للركوع الثاني ويرتفض الركوع الأول، وكيف ما كان يصير مصليًا ركعة واحدة، فيصلي ركعة أخرى.
وإن علم أنه تركهما من الركعة الثانية، فإن عليه أن يسجد سجدتين حتى يتم الركعة الثانية، ويقعد قدر التشهد ويسلم ويسجد للسهو، وإن علم أنه تركهما من ركعتين، فإنه يسجد سجدتين ينوي بالأولى قضاء ما عليه، ولا ينوي بالثانية قضاء ما عليه، ثم يقعد قدر التشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن لم يعلم أنه تركهما من أي ركعة، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه تلزمه سجدتان من وجهين: وهو ما إذا تركهما من ركعتين أو من الركعة الثانية، وتلزمه ركعة من وجه، وهو ما إذا تركهما من الركعة الأولى، فيجمع بينها احتياطًا، وينبغي أن يقدم السجدتين على الركعة؛ لأنه لو قدم الركعة على السجدتين، والواجب عليه سجدتان تفسد صلاته لانتقاله إلى النفل قبل إكمال الفرض، وإذا قدم السجدتين فالواجب عليه ركعة لا تفسد صلاته؛ لأن زيادة السجدة والسجدتين قبل إكمال الفرض لا تفسد الفرض، فلهذا قلنا بتقديم السجدتين وينوي بالسجدة الأولى قضاء ما عليه؛ لجواز أنه ترك من كل ركعة سجدة، فتكون السجدة الأولى قضاء ما عليه لفواتها عن محلها، فتلزمه نية القضاء، ولا تلزمه نية القضاء بالسجدة الثانية؛ لأنها لم تفت عن محلها.
وإذا سجد سجدتين يقعد بعدها قدر التشهد لا محالة؛ لجواز أن عليه سجدتين لا غير، وقد أتى بها فيفرض القعدة........ عقيبهما إذ قعدة الختم فرض تفسد الصلاة بتركها، ولو كان الواجب عليه الركعة لا غير، فزيادة التشهد لا يضره، فيقعد عقيب السجدتين قدر التشهد لهذا، ثم يقوم ويصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
فإن قيل لماذا لا نأمره بركعة أخرى حتى لا يكون متنفلًا بركعة واحدة إن كان الواجب عليه سجدتان لا غير؟
قلنا: لوجوه: أحدها: أن الركعة الأخرى متردد بين البدعة والتطوع وما تردد بين البدعة والتطوع لا يؤتى به، فأما الركعة الأولى يتردد بين الفرض وبين البدعة، وما يتردد بين الفرض والبدعة يؤتى بها، وهو أصل معروف في كتاب الصلاة، ولأنه يصير متطوعًا بعد الفجر قبل طلوع الشمس، وذلك منهي عنه، ولأنه كما يتوهم أن يكون متنفلًا بركعة إذا سلم عليها؛ لجواز أن يكون الواجب عليه سجدتان يتوهم ذلك إذا أضاف إليهما ركعة أخرى، لجواز أن الواجب عليه قضاء ركعة، فلا معنى للاشتغال بهذا.
وإن ترك ثلاثة سجدات ذكر في (الكتاب) أنه يسجد سجدة، ويصلي ركعة.
ووجه ذلك: أن هذا الرجل في الحقيقة ما سجد إلا سجدة واحدة، وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتمامًا لتلك الركعة، ثم لا يقعد بعد هذه السجدة، لأنه متيقن أنه لم يتم صلاته، ولكنه يصلي ركعة ثم يقعد ويسلم ويسجد للسهو.
وكان الفقيه أبو جعفر رحمه الله يقول: ما ذكر محمد رحمه الله من الجواب في هذه الصورة خطأ، والصحيح أنه تلزمه ثلاث سجدات وركعة؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات، وهو أن يكون المقيد بالسجدة الركعة الأولى، فيسجد سجدة أخرى تتميمًا لتلك الركعة، ثم يسجد سجدتين أخراوين للركعة الثانية ويتم صلاته، ومن وجه تلزمه سجدة وركعة، وهو أن يكون إنما أتى بالسجدة عقيب الركوع الثاني، فإذا سجد سجدة أخرى فهاتان السجدتان تنتقلان إلى الركوع الأول، ويرتفض الركوع الثاني، أو يصيران للركوع الثاني، ويرتفض الركوع الأول على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصليًا ركعة، فلزمه أن يصلي ركعة أخرى، فهو معنى قولنا: إنه تلزمه ثلاث سجدات من وجه، وركعة وسجدة من وجه، فيجمع بين الكل احتياطًا، ويقدم السجدات على الركعة.
ولو قدم الركعة على السجدات، تفسد صلاته، ويتشهد عقيب السجدات؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات لا غير، فتكون هذه القعدة قعدة الختم، وقعدة الختم فرض ثم يصلي ركعة ويقعد بعدها؛ لأنه من وجه عليه سجدة وركعة، فتكون هذه الركعة ثانية صلاته، فتفترض القعدة بعدها.
ومن المشايخ من قال: ما ذكر محمد من الجواب صحيح، ولكن يصرف تأويله أن يكون مراده من قوله يسجد سجدة ينوي بها أن يكون عن الركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنه إن نوى أن تكون هذه السجدة عن الركعة التي قيدها بالسجدة تلتحق هي بتلك الركعة ويصير هو مصليًا ركعة واحدة، فيلزمه ركعة أخرى، وإذا أتى بها تتم صلاته.
وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات لم يذكر محمد رحمه الله هذا الفصل في (الكتاب).
قال مشايخنا رحمهم الله؛ وينبغي أن يلزمه سجدتان وركعة؛ لأن هذا الرجل أتى بركوعين ولم يسجد أصلًا، فإذا سجد سجدتين، فهاتان السجدتان تلتحقان بالركوع الأول أو بالركوع الثاني على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصليًا ركعة واحدة، فيصلي ركعة أخرى حتى تتم صلاته.
رجل صلى المغرب ثلاث ركعات وترك منها سجدة ثم تذكرها، فإنه يأتي بها ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو لما مر، وينبغي أن ينوي بهذه السجدة قضاء ما عليه لجواز أنه تركها من الركعة الأولى أو من الركعة الثانية، فإن على هذا التقدير يجب عليه نية القضاء؛ لأنها فاتت عن محلها، يجوز أنه تركها من الركعة الثالثة، وعلى هذا التقدير لا تلزمه نية القضاء، إلا أن نية القضاء إذا لم تكن قضاء لا يضره، وترك نية القضاء إذا كان قضاء تفسد الصلاة، فأتى بها احتياطًا.
ولو تذكر أنه ترك منها سجدتين ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه إن تركهما من ركعتين أو من الركعة الأخيرة تلزمه سجدتان، وإن تركها من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فعليه ركعة فيجمع بين الكل احتياطًا، ويقدم السجدتين على الركعة وينوي بهما القضاء، لجواز أنه تركهما من الركعة الأولى أو الثانية أو من الأولى والثانية وصارتا دينًا عليه ويقعد بعد السجدتين؛ لأن صلاته قد تمت إن تركهما من الركعة الأخيرة أو من ركعتين ثم يقوم ويصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد سجدتي السهو.
وإن تذكر أنه ترك منها ثلاث سجدات، فعليه أن يسجد ثلاث سجدات، ثم يصلي ركعة؛ لأنه من وجه تلزمه ثلاث سجدات، وهو ما إذا تركها من ثلاث ركعات، أو ترك سجدتين من الركعة الأخيرة، وسجد من ركعة قبل الركعة الأخيرة، ومن وجه عليه ركعة وسجدة، وهو ما إذا ترك سجدتين من ركعة قبل الركعة الأخيرة، وسجدة من ركعة، فيجمع بين الكل احتياطًا، فإذا سجد سجدة، فقعد على وجه الاستحباب لا على وجه الفرض؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعة، فهذه قعدة على رأس الركعتين من وجه. والقعدة على رأس الركعتين في ذوات الأربع والثلاث واجبة، ومن وجه عليه ثلاث سجدات لا غير فهذه القعدة تكون بدعة، فالقعدة بعد السجدة الواحدة ترددت بين البدعة والواجب، وقد عرف أن ما تردد بين البدعة وبين الواجب يستحب الإتيان بها، ثم يسجد سجدتين أخراوين، ويقعد على وجه الفرض؛ لأنه قد تمت صلاته إن كان عليه ثلاث سجدات لا غير، ثم يصلي ركعة ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات يسجد سجدتين ويصلي ركعتين.
وتخريج المسألة على اعتبار المأتي بها، فنقول: هذا الرجل أتى بسجدتين، وإن كان أتى بها في ركعتين، فعليه سجدتان وركعة، وإن كان أتى بها في ركعة، فعليه ركعتان، فيجمع من الكل احتياطًا ويبدأ بالسجدتين ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الفرض بالطريق الذي قلنا قبل هذا، ثم يصلي ركعة، ويقعد لا محالة؛ لأن صلاته قد تمت إن كان أتى بالسجدتين في ركعتين ثم يصلي ركعة أخرى؛ لأن من وجب عليه ركعتان، فهذا آخر صلاته، فيقعد لا محالة ثم يسلم ويسجد للسهو على نحو ما ذكروا.
وإن تذكر أنه ترك منها خمس سجدات، فهذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة، فيسجد سجدة أخرى إتمامًا لتلك الركعة ثم يقوم، ويصلي ركعتين يقعد بينهما، وهذه القعدة سنّة، ويقعد بعدهما وهذه القعدة فرض.
قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: هذا الجواب غلط، وينبغي أن يقال: يلزمه ثلاث سجدات وركعتين؛ لأن من وجه تلزمه ثلاث سجدات وركعة بأن قيد الركعة الأولى بالسجدة، فيسجد سجدة إتمامًا لتلك الركعة، ثم يسجد سجدتين ويلتحقان بالركوع الثاني أو الثالث، فيصير مصليًا ركعتين ثم تلزمه ركعة أخرى إتمامًا لصلاته، فمن هذا الوجه تلزمه ثلاث سجدات وركعة، ومن وجه آخر تلزمه سجدة وركعتان، فإن قيد الركوع الثاني أو الثالث بالسجدة، فيلزمه سجدة إتمامًا لتلك الركعة ويصير مصليًا ركعة، فيلزمه ركعتان أخراوان فيجمع بين الكل احتياطًا.
ومن المشايخ من قال بأن ما ذكر من الجواب في (الكتاب) صحيح يصرف تأويله أن يكون مراد محمد من قوله يسجد سجدة تعيين إلحاقها بالركعة التي قيدها بالسجدة؛ لأنها حينئذٍ تلتحق بتلك الركعة ويصير مصليًا ركعة واحدة، فيلزمه ركعتين أخراوين.
وإن تذكر أنه ترك منها ست سجدت لم يذكر هذا الفصل في (الكتاب).
قال مشايخنا: وينبغي أن يسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ركع ثلاث ركوعات ولم يسجد أصلًا، فتوقف كل ركوع على وجود السجدتين، فيسجد سجدتين إتمامًا لركعة واحدة، ثم يصلي ركعتين أخراوين ويتم صلاته.
رجل صلى الظهر أربع ركعات وتذكر أنه ترك منها سجدة، فإنه يسجد تلك السجدة، وينوي بها قضاء ما عليه، ويتشهد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك سجدتين ولم يقع تحريه على شيء، فإنه يسجد سجدتين ويصلي ركعة؛ لأنه من وجه تلزمه سجدتان من ركعتين أو من الركعة الأخيرة، ومن وجه تلزمه ركعة بأن تركهما من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فيجمع بين الكل احتياطًا، ويبدأ بالسجدتين وينوي بهما قضاء ما عليه، ويتشهد بعد السجدتين لا محالة؛ لأن من وجه عليه سجدتان لا غير، فمن هذا الوجه هذا تمام صلاته ثم يصلي ركعة ويتشهد بعدها لا محالة؛ لأن من وجه عليه الركعة، فمن هذا الوجه هذا تمام صلاته.
وإن تذكر أنه ترك ثلاث سجدات سجد ثلاث سجدات وصلى ركعة، لأن من وجهين عليه ثلاث سجدات لا غير، وهو ما إذا تركهن من ثلاث ركعات أو ترك ثنتين منها من الركعة الأخيرة، ومن وجه عليه سجدة وركعة، وهو ما إذا ترك ثنتين منها من ركعة قبل الركعة الأخيرة، فيجمع بين الكل احتياطًا ويقدم السجدات على الركعة ويقعد بعدهن لا محالة، لجواز أنه تمت صلاته ثم يصلي ركعة ويقعد عقبهما لا محالة، لجواز أن صلاته تمت الآن.
وإن تذكر أنه ترك أربع سجدات يسجد أربع سجدات ويصلي ركعتين؛ لأنه إن تركهن من أربع ركعات أو ترك ثنتين منها من الركعة الأخيرة وثنتين منها من الركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه أربع سجدات لا غير، وإن ترك ثنتين منها من ركعة قبل الركعة الأخيرة وثنتين منها من ركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه ركعة وسجدتان، وإن تركهن من ركعتين قبل الركعة الأخيرة، فعليه قضاء ركعتين، فيجمع بين الكل احتياطًا، فيجسد أربع سجدات، ويقعد بعدهن؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الثاني، ثم يصلي ركعة أخرى ويقعد؛ لأن هذا آخر صلاته باعتبار الوجه الثالث.
وإن تذكر أنه ترك خمس سجدات، فهذا الرجل ما أتى إلا بثلاث سجدات، فإن أتى بها في ثلاث ركعات، فعليه ثلاث سجدات وركعة، ثلاث سجدات ليصير مصليًا ثلاث ركعات وركعة ليتم صلاته، وإن أتى بها في ركعتين بأن أتى بثنتين في ركعة، وواحدة في ركعة، فعليه سجدة وركعتان، سجدة ليصير مصليًا ركعتين، وركعتين إتمامًا لصلاته، فيجمع بين الكل احتياطًا، فإذا سجد سجدة قعد بعدها وهذه قعدة مستحبة؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعتان، فمن هذا الوجه تكون هذه القعدة واجبة؛ لأنها على رأس الركعتين، ومن وجه عليه ثلاث سجدات وركعة، فتكون هذه القعدة بدعة، وقد عرفت أن ما تردد بين البدعة وبين الواجب يستحب الإتيان بها، ثم يسجد سجدتين، ولا يقعد عقبيها؛ لأن هذه القعدة تتردد بين البدعة والسنّة، وما تردد بين البدعة والسنّة لا يؤتى به، ثم يصلي ركعة ويقعد عقبها؛ لأن من وجه عليه سجدة وركعة، ومن هذا الوجه هذه الركعة تكون آخر صلاته، ثم يصلي ركعة أخرى ويقعد؛ لأن من وجه عليه ركعتان، ومن هذا الوجه يكون هذا آخر صلاته.
قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ما ذكر من الجواب مستقيم فيما إذا نوى بالسجدات إلحاقها بالركعات التي قيدهن بالسجدة، فأما إذا لم ينو ذلك بل سجد ثلاث سجدات مطلقًا، ينبغي أن تفسد صلاته؛ لأن من الجائز أنه أتى بثلاث سجدات في ثلاث ركعات قبل الركعة الأخيرة، ويقيد كل ركعة بسجدة، فإذا سجد ثلاث سجدات يقيد الركعة الأخيرة بثنتين منها، فإذا صلى بعد ذلك ركعتين يصير منتقلًا من الفرض إلى النفل قبل إكمال الفرض وإنه يوجب فساد الفرض.
فأما إذا نوى إلحاقها بالركعات التي قيدها بالسجدة تلتحق هذه السجدات بتلك الركعات، ويصير مصليًا ثلاث ركعات، فإذا صلى ركعة بعد ذلك يتم صلاته، فإذا صلى بعد ذلك ركعة أخرى، يصير منتقلًا من الفرض إلى النفل في هذه الركعة، ولكن هذا إكمال الفرض، فلا يفسد الفرض.
وإن تذكر أنه ترك ست سجدات، فهذا الرجل إنما أتى بسجدتين، فإن أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعتان وإن أتى بهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات، فيجمع بين الكل احتياطًا، فيسجد سجدتين ويقعد بعدهما على سبيل الاستحباب؛ لأنه صار مصليًا ركعتين من وجه بأن كان عليه سجدتان وركعتان، ثم يقوم ويصلي ركعة ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب أيضًا؛ لأنها ثانية من وجه بأن كان عليه ثلاث ركعات ثم يصلي ركعة، ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب أيضًا؛ لأنها ثانية من وجه بأن كان عليه ثلاث ركعات ثم يصلي ركعة ويقعد عقيبهما على سبيل الفرض؛ لأن هذه رابعة من وجه فتفترض عليه القعدة.
قال بعض مشايخنا: ما ذكر من الجواب مستقيم إذا نوى بالسجدتين إلحقاهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة، فأما إذا لم ينوِ الإلحاق ينبغي أن تفسد صلاته على ما ذكرنا قبل هذا.
وإن تذكر أنه ترك سبع سجدات، فهذا الرجل لم يأت إلا بسجدة واحدة، والسجدة الواحدة لا تتقيد بها إلا ركعة واحدة، فيأتي بسجدة واحدة ليصير مصليًا ركعة، ثم يصلي بعد ذلك ثلاث ركعات يصلي ركعة ويقعد، وهذه العقدة سنّة؛ لأنها قعدة على رأس الركعتين في ذوات الأربع، وينبغي أن ينوي بالسجدة إلحاقَها بالركعة التي قيدها بالسجدة، ثم يصلي ركعتين ويقعد ويسلم ويسجد للسهو.
وإن تذكر أنه ترك منها ثمان سجدات، فهذا الرجل ركع أربع ركوعات، ولم يسجد أصلًا، فيسجد سجدتين ليصير مصليًا ركعة ثم يصلي ثلاث ركعات والله أعلم.
رجل صلى الغداة ثلاث ركعات وترك منها سجدة فسدت صلاته؛ لأن صلاته تفسد من وجه بأن ترك هذه السجدة من إحدى الركعتين الأوليين؛ لأنه زاد ركعة كاملة وعليه ركن من أركان الفريضة، ولا تفسد من وجه بأن ترك هذه السجدة من الركعة الثالثة؛ لأن زيادة ما دون الركعة الكاملة لا توجب فساد الصلاة، فيحكم بالفساد احتياطًا، وإن ترك سجدتين تفسد صلاته أيضًا؛ لأن صلاته تفسد من وجه بأن ترك هاتين السجدتين من الركعتين الأوليين، أو من إحدى الأوليين، ولا تفسد من وجه بأن ترك اثنتين منها من الركعة الثالثة، فيحكم بالفساد احتياطًا، وإن ترك منها أربع سجدات لا تفسد صلاته.
فالأصل في جنس هذه المسائل: أن المأتي بها من السجدات إذا كانت أقل من المتروكات، لا يحكم بالفساد كما في هذه المسألة، ومتى كانت المتروكات أقل من المأتي بها يحكم بالفساد كما في المسائل المتقدمة، وهذا لأن الفساد فيما إذا كانت المتروكات أقل باعتبار أنه زاد ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة. وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا كان المأتي بها أقل.
بيان ذلك: فيما إذا كان المتروك أربع سجدات أن يقول: هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، ولا يتقيد بالسجدتين إلا ركعتين، فقد تيقنا أنه ما زاد ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة، فلا يحكم بالفساد.
ثم كيف يصنع؟ قال: يسجد سجدتين، ويصلي ركعة؛ لأن من وجه عليه سجدتان لا غير، وهو ما إذا أتى بالسجدتين في ركعتين، ومن وجه عليه ركعة، وهو ما إذا أتى بالسجدتين في (ركعتين)، فيجمع بينهما احتياطًا، فيسجد سجدتين ويقعد عقبيهما لا محالة؛ لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة، وينبغي أن ينوي بالسجدتين إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة، أما بدون النية، ينبغي أن تفسد صلاته؛ لأنه يجوز أنه أتى بالسجدتين في الركعتين الأوليين في كل ركعة سجدة، فتوقف الركوع الثالث بهما، ويصير زائدًا ركعة كاملة قبل إكمال أركان الفريضة، فتفسد صلاته.
وإن ترك خمس سجدات، فكذلك لا يحكم بفساد الصلاة؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا يتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتمامًا لتلك الركعة، وينبغي أن ينوي بهذه السجدة إلحاقها بتلك الركعة التي تقيدت بالسجدة، ثم يصلي ركعة ويتم صلاته.
وإن ترك منها ست سجدات لا تفسد صلاته أيضًا؛ لأن هذا الرجل ركع ثلاث ركوعات، ولم يسجد أصلًا فيسجد سجدتين إتمامًا لركعة واحدة، ثم يصلي ركعة ويتم صلاته.
رجل صلى الظهر خمس ركعات، وترك منها سجدة تفسد صلاته، وكذلك إذا ترك منها سجدتين أو ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا تفسد صلاته، وطريق الفساد أنه يصير منتقلًا إلى النفل قبل إكمال أركان الفريضة على نحو ما بينّا في المسألة المتقدمة.
وإن ترك ست سجدات لا تفسد صلاته، لأن هذا الرجل ما أتى إلا بأربع سجدات ولا يتقيد بالسجدات الأربعة أكثر من أربع ركعات، فلا يصير منتقلًا إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض، ثم وجه الإتمام أن يسجد أربع سجدات، ويصلي ركعتين؛ لأن من وجه عليه قضاء أربع سجدات وهو أن يكون أتى في كل ركعة بسجدة، ومن وجه عليه قضاء ركعة وسجدتين، وهو أن يكون أتى في ركعتين في كل ركعة بسجدة، وفي ركعة أخرى بسجدتين، ومن وجه عليه قضاء ركعتين، وهو أن يكون أتى بأربع سجدات في ركعتين في كل ركعة بسجدتين، فيجمع بين الكل احتياطًا، فيسجد أربع سجدات ثم يقعد لا محالة لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد لا محالة، لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الثاني ثم يصلي ركعة أخرى، ويقعد لا محالة؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الثالث.
قال بعض مشايخنا ما ذكر من الجواب في (الكتاب) محمول على ما إذا نوى بالسجدة التي يأتي بها إلحاقها بالركعات التي قيدها بالسجدات، أما إذا لم ينوِ ينبغي أن تفسد صلاته على نحو ما بينّا قبل هذا.
وإن ترك سبع سجدات لا تفسد صلاته أيضًا، ويسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بثلاث سجدات فإن كان أتى بها في ثلاث ركعات في كل ركعة سجدة، فعليه ثلاث سجدات وركعة، وإن كان أتى بسجدتين في ركعة أو بسجدة في ركعة، فعليه سجدة وركعتان، فيجمع بين الكل احتياطًا ثم طريق الإتمام أن يسجد ثلاث سجدات أولًا، ويقعد بعد الأولى على طريق الاستحباب، ولا يقعد بعد الثلاث لا على وجه الاستحباب ولا على وجه الفرض، ثم يصلي ركعة ويقعد على سبيل الفرض؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الأول ثم يصلي ركعة ويقعد؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الثاني.
ولو ترك منها ثمان سجدات لا تفسد صلاته أيضًا، ويسجد سجدتين ويصلي ثلاث ركعات؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعتان، وإن كان أتى بهما في ركعة فعليه ثلاث ركعات فيجمع بين الكل احتياطًا، فيسجد سجدتين ويقعد بعدهما على سبيل الاستحباب لأن من وجه عليه سجدتان وركعتان، فيكون ما بعد السجدتين موضع قعوده المستحب، ثم يصلي ركعة ويقعد أيضًا على وجه الاستحباب دون الفرض، لأن من وجه عليه ثلاث ركعات، فيكون ما بعد هذه الركعة موضع قعوده المستحب، ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى على سبيل الفرض؛ لأن من وجه عليه سجدتان وركعتان، فيكون آخر صلاته ثم يقوم ويصلي ركعة أخرى، ويقعد على سبيل الفرض؛ لأن من وجه عليه ثلاث ركعات، فيكون هذا آخر صلاته، وينبغي أن ينوي بالسجدتين اللتين يأتي بهما إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة لما ذكرنا قبل هذا.
وإن ترك منها تسع سجدات لا تفسد صلاته أيضًا، وهذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة، وبالسجدة الواحدة لا تتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد أخرى ينوي إلحاقها بالركعة التي قيدها بالسجدة؛ إتمامًا لتلك الركعة، ثم يصلي ركعة ويقعد، وهذه القعدة سنّة ثم يصلي ركعتين أخراوين ويقعد بعدهما إتمامًا لصلاته.
وإن ترك منها عشر سجدات، فهذا الرجل ركع خمس ركوعات، ولم يأت بشيء من السجدات فيسجد سجدتين ليتم ركعة ثم يصلي ثلاث ركعات بعد ذلك، ويتم صلاته، وكذلك الجواب في العصر والعشاء.
رجل صلى المغرب أربع ركعات وترك منها سجدة فسدت صلاته، وكذلك لو ترك منها سجدتين أو ثلاثًا أو أربعًا فسدت صلاته أيضًا. وطريق الفساد: انتقاله من الفرض إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض على نحو ما بينّا في المسائل المتقدمة.
وإن ترك منها خمس سجدات لا تفسد صلاته؛ لأنه ما أتى إلا بثلاث سجدات، ولا يتقيد بالسجدات الثلاث أكثر من ثلاث ركعات، فلا يصير منتقلًا من الفرض إلى النفل قبل إكمال أركان الفرض، وطريق الإتمام أن يسجد ثلاث سجدات ويصلي ركعة؛ لأنه من وجه يلزمه ثلاث سجدات لا غير، وهو ما إذا أتى بثلاث سجدات في ثلاث ركعات، ومن وجه عليه سجدة وركعة، وهو ما إذا أتى بسجدتين في ركعة وبسجدة في ركعة، فيجمع بين الكل احتياطًا، فيسجد ثلاث سجدات أولًا ويقعد بعدهن؛ لأن صلاته قد تمت باعتبار الوجه الأول، ثم يصلي ركعة ويقعد لاحتمال الوجه الثاني، وينوي بالسجدات التي يأتي بهن إلحاقها بالركعات التي قيدهن بالسجدة لما ذكرنا غير مرة.
وإن ترك ست سجدات لا تفسد صلاته أيضًا، ويسجد سجدتين، ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدتين، فإن كان أتى بهما في ركعتين، فعليه سجدتان وركعة، وإن كان أتى بهما في ركعة فعليه ركعتان، فيجمع بين الكل احتياطًا، فيسجد سجدتين ويقعد عقيبهما على سبيل الاستحباب لا على سبيل الفرض، ثم يصلي ركعة ويقعد على سبيل الفرض؛ لأنه تمت صلاته باعتبار الوجه الأول ثم يصلي ركعة أخرى لاحتمال الوجه الثاني، وينبغي أن ينوي بالسجدتين اللتين يأتي بهما إلحاقهما بالركعتين اللتين قيدهما بالسجدة لما ذكرنا.
وإن ترك سبع سجدات لا تفسد صلاته أيضًا، ويسجد سجدة ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ما أتى إلا بسجدة واحدة وبالسجدة الواحدة لا يتقيد إلا ركعة واحدة، فيسجد سجدة أخرى إتمامًا لتلك الركعة ثم يصلي ركعتين ويقعد بينهما وهذه القعدة سنّة، ويقعد عقيبهما أيضًا وهذه قعدة الختم، وينبغي أن ينوي بالسجدة التي يأتي بها إلحاقها بالركعة التي قيدها لما ذكرنا.
فإن ترك ثمان سجدات لا تفسد صلاته أيضًا، ويسجد سجدتين ويصلي ركعتين؛ لأن هذا الرجل ركع أربع ركوعات ولم يأت بالسجدة أصلًا، فيسجد سجدتين ليصير مصليًا ركعة ثم يصلي ركعتين ويقعد فيهما وهذه القعدة سنّة، ويقعد عقيبهما أيضًا وهذه قعدة الختم.
رجل افتتح الصلاة، وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الثالثة وقرأ وركع ولم يسجد، ثم قام إلى الرابعة وقرأ وسجد ولم يركع، فهذا إنما صلى ركعتين؛ لأنه لما قام وقرأ وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع إلى وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع تلتحق هاتان السجدتان بذلك الركوع باتفاق الروايات، فيصير مصليًا ركعة واحدة فإذا قام إلى الثالثة وقرأ وركع ولم يسجد، توقف هذا الركوع على وجود السجدتين أيضًا. فإذا قام إلى الرابعة وقرأ وسجد ولم يركع التحقت هاتان السجدتان بذلك الركوع أيضًا، باتفاق الروايات، فيصير مصليًا ركعتين.
ولو أنه قام إلى الصلاة وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الثالثة وقرأ وركع وسجد سجدتين ثم قام إلى الرابعة، وقرأ وركع ولم يسجد ثم قام إلى الخامسة، وقرأ وسجد ولم يركع، قال: هذا إنما صلى ثلاث ركعات؛ لأنه لما قام وصلى، وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع إلى وجود السجدتين، فإذا قام إلى الثانية وقرأ وسجد لم يركع، فالتحقت هاتان السجدتان بالركوع المتقدم، فيصير مصليًا ركعة واحدة فإذا قام إلى الثالثة وقرأ وركع وسجد صار مصليًا ركعة أخرى، فيصير مصليًا ركعتين، ثم لما قام إلى الرابعة قرأ وركع ولم يسجد توقف هذا الركوع على وجود السجدتين، فإذا قام إلى الخامسة وقرأ وسجد ولم يركع التحقت هاتان السجدتان بالركوع المتقدم، فيصير مصليًا ركعة أخرى، فيصير مصليًا ثلاث ركعات.
ولو قام إلى الصلاة وقرأ وركع، ولم يسجد ثم قام إلى الثانية وقرأ وركع ولم يسجد أيضًا، ثم قام إلى الثالثة وقرأ وسجد ولم يركع ثم قام إلى الرابعة، وقرأ وركع وسجد، قال: هذا إنما صلى ركعتين؛ لأن في هذه الصورة توقف الركوع الأول والركوع الثاني على وجود السجدتين، فإذا سجد في الركعة الثالثة، ولم يركع تلتحق هاتان السجدتان بالركوع الأول أو بالركوع الثاني على اختلاف الروايتين، وكيف ما كان يصير مصليًا ركعة، ثم لما قام إلى الرابعة وقرأ وركع وسجد صار مصليًا ركعة أخرى، فتبين أنه صار مصليًا ركعتين فيقوم ويصلي ركعتين أخراوين، فتمت صلاته.
رجل افتتح الصلاة خلف الإمام ثم قام حتى صلى الإمام أربع ركعات وترك من كل ركعة سجدة، فلما قعد الإمام في التشهد انتبه هذا الرجل، فأحدث الإمام وتقدم هذا الرجل، فإنه لا ينبغي له أن يتقدم؛ لأن المقصود من الاستخلاف إتمام صلاة الإمام، وغيره أقدر على إتمام صلاة الإمام؛ لأنه لاحِقٌ قد أدرك أول الصلاة، فعليه أن يبدأ بالأَولى فالأَولى، فلهذا لا ينبغي له أن يتقدم. مع هذا لو تقدم جاز؛ لأن صحة الاستخلاف تعتمد المشاركة بين الإمام وبين الخليفة في الصلاة، وهذا شريك في هذه الصلاة فيصح استخلافه.
وينبغي له أن يصلي ركعة بسجدة من غير أن يصلي القوم معه؛ لأنهم قد أدّوا هذه الركعة مع الإمام، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام؛ لأنهم قد أدوا هذه الركعة مع الإمام، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام من تلك الركعة ويسجد القوم معه؛ لأن عليهم قضاء هذه السجدة مع الإمام.
وكذلك يفعل في الركعة الثانية والثالثة والرابعة؛ يصلي كل ركعة منها بسجدة من غير أن يصلي القوم معه، ثم يسجد السجدة التي تركها الإمام من تلك الركعة، ويسجد القوم معه، وإنما وجب عليه تقديم الركعة على السجدة التي تركها الإمام؛ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة، واللاحق يبدأ بالأول فالأول، فإذا أتى بالركعات كلها على نحو ما بينا يتشهد ويسلم ويسجد للسهو ويسجد القوم معه؛ لأنه خليفة الإمام الأول، وعلى الإمام الأول أن يسجد للسهو والقوم يسجدون معه، فكذا هذا الخليفة.
ثم قال في (الكتاب): قلت: إنما تفسد عليه صلاته، قال: ولماذا تفسد؟ قلت: لأن الإمام مرة يصير إمامًا للقوم ومرة غير إمام، وهذا قبيح، قال: ولو كان هذا في ركعة استحسنت أن أجيزه، يريد بهذا أنه لو ترك سجدة من الركعة الأخيرة وقام رجل خلفه عن هذه الركعة، فأحدث الإمام وقدم هذا الرجل والقوم قعود، فإن هذا الرجل يقوم ويصلي ركعة بسجدة، والقوم لا يتابعون في تلك السجدة ولا تفسد عليه صلاته، ذكر هذا السؤال في (الأصل)، ولم يذكر الجواب، ففيه إشارة إلى أن هاهنا قول آخر أنه لو صلى هكذا أنه تفسد عليه صلاته، ووجه ذلك: أن هذا الرجل يصير مقتديًا وإمامًا في صلاة واحدة مرارًا.
بيانه: أنه حين يقوم في الركعة الأولى، فهو في الحكم كان خلف الإمام مقتديًا به؛ لأنه لاحق أدرك أول الصلاة، فإذا أدى الأمر إلى السجدة التي تركها الإمام من الركعة الأولى يصير فيها إمامًا للقوم، ثم إذا قام إلى الركعة الثانية يصير مقتديًا بالإمام الأول، ويخرج من أن يكون إمامًا للقوم، فإذا أدى الأمر إلى السجدة التي تركها الإمام من هذه الركعة يصير إمامًا للقوم فيها، وكذلك في الركعة الثالثة والرابعة.
فهو معنى قولنا: إن هذا الرجل يصير إمامًا ومقتديًا في صلاة واحدة مرارًا، وإنه قبيح، لكن استحسن في الركعة الواحدة؛ لأن في الركعة الواحدة لا يتكرر خروجه من حكم الإمامة وعوده إليه.
قالوا: وينبغي لهذا الرجل على هذا القول إذا أراد أن لا تفسد صلاته أن يسجد تلك السجدات التي تركها الإمام، ويتابعه القوم فيهن، ثم يتشهد ويقدم عليه غيره حتى يسلم بهم ثم يقوم هذا الرجل ويقضي ما فاتته وحده، فلا يؤدي إلى الاستحالة التي ذكرها، إلا أنه يلزمه أمر مكروه، فإنه يصير آتيًا بالسجدة قبل الإتيان بالركوع، وإنه مكروه، والله تعالى أعلم بحقائق الأمور وهو الرحيم الغفور وبه ختم الطهارات والصلاة من المحيط.