فصل: زكاة السوائم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحيط البرهاني في الفقه النعماني



.كتاب الزكاة:

هذا الكتاب يشتمل على سبعة عشر فصلًا:
1- في كيفية وجوبها.
2- في بيان سبب وجوب الزكاة.
3- في بيان مال الزكاة.
4- في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله.
5- في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه.
6- في تعجيل الزكاة.
7- في أداء الزكاة والنية فيه.
8- في المسائل المتعلقة بمن توضع الزكاة فيه.
9- في المسائل المتعلقة بمعطي الزكاة.
10- في بيان ما يمنع وجوب الزكاة.
11- في الأسباب المسقطة للزكاة.
12- في صدقات الشركاء.
13- في زكاة الديون.
14- في المال الذي ينوى ثم يقدر عليه.
15- في المسائل التي تتعلق بالعاشر.
16- في إيجاب الصدقة وما يتصل به من الهدي وأشباهه.
17- في المتفرقات.

.الفصل الأول في كيفية وجوبها:

فنقول: ذكر أبو الحسن الكرخي رحمه الله في كتابه: إنها على الفور، وذكر الحاكم الشهيد في (المنتقى) أنها على الفور عند أبي يوسف ومحمد، وفي موضع آخر في (المنتقى) أنه إذا لم يترك حتى حال عليها حولان، فقد أساء وأثم، وعن محمد إن من لم يؤد الزكاة لم تقبل شهادته، وأن التأخير لا يجوز.
ووجه ذلك: أن الأمر بالأداء إن كان معلقًا إلا أنه تعين الفور، بدليل أن الزكاة إنما وجبت لدفع حاجة الفقر، وحاجته ناجزة.
وقال أبو بكر الرازي رحمه الله: إنها تجب على التراخي، وهكذا روى ابن شجاع، والبلخي عن أصحابنا. قال البلخي رحمه الله: وكذلك الحج، وهذا لأنه ليس في كتاب الله تعالى وما في سنّة رسوله بيان وقت أداء الزكاة، ولا يمكن إتيانه قياسًا؛ لأن شروط العبادة لا تثبت قياسًا كأصلها، فيبقى جميع العمر وقتًا لها كما في قضاء رمضان وكما في الكفارات.

.الفصل الثاني في بيان سبب وجوب الزكاة:

قال المحققون من مشايخنا: سبب وجوب أصلها في الذمة المال، وليس معناه أن الموجب هو المال بل الموجب هو الله تعالى، ولكن معناه: أن الله تعالى جعل المال سببًا لوجوب الزكاة كما أن المروي والمشبع هو الله تعالى، ولكن جعل الماء والطعام سببًا للري والشبع، وعلى قول هؤلاء الخطاب يطلب الأداء لا لأجل الوجوب في الذمة، وعليه اعتمد الإمام أبو منصور الماتريدي في كتاب (مأخذ الشرائع).
وقال بعض مشايخنا: وجوب أصلها في الذمة بالخطاب أيضًا، ويقول به عامة أصحاب الشافعي رحمهم الله؛ لأن المال لا يمكن أن يجعل سببًا؛ لأن المال موجود في حق كثير من الأشخاص، ولا وجوب نحو الذي أسلم في دار الحرب، ومن أشبهه.
وجه قول المحققين من مشايخنا: أنها تضاف إلى المال، والحكم إنما يضاف إلى سببه قضية الأصل؛ لأن الأصل في الإضافات إضافة الحادث إلى سبب الحدوث؛ لأن الإضافة للاختصاص؛ ومعنى الحدوث به سابق على سائر معاني الاختصاص إلا أن الشرع جعل المال سببًا في وضع لا يؤدي إلى الحرج، وفي حق الذي أسلم في دار الحرب يؤدي إلى الحرج لتضاعف الواجبات.
غير أن مطلق المال ليس بسبب، إنما السبب المال النامي؛ لأن الزكاة وجبت بطريق التيسير بأداء عن نماء، ولهذا لم يجب القليل في القليل ولا الكثير في الكثير، ولم يجب مالًا بل وجب القليل في الكثير، ووجب مؤجلًا لا حالًا، وحتى التيسير إنما يتحقق بالأداء من نماء المال حتى يؤدي من عليه الواجب من النماء، ويبقى له أصل المال، غير أن طريق النماء في الحيوانات النسل، وفيما عداها من الأموال التجارة.
غير أنه يسقط اعتبار حقيقة النماء، فإنه أمر خفي تتفاوت فيه أحوال الناس، فأقيم الإسامة به حولًا في الحيوانات مقام حصول النسل؛ لأنه زمان النسل عادة، وأقيم الإمساك بنية التجارة حولًا في غيرها من الأموال سوى الأثمان مقام حصول النماء؛ لأنه زمان حصول النماء عادة، إنما فعلنا ذلك دفعًا للحرج عن الناس والله أعلم.

.الفصل الثالث في بيان مال الزكاة:

فنقول: مال الزكاة الأثمان، وهو: الذهب والفضة وأشباهها، والسوائم وعروض التجارة فنعتبر ذلك نوع نذكر فيه مسائله والأحكام المتعلقة به، فنبدأ ببيان أحكام الذهب والفضة وأشباهها، لأن الحاجة إلى معرفة ذلك أمسّ فنقول:
الزكاة واجبة في الذهب والفضة، مضروبة كانت أو غير مضروبة، نوى التجارة أو، لا إذا بلغت الفضة مائتي درهم، والذهب عشرين مثقالًا، وإذا نقص نقصانًا لا يسيرًا يدخل بين الوزنين لا تجب الزكاة إن كان كاملًا في حق غيره، هكذا ذكر القدوري في (كتابه)، وهذا لأن الزكاة إنما تجب على المال، فيعتبر كمال النصاب في حقه، فإذا كان ناقصًا في حقه لا تجب الزكاة.
والمعتبر في الدراهم وزن سبعة، وهو أن تكون كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل على ما يزن الناس اليوم كما جرى التقدير في ديوان عمر رضي الله عنه، وقيل في تفسير وزن سبعة ما ينقص كل مائة منها سبعة مثاقيل، وعلى هذا القول وزن خمسة ما ينقص كل مائة منها خمس مثاقيل، والأصح هو التفسير الأول.
وأصل ذلك ما حكى الفقيه أبو الليث رحمه الله في (فتاويه) في آخر باب الصلح أن الدراهم على عهد عمر رضي الله عنه كانت على ثلاثة أنواع: نوع اثنا عشر قيراطًا، ونوع عشرون قيراطًا، ونوع عشر قراريط، وكان الدينار على نوع واحد وهو عشرون قيراطًا.
وكان يقع بين الناس الخصومة في مبايعاتهم بالدراهم. فشاور أصحابه في ذلك، فقيل له: خذ من كل نوع ثلثه وأخذ عمر رضي الله عنه ثلث العشرة وثلث اثنا عشر وثلث العشرين، فبلغ ذلك أربعة عشر قيراطًا، فجعل وزن الدراهم أربعة عشر قيراطًا وقدر وزن الدنانير على حالها، فبلغ وزن عشرة دراهم مائة وأربعين قيراطًا كل درهم أربعة عشر، وهو وزن سبعة دنانير كل دينار عشرون قيراطًا، وهذا هو تفسير وزن السبعة في الدراهم.
واختلفوا في وزن الدراهم على عهد رسول الله عليه السلام، فقيل: إنها كانت على وزن ستة، والأصح أنها كانت على وزن خمسة. وكذلك على عهد الصديق ثم صارت وزن سبعة على عهد عمر رضي الله عنه.
وكذلك اختلفوا أن الدراهم متى صارت مدورة؟ والمشهور إنما صارت مدورة على عهد عمر، وقبل ذلك كان على شبه النواة.
وإذا زاد الدرهم على مائتين أو زاد الدينار على عشرين فعلى قول أبي حنيفة: لا شيء في الزيادة في الدرهم حتى يبلغ أربعين درهمًا، وفي الذهب أربعة مثاقيل. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله: تجب فيما زاد بحسابه، وذلك ربع العشر، ويضم الذهب إلى الفضة، والفضة إلى الذهب ويكمل أحد النصابين بالآخر عند علمائنا رحمهم الله؛ لحديث بكر بن عبد لله بن الأشج أنه قال: مضت السنة في ضم الذهب إلى الفضة في باب الزكاة، ولأن الذهب والفضة إن كانا مختلفين صورة فهما متفقان معنى من حيث إنه تعلق بهما وجوب الزكاة، وهو وصف لثمنيته، فجاء تكميل أحدهما بالآخر بخلاف البقر مع الإبل، فإن الزكاة تعلقت بهما باعتبار العين، والأعيان مختلفة حقيقة، ثم قال أبو حنيفة رحمه الله آخرًا: يضم باعتبار القيمة، وقال أبو يوسف ومحمد: يضم باعتبار الأجزاء، يعني به الوزن. وأشار المعلى في (نوادره)، إلى أن أبا يوسف رجع عن هذا القول، وقال: يضم باعتبار القيمة وصورة الكتاب بالأجزاء والوزن أن يكون النصف من هذا وزنًا والنصف من آخر وزنًا، بأن كانت الدراهم مائة والدنانير عشرة أو كان الربع من أحدهما وزنًا، وثلاثة الأرباع من آخر وزنًا بأن كانت الدراهم خمسين والدنانير خمسة عشر، أو كانت الدراهم........... القيمة بأن كانت الدراهم مائة والدنانير خمسة، وقيمتها مائة أو كانت الدنانير عشرة، والدراهم خمسين قيمتها عشرة دنانير.
وثمرة الاختلاف لا تظهر حال تكامل الأجزاء والوزن، لأنه متى انتقص قيمة إحداهما وزاد قيمة الآخر، فيمكن تكميل ما انتقص منه بما ازداد وكمل النصاب وزنًا (و) قيمة، فتجب الزكاة بلا خلاف، وإنما تظهر حال نقصان الأجر أو الوزن، فعلى قول أبي حنيفة: تجب الزكاة؛ لأنه يعتبر القيمة، وقد كمل النصاب باعتبار القيمة، وعلى قولهما: لا تجب الزكاة لأنهما يعتبران الوزن والأجزاء ولم يكمل النصاب من حيث الوزن والأجزاء، والحاصل أنهما يعتبران الوزن حالة الاجتماع، وأبو حنيفة اعتبر القيمة حالة الاجتماع.
وأجمعوا على أن العبرة للوزن حالة الانفراد حتى إذا كان له أقل من مائتي درهم قيمتها عشرون دينارًا، أو كان له أقل من مائتي درهم قيمتها عشرون دينارًا، أو كان له أقل من عشرين دينارًا قيمتها مائتا درهم، أو كان له قلب فضة وزنه مائة وخمسون، وقيمته لصياغته عشرون دينارًا، أو كان له قلب ذهب وزنه خمسة عشر وقيمته لصياغته مائتا درهم لا تجب الزكاة.
وإنما اعتبر الوزن حالة الانفراد لقوله عليه السلام: «في مائتي درهم خمسة دراهم» والمراد من الدرهم الوزن، وقال عليه السلام: «في عشرين مثقال ذهب نصف مثقال»، والمثقال هو الوزن، فالنبي عليه السلام نصّ على الوزن حالة الانفراد، فإن بلغ الوزن نصابًا حالة الانفراد فلا يبقى للقيمة عبرة؛ لأن القيمة إنما تعرف بالاجتهاد في موضع النص إذا كان العبرة للوزن حالة الانفراد، فإن بلغ الوزن نصابًا حالة الانفراد تجب الزكاة، وما لا فلا.
جئنا إلى حالة الاجتماع: فهما يعتبران الوزن حالة الاجتماع اعتبارًا لحالة الاجتماع بحالة الانفراد، وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر القيمة حالة الاجتماع.
وفرق بين حالة الاجتماع وبين حالة الانفراد، فقال: في حالة الانفراد؛ إنما تعتبر القيمة بخلاف القياس؛ لأن المال مال التجارة، وفي مال التجارة تعتبر القيمة كما في سائر أموال التجارة، إلا أن في حالة الانفراد لما اعتبر الشرع الوزن والتقويم اجتهادًا ولا عبرة للاجتهاد حال وجود النص كان ذلك من الشرع إسقاطًا لاعتبار القيمة، فإن في حال الاجتماع لا نص على اعتبار الوزن، فيجب العمل فيه بالقياس.
في (المنتقى): عن أبي يوسف رجل عنده عشرة دنانير ومائة درهم إن صرف الدنانير إلى الفضة، فقومها دراهم كان له مائتا درهم وزيادة، وإن أضاف الفضة إلى الدنانير، فقومها دنانير كان له أقل من عشرين دنانير، فلا زكاة حتى يكون أي مئة أضاف إلى الأخرى وجب فيها الزكاة، وهو قول أبي حنيفة أولًا، وقال أبو حنيفة آخرًا: إذا وجب عليه الزكاة في أحد الوجهين، ولم يجب في الوجه الآخر، فعليه الزكاة.
ذكر القدوري في (كتابه): روى الحسن عن أبي حنيفة أن الزكاة تجب في الدراهم النبهرجة والزيوف، وما كان الغالب فيه الفضة إذا كانت مائتي درهم؛ لأن اسم الدرهم ينطلق على ما كانت الفضة فيه غالبة، فيتناولها النص الموجب باسم الدراهم، وإن كانت ستوقة ليست للتجارة لم تجب الزكاة فيها حتى يبلغ ما يكون فيها من الفضة مائتين؛ لأن الغالب فيها الغش فلا يتناولها اسم الدرهم، فينظر إلى ما فيها من الفضة، وهذا إذا لم تكن للتجارة، فإن كانت للتجارة، وقد بلغت قيمتها مائتين وجبت الزكاة؛ لأنه إذا لم ينطلق عليها اسم الدرهم لم تكن بمنزلة الأثمان، فتكون بمنزلة العروض، وفي العروض تجب الزكاة إذا كانت للتجارة وقد بلغت قيمتها مائتين، كذا هنا.
وأما الفلوس، فلا زكاة فيها إذا لم تكن للتجارة، وإن كانت للتجارة، فإن بلغت قيمتها مائتين وجبت الزكاة لما ذكرنا، وكان الفقيه أحمد بن إبراهيم رحمه الله يقول: من ملك مائتي درهم عطريفية، فإن كانت للتجارة تجب فيها الزكاة، وإن كانت للنفقة، فإن كان فيها فضة....... لفضة تجب الزكاة وما سوى الفضة لا تجب.
وكان الفقيه أبو إسحاق الحافظ يقول على قول أبي حنيفة: تجب الزكاة إذا أمسكها للنفقة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد فيها: الزكاة وإن كانت للنفقة.
وروي عن أبي عبد الله أحمد بن أبي حفص الكبير أنه قال: لسنا نأخذ بقول أبي حنيفة في هذه المسألة إنما نأخذ بقول أبي يوسف ومحمد.......... علم بد رأيهما عن أبي حنيفة والعطارف يسمى دراهم في عرفنا، فيتناولها النصير الموجب باسم الدراهم.
وكان الشيخ الإمام الجليل أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله يفتي في العطارف بوجوب الزكاة في المائتين منها عدد الخمسة دراهم، وكان يقول يجب أن يكون هذا قول أصحابنا جميعًا؛ لأن الثمينة، وقد تقررت فيها في بلادنا بحيث لا تتغير حيث تقررها في الذهب والفضة، وبه أخذ الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني، والشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله، ومشايخ زماننا قالوا: هم إنما أفتوا في زمنهم بهذا حيث تقررت الثمينة فيها، أما في زماننا قد تراجعت ولم تبق ثمنًا، فلا يمكن إيجاب الزكاة فيها باعتبار المعنى، فينظر إلى أنها من الفضة.
وروي عن سعد بن معاذ المروزي أنه قال: العطريفية إذا كانت ألفًا ومائتي درهم تجب فيها الزكاة وما لا فلا، وفي ألف ومائتي عطريفية خمسة دراهم، وذلك لأن في كل عطريفية دانق فضة، وما سواه نحاس وألف ومائتا دانق يكون مئتي درهم، وفي مائتي درهم خمسة دراهم.
ولو أن رجلًا أعطى خمسة دراهم عن مائتي درهم رجلًا عن الزكاة ثم جاء المعطى له وقال وجدتها ستوقة، فإن كان في أكثر رأيه أنه صادق غير متهم، فإنه يصدقه، ولا شيء عليه إذا كان الذي وجد ستوقًا ليس فيه فضة، وكان للمعطى أن يستر ذلك من المعطي؛ لأن المعطي لم يملك؛ لأنه ليس بمحل للتمليك بجهة الزكاة، وإن كانت نبهرجة لم يسترد منه؛ لأنه ملك ذلك؛ لأنه محل التمليك بجهة الزكاة في الجملة، فلا يملك الاسترداد منه وإن لم يجزئه ذلك عن زكاة ماله في هذه الصورة؛ لأن من حجة المعطي أن يقول: شرط أن يكون ذلك من الزكاة لم تكن بيني وبينك، وإنما ذلك بينك وبين الله تعالى، هكذا حكي عن الفقيه أحمد بن إبراهيم رحمه الله.
وفي الباب المعلمة بعلامة النون من (الواقعات): رجل له مائتا درهم حال عليها الحول، فأدى زكاتها خمسة، فوجد الفقير فيه منها درهمًا ستوقه فجاء به ليرده على صاحب المال، فقال صاحب المال رد عليّ الباقي؛ لأنه ظهر أنه لم يكن عليّ زكاة ليس له أن يسترد؛ لأنه ظهر أنه أداه على وجه التطوع، فلا يكون له الرجوع إلا إذا رد الفقير باختياره، ويكون ذلك من الفقير بمنزلة الهبة المبتدأة، حتى لو كان الفقير صبيًا، ورده باختياره لا يحل له الأخذ.
رجل له مائتا درهم نقد بيت المال حال عليها الحول؛ فأدى عنها خمسة زيوفًا أو........ فإنه يجزئ ذلك عن زكاة المائتين عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد يجزئه مقدار مال الزيوف لا غير حتى لو كانت قيمة الزيوف أربعة دراهم جياد، فعليه أن يؤدي الدرهم الخامس عند محمد، وعندها ليس عليه شيء آخر.
فوجه قول محمد: أن الواجب خمسة جاز إن ماز الزيوف عنها إنما يجوز إذا كان الزيوف مثلًا للجياد، وإنما تكون الزيوف مثلًا للجياد إذا سقط قيمة الجودة، والجودة في الأموال الربوية إنما يسقط اعتبارها عند المقابلة بجنسها فيما بين المتعاقدين كيلًا يؤدي إلى الربا، ألا ترى أن في حق الثالث لا يسقط اعتبارها، لما كان لا يؤدي إلى الربا، لأنها إنما تظهر قيمة الجودة في حق الصغير والربا لا تجري بين المتعاقدين وغيرها، فثبت أن للجودة قيمة في موضع لا يؤدي إلى الربا وإن حصلت المقابلة بجنسها.
إذا ثبت هذا فنقول: اعتبار قيمة الجودة في حق الفقير يؤدي إلى الربا من وجه دون وجه، من حيث إن الفقير بما أخذ من الغني لا يملك من الغني قدر الواجب؛ لأن قدر الواجب لا يصير ملكًا للفقير قبل الأخذ، بل أخذه صلة ليسا بمتعاقدين، ومن حيث إنه تعلق بالواجب حق الفقير حتى ضمنه المالك عند الاستهلاك، والحق يلحق بالحقيقة متعاقدين؛ لأنه يصير مملكًا قدر الواجب من صاحب المال بما أخذ، فتمكن الربا من وجه دون وجه، والعمل بالأمرين متعذر على حال، لما بينهما من التنافي، فعملنا بهما في حالين، فقلنا: متى كان في اعتبار الربا منفعة للفقير أو احتياط لأمر العبادة نعتبر الربا كما إذا وجب للفقير على الغني خمسة دراهم نبهرجة، فأعطاه أربعة جيادًا تساوي خمسة نبهرجة لا يجوز؛ لأن في اعتبار الربا منفعة للفقير، فإنه يأخذ درهمًا آخر، فتعتبر الربا ويؤخذ بالاحتياط وتسقط قيمة الجودة، وإذا كان في اعتبار الربا ضرر بالفقراء تعتبر الربا، ألا ترى أن صاحب المال لو أدى المال إلى الفقير ستة دراهم زيوفًا مكان خمسة دراهم جياد يجوز، وأخذ الستة مكان الخمسة ربا كما في حقوق العباد، ثم لم يعتبر الربا؛ لأن في اعتبار الربا ضرر على الفقير، فإنه لما سلم لهم الدرهم السادس، فلم تعتبر الربا؛ لأن في اعتبار الربا ضرر على الفقير، ولم يسقط قيمة الجودة.
إذا ثبت هذا فنقول: في مسألتنا في اعتبار الربا ضرر على الفقير؛ لأنه يفوت حقه في الجودة، ولا يصل إليه درهم آخر، ومن لم يعتبر الربا لا يفوت حقه في الجودة، فيصل إليه درهم آخر بإزاء الجودة، فلا تعتبر الربا أو الجودة في مال الربا لها قيمة، وإن قوبلت بجنسها إذا كان لا يؤدي إلى الربا.
وأبو حنيفة وأبو يوسف قالا: إن الربا فيما بين الفقير والغني ممكن من وجه دون وجه، فتمكن شبهة الربا على كل حال، والشبهة تلحقه بالحقيقة في باب المحرمات احتياطًا، فمست الضرورة إلى إسقاط قيمة الجودة في مسألتنا تحرزًا عن شبهة الربا، وإذا سقط اعتبار قيمة الجودة هاهنا لا يضمن صاحب المال شيئًا، وأما إذا أدى ستة دراهم مكان خمسة دراهم ناويًا عن زكاة ماله؛ إنما جاز ولم يعتبر الربا؛ لأن المعارضة من الفقير والغني لا تثبت نصًا، وإنما ثبت في ضمن نية الربا، فإن صاحب المال بنية الزكاة قصد قضاء ما عليه من الحق للفقير واستخلاص ما للفقير لنفسه.
ونية الزكاة من الغني بقدر خمسة إذا كان عليه خمسة، ولم يصح بقدر الدرهم السادس، وإذا لم تصح نية الزكاة في الدرهم السادس صار كأنه نوى أن تكون الخمسة زكاة والدرهم السادس تطوعًا، ولو نوى على هذا الوجه لا يتمكن الربا، أما هاهنا نية الزكاة صحت بقدر خمسة؛ لأن عليه زكاة خمسة، وإذا صحت نية الزكاة بقدر خمسة ثبتت بين الغني والفقير معارضة باعتبار الحق إن كان لا يثبت باعتبار الملك، فيمكن شبهة الربا.
وعلى هذا إذا كان مال الزكاة مكيلًا أو موزونًا، فأعطى من جنسها (ما) هو أجود منه، وهو أقل من الواجب كيلًا، نحو أن يؤدي أربعة أقفزة حنطة جيدة عن خمسة أقفزة حنطة وسط لا يجوز إلا عن قدره من الكيل أو الوزن، فإن كان المؤدى مثل الواجب في القدر، ولكنه أردأ من الواجب سقط منه الفضل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يؤدي الفضل.
وفي (القدوري): رواية ابن سماعة عن أبي يوسف إذا أعطى الفضة مكان الفضة، فإن كان وزن الفضة مما دفع أقل لم يجز حتى يؤدي قدر النقصان، نحو أن يؤدي النبهرجة عن الجياد، وإن كان التفاوت لمعنى في الوصف، نحو أن يؤدي الفضة التبر عن الدراهم المضروبة، وقيمة المضروبة أكثر، إنه يجوز.
وإذا كان لرجل إبريق فضة وزنه مائتا درهم وقيمته لصياغته ثلاثمائة، أدى عنه خمسة عما عليه، فهو على الخلاف الذي بينّا، أن الجودة والصياغة في أموال الربا سواء، ألا ترى أنه لا تعتبر الصياغة في حقوق العباد فيما بين المتعاقدين كما لا تعتبر الجودة هكذا هاهنا، فصار الخلاف في الصياغة نظير الخلاف في الجودة، ولو أدى عنه قدر خمسة دراهم من الذهب لا يجوز عن جميع زكاة الإبريق بالإجماع؛ لأن للجودة قيمة في أموال الربا عند معاملتها بخلاف جنسها بالإجماع.
وفي (القدوري): إذا كان إناء فضة وزنه مائتان وقيمته ثلاثمائة، فإن زكى من عينه تصدق بربع عشره على الفقير فيشاركه فيه، وإن أدى من قيمته عدل إلى خلاف جنسه وهو الذهب عند محمد، فأما عند أبي حنيفة لو أدى خمسة من غير الإناء سقطت عنه الزكاة. وإن أدى من الذهب ما يبلغ قيمته قيمة خمسة دراهم من غير الإناء لم يجز في قولهم.
جئنا إلى بيان زكاة عروض التجارة والمسائل المتعلقة بها، فنقول: الزكاة واجبة في عروض التجارة بظاهر قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْولِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِمْ بِهَا وَصَلّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] واسم المال يتناول عروض التجارة، لو خلينا وظاهر الآية لكنا نوجب الزكاة في العروض، وإن لم تكن للتجارة لكن ترك العمل بظاهره هاهنا إذا لم تكن للتجارة بالإجماع، ولا إجماع فيما إذا كان للتجارة فتبقى على ظاهرها.
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأمرنا بإخراج الزكاة عن الرقيق، وعن كل مال نبيعه»، ولأن هذا مال نبغي منه النماء، فيكون سببًا لوجوب الزكاة كالدراهم والدنانير والسوائم.
وإذا ثبت وجوب الزكاة في عروض التجارة، فنقول بعد هذا: الشرع لم يبيّن مقدار النصاب والواجب فيها، فيكون التقدير فيهما مفوضًا إلينا، أي في النصاب وفي الواجب، فقدرنا النصاب والواجب فيها بالذهب والفضة دون السوائم، إما لأن نصاب الذهب والفضة لا يختلف، والواجب فيهما أيضًا لا يختلف، لأن نصاب الدرهم مائتان على كل حال، ونصاب الذهب عشرون مثقالًا على كل حال، والواجب فيها ربع العشر على كل حال، وإما لأن الذهب والفضة أصول جملة هذه الأموال؛ لأن هذه الأموال في الغالب يحصل بهما مكان إلحاق هذه الأموال بالذهب والفضة أولى، وإذا وجب اعتبار المقدار بهما يعتبر بأيهما.
ذكر محمد رحمه الله في (الأصل) أن المالك فيها بالخيار إن شاء قوّم بالدراهم، وإن شاء قوّم بالدنانير ولم يحلء فيه خلاف، لأن هذا مال احتيج فيه إلى التقويم فيقوم، إما بالذهب أو الفضة كضمان المتلفات، وعن أبي حنيفة أنه يقوم بما فيه إيجاب الزكاة، حتى إذا بلغ بالتقوم بأحدهما نصابًا ولم يبلغ بالآخر قوم بما يبلغ نصابًا، وهو إحدى الروايتين عن محمد.
ولو كان بالتقوم كل واحد منهما يبلغ نصابًا، يقوم ما هو أنفع للفقراء من حيث الرواج، وإن كانا في الرواج سواء يتخير المالك؛ لأن هذا المال كان في يد المالك، وقد انتفع به في ابتداء الحول من حيث التجارة، فيجب اعتبار منفعة الفقراء عند التقويم، لأداء الزكاة تسوية بين المالك وبين الفقراء، لأن الزكاة وجبت على وجه يعتدل النظر من الجانبين فيهما.
وذكر محمد رحمه الله في (الرقيات) أنه يقوم في البلد الذي حال الحول على المتاع بما يتعارفه أهل ذلك البلد نقدًا فيما بينهم، يعني غالب نقد ذلك البلد، ولا ننظر إلى موضع الشراء، ولا إلى موضع المالك وقت حولان الحول؛ لأن هذا مال وجب تقويمه، فيقوّم بغالب نقد البلد كما في ضمان المتلفات إلا أنه يعتبر نقد البلد الذي حال الحول فيه على المال؛ لأن الزكاة تصرف إلى فقراء البلدة التي فيها المال، فالتقويم بنقد ذلك البلد أنفع في حق الفقراء من حيث الرواج، فيجب اعتباره.
وروي عن أبي يوسف أنه يقوم ما اشترى به، وإن كان وهب له فقيل: ينوي به التجارة أو اشتراه بعرض، أو ورثه، يقوم بغالب نقد البلد؛ لأن التقويم إنما احتيج إليه لأجل الزكاة والزكاة وظيفة الملك، وهذا المال ملك بالثمن وكان وجوب الزكاة فيه باعتبار الثمن، وكان التقويم به أولى، وهكذا نقول فيما إذا اشتراه بعرض: إن هذا المال ملك بذلك العرض، إلا أن التقويم بذلك العرض غير ممكن؛ لأن العرض لا يصلح لتقويم الأشياء، فوجب التقدير فيه بنقد البلد. ثم إذا قوم بالدراهم يقوم بمائتي درهم مضروبة، فلا زكاة فيه حتى يساوي مائتي درهم مضروبة، نص عليه في (المنتقى).
وإذا اشترى عرضًا بدراهم أو دنانير، فالمشترى لا يصير للتجارة؛ إلا إذا نوى التجارة، وإذا اشترى عرضًا بعرض التجارة، فالمشترى يكون للتجارة نوى التجارة أو لم ينو شيئًا، والفرق من وجهين:
أحدهما: أن المشترى لو صار مالَ التجارة مع أنه لم ينو التجارة، إنما صار لكونه بدل مال التجارة؛لأن البدل قائم مقام المبدل؛ لأن المشترى بالدراهم والدنانير ليس بدل مال التجارة؛ لأن العقد لا يتعلق بعين الدراهم والدنانير، وإنما يتعلق بمثلها دينًا في الذمة، وما في الذمة ليس مال التجارة، إنما المشترى بالعرض بدل مال التجارة؛ لأن العقد يتعلق بعين العرض، وإنه كان للتجارة، فجاز أن يصير بدله للتجارة بدون نية التجارة.
الفرق الثاني: إن كان المشترى بدل مال التجارة في الفصلين جميعًا، إلا أن المشترى بالدراهم والدنانير لو صار مال التجارة لكونه بدلًا عن مال التجارة لصار مال التجارة من غير قصده.
أما المشترى بعرض التجارة لو صار مال التجارة بكونه بدل مال التجارة لصار مال التجارة من غير قصده ونيته؛ لأن الأصل صار مال التجارة من غير قصده ونيته، وما سوى......... لا يصير مال التجارة قصده ولم يعترض ما يبطل قصده، حتى لو اعترض ما يبطل قصده بأن ينوي الابتذال والخدمة وقت الشراء لا يصير المشترى للتجارة.
وأما العرض المشترى بغرض ليس هو للتجارة أو يفيد الخدمة، لا يصير للتجارة إلا بنية التجارة؛ لأن الأصل لو كان للتجارة من غير قصده، فالمشترى لا يصير للتجارة إلا بنية التجارة فإذا لم يكن الأصل للتجارة؛ بأن لا يصير المشترى به مال التجارة، إلا بنية التجارة كان أولى.
ثم نية التجارة لا عمل (لها) ما لم ينضمَّ إليها الفعل بالبيع والشراء أو السوم فيما يسام، حتى إن من كان له عبد للخدمة أو ثياب للبذلة نوى فيهما التجارة لم تكن للتجارة حتى يبيعها، فيكون في الثمن الزكاة مع ماله، وهذا بخلاف ما لو كان له عبد للتجارة، فنوى أن يكون للخدمة، بطل عنه الزكاة بمجرد النية؛ لأن في الفصل الأول الحاجة إلى فعل التجارة، وهو........ بفاعل فعل التجارة فالنية ما اتصلت بالمنوي. وفي الفصل الثاني الحاجة إلى ترك التجارة، وهو ترك التجارة حقيقة، فالنية اتصلت بالمنوي.
ثم اتفق أصحابنا أن من ملك ما سوى الدراهم والدنانير من الأموال بالشراء، ونوى التجارة حالة الشراء أنه يعمل بنيته، ويصير المشترى للتجارة.
واتفقوا أيضًا أنه لو ملك هذه الأعيان بالإرث ونوى التجارة وقت موت المورث لا تصير للتجارة، ولا تعمل نيته.
واختلفوا فيما إذا ملكها بالتبرع كالهبة والصدقة والوصية والخلع والصلح عن دم العمد، ونوى التجارة عند التمليك، قال أبو يوسف: تعمل نيته، وقال محمد: لا تعمل نيته، وقول أبي حنيفة كقول محمد، كذا ذكره بعض المشايخ.
فوجه قول محمد: أن المنوي هو التجارة، وهذه الأشياء ليست بتجارة فلم تتصل النية بالمنوي، فلا يعمل.
وجه قول أبو يوسف رحمه الله: إنه يملك هذه الأعيان بكسبه والتجارة ليست هي إلا الكسب، فيلحق هذا الكسب بكسب التجارة احتياطًا لأمر العبادة.
وذكر ابن سماعة عن محمد فيمن أجّر داره بعبد يريد به التجارة، فهو للتجارة؛ لأن الإجارة نوع تجارة؛ لأنها بيع المنفعة، فالنية اتصلت بالمنوي. وفي (المنتقى): أن نية التجارة بالعقد المتزوج عليه باطلة، وهذا يجب أن يكون قول محمد.
واختلف المشايخ في أن نية التجارة في العرض هل تعمل؟ قال شيخ الإسلام في (شرح الجامع): والأصح أنها لا تعمل؛ لأن العرض بمعنى العارية، فعلى ما عرف في موضعه، ونية التجارة في العواري ليست بصحيحة، وفي (الجامع الكبير) ما يدل على أن بدل منافع عين هو للتجارة لا يصير للتجارة بدون النية.
قال: رجل له دار لا مال له سوى الدار، ورجل له جارية للتجارة قيمتها ألف درهم، لا مال له سوى الجارية استأجر صاحب الجارية الدار عشر سنين بالجارية، وصاحب الدار يريد بالجارية التجارة، فإن الجارية عند صاحب الدار تكون للتجارة، فقد شرط نية التجارة من صاحب الدار في الجارية، لتصير الجارية للتجارة من غير فصل فيما إذا كانت الدار للتجارة أو لم تكن.
وفي (الأمالي): جعل بدل منافع عين التجارة للتجارة من غير نية كبدل عين هو للتجارة، وكان فيه روايتان، واختلف المشايخ فيه أيضًا، وإنما اختلفوا لاختلاف الروايتين قال القدوري في (شرحه): والعمال الذين يعملون للناس بأجر إذا اشتروا أعيانًا للعمل بها، فحال الحول عليها عندهم، وكل عين يبقى له أثر في العين، بحيث يرى كالعصفر والزعفران، وما أشبهه ففيه الزكاة، وما لا يبقى له أثر في العين، فمعنى التجارة لا يتحقق من عينه؛ لأن العين تتلف من كل وجه، فلا يكون المأخوذ عوضًا عن العين، بل يكون عوضًا عن عمله، فلا يصير مال زكاة كالصابون والأشنان بحيث يرى فلا زكاة فيه؛ لأن ما يبقى أثره في العين، فمعنى التجارة يتحقق في عينه، لأن ما يأخذ الأجير من الأجر يأخذ عوضًا عن الأثر العام بالعين المعمول، ولهذا يكون له حق بنفس العين إلى أن يستوفي الأجر، فيكون مال التجارة، أما ما لا يبقى له أثر في العين.........
وذكر في (الأصل): الخباز إذا اشترى ملحًا أو حطبًا للخبز، فلا زكاة فيه، لأن معنى التجارة لا يتحقق في عينه؛ لأنه يصير مستلهكًا من كل وجه، فما يأخذ من المال يكون عوضًا عن عمله لا عن الحطب والملح، فلا يصير مالَ التجارة.
وإذا اشترى سمسمًا ليجعل على وجه الخبز تجب فيه الزكاة؛ لأن عينه تبقى بعد الخبز، فيمكن تحقيق معنى التجارة في عينه، ولا تجب الزكاة في الشحوم والأدهان التي يحتاج إليها ليدهن به الجلود، ذكره في (المنتقى) بناءً على الأصل الذي قلنا.
قال (القدوري): وآلات الصُّناع الذين يعملون بها وظروف الأمتعة، لا تجب فيها الزكاة؛ لأنها غير معدة للتجارة. ولو أن نخاسًا يشترى دوابًا ويبيعها، فاشترى جلاجل ومقادد وبراقع فإن كان يبيع هذه الأشياء مع الدواب ففيها الزكاة، وإن كانت لحفظ الدواب فلا تجب الزكاة بمنزلة له آلات الصناع، وكذلك إذا كان من يبيعه إنما يسلم هذه الأشياء لمن يشترى، لا على وجه البيع فلا زكاة فيها، وهي بمنزلة ثياب الخدم التي يسلم البائع مع الخدم في البيع.
قال هشام: سألت محمدًا عن رجل اشترى جارية للخدمة، وهو ينوي أنه إن أصاب ربحًا قال: ليس فيها زكاة حتى يشتري، وعزيمة أمره والغالب منه أن يشتريها للتجارة، ذكر هذه الجملة في (المنتقى).
وقال في (العيون): والعطار إذا اشترى قوارير فهو هكذا، وفي (فتاوى أبي الليث): إذا اشترى جوالق بعشرة آلاف دراهم ليؤاجرها من الناس، فحال عليها الحول، فلا زكاة فيها؛ لأنه اشتراها لعلة لا للتجارة، فإن كان في رأيه أنه يبيعها آخرًا، فلا عبرة لهذا، وكذلك الجواب في إبل الحمالين، وهم المكارين.
رجل له مائتا قفيز من الحنطة للتجارة حال عليها الحول، وقيمتها مائتا درهم حتى وجب عليه الزكاة، فإن أدى من عينها أدى ربع العشر من عينها خمسة أقفزة حنطة، وإن أدى من قيمتها أدى ربع عشر القيمة أيضًا خمسة دراهم، فإن لم يؤد حتى تغير سعر الحنطة إلى زيادة، فصارت تساوي أربعمائة، فإن أدى من عين الحنطة أدى ربع العشر خمسة أقفزة بالاتفاق، وإن أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها يوم حولان الحول الذي هو يوم الوجوب عند أبي حنيفة، وعندهما يؤدي عشرة دراهم قيمتها يوم الأداء.
وإن تغير به سعر الحنطة إلى نقصان، فصارت تساوي مائة إن أدى من عين الحنطة أدى خمسة أقفزة بلا خلاف، وإذا أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها يوم حولان الحول الذي هو يوم الوجوب. وعندهما: أدى درهمين ونصف قيمتها يوم الأداء.
فالحاصل: أن أبا حنيفة يعتبر القيمة يوم الوجوب في جنس هذه المسائل، وهما يعتبران القيمة يوم الأداء، وهذه المسألة في الحاصل بناءً على معرفة الواجب في عروض التجارة يوم حولان الحول، فعندهما الواجب يوم حولان الحول جزء من النصاب عينًا، لكن للمالك ولاية نقل الواجب إلى القيمة بالأداء، فتراعى قيمته يوم النقل والدليل (على) أن الواجب ما قلنا، قوله عليه السلام: «خذ من الإبل الإبل ومن البقر البقر» والدليل عليه أن في نصاب السوائم تعتبر القيمة يوم الأداء، حتى إن من وجب في إبله بنت مخاض قيمته خمسة دراهم ثم تغير السعر، فصارت تساوي درهمين ونصفًا فأراد أن يؤدي القيمة أدى درهمين ونصفًا بالإجماع، فقياس عروض التجارة على السوائم أن تعتبر القيمة يوم الأداء.
واختلفت عبارة المشايخ في بيان مذهب أبي حنيفة رحمه الله، فعبارة بعضهم أن الواجب بعد حولان الحول أداء القيمة، ولكن من هذا النصاب العين وأمكن تخفيفه؛ لأن النصاب حنطة وهي مال، وأداء الخمسة من الحنطة من حيث إنها مال ممكن.
والدليل على أن الواجب هذا أن النبي عليه السلام أوجب في خمس من الإبل السائمة شاة، وعين الشاة لا توجد في الإبل، وإنما يوجد فيه مال مقدر بقدر الشاة، والدليل عليه أن الزكاة وجبت بطريق التيسير، والتيسير في أن يكون الواجب من النصاب حتى تسقط بهلاك النصاب، ولكن من حيث إنه مال لا من حيث إنه عين؛ لأنه ربما يتعسر على المالك أداء العين بأن كان النصاب جارية حسناء، فعلم أن الواحب يوم حولان الحول أداء القيمة، ولكن من هذا النصاب والقيمة يوم حولان الحول خمسة دراهم، فوجب عليه خمسة دراهم، فلا يتغير بعد ذلك بتغير السعر، وهذا القائل يقول بأن مسألة السوائم على الخلاف، وإنما أمر رسول الله عليه السلام بأخذ العين تيسيرًا على أرباب الأموال، لكن الأداء من العين الذي هو مملوك لهم أسهل وأيسر.
وعبارة بعضهم: أن الواجب عند أبي حنيفة يوم حولان الحول في مال التجارة أحد الشيئين بالعين أو القيمة، لأن القيمة يوم حولان الحول معتبرة بالإجماع حتى إن قيمة الحنطة إن كانت أقل من مائتي درهم، لا تجب الزكاة والعين أيضًا معتبرة، لأن قيمة الشيء ماليته، والمالية تقوم بالعين، ومالية هذا العين تقوم بعين آخر، وكان كل واحد معتبرًا أصلًا، وكل واحد منهما صالح للخروج عن عهدة الواجب، وكان الواجب أحدهما لا بعينه، فثبت أن الواجب أحد الشيئين إذا اختار أحدهما، فجعل ما اختار كأنه هو الواجب من الأصل دون غيره.
وإذا صار الواجب من الأصل هو القيمة، حتى اختار أداءها لا يتغير الواجب عند ذلك بتغير السعر، وهذا القائل يقول بأن مسألة السوائم على الوفاق، والفرق على قول هذا القائل بين السوائم وبين عروض التجارة أن القيمة في السوائم يوم حولان الحول غير معتبرة للوجوب، إنما المعتبر هو العين؛ ألا ترى لو كان له خمس من الإبل لا تساوي مائتي درهم تجب الزكاة.
ولو كان له الأربع من الإبل تساوي مائتي درهم لا تجب الزكاة، وكان الحق متعلقًا بالعين؛ إلا أن للمالك، ولاية نقل هذا الحق من العين إلى القيمة بالأداء، فتعتبر القيمة يوم الأداء، فأما في عروض التجارة بخلافه.
فإن قيل: لو كان الواجب أحد الشيئين، فإذا أدى أربعة أقفزة حنطة جيد تساوي خمسة أقفزة حنطة وسط ينبغي أن يجزئه عن الخمسة، ويجعل الحنطة بدلًا عن القيمة، وإن كانت الحنطة منصوصًا عليها كما في كفارة اليمين إذا أعطى ثوبًا واحدًا لعشرة مساكين تساوي خمسة أصوع من الحنطة ناويًا عن الحنطة، فإنه يجزئه عن الحنطة، وبالإجماع في مسألة أقفزة لا يجزئه إلا عن أربعة.
قلنا: إنما لا يجزئه عن الخمسة الأقفزة إذا قصد أداءها عن الخمسة الأقفزة الوسط؛ وهذا لأنه لما قصد أداء العين ظهر أن الواجب من الابتداء هو العين، فوقعت الأربعة بأجناسها عن نفسها لو وقع عن الباقي إنما يقع بالجودة، والجودة لا قيمة لها عند مقابليها بجنسها وقد قابل الجودة بجنسها حيث جعلها بدلًا عن الأقفزة الوسط، وقصد أداءها عن الوسط، حتى لو أدى أربعة أقفزة جيدة من الحنطة تساوي خمسة دراهم عن الدراهم تجزئة عن كل الواجب، وسقط عنه كل الواجب، هكذا ذكره الكرخي وعليه عامة مشايخنا، وإنه صحيح؛ لأنه ما قابل الجودة بالجنس، إنما قابلها بخلاف الجنس جعلها بدلًا عن الدراهم، وإن استهلك الحنطة بعد تمام الحول ثم تغير السعر، فالجواب فيه والجواب فيما إذا كانت الحنطة مائة وتغير السعر سواء لأن بالاستهلاك وجب المثل دينًا في الذمة، وتغير السعر يؤثر في المثل حسب تأثيره في العين، وكذلك الجواب في كل ما يكال أو يوزن أو تغير؛ لأن هذه الأشياء مضمونة بالمثل عند الإتلاف، وإن كان النصاب شيئًا هو ليس بمثلي كالثوب أو الجارية أو ما أشبهه، فاستهلكه بعدما تم الحول ثم تغير السعر إلى زيادة أو نقصان، فالجواب فيه عند أبي حنيفة، كالجواب في المثليات تعتبر القيمة يوم الوجوب، وعندهما تعتبر القيمة يوم الاستهلاك، فالتغير بعد الاستهلاك في غير المثليات.
والفرق لهما: أن المثليات غير معتبر حتى اعتبر القيمة فيها يوم الأداء، والتغير بعد الاستهلاك في غير المثليات معتبر عندهما، حتى تعتبر القيمة يوم الاستهلاك في غير المثليات.
والفرق لهما: أن المثليات بنفس الاستهلاك تنقل الحق من العين إلى المثل لا إلى القيمة وللمثل حكم العين، وسعر المثل قد يتغير، فيعتبر ما لو تغير سعر العين، ولو كان العين قائمًا في يده، وتغير سعره لكان تعتبر قيمته يوم الأداء عندهما، فهاهنا كذلك.
أما في غير المثليات ينتقل الحق إلى القيمة بالاستهلاك لا إلى المثل، كما في حقوق العباد والقيمة التي وجبت على صاحب المال لم تعتبر بما تعتبر العين، وحق الفقير في القيمة لا في العين، فاعتبرنا القيمة يوم الاستهلاك لهذا.
هذا الذي ذكرنا كله في فصل الحنطة إذا كان التغير من حيث السعر، فأما إذا كان التغير من حيث الذات، إن كان التغير من حيث النقصان بأن أصاب الحنطة ما بعد الحول، وفسدت وصارت قيمتها مائة، إن أدى من عينها أدى خمسة أقفزة، وإن أدى من قيمتها أدى درهمين ونصفًا بلا خلاف، فأبو حنيفة رحمه الله فرق بين هذه المسألة وبين المسألة المتقدمة.
والفرق أن في هذه المسألة فاتت الجودة، والجودة بعض العين، ألا ترى أن من غصب من أخر ثوبًا جيدًا، فأصابه بآفة وذهبت الجودة عنه، فالمغصوب منه بالخيار إن شاء تركه عليه وضمنه قيمته بالغة ما بلغت، وإن شاء أخذ منه وضمنه قيمة الجودة كما لو فاتت بعض العين، فدل أن الجودة بعض العين، فإذا فاتت الجودة فات بعض مال الزكاة، وفوات كل مال الزكاة يوجب سقوط كل الزكاة، ففوات بعضه يوجب سقوط الزكاة قدره، أما في المسألة المتقدمة لم تفت الجودة ولا شيء من العين، ولكن انتقصت قيمته لفتور رغائب الناس فيه، ورغائب الناس ليست بمال، فلم يفت شيء من مال الزكاة حتى تسقط الزكاة بقدره، فلهذا افترقا.
وإن كان التغير إلى زيادة بأن كانت الحنطة ندية، وقيمتها يوم الوجوب بالإجماع فهما فرّقا التغير من حيث الذات إلى زيادة، وبين التغير من حيث فحقت بعد الحول، وصارت قيمتها أربعمائة إن أدى من العين أدى خمسة أقفزة، وإن أدى من القيمة أدى خمسة دراهم قيمتها السعر إلى زيادة.
والفرق أن الزيادة من حيث الذات زيادة عينية، وكانت الزيادة الحاصلة من حيث الذات بعد الحول كزيادة مال استفادها بعد الحول، ولو استفاد زيادة مال بعد الحول لا يجب فيها شيء فهاهنا كذلك، أما الزيادة من حيث السعر ليست بزيادة عينية، فإن العين على حالها كما كانت، وإنما هي باعتبار رغبة يحدثها الله تعالى في قلوب العباد، ورغائب الناس ليست بمال لتجعل الزيادة بسببها بمنزلة زيادة مال استفادها بعد الحول، وإن لم تزدد العين كانت الأربعة قيمة ذلك العين، وكان قيمة حصة الفقراء عشرة دراهم، فإذا أراد أن يؤدي القيمة يؤدي عشرة دراهم.
ثم إن محمدًا قال في هذه الصورة: إن أدى من العين أدى خمسة أقفزة ولم يقل أدى خمسة أقفزة من هذا اليابس، أو خمسة أقفزة ندية وينبغي أن يؤدي خمسة أقفزة ندية لما ذكرنا أن هذه زيادة مال استفادها بعد الحول، ولا تعتبر بالزيادة المستفادة بعد الحول، ولو أوجبنا خمسة أقفزة من هذا اليابس فقد اعتبر بالزيادة المستفادة بعد الحول، فأوجبنا خمسة أقفزة ندية كما وجب يوم حولان الحول حتى لم يلزمنا اعتبار الزيادة المستفادة بعد الحول، هكذا حكي عن القاضي الإمام أبي عاصم العامري.
قال القدوري في (كتابه): ويضم الذهب والفضة إلى عروض التجارة؛ لأن وجوب الزكاة وعروض التجارة عندنا باعتبار القيمة، وباعتبار القيمة العروض من جنس الدراهم والدنانير.

.زكاة السوائم:

جئنا إلى زكاة السوائم، وبيان أحكامها والمسائل المتعلقة بها، فنقول لابد لبيان ذلك من معرفة السائمة وألفاظ الكتب في بيان ذلك مختلفة.
ذكر الحسن في (كتابه) عن أبي حنيفة أن السائمة ما ترعى في البرية بنفسها وصاحبها يلتمس به الرَّسَل والنسل ولا يريد بيعها ولا التجارة.
وذكر القدوري في (كتابه) أن السائمة هي الراعية التي تكتفي بالرعي وبمؤنتها (من) ذلك، وهذا لأن السوائم إنما تعتبر لتحقيق الزيادة من حيث الدر والنسل والسمن، وإنما يعتبر ذلك زيادة إذا قلت مؤنة العلف، أما إذا كثرت مؤنة العلف فلا، وإن كان يعلفها أحيانًا ويرعاها أحيانًا يعتبر فيها الغالب، لأن أصحاب المواشي لا يجدون بدًا من أن يعلفوا مواشيهم في بعض السنّة بأن اشتد البرد أو وقع الثلج على الأرض فيسقط اعتبار ذلك، واعتبر الغالب.
إلى هذا أشار محمد رحمه الله في (الأصل) حيث قال: ألا ترى إلى أهل الجبال ربما علفوا أشهرًا أو أكثر، فتخرج بهذا من أن تكون مال الزكاة، أشار إلى أن العبرة للغالب.
ولو نوى أن يجعل السائمة علوفة أو عاملة ذكر في (الأصل): أنه لا مخرج من أن تكون نصابًا؛ لأن النية لم تتصل بالمنوي، وذكر القدوري في (كتابه): فإن كان يرعاها مع هذه النية لا مخرج من أن تكون نصابًا. وإن ترك رعيها خرج من أن يكون نصابًا؛ لأن نية جعلها علوفة أو عاملة في الحاصل نية ترك السوم؛ فإن كان يرعاها، فالنية لم تتصل بالمنوي فلا يعمل، وإن ترك رعيها فقد اتصلت النية بالمنوي، فيعمل.
وفي (المنتقى): إذا كان للرجل غنم للتجارة نوى أن تكون للحم، فجعل يذبح كل شاة، أو كانت عنده إبل سائمة نوى أن تكون للحمولة، فإنها للحم والحمولة، وفيه أيضًا: ذكر إبراهيم عن محمد: إذا كان للرجل إبل يعمل عليها، وهي للعمل تركها ترعى أكثر من ستة أشهر فهي سائمة، وإذا رعاها أقل من ستة أشهر، فهي عوامل على حالها.
وكذلك الغنم إذا لم تكن سائمة ورعاها، وهو عين ما ذكره القدوري قال: وإن كانت للتجارة ورعاها ستة أشهر أو سنة لم تكن سائمة أبدًا، وهي للتجارة إلا أن ينوي أن يجعلها سائمة، قال: وهذا بمنزلة رجل له عبد للتجارة أراد أن يستخدمه سنين، فاستخدمه، فهو للتجارة على حاله، وفيه زكاة التجارة إلا أن ينوي أن يخرجه عن التجارة ويجعله للخدمة.

.زكاة الإبل:

قال محمد رحمه الله: وليس في دون الخمس من الإبل زكاة، وفي الخمس شاة وفي العشر شاتان وفي خمسة عشر ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه وفي خمس وعشرون بنت مخاض وهي التي طعنت في السنة الثانية، وفي ست وثلاثين بنت لبون وهي التي طعنت في السنة الثالثة وفي ست وأربعين حُقَّة، وهي التي طعنت في السنة الرابعة، وفي إحدى وستين جذعة، وهي التي طعنت في السنة الخامسة، ثم بعده هي..........، ولا يؤخذ شيء من ذلك في الزكوات، «لنهي النبي عليه السلام عن أخذ كرائم أموال الناس»، ثم بعد ذلك يزداد عدد الواجب بزيادة إبل النصاب فيجب في ستة وسبعين بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين، على هذا اتفق العلماء.
فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين تستأنف الفريضة عند علمائنا، فيكون في الخمس شاة، وفي العشر شاتان وفي خمس عشرة ثلاث شياه، وفي عشرين أربع شياه، وفي خمس وعشرين بنت مخاض، فإذا بلغت خمسًا وعشرين تجب بنت مخاض مع الحقتين في مائة وعشرين، فيكون عدد إبل النصاب مائة وخمسة وأربعين، ويكون عدد الواجب حقتان وبنت مخاض، فإذا بلغت الإبل مائة وخمسين تجب فيها ثلاث حقاق، فإذا زادت الإبل على مائة وخمسين تستأنف الفريضة على الترتيب الذي ذكرنا في أصل النصاب إلى خمس وعشرين، فإذا بلغت خمسًا وعشرين وصارت جملة إبل النصاب مائة وخمسة وسبعين تجب فيها بنت مخاض مع ما سبق من الحقاق إلى ستة وثلاثين، فإذا بلغ ستًا وثلاثين تجب فيها بنت لبون مع ما تقدم من الحقاق إلى ست وأربعين فإذا بلغت ستًا وأربعين تجب فيها أربع حقاق إلى خمسين، فإذا صارت خمسين وصارت جملة إبل النصاب مائتين، وزادت عليها بعد ذلك استأنف الفريضة، وبعد ذلك كلما بلغت الإبل خمسين يستأنف الفريضة أبدًا على نحو ما فسّرنا.

.زكاة البقر:

قال وليس في أقل من ثلاثين من البقر صدقة، فإن كانت ثلاثين سائمة ففيها تبيع أو تبيعة وهي الحول التي تمت له سنة، وطعن في الثانية، وفي أربعين مسنة، وهي التي طعنت في الثالثة، واختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله فيما زاد على الأربعين، ذكر في (الأصل): إن زاد فبسبحان ما مضى، فإن كانت واحدة ففيها ربع عشر مسنة، وروى الحسن عنه أنه لا شيء في الزيادة على الأربعين حتى يبلغ عشرًا، فإذا بلغت عشرًا وصارت جملة بقر النصاب خمسين تجب فيها مسنة وربع مسنة، مسنة في الأربعين وربع مسنة في الزيادة، وروى ابن كاس عنه أنه لا شيء في الزيادة، حتى تبلغ خمسًا، فإذا بلغت خمسًا وصارت جملة البقر خمسة وأربعين تجب مسنة وثُمْنُ مسنة، مسنة في الأربعين، وثُمْنُ مسنة في الخمس، وروى أسد بن عمرو عنه أنه لا شيء في الزيادة حتى تبلغ عشرين، فإذا بلغت عشرين، فصار جملة نصاب البقر ستون تجب فيها تبيعان أو تبيعتان، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي، وإذا ازدادت على الستين يتغير الفرض بعشر عشرة أبدًا بلا خلاف، ويتغير من التبيع إلى المسنة ومن المسنة إلى التبيع، ويدار الحساب على الأربعينات والثلاثينات فيجب في سبعين مسنة تبيع مسنة في الأربعين، وتبيع في الثلاثين، وفي ثمانين مسنتان في كل أربعين مسنة، وفي تسعين ثلاث أتبعه في كل ثلاثين تبيع، وفي المائة تبيعان ومسنة، في أربعين مسنة، وفي كل ثلاثين تبيع، هكذا أبدًا.

.زكاة الغنم:

قال: وليس في أقل من أربعين من الغنم صدقة، فإذا كان أربعين ففيها شاة إلى مائة وعشرين، فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائتين، فإذا ازدادت واحدة، ففيها ثلاث شياه إلى أربعمائة فيكون فيها أربع شياه ثم في كل مائة شاة، ذكر في (الأصل) عن أبي حنيفة أنه لا يؤخذ إلى الثني فصاعدًا، وروى الحسن عنه أنه يؤخذ الجذع من الضأن والثني من المعز، وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله.
إذا اجتمع في النصاب نوعان بأن كان غنم ضأن ومعز وإبل عراب وبخت وبقر وجواميس يجمع الغنم كلها على حدة، والبقر كلها على حدة. ويأخذ المصدق من أوساطها فريضة التي تجب له، فإن شاء أخذ من البقر دون الجواميس؛ لأنه شيء واحد وقال أصحابنا: المتولد بين الغنم والظبا يعتبر فيه الأم، فإن كانت الأم غنمًا تجب الزكاة ويكمل به النصاب، وكذلك المتولد من البقر الأهلي والوحشي، وإذا أدى شاة سمينة تبلغ قيمتها قيمة شاتين وسطين عن شاتين وسطين جاز، كذا ذكر في (الجامع الكبير)، لأن للجودة قيمة في الشاة، فلم يكن المؤدى عين المنصوص عليه، فيمكن بقدره بالمنصوص عليه.
قال أبو حنيفة رحمه الله: الخيل السائمة إذا كانت ذكورًا وإناثًا، ففيها الزكاة ويخير صاحبها، فإن شاء أعطى من كل فرس دينارًا، وإن شاء أعطى ربع عشر قيمتها، والأصل في ذلك ما روى جابر أن رسول الله عليه السلام قال: «في كل فرس سائمة دينار أو عشرة دراهم وليس في المرابطة شيء».
وأما الذكور الخلَّص والإناث الخلَّص، ففيه روايتان عن أبي حنيفة. في رواية تجب كما في المختلط، وفي رواية لا تجب، وقال أبو يوسف ومحمد: لا صدقة في الخيل أصلًا، وهو قول الشافعي حجتهم في ذلك: قوله عليه السلام: «ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة» ولأنا أجمعنا على أنه ليس للساعي ولاية الأخذ، ومعنى زكاة السوائم على أن ولاية الأخذ للساعي، لو كانت الزكاة واجبة في الخيل لكان ولاية الأخذ فيها للساعي، وأبو حنيفة رحمه الله يحمل ما رووا من الحديث على فرس الغازي، ويجب عن فصيل الساعي ويقول: الفرس مطمع كل طامع، فالظاهر أنهم إذا علموا أنه لا يتركونه لصاحبه.
ولا زكاة في الحمر والبغال وإن كانت سائمة؛ لأن الزكاة لا تجب في الحيوانات إلا بالإسامة والخيل والإبل والغنم تسام عادة أما الحمر والبغال لا تسام عادة.
قال محمد رحمه الله: وليس في الحملان والفصلان والعجاجيل زكاة، وكان أبو حنيفة رحمه الله أولًا يقول: يجب فيها ما يجب في المسنان، وهو قول زفر، ثم رجع عن هذا القول، وقال: يجب فيها واحدة منها، وهو قول أبي يوسف والشافعي، ثم رجع عن هذا القول وقال: لا يجب فيها شيء، وهو قول محمد. وجه قوله الأول: قوله عليه السلام: «في خمس من الإبل السائمة شاة»، وقوله عليه السلام: «في أربعين شاة شاة» وهذا اسم جنس، فيتناول الصغار والكبار كما يتناول الذكور والإناث. وجه قوله الثاني أن قول أبي بكر: «لو منعوني عناقًا مما كانوا يؤدونه على عهد رسول الله عليه السلام لقاتلتهم» بين أن للعناق مدخلًا في باب الزكاة، ولا يكون ذلك إلا في الصغار، وجه قوله الآخر: أن الزكاة عرفت نصًا، فإن أمكن إيجابها كما نطق به النص تجب وما لا فلا، وأدنى ما ورد الشرع بإيجابه في الإبل من الإبل بنت مخاض.
ثم إن مشايخنا تكلموا في كيفية الاختلاف في هذه المسألة، بعضهم قالوا الاختلاف في انعقاد الحول على الصغار، عند أبي حنيفة آخر الحول لا ينعقد على الصغار، وهو قول محمد، وعند أبي يوسف وزفر والشافعي ينعقد، وبعضهم قالوا: الاختلاف في بقاء الحول إذا كان للرجل نصاب إبل أو نصاب بقر أو غنم، فولدت أولادًا وهلكت الأمهات وتمّ الحول على الأولاد، فلا شيء فيها عند محمد، وهو قول أبي حنيفة آخرًا وعند أبي يوسف وزفر والشافعي تجب.
ثم اتفقت الروايات عن أبي يوسف في الحملان إذا كانت أربعين وفي العجاجيل إذا كانت ثلاثين أنه تجب واحدة منها، وإذا كانت أقل من ذلك لا يجب شيء كما في المسنان، واتفقت الروايات عنه في الفصلان أيضًا أنه تجب في خمسة وعشرين فصيل واحد منها، ثم لا يجب شيء حتى تبلغ عددًا تجب اثنان من الكبار وهو ستة وسبعون، فإنه يجب فيها بنتا لبون، فإذا بلغت الفُصْلان هذا المبلغ تجب اثنان منها.......، فقد اختلفت الروايات عن أبي يوسف فيه، وفي رواية قال: لا يجب فيها شيء، وفي رواية قال: لا يجب في خمس فصال الأقل من واحدة منها، ومن شاة وفي العشر الأقل من ثنتين منها ومن شاتين، وفي خمسة عشر الأقل من ثلاث منها ومن ثلاث شياه. وفي عشرين الأقل من أربع منها ومن أربع شياه، وفي خمسة وعشرين واحدة منها، وفي رواية في العشر الأقل من واحدة منها ومن شاتين إلى آخر ما ذكرنا، وهاتان الروايتان لا حجة لهما؛ لأن على اتفاق الروايات عنه تجب في خمس وعشرين منها واحدة منها، فكيف تجب في خمسة عشر ثلاث منها وفي عشرين أربع منها، وفي رواية هشام عنه: تجب في خمسة فصال خمس فصيل وفي ثلاثة عشر ثلاثة أخماس فصيل، وفي خمسة وعشرين واحد منها.
وفي رواية محمد عنه: إذا كان له خمسة فصلان ينظر إلى قيمة أفصلها، وإلى قيمة بنت مخاض، فإن كان قيمة أفصلها تبلغ قيمة بنت مخاض تجب فيها شاة، وإن كانت تبلغ نصف بنت مخاض تجب نصف شاة؛ لأنه لو كان واحدة منها بنت مخاض تجب فيها شاة، فإذا لم تكن فيها بنت مخاض تعتبر قيمتها، هذا كله إذا كان النصاب كله صغارًا.
وإن كان في النصاب واحدة مسنة فصاعدًا تجب الزكاة بلا خلاف، حتى إذا كان له تسعة وثلاثون حملًا، وواحدة مسنة حال عليها الحول وجب فيها شاة، ويجعل الصغار تبعًا للمسنة، فبعد ذلك ينظر إن كانت المسنة وسطًا أخذت في الزكاة، وإن كانت جيدة لم يؤخذ، ويؤمر بأداء شاة وسط، وإن كانت أقل من الوسط يؤدي صاحب المال ذلك أو قيمته؛ لأن عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وجوب الزكاة كان باعتبارها، فلا يزاد عليها.
وعند أبي يوسف رحمه الله الفصل على الحمل كان باعتبارها، فلا يزاد عليها، كان المعنى فيه أنّا لو أوجبنا شاة وسطًا والحالة هذه، ربما تؤثر تلك على قيمة أكثر النصاب، فيؤدي إلى الإجحاف بأرباب الأموال، فإن هلكت المسنة بعد تمام الحول لم يؤخذ مما بقي شيء في قول أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الوجوب عندهما باعتبار ملك الواحدة وجعل الصغار تبعًا لها، فإذا هلكت هي من غير صنع أحد صار كما لو هلك الكل، وعند أبي يوسف الفضل على الحمل كان باعتبار تلك الواحدة، فيبطل الفضل بهلاكها وجعل كأن النصاب كله كان حملانًا، وهلكت منها واحدة وهناك تجب تسعة وثلاثون جزءًا من أربعين جرءًا من الحمل، كذا هاهنا.
ولو هلك الحملان، وبقيت المسنة يجب فيها جزء من أربعين جرءًا من شاة مسنة، فقد جعل الواجب في السنة لا غير حال هلاكها، حتى لو قال بسقوط الواجب عندهما وبسقوط الفضل عند أبي يوسف، وجعل الواجب في الكل حال بقاء المسنة، وهلاك الصغار حتى أوجب في المسنة جزءًا من أربعين جزءًا من شاة مسنة.
والوجه في هذا أن يقال: بأنّا لا نقول بأن الواجب في السنة وحدها، إذ لو كان كذلك كان هذا إيجاب القليل في القليل أو إيجاب الكثير في الكثير، وإنه خلاف مبنى الزكاة، بل الوجوب في الكل إلا أنه أعطى الصغار حكم الكبار تبعًا للمسنة، وجعل في حق المسنة كأن الكل كبار، وهلك تسعة وثلاثون، فتبقى المسنة يقسطها ويسقط قسط الباقيات، أما في حق الصغار الكبيرة أصل، فإذا هلكت جعل هلاكها بمنزلة هلاك الكل، فسقط كل الواجب لهذا.
وكذلك إذا كان للرجل أربعة وعشرون فصيلًا وبنت مخاض سمينة أو وسط، أو كان له تسعة وعشرون حمولًا، وتبيع سمينة أو وسط، فهو على التفاصيل التي بيناها، وإذا كان له أربعون شاة عجافًا إلا واحدة منها، فإنها شاة سمينة، فإنه تجب فيها شاة وسط، وإن لم يكن فيها شاة سمينة فإنه يجب واحدة من فضلهن إلى مائة وعشرين، ولا تؤخذ شاة وسط كيلا يؤدي إلى الإجحاف بأرباب الأموال.
وإن كان له مائة وإحدى (و) عشرون شاة عجافًا إلا واحدة منها، فإنها شاة وسط، فإنه تؤخذ تلك الشاة وواحدة من أفضلهن؛ لأنه لو كان فيها شاتان وسطان أخذها، فإذا كان فيها واحدة وسط أخذت هي أو واحدة من أفضلهن.
وإن كان له مائتان وواحدة فيها شاة وسط وما سواها عجاف، فإنه تؤخذ تلك الواحدة وشاتان من أفضلهن، لأنه لو كان فيها ثلاث شياه أوساط أخذن، فإذا كان فيها واحدة وسط تؤخذ تلك الواحدة وشاتان من أفضلهن.
رجل له خمس من الإبل بنات مخاض أو فوق ذلك إلا أنها عجاف، بعجفهن لا تساوي واحدة منهن بنت مخاض وسط، فعليه شاة من ذلك الصنف الذي الإبل فيه. وبيان ذلك أنه ينظر إلى قيمة بنت مخاض وسط، وإلى قيمة شاة وسط، وإنما اعتبرنا قيمة بنت مخاض وسط، لأن أقل الأسنان التي فرضت فيها الزكاة بنات المخاض ثم تتغير الزكاة بعد ذلك بزيادة العدد لا بزيادة السن، فاعتبرت قيمة بنت مخاض وسط لهذا، فإن كانت قيمة بنت مخاض وسط مثلًا خمسين وقيمة الشاة الوسط عشرة، فنقول لو كانت الواحدة بنت مخاض وسط، لكان الواجب فيها شاة قيمتها عشرة، وذلك خمس بنت مخاض، فإذا لم تكن الواحدة بنت مخاض وسط.......... ننظر إلى قيمة أفضلهن، فإن كان قيمتها عشرين مثلًا، تجب فيها شاة تساوي أربعة مثل خمس أفضلهن على هذا التفسير، إذ لا وجه إلى الإجحاف بأرباب الأموال، ولا إلى تعطيل الأموال، ولو أوجبنا هاهنا شاة وسطًا، ربما تبلغ قيمتها قيمة واحدة منها أو أكثر، فيؤدي إلى الإجحاف بأرباب المال، وكان النظر من الطرفين فبها قلنا.
وكذلك لو كن ستًا أو سبعًا أو ثمانيًا أو تسعًا على سن ما ذكرنا؛ لأن الفضل على الخمس إلى العشر عضو، فإذا صارت عشرًا ففيها شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه على التفسير الذي قلنا.
ولو كان له خمس وعشرون من الإبل بنات مخاض وفوق ذلك، وفيهن بنت مخاض وسط وجبت بنت مخاض وسط، لأنه وجد فيهن ما يؤخذ في الزكاة، وإن كن كلهن دون بنت مخاض وسط في القيمة، لا تجب بنت مخاض وسط لأنا، لو أوجبنا ذلك لا يكون المأخوذ مأخوذًا في النصاب، ومبنى الزكاة أن يكون المأخوذ موجودًا في النصاب، ولأن فيه إضرارًا بأرباب المال، ولكن يؤخذ أفضلهن فيكون ذلك قائمًا مقام بنت مخاض وسط، وإن كان عشر عجاف بنات مخاض أو خمس عشرة أو عشرين إلا واحدة منها، فإنها بنت مخاض وسط، وجبت في العشر شاتان وسطان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه أوساط، وفي عشرين أربع شياه أوساط؛ لأن الأصل في نصاب الإبل بنت المخاض وما زاد عليها عفو، ألا ترى أن من كان له خمس بنت مخاض تجب فيها شاة وسط، فإذا (وجد) في النصاب ما هو الأصل يكفي، وجعل ما وراءه تبعًا له.
فإن قيل: إذا وجدنا أربعًا من الشياه الأوساط وقع الإجحاف بأرباب الأموال؛ لأن قيمتها قد تزيد على بنت المخاض التي تجب الزكاة لأجلها، قلنا: هذا فاسد؛ لأن سعر الغنم مع سعر الإبل تتفاوتان من حيث الغالب، فإذا ازداد أحدهما يزداد الآخر، وإذا انتقص أحدهما انتقص الآخر.
ألا ترى أن الشرع أوجب في الخمس من الإبل السائمة شاة وسطًا، وفي العشرين أربع شياه أوساط، وفي خمس وعشرين بنت مخاض وسط، ولو جاز أن تكون قيمة أربع شياه أوساط تزيد على قيمة بنت مخاض وسط كان الواجب في خمس وعشرين أقل من الواجب في العشرين، وهذا مما يجوز أن يقال به.

.الفصل الرابع في تصرف صاحب المال في النصاب بعد الحول وقبله:

لا خلاف لأحد أن تصرف الرجل في ماله قبل الحول جائز بيعًا كان أو غيره، وإنما الكلام في الكراهة، فنقول: أجمعوا على أنه إذا باع لتوسيع النفقة على نفسه وعياله أنه لا يكره، وأما إذا قصد بالبيع الفرار عن وجوب الصدقة يكره عند محمد، وعند أبي يوسف لا يكره، وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنه يكره، وأما تصرفه بعد الحول جائز عندنا، فالأصل عندنا أن وجوب حق الله تعالى في المال نحو الزكاة وما أشبهه لا يمنع النقل من ملك إلى ملك، وهذا لأن الحق في الحقيقة في الذمة، والمال محل إقامة الحق، فقبل الإقامة كان المال خاليًا عن حق الله تعالى، فانعدم المانع من النقل.
ألا ترى أن مال الزكاة إذا كانت جارية فحال عليها الحول حل لصاحب المال وطؤها، ولو كان الحق ثابتًا في العين كانت الجارية مشتركة، ولا يحل وطء الجارية المشتركة، ولأن الزكاة إنما وجبت بصفة اليسر، واليسر في الأداء من نماء المال ولا نماء إلا بالتصرف، لو صار وجوب الزكاة مانعًا من التصرف لصار مانعًا من الأداء من نماء المال، فصار مانعًا من الأداء بصفة اليسر، فيعود إلى موضوعه بالنقص، وإنه لا يجوز.
وإذا ثبت أن وجوب الزكاة لا يمنع المالك من التصرف بعد ذلك ينظر إن إزالة المال عن ملكه بتصرفه بغير عوض نحو الهبة وأشباهها، فهو ضامن قدر الزكاة، وإن أزاله عن ملكه بعوض نحو البيع، فإن حصلت الإزالة بعوض يعدله ويوازيه لا يصير ضامنًا للزكاة بقي العوض في يده أو هلك، وإن حصلت الإزالة بعوض لا يعدله ولا يوازيه يصير ضامنًا قدر الزكاة بقي العوض في يده أو هلك؛ وهذا لأن البيع إذا حصل بعوض يعدل والعوض يقوم مقام جميع مال الزكاة، ويصير من حيث المعنى كأن مال الزكاة قائم في ملكه، فلا يصير بالبيع مستهلكًا للزكاة، بل يصير ناقلًا، إياها من محل إلى محل، وله ولاية النقل حتى جاز أدء القيمة عندنا، فأما إذا حصل البيع بعوض لا يعدله، فالعوض لا يقوم مقام جميع مال الزكاة، فيصير بالبيع مستلهكًا مال الزكاة لا ناقلًا، والاستهلاك سبب وجوب الضمان.
ثم إذا وجب الضمان بالاستهلاك وزال الاستهلاك بانفساخ السبب من الأصل برئ من الضمان؛ لأن انفساخ السبب يوجب انعدامه من الأصل، كأن لم يكن وانعدام سبب الضمان يوجب انعدام الضمان، وإن زال بطريق الارتفاع لا بطريق الانفساخ من الأصل لا يبرأ عن الضمان؛ لأن ارتفاع السبب لا يوجب زوال الحكم؛ لأنه لا يظهر عدم السبب من الأصل ووجود السبب يشترط لثبوت الحكم، أما بقاؤه لا يشترط لبقاء الحكم، فيبقى حكم الضمان وإن زال السبب.
إذا عرفنا هذا الأصل جئنا إلى بيان المسائل: قال محمد رحمه الله في (الأصل): إذا كان له إبل سائمة باعها بعد الحول حتى بعد البيع ثم حضر الساعي، فإن قال له البائع: أنا أدفع إليك قيمة الواجب أو عين الواجب من مال آخر، فلا سبيل له على المشترى، وإن قال له البائع: ليس عندي ما أدفعه إليك للحال، ينظر: إن كان البائع والمشتري في مجلس العقد بعد، فالساعي بالخيار إن شاء اتبع البائع بقدر الزكاة؛ لأن الزكاة وجبت عليه، وإن شاء اتبع المشتري وفسخ العقد في قدر الزكاة، وأخذ ذلك من النصاب.
وإن حضر الساعي بعدما تفرق البائع والمشتري عن مجلس العقد، فالقياس أن للساعي الخيار على نحو ما بينا، وفي الاستحسان لا سبيل له على المشتري، بل يتبع البائع بقدر الزكاة بمال.
وإذا بادل عروض التجارة بعروض التجارة وهي مثلها في القيمة أو باعها بدراهم أو دنانير لا يصير ضامنًا للزكاة؛ لأنه بادل مال الزكاة بعوض يعدله، بخلاف ما إذا باعها بعبد للخدمة.
قال في (الجامع): رجل له ألف درهم حال عليها الحول وجبت فيها الزكاة، ثم اشترى بها عبدًا للتجارة يساوي تسعمائة وخمسين درهمًا، ثم هلك العبد سقط عنه زكاة الألف المقدر بتسعمائة وخمسين؛ لأنه بهذا القدر بادل مال الزكاة بعوض يعدله ويوازيه؛ لأن العوض للتجارة كالأصل، فلا يصير بهذا القدر مستهلكًا، بخلاف ما إذا اشترى عبدًا للخدمة أو طعامًا للأكل أو ثيابًا للبس، حيث يعتبر ضامنًا قدر الزكاة، بقيت هذه الأشياء في يده أو هلكت؛ لأنه بادل مال الزكاة بعوض لا يعدله، فيصير مستلهكًا قدر الزكاة.
وأما بقدر الخمسين وإن شاء مستهلكًا بهذا القدر؛ لأنه ليس بمقابلته عوض، إلا أن هذا القدر غبن يسير لأنه يدخل تحت تقويم المقومين منهم من يقومه بتسعمائة وخمسين، ومنهم من يقومه بألف فالاستهلاك إن ثبت بقول أحدهما لم يثبت بقول الآخر، فلا يثبت بالشك.
ولو كان اشترى بالألف عبدًا قيمته خمسمائة وتقابضا وهلك العبد في يده لزمه زكاة خمسمئة، لأن بهذا القدر صار مستهلكًا؛ لأنه لمس بمقابلته عوض، وهذا غبن فاحش لأنه لا يدخل تحت تقويم المقومين والغبن الفاحش ليس بعفو؛ لأنه استهلاك بيقين، وعن أبي يوسف أن المشتري إنما يضمن زكاة خمسمائة إذا علم أن قيمة العبد خمسمائة واشتراه مع ذلك بالألف، أما إذا حسب أن قيمته ألف لا يضمن شيئًا، لأنه ما قصد الاستهلاك بل خدعه البائع، فكان مغرورًا من جهته فيكون معذورًا، والصحيح ما ذكر في (الكتاب)؛ لأن علم المشتري وجهله أمران باطنان لا يوقف عليهما، فلا يتعلق الحكم بها، بل يتعلق بسبب ظاهر، وفي الظاهر استهلاك، وما يقول البائع خدعه.
قلنا: إنما يكون كذلك إذا قال البائع هذا العبد يساوي ألفًا ورغبه في الشراء بالألف؛ لأنه يساوي، ولا كلام فيه حتى قال مشايخنا: لو قال البائع للمشتري ذلك لا يبعد أن يقول: لا يضمن المشتري.
رجل له ألف درهم حال عليها الحول ووجب فيها الزكاة، ثم إنه وهبها لرجل وسلمها إليه صار ضامنًا للزكاة، لأنه صار مستهلكًا قدر الزكاة بإزالته عن ملكه بغير عوض أصلًا، فلو أن الواهب رجع في الهبة نقضًا بغير رضا وقبضها، وهلكت في يده فلا زكاة عليه.
علّل في (الكتاب) فقال: لأنها رجعت إلى حالتها الأولى، ومعنى هذا الكلام: أن الرجوع في الهبة فسخ في حق الناس كافة، والدراهم تتعين في الهبة، فتعين في فسخها، فعاد إليه قديم ملكه في الدراهم وارتفع الاستهلاك، فقد جعل الرجوع بالهبة فسخًا في حق الناس كافة، وإن حصل الرجوع بتراضيهما على رواية (الجامع) وفي كتاب الهبة........ هكذا على رواية أبي حفص، وعلى رواية أبي سليمان جعله عقدًا جديدًا في حق الثالث إذا حصل بتراضيهما.
وحكى الجصاص بإسناده عن محمد رحمه الله: أن القياس أن يكون الرجوع في الهبة فسخًا سواء بقضاء أو بغير قضاء غير أني أستحسن، فلا أجعله فسخًا إذا كان بغير قضاء، وعلى قول أبي يوسف هو فسخ على كل حال.
قيل: ما ذكر في (الجامع) وفي كتاب الهبة في رواية أبي حفص قياس، وما ذكر في رواية أبي سليمان والمتأخرون من مشايخنا قالوا: الصحيح ما ذكر في (الجامع)، وفي كتاب الهبة في رواية أبي حفص، والوجه في ذلك أن الواهب بالرجوع يستوفي عين حقه؛ لأنه استحق الرجوع في الموهوب بنفس الهبة لا بدلًا عن شيء يصلح أن يكون الفسخ عوضًا عنه، وهذا لأن العوض المال وإن كان عوضًا للواهب بالهبة، إلا أن العوض المالي لا يصير مستحقًا بالمطالبة لمكان الجهالة، فلا يمكن أن يجعل الفسخ عوضًا عنه، وما عدا العوض المالي ليس بعوض، ولا مستحق بالعقد إذا لم يكن ما عدا العوض المالي عوضًا ومستحقًا بعقد الهبة، ولا يمكن أن يجعل فسخه عوضًا عن العوض المالي كان الفسخ ثابتًا بنفس الهبة ابتداء لا بدلًا، ولهذا لو تعذر الفسخ بسبب من الأسباب لا يستحق الواهب الرجوع بشيء آخر.
فهو معنى قولنا: إن الواهب بالرجوع استوفى عين حقه، فلا يكون بيعًا جديدًا، بل يكون فسخًا في حق الناس كافة، كما لو حصل الرجوع بقضاء.
ولم يذكر في (الكتاب): إذا رجع في الهبة ولم يقبضها حتى هلكت في يد الموهوب له، هل يضمن قدر الزكاة؟ وقد اختلف المشايخ فيه بعضهم، قالوا: يضمنون؛ لأن سبب الضمان الهبة والتسليم، الهبة إن انتقضت بالرجوع، فالتسليم لم ينتقض، فلا يبطل الضمان، وبعضهم قالوا: لا يضمن؛ لأنه إنما ضمن بالهبة والتسليم من حيث إنه أزال قدر الزكاة عن ملكه بعدما تعلق به حق الفقراء من غير تلف لا من حيث إنه دفعه إلى غيره، وبالرجوع عاد إليه قديم ملكه على رواية هذ الكتاب، فزال سبب الضمان، فيزول الضمان.
ولو كان اشترى بالألف عبدًا للخدمة بعد الحول حتى ضمن قدر الزكاة، ثم إن المشتري وجد بالعبد عيبًا ورده بقضاء، أو بغير قضاء واسترد تلك الألف وهلك في يده لا تسقط عنه الزكاة؛ لأن سبب الضمان لم يزل؛ لأن أكثر ما في الباب أنه عاد إليه ملك الألف إلا أنها ما عادت إليه بسبب الفسخ؛ لأن الدراهم والدنانير لا يتعينان في فسخ البيع كما لا يتعينان في البيع، فالفسخ أوجب الألف دينًا في ذمة البائع، والمشتري أخذ هذه الألف عوضًا عما وجب في ذمة البائع، لا بحكم الفسخ، فلم يكن هذا الاسترداد إعادة إلى قديم الملك.
بل كان تمليكًا ابتداء عوضًا عما وجب في الذمة، وتجدد الملك يُنزّل منزلة تجدد البيع، ولو وصل إليه عين آخر اليسر أنه لا يرتفع حكم ذلك الاستهلاك كذا هاهنا، بخلاف الرجوع في الهبة؛ لأن الدراهم والدنانير تتعينان في الهبة، فيتعينان في الفسخ فعين النصاب عاد إليه بناءً على انفساخ سبب الزوال، فافترقا من هذا الوجه.
رجل تزوج امرأة على ألف درهم، ودفعها إليها، فحال عليها الحول وهي في يدها حتى وجبت عليها الزكاة، ثم طلقها قبل الدخول بها وأخذ منها نصف الألف، لا يسقط عنها شيء من الزكاة؛ لأن الدراهم لا تتعين عند فسخ النكاح كما لا تتعين عند عقد النكاح، فبالطلاق قبل الدخول بها يجب عليه رد نصف الألف دينًا في الذمة، فهذا دين لحقها بعد الدخول، وقد قضت ذلك من محل تعلق به حق الفقراء، فصارت ضامنة للزكاة.
ولو تزوجها على إبل سائمة أو غنم سائمة أو بقر سائمة، ودفعها إليها، فحال الحول عليها، وهي عندها ثم طلقها قبل الدخول بها وأخذ منها النصف، فلا زكاة عليها في النصف الذي دفعت إلى الزوج، وإنما عليها الزكاة في النصف الباقي.
وهذا الجواب لا يشكل فيما إذا تزوجها على إبل بعينها؛ لأنها تعينت للرد، فالاستحقاق ورد على بعض النصاب بعينه، وإنه يوجب سقوط الزكاة بقدره، وإنما يشكل هنا إذا تزوجها على إبل بغير عينها ثم عينها؛ لأن الإبل إذا لم تكن معنية عند العقد، فعند الفسخ بطلاق الزوج لا يستحق عليها نصف المقبوض، وإنما يستحق مثل المقبوض دينًا في الذمة أو نصف قيمة المقبوض، فلم تصر عين مال الزكاة مستحقًا، فينبغي أن لا يسقط شيء من الزكاة، ألا ترى أن الإبل إذا لم تكن معنيًا عند العقد، فالمرأة لا تستحق عين الإبل إنما تستحق أحد الشيئين؛ إما الوسط من المسمى أو القيمة، كذا الزوج عند الطلاق.
فمن مشايخنا من حمل المسألة على ما إذا تزوجها على إبل بعينها ألا ترى أن محمدًا رحمه الله قال تزوجها على إبل سائمة وإسامة ما في الذمة لا يتصور، وإنما يتصور إسامة العين، ومنهم من قال الجواب في العين وغير العين على السواء، وهو الصحيح.
وإطلاق محمد رحمه الله في (الكتاب) يدل عليه، والتنصيص على السائمة لا يدل على إرادة العين.
فقد ذكر محمد رحمه الله في كتاب النكاح: إذا تزوجها على إبل سائمة بغير عينها، فالوجه في المسألة أن الإبل لم تكن معينة عند العقد إلا أن بعد ما عينها التحقت بالمعين وقت العقد كأن العقد من الابتداء ورد عليها، وإنما التحقت بالمعين وقت العقد ضرورة أنها لو لم تلتحق بالمعين وقت العقد وجب على المرأة بالطلاق قبل الدخول مثل ما يجب على الزوج عند العقد، ولا وجه إليه؛ لأنه وقع التفاوت بين مثل نصف المقبوض وبين المقبوض؛ لأن الحيوان ليست من ذوات الأمثال.
وكذا يقع التفاوت بين نصف المقبوض وقيمته، والتحرز عن هذا التفاوت ممكن بإيجاب نصف المقبوض وإلحاق المقبوض بالمعين وقت العقد، فألحقنا المقبوض بالمعين وقت العقد، فأوجبنا رد نصف المقبوض بخلاف ابتداء العقد؛ لأن الاحتراز عن هذا التفاوت في ابتداء العقد بإيجاب المعين غير ممكن إذ ثبت حالة العقد غير معين، فأما بعد الطلاق تعين المقبوض بالقبض فأمكن إيجاب نصفه تحرزًا عن التفاوت، وإذا أوجب عليها رد نصف المقبوض صار غير مال الزكاة مستحقًا عليها، وهذا بخلاف الدراهم؛ لأن الدراهم بالتعيين لا تلتحق بالمعين وقت العقد، وكيف تلتحق وإن تعيينها وقت العقد لا يصح.
ثم إن محمدًا رحمه الله أوجب عليها الزكاة في النصف الباقي، ولم يشترط أن يكون ذلك نصابًا، وفرق بين هذا وبين ما إذا لم تقبض المرأة الإبل حتى طلقها بعد الحول قبل الدخول بها، فإن عليها زكاة نصفها إن كان نصابًا والفرق أن الصداق إذا كان عينًا وكان مقبوضًا، فبالطلاق قبل الدخول لا ينتقض ملكها في النصف إلا بقضاء ورضاء، وإذا لم يكن مقبوضًا فبالطلاق قبل الدخول ينتقض ملكها في النصف من الأصل من غير قضاء ولا رضاء.
فالوجه في ذلك: أن بالطلاق قبل الدخول يفسد سبب الملك في نصف الصداق؛ لأن العقد ورد على العين بالعين وقد هلك أحدهما قبل القبض، وبقي الآخر، والأصل أن العقد إذا ورد على العين بالعين، وهلك أحدهما قبل القبض وبقي الآخر، يفسد العقد في الآخر ولا يبطل؛ لأن كل واحد منهما أصل من وجه، فبقاء ما بقي يوجب بقاء العقد، وهلاك ما هلك يوجب انفساخ العقد، فعملنا بهما فقلنا ببقاء أصل العقد، وبارتفاع وصف الصحة إذا ثبت أن سبب ملكها في نصف الصداق يفسد بالطلاق قبل الدخول.
فنقول: فساد السبب لا يمنع ثبوت الملك في اليد بعد القبض، فلا يمنع بقاء من الطريق الأولى، فيبقى الملك إلا أنه ينتقض بالقضاء أو الرضا، فيقتصر البطلان على حالة القضاء أو الرضا، وكان بمنزلة هلاك البعض بعد الحول، فلا يشترط كون الباقي نصابًا، أما فساد السبب قبل القبض يمنع ثبوت الملك فيمنع البقاء، فينتقض الملك في النصف من الأصل، وصار كأن لم يكن، وكان كالمال المشترك بينهما، فيشترط أن يكون نصابًا.
وإن كانت الإبل قد ازدادت في يديها زيادة متصلة ثم طلقها قبل الدخول بها لا يسقط عنها شيء من الزكاة، لأن الواجب عليها في هذه الصورة: رد نصف القيمة لا رد نصف الأصل؛ لأن الزيادة المتصلة في المهر تمنع بنصف العين بالطلاق قبل الدخول على ما عرف؛ فلم يصر عين مال الزكاة مستحقًا، ذكر المسألة في (الجامع) من غير ذكر الخلاف، وذكر في نكاح (الأصل): أن الزيادة المتصلة بالمهر تمنع بنصف المهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد وزفر: لا تمنع، ولما كان قول محمد في الزيادة المتصلة أنها لا تمنع بنصف المهر صار نصف المهر عين مال الزكاة مستحقًا عليها، فينبغي أن تسقط نصف الزكاة، وتبين مما ذكر في نكاح (الأصل) أن المذكور في الجامع قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وعلى قول محمد، وزفر لا تمنع ويكون المذكور، في (الجامع) قول الكل وثبت برجوع محمد إلى قولهما؛ لأن (الجامع) آخر تصانيف محمد رحمه الله.
ولو لم يكن الزوج طلقها قبل الدخول، ولكنها قبلت ابن زوجها قبل الدخول بها بشهوة حتى بانت من زوجها، وجب عليها رد جميع البدل إذا لم تزدد الإبل في بدنها لمكان الفرقة الجاثية من قبلها قبل الدخول بها، وسقط عنها كل الزكاة؛ لأن عين مال الزكاة استحق عليها بكماله.
فإن قيل: سبب استحقاق مال الزكاة صنعها، وهو التقبيل، فصارت مستهلكة مال الزكاة، فتصير ضامنة قدر الزكاة، والواجب أن بالتقبيل في هذه الصورة لا يزول ملكها عن الصداق متى كان الصداق عينًا، وكان مقبوضًا ما لم يقض القاضي بالرد أو ترد هي بنفسها؛ لأن النكاح في هذه الصورة مشتمل على عوضين يتعينان بالعقد؛ لأن المرأة عين والصداق في هذه الصورة عين أيضًا، والمعاوضة متى اشتملت على عوضين عينين يتعينان بالمعاوضة وهلك أحدهما قبل التسليم، والآخر مقبوض، فالمقبوض يبقى ملكًا للقابض ملكًا فاسدًا ما لم يقض القاضي بالرد أو يرد القابض بنفسه على ما مر.
إذا ثبت هذا فنقول: هلك أحد العوضين وهو المرأة معنى بالتقبيل، والعوض الآخر وهو الصداق مقبوض، فبقي ملكًا لها ملكًا فاسدًا ما لم يقض القاضي بالرد أو ترد هي بنفسها، فهو من حيث المعنى كالرد بقضاء القاضي؛ لأنها ردت بسبب فساد الملك، والرد بقضاء وبغير قضاء سواء؛ لأنه في الحالين لا يثبت عقد جديد في حق الثالث؛ لأنها في الحالين موقفه عين حق الزوج، فإن كانت قبلت ابن زوجها، وقد ازدادت الإبل في يديها جبرًا لا يجب عليها رد الإبل عندهما، لقيام المانع من الرد، وهو الزيادة المتصلة، فترد القيمة وعليها جميع زكاة الإبل؛ لأن عين مال الزكاة لم يصر مستحقًا عليها، وعلى قول محمد رحمه الله على ما ذكر محمد في نكاح (الأصل)، يجب عليها رد عين الإبل؛ لأن الزيادة المتصلة ليست بمانعة نصف العين فيلزمها رد عين الإبل، وتسقط جميع الزكاة عنها لاستحقاق عين مال الزكاة عليها بكماله، والله أعلم.

.الفصل الخامس في انقطاع حكم الحول وعدم انقطاعه:

إذا استبدل الدراهم أو الدنانير بجنسها أو بخلاف جنسها لم ينقطع حكم الحول، حتى لو تم حول الأصل تجب الزكاة، وكذلك إذا بادل عروض التجارة بعروض التجارة لا ينقطع حكم الحول، وإذا استبدل السائمة بخلاف جنسها بأن باعها بدراهم أو دنانير أو بجنسها بأن باعها بإبل مثلها مثلًا يبطل حكم الحول عندنا، وهذا لأن الزكاة السائمة تجب باعتبار العين ولا يراعى فيها القيمة، وكان انعقاد الحول عليها باعتبار العين، والعين الثاني غير الأول حقيقة، فقد تبدل ما انعقد عليه الحول، فيبطل حكم الحول ضرورة بخلاف عروض التجارة؛ لأن وجوب الزكاة في عروض التجارة، وانعقاد الحول عليه باعتبار القيمة، والقيمة لم تتبدل.
فإن قيل: زكاة السائمة كما تجب باعتبار العين تجب باعتبار القيمة والمالية أيضًا، ألا ترى أنه لو هلكت المالية بالموت لا تجب الزكاة، وهاهنا إن تبدل العين لم تتبدل المالية، فاعتبار العين يوجب بطلان الحول، واعتبار المالية يوجب بقاء الحول، فلا يبطل الحول بالشك.
قلنا: وجوب الزكاة في السائمة إن كان باعتبار العين والمالية جميعًا إلا أن اعتبار العين أولى، لأن العين أصل، والمالية تبع، فإن العين تبقى بدون المالية، والمالية لا تبقى بدون العين، فإذا تبدل العين، فقد تبدل الأصل، فجعل المالية مقيدًا له حكمًا ومعنى تبعًا وإن لم تتبدل من حيث الحقيقة، وإذا تبدل العين والمالية جميعًا بطل حكم الحول ضرورة.
وإذا كان للرجل إبل سائمة، فإذا كان قبل الحول بشهر هلك واحدة منها لا يبطل حكم الحول عندنا، حتى لو استفاد واحدة منها أخرى قبل الحول ثم تم الحول تجب الزكاة عندنا، وهذا بناءً على أن نقصان النصاب في أثناء الحول لا يمنع وجوب الزكاة بلا خلاف، وهذا لأن الحول إنما ينعقد باعتبار المال، وبعض المال في السوائم عندنا خلافًا للشافعي، وفي عروض التجارة والدراهم والدنانير نقصان النصاب في أثناء الحول لا يمنع وجوب الزكاة إن زال بقي البعض.
فزوال ما زال إن كان يوجب بطلان الحول، فبقاء ما بقي يوجب بقاء الحول وقد عرف أن الحكم متى ثبت بعلة يبقى ما بقي شيء من العلة، وعلى هذا إذا جعل البعض علوفه في خلال الحول لا يبطل حكم الحول عندنا، وإنما يبطل إذا جعل الكل علوفة؛ لأن الحول إنما ينعقد على المال باعتبار النماء، فإذا جعل الكل علوفة، فقد زال جميع ما انعقد عليه الحول بخلاف ما إذا جعل البعض، لأن هناك بقي بعض ما انعقد عليه الحول، فبقي حكم الحول باعتباره.
وفي (فتاوى الفضلي): سئل عمن له غنم للتجارة منها تبلغ نصابًا، فماتت في خلال الحول، فسلخها ودبغ جلدها وقيمة الجلد تبلغ نصابًا، فعليه الزكاة عند تمام الحول قال: وبمثله لو كان عصيرًا للتجارة تبلغ قيمته نصابًا فتخمر في خلال الحول ثم تخللت، وقيمته تبلغ نصابًا ثم تم الحول، فلا زكاة عليه وأشار إلى الفرق فقال لابد وأن يكون على ظهر الشاة شيء من الصوف له قيمته، فيبقى الحول باعتباره، ولا كذلك العصير.
وذكر مسألة الجلد في (المنتقى): على نحو ما ذكرنا ولم يذكر مسألة العصير، وذكر المعنى في مسألة الجلد، فقال: الجلد في نفسه مال، لكن لا تظهر أحكام المالية لمجاورة النجاسات إياه، فمن حيث إنه مال يبقى الحول، وهذ المعنى يقتضي بقاء الحول في مسألة العصير؛ لأن الخمر عندنا مال إلا أنه ليس بمتقوم، فيبقى الحول من حيث إنه مال.
ونص القدوري في (شرحه) أن حكم الحول لا ينقطع في مسألة العصير، وسوى بين مسألة العصير وبين مسألة الشاة.
قيل: وفي (نوادر ابن سماعة): أن الحول لا ينقطع في مسألة العصير كما ذكره القدوري.
ولو كان له عبد للتجارة كاتبه ثم عجز ورد في الرق، ذكر في (المنتقى): أنه لا يعود للتجارة، وقيل: وفي (الجامع): أنه يعود للتجارة، قال في (المنتقى): وكذلك إذا لم يكاتبه، ولكنه وهبه لرجل ودفعه إليه ثم رجع في نفسه لم تكن للتجارة، وكان هبته إياه إخراجًا له من التجارة، قال: والبيع في هذا يفارق الهبة وأشار إلى الفرق؛ فقال: ألا ترى أني لو أمرت رجلًا أن يهب عبدي هذا من فلان، فوهبه له ثم رجعت فيه لم يكن له أن يهبه له ثانيًا، ولو أمرته ببيع عبد لي، فباعه ثم ردّ إليّ بعيب كان له أن يبيعه مرة أخرى.
وفي (القدوري): إذا كان العبد للتجارة فقتله عبد خطأً، فدفع به فالثاني للتجارة؛ لأن الثاني قائم مقام الأول لحمًا ودمًا فيبقى حكم الأول فيه ولو قتله عبد عمدًا، فصالحه المولى عن الدم على العبد أو على غيره، لم يكن للتجارة لأنه عوض عن شيء آخر هو ليس بمال، وليس بقائم مقام الأول، فلا يبقى حكم الأول والله أعلم.

.الفصل السادس في تعجيل الزكاة:

ويجوز تعجيل الزكاة قبل الحول إذا ملك نصابًا عندنا؛ لأنه أدى بعد وجود سبب الوجوب؛ لأن سبب الوجوب نصاب نام؛ فإن نظرنا إلى النصاب فالنصاب قد وجد؛ وإن نظرنا إلى النماء فقد وجد أيضًا؛ لأن العبرة لسبب النماء وهو الإسامة أو التجارة لا لنفس النماء، وقد وجد سبب النماء.
بخلاف ما إذا عجل قبل كمال النصاب؛ لأنه أدى قبل وجود سبب الوجوب، وإذا عجل زكاة سنتين، يجوز عن علمائنا الثلاثة خلافًا لزفر، وكذلك إذا عجل زكاة نصب كثيرة، وله نصاب واحد جاز عند علمائنا الثلاثة، وإذا عجل عشر نخلة قبل أن يخرج منه شيء لا يجزئه عند أبي حنيفة ومحمد، ويلزمه أن يعطي عشر الخارج وعلى قول أبي يوسف يجوز التعجل، ولا يلزمه شيء إذا كان ما أدى مثل عشر ما خرج.
وعلى هذا الخلاف: إذا زرع وعجل العشر قبل النبات، ولو عجل بعدما نبت وصار له قيمة، فإنه يجزئه بالإجماع، إذا خرج الحب بعد ذلك.
وجه قول أبي يوسف: أنه أدى بعد وجود سبب الوجوب؛ لأن النخيل سبب حصول التمر؛ لأن بعد وجود النخيل لا يحتاج إلى واسطة اختيارية لحصول التمر وهذا هو حد السبب، وكذلك الزراعة سبب حصول الحب بهذا الطريق، وإذا كان سببًا لخروج التمر والحب كان سببًا لوجود النماء، فيكون سببًا للوجوب، فكان الأداء بعد وجود سبب الوجوب، وعلى هذا الجواب يخرج ما أدى قبل الزراعة.
وجه قول محمد: أن الأداء حصل قبل وجود سبب الوجوب؛ لأن سبب وجوب العشر الخارج الذي يجب فيه العشر كما أن سبب وجوب الزكاة المال الذي تجب فيه الزكاة.
وفي (المنتقى): قال أبو يوسف: لا بأس بتعجيل زكاة النخل والكرم لسنين؛ لأن هذا قائم كالحرث الذي بذره حال ثمنه، قال أبو يوسف: وأما الأنعام إذا أراد أن يزكي ما في بطونها مع الأمهات ويحتسب بها في العدد، فعجل ذلك قبل الحول أجزأه إذا كانت حوامل.
وفيه أيضًا: الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل له ألف درهم أراد أن يعجل زكاتها قبل الحول فعليه أن يزكي من كل إحدى وأربعين درهمًا، وسيأتي المعنى فيه بعد هذا، وإن حال الحول قبل أن يؤدي وجب عليه في كل أربعين درهمًا درهم، ولو كانت له واحد وأربعون ألف درهم، فعجل زكاتها عجل ألف درهم وليس عليه أكثر منها؛ لأن الحول إنما يحول على أربعين ألفًا.
قال محمد في (الزيادات): رجل مرّ على العاشر بمائتي درهم، فأخبر العاشر أنه لم يتم حوله، وحلف على ذلك لم يأخذ منه العاشر شيئًا، فإن طلب فيه العاشر أن يعجل زكاته خمسة ففعل، فهذه المسألة تشتمل على فصول ثلاثة:
الفصل الأول: أن يتم الحول وعند صاحب المال ما بقي من المال مائة وخمسة وتسعون:
وهذا الفصل على سبعة أوجه:
الوجه الأول: أن يتم الحول والخمسة المقبوضة قائمة في يد العاشر وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة قياسًا، ويصير زكاة استحسانًا، لم يذكر القياس والاستحسان هاهنا، إنما ذكره في فصل الإبل، عامة المشايخ على أن ذكر القياس والاستحسان في فصل الإبل ذكر في فصل الدراهم.
وجه القياس: أن المعجل إنما يصير زكاة إذا ثبت الوجوب في آخر الحول؛ لأن أداء الزكاة ولا زكاة مستحيل، ولا زكاة إلا بعد الوجوب ولا وجوب في آخر الحول هاهنا لانعدام شرطه، وهو كمال النُّصُب، فإن المؤدى خرج عن ملكه بالأداء، ولهذا لو أراد أن يسترد من العاشر لم يكن له ذلك.
وجه الاستحسان: أن يد الساعي في المقبوض قبل الوجوب، وهو المعجل قائمة مقام يد الملك، وفي المقبوض بعد الوجوب قائمة مقام يد الفقراء، وهذا لأن المقبوض قبل الوجوب حق المالك، والساعي يقبض مال المالك بأمره ويعمل له، فيكون نائبًا عنه واعتبرت يده يد المالك، والمقبوض بعد الوجوب حق الفقراء.
ولهذا يجبر المالك على الأداء، والإنسان لا يجبر على أدء المالك لحق نفسه، وإنما يجبر لحق غيره، ولا حق في الصدقة إلا للفقراء، فتعتبر يد الساعي في قبض حقهم قائمًا مقام يدهم، ومتى أشكل الأمر فيها عند الإخراج الدفع أنها واجبة وليست بواجبة كان حكمها موقوفًا، فإن ظهر أنها واجبة تبين أن يد الساعي كانت يد الفقراء من يوم الأخذ، وإن ظهر أنها نفل تبين أن يد الساعي يد صاحب المال من وقت الأخذ، إذا ثبت أن يد الساعي في المعجل قائمة مقام يد المالك صارت الخمسة المعجلة في يد المالك حكمًا، فيكمل به النصاب ويثبت الوجوب، فيصير المعجل زكاة.
الوجه الثاني: أن يستهلكها العاشر، ويأكلها قرضًا، وهو الوجه الثالث؛ إذا أخذها عمالة له نفسه، وهو الوجه الرابع، وهذه الوجوه على القياس والاستحسان أيضًا.
وجه القياس: أن المعجل في هذه الصور لا يمكن أن يجعل باقيًا على المالك، فكان النصاب ناقصًا في آخر الحول.
وجه الاستحسان: أن المستهلك والمأكول قرض مضمون في ذمة الساعي بمثله، فيمكن تكميل النصاب به يكون الضمان قائمًا مقام المضمون، والمأخوذ عمالة لا تزول عن ملك رب المال بمجرد الأخذ، إذ لو زال لا تجب الزكاة، فلا يكون له عمالة؛ لأن العمالة في الصدقة الواجبة فيصير المأخوذ عمالة حينئذٍ دينًا على الساعي، ويكمل به النصاب، ففي إبطال الزكاة ابتداء إيجابها انتهاء، غير أن في فصل الاستهلاك والقرض نوع إشكال، فإن المعجل صار دينًا في ذمة الساعي، وأداء العين عن الغير لا يجوز، ولا يقال بأن المعجل يصير زكاة من حين دفعه وعند ذلك كان عينًا، لأنا نقول هذا فاسد؛ لأن المعجل لو صار زكاة من حين دفعه، تخرج الخمسة من ملك المالك من وقت التعجيل، فلا يكمل به النصاب، ولا تجب الزكاة، فيبطل المعجل ولا يصير زكاة، فتقتصر صيرورة المعجل زكاة على الحال، وعند ذلك يتأتى الإشكال.
الوجه الخامس: أن يتصدق بها العاشر على المساكين قبل تمام الحول، ثم تم الحول، وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة لانعدام الوجوب في آخر الحول، لعدم كمال النصاب؛ لأن المعجل بوصوله إلى كف الفقير خرج عن ملكه حقيقة وحكمًا، ولا ضمان على الساعي؛ لأن التصدق حصل بإذن المالك.
بيانه: أن الدفع إلى الساعي والساعي يقبض للمساكين، ويحتمل أن يصرفها إلى الفقراء قبل تمام الحول إذن بالدفع، زكاة على تقدير وجوب الزكاة، بأن يستفيد خمسة أخرى قبل الحول، وإذن بالدفع تطوعًا على تقدير عدم وجوب الزكاة.
الوجه السادس: أن يأكلها الساعي صدقة بحاجة نفسه، والجواب فيه نظير الجواب في الوجه الخامس لأن التصدق به على نفسه كالتصدق على مسكين آخر.
الوجه السابع: إذا ضاعت من يد الساعي قبل تمام الحول ثم وجدها بعد تمام الحول، وفي هذا الوجه لا يصير المعجل زكاة؛ لأن تكميل النصاب بالخمسة المفقودة متعذر؛ لأنها ضمان، وإذا لم يصر المعجل زكاة كان للمالك أن يسترده من الساعي، فإن لم يسترده حتى تصدق بها العاشر لم يضمنه، هكذا ذكر في (الكتاب) بعض مشايخنا، قالوا: هذا على قولهما، أما على قول أبي حنيفة: ينبغي أن يضمن؛ لأن صاحب المال أمره بالأداء على وجه يسقط الفرض عنه، وهذا المعنى لا يمكن تحقيقه هاهنا.
أصله: الوكيل بأداء الزكاة إذا أداها بعدما أدى الموكل بنفسه، وهناك الوكيل ضامن عند أبي حنيفة لما قلنا، وعندهما لا يضمن فهاهنا كذلك.
والمحققون من مشايخنا قالوا: لا ضمان هاهنا عند الكل، وفرقوا لأبي حنيفة بين هذه المسألة، وبين مسألة الوكيل، والفرق: أن في مسألة الوكيل الفرض لازم وقت الأمر، فيتقيد بالأمر بالصرف على وجه يسقط الفرض عنه، وهذا المعنى عن الأمر، وهاهنا الفرض غير لازم وقت التعجيل، ويحتمل أن يكون المعجل في يد الساعي إلى آخر الحول ويحتمل أن لا يبقى، ويحتمل أن يستفيد مالًا آخر، ويحتمل أن لا يستفيد، وعلى بعض الوجوه لا يقع الصرف مسقطًا الفرض عنه، فلا يتقيد الأمر بالصرف بإسقاط الفرض عنه، وإن نهى العاشر عن التصدق في هذه الصورة ضمنها إذا تصدق بعد ذلك بلا خلاف.
الفصل الثاني: إذا استفاد صاحب المال خمسة قبل تمام الحول، فتم الحول وفي يده مائتا درهم، فإنه تجب الزكاة في الوجوه كلها، لأنه تم الحول ونصابه كامل بدون المعجل ويصير المعجل زكاة؛ لأنه عجلها لتصير زكاة عما تلزمه من الزكاة في هذه السنة، وقد لزمته الزكاة في هذه السنة، فتصير زكاة، وليس عليه في الخمسة المعجلة شيء، وإن كانت قائمة في يد المصدق، أما على قول أبي حنيفة، فلأنه لا يرى الزكاة في الكسور، وأما على قولهما، لأن المعجل صار زكاة من وقت الأداء وخرج عن ملكه، ولا زكاة بدون الملك، فقد حكم بزوال المعجل عن ملكه من وقت التعجيل، وفي الفصل الأول لم يحكم بزوال المعجل من وقت التعجيل حتى قال بوجوب الزكاة في بعض الوجوه من الفصل الأول.
ولو زال المعجل عن ملكه من ذلك الوقت لما وجبت الزكاة أصلًا لنقصان النصاب في آخر الحول.
والوجه في ذلك: أن المعجل يجب أن يكون زكاة من وقت القبض نظرًا إلى أصل المال، ويجب أن تكون زكاة عند تمام الحول نظرًا إلى أصله، وهو وصف النماء، لأن النماء إنما يحصل بالحول، إلا أنه لا معارضة بين الأصل وبين الوصف، فتجعل الزكاة من وقت التعجيل باعتبار الأصل، وإسقاطًا لاعتبار الوصف، إلا أنه إذا كان في اعتباره زكاة من وقت وجوده إبطال الوصف، فحينئذٍ يعتبر الوصف ويجعل زكاة عند تمام الحول تصحيحًا للزكاة بقدر الممكن.
قلنا: وليس في جعل المعجل زكاة من وقت التعجيل في هذه الصورة إبطال الزكاة؛ لأن الزكاة واجبة عند تمام الحول لتمام النصاب بدونه، فجعلنا المعجل زكاة زائلًا عن ملكه من وقت وجود التعجيل، فلا تجب فيه الزكاة، أما في الفصل الأول: لو جعلنا المعجل زكاة من وقت التعجيل كان فيه إبطال الزكاة؛ لأن الزكاة حينئذٍ لا تجب عند تمام الحول لنقصان النصاب بدون المعجل، فلم يجعله زكاة من وقت وجوده، فتم الحول والمعجل باق على ملكه، فكان النصاب تامًا عند الحول، فتجب الزكاة، ويصير المعجل زكاة.
الفصل الثالث: إذا ملك شيء ما في يد صاحب المال، وفي هذا الفصل لا تلزمه الزكاة في الوجوه كلها؛ لأن أكثر ما فيه أنا نجعل المعجل باقيًا على ملكه، فالنصاب مع ذلك ناقص عند تمام الحول، فلا يجب الزكاة ولا يصير المعجل زكاة، فبعد ذلك إن كان المعجل قائمًا في يد الساعي استرده المالك، فإن كان قد أكلها قرضًا أو أخذها بعمالة نفسه أو استهلكه ضمن مثل ذلك لصاحب المال، وإن كان قد أكلها صدقة بحاجة نفسه أو كان تصدق بها على الفقراء فلا ضمان، وإن كان قائمًا في يده وتصدق بها في الحال هل يضمن؟ فهو على الخلاف الذي مرّ.
رجل له مائتا درهم عجّل منها خمسة ودفعها إلى المصدق ثم هلكت المائتان إلا درهمًا وذلك قبل الحول، فأراد صاحب المال استرداد المعجل ليس له ذلك والأصل في هذا أن كل تصرف صح بجهة، لا يجوز نقضه ما لم تبطل تلك الجهة بيقين.
ألا ترى أن المشتري يشرط الخيار للبائع إذا عدّ الثمن في مدة الخيار لا يملك استرداده؛ لأن النقد قد صح بجهة الثمنية، ولم تبطل هذه الجهة قطعًا؛ لأن احتمال أن يصير المؤدّى ثمنًا قائمًا.
وكذلك المستأجر إذا عجل الأجرة قبل استيفاء المنفعة لم يملك الاسترداد، وإنما لم يملك لما قلنا.
إذا ثبت هذا فنقول: دفع الخمسة إلى المصدق بجهة الزكاة قد صح، ولم تبطل هذه الجهة قطعًا لاحتمال أن يستفيد ما يكمل به النصاب قبل الحول، وكذلك لو أنفق صاحب المال الدراهم كلها قبل الحول والخمسة المعجلة قائمة في يد الساعي أو أكلها قرضًا أو استهلكها، أو أخذها بعمالة نفسه، فليس لرب المال أن يأخذ ذلك منه، وكذلك لو عجل المائتين كلها، وأداها إلى العاشر لا يملك استرداد شيء منه للحال لاحتمال إلى آخر الحول مقدار ما يصير المؤدى زكاة عنه، ويكون الحول باقيًا باعتبار المؤدى، إذ المؤدى باقٍ على ملك المالك؛ لكون يد الساعي قائمة مقام يد رب المال في هذه الحالة.
فرع على هذه الصورة:
وهي ما إذا عجل المائتين كلها، فقال: لم أستفد شيئًا حتى تم الحول، والمائتان قائمة في يد العاشر، كان له أن يسترد من الساعي مائة وخمسة وتسعين ولا يسترد الخمسة؛ لأن مقدار الخمسة صار زكاةً، وما عدا الخمسة لم يبق لها احتمال أن تصير زكاة هذه السنة، وهو إنما عجل ليصير المعجل زكاة هذه السنة، فلو كان استفاد ألف درهم قبل تمام الحول، فالساعي يمسك من المائتين زكاة ألف، خمسة وعشرين، بقي هناك مائة وخمسة وتسعون يمسك الساعي هذا المقدار عند أبي حنيفة، وعندهما يمسك أربعة دراهم وثلاثة أثمان درهم، فأبو حنيفة لا يرى زكاة الكسور، وهما يريان ذلك.
رجل له خمس وعشرون من الإبل السائمة عجل منها بنت مخاض ودفعه إلى العاشر، فتم الحول وفي يد صاحب الإبل أربعة وعشرون، ففي القياس يصير قدر أربع من الغنم من بنت المخاض زكاة، ويرد الساعي الباقي، وفي الاستحسان يصير الكل زكاة، وقد مر وجه القياس والاستحسان في فصل الدراهم، هكذا ذكر في (الزيادات).
وفي كتاب (زكاة الإملاء) رواية بشر بن الوليد لا يكمل النصاب فيما (في) يد المصدق، ولا يجوز ذلك عن زكاته وعلى المصدق أن يردها على صاحبها، ويأخذ منه أربعًا من الغنم، ولو لم يحل الحول حتى هلك من إبله واحد، وبقي ثلاثة وعشرون، ثم حال الحول، فالساعي يمسك من المؤدي قدر أربع من الغنم ويرد الباقي قياسًا واستحسانًا؛ لأنا وإن جعلنا المؤدى باقيًا على ملكه تم الحول، ونصابه أربعة وعشرون، فلا يجب إلا بقدر أربع من الغنم، وإن أكلها العاشر قرضًا وهو غني ضمن قيمتها، أما حصة رب المال، فلا شك.
وأما حصة الفقراء؛ فلأنه غني والغني ليس بمحل للصدقة، وإن أكلها بحساب عمالة نفسه يضمن حصة رب المال، ولا يضمن حصة الفقراء؛ لأن حصة الفقراء وجبت زكاة، والعمالة تجب في الزكاة، وإن تصدق بها على المحتاجين أو أكل وهو محتاج لا يضمن شيئًا؛ لأن التصدق حصل بأمر رب المال.
رجل له أربعون شاة سائمة، فقبل أن يتم حولها عجل شاة منها وتصدق بها العاشر أو باعها، وتصدق بثمنها ذلك جائز، أما إذا تصدق بعينها فظاهر، وأما إذا باعها وتصدق بثمنها، فلأن المأمور بالصدقة يملك البيع والتصدق بالثمن؛ لأنه ربما يكون البيع والتصدق بالثمن أيسر عليه، فإن تم الحول وليس عند صاحبها إلا تسعة وثلاثون شاة، لا يصير المعجل زكاة، لأنه لا تجب الزكاة حينئذٍ؛ لأن المؤدى لا يمكن أن يجعل باقيًا على ملكه بعدما وصل إلى الفقير عينه أو بدله، فتم الحول ونصابه ناقص، فلا تجب الزكاة، ويكون المؤدى تطوعًا ولا يجب الضمان على العاشر؛ لأنه تصدق بأمر صاحبها.
ولو لم يبعها ولم يتصدق بعينها، وهو في يد المصدق على حالها يصير المعجل زكاة استحسانًا عند عامة المشايخ، ولو كان العاشر باعها وأخذ الثمن لنفسه على وجه العمالة ثم تم الحول، وغنم صاحب الغنم تسعة وثلاثون كان على العاشر قيمتها؛ لأن الزكاة لم (تتم) وإذا لم تتم لا تجب العمالة، وقد صار مستهلكًا لها بالبيع، ووجب عليه القيمة؛ فتم الحول وبعض النصاب قيمة، ونصاب السوائم لا تكمل بالقيمة. وكذلك إذا أكلها قرضًا، وباقي المسألة بحالها بخلاف فصل الدراهم، لأن هناك ما وجب على الساعي من جنس النصاب فجاز أن يكمل به النصاب، ولو أكلها العاشر وهو محتاج، فلا ضمان.
رجل له مائتا درهم وأربعون درهمًا عجل منه ستة دراهم فتم الحول وعند......... عند العاشر، فإن القياس على قول أبي حنيفة أن تصير الخمسة زكاة والدرهم السادس على رب المال؛ لأن الخمسة المعجلة صارت زكاة من وقت القبض، فتم الحول وماله مائتان وخمسة وثلاثون، فتجب الخمسة عن المائتين، ولا يجب في الباقي شيء؛ لأنه لا يرى زكاة الكسور، ووجه الاستحسان: أن في جعل المعجل زكاة من وقت التعجيل إبطال بعض المعجل، فيصير زكاة بعد الحول فتم الحول، وماله مائتان وأربعون.
والقياس على قولهما: أن يمسك الساعي خمسة دراهم زكاة عن المائتين، ويمسك أيضًا خمسة وثلاثين جزءًا من أحد وأربعين جزءًا من درهم وفي الاستحسان لا يرد شيئًا.
وجه القياس: أن في التعجل كل درهم يقع زكاة عن نفسه، وعن أربعين سواه، ألا ترى أنه إذا عجل عن المائتين خمسة وبقيت الخمسة في يد الساعي ثم استفاد خمسة أخرى، فالخمسة المعجل تقع عن نفسها، وعن المائتين سواها، فكذا هنا جعلت الخمسة المعجلة من المعجل زكاة من وقت القبض عن نفسها وعن المائتين، فبقي له خمسة وثلاثون أربعة وثلاثون في يده ودرهم في يد الساعي.
ولو كان في يده ستة أخرى كان كل الدراهم الزائدة زكاة عن نفسه، وعن هذه الأربعين، فإنما يجب رد شيء من الدرهم الزائد بسبب فوات ستة دراهم، فيقسم الدرهم الزائد زكاة على نفسه، وعن هذه الأربعين على واحد وأربعين، فيسقط منه بقدر ستة أجزاء من واحد وأربعين جزءًا من درهم.
وجه الاستحسان: أن ما قلنا لأبي حنيفة، ولو هلك بعد التعجيل ما فعل، فإن الساعي يمسك من الدرهم الزائد على قولهما استحسانًا، ستة أجزاء من واحد وأربعين جزءًا من درهم؛ لأن المعجل صار زكاة بعد الحول، فتم الحول، وفي ملكه مائتان وستة دراهم.
فنقول: لو كان هاهنا خمسة وثلاثون درهمًا كان الدرهم الزائد كله زكاة، فيسقط من الدرهم الزائد بقدر خمسة وثلاثين، وذلك خمسة وثلاثون جزءًا من أحد وأربعين جزءًا من درهم، وعلى قول أبي حنيفة رحمه الله: يرد الدرهم السادس كله قياسًا واستحسنًا؛ لأنا وإن جعلنا المعجل باقيًا على ملكه، فالزائد على المائتين يكون في ستة، وأبو حنيفة لا يرى الزكاة في أقل من الأربعين.
ولو أنفق صاحب المال مما في يده درهمًا، فتم الحول وفي يده مائتان وثلاثة وثلاثون درهمًا، فعلى قول أبي حنيفة الساعي يرد الدرهم الزائد كلها على رب المال قياسًا واستحسانًا لما ذكرنا، وأما على قولها فالساعي يرد على رب المال جزءًا من أربعين جزءًا من درهم؛ لأن المعجل باق على ملكه استحسانًا، فتم الحول وماله تسعة وثلاثون درهمًا، فانتقص من الأربعين درهم، فينقص من الدرهم الزائد بقدره.
رجل له أربعون من الغنم السائمة عجل شاة منها ثم إن الإمام أعطاها المصدق من عمالته، أو أخذها المصدق من عمالته بنفسه، وأشهد على ذلك، وكانت في يده سائمة حتى تم الحول وفي يد صاحب الغنم أربعون شاة......... دفعه على سبيل العمالة وصار زكاة.
ولو تم الحول وعند صاحب الغنم تسعة وثلاثون شاة فليس على صاحبها زكاة؛ لأن المأخوذ عمالة لا يمكن إبقاؤه على ملك صاحب المال، لأن هنا الأخذ وقع للساعي، فلا يمكن أن يجعل الساعي نائبًا عن رب المال فيه، فتم الحول ونصابه ناقص، وكان على الساعي رد الشاة على المالك، لأنه أخذها بحسب العمالة، وتبين أنه لا عمالة، ولو كان الساعي باعها قبل الحول بيوم نفذ البيع، يريد به إذا أخذها بعمالة نفسه وباعها لنفسه، وكان على الساعي قيمتها؛ لأنه تعذر رد عينها بسبب البيع فيلزمه رد قيمتها.
ولو كان المصدق لم يأخذها بعمالة نفسه، ولكن باعها للفقراء قبل الحول نفذ البيع، فإن تم الحول، وفي يد صاحب المال ثلاثة وثلاثون من الغنم، وثمن المعجل قائم في يد الساعي رد الثمن على المالك، أداء الزكاة هاهنا لم يجب، لأن نصاب الغنم لا يكمل بالثمن، ولو لم يبعها المصدق حتى تم الحول، وفي يد صاحب الغنم تسعة وثلاثون من الغنم ثم باعها للفقراء نفذ البيع وتصدق بثمنها؛ لأن الزكاة قد وجبت هاهنا، فإن نقصت شاة من الغنم قبل الحول ثم باع المصدق الشاة المعجلة نفذ، ولا ضمان عليه عند الكل علم بذلك أو لم يعلم على ما عليه المحققون من أصحابنا.
رجل له أربعون بقرة سائمة عجل منها مسنة ثم تم الحول وفي يده أربعون بقرة سائمة صار المعجل زكاة، وهذا ظاهر.
ولو هلكت واحدة منها قبل الحول، ثم تم الحول والمسنة في يد الساعي على حالها، فإن المصدق يمسك من المسنة قدر تبيع أو تبيعة ويرد الفضل قياسًا واستحسانًا؛ لأن المعجل إنما يصير زكاة عما لزمه، والذي لزمه قدر تبيع أو تبيعه؛ لأنا وإن جعلنا المعجل باقيًا على ملكه، ثم تم الحول ونصابه ناقص عن أربعين، فإن أراد المتصدق أن يرد المسنة ويأخذ تبيعًا، وأبى المالك ذلك وأراد المالك أن يسترد المسنة، ويرد التبيع وأبى المصدق ذلك، فليس لواحد منهما ذلك إلا برضا الآخر؛ لأن التعجيل قد صح بتراضيهما فلا يصح النقض إلا بتراضيهما، فإن تم الحول وعند صاحب البقر ستون أخذت تلك المسنة ويأخذ الساعي من صاحب البقر تام قيمة تبيعين أو تبيعتين؛ لأنه تم الحول وقد لزمه تبيعان.
فإن قال صاحب البقر للساعي: رد علي المسنة حتى أعطيك التبيعين، أو قال الساعي: أرد عليك المسنة وآخذ منك تبيعين، فليس لواحد منهما ذلك إلا برضا الآخر.
قال: ولو حال الحول وعنده أربعون من البقر فعدها المصدق وأخذ منها بقرة مسنة، ثم أعاد المصدق عدها فوجدها سبعة وثلاثين مع البقر التي أخذها المصدق وقد اتفقا على الخطأ في العدد، فلصاحب البقر أن يسترد المسنة ويعطيه تبيعًا وإن أبى الساعي ذلك. وكذلك للساعي أن يرد المسنة ويأخذ التبيع بخلاف مسألة التعجيل.
والفرق: أن التسليم والأخذ في هذه الصورة كان بناءً على تمام النصاب، وكان التراضي ثابتًا بهذا الشرط، فإذا فات الشرط فات التراضي، فثبت لكل واحد منهما الخيار، أما في مسألة تعجيل التسليم والتسلم كان مع كمال العدد، ويحتمل تمام النصاب في آخر الحول ويحتمل ضده، وكان التراضي ثابتًا مطلقًا، فلا ينفرد أحدها بالنقض.
قال: وإن لم يرد المصدق المسنة على صاحب البقر حتى ضاعت أو تصدق بها المصدق أجزأته من زكاته؛ لأنه أدى ما وجب عليه وهو قدر تبيع وزيادة شيء، فبقدر ما وجب يقع عن زكاة ماله، وهل يضمن المصدق الفضل؟ قال: ينظر إن أعطاه صاحب البقر باختياره لا يضمن؛ لأن الدفع حصل على جهة الصدقة وصح منه، ولم يوجد من المصدق بعد ذلك تعد في حقه فلا يضمن، وإن كان المصدق أكرهه على الدفع ينظر إن أكرهه وهو يرى أن عدد البقر ناقص كان ضامنًا للفضل على قدر التبيع؛ لأنه تعمد الجور والظلم.
واستدل محمد رحمة الله لإيضاح مسألة التعجيل: رجل له أربعون من البقر، فلما حال عليه الحول أتاه المصدق، فقال المصدق إني كنت أمرت غلامي أن يبيع عشرة منها قبل الحول، وأنا لا أدري أباع أو لم يبع، فخذ هذا التبيع، فإن كان باعها، فذلك زكاتها وإن لم يبعها أتممت لك زكاة الأربعين، وأخذ المصدق التبيع على هذا، ثم ظهر أن الغلام لم يبعها، فأراد المصدق أن يرد التبيع، ويأخذ المصدق المسنة أو أراد صاحب البقر أن يسترد التبيع ويأخذ المسنة أو أراد صاحب البقر أن يسترد التبيع ويأخذ المسنة لا يكون لأحدهما ذلك بدون رضا صاحبه، وأمر صاحبه البقر أن يتم زكاة الأربعين، ولا ينقض ما فعلا بتراضيهما إلا بتراضيهما، فكذا مسألة التعجيل.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل له مائتا درهم وعشرون مثقالًا من الذهب، عجل زكاة المائتين ثم هلكت المائتان قبل تمام الحول، وبقي الذهب، فإن المؤدى يكون زكاة عن الذهب، وروي عن أبي يوسف: أن المؤدى لا يكون زكاة عن الذهب ويصير تطوعًا، وعليه زكاة الذهب وهو رواية عن أبي حنيفة، ذكر رواية أبي حنيفة أبو عبد الله البلخي في المناسك.
وجه رواية أبي يوسف: أنهما مالان مختلفان، بدليل اختلاف قدر نصابهما وواجبهما والتعيين في الجنس المختلف صحيح، وإذا صح التعيين وهلك المؤدى عنه قبل الحول يصير المؤدى تطوعًا، فتبقى عليه زكاة الذهب، والدليل عليه: إذا كان له نصاب غنم ونصاب إبل عجل زكاة. الغنم، ثم هلك الغنم قبل الحول لا يقع المعجل عن الإبل وطريقه ما قلنا.
وجه ما ذكر في (الجامع): أن التعيين لم يصح؛ لأن التعيين إنما يصح في الأجناس المختلفة. وجواز التعجيل مبني على السببية، والذهب والفضة وإن كانا مختلفين حقيقة فهما في حق سببية الزكاة جنس واحد معنى، ولهذا يضم أحدهما إلى الآخر، وإذا صارا في حق، سببية الزكاة جنسًا واحدًا معنىً التحقا بالجنس الواحد حقيقة في حق هذا الحكم، فلا يصح التعيين إلا إذا كان في التعيين فائدة، فحينئذٍ يصح التعيين، ويعمل فيه بالحقيقة، وهما جنسان مختلفان حقيقة.
إذا ثبت هذا فنقول: لا فائدة للتعيين في الحال؛ لأن الواجب في مائتي درهم خمسة دراهم، وفي عشرين مثقال نصف مثقال، فأما إن كان قيمتها على السواء، أو كان قيمته نصف مثقال أقل أربعة، أو أكثر ستة، فإن كان قيمتها على السواء يسقط عنه خمسة، ويبقى خمسة جعل المؤدى عنهما أو عن أحدهما، فإن كان قيمة نصف مثقال أربعة يسقط عنه خمسة، ويبقى عليه أربعة جعلنا المؤدى عنهما، أو عن الدراهم خاصة، وإن كان قيمة نصف مثقال ستة تسقط عنه قدر خمسة ويبقى عليه قدر ستة، فجعلنا المؤدى عنهما، أو عن أحدهما يدل أنه لا فائدة في التعيين في الحال، وإنما الفائدة باعتبار الهلاك، فإنه إذا هلكت الدراهم تلزمه زكاة الدنانير بكماله، والهلاك موهوم. وإذا كان في فائدة التعيين، وهما لم يعتبرا جنسين، بل اعتبرا جنسًا واحدًا، فلا يصح. فالتعيين صار كأنه عجل خمسة ولم يعين وهناك، أو هلكت المائتان يقع المعجل عن الدنانير كذا هاهنا، بخلاف ما إذا كان نصاب غنم ونصاب إبل، وعجل زكاة أحدهما؛ لأن هناك التعيين قد صح؛ لأن الجنس مختلف، ولهذا لا يضم أحدهما إلى الآخر، والتعيين في الجنس المختلف صحيح.
وأما إذا عين الأداء عن الدراهم بعد الحول وبعد الوجوب، بل يصح التعيين حتى إذا هلكت الدراهم، بل تلزمه زكاة الذهب اختلف المشايخ فيه. بعضهم قالوا: يصح التعيين، وفرق هنا القائل فيما قبل الحول وفيما بعد الحول.
ووجه الفرق: أن الأداء قبل الحول أداء بطريق التعجيل، وإنه مبني على قيام السبب لا على قيام الواجب، والذهب والفضة في حكم السببية جنس واحد، والتعيين في الجنس الواحد لغو، أما إذا كان بعد الحول مبني على قيام الواجب، والواجب مختلف والتعيين في الجنس المختلف صحيح، وبعض مشايخنا قالوا: التعيين بعد الحول غير صحيح كالتعيين قبل الحول؛ لأنه ما يفيد إلا على اعتبار هلاك المؤدى عنه، وإنه موهوم. وفي حق هذا المعنى لا فرق فيما قبل الحول وفيما بعده، هذا إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، فأما إذا هلك المؤدى عنه بعد الحول ذكر في (الجامع) أن المؤدى يكون عنهما، وتلزمه نصف زكاة الدراهم ونصف زكاة الدنانير، وذكر في (نوادر الزكاة) أن المؤدى يكون عن الدراهم، وتلزمه زكاة الدنانير بكمالها، وهكذا ذكر في (المنتقى) عن محمد.
قال في (المنتقى) عقب هذه المسألة: وكذلك لو كان مكانها عبد وأمة للتجارة. وروى بشر عن أبي يوسف أيضًا أن المؤدى يكون عن الدراهم، ذكر هذه الرواية في (المنتقى). وجه رواية (نوادر الزكاة) و(المنتقى): أن التعيين معتبر، فإنه تلزمه زكاة الدنانير، وفيه فائدة، فإن قيمة المالين ربما تختلف بعد الحول، ربما تكون قيمة نصف مثقال أقل من خمسة دراهم بعد الحول إلا أنه إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول يلغو التعيين؛ لأن المؤدي كما قصد أن يكون المؤدى عن الدراهم قصد أن يكون المؤدى زكاة، فإذا هلك المؤدى عنه قبل الحول له اعتبرنا نية التعيين تلغو نية الزكاة؛ لأن ما أدى يصير تطوعًا إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، ومتى اعتبرنا نية الزكاة تلغو نية التعيين.
فنقول: إلغاء نية التعيين أولى من إلغاء نية الزكاة؛ لأن نية التعيين غير محتاج إليها، فإنه لو عجل خمسة دراهم ناويًا عما يجب عليه يجوز، ويكون المؤدى عن المالين، ونية الزكاة محتاج إليها إذا كان المؤدى محتاج إليها، فإنه لو عجل خمسة دراهم ناويًا عما يجب عليه يجوز، ويكون المؤدى عن المالين، ونية الزكاة محتاج إليها إذا كان المؤدى بعض النصاب حتى يصير المؤدى كله زكاة، ولا شك أن إلغاء ما لا يحتاج إليه أولى من إلغاء ما يحتاج إليه، فأما إذا بقي المالان بعد الحول أمكن اعتبار نية الزكاة مع نية التعيين، فاعتبرناهما ولم نشتغل بالترجيح.
وجه ما ذكر في (الجامع): أنه لا فائدة في التعيين إلا باعتبار الهلاك، والهلاك أمر موهوم، ولا معتبر بالفائدة الموهومة، فلا يصح التعيين، وفي حق هذا المعين لا فرق فيما إذا هلك المؤدى عنه قبل الحول، وفيما إذ هلك المؤدى عنه بعد الحول.
وفي (المنتقى) عن أبي حنيفة: رجل له ألف درهم سود، وألف درهم بيض عجل عن البيض خمسة وعشرون، ثم هلكت البيض قبل الحول أجزأه ما أدى عن السود، ولو لم تهلك حتى حال الحول وهما عنده، وهلكت البيض كان نصف ما أدى مما هلك نصفه مما بقي، وهذه الرواية توافق رواية (الجامع).
قال في (المنتقى): وكذلك لو كان الأداء بعد حَوَلان الحول، قال: وكذلك عنده ألف درهم ومائة دينار، أو جارية للتجارة تساوي ألف درهم، فأدى عن أحد الجنسين، والجواب في جميع هذه الوجوه على ما وصفت لك، وهو قول أبي يوسف.
وذكر في (المنتقى) بعد هذه المسائل مسألة البيض والسود عن محمد في صورة أخرى، فقال: إذا استحقت الألف التي زكى عنها قبل الحول أو بعده لم تجزه الزكاة عن الألف الباقية. قال محمد: وإن زكى عن ألف بعد الحول، ثم ضاعت وله دين على رجل لم يكن المؤدى عن زكاة دينه، وإن كان الأداء والضياع قبل الحول أجزأه عن زكاة دينه.
وفي (نوادر هشام) عن محمد: إذا كان للرجل أربعون شاة سائمة عجل منها شاة، فأخذها المصدق، ووضعت عنده عناقًا، أي: ولدت، فحال الحول وقيمته على حاله، فالشاة مع العناق صدقة. وإن نقص من غنم رب الغنم حتى أخذ العناق، وتكون الشاة صدقة.
وفي (الأجناس): لو كان عنده خمسة وتسعون دينارًا ومائة درهم، وثوب للتجارة، وقيمته خمسة دراهم، فعجل ذلك الثوب إلى المصدق من زكاة ماله قبل الحول، فقطعه المصدق، ولبسه يجزئه ذلك من زكاته، قال: لأن عنده دراهم، وقيمة الثوب دراهم، فجاز ضمه إلى ما عنده ليكتمل النصاب، والله أعلم.

.الفصل السابع في أداء الزكاة والنية فيه:

وإذا كان للرجل على رجل دين حال عليه الحول، فوهبه ممن عليه دين أو تصدق به عليه، فهذا على وجهين:
الأول: أن يكون الموهوب له غنيًا، وفي هذا الوجه لا يجزئه عن زكاته، وهذا ظاهر؛ لأن محل صرف الزكاة الفقراء دون الغني، وهل يصير ضامنًا للزكاة؟ ذكر في (الجامع) وعامة الروايات أنه يصير ضامنًا، وذكر في (نوادر الزكاة) لأبي سليمان أنه لا يصير ضامنًا؛ لأنه استهلك النصاب قبل وجوب الأداء، فلا يصير ضامنًا كما لو استهلكها قبل الحول.
بيانه: أن أداء الزكاة عن الدين إنما تجب بعد القبض على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء، فقبل القبض لا يكون الأداء واجبًا.
وجه ما ذكر في عامة الروايات: أنه استهلك النصاب بعد وجوب الزكاة، فيضمن كما لو وهب النصاب العين من الغني.
بيانه: أن الدين الواجب بدلًا عما هو مال نصاب قبل القبض بالإجماع على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى. وما يقول بأن الأداء ليس بواجب قبل القبض، قلنا: أصل الوجوب ثابت قبل القبض بالإجماع إن لم يكن وجوب الأداء ثابتًا، فباعتبار أصل الوجوب يصير مستهلكًا، وباعتبار وجوب الأداء لا يصير مستهلكًا، فرجحنا جانب الاستهلاك ليمكننا إيجاب الضمان احتياطًا لأمر العبادة.
الوجه الثاني: إذا كان الموهوب له فقيرًا، فهذا على وجهين أيضًا:
الوجه الأول: أن يهب كل الدين منه، وإنه على وجهين أيضًا: أما إن لم ينو الزكاة، وفي هذا الوجه يجزئه عن زكاة هذا الدين استحسانًا. ولو كان مكان الهبة صدقة يجزئه عن زكاة هذا الدين قياسًا واستحسانًا. هكذا ذكر في (الجامع)، وذكر القدوري في كتابه (فضل الصدقة)، وجعل على القياس والاستحسان كالهبة.
أما الكلام في الصدقة، فوجهه: أنه وجد أصل نية العبادة؛ لأن الصدقة ما ينبغي بها وجه الله إلا أنه لم يوجد نية الفرض، لكن نية الفرض مستغنى عنها لكون النصاب متعينًا. يوضحه: أن قدر الزكاة من النصاب صار حقًا للفقير، فإذا وصل ليد الفقير بأي طريق ما وصل يقع عن المستحق على ما عرف.
وفي (المنتقى): روى المعلى عن أبي يوسف: رجل له مائتا درهم حال عليها الحول، فتصدق بها كلها، ولا نية له، فعليه أن يتصدق بخمسة دراهم لزكاتها. وروى ابن سماعة عنه أنه يجزئه عن الزكاة.
أما الكلام في الهبة فإنما لم يجزه عن زكاة هذه الدراهم... قياسًا؛ لأنه لم يوجد نية القربة أصلًا، ويجزئه استحسانًا؛ لأن نية المال من الفقير يقصد بها أيضًا مرضاة الله تعالى، فصارت الهبة من الفقير والتصدق عليه سواء.
الوجه الثاني: إذا وهب كل الدين ممن عليه ناويًا الزكاة، وإنه على ثلاثة أوجه: إما إن نوى زكاة العين الذي عنده، وأنه لا يجزئه قياسًا واستحسانًا؛ لأنه أدى الكامل بالناقص؛ لأن الدين في المالية أنقص من العين على ما عرف، وأداء الكامل بالناقص لا يجوز؛ ولأن النصاب إذا كان عينًا، فالواجب تمليك جزء منه من كل وجه، وهبة الدين لمن عليه تمليك من وجه، إسقاط من وجه، ولهذا يصح من غير قبول وإنما يصح من حيث أنه إسقاط، والتمليك من وجه دون التمليك من كل وجه، والشيء لا يتأدى بما دونه.
وإما إن نوى زكاة دين آخر له على رجل آخر، وإنه لا يجزئه أيضًا قياسًا واستحسانًا؛ لأن الدين الآخر بمحل أن يصير عينًا بالقبض، والدين الموهوب له ليس بمحل أن يصير عينًا، فيصير مؤديًا الدين عن العين باعتبار المال، وقد ذكرنا أن أداء الدين عن العين لا يجوز.
وإما أن يؤدي زكاة هذا الدين، وفيه قياس واستحسان، القياس: أن لا يجزئه؛ لأن الواجب في باب الزكاة التمليك من كل وجه، ولهذا لا يتأدى بالإعتاق، وهبة الدين إسقاط من وجه على ما مر.
وفي الاستحسان: يجزئه؛ لأن المؤدى المثل عن المثل؛ لأن المؤدى عنه دين كالمؤدى، والمؤدى عنه لا يصير عينًا في الثاني كالمؤدى، فيجزئه وما قول من المعنى.
قلنا: التمليك من كل وجه إنما يجب إذا كان الواجب في النصاب فائدة للتمليك من كل وجه، إما حالًا كما في العين، أو مآلًا كما في الدين له على آخر، أما إذا كان لا يقبل التمليك إلا من وجه كما في مسألتنا لا يجب إلا هذا القدر، هذا إذا وهب كل الدين ممن عليه، وهو فقير، فأما إذا وهب بعض الدين ممن عليه وهو فقير إن لم ينوِ الزكاة لا يسقط عنه شيء من الزكاة، عند أبي يوسف إذا كان الباقي بعد الهبة بقي بحق الفقير، حتى لو وهب منه مائة وخمسة وتسعين، وبقيت خمسة كان عليه أن يؤدي خمسة؛ لأن ما بقي يصلح زكاة هذا الدين، ولو وهب مائة وستة وتسعين كان عليه أن يؤدي أربعة دراهم، وعلى قول محمد: تسقط عنه زكاة ما وهب من الفقير، وإنما عليه زكاة الباقي لا غير حتى لو وهب له مائة سقط عنه درهمان ونصف وبقي عليه درهمان ونصف، وعلى هذا الخلاف إذا وهب البعض من الفقير ناويًا عن التطوع.
وذكر القدوري في (شرحه): إذا تصدق ببعض ماله، ولم ينوِ الزكاة وجعله على الخلاف على نحو ما ذكرنا في الهبة.
فوجه قول محمد رحمه الله: أن الواجب شائع في الكل، ولو وهب الكل ليس يسقط عنه جميع الزكاة، فإذا وهب البعض يجب أن يسقط قدر ما فيه اعتبارًا للبعض بالكل، ولأبي يوسف أن بعد حَوَلان الحول صار النصاب مشتركًا بين الفقير وصاحب المال، فإذا وهب منه البعض، ولم تحضره النية، أو نوى التطوع انصرفت الهبة إلى نصيبه بقي حق الفقير بكماله، فيلزمه الأداء بخلاف ما إذا وهب كل النصاب؛ لأن بعد هبة الكل ليس له مال تصرف الهبة إلى نصيبه خاصة، فصرفناها إلى النصيبين جميعًا.
فأما إذا وهب بعض النصاب ممن عليه ناويًا الزكاة، إن نوى زكاة العين أو زكاة دين له على رجل آخر لا يجزئه قياسًا واستحسانًا، وإن نوى زكاة هذا الدين لا شك أنه لا يجزئه عن زكاة الباقي قياسًا واستحسانًا؛ لأن الباقي يصير عينًا في الباقي بالقبض، وكان بمنزلة ما نوى زكاة دين له على رجل آخر، فأما عن قدر ما وهب، ودفعت المرأة عنه للمدفون لا يجزئه قياسًا، ولا تسقط زكاة ذلك القدر، ويجزئه استحسانًا، حتى أنه لو وهب منه مائة تسقط عنه درهمان ونصف حصة الموهوب، ويؤدي درهمين ونصف عن الباقي، ولو وهب منه خمسة دراهم يؤدي عن الباقي خمسة دراهم إلا ثمن درهم، والقياس والاستحسان في هذا نظر القياس والاستحسان إذا وهب الكل منه ناويًا عن الدين الذي له عليه.
وفي (القدوري): إذا نوى أن يؤدي الزكاة، فجعل يتصدق إلى آخر السنة، ولم تحضره النية، يعني وقت التصدق لا يجزئه، فإن أفردها للزكاة، فتصدق مال أرجو أن يجزئه.
وفي (نوادر هشام): سألت محمدًا رحمه الله عن رجل قال: ما تصدقت به إلى آخر السنة، فقد نويت أنه من الزكاة، وفي وقت التصدق لم تحضره النية قال: أرجو أن يجزئه، ولو تصدق بخمسة ينوي بها التطوع والزكاة بل عن الزكاة في قول أبي يوسف، وقال محمد: يقع عن التطوع؛ لأنه لا وجه إلى اعتبار النيتين لتناف سببهما، ولا وجه إلى اعتبار أحديهما لا بعينها ولا بغير عينها، فبطلتا فتقع عن التطوع كما لو لم تحضره النية أصلًا، ولأبي يوسف أن الفرض أقوى من النفل، والتعيين بالنية يحتاج إليه في الفرض دون النفل، فيندفع النفل بالفرض، والله أعلم.

.الفصل الثامن في المسائل المتعلقة بمن توضع الزكاة فيه:

قال الله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء} [التوبة: 60]. والآية جامعة محل الصدقات من جملة ذلك الفقراء والمساكين، وفيها ما يدل على أن المساكين والفقراء صنفان، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله.
ووجه الدلالة: أن الله تعالى عطف المساكين على الفقراء، والمعطوف غير المعطوف (عليه)، وعن أبي يوسف أنهما صنف واحد.
بيانه: فيمن أوصى بثلث ماله لفلان، وللفقراء والمساكين، فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله لفلان ثلث الكل، ولكل صنف ثلث آخر، وعلى ما روي عن أبي يوسف لفلان نصف الثلث، وللفريقين نصف الثلث كأنهما فريق واحد، والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله، ثم اختلفت الروايات عن أبي حنيفة رحمه الله في معنى المسكين والفقير، روى أبو يوسف عنه أن الفقير الذي لا يسأل؛ لأنه يجد ما يكفيه للحال، والمسكين الذي يسأل؛ لأنه لا يجد شيئًا، قال الله تعالى: في صفة الفقراء: {لا يسألون الناس إلحافًا} [البقرة: 273] قيل: لا إلحافًا ولا غير إلحاف، وقال الله تعالى في المساكين: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا} [الإنسان: 8] قيل: وقد جاء يسأل، وهذه الرواية تدل على أن الفقر أفقر، وفائدة ذلك تظهر في الوصايا لا في الزكاة لجواز صرف الزكاة إلى صنف واحد على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله.
وأما العاملين: فهم العمال الذين نصبهم الإمام لاستيفاء صدقات المواشي، فيعطيهم ما في يده من مال الصدقة ما يكفيهم وعيالاتهم وأعوانهم في مجيئهم وذهابهم، وإن أحاط ذلك بنصف العشر أو بثلاثة أرباعه ذكره المعلى في (نوادره)؛ وهذا لأنهم حبسوا أنفسهم لعمل المسلمين، فيستحقون كسواتهم في مالهم كالقاضي والمفتي والمحتسب ومن بمعناهم..
قال (القدوري) في (كتابه): لو هلك المال في يد العامل سقط حقه، وأجزأت عن الزكاة، أما سقوط حقه؛ فلأن حقه في المال الذي في يديه، فيسقط بهلاكه كما في المضاربة إذا هلك في يد المضارب بعد العمل، وأما جواز الزكاة؛ فلأن قبض العاشر بعد الحول واقع للفقير، وكان كقبض الفقير بنفسه.
قال القدوري أيضًا: وُكِلَ للعامل أخذ العمالة، وإن كان غنيًا، ولم يذكر ما إذا كان العامل هاشميًا، وذكر الكرخي والطحاوي والجصاص أنه لا يحل له ذلك عند علمائنا؛ لأن المأخوذ من أجر الصدقة، فتكون فيه شبهة الصدقة، قلنا: والشبهة في هذا الباب تعمل على الحقيقة في حق الهاشمي منها؛ لقرابة النبي صلى الله عليه وسلّم ولا تعمل عمل الحقيقة في حق غيره، ألا ترى أن الصدقة حرمت على مولى الهاشمي الغني، ولم تحرم على مولى الغني.
وفي (المنتقى): رجل من بني هاشم استعمل على الصدقة، ونوى له فيها رزق، فإنه لا ينبغي أن يأخذ من ذلك، وإن عمل فيها ورزق من غيرها، فلا بأس بذلك.
وأما المؤلفة قلوبهم: فهم قوم من المشركين كان رسول الله عليه السلام يعطيهم شيئًا تألفًا لهم حين كان بالمسلمين ضعف وبالكفار قوة، وبعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلّم سقط ذلك لوقوع الاستغناء عن تألفهم لما كثر أهل الإسلام وقوي حالهم، وهو معنى ما نقل عن الشعبي قال: انقطع الرأي بوفاة رسول الله عليه السلام.
وأما الرقاب فالمراد منه المكاتبون، هكذا روي عن علي رضي الله عنه، فالله تعالى جعل لهم سهمًا من الصدقة عونًا لهم على أداء المكاتبة، وهو المراد من قوله تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} [النور: 33] وعن هذا قلنا: يجوز صرف الزكاة إلى مكاتب غيره.
وأما الغارمون: فهم الذين لزمهم الدين، فهم محل الصدقة، وإن كان في أيديهم مال إذا كان ذلك المال لا يزيد على الدين قدر مائتي درهم فصاعدًا؛ لأن مقدار الدين من ماله مستحق بحاجته الأصلية، فيجعل كالمعدوم، كالماء المستحق بحاجة العطش، وما وراء ذلك إذا كان لا يبلغ مائتي درهم لا يعتبر في جريان الصدقة على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما قوله: {وفي سبيل الله} [التوبة: 60] قال القدوري: في (كتابه) قال أبو يوسف: المراد به فقراء الغزاة، وقال محمد: الحاج المنقطع، وذكر بعض مشايخنا في شرح (الجامع الصغير) أراد الغازي والحاج المنقطع على قول من يقول: إن المراد هو الغازي فقير رقبة أو يدًا لا رقبة؛ بأن كان منقطعًا عن ماله، فيكون فقيرًا يدًا غنيًا رقبة، أما إذا كان غنيًا رقبة ويدًا، فلا يحل له الأخذ، والمراد من قوله عليه السلام: «لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة»، وذكر من جملتهم الغازي الغني بقوة البدن، والقدرة على الكسب لا الغنى بملك المال، والغازي وإن كان مكتسبًا مستغنيًا به يحل له أخذ الصدقة؛ لأن الكسب أقعده عن الجهاد.
وأما ابن السبيل، فهو المنقطع عن ماله، ويجوز الدفع إليه وإن كان له مال كثير في وطنه؛ لأنه غني باعتبار ملك الرقبة فقير باعتبار اليد فلِغنَاه أوجبنا عليه الزكاة، ولفقره أبحنا له الصدقة.
وفي كتاب علي بن صالح للعائر: أن ابن السبيل هو الذي لا يقدر على ماله، وهو غني على أن يستقرض، والقرض عزله من قبول الصدقة، وإن قبل الصدقة أجزأ من يعطيه.
وإذا صرف الصدقة إلى صنف واحد من هذه الأصناف، أو صرفها إلى واحد من صنف واحد بأن أعطى مسكينًا واحدًا، أو فقيرًا واحدًا أجزأه عندنا، وقال الشافعي: لا يجوز، والصحيح مذهب علمائنا لقوله تعالى: {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة: 271] والآية تقتضي جواز الصرف إلى فقير واحد؛ لأن الله ذكر الفقراء بلام التعريف، والاسم المذكور بلام التعريف يكون للتجنيس إذا لم يكن ثمة معهود، وليس للفقراء هاهنا معهود، وكان هذا الاسم للتجنيس، واسم الجنس عند الإطلاق ينصرف إلى الواحد على ما عرف في موضعه؛ ولأن المقصود دفع الحاجة، فصار التنصيص على الأصناف السبعة، والتنصيص على المحتاجين سواء، ولو وقع التنصيص على المحتاجين، فإن قال الله تعالى: إنما الصدقات للمحتاجين، فإن الصرف إلى محتاج واحد لتعلق الحكم باسم الجنس عند انعدام المعهود، وكذا هاهنا.
ولا يعطي من الزكاة والدًا وإن علا، ولا ولدًا وإن سفل، والأصل في ذلك أن الزكاة عبادة لله تعالى ركنها إخراج المال إلى الله تعالى بواسطة كف الفقر، والإخلاص في العبادة شرط، ولا يتحقق الإخلاص إلا بالانقطاع لحق المؤدي عن المؤدى؛ لأن منافع الأموال مشتركة.
ولا يعطي زوجته بلا خلاف من أصحابنا؛ لأن منافع الأموال مشتركة، فلا ينقطع حق المؤدى عن المؤدى، وكذا لا تعطي المرأة زوجها عند أبي حنيفة لما قلنا، وعندهما تعطيه لما روي أن امرأة ابن مسعود قالت لرسول الله عليه السلام: إني أريد أن أتصدق على زوجي، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلّم «لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة» وأبو حنيفة رحمه الله يحمل الحديث على الصدقة النافلة.
ولا يعطي عبده ومدبره وأم ولده؛ لأن مولاهما يملكه رقبة ويدًا، ومنفعة أكسابهم له، فلا يتحقق الإخراج إلى هؤلاء أصلًا، وكذا لا يعطي مكاتبه؛ لأنه مملوك رقبة وكسبه متردد بين أن يكون له وبين أن يكون للمولى، فلا يخلص الإخراج إلى الله تعالى، ولا يصرف في بناء مسجد وقنطرة، ولا يقضي بها دين ميت، ولا يعتق عبدًا، ولا يكفن ميتًا، والحيلة لمن أراد ذلك أن يتصدق بمقدار زكاته على فقير، ثم يأمره بعد ذلك بالصرف إلى هذه الوجوه، فيكون لصاحب المال ثواب الصدقة، ولذلك الفقير ثواب هذه القُرَب، ولا يعطي منها غنيًا ولا ولد غني إذا كان صغيرًا، وإن كان كبيرًا فقيرًا جاز الدفع إليه، وهذا لأنه إذا كان صغيرًا يعد غنيًا بمال أبيه؛ لأن كفايته عليه، ولا كذلك ما إذا كان كبيرًا، فهو ليس بغني بغنى الأب؛ لأن كفايته ليس على الأب هكذا. ذكر القدوري في (كتابه).
وبعض مشايخنا ذكروا في (شرح الجامع الصغير) خلافًا في المسألة، فذكر أن على قول أبي حنيفة يجوز الدفع إلى أولاد الأغنياء إذا كانوا فقراء صغارًا كان الأولاد، أو كبارًا، وعلى قول أبي يوسف ومحمد يجوز الدفع إلى الكبار، ولا يجوز الدفع إلى الصغار، وبه أخذ جلال الرازي، وجه قولهما ما ذكرنا.
وجه قول أبي حنيفة أنهم فقراء حقيقة، ووجوب النفقة على غيرهم يدل على فقرهم لا على غناهم؛ لأن الغني لا يستوجب النفقة على الغير، وقال الفقيه أبو بكر الأعمش: إذا كان الأب يوسع عليهم في النفقة لا يجوز الدفع إليهم، وإن كانوا كبارًا، وروى أبو سليمان عن أبي يوسف لو أعطي من الزكاة صبيًا فقيرًا، أبوه غني أو كبير زمنًا، أو أعمى لا يعتمل له، وهما في عيال الأب لم يجز، وإن لم يكن الزمن في عياله جاز، وكذلك إذا كانت بنتًا كبيرة في عياله جاز الدفع إليها، هو لفظ (المنتقى).
وفي (الحاوي) سئل الفقيه عمن دفع زكاة ماله إلى بنت رجل غني، والابنة فقيرة كبيرة، ولها زوج، أو ليس لها زوج، قالوا: قال بعضهم: يجوز، وقال بعضهم: لا يجوز، وعن أبي يوسف أنه قال: إذا كان الأب من المكثرين لا يجوز، قال: وكذلك الاختلاف في المرأة لرجل غني، والمرأة فقيرة، فسئل الفقيه، وكيف يفتي الفقيه في هذين القولين؟ قال: لا أفتي بأحدهما لكن أذكر الاختلاف.
وفي (العيون): إذا كان ولد الغني بالغًا جاز الدفع إليه، ذكرًا كان أو أنثى، صحيحًا كان أو زمنًا، قال: وكذا الأب إذا كان محتاجًا، والابن موسر جاز الإعطاء إلى الأب، قال القدوري في كتابه: وقال أبو حنيفة ومحمد: يجوز الدفع إلى امرأة الغني إذا كانت فقيرة، وعن أبي يوسف: أنه لا يعطي امرأة الغني إذا قضي لها بالنفقة؛ لأنها غنية بمال الزوج، فتستحق النفقة عليه، فهي نظير ولد صغير لغني، إلا أنه شرط القضاء بالنفقة؛ لأن الاستغناء به يتأكد؛ لأن النفقة بدون قضاء القاضي لا تصير دينًا على الزوج، ولهما أن المرأة لا تصير غنية بمقدار ما يقضى لها من النفقة، فإن لها حوائج أخر سوى النفقة تستحق بملك على الزوج، وبه فارق الصبي، ولا يجوز الصرف إلى عبد الغني ومدبره وأم ولده؛ لأن الملك يقع للمولى بالصرف إليهم، وعن أبي يوسف أنه إذا أعطى عبدًا زمنًا، وليس في عيال مولاه، ولا يجد شيئًا أجزأه، ولو دفع إلى مكاتب الغني يجوز؛ لأن الملك لا يقع للمولى في مكاتبه إلا بعد العجز، وأنه موهوم.
وفي (المنتقى): عن أبي يوسف إذا أعطي عبد الغني من الصدقة، والمولى غائب جاز وإن كان المولى غنيًا، وفي (الجامع الأصغر): سئل عبد الكريم عمن دفع زكاة ماله إلى صبي قال: إن كان حرًا حقًا يعقل الأخذ يجوز، وإلا فلا يجوز، ولو دفع إلى المعتوه، فهو على هذا التفصيل، ولو دفع إلى المجنون لا يجوز، وسئل الفقيه أبو إبراهيم عمن دفع زكاة ماله إلى صبي غير عاقل، ثم دفع الصبي إلى الوصي، أو إلى أبويه لا يجوز قال: وهو بمنزلة ما لو وضع الرجل ماله زكاة على الدكان، فأخذها الفقير، فذلك لا يجوز، فهذا كذلك.
قال القدوري في (كتابه): ولا تجوز الزكاة إلا إذا قبضها الفقير أو بعضها من يجوز قبضه له بولايته عليه، كالأب والوصي يقبضان للمجنون والصبي، وكذلك أقاربهما إذا كانا في عيالهم، وكذلك الأجنبي الغني بقوله، وكذلك الملتقط يقبض للقيط، فأما الفقير البالغ فلا يقع القبض له إلا بتوكيله؛ لأنه غير مولى عليه بخلاف الصبي والمجنون.
ولا يجوز أن يعطى من الزكاة فقراء بني هاشم، ولا مواليهم، قال عليه السلام «الصدقة محرمة على بني هاشم» ومولى القوم من أنفسهم، وقال عليه السلام: «يا بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس، وعوضكم منها بخمس الخمس من الغنيمة».
قال: وبنو هاشم الذي تحرم عليهم الصدقة آل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل علي، وولد الحارث بن عبد المطلب؛ لأن الله تعالى إنما حرم الصدقة على من عوضه عنه خمس الخمس من الغنيمة، وهو خمس ذوي القربى، ومنهم ذوي القربى يختص هؤلاء، فكذا تحرم الصدقة، وإنما تحرم على هؤلاء الصدقة الواجبة من العشور والبذور والكفارات، فأما الصدقة على وجه الصلة والتطوع، فلا بأس؛ لأن في الواجب المؤدي نفسه بإسقاط الفرض، فيتدنس المؤدى بمنزلة من استعمل الماء في الوضوء، وهو معنى قوله يا بني هاشم «إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس».
فأما في النفل يتبرع المؤدي بأداء ما ليس عليه، فلا يتدنس المؤدى بمنزلة من تبرد بالماء وروى عن أبي يوسف: أنه جوز صرف صدقات الأوقاف إليهم إذا سموا في الوقف؛ لأن حال بني هاشم في حرمة الصدقة كحال الأغنياء، ثم يجوز صرف صدقات الوقف إلى الأغنياء إذا سموا في الوقف، فكذا إلى بني هاشم، فأما إذا لم يسموا في الوقف لا يجوز الصرف إليهم كما لا يجوز إلى الأغنياء.
وحكى أبو عصمة الكبير عن أبي حنيفة: أنه تجوز الصدقة لفقراء بني هاشم، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه قال: لا بأس بصدقة بني هاشم بعض على بعض، ولا أرى الصدقة عليهم، ولا على مواليهم من غيرهم.
وفي (العيون): إذا كان يعوله يتيمًا، فجعل يكسوه ويطعمه، ويجعل ما يكسوه ويأكل عنده من زكاة ماله، فالكسوة أشك أنه تجوز من زكاته لوجود الركن، وهو التمليك فيها، وأما الطعام، فما يدفع إليه بيده أيضًا يجوز لوجود الركن فيه، وهو التمليك، وما يأكله بنفسه من غير أن يدفع إليه لا يجوز لانعدام الركن فيه.
وفي (المنتقى): قال هشام: سألت أبا يوسف رحمه الله عن صبي فقير يعوله يكسوه ويطعمه، ويده مع يده، فيحتسب ما يأكل عنده من زكاة ماله بالقيمة يجوز، وقال محمد رحمه الله: لا يجزئه في الطعام بطريق الإباحة والتمكين، وإنما يجزئه إذا دفعه إليه بطريق الهبة والكسوة يجزئه بالقيمة.
قال محمد رحمه الله: ولا تحل الزكاة لمن له مائتا درهم فصاعدًا، ولا بأس بأن يأخذها من له أقل من مائتي درهم.
يجب أن يعلم بأن الغنى محرم للصدقة، ولا خلاف لأحد فيه، وإنما الخلاف في يده، والصحيح أنه مقدر بملك مائتي درهم وما يبلغ قيمته مائتي درهم فاضلًا عن مسكنه، وأثاث مسكنه وخادمه، ومركبه وسلاحه وثياب بدنه، وهذا لأن ملك المائتين أو ما يبلغ قيمته مائتين فاضلًا عن هذه الأشياء أمارة الغنى، بدليل أنه وجب على صاحبه وظائف الغني من الزكاة والأضحية، وصدقة الفطر، أما ملك ما دون مائتين عن هذه الأشياء (فليس) أمارة الغني، بدليل أنه لو ما تبلغ قيمته دون المائتين ليس أمارة الغنى ألا ترى أنه لم يجب على صاحبه. شيء من وظائف الغني، وإذا لم يكن غنيًا كان أو فقيرًا، ومحل الصدقات الفقراء وإنما يعتبر في المسكن والكسوة وأثاث البيت مقدار الكفاية، بدليل ما روى هشام عن محمد أنه سئل عمن له فضل على كسوته، أو عن متاع بيته، أو فضل على مسكنه قدر مائتي درهم، أيعطى من الزكاة؟ قال: لا إذا كان مستغنيًا عنه. يعني عن فضل الكسوة والمتاع.
وذكر ابن سماعة عن محمد، إذا كان للرجل دارًا تساوي عشرة آلاف درهم لجودة موضعه، وقربه من السوق، وليس فيها فضل عن سكناه، قال: تحل له الزكاة، وإنما لا تحل له الزكاة إذا كان في مسكنه فضل عن سكناه ما يساوي مائتي درهم.
وفي (البقالي): وأطلق في الكتب عن محمد رحمه الله: إذا كان له دار تساوي عشرة آلاف درهم، ولو باعها، واشترى بألف لوسعته بذلك لا آمره ببيعها، وعن نصر رحمه الله: إذا كان فيها بستان لا يحتاجون إليها اعتبرت قيمتها وقيمته أيضًا، ويعتبر ما زاد على الدار الواحدة في (العادة)، وكذا ما زاد على الثوب للبسه من الثياب للشتاء والصيف (دينوي البلد في الباب هنا والصيف) وكذا ما زاد على الفرسين للغازي.
وسئل الفقيه أبو القاسم عمن له كتب العلم، وهو من أهله، وأنه يساوي مائتي درهم هل يحل له أخذ الزكاة؟ قال: روى محمد بن سلمة عن أصحابنا: أنه يحل، وإن كان له مصاحف لا يحل، ثم رجع، وقال: يحل، قال أبو القاسم: من كان له كتب، وهو يحتاج إليها لحفظها، ودراستها يحل له أخذ الزكاة أدبًا كان، أو فقهًا أو حديثًا، وقال أبو بكر: في الكتب كذلك، وفي المصاحف والأسابع وغيرها قال: لا يحل له أخذ الزكاة، قال: لأنه يجد مصحفًا آخر مثله، أما لا يجد كتبًا مثل كتبه؛ لأنه ربما قابله وأحكمه، وكان الفقيه أبو الليث يقول: لا فرق بين الكتب، والمصاحف ويحل له أخذ الزكاة إذا كان من الكتب، والمصاحف ما يحتاج إليه، وبه كان يقول بصير، وإليه مال الصدر الشهيد حسام الدين، وإن كان عنده من المصاحف والكتب ما لا يحتاج إليه، ويبلغ قيمته مائتي درهم فصاعدًا، لا يحل له أخذ الزكاة.
وسئل محمد بن الحسن عمن له أراضي يزرعها، أو حوانيت يستعملها، قال: إن كان غلتها تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة لا يحل له أخذ الزكاة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وإن كان غلتها لا تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة، قال محمد: يحل له أخذ الزكاة إذا كان بلغ قيمتها الوفاء، قال محمد رحمه الله: لست أنظر في هذا إلى ثمنها، وإنما أنظر إلى دخلها، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحل له أخذ الزكاة إذا كان تبلغ قيمتها نصابًا.
والحاصل: أن ما يكون مشغولًا بحاجته الحالية نحو الخادم والمسكن، وثيابه التي يلبسها في الحال لا تعتبر في تحريم الصدقة بالإجماع، وما يكون فاضلًا عن حاجته الحالية لا يعتبر في تحريم الصدقة، وإنما اعتبرنا الفراغ عن الحاجة الحالية في التحريم، بأنا لو اعتبرنا الفراغ عن الحاجة الحالية لا يتصور التحريم؛ لأن الإنسان خلق محتاجًا يحتاج إلى جميع ما في يديه في التالي.
إذا ثبت هذا فنقول: الضيعة فارغة عن الحاجة الحالية حقيقة، فاعتبرناها في تحريم الصدقة اعتبارًا للحقيقة، وبقولهما أخذ أبو عبد الله البلخي، ومحمد رحمه الله: اعتبرها من الحاجة الحالية؛ لأن الملك في الضيعة ما لا يستخلف ساعة فساعة، فمتى لم تبح له الصدقة يحتاج إلى بيعها إذا كانت غلتها لا تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة، ويشق على كل أحد بيع الضيعة، فاعتبر الضيعة من الحاجة دفعًا للمشقة عن الناس، وبقوله أخذ محمد بن مقاتل ومحمد بن سلمة، بخلاف ما إذا كان غلتها تكفي لنفقته ونفقة عياله سنة؛ لأنه إذا كان كذلك لا يحتاج إلى بيعها لو لم تبح له الصدقة، فلا تعتبر الضيعة والحالة هذه من الحوائج الحالية، فتعتبر في تحريم الصدقة، وقيل: على قول محمد رحمه الله، إذا كان غلة الضياع لا تكفيه لتقصيره في العمل، فهو غني.
وإن كان عنده بقر يحتاج إليه للحراثة، فعندهما يعتبر في تحريم الصدقة، وعند محمد لا يعتبر؛ لأنه من توابع الضيعة، فلا يعطى له حكم نفسه، بل يكون له حكم الضيعة والله أعلم.
وفي (البقالي): ما زاد على الثورين وآلة العددين يعتبر في تحريم الصدقة، والبقرة تعتبر في تحريم الصدقة، وإذا اشترى طعامًا، لقوته مقدار ما يكفيه شهرًا، أو أكثر من ذلك أو أقل، وهو يساوي مائتي درهم فصاعدًا، فإن كان قوت شهر أو أقل حل له أخذ الزكاة بلا خلاف بين المشايخ؛ لأنه مشغول بحاجته وإن كان أكثر من الشهر اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يحل له أخذ، وبه قال نصير، وهو اختيار الصدر الشهيد حسام الدين رحمه الله؛ لأن الشهر هو العدل فيما يدخر الناس لأنفسهم قوتًا، وكان ما وراء ذلك فاضلًا عن حاجته، وبعضهم قالوا: يحل له ذلك إلى سنة، فقد صح «أن النبي عليه السلام ادخر لنسائه قوت سنة»، وإن كان أكثر من سنة لا يحل له أخذ الزكاة بلا خلاف، وقال نصير: فيمن كان له كسوة الشتاء، وهو لا يحتاج إليها في الصيف، أنه يحل له أخذ الزكاة، وإن بلغ قيمتها مائتي درهم وزيادة، وقال أبو القاسم: فيمن كان له على آخر دين مؤجل واحتاج، حل له الأخذ مقدار كفايته إلى حلول الأجل، قال: وكذلك المسافر إذا كان له مال في وطنه واحتاج، فله أن يأخذ من الزكاة قيمة ما يبلغه إلى وطنه، وسئل نصير عمن له دار وبستان في الدار، وقيمة البستان مائتا درهم فصاعدًا، قال: إن كان البستان ليس فيه من مرافق الدار نحو المطبخ، والموضأ، وغيره مما يحتاجون إليه، لا يحل له أخذ الزكاة.
وفي (الواقعات) للصدر الشهيد رجل له مائتا درهم على إنسان والمديون مقر به، هل يحل لصاحب الدين أخذ الزكاة؟ قال: إن كان المديون معسرًا، فقد اختلف المشايخ المتأخرون فيه، والمختار أنه يحل؛ لأن يده زائل عن ماله، وكان بمنزلة ابن السبيل، وإن كان موسرًا لا يحل له أخذ الزكاة، وإن كان ما به جاحد لدينه، فإن كانت له بينه عادلة، لا يحل له أخذ الزكاة أيضًا؛ لأن ماله في يده معنى؛ لأنه يمكنه أخذه متى شاء بواسطة إقامة البينة، وإن لم يكن له بينة عادلة يحل له أخذ الزكاة للحال، وإنما يحل له إذا رفع الأمر إلى القاضي، وحلفه القاضي فحلف؛ لأن قبل ذلك الوصول إليه مأمول، وبعد ذلك وقع اليأس عنه بحكم الظاهر، فيحل له الأخذ.
وفي (فتاوى أبي الليث): إذا دفع زكاة ماله إلى أخته، وهي تحت زوج، إن كان مهرها أقل من مائتي درهم، أو أكثر من مائتي درهم، إلا أن المعجل أقل من مائتين أو كان أكثر، إلا أن الزوج معسر جاز الدفع، وهو أعظم للأجر، وإن كان المعجل أكثر من مائتي درهم، والزوج موسر، فعند أبي حنيفة الآخر، فكذلك الجواب، وعندهما لا يجوز الدفع، ولا يحل لها الأخذ بناءً على أن المهور قبل القبض، هل تكون نصابًا؟ ووجوب الأضحية وصدقة الفطر عليها، على هذا قال الصدر الشهيد رحمه الله: يفتى بقولهما احتياطًا.
في (العيون): رجل يعول أخته أو أخاه أو عمه، فأراد أن يعطيه الزكاة إن لم يكن فرض عليه القاضي نفقته جاز؛ لأن التمليك من مولاه بصفة القربة يتحقق من كل وجه، فيتحقق ركن الزكاة، وإن كان القاضي فرض عليه نفقته، إن لم يحتسب المؤدى إليه نفقته جاز أيضًا، وإن كان يحتسب لا يجوز؛ لأن هذا أداء الواجب بواجب آخر.
وقال في (الحاوي): قال أبو بكر الإسكاف: لو دفع الزكاة إلى أخته، وهي في عياله جاز، وكذلك لو فرض الحاكم عليه نفقتها جاز من الزكاة، والنفقة جميعًا، قال به، وقيل: لم يجز بعد الفرض.
وفي (المنتقى) عن الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: رجل فرض عليه القاضي نفقة قرابته، وأعطاه من زكاة ماله جاز.
وكذلك إذا نوى أن تصير.
النفقة التي ينفق عليهم بأمر القاضي من زكاته أجزأه، وذكر عن الحسن بن مالك عن أبي يوسف: إن نوى بما يعطيهم ما فرض القاضي عليه لم يجز، ووجهه ما ذكرنا أن هذا أداء الواجب بواجب آخر، ووجه ما روي عن أبي حنيفة: أن بعد فرض القاضي ما تغيرت ماهية النفقة، فإنها صلة شرعًا، فلا يمنع وقوعها عن الزكاة، ألا ترى أن على أصله من اشترى أباه ناويًا عن كفارة يمنه أجزأه عن الكفارة، وهذا الشراء واجب صلة للقرابة ثم وجوبه بجهة الصلة لم يمنع وقوعه بجهة الكفارة، كذا هاهنا.
أبو سليمان عن أبي يوسف: رجل له مائة ألف وعليه مائة ألف، قال: استحسن أن لا يعطى من الزكاة، وإن أعطي أجزأه من المعطي.
وفي (فتاوى ما وراء النهر) سئل الشيخ الإمام الزاهد أبو حفص الكبير عمن يعطي الزكاة إلى الفقراء أحب إليك، أم إلى من عليه دين ليقضي دينه؟ قال: إلى من عليه دين.
وفي (الواقعات) للناطفي: ولا ينبغي لأحد أن يسأل إليك وعنده قوت يومه؛ لأن السؤال لا يجوز إلا لضرورة. قال محمد رحمه الله: في (الأصل) إذا أعطى زكاة ماله مائتي درهم أو ألف درهم إلى فقير واحد، فإن كان عليه دين مقدار ما دفع إليه، أو كان صاحب عيال يحتاج إليه للإنفاق عليهم، فإنه يجوز ولا يكره، وإن لم يكن عليه دين، ولا صاحب عيال، فإنه يجوز عند أصحابنا الثلاثة، ويكره، وقال زفر: لا يجوز، وذكر في (الجامع الصغير) وقال أبو يوسف: يجوز في المائتين، ولا يجوز في الزيادة عليها.
وجه قول زفر: أن الغنى صارت هاهنا؛ لأن الغنى حكم الأداء، والحكم يقارن العلة، فيحصل الأداء إلى الغني، ولعلمائنا الثلاثة على ما ذكر في (الأصل)، أن الأداء يلاقي كف الفقير من كل وجه، وإنما ثبت الغنى بعد ذلك حكمًا للأداء، إلا أن الأداء يلاقي كف الغني من وجه، وكف الفقير من وجه.
بيانه: أن الغنى حكم الملك، والملك إنما ثبت بعد تمام التمليك، فكان الغنى متأخرًا عن التمليك، فلا يصلح مانعًا من التمليك؛ لأن المانع من الشيء سابق عليه، ولا يكون متأخرًا عنه إلا أنه يكره؛ لأن الغنى أفضل بالدفع، ولهما به منع الجواز، فإذا اتصل به، وقرب منه أوجب الكراهة.
قال في (الجامع الصغير): ولا بأس بأن يعطي أقل من مائتين، وأن يغني به إنسانًا واحدًا أحب من أن يفرقها، لم يرد بقوله: وأن يغني إنسانًا أحب إلى الغنى المطلق؛ لأن تحصيل ذلك مكروه على ما بيناه، وإنما أراد به الغنى الحالي، وهو الغنى عن السؤال لحاجة الوقت؛ لأن المقصود من الصدقة دفع حاجة الوقت قال عليه السلام: «أغنوهم عن السؤال في مثل هذا اليوم» وإنما استحب هذا الإغناء؛ لأنه يوافق أمر الشرع، ويحقق ما هو المقصود من شرع الصدقة، وعن هذه المسألة قال مشايخنا: من أراد أن يتصدق بدرهم ينبغي له أن يتصدق به على فقير واحد، ولا يشتري به فلوسًا، ويفرقها على المساكين، إن الفقيه من أغنى الفقير عن السؤال، وإنما يحصل الإغناء بصرف الدرهم إلى فقير واحد.
وفي (المنتقى) قال همام: سألت أبا يوسف عن الرجل له مائة وتسعة وتسعون درهمًا، فتصدق عليه بدرهمين، قال: يأخذ واحدًا، ويؤدي واحدًا.
وفيه قال هشام: سألت محمدًا عن رجل له تسعة عشر دينارًا تساوي ثلثمائة درهم، هل يسعه أن يأخذ الزكاة؟ قال: نعم، ولا يجب عليه صدقة رأسه، أشار إلى أن الغنى إنما يثبت في يده، والمالية ليست في يده، وإنما في يده العين، وبالعين لا يثبت الغنى شرعًا.
وفيه أيضًا: وقال أبو يوسف: في رجل نوى أن يعطي رجلًا ألف درهم من زكاة ماله والرجل معسر، وليس عليه دين، فجاء المعطي بألف درهم فوزنها له مائة، كلما وزن مائة دفعها إليه، قال تجزئة الألف من زكاته إذا دفعها في مجلس واحد، ويجعل كأنه دفع الكل إليه بدفعة واحدة، وهذه الرواية عن أبي يوسف مخالفة لما حكى عنه في (الجامع الصغير) في المسألة المتقدمة.
قال في (المنتقى): وكذلك لو نوى أن يعطيه ألف درهم، فجاء المعطي بألف درهم قبل أن يزن له، وقال: إني أعطيك ألف درهم من زكاتي، فهذا مثل الأول، وتجزئه إذا كان في مجلس، وكانت الألف حاضرة عنده، وإن كانت الألف غائبة عنه، ونوى أن يعطيه ألف درهم من زكاة ماله، فأتى بمائتي درهم فوزنها له، فإنه تجزئه من الزكاة المائتان والباقي تطوع.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): وتقسم صدقة كل بلدة في فقرائها، ولا يخرجها إلى بلدة أخرى، واعلم بأن فقراء تلك البلدة مع فقراء بلدة أخرى، إن كانوا في الحاجة على السواء تصرف إلى فقراء تلك البلدة، ولا يصرفها إلى فقراء بلدة أخرى، وإن صرفها إلى فقراء بلدة أخرى يكره؛ وهذا لأن فقراء تلك البلدة مع فقراء بلدة أخرى، إذا كانا في الحاجة على السواء، ففي صرفها إلى فقراء تلك البلدة مراعاة حقين حق الفقير وحق الجوار، وفي الصرف إلى فقراء بلدة أخرى مراعاة حق واحد؛ ولأن في صرفها إلى فقراء بلدة أخرى، والحالة هذه تعريض المال على التلف من غير فائدة.
وعن أبي حنيفة في غير (روايات النوادر) أنه إنما يكره الإخراج إلى بلدة أخرى، إذا كان الإخراج في حينها، بأن أخرجها بعد حَوَلان الحول، فأما إذا كان الإخراج قبل حينها، فلا بأس به، هذا إذا لم يكن فقراء بلدة أخرى ذوي قرابة منه، فأما إذا كان فقراء بلدة أخرى ذو قرابة منه، فعن أبي حنيفة فيه روايتان، روى الحسن في (المجرد) عنه: ولا يخرج الزكاة إلى بلدة أخرى لا لذي قرابة ولا لغيره، وإن أخرج جاز إلا أنه أساء.
وذكر هشام في (نوادره) عن ابن المبارك عن أبي حنيفة: أنه سئل عن إخراج الزكاة إلى بلدة أخرى، فقال: لا إلا لذي قرابته، وروى ابن رستم عن محمد رحمه الله في (نوادره) لا يخرج الزكاة إلى فقراء بلدة أخرى إلا لذي قرابته، وجه الرواية التي قال: لا يخرج إلى فقراء بلدة أخرى قوله عليه السلام لمعاذ رضي الله عنه: «خذها من أغنيائهم، وردها في فقرائهم» من غير فصل.
وجه الرواية الأخرى: أن في الإخراج إلى ذوي قرابته مراعاة حق القرابة، وفي عدم الإخراج مراعاة حق الجوار، ولا شك أن مراعاة حق القربة أولى، ثم يعتبر جوار المال دون المالك، فقد ذكر هشام في (نوادره) عن محمد فيما كان بالرقة، ومعه عشرة آلاف درهم، وعشرة آلاف له بالكوفة أنه يزكي الذي معه بالرقة بالرقة، والذي بالكوفة بالكوفة، وهذا لأن الزكاة كما تجب على المالك تجب بسبب المال، ففي صرفها إلى فقراء جوار المال مراعاة جانب المال، وفي نقلها إلى بلدة المالك مراعاة جانب المالك، وكان في النقل إلى بلدة المالك تعريض المال على التلف من غير فائدة، فكره هذا الذي ذكرنا، إذا كان فقراء تلك البلدة، وفقراء بلدة أخرى في الحاجة على السواء.
فأما إذا لم يكن فقراء تلك البلدة محتاجين، إلا أن فقراء بلدة أخرى أكثر حاجة، فالصرف إلى فقراء بلدة أخرى أولى، فقد صح أن معاذًا كان يأخذ صدقات أهل اليمن، ويبعث إلى النبي عليه السلام بالمدينة، وكان النبي عليه السلام يقسمها بين المهاجرين والأنصار، وإنما كان معاذ يفعل ذلك؛ لأن فقراء المدينة كان أشد حاجة.
وفي (فتاوى ابن الليث) من لا يحل له أخذ الصدقة، فالأفضل له أن لا يقبل. جائزة السلطان؛ لأنها تشبه الصدقة، ولا يحل له قبول الصدقة، فكذا لا يحل له قبول الجائزة وهذا إذا أدى ذلك من بيت المال، فأما إذا أدى ذلك من مال موروث جاز القبول؛ لأنها لا تشبه الصدقة، وإن كان فقيرًا، فإن كان السلطان يؤدي ذلك من بيت المال، ولا يأخذ ذلك غصبًا من الناس يحل له الأخذ؛ لأنه تحل له الصدقة حقيقة، فهاهنا أولى، وإن كان يأخذ ذلك غصبًا، فإن كان لا يخلط بدراهم أخرى لا يحل له الأخذ، وإن كان يخلط فلا بأس به؛ لأنه ملكه عند أبي حنيفة، حتى وجب عليه الزكاة، وورث عنه، وقوله: أرفق بالناس؛ لأن أموال الناس لا تخلو عن قليل غصب.
قال محمد في (الأصل): قوم من الخوارج غلبوا على قوم من أهل العدل، وأخذوا صدقات السوائم، ثم ظهر عليهم الإمام، لا يكون له أن يأخذ الزكاة منهم ثانيًا. من المشايخ من قال: إنما لا يكون للإمام ذلك؛ لأن حق الأخذ للإمام بسبب الحماية حتى اختص الأخذ بالأموال التي تكون محميًا بحماية الإمام، نحو السوائم وأموال التجارة التي تكون في المفاوز والأسفار، ولا يثبت حق الأخذ في الأموال الباطنة التي تكون في البلدان؛ لأنها لا تكون محمية بحماية الإمام، والإمام في هذه الصورة لم يحمهم، فلا يثبت له حق الأخذ منهم.
ومن المشايخ من قال: إنما لا يكون للإمام ذلك لا؛ لأن حق الأخذ للإمام بسبب الحماية، بل لأن حق الأخذ للإمام بسبب ولاية أثبتت له بالشرع، ألا ترى أن أخذ الصدقات من الأموال الباطنة كان مفوضًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وكذلك في زمن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما كان أخذ الصدقة من الأموال الباطنة مفوضًا إلى الإمام؟ إلا أن عثمان رضي الله عنه في زمنه فوض ذلك إلى أربابها لمصلحة رأى في ذلك، ولما كان حق الأخذ للإمام بسبب الولاية، فنقول: ولايته قد انقطع بسبب تخلية الخوارج، فيبطل حقه في الأخذ، وهل يؤمر أرباب الأموال بالأداء ثانيًا، فيما بينهم وبين الله تعالى؟ فالمسألة على وجوه:
الأول: إذا علموا أنهم صرفوا الصدقات إلى الفقراء، وفي هذا الوجه لا يؤمرون بالأداء ثانيًا، فيما بينهم وبين ربهم؛ لأنه وصل الحق إلى مستحقه.
الوجه الثاني: إذا علموا بأنهم لم يصرفوها إلى الفقراء، إنما صرفوها إلى شهوات أنفسهم، وفي هذا الوجه يؤمرون بالأداء ثانيًا.
الوجه الثالث: إذا لم يعلم من حالهم أنهم ماذا يصنعون بما يأخذون؟ وفي هذا الوجه روايتان: وجه الرواية التي قال: يؤمرون بالأداء ثانيًا؛ لأن الحق لم يصل إلى المستحق، ولا إلى نائبه، أما إلى المستحق فظاهر، وأما إلى نائبه؛ فلأن السلطان إنما يصير نائبًا عن الفقراء في الأخذ إذا كان يأخذ للفقراء، والخارجي لم يأخذ للفقراء إنما أخذ لنفسه، وجه الرواية التي قال: لا يؤمرون بالأداء ثانيًا أن ظاهر البغي، إن كان يدل على الصرف إلى شهوات نفسه، فظاهر العقل والإسلام يدل على الصرف إلى الفقراء، وظاهر العقل والإسلام أدل من ظاهر البغي، فقد وصل الحق إلى باب المستحق، فلا يؤمرون بالإعادة ثانيًا ذلك لتهمة البغي يندبون إلى الإعادة وفي (فتاوى أبي الليث) السلطان الجائر إذا أخذ صدقات السوائم فهذا على وجهين:
إما أن ينوي المؤدي عند الأداء الصدقة عنهم، وفي هذا الوجه اختلف المتأخرون منهم قال مفتي أرباب الصدقات بالأداء ثانيًا بينهم وبين الله تعالى؛ لأنهم لا يصرفون الصدقات إلى مصارفها. قال الفقيه أبو جعفر رحمه الله: لا يؤمرون بالأداء ثانيًا؛ لأن أخذ السلطان منهم صح لأن ولاية الأخذ له، فسقطت الصدقات عن أربابها، فلا يعود عليهم بعد ذلك، فإن لم يضع السلطان مواضعها، قال الصدر الشهيد رحمه الله: وبهذا أفتي.
هذا هو الكلام في صدقات الأموال الظاهرة، فأما إذا أخذ صدقات الأموال الباطنة ونوى صاحب المال الصدقة عند الأداء، اختلف المشايخ فيه، قال الصدر الشهيد: الصحيح أنه يفتى بالأداء ثانيًا؛ لأن أخذ السلطان منه لم يصح، إذ ليس له ولاية أخذ صدقات الأموال الباطنة.

.الفصل التاسع في المسائل المتعلقة بمعطي الزكاة:

وفي (الجامع الأصغر): سئل أبو حفص عمن دفع زكاة ماله إلى رجل وامرأة أن يتصدقا بها، فأعطى ولد نفسه الكبير أو الصغير أو امرأته، وهم محاويج، جاز هذا إذا كان المأمور فقيرًا، فأما إذا كان المأمور غنيًا يجب أن تكون المسألة على الخلاف، كما إذا أدى صاحب المال بنفسه.
وفي (الفتاوى) عن الحسن: رجل أعطى رجلًا دراهم يتصدق بها على الفقراء، فلم يتصدق حتى نوى الآمر من زكاته من غير أن يقول شيئًا، ثم تصدق المأمور، جاز من زكاته، وكذا لو أمره أن يتصدق بها عن كفارة يمينه، ثم نوى زكاة ماله، ثم تصدق.
وفي (المنتقى): رجل أمر رجلًا أن يؤدي عنه زكاة ماله فأداه قال: يجوز عنه، ولا يرجع على الآمر بما أدى، قال: وكذلك الشريك المفاوض وشريك العنان، أمر شريكه بأداء الزكاة عنه، فأداها لم يرجع على الآمر إلا أن يقول: على أنها لك حل.
وفي (مجموع النوازل): سئل نجم الدين: عن المؤذن يقوم عند حضور السؤال من الفقراء لأخذ الصدقات من أهل الجماعة، فدفع إنسان إليه درهمًا، ولم يحضر نية الزكاة، فقبل أن يدفع المؤذن ذلك إلى الفقير نوى عن الزكاة، ثم دفع المؤذن ذلك إلى الفقراء قال: تجزئة عن الزكاة، ويد المؤذن يد الدافع إلى أن يصل إلى الفقير، وسئل الفقيه عمن جمع دراهم الفقيه أخذها من الناس، والناس أعطوا الدرهم من زكاة مالهم واضح أكثر من مائتي درهم هل تجزئهم من الزكاة؟ فهذا على وجهين:
أما إن كان الذي جمع الدراهم جمع بأمر الفقيه أو من غير أمر الفقيه، فإن كان جمع بأمر الفقيه جاز لكل من أعطى قبل أن يبلغ مائتي درهم إذا كان الفقيه فقيرًا، ولا يجوز لمن أعطى بعدما بلغ مائتي درهم، إذا لم يكن على الفقيه دين، وإن كانوا لا يعلمون ذلك جاز في قول أبي حنيفة، ومحمد.
وإن كان جمع الدراهم من غير أمر الفقيه، فإنه يجوز من زكاتهم في الحالين جميعًا، ولكن يكره لمن أعطى بعد المائتين؛ لأن الذي يجمع يصير وكيلًا للدافعين في دفع ذلك إلى الفقيه في هذه الصورة، وكأنهم دفعوا بأنفسهم، ولو دفعوا بأنفسهم إلى الفقير مائتين أو أكثر عن زكاتهم أليس أنه يجوز؟ كذا هاهنا، وهذا إذا لم يخلط أموالهم، فإذا خلط أموالهم، فهو ضامن، ولا يجوز لهم من زكاتهم لما يأتي في المسألة التي تلي هذه المسألة.
وفي (الفتاوى): إذا دفع رجلان إلى رجل كل واحد منهما دراهم ليتصدق بها عن زكاة ماله، فخلط الدراهم قبل الدفع، ثم دفع، فهو ضامن، وكذلك المتولي إذا كان في يده أوقاف مختلفة، وخلط غلاتها صار ضامنًا لها، وكذا السمسار إذ خلط غلات الناس وأثمانها، وكذلك البائع إذا خلط من أمتعة الناس، والحاصل أن الخلط سبب الضمان؛ لأنه استهلاك إلا في موضع جرت العادة والعرف ظاهرًا بالإذن بالخلط.
إذا وجبت الزكاة على رجل، وهو لا يؤديها لا يحل للفقير أن يأخذ من ماله بغير علمه، وإن أخذ كان له أن يسترد إن كان قائمًا، وإن كان هالكًا يضمن؛ لأن الحق ليس لهذا الفقير بعينه.
ولو كان عند رجل أربعمائة درهم، فظن أن عنده خمسمائة درهم فأدى زكاة خمسمائة درهم. ثم ظهر أن عنده أربعمائة، فله أن يحتسب الزيادة للسنة الثانية، لأنه أمكن أن يعجل الزيادة تعجلًا، ولو مر بأصحاب الصدقات، فأخذوا منه كثيرًا مما عليه ظنًا منهم أن ذلك عليه لما أن ماله أكثر يحتسب الزيادة للسنة الثانية؛ لأنهم أخذوا ذلك بجهة الزكاة، وإن علموا مقدار ماله، وأخذوا الزيادة منه جورًا، لا يحتسب؛ لأنهم أخذوا الزيادة غصبًا.
ولو شك رجل في الزكاة، فلم يدرأزكى، أو لم يزكِ، فإنه يعيدها، فرق بين الزكاة وبين الصلاة، فإنه إذا شك في الصلاة بعد ذهاب الوقت أنه صلاها، أو لم يصلها، فإنه لا يعيدها، ولا فرق في المعنى؛ لأن العمر كله وقت أداء الزكاة، فصار الشك فيها بمنزلة شك وقع في الصلاة في الوقت أنه أدى، أو لم يؤد، وهناك يؤمر بالإعادة، فهاهنا كذلك، والله أعلم.

.الفصل العاشر في بيان ما يمنع وجوب الزكاة:

فنقول: ما يمنع وجوب الزكاة أنواع، منها الذي قال أصحابنا رحمهم الله: كل دين له مطالب من جهة العباد يمنع وجوب الزكاة، سواء كان الدين للعباد، أو لله تعالى كدين الزكاة.
فأما الكلام في دين العباد، فنقول: إنما منع وجوب الزكاة؛ لأن ملك المديون في القدر المشغول بالدين ناقص، ألا ترى أنه يستحق أخذه من غير مضار لا رضا، كأنه في يده غصب أو وديعة؟ ولهذا حلت له الصدقة، ولا يجب عليه الحج، والملك الناقص لا يصلح سببًا لوجوب الزكاة.
وأما الكلام في دين الزكاة، فنقول: إن كان زكاة السائمة تمنع وجوب الزكاة بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله.
وصورته: إذا كان له نصاب من الأثمان أو السوائم، أو عروض التجارة، فحال الحول ووجب الزكاة، ثم حال الحول ثانيًا لم تجب الزكاة في الحول الثاني في السوائم بلا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله، سواء كان ذلك في العين بأن كان العين قائمًا، أو في الذمة باستهلاك النصاب، وفي الأثمان وعروض التجارة كذلك الجواب عند أبي حنيفة، ومحمد، سواء كان ذلك في العين، أو في الذمة باستهلاك النصاب، وقال أبو يوسف: إن كان في العين لا تجب الزكاة في الحول الثاني، وإن كان في الذمة تجب الزكاة في الحول الثاني، وقال زفر: تجب الزكاة في الحول الثاني سواء كان ذلك في العين أو في الذمة.
وجه قول زفر: أن هذا دين لا مطالب له من جهة العباد؛ لأن الزكاة في الأثمان وعروض التجارة أداؤها مفوض إلى أربابها، فلا يمنع وجوب الزكاة قياسًا على النذور والكفارات، وأبو يوسف يقول: القياس ما قاله زفر، إلا أنه إذا كان في العين، إنما يمنع وجوب الزكاة؛ لأن جزءًا من العين صار مستحقًا به، فصار النصاب ناقصًا، وأبو حنيفة، ومحمد قالا: هذا دين له مطالب من جهة العباد تقديرًا.
بيانه: أن زكاة الأثمان، وعروض التجارة زمن رسول الله عليه السلام وزمن أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما كان مفوضًا إلى الإمام، إلا أن عثمان رضي الله عنه فوض ذلك إلى أربابها لمصلحة رأى في ذلك، وجعل أرباب الأموال كالوكلاء نفسه، لا أنه أبطل على نفسه حق الأخذ، وهذا لأن حق المطالبة للإمام عرف بعهد رسول الله عليه السلام وبعهد أبي بكر، وعمر، وحكم ثبت من جهة النبي عليه السلام، ومن جهة أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، لا يجوز لعثمان رضي الله عنه إبطاله، فدل أنه فوض الأداء إلى أرباب الأموال بطريق التوكيل، وكان هذا دينًا له مطالب من جهة العباد تقديرًا.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): رجل له مائتا درهم، فقبل الحول وجب عليه حجة الإسلام، أو حجة أوجبها، أو كفارة، أو صدقة من طعام، أو عتق، أو هدي متعة، أو أضحية، ثم تم الحول على المائتين وجبت عليه الزكاة؛ لأن هذه الحقوق لا مطالب لها من جهة العباد، ومثل هذا لا يمنع وجوب الزكاة، فلو امتنع وجوب الزكاة هاهنا إنما يمنع لهذه الحقوق، ولو كان الدين خراج أرض يمنع وجوب الزكاة بقدره؛ لأن هذا دين له مطالب من جهة العباد، وهو السلطان، فإن السلطان مطالب بالخراج، وإذا امتنع يحبسه عليه.
وكان الشيخ الإمام الزاهد أحمد الطهاويسي رحمه الله يحكي عن أستاذه الشيخ الإمام الزاهد عبد الواحد رحمه الله أنه كان يقول: هذا إذا كان خراجًا يوجد بحق، فأما ما يوجد بغير حق كخراج المستقرض لا يمنع وجوب الزكاة ما لم يوجد منه قبل الحول؛ لأن هذا ليس بدين، بل هو مصادرة يوجد من أرباب الأراضي، فما لم يوجد منه حتى يصير النصاب ناقصًا، لا يمنع وجوب الزكاة، وإذا كان الخراج بحق إنما منع وجوب الزكاة إذا كان تمام الحول بعد إدراك الغلة، أما إذا كان قبل إدراك الغلة، فلا؛ لأن الخراج إنما منع وجوب الزكاة على تقدير الوجوب، ووقت وجوب الخراج وقت إدراك الغلة، وكذلك الأرض العشرية إذا أخرجت طعامًا، واستهلكه، وضمن مثله دينًا في الذمة، وذلك قبل تمام الحول على الدراهم، ثم تم الحول على الدراهم فليس عليه فيها زكاة؛ لأن هنا دين له مطالب من جهة العباد، وهو الإمام.
قال محمد رحمه الله في (الجامع) أيضًا: رجل له مائتا درهم لا مال له غيرها قال قبل الحول: لله عليه أن يتصدق بمائة منها صح النذر، ولزمه أن يتصدق بمائة منها عينًا، حتى لو هلكت المائتان بطل النذر؛ لأن النذر بالتصدق أضيف إلى مائة من هاتين المائتين والدراهم والدنانير تتعينان في النذور؛ لأن النذر ينزع، فلو أنه لم يتصدق بمائة من هاتين المائتين حتى حال الحول على المائتين لزمه زكاة المائتين خمسة، وإن صارت مائة منه مستحقة بالنذر؛ لأن هذا حق لا مطالب له من جهة العباد.
فإن قيل: لم لا يمنع وجوب الزكاة من حيث أن الاستحقاق بمنزلة الهلاك؟ قلنا: إن الاستحقاق ثبت بنذره، وله ولاية تغيير ماله، أما ليس له ولاية تغيير ما عليه، وكون المال سببًا لوجوب الزكاة أمر عليه، فلا يظهر الاستحقاق الذي هو بمنزلة الهلاك في حق خروج هذا المال من أن يكون سببًا لوجوب الزكاة بنذره، ثم إذا لزمته الزكاة، وإخراج خمسة منها ينوي الزكاة بها، فإن عليه أن يتصدق للنذر سبعة وتسعين درهمًا ونصف درهم، وسقط عنه التصدق بدرهمين ونصف؛ لأن الخمسة التي وجبت زكاة وجبت شائعة في المائتين في كل مائة درهمان ونصف، فيصير قدر درهمين ونصف مستحقًا من المنذور به من غير إيجاب بإيجاب الله تعالى، فصار بمنزلة ما لو هلك هذا القدر، فبطل النذر بقدره، ولزمه الوفاء بما بقي، وذلك سبعة وتسعون ونصف.
وهذا بخلاف ما لو قال: لله عليّ أن أتصدق بمائة درهم، ولم يقل: منها، وتم الحول حتى لزمه الزكاة، فأدى خمسة منها ينوي بها الزكاة، فإن عليه أن يتصدق بمائة درهم للنذر، بخلاف المسألة الأولى.
والفرق: أن في هذه المسألة النذر بالتصدق ما أضيف إلى مائة من النصاب حتى يتعين مائة من النصاب للتصدق، بل وجب التصدق بمائة في الذمة، ولا تعلق له بالنصاب، فوجوب الزكاة لا يصيّر شيئًا من النذور مستحقًا، فلا يبطل شيء من النذر.
وكذلك المسألة الأولى؛ لأن في المسألة الأولى: النذر بالتصدق أضيف إلى المائة من النصاب عينًا، والخمسة الواجبة نصفها من المائة المنذورة لما ذكرنا، أن الزكاة في المائتين وجب على الشيوع، فبقدر درهمين ونصف صار مستحقًا من المنذور، فسقط التصدق بقدره، فلو أن هذا الرجل بدأ بالنذر أولًا، وأدى المائة عن النذر صح؛ لأنه وفاءٌ بالنذر والوفاء بالنذر واجب، ولم يذكر محمد رحمه الله أن أي قدر يؤدي الزكاة، واختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه يؤدي درهمين ونصفًا، وهذا القائل يقول: كل المائة لا تقع عن النذر، بل تقع عن النذر قدر سبعة وتسعين درهمًا ونصف درهم، والباقي إلى تمام المائة وهو درهمان ونصف تقع عن الزكاة.
وجه ذلك: أن درهمين ونصفًا من الزكاة كان في المائة التي تصدق بها عن النذر، وتعلق به حق الفقير، وقد يصل ذلك إلى الفقير، فيعتبر واصلًا إليه من جهة المستحق لا من جهة المنوية، ألا ترى أنه لو تصدق بجميع النصاب ينوي التطوع تسقط عنه الزكاة.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): أيضًا رجل له دراهم ودنانير، وعروض التجارة وسوائم، ومال قنية، وعقار، وغلة دين مستغرق، فلا زكاة عليه، وقد مر هذا، وإن استغرق الدين بعض هذه الأموال، ذكر في عامة نسخ (الجامع): أنه يصرف الدين إلى نصاب الدراهم والدنانير، ثم إلى مال التجارة، وهكذا ذكر في (النوادر)، وذكر في بعض نسخ (الجامع): أنه يصرف الدين إلى الدراهم والدنانير، وأموال التجارة، وسوى بين الدراهم والدنانير وأموال التجارة والأول أصح.
يجب أن يعلم أنه إذا كان للمديون صنوف من الأموال المختلفة، والدين مستغرق بعض هذه الأموال، فالدين أولًا يصرف إلى الدراهم والدنانير إما لأن قضاء الدين استبدال من حيث إن الديون يقضى بأمثالها، والقضاء بالمثل مبادلة، وكان صرفه إلى مال معد للاستبدال أولى، والدراهم والدنانير معدة للاستبدال دون غيرهما، وإما لأن الدراهم والدنانير أيسر المالين قضاء، والدين أبدًا يصرف إلى أيسر المالين قضاء، فإن فضل شيء من الدين يصرف إلى عروض التجارة دون السائمة، إما؛ لأن قضاء الدين من عروض التجارة أيسر من قضائها من السائمة؛ لأن السائمة معدة للإمساك.
بخلاف عروض التجارة، أو لأن الصرف إلى عروض التجارة أنفع في حق الفقراء؛ لأن السائمة خالية عن الدين، وزكاة عروض التجارة مفوض إلى أربابها، وعيني يختار الأداء وعيني لا يختار، فإن فضل شيء من الدين يصرف إلى السائمة، ولا يصرف إلى مال العينية؛ لأن قضاء الدين من السائمة أيسر؛ لأنها فارغة عن الحاجة الأصلية، فالإتيان دليل عليه بخلاف مال العين؛ لأنها مشغولة بالحاجة الأصلية.
فإن كان له نصيب من السوائم الإبل، والبقر، والغنم، والدين يصرف إلى أهلها زكاة، حتى إن في هذه المسألة يصرف الدين إلى الإبل أو الغنم، ولا يصرف إلى البقر؛ لأن الواجب في ثلاثين من البقر تبيع، والواجب في خمس من الإبل شاة، وكذلك الواجب في أربعين من الغنم شاة، ولا شك أن تبيعًا أنفع في حق الفقير من الشاة، فيصرف الدين إلى الإبل، أو الغنم دون البقر، ليمكن إيجاب الأنفع للفقراء، ثم المالك إن شاء صرف الدين إلى الغنم، وإن شاء صرفه إلى الإبل لإيجاد الواجب فيهما، وروي في غير رواية الأصول الدين يصرف إلى الغنم دون الإبل، لأن ذلك أنفع في حق الفقير.
بيانه: أنه إذا صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل خاليًا عن الدين، والواجب فيها شاة لأحمد، فإذا أداها يبقى نصاب الإبل ثابتًا في السنة الثانية، فأما لو صرفنا الدين إلى الإبل يبقى نصاب الغنم خالية عن الدين، فتجب شاة منها، فينتقص النصاب في السنة الثانية وكان صرف الدين إلى الغنم أنفع في حق الفقراء.
وصار الأصل من جنس هذه المسائل: إن ما كان أنفع للفقراء لا يصرف الدين إليه، وإن فضل شيء من الدين يصرف إلى مال القنية دون العقار، ولأن بيع مال القنية أيسر؛ لأن العقار ما لا يستحدث فيه الملك، ولا يباع في كل ساعة بخلاف المنقول.
وإن كان في مال القنية عبد لخدمته، وثياب البذلة والمهنة، والدين لا مستغرق ذلك كله، بل يكفيه أحد المالين، فإلى أي المالين يصرف الدين؟ اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يصرف إلى عبد الخدمة، منهم الفقيه أبو إسحق الحافظ، والفقيه أبو بكر البلخي، وبعضهم قالوا: يصرف إلى ثياب البذلة والمهنة، منهم الفقيه أبو جعفر رحمه الله، وهذا الذي ذكرنا من الترتيب إذا أتاه المصدق، فيقول: عليّ دين، فيصرف على هذا الترتيب، فأما إذا كان يؤدي بنفسه يصرفه إلى أي المالين ما بعد أن يكون مقدار الواجب، فهما على السواء، وهذا لأن الدين عليه والمال له، وليس في صرفه إلى أحدهما ضرر على الفقراء، وكان له أن يصرف إلى أيهما.
وقيل في دين المهر: أنه يمنع وجوب الزكاة كسائر الديون، وقيل: إن كان من نية الزوج: أنها متى طالبته تلقاها بلطف، ويقرها أنه متى صادف مالًا لا يبطل حقها يمنع وجوب الزكاة كسائر الديون، وإن كان من حقه أنه متى طالبته ضربها، وتلقاها بالإنكار لا يمنع وجوب الزكاة.
قال القدوري في (كتابه): وقال أصحابنا رحمهم الله: إن النفقة لا تمنع وجوب الزكاة ما لم يقض بها، فإذا قضي منعت؛ لأن النفقة لا تصير دينًا قبل قضاء القاضي فهذا الجواب مستقيم في نفقة الزوجات؛ لأنها تصير دينًا بقضاء القاضي، فأما نفقة المحارم ففي صيرورتها دينًا بقضاء القاضي كلام يأتي في موضعها إن شاء الله.
ولو ضمن دركًا، فاستحق المبيع بعد الحول لم تسقط الزكاة؛ لأن الوجوب يقتصر على ماله الاستحقاق، ومن جملة الموانع الصبي والجنون، حتى لا تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون عندنا، فإذا كان الجنون أصليًا ثم أفاق، فعند أبي حنيفة: يعتبر ابتداء الحول من حين الإفاقة؛ لأنه لا خطاب قبل ذلك، فصارت الإفاقة في حق المجنون بمنزلة البلوغ في حق الصبي، وإذا طرأ الجنون فإن استمر سنة سقط، وإن كان أقل من ذلك لا يعتبر.
وروي عن أبي يوسف: أنه اعتبر الإفاقة في أكثر السنة، فإن كان مفيقًا في أكثر السنة تجب الزكاة وما لا فلا، وروي عنه: أنه إذا أفاق ساعة من الحول تجب الزكاة، وهو قول محمد؛ لأن السنة للزكاة بمنزلة الشهر للصوم، ثم الإفاقة في شيء من الشهر تكفي لوجوب الصوم، فكذا الإفاقة في شيء من السنة تكفي لإيجاب الزكاة، والذي يجن ويفيق بمنزلة الصحيح، وهو النائم والمغمى عليه.

.الفصل الحادي عشر في الأسباب المسقطة للزكاة:

فمن جملة ذلك هلاك مال الزكاة، قال أصحابنا رحمهم الله؛ إذا هلك مال الزكاة بعد حَوَلان الحول من غير تعد منه بالاستهلاك سقط عنه الزكاة، سواء هلك بعد التمكن من الأداء، أو قبل التمكن منه، وكان أبو الحسن الكرخي رحمه الله يقول: إذا طالبه الساعي بالأداء، فلم يؤد حتى هلك ضمن، وقال أبو سهل الزجاجي من أصحابنا: لا يضمن.
فوجه قول أبي الحسن: أن الساعي ناب عمن له الحق في قبض هذا المال على التعين، فيصير ضامنًا بالمنع منه كما في الوديعة، إذا قال صاحب الوديعة للمودع: ادفع الوديعة إلى غلامي هذا، فطلب غلامه ذلك الوديعة، فلم يدفع إليه، فإنه يصير ضامنًا، فهاهنا كذلك، وعلى هذا العرف يخرج ما إذا طلب الفقير منه ذلك، فلم يدفع إليه حتى هلك حيث لا يضمن؛ لأن هذا الفقير لم يتعين نائبًا عمن له الحق في أخذ هذا المال، فهو نظير ما لو قال صاحب الوديعة: ادفع الوديعة إلى أي غلماني شئت، فجاء واحد من غلمانه وطلب الوديعة، فلم يدفع إليه حتى يدفع إلى غلام آخر هناك لا يصير ضامنًا كذا.
وجه قول أبي سهل: أن وجوب الضمان يستدعي تفويتًا، ولم يوجد، وفي فصل الوديعة وجد التفويت؛ لأن المودع بالمنع بدل اليد، فصار مُفوتًا يدًا بذلك، فيجب الضمان بالتفويت، أما هاهنا بخلافه.
قال محمد رحمه الله في (الجامع): إذا كان للرجل ثمانون من الغنم السائمة حال عليها الحول، حتى وجبت شاة، ثم هلك منها، وبقي أربعون، ففي القياس يزكي الباقي نصف شاة، وهو قول محمد وزفر، وفي الاستحسان يزكي الباقي بشاة كاملة، وهو قول أبي حنيفة، وأبي يوسف.
من مشايخنا من قال: هذه المسألة في الحاصل تبنى على أصل أن المال إذا اشتمل على النصاب في العفو، فالواجب يتعلق بالنصاب، وحل استحسانًا حتى لو هلك العفو، وبقي النصاب بقي كل الواجب، وقال محمد وزفر: يتعلق بهما قياسًا حتى لو هلك العفو سقط من الزكاة بقدره، فوجه القياس في ذلك قوله عليه السلام «في أربعين شاة شاة إلى مائة وعشرين»، فقد جعل الشاة واجبة في الكلّ؛ ولأن ما زاد على الأربعين نعمة، فتجب الزكاة فيه شكرًا قياسًا على الأربعين، وبالإجماع لم يجب فيما زاد على الأربعين شيء آخر. علمنا أن الشاة واجبة في الكل، فإذا هلك ما زاد على الأربعين يجب أن يهلك بخمسة كما لو كان له أربعون من الغنم، وهلك بعضها، إلا أن هذه الزيادة تسمى عفوًا بمعنى أن الشاة تجب بدونها، ولكن إذا وجدت الزيادة، فالوجوب يتعلق بالكل.
ومن مشايخنا من قال: الشاة وإن كانت واجبة في الأربعين لا غير، مع هذا يمكن القول بسقوط بعض الواجب بهلاك الزيادة.
وبيان ذلك: أن ما وجب فيه الشاة غير معين، فأربعون من الثمانين مال الزكاة وأربعون ليس مال الزكاة، وليس أحد الأربعين..... المالين للآخر، بل كل واحد من الأربعين أهلًا نفسه؛ لأن أحد المالين إنما جعل تبعًا للآخر، إما أن يكون متفرعًا عنه كالولد، أو بأن يكون مستفادًا..... ولم يوجد شيء من ذلك هاهنا، وقد اختلطا على وجه تعذر التمييز؛ لأن الذي فيه الشاة ليس بمعين، والأصل في كل مالين هذا حالهما، أنه إذا هلك شيء منها، فما هلك يجعل هالكًا من المالين، وما بقي يجعل باقيًا من المالين؛ لأنه في معنى الشائع، والشائع كذلك يكون، والدليل عليه.
مسألة في (النوادر): إذا كان للرجل ألف درهم حال عليها الحول، فاستفاد ألفًا أخرى، واختلط المستفاد بالنصاب على وجه تعذر التمييز بينهما، ثم هلك منها ألف فإنه يزكي خمسمائة، وجعل الهلاك من المالين بالطريق الذي قلنا، كذا هاهنا.
وجه الاستحسان في ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام «في أربعين شاة الشاة» وليس في الزيادة شيء حتى يبلغ مائة وواحدًا وعشرين، فالنبي عليه السلام عفى الوجوب عن الزيادة إلى أن يبلغ مائة واحدًا وعشرون، فمن جعل الشاة بشاة في الثمانين، فقد أوجب في الزيادة على الأربعين شيئًا قبل وجود نصابه، وإنه خلاف النص، والعمل بما روينا أولى من العمل بما رواه الخصم؛ لأن ما روينا محكم في حكم الواجب عن الزيادة على الأربعين، وما رواه الخصم محتمل أن يكون حتى قوله: إلى مائة وعشرون، أن الشاة واحدة في الكل، ومحتمل أن يكون معناه من الأربعين إلى مائة واحد وعشرين عفو لا يتعلق به الواجب، فكان العمل ما روينا أولى، والمعنى في المسألة: أنهما مالان اختلطا، وتعذر التمييز بينهما وأحدهما أصل هو النصاب الأول، والآخر تبع، وهو الزائد على النصاب؛ لأن الأصل ما يقوم بنفسه، ويوجد دون غيره، والتبع ما لا يقوم بنفسه، ولا يوجد دون غيره، والنصاب الأول يقوم بنفسه، ويوجد بدون الزيادة، والزيادة لا تقوم بنفسها، ولا توجد بدون النصاب الأول فهو معنى قولنا: إن النصاب الأول أصل، والزيادة عليه تبع، فيصرف الهلاك إلى التبع؛ لأن الأصلي أقوى، وصرف الهلاك إلى الأضعف أولى، ولأن في صرف الهلاك إلى التبع صيانة الواجب عن النقصان، فكان هو أولى.
وأما مسألة (النوادر). قلنا: ما ذكر أنه يزكي خمسمائة فهو قول محمد وزفر، وهو القياس، أما على قول أبي حنيفة، وأبي يوسف، وهو الاستحسان، يزال النصاب الأول الذي هو الأصل، وهو مائتا درهم ثم يصرف الهلاك إلى ما وراءه يكون ذلك جعله تبعًا للنصاب الأول، إلا أن التابع للنصاب الأول في هذه الصورة بعضه مال وجب فيه الزكاة، وذلك ثماني مائة من الألف التي حال عليه الحول، وبعضه حال لم يجب فيه الزكاة، وذلك ألف درهم، فيصرف الهلاك إلى الكل، وجعلنا لكل مائتي درهم منهما، فصار ما وجب فيه الزكاة أربعة أسهم، وما لم يجب فيه الزكاة خمسة أسهم، فجملة ذلك تسعة أسهم فما هلك، وذلك ألف، يهلك على تسعة أسهم، وما بقي وذلك ثماني مائة يبقى على تسعة أسهم، أربعة اتساعها مما وجب فيه الزكاة، وذلك أربعمائة وأربعة وأربعون وأربعة الأتساع، فيبقى ذلك ثلثمائة وخمسة وخمسون وخمسة الأتساع. يضم هذا القدر من ثماني مائة إلى النصاب الأول الذي هو الأصل، وذلك مائتا درهم، فيصير الجملة خمسمائة درهم وخمسة وخمسين وخمسة الأتساع يزكي هذا القدر على طريق الاستسحان، نصّ عليه في زكاة الإبل في (نوادر الزكاة).
ولو هلكت من الثمانين ستون، وبقي عشرون يزكي الباقي، بنصف شاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهلاك عندما يصرف إلى الزيادة أولًا، ويجعل كأن الزيادة لم تكن، وكان ماله أربعين لا غير، وقد هلكت منها عشرون وبقي عشرون، يزكي الباقي بنصف شاة من هذا الوجه، وعند محمد وزفر زكى الباقي ربع الشاة؛ لأن عندهما الشاة كانت سابقة في الثمانين.
ولو كان له مائة وعشرين من الغنم هلك بعد الحول ثمانون، وبقي أربعون يزكي عن الباقي شاة واحدة في قول أبي حنيفة، وأبي يوسف؛ لأن الهلاك عندهما انصرف إلى الزيادة على النصاب الأول كأنه لم يملك إلا الأربعين.
ولو كان له مائة واحد وعشرون من الغنم حال عليها الحول، ثم هلك منها أحد وثمانون، وبقي أربعون ذكر في (الجامع) أنه يزكي الباقي بشاة عند أبي حنيفة، وأبي يوسف، وروي عن أبي يوسف في (الأمالي) أنه يزكي الباقي بأربعين جزءًا من مائة وإحدى وعشرين جزءًا من مائين وهو قول محمّد، وإنما خالفت هذه المسألة المسألة الأولى عند أبي يوسف على رواية (الأمالي)؛ لأن في هذه المسألة المال اشتمل على النصابين، وفي المسألة الأولى اشتمل على النصاب، والعفو والمال إذا اشتمل على النصاب والعفو، فالهلاك يصرف إلى العفو عند أبي يوسف باتفاق الروايات، ومتى اشتمل على النصابين، فالهلاك ينصرف إلى النصابين على رواية (الأمالي) عنه، وعلى ظاهر الرواية يصرف الهلاك إلى النصاب الزائد على النصاب الأول، أو نصابًا الأول مستغنى عنه، وفي الزيادة إذا كانت نصابًا، إن انهدم المعنى الذي قلتم وجد المعنى الذي قلنا، فالثاني لا يستغني عن الأول، والأول مستغني عن الثاني، وإنه كافٍ للتبعة كما في التعجل، فإنه إذا عجل زكاة نصب كثيرة بعدها هلك نصابًا واحدًا جاز، وطريق الجواز أن يجعل ما وراء هذا النصاب تابعًا له، وذكر القدوري في (شرحه) روايتين، أبي يوسف عن أبي حنيفة: في المال أداء اشتمل على النصابين مثل قول محمد، ورواية أبي يوسف، وقال أبو الحسن: هو الصحيح.
وفي (القدوري): إذا كان له أربعون من الإبل السائمة هلك منها عشرون بعد الحول، ففي الباقي أربع شياه عند أبي حنيفة؛ لأنه يجعل الهالك كأن لم يكن لكون الهالك تبعًا، وصرف الهلاك إلى التابع عنده، فيلزمه زكاة العشرين، وذلك أربع شياه، وعند أبي يوسف: يجب عشرون جزءًا من ستة وثلاثين جزءًا من بنت لبون؛ لأن الأربعة عفو، فالواجب وذلك بنت لبون في ست وثلاثين، فيبقى من الواجب بقدر الباقي، فلو كان له مائتا درهم، ودمج معها بعد الحول مائتين، ثم هلك نصفها لم تسقط هي؛ لأن الربح تابع لأصل المال بلا خلاف، فيصرف الهلاك إليه عند الكل كما صرف إلى العفو عند أبي حنيفة.
قال القدوري: والعفو عند أبي حنيفة يتصور في سائر الأموال، وعندهما لا يتصور في الذهب والفضة، إنما يتصور في السوائم بناءً على أن الزكاة تجب في الزيادة على المائتين والعشرين، عندهما خلافًا لأبي حنيفة، وفي (المنتقى) فالدين صح عن أبي يوسف، وإبراهيم عن محمد: رجل دفع زكاة ماله لثلاث سنين إلى الوالي، ثم ضاع ماله قال: رد عليه الوالي، إن كان قائمًا بعينه، وإن كان فرقه، فلا شيء عليه.
وفيه: أبو سليمان عن محمد رحمه الله: رجل له جارية للتجارة قيمتها مائة درهم حال عليها الحول ثم باعها بثلثمائة درهم، ثم نوى منها مائتا درهم، قال: يزكي مائة الدرهم الباقية.
بشر عن أبي يوسف: رجل له أربعون شاة سائمة حال عليها الحول، ثم باعها بثلثمائة درهم، ولدت أربعين حملًا، ثم ماتت الأمهات بطل عنها الزكاة.
ابن سماعة عن محمد: رجل له ألف درهم حال عليها الحول ثم أقرضها رجلًا يفوت عليها مال الزكاة عليه؛ لأنه ما أخرجهما عن حد الزكاة، وإنما أقرضها ليكون له عليه مثلها، وكذلك لو كان له ثواب للتجارة حال عليها الحول، ثم أعاره رجلًا فضاع.
ومن جملة الأسباب المسقطة للزكاة موت من عليه مال، قال أصحابنا رحمهم الله: إذا مات من عليه الزكاة تسقط الزكاة بموته حتى أنه إذا مات عن زكاة سائمة، فالساعي لا يجبر الوارث على الأداء، ولو مات عن زكاة التجارة لا يجب عليه الأداء فيما بينه وبين ربه، وقال الشافعي: لا يسقط بموته؛ لأن هذا حق مال وجب في ذمته، والنيابة تجري فيه.
ألا ترى أنه لو أمر غيره بأداء الزكاة في حالة الحياة جاز، وكذا لو أوصى لوارثه بأن يؤدي زكاة ماله بعد موته يجب على الوارث أداءه، فصح ما ادعينا، أن هذا حق مال وجب في ذمته والنيابة تجري فيه، فوجب أن لا يسقط بموته قياسًا على سائر الحقوق التي بهذه الصفة، وأقر بها العشر.
وإنما نقول: بأن الزكاة عبادة خالصة لله تعالى، والركن في العبادات الأداء عن اختيار، ولا اختيار للمتغيب، وما يقول: بأن هذا حق تجري فيه النيابة.
قلنا: نعم ولكن نيابة اختيارية لا نيابة جبرية، ولو وجب على الوارث الأداء هاهنا لصار نائبًا عنه جبرًا، فلا يكون الأداء عن اختيار من عليه، حتى لو وجد الاختيار، وفي النيابة بأن أوصى إليه قول بأنه ثبت على الوارث الأداء، ثم إذا أوصى قائمًا يجب على الوارث تنفيذ الوصية بقدر الثلث؛ لأن الميت لو لم يوص بذلك لكن تسلم الورثة جميع المال لو بطل حقهم عن بعض المال، إنما يبطل بحكم الوصية، وعمل الوصية في مقدار الثلث، لا في الزيادة على الثلث.
ومن جملة الأسباب المسقطة: الردة، قال أصحابنا: من عليه الزكاة إذا ارتد عن الإسلام، والعياذ بالله، بطل عنه الزكاة، وكذلك ما مضى من الأحوال....، فلا زكاة فيها عندنا بناءً على ما قلنا أن الزكاة عبادة، والمرتد ليس من أهلها، وهذا لأن أصلية الشيء بأصلية حكمه، وحكم العبادة الزكاة الثواب، والمرتد ليس من أهل الثواب والله أعلم.

.الفصل الثاني عشر في صدقات الشركاء:

قال أصحابنا: وإذا كان النصاب من خليطين لا تجب فيه الزكاة، والأصل فيه قوله عليه السلام، «وسائمة الرجل إذا كان أقل من أربعين، فلا زكاة فيها»؛ ولأن الزكاة وظيفة الغني، وهذا ليس بغنى في حق كل واحد منهما.
وقال الشافعي: تجب الزكاة عند وجود شرائط الخليطين، وذلك بأن يتحد الراعي والمرعى والمراح، والمسرح والبئر والكلب، ويحتج بقوله عليه السلام «لا يجمع بين متفرق، ولا يفرق بين مجتمع، وما كان بين خليطين يتراجعان بالسوية»، فالنبي عليه السلام اعتبر الجمع والتفريق والخلطة، وعندكم لا أثر لهذه الأشياء، وعندنا مضى قوله عليه السلام: «لا يجمع بين متفرق» إذا كان بين رجلين ثمانون شاة، فإنه تجب فيها شاتان، فلا يجمعا فيها، فيقولان: إنها لرجل واحد لإيجاب شاة واحدة، وإذا كان بين رجلين أربعون شاة، فلا ينبغي للساعي أن يجعلها كأنها لرجل واحد، فيأخذ منها شاة، ومعنى قوله: «ولا يفرق بين مجتمع» إذا كان لرجل أربعون شاة، فلا ينبغي له أن يجعل عشرين منها على يدي رجل، ويقول: ليس لي إلا عشرون حتى لا تجب الزكاة، وإذا كان لرجل مائة وعشرون من الغنم، فلا ينبغي للساعي إن فرق كل أربعين على حدة، فيأخذ ثلاث شياه وقوله: «ما كان بين خليطين يتراجعان بالسوية»، فهذا ما ذكر ابن رستم في (نوادره) عن محمد:
إذا كان رجلان بينهما مائة وعشرون شاة لأحدهما أربعون، وللآخر ثمانون وأخذ المصدق منها شاتين، فصاحب الثمانين يرجع على صاحب الأربعين بثلث شياه؛ لأن المأخوذ من نصيب صاحب الأربعين ثلث شاتين، وثلث شاتين لا شاة واحدة، والواجب عليه شاة، والثلث الآخر أخذ من نصيب صاحب الثمانين، فرجع هو بذلك على صاحب الأربعين.
وفي (نوادر هشام) عن محمد صورها في الإرث، فقال: رجل توفي وترك مائة وعشرين شاة سائمة، وله ابن وبنت، فورثاها على فرائض الله، فجاء المصدق، وأخذ منها شاتين، فإن الأخت تعود على أخيها بسدس قيمة كل شاة من الشاتين.
وفي (نوادر ابن رستم): ثلاثة نفر لكل رجل منهم خمسون شاة، فخلطوها، فجاء المصدق، وأخذ منها شاتين، وإن كان يعرف غنم كل رجل، فأخذ الشاتين من الغنم لرجل بعينه، فهذا ظلم به.
وفي (نوادر هشام): في ثمانين شاة بين أربعين رجلًا لرجل واحد من كل شاة نصفها والنصف الآخر من الشاة لهؤلاء الباقين، قال أبو حنيفة: ليس على صاحب الأربعين صدقة، وهو قول محمد، ولو كان بين رجلين يجب على كل واحد منهما شاة؛ لأنه مما يقسم في هذه المسألة.، وفي المسألة الأولى لا يقسم.
وفي (القدوري): قال أبو يوسف: إذا كان ماء مشترك بين رجلين، وبين أحدهما وبين آخر تسعة وسبعون، فعلى الذي تمّ نصابه، وذلك أربعون الزكاة، وقال زفر: لا يجب الزكاة لأنه أحسبه بالقسمة نصيب كامل، فإنه يستحق من هذه الشاة الواحدة نصفًا ومن الباقي نصفًا، وأبو يوسف يقول: المعتبر كمال النصاب في ملكه، وقد اجتمع في ملكه أربعون شاة، فتجب منه الزكاة.

.الفصل الثالث عشر في زكاة الديون:

يجب أن تعلم أن من عليه الدين لا يخلو أن يكون مقرًا بالدين، أو جاحدًا له، وإما أن يكون مليئًا، أو مفلسًا.
فإن كان مليئًا، وكان مقرًا بالدين، فلا يخلو إما إن وجب الدين بدلًا عما هو مال التجارة كبدل الدراهم والدنانير وعروض التجارة، وما أشبهه، أو وجب بدلًا عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة كثمن عبد الخدمة، وما أشبهه، أو وجب بدلًا عما ليس بمال كالمهر، والدية، وبدل الخلع، والصلح عن دم العمد، وما أشبهه، فأوجب بدلًا عما هو مال التجارة. فحكمه عند أبي حنيفة: أن يكون نصابًا قبل القبض يجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه أربعين درهمًا، وما وجب بدلًا عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة، فحكمه في رواية عنه: أنه لا يكون نصابًا قبل القبض، وعلى هذه الرواية اعتمد الكرخي رحمه الله.
وفي رواية الأصل عنه: أنه يكون نصابًا قبل القبض، وعلى قوله الآخر لا يكون نصابًا قبل القبض، وهو الصحيح، فقد فرق على قوله الآخر بينما وجب بدلًا عما ليس بمال أصلًا، وبينما وجب بدلًا عما هو مال.
وجه الفرق: أن المال إنما يعتبر نصابًا باعتبار معنى التجارة لدين ثابت من وجه دون وجه، فإن صاحب الدين يملك المشترى بالدين ممن عليه ولا يملك المشترى بالدين من غير من عليه، فكان معنى التجارة بالدين إما من وجه دون وجه، فإن صاحب الدين يملك المشترى بالدين ممن عليه ولا يملك المشترى بالدين من غير من عليه، فإذا كان الدين بدلًا عما هو مال التجارة، فالمال في حقه مال النصاب لا مال الثبوت، والثابت بعلة يبقى ما بقي شيء من تلك العلة، فتبقى نصابًا في حقه، فتجب فيه الزكاة، إلا أنه لا يجب الأداء؛ لأن العين أفضل من الدين، فإنه يملك التصرف في العين على الإطلاق.
فأما ما يجب بدلًا عما ليس بمال أصلًا، فالحال في حقه حال الثبوت للنصاب، فاعتبار معنى التجارة من كل وجه، ومعنى التجارة للدين ثابت من وجه على أمر لا يكون نصابًا قبل القبض، ولهذا قال أبو حنيفة في الدين الذي وجب بدلًا عما هو عينه، إلا أنه ليس للتجارة، وفي رواية: أنه لا يكون نصابًا قبل القبض؛ لأن أصله لم يكن نصابًا، ولم يكن للتجارة، وكان المال في حقه مال ثبوت النصاب، فلابد من اعتبار معنى التجارة من كل وجه.
وفي رواية (الأصل): ما لا يكون نصابًا قبل القبض يجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه مائتي درهم.
وإنما شرطنا لوجوب الأداء في الدين الذي وجب بدلًا عما هو مال التجارة، أن يكون المقبوض أربعين درهمًا؛ لأن الدين إذا وجب بدلًا عما هو مال التجارة يفيد صاحب الدين قبل القبض البيع كانت ثابتة على النصاب، وبالبيع زالت من حيث الحقيقة، ولكن مع إمكان الإعادة بقبض البدل، واعتبار إمكان الإعادة بجعل اليد الزائلة حقيقةً قائمةً حكمًا، واعتبار إمكان ثبوت اليد حقيقة بعد ذلك.... بما زائدة على اليد الثابتة من حيث الاعتبار، وأنه شرط وجوب الأداء، فيصير تقدير المحل في هذه اليد الزائدة، لوجوب الأداء قدر الزيادة على النصاب في حق أصل الوجوب، وملك الزيادة ما لم يكن أربعين.
وعلى قول أبي حنيفة: لا تجب الزكاة، هكذا هاهنا ما لم تثبت هذه اليد الزائدة على الأربعين لا يجب الأداء إلا إذا أوجب الدين بدلًا عما هو مال، إلا أنه ليس للتجارة يفيد صاحب الدين قبل البيع لم يكن نائب على النصاب حقيقة، حتى تصير بائعه بعد البيع اعتبارًا وحكمًا باعتبار إمكان الإعادة، وكان ثبوت اليد حقيقة بعد ذلك ابتداء يد يشترط لوجوب الأداء لا يدًا زائدة، فيصير تقدير المحل في حق هذه اليد المبتدأة بتقدير أصل مال يشترط لوجوب أصل الزكاة، ذلك مقرر بالمائتين، فكذا هاهنا ما لم تثبت هذه اليد ابتداءً على المائتين لا يجب الأداء، وروي عن الحسن عن أبي حنيفة: أنه ينوي حينما وجب بدلًا عما هو مال التجارة، وهنا وجب بدلًا عن مال ليس هو مال التجارة، وقال: إذا قبض منها أربعين درهمًا يجب عليه الأداء بقدر ما قبض.
هذا كله قول أبي حنيفة.
فأما على قولهما: فالديون كلها سواء، وهي نصاب تجب فيها الزكاة قبل القبض، إذا حال عليها الحول، ولكن لا يجب الأداء قبل القبض، وإذا قبض شيئًا منه يجب الأداء بقدر ما قبض، قلنا: ما كان أو كثرًا، إلا الدية وبدل الكتابة فإنهما ليسا بسبب حتى يقبض، ويحول الحول عليه.
ووجه ذلك: أن الديون كلها سواء في حكم المالية من حيث إن المطالبة بها متوجهة، وتعتبر حالًا حقيقة بالقبض، فكانت سواء في حق حكم الزكاة، وهذا لأن الغائب ليس إلا اليد، وتأثير انعدام اليد في امتناع أصل الوجوب، كما في ابن السبيل بخلاف، ومن الكفاية لأن ذلك ليس دين على الحقيقة؛ لأن المكاتب عبد والمولى لا يستوجب على عبده دينًا، ولهذا لا تصح به الكفالة، أما هاهنا بخلافه، وبخلاف الدية؛ لأنها صلة تجب لدفع الوحشة عن أولياء القتيل، وإطفاء ثائرة القتل، ولهذا وجب على غير القاتل، فكانت من باب الصلة، والصلات لا تتم قبل القبض.
وفي كتاب (الأجناس): جعل مسألة المهر على وجهين، فقال: إن تزوجها على إبل تعتبر أعيانها، ثم قبض خمسًا من الإبل بعد الحول، فلا زكاة عليها في قولهم ما لم يحل عليه الحول بعد القبض، وإن تزوجها على إبل بعينها، فكذلك عند أبي حنيفة للزكاة حتى يحول عليها الحول بعد القبض، قال: وكذلك إذا كان المهر مئتي درهم، فهو على هذا الخلاف، هذا كله لفظ كتاب (الأجناس) للناطفي رحمه الله، وستأتي مسألة المهر في آخر هذا الفصل أيضًا.
وأما الدين الموروث، فالجواب فيه في حق الوارث عندهما كالجواب في حق المورث على التفاصيل التي مرت؛ لأن الوارث خلفه الوارث قائم مقام المورث، فيكون حكمه حكم المورث.
وأما عند أبي حنيفة: إن وجب الدين في حق المورث بدلًا عما ليس بمال، فإنه لا يكون نصابًا في حق الوارث قبل القبض، وإن وجب الدين في حق المورث بدلًا عما هو مال. ذكر أبو سليمان في (نوادر الزكاة): أنه يعتبر حكم الوارث؛ لأن الوارث قائم مقام المورث، فتجب الزكاة فيه قبل القبض، ولا يخاطب بالأداء قبل القبض، وإذا قبض منه شيئًا إن وجب في حق المورث بدلًا عما هو مال التجارة، فإذا قبض أربعين درهمًا يؤدي زكاته، وإن وجب في حق المورث بدلًا عن مال ليس هو للتجارة، فإذا قبض منه مائتي درهم تؤدى زكاته.
وذكر هشام في (نوادره) عن أبي حنيفة: أنه لا يكون نصابًا قبل القبض؛ لأن الوارث ملك هذا الدين بغير عوض، ولو ملكت بعوض ليس هو مال لا تكون نصابًا قبل القبض عند أبي حنيفة كالمهر، فهذا أولى.
وذكر الحاكم الشهيد في (المنتقى): عن الحسن بن أبي مالك قال: سمعت أبا يوسف في سنة تسع وستين ومائة يحكي عن أبي حنيفة أنه قال في الميراث: لا يزكى لما مضى، وهي التي رواها هشام عنه قال: وإنه كان إلى عامنا في سنة سبع وستين ومائة أن أبا حنيفة قال في الميراث: إذا أخذ مائتي درهم زكاه لما مضى، ولم ينتظر بها إلى أن يحول الحول بعد القبض، وهكذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أيضًا.
وفي ظاهر الرواية لأبي حنيفة رحمه الله: الموروث قبل القبض يكون نصابًا تجب فيه الزكاة، ولكن لا يجب الأداء ما لم يقبض منه مائتي درهم، هو أوجب هذا الدين في حق المورث بدلًا عما هو مال التجارة، أو بدلًا عن مال ليس هو للتجارة، أما إذا وجب عن مال ليس هو للتجارة فظاهر، وأما إذا وجب عن مال هو للتجارة؛ لأن الوارث إنما يقوم مقام المورث في أصل الملك لا في التجارة؛ لأنها عمل قد انقضى من المورث، فلا يتصور قيام الوارث مقامه في ذلك، إنما يقوم الوارث مقامه في الملك، فصار كثمن عبد الخدمة، وثياب المهنة، وأما الدين الموصى به، فلا ذكر له عن أبي حنيفة في ظاهر الرواية.
وذكر أبو سليمان في (نوادر الزكاة) عن أبي حنيفة: أنه لا يكون نصابًا قبل القبض، فيحتاج على روايته إلى الفرق بين الموصى له وبين المورث.
والفرق: أن الموصى له لا يقوم مقام الميت في الموصى به، كأنه هو، وإنما يملكه ابتداء بالوصية، كما يملكه بالهبة وغيرها من أسباب الملك، فيصير فيه مال الموصى له بنفسه لا مال المورث، والموصى له ملك هذا الدين بغير عوض، ولو ملكه بعوض هو ليس بمال لا يكون له نصابًا قبل القبض، فهاهنا أولى، وأما الوارث يقوم مقام المورث في الموروث كأنه هو، ألا ترى أنه يرد بالعيب، ويرد عليه بالعيب، فجاز أن يعتبر حاله كحال المورث، وأما الآخرة ففي ظاهر رواية أبي حنيفة هي نصاب قبل القبض، ولكن لا يلزمه الأداء ما لم يقبض منها مائتي درهم، وروى بشر الوليد عنه: أنه لا يكون نصابًا قبل القبض.
وروى عنه في (الأمالي): أن العبد المستأجر إن كان للتجارة، فهو نصاب قبل القبض، ويجب الأداء إذا قبض أربعين درهمًا، وإن كان للخدمة لا يكون نصابًا قبل القبض، ويجب الأداء إذا قبض مائتي درهم.
وجه رواية بشر: أن الآخرة تجب بدلًا عن المنافع، فأشبه المهر، ثم المهور لا تكون نصابًا قبل القبض، فهذا كذلك.
وجه رواية (الأمالي): أن المنافع تبع للرقبة، فإذا كانت الرقبة للتجارة كانت المنافع للتجارة، فيكون بدلها بدل مال التجارة، وإذا لم تكن الرقبة للتجارة بل كانت للمهنة كانت المنافع للمهنة أيضًا، فيكون بدلها بدل مال المهنة، وجه ظاهر الرواية عنه: أن الآخرة ملكت عن مال لم يكن مال الزكاة تشبه من هذا الوجه ثمن عبد الخدمة.
بيانه: أن الآخرة بدل عن منافع البدن، ومنافع البدن مال حتى لا يجب الحيوان دينًا في الذمة بدلًا عنها، بخلاف منافع البضع لكن لا تصلح نصابًا في نفسها؛ لأنها لا تبقى بسبب يشبه من هذا الوجه ثمن عبد الخدمة، فأما المشترى قبل القبض، فقد قال مشايخ العراق: إنه لا يكون نصابًا قبل القبض عندهم جميعًا.
وفي (المنتقى): أنه لا يكون نصابًا قبل القبض من غير ذكر خلاف على ما يأتي في آخر هذا الفصل.
وقال غيرهم من المشايخ: هو على الخلاف الذي ذكرنا في الثمن، وقال بعضهم: هو نصاب قبل القبض بلا خلاف، قالوا: وإليه أشار في (الجامع الكبير) قال مشايخنا: والاختلاف الذي ذكرنا في ثمن عبد الخدمة، وعروض التجارة، فهو كذلك في زمان استهلاك العبد للخدمة؛ لأن ضمان الاستهلاك في حكم ضمان البيع، ولهذا أخذ به المأذون.
وفي (نوادر المعلى): أن ثمن عبد الخدمة نصاب قبل القبض، وقيمة عبد الخدمة المستهلك لا يكون نصابًا قبل القبض، هذا الذي ذكرنا، إذا كان من عليه الدين مليئًا مقرًا بالدين، وإذا كان من عليه الدين مفلسًا مقرًا بالدين، فإن كان القاضي قد فلسه بما عليه من الدين لا يكون نصابًا قبل القبض عند أبي يوسف، ومحمد، وعند أبي حنيفة يكون نصابًا، وهذه المسألة في الحاصل بناءً على مسألة أخرى، أن الحكم بالإفلاس عندهما صحيح؛ لأن الإفلاس عندهما يتحقق في حالة الحياة، فمتى فلسّه القاضي انسد طريق الوصول إليه على رب الدين، فصار في معنى الناوي، فلا ينعقد نصابًا.
وعند أبي حنيفة: الحكم بالإفلاس غير صحيح؛ لأن الإفلاس عنده لا يتحقق في حالة الحياة، فصار وجوده وعدمه بمنزلة، وإن كان القاضي لم يفلّسه، فعلى قول أبي حنيفة، وأبي يوسف: ما يكون عليه من الدين يكون نصابًا قبل القبض؛ لأن طريق الوصول إلى الدين، وهو الملازمة والمطالبة؛ لأن المال غادٍ ورائح، فإن هذا إذا كان من عليه الدين مقرًا بالدين، فإن كان جاحدًا، وليس لرب الدين عليه بينة، فهو في معنى الناوي، وسنبينه مع أجناسه في الفصل الذي يلي هذا الفصل إن شاء الله تعالى.
وفي (المنتقى): ابن سماعة عن محمد: رجل له على معسر ألف درهم دين اشترى بالألف من المصر دينارًا، ثم وهب له الدينار وجب عليه زكاة الألف؛ لأن.... لها بالدنانير، ومعنى هذا الكلام: أن الدين يعتبر سببًا، وإن كان على المعسر، إلا أن وجوب الأداء يتوقف على القبض، والقبض مرة قبض لا صورة ومعنى، ومرة قبض بداء قبضًا اعتباريًا ما من حيث إنهما مشتركان في المالية مع التقوم، فلهذا قال: تجب زكاة الألف.
وفيه أيضًا: رجل له مائتا درهم، فتزوج امرأة على حجة، ثم حال عليه الحول لم تجب عليه زكاة مال؛ لأن الحجة عليه دين بحكم السبب، وأراد به الإحجاج، وذلك بصرف مال يمكنها من أفعال هي حجة هذا بعضه معاوضة، فيكون لازمًا، فيكون دينًا مطالبًا من جهة العباد، فيمنع السببية، فيمنع في المائتين.
هشام قال: قلت لمحمد رحمه الله: رجل له مال على وال من الولاة وهو يقر به، إلا أنه لا يعطيه، ولا يورى عليه مال يطلبه بباب الخليفة، فإذا طلب لم يصل إليه في سنة، فلا زكاة عليه فيه، وإذا هرب المديون ومن المدين إلى مصر من الأمصار، فعليه الزكاة فيما يقبض منه؛ لأن عليه أن يطالبه، أو يوكل بذلك، وهو قادر على ذلك حتى لو لم يقدر على طلبه، أو على التوكيل، فلا زكاة.
بشر عن أبي يوسف: رجل له على رجل ألف درهم دين حال عليه الحول، ثم إن رب الدين وهب ذلك الدين من الذي عليه الدين ينوي زكاة الدين، أو زكاة مال عنده هو، والذي عليه محتاج، فإن أبا حنيفة قال: لا يجزئه ذلك من زكاة الدين، ولا من زكاة العين وعند أبي يوسف، وهذا الجواب خلاف ما ذكرنا في مسائل (الجامع)، إلا أن يكون مراده أن ينوي به زكاة دين آخر.
هشام عن محمد: رجل له ألف درهم التقط لقطة ألف درهم، وعرفها سنة، ثم تصدق بها، ففي القياس لا زكاة عليه في ألف؛ لأن صاحب اللقطة إن شاء ضمنها إياه، ولكن يستحسن بأن يزكها قال: وبه نأخذ.
قال في (المنتقى): وإذا اشترى الرجل غنمًا سائمة، وهو يريد أن تكون سائمة أيضًا، فحال عليه الحول، ثم قبضها، فلا زكاة على المشتري لما مضى، ويستقبل لها حولًا؛ لأنها كانت مضمونة في يد البائع، ذكر المسألة من غير خلاف، وهي مسألة المشتري قبل القبض، قال: وكذلك الغصب، وإن كان الغاصب مقرًا، إذا كان مانعًا بها، ثم رد ما بعد الحول، فلا زكاة على رب الغنم فيها لما مضى.
قال: وكذلك لو تزوج امرأة على مائة شاة، والمرأة تريد بها السائمة، فلم تقبضها حتى حال الحول، فلا زكاة على المرأة فيها لما مضى؛ لأنها مضمونة في يد الزوج ذكر المسألة من غير ذكر خلافه، ومن غير فصل بينما إذا كان الغنم بعينها، أو بغير عينها، وقد ذكرنا المسألة قبل هذا مع التفصيل، والخلاف، والدراهم إذا كانت في يدي رجل، وهو مقر بها، وفوضها من لها، فعلى صاحبها إذا قبضها الزكاة لما مضى. قال: وليست الدراهم مثل الغنم.
وفي كتاب (الاختلاف): رجل له ألف درهم، ثم مكث عنده شهرًا، ثم أتلف لرجل متاعًا قيمته ألف درهم، ثم أبرأه صاحب المتاع عن ضمانة، قال أبو يوسف: إذا تم الحول على الألف منذ ملكها زكاها...... إلا أنه لا يشترط الحول من وقت سقوط الدين، والله أعلم.

.الفصل الرابع عشر في المال الذي يتوى، ثم يقدر عليه:

إذا كان لرجل على غيره دين، وهو جاحد، فإن لم يكن لرب الدين بينة عادلة على الدين، فإنه لا يكون نصابًا عند علمائنا الثلاثة، وهذه المسألة في الفقه تسمى مال الضمار، ومال الضمار كل مال بقي أصله في ملكه، ولكن زال عن يده زوالًا يرجى عوده في الغالب، والأصل فيه أثر علي رضي الله عنه: لا زكاة في مال الضمار، وفسر الضمار بما ذكرنا.
والمعنى في ذلك أن المال إنما ينعقد نصابًا باعتبار معنى التجارة، ومنفعة التجارة تزول إذا صار المال ضمارًا بخلاف ابن السبيل؛ لأن منفعة التجارة لا تزول في حقه، وأما إذا كانت له بينة عادلة، ذكر في (الأصل) أنه ينعقد نصابًا، وسوّى بين الإقرار والبينة، وذكر في (الجامع الصغير) أنه لا ينعقد نصابًا.
والمذكور في (الجامع الصغير): رجل له على آخر دين جحدها سنين، ثم أقام البينة عليه لا يزكها لما مضى.
من مشايخنا من قال: ما ذكر في (الجامع الصغير)، تأويله: إذا لم يكن صاحب المال عالمًا بأن كان له بينة عادلة، لأنه نسيها، ثم ينكر، أو يكون تأويله: أنه لم يكن له بينة من الابتداء، ثم صار له بينة بأن أقر المديون بين يدي الشهود بعدما جحدها، فأما إذا كان له بينة عادلة من الابتداء، وهو عالم بها، فإنه ينعقد نصابًا، ولزمه زكاة ما مضى، كما ذكر في (الأصل)؛ لأنه تمكن من أخذه بواسطة إقامة البينة، فإذا لم يقمها، فهو الذي قصر في حق نفسه، فلا يعذر فيه، ومن مشايخنا من قال: لا ينعقد نصابًا على كل حال كما ذكر في (الجامع الصغير)، وذكر هشام في (نوادره) عن محمد رحمه الله ما يؤيد قول هؤلاء، فقال: لا زكاة عليه فيما مضى، وإن كانت له بينة عادلة، وهو يقدر على أن يقضيها؛ لأنه لا يتمكن من أخذها إلا بعد القضاء بالبينة، ولا قضاء بالبينة إلا بعد العدالة، ولا كل شاهد يعدل، ولا كل قاضي يعدل.
قال الكرخي في (كتابه): وإن كان القاضي يعلم بالدين، فعليه زكاة ما مضى؛ لأن القاضي يقضي بعلمه لا محالة كان التمكين من الأخذ ثابتًا، ولا كذلك البينة، والعبد الآبق الذي لا يعلم مكانه، والمغصوب، والغال، والمفقود، والذي غلب العدو عليه، ثم أصابه المسلمون، والمال المدفون في الصحراء إذا نسي المالك مكانه، فهذه الأموال لا تنعقد نصابًا عند علمائنا الثلاث لفوات معنى التجارة فيها، لتعذر الوصول إلى جميع ذلك فيما مضى لا يصنع من جهته، وإن كان المال مدفونًا في بيته وداره، ونسيه، فعليه زكاة ما مضى؛ لأن الوصول إليه غير متعذر؛ لأنه يمكن حفر جميع البيت والدار بخلاف ما إذا دفنه في الصحراء؛ لأن حفر جميع الصحراء غير ممكن.
وإن كان المال مدفونًا في أرضه لوكلائه، ففيه اختلاف المشايخ، هكذا ذكر بعض المشايخ في شرح (الجامع الصغير).
وذكر في (الأصل): إذا دفن ماله في أرضه ونسيه، فلا زكاة قال القاضي الإمام علاء الدين محمود: من مشايخنا من قال: أراد محمد بالأرض المذكورة في (الأصل) المغارة لا الأرض المملوكة له؛ لأنه لا يمكنه حفر جميع المغارة، فيتعذر الوصول، أما حفر جميع الأرض المملوكة، فلا يتعذر الوصول إليه، فيصير بمنزلة الدار، ومن المشايخ من قال: لا زكاة في المدفون في الأرض، وإن كانت الأرض مملوكة؛ لأن حفر جميعه إن كان لا يتعذر لا شك بأنه يتعسر، ويحرج الإنسان فيه، والحرج مدفوع شرعًا بخلاف البيت والدار حتى لو كانت الدار عظيمة، فالمدفون فيها يصير ضمارًا، ولا ينعقد نصابًا.
وفي (القدوري): إذا كان الغريم يقر في السر، ويحجد في العلانية، فلا زكاة فيه؛ لأنه لا يقتنع بهذا الإقرار أصلًا، فصار وجوده وعدمه بمنزلة.
وفي (المنتقى) عن محمد رحمه الله: رجل أودع رجلًا لا يعرفه مالًا، ثم أصابه به بعد سنين، فلا زكاة عليه لما مضى، وهو والمدفون في المغارة لا يعرف موضعه سواء، وإن كان يعرفه، فنسيه، ثم ذكر زكى لما مضى، وهو والمدفون في بيته إذا نسيه سواء.

.الفصل الخامس عشر في المسائل التي تتعلق بالعاشر:

يجب أن يعلم بأن العاشر من نصبه الإمام على الطريق؛ لأخذ الصدقات من التجار والنائبين التجار بمتاعه في الطريق من شر اللصوص، وقد صح أن رسول الله عليه السلام «نصب عشارًا»، وكذلك الخلفاء بعده، وكما يأخذ العاشر صدقات الأموال الظاهرة يأخذ صدقات الأموال الباطنة التي تكون مع التاجر؛ لأن حق الأخذ له في الأموال الظاهرة إنما ثبت؛ لأنها في حمايته؛ لأن المال في الفيافي محفوظ بحماية الإمام، فأثبت الشرع له حق الأخذ بسبب الحماية ليستوجبها كفاية، فيصير حاملًا له على الحماية، وهذا المعنى موجودة في الأموال الباطنة التي أخرجها التاجر مع نفسه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يأخذ الصدقات من الأموال الظاهرة والباطنة، وكذلك أبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
وعثمان رضي الله عنه فوض صدقات الأموال الباطنة إلى أربابها في الأمصار لا يمكن واردًا الظاهرة في الفيافي على ما لا يعمل، والنص الوارد من عثمان في الأمصار لا يكون واردًا في الفيافي؛ لأن في الأمصار الأموال محمية بحماية السلطان من وجه، وبحماية المسلمين من وجه، وفي المغاور الأموال تكون محمية بحماية الإمام من كل وجه، فإسقاط حق الأخذ للساعي في الأمصار، وحماية الإمام فيها أقل لا يدل على إسقاط حق الأخذ له في المغارة، وحماية الإمام فيه أكثر.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): إذا مر على العاشر بعض ماله، وقال: ليس لي مال غير هذا، أو قال: لي مال آخر في بلدي إلى تمام النصاب، فالعاشر (لا يأخذ) منه شيئًا؛ لأن حق الأخذ للعاشر بسبب الحماية، وجميع النصاب ليس في حمايته، وما دونه الذي في حمايته ليس بسبب لوجوب الزكاة، وبدون الحول لا تجب الزكاة، وكذلك مع قيام الدين، والقول قول المنكر، وقوله أصبته منذ شهر محمول على ما إذا لم يكن في يده مال آخر من جنس هذا المال قد حال عليه الحول؛ لأن حَوَلان الحول على المستفاد ليس بشرط لوجوب الزكاة في المستفاد إذا كان المستفاد من جنس النصاب، إلا إذا كان المستفاد من ثمن الإبل الزكاة عند أبي حنيفة.
وقوله في (الكتاب): على دين أراد به دينًا له مطالب من جهة العباد، فهو المانع من وجوب الزكاة عندنا، قال: وكذلك إذا قال: أنا أديت زكاته إلى الفقراء، وحلف على ذلك صدق، والمراد من المسألة: أن يدعي الأداء بنفسه من الأموال الباطنة قبل أن يخرجها إلى السفر؛ لأن أداء الزكاة من الأموال الباطنة ما دام صاحبها في المصر، مفوض إلى صاحبها، فإذا ادعى الأداء بنفسه قبل الإخراج، فقد ادعى ماله ذلك، فكان منكرًا ثبوت حق الأخذ للساعي من هذا الوجه، فأما إذا ادعى الأداء من الأموال الباطنة بعد الإخراج إلى السفر، فإنه لا يصدق ويكون ضامنًا عند علمائنا رحمهم الله؛ لأن صدقات الأموال الظاهرة وصدقات الأموال الباطنة بعد الإخراج إلى السفر يأخذها العاشر، فلو قبلنا قول الناس.... بصنعاء، وكل أحد لا يعجز عن مثل هذه المقالة أي إلى أن لا يوجد صدقة أبدًا، إلى هذا المعنى أشار محمد رحمه الله في (الأصل): ولأنه بالأداء بنفسه أبطل حق الأخذ على الساعي، فيصير ضامنًا، وإن قال: دفعتها إلى مصدق آخر، فإن لم يكن في تلك السنة مصدق آخر، وحلف على ذلك قبل قوله.
وفي (الأصل) يقول: إذا جاء بخط الساعي قبل قوله، وكف عنه، شرط في (الأصل) بمجيء الخط للتصديق، وفي (الجامع الصغير) لم يشترط المجيء بالخط، وفرق على رواته (الجامع الصغير) بين الزكاة، وبين الخراج، فإن من عليه الخراج إذا ادعى الأداء إلى عامل آخر في تلك السنة لا يقبل قوله؛ ما لم يأت بخط العامل؛ لأن بدل الخط في الخراج علامة لا ينفك عنها أداء الخراج، وبكذلك يدل الخط في الزكاة، ولو جاء بالخط، ولم يحلف لم يصدق في قياس قول أبي حنيفة، وفي قياس قولهما يصدق بناءً على جواز الشهادة بالخط إذا لم يذكر الحادثة.
وكل جواب عرفته في حق المسلم، فهو الجواب في حق الذمي في هذه الفصول، إذا مر على العاشر ببعض النصاب إذا ادعى أن عليه دينًا، أو لم يحل الحول على ماله، أو ادعى الدفع إلى عاشر آخر، وإنما يفارق الذمي المسلم في مقدار المأخوذ، فإن المأخوذ من المسلم ربع العشر، ومن الذمي نصف العشر عرف ذلك بأثر عمر رضي الله عنه، فإنه كتب إلى عشاره أن خذوا من المسلم ربع العشر ومن الذمي نصف العشر، وأما الحربي إذا مر على العاشر ببعض النصاب، وقال: لي مال في بلدي إلى تمام النصاب، أو قال: ليس لي مال آخر، فذكر في (الجامع الصغير) أنه لا يأخذ منه شيئًا، وذكر في (الأصل) أنه يأخذ منه العشر، قال مشايخنا: يجب أن يكون الجواب فيه على التفصيل.
إن كانوا يأخذون منا من قليل، فنحن نأخذ منهم من قليل الأموال، وهو تأويل ما ذكر في (الأصل)، وإن كانوا لا يأخذون منا من قليل المال، فنحن لا نأخذ منهم من قليل الأموال، وهو تأويل ما ذكر في (الجامع الصغير).
وهذا لأن الأخذ منهم على طريق المجازاة، ألا ترى إلى ما روي أن عشار عمر رضي الله عنه «قالوا: لعمر كم نأخذ مما يمر بنا الحربي؟ فقال عمر: كم يأخذون منا؟ قالوا: العشر، فقال عمر فخذوا: منهم العشر، وفي رواية قال: خذوا منهم مثل ما يأخذون منا، قالوا: فإن لم يعلم كم يأخذون منا؟ قال: خذوا منهم العشر».
ثم ليس معنى قولنا: إن الأخذ منهم على طريق المجازاة، إن أخذنا بمقابلة أخذتم، وكي يكون ذلك، وإن أخذتم أموالنا ظلم وأخذنا أموالهم حق، وإنما معناه، إذا عاملناهم بمثل ما يعاملوننا به كان ذلك أقرب إلى مقصود الأمان، واتصال التجارات، وإن كان لا يعلم أنهم هل يأخذون منا من قليل المال أو لا يأخذون؟ فنحن لا نأخذ منهم من قليل المال، إما لأن الظاهر أنهم لا يأخذون من قليل المال؛ لأنه يؤدي إلى إخراج المالك، وإنه جور، والظاهر من ملوكهم العدل، أو لأن حق الأخذ للعاشر بطريق الحماية، والمال القليل غير محتاج إلى الحماية؛ لأن السراق لا يقصدون أخذه، وإن قال الحربي: أصبته منذ شهر، أو قال: عليّ دين، فإن كان يعلم أنهم يصدقوننا في هذه الأعذار، فنحن نصدقهم أيضًا، وإن كان يعلم أنهم لا يصدقوننا في هذه الأعذار، فنحن لا نصدقهم أيضًا، وإن كان لا يعلم حقيقة الحال لا يصدقهم، ويأخذ منهم العشر بخلاف الذمي، فإن الذمي يصدق في دعوى هذه العوارض، واختلفت عبارة المشايخ في الفرق.
فعبارة بعضهم أن المأخوذ من الذمي له حكم الزكاة في حق المأخوذ منه؛ لأن تضعيف الزكاة في حق أصل الذمة مشروع كما في صدقة بني تغلب، فلا يتعداه حكم الزكاة فيما وراء التضعيف، وإذا كان للمأخوذ حكم الزكاة في حق الذمي راعى فيه أحكام الزكاة، بل له حكم أصلًا؛ لأن الزكاة في حق أهل الحرب غير متصور، فلا يتعلق بالمأخوذ حكم الزكاة عوض الحماية، وكل ما في يده محتاج إلى الحماية سواء كان عليه دين، أو لم يكن، وسواء حال عليه الحول، أو لم يحل، فيأخذ منهم العشر، ولا يصدقون في ذلك، إذ لا فائدة في التصديق، وعبارة بعضهم: أن ما يأخذ أهل الحرب يأخذ بطريق المجازاة، أو فيما كان طريقه طريق الخبر، فالظاهر أنهم لا يصدقوننا؛ لأنه ظهر فيهم تكذيبنا في الخبر عن أصل الدين، فالظاهر تكذيبهم إيانا في الخبر عن الفروع، فلا نصدقهم.
فيه أيضًا: قال: ولو مر الحربي على العاشر بنصاب كامل أخذ منه العشر، لما روينا من حديث عمر رضي الله، عنه إلا إذا علم أنهم يأخذون منا أقل من ذلك أو أكثر، فيأخذ منهم مثل ذلك، هكذا ذكر في (الجامع الصغير)، وهو إشارة إلى طريق المجازاة، وإن علم أنهم لا يأخذون من تجارنا شيئًا، فنحن لا نأخذ منهم شيئًا أيضًا.
واختلف المشايخ فيما إذا علم أنهم يأخذون منا جميع المال قال بعضهم: نأخذ منهم جميع المال بطريق المجازاة زجرًا لهم عن صنيعهم، وقال بعضهم: لا نأخذ منهم جميع المال، بل نترك في أيديهم قدر ما يبلغهم مأمنهم؛ لأنا لو أخذنا الكل نحتاج إلى من يعطيهم هذا القدر؛ لأن تبليغهم مأمنهم علينا قال الله تعالى: {ثم أبلغه مأمنه} [التوبة: 6]، فلا نأخذ ذلك من الابتداء لعدم الفائدة، وإذا مر الحربي على العاشر وعشره، ثم مر عليه في تلك السنة ثانيًا، فإن كان لم يعد إلى دار الحرب، وإنما هو يتردد في دار الإسلام لا نأخذ منه في هذه السنة ثانيًا؛ لأن أخذ العاشر عوض الحماية، والحماية لم تتجدد في هذا المال.
قال شيخ الإسلام في (شرحه): هنا إذا علم أنهم لا يأخذون من تجارنا في السنة إلا مرة واحدة ما داموا يترددون في دارهم، أو لم يعلم، أما إذا علم أنهم يأخذون ذلك مرارًا، فنحن نأخذ كذلك أيضًا، وإن كان الحربي قد عاد إلى دار الحرب ثم خرج ثانيًا في تلك السنة ومر على العاشر أخذ منه العشر ثانيًا؛ لأن بدخوله دار الحرب التحق بحربي لم يدخل دارنا قط الأحرى إنه يحتاج إلى استئمان جديد، وإذا كان هكذا يحتاج إلى حماية مبتدأة في هذا المال، ونزل هذا المال باعتبار تجدد وصف الحماية منزلة مال آخر، في عشره ثانيًا.
قال شيخ الإسلام: وهذا إذا علم أنهم يأخذون من تجارنا كلما دخلوا عليهم مرة بعد أخرى في سنة واحدة، أما إذا علم أنهم لا يأخذون، كذلك فنحن لا نأخذ منهم أيضًا.
وإذا عاد الحربي إلى دار الحرب، ولم يعلم به العاشر، ثم علم في الحول الثاني لم يأخذه لما مضى؛ لأن ما مضى قد سقط لانقطاع الولاية، فأما المسلم والذمي، إذا مر على العاشر، ولم يعلم به، ثم علم في الحول الثاني أخذه بما مضى؛ لأن الوجوب قد ثبت، والمسقط لم يوجد.
وإذ مر التاجر على العاشر، ولم يعلم به، ثم علم في الحول الثاني أخذه بما مضى؛ لأن الوجوب قد ثبت، والمسقط لم يوجد إلى متاع وأمراء قومي أو.......، والعاشر يظن غير ذلك، ويريد فتحه؛ فإن كان في فتحه ضرر على المالك يفتحه، وينظر فيه، ولا يلتفت إلى قول المالك؛ لأن في الوجه لا يمكن معرفة ما وقع فيه الدعوى من حيث المعاينة بالفتح لمكان ضرر المالك، فتصير فيه الدعوى والإنكار، فالعاشر يدعي لنفسه زيادة حق، والمالك ينكر، وفي الوجه الثاني؛ أمكن معرفة ما وقع فيه الدعوى بالمعاينة بواسطة الفتح، فلا ضرورة إلى اعتبار قوله.
وإذا مر على العاشر بمائتي درهم بضاعة، فالعاشر لا يأخذ منه شيئًا؛ لأن العشر إنما يؤخذ من المالك، أو ممن هو نائب عنه في أدائه، والمستصنع ليس بمالك، وليس بنائب عن المالك في أداء العشر، فلا يأخذ من المالك منه، وإن سِيْرَ عليه بمائتي درهم مضاربة، فلأبي حنيفة رحمه الله فيه قول أول وآخر، في قوله الأول يأخذ منه، وفي قوله الآخر؛ لا يأخذ، وهو قول أبي يوسف، ومحمد؛ لأنه ليس بمالك، ولا بنائب عن المالك في حق أداء الزكاة؛ لأن المالك أمره بالتجارة، أما ما أمره بأداء الزكاة.
وإذا مر العبد على العاشر بمال فهو على وجهين: إن كان في يده مال المولى، فإن العاشر لا يأخذ منه شيئًا مأذونًا كان العبد أو محجورًا، وإن كان في يده كسبه، فإن كان محجورًا، فكذلك الجواب، وإن كان مأذونًا فلأبي حنيفة فيه قول أول، وقول آخر، في قوله الأول: لا يأخذ منه شيئًا، وهو المذكور في (الجامع الصغير)، وفي قوله الآخر يأخذ، وهو قول أبي يوسف، ومحمد، وجهه ما ذكرنا في المضارب.
إذا مر التاجر على عاشر أهل الخوارج، وأخذ منه العشر، ثم مر على عاشر أهل العدل أخذ منه العشر ثانيًا، فرق بين هذا وبين ما إذا غلب الخوارج على بلدة من بلاد أهل العدل وأخذوا زكاة سوائمه، ثم ظهر عليهم أهل العدل، فإنه لا يأخذ منهم الزكاة ثانيًا.
والفرق: إن قدر الزكاة حق الفقراء أمانة في يد صاحب المال، فإذا مر على الخوارج بذلك، فقد عرض الأمانة على التلف، والأمين يضمن بمثل ذلك كالمودع، بخلاف ما إذا غلب الخوارج على أهل العدل؛ لأن هناك لم يوجد في أرباب المواشي تعريض للأمانة على التلف والأمين يضمن بمثل ذلك كالمودع، إنما أخذ الأمانة منهم كرهًا، والأمين لا يضمن بمثل ذلك كالمودع إذا أخذ منه الوديعة على كره منه.
إذا مر على العاشر بما لا يبقى نحو البطيخ والقثاء والرمان، وقد اشتراه للتجارة، فالعاشر لا يأخذ منه شيئًا عند أبي حنيفة رحمه الله خلافًا لها، فهما يقولان: حق الأخذ للعاشر بسبب الحماية، وهذا المال كان في حماية هذا العاشر، ولأبي حنيفة: أن حق الأخذ للعاشر، وإن كان بسبب الحماية، ولكن أنظر الفقراء، ولا ينظر للفقراء في الأخذ هاهنا.
بيانه: أن الغالب فيه يكون العاشر نائبًا عن البلدة، فلا يجد ثمنه فقيرًا يؤدي المأخوذ إليه، فيحتاج إلى النقل إلى البلد ليصرفه إلى الفقراء، فيتنازع إليه الفساد.
فإن قيل: ينبغي أن يأخذ القيمة إذا أخذ الغير كما في الذي إذا مر على العاشر بخمر، أو يأخذ عينه بحساب عمالته.
قلنا: الكلام فيما إذا قال المالك فهنا: لا أؤدي القيمة، وبدون اختيار المالك لا يكون للساعي ولاية أخذ القيمة إذا كان الغير محلًا للأخذ، فلو قال المالك: أنا أؤدي القيمة كان للساعي أن يأخذ عند أبي حنيفة.
وأما الأخذ بحساب العملة، قلنا: الكلام فيما إذا لم يرد الساعي أخذه بعمالة لنفسه، ولو أراد ذلك كان له حق الأخذ عند أبي حنيفة، وإذا مر الذمي على العاشر بخمر أو خنزير للتجارة عشر الخمر دون الخنزير عند علمائنا الثلاثة رحمهم الله، ومعنى قولهم: عشر الخمر أنه ينظر إلى قيمة الخمر، ويأخذ نصف عشر قيمتها، وطريق معرفة قيمة الخمر الرجوع إلى أهل الذمة، هكذا روي عن محمد رحمه الله.
والوجه فيه: أن العشر عوض الحماية، وحماية خمورهم دخلت تحت ولاية الإمام أما حماية خنازيرهم لم تدخل تحت حماية الإمام، وهذا لأن أصل ولاية الإنسان على نفسه، ثم تتعدى إلى غيره عند وجود سبب التعدي، والمسألة ولاية حماية خمور نفسه حتى إذا أسلم ذمي، وله خمور كان له أن يحفظها لتخليلها، أو يتخلل بنفسه، فتكون ولاية خمور غيره عند وجود سبب التعدي بالسلطنة، وليس للمسلم ولاية حماية خنازير نفسه، حتى إن الذمي إذا أسلم، وله خنازير، يجب عليه أن يسيبها، ولا يحل له أن يحفظها، فلا تكون له ولاية حفظ خنازير غيره عند وجود سبب التعدي، وإنما افترق الخمر والخنزير في حق ولاية الحماية في حق المسلم؛ لأن الخمر مال في الحال عندنا إن لم يكن متقومًا، ويصير متقومًا في الثاني.
والخنزير ليس بمال، ولا يصير متقومًا في الثاني، ولم يذكر محمد رحمه الله حكم جلود الميتة إذا مر بها الذمي على العاشر قالوا: وينبغي أن يكون للعاشر أن يعشرها؛ لأن جلد الميتة نظير الخمر، فإن للمسلم ولاية حفظ جلد الميتة على نفسه بالدباغة، فيدخل جلد غيره تحت حمايته عند وجود التعدي كما في الخمر، والله أعلم.

.الفصل السادس عشر في إيجاب الصدقة، وما يتصل به من الهدي وأشباهه:

قال محمد رحمه الله في (الجامع): إذا نذر أن يتصدق بشاتين وسطين، فتصدق بشاة سمينة تعدل شاتين وسطين تجزئه عن الشاتين.
ولو قال: لله عليّ أن أهدي شاتين وسطين، فأهدى بشاة سمينة تساوي شاتين وسطين لم تجزه إلا عن شاة واحدة، هكذا ذكر في (الجامع) قالوا: هذا إذا أراد به الذبح أو لم يكن له نية؛ لأنه إذا أراد الذبح، أو لم يكن له نية كان النذر بالإراقة، والجواب في النذر بالإراقة ما ذكر، فأما إذا أراد الصدقة، فتصدق بشاة سمينة تعدل شاتين وسطين، ينبغي أن تجزئه عن الشاتين بدليل المسألة الأولى.
والجواب في النذر بالإعتاق نظير الجواب في النذر بالإراقة، حتى لو نذر أن يعتق عبدين وسطين، فأعتق عبدًا مرتفعًا يساوي عبدين وسطين لا يجزئه إلا عن عبد واحد، والفرق أنا لو جوزنا الواحد عن الاثنين، إنما يجوز باعتبار القيمة، غير أن الواجب في معنى الهدي إراقة الدم، وتمليك اللحم، والتمليك إن كان متقومًا، فإراقة الدم ليست بمتقومة، فباعتبار التمليك قد أمكن التجويز من حيث القيمة، وباعتبار الإراقة لا يمكن، فلا يثبت الإمكان بالشك حتى لو ذبح شاتين، وجاء بلحم شاة، فظنه يبلغ شاتين، وتصدق به يجوز؛ لأن الواجب بعد الإراقة تمليك اللحم، والتمليك متقوم، فيمكن تجويزه من حيث القيمة.
وكذلك الواجب في باب الإعتاق ليس بمتقوم؛ لأن الواجب في باب الإعتاق إزالة الملك، وإزالة الملك ليست بمتقوم، فلا يمكن تجويزه من حيث القيمة، أما الواجب في باب الصدقة متقوم؛ لأن الواجب في باب الصدقة التمليك، والتمليك متقوم فيمكن تجويزه بالقيمة، فعلى هذا إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بعبدين وسطين، فتصدق بعبد مرتفع تبلغ قيمته قيمة وسطين يجوز.
في (المنتقى): عيسى بن أبان عن محمد إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدرهم، فضاع الدرهم، فقال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدينار مكان الدرهم الذي ضاع وجب عليه أن يتصدق بالدينار، فإن وجد الدرهم، وتصدق به يبطل عنه الدينار، إذا وجب الدينار مكان الدرهم الذي ضاع.
علل في (الكتاب): فقال: لأن الدرهم حيث ضاع، فقد بطل عنه ما أوجب على نفسه فيه، وإن وجده تصدق به، ولو لم يكن عليه أن يتصدق بفضل الدينار عليه قال: ولا يشبه هذا الأضحية، فإن الأضحية، إذا ضاعت كان عليه مكانها، إذا كان موسرًا.
وفيه: المعلى عن أبي يوسف: إذا قال: إن أصبت مائة درهم فعهد عليّ أن أؤدي زكاتها خمسة دراهم فأصاب مائة فلا شيء عليه؛ لأنه التزام غير المشروع.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله إذا قال: إن رزقني الله تعالى مائة درهم فللَّه عليّ زكاتها عشرة، وملك مائتين لا تلزمه إلا الخمسة زكاة؛ لأنه التزام غير المشروع.
وفي (فتاوى أبي الليث) رحمه الله إذا قال: لله عليّ أن أتصدق على فقراء مكة بكذا، أو قال: مالي صدقة على فقراء مكة، فتصدق على فقراء بلخ جاز؛ لأن المطلوب من الصدقة ابتغاء مرضات الله تعالى، والفقير جهة يتوسل به إلى ابتغاء مرضات الله تعالى، وجميع الفقراء في حق هذا المعنى جنس واحد، وهو نظير من جعل على نفسه الصوم، أو الصلاة بمكة، فصلى وصام هاهنا يجوز، وطريقه ما قلنا.
وفي (المنتقى): إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذا الدرهم على هذا المسكين، لا يلزمه شيء رواه الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف، إذ ليس لله تعالى من جنسه في العين إيجاب، وإن كان المسكين يعتبر عينه يلزمه ذلك، وهذا الجواب بخلاف جواب الروايات المشهورة.
وفيه أيضًا: برواية المعلى عن أبي يوسف: إذ قال: لله عليّ أن أتصدق من هذه العشرين بعشرة دراهم، فتصدق بعشرة منها، ولا نية له لم يجزه فيما حصل على نفسه، ولو تصدق بالعشرين كلها، ولا نية له أجزأه.
وفي (القدوري): إذا قال: لله عليّ أن أتصدق بهذه الدراهم يوم يقدم فلان، ثم قال: إن كلمت فلانًا، فعلي أن أتصدق بهذه الدراهم، وكلم فلانًا، وقدم فلان أجزأه أن يتصدق بتلك الدارهم، ولا يلزمه غير ذلك؛ لأن الواجب تعلق بمحل بعينه، وذلك مما لا يزداد، وهذا كالعين إذا جعل شرطًا في يمينين ووجد الشرطان لم يجب شيء آخر كذا هاهنا.
وفيه أيضًا: إذا قال: إن كلمت فلانًا، فعليّ أن أتصدق بهذه الدراهم، وكلم فلانًا حتى وجب التصدق بها، فأعطاها من زكاة ماله، أو كفارة يمينه، فعليه أخرى مكانها؛ لأنه بالصرف إلى جهة أخرى صار كالمستهلك لها، فيضمن كما لو أنفقها بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك النذر أن يعلقها بمحل واحد، فوقع عنهما أما هاهنا بخلافه.
قال في (الجامع): إذا قال الرجل: إن كان ما في يدي دراهم إلا ثلاثة دراهم، فجميع ما في يدي صدقة، فإذا هي خمسة دراهم، أو أربعة دراهم لا يلزمه التصدق بشيء. وفي (الجامع) أيضًا: إذا قالت: لله عليّ إطعام المساكين، أو إطعام مساكين، فإن أبا حنيفة قال: هذا على غيره في الوجهين جميعًا، وهذا استحسان.
ووجهه: أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، ولعل الطعام المقدر بالمساكين في إيجاب الله تعالى طعام عشرة مساكين كما في كفارة اليمين، فإن أبهم عدد المساكين أخذ المقدار منه.
فإن قيل: كيف لم يأخذ أبو حنيفة رحمه الله المقدار عند الإبهام من كفارة الحلف في الأذى وإنه أقل؛ لأنه مقدر بثلاثة أصوع على ستة مساكين؟.
قلنا: لأن الواجب في كفارة الحلف واجب باسم الصدقة لا باسم الإطعام؛ لأن الله تعالى قال: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196] وهذا الشخص إنما أوجب على نفسه باسم الإطعام لا باسم الصدقة حتى لو قال: لله عليّ صدقة المساكين يؤخذ قدره من كفارة الحلف.
وفي (نية النوازل): رجل في يده دراهم فقال: لله عليّ أن أتصدق بهذه الدراهم، فلم يتصدق حتى هلكت، فلا شيء عليه؛ لأن الدراهم تتعين في باب النذور، ولو لم تهلك وتصدق بدراهم سواها، فهو جائز، وهي مسألة دفع القيم.
وفي (وقف النوازل): رجل له شيء فقال: إن وجدته فللَّه على أن أقف أرضي هذه على ابن السبيل، فوجده يجب عليه الإيقاف، فإن وقف على الأجانب، أو على الأقارب الذين يجوز له إعطاء الزكاة إياهم جاز، وخرج عن عهدة النذر، وإن وقف على الأقارب الذين لا يجوز له إعطاء الزكاة جاز الوقف، ولكن لا يخرج عن عهدة النذر، أما جواز الوقف، فظاهر، وأما بقاء النذر؛ فلأن صرف الصدقة الواجبة إلى هذه القرابة لما لم يجز لم يصر مؤديًا المنذور، فيبقى عليه كما كان.
وفي (الجامع): إذا قال: أول كُرَ حنطة أملكه صدقة في المساكين، فملك كر ونصف كر لا يلزمه التصدق بشيء، وإن قال: أول عبد أملكه فهو حر، فاشترى عبدًا ونصف عبد عتق العبد الكامل.
والفرق: أن الكُرَّ اسم لأربعين قفيزًا، فصار تقدير يمينه أول أربعين قفيز حنطة أملكها، فهو صدقة، ولو صح بذلك، وملك ستين قفيزًا لا يلزمه التصدق؛ لأن الكر اسم لأربعين قفيزًا، ووفيناه ثلاث عشرينات أي العشرين ضمناه إلى عشرين آخر، فنطلق عليه اسم الكر، وبسبب اسم الكر عن الآخر فاق المزاحمة، ومن شرط إطلاق اسم إلا وليست بينهما المزاحمة، فإذا لم تنتف المزاحمة لم يتحقق الشرط، فلا يلزمه التصدق بخلاف مسألة العبد، فأما إذا ضممنا النصف من العبد الكامل إلى نصف العبد لا يسمى عبدًا، بل يسمى نصف العبدين ولا ينتفي اسم العبد عن الكامل، فلم يكن نصف العبد من أيهما للعبد، فيتحقق شرط وجوب التصدق.
وزان مسألة الكر عن مسألة العبد ما إذا قال: أول أربعين عبدًا أملكهم، فاشترى ستين، والحكم في سائر ما يكال ويوزن كالحكم في الكر، والحكم في الثياب والعروض كالحكم في العبد إذا قال: إن فعلت كذا مالي صدقة في المساكين، أو قال: وكل مالي، ففعل ذلك الفعل، فالقياس أن يلزمه التصدق بجميع ماله مال الزكاة وغيره في ذلك على السواء؛ لأنه أضاف الصدقة إلى ماله مطلقًا في الصورة الأولى، وإلى جميع ماله في الصورة الثانية، فيدخل تحته جميع أمواله كما في الوصية يدل عليه أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [النساء: 29] تناول جميع الأموال، وقوله عليه السلام: «من ترك مالًا» تناول جميع الأموال.
ووجه الاستحسان: أن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، ثم ما أوجب الله تعالى من الصدقة مضافًا إلى مال مطلق بقوله: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] تناول مال الزكاة خاصة، فكذا ما وجب بإيجاب العبد بخلاف الوصية؛ لأنا لم نجد في الوصية إيجابات الشرع تفيد مال الزكاة حتى يصرف إيجابه إليه، فانصرف إيجابه إلى الأموال كلها.
قال القدوري في (كتابه): ولا فرق بين مقدار النصاب وما دونه؛ لأنه وإن قل، فهو مال الزكاة، فإن السبب ما يقل المال لا قدر منه، ولو كان عليه دين محيط بماله يلزمه التصدق بما في يديه، فإذا قضى الدين به يلزمه التصدق بمثله، وهذا لأن ما في يده مال الزكاة إلا أنه امتنع الوجوب فيه لمانع، وهو الدين، فيدخل تحت النذر، ولزمه التصدق به، فإذا قضى دينه به، فقد استهلك مالًا وجب التصدق به، فيكون مضمونًا بمثله.
ولو نوى بهذا النذر جميع ما يملك حتى بيته؛ لأنه شدد على نفسه بنيته، والاسم صالح لتناول الكل، فيلزمه التصدق بالكل، ولو كان له ثمرة عشرية تصدق بها؛ لأنه مال تعلق به العشر، والعشر في معنى الصدقة وكان مال الصدقة.
وقال أبو حنيفة: الأرض العشرية لا تدخل تحت هذا النذر، خلافًا لأبي يوسف؛ لأن الأرض العشرية ليست مال الصدقة دون العشر، إنما يجب في الخارج لا في الأرض؛ فكانت الأرض خالية عن الصدقة، فلم تكن مال الصدقة، ولا خلاف أن أرض الخراج لا تدخل في هذا النذر، وقول محمد في أرض العشر نظير قول أبي حنيفة ذكره في (المنتقى).
وفي (المنتقى) محمد: أن أرض التجارة لا تدخل في هذا النذر، وقول محمد في أرض العشر نظير قول أبي حنيفة هذا الذي ذكرنا ما إذا حصل النذر باسم المال، فأما إذا حصل النذر باسم المال بأن قال: إن فعلت كذا، فجميع ما أملكه صدقة في المساكين ذكر في كتاب الهبة أنه يتصدق بجميع ما يملكه ويمسك قوته، فمن المشايخ من قال: هذا جواب القياس.
وفي الاستحسان: ينصرف إلى مال الزكاة، وإليه ذهب الفقيه أبو بكر البلخي، والشيخ الإمام الأجل شمس الدين السرخسي، ومنهم من قال: لا هذا جواب القياس والاستحسان، وإليه ذهب الفقيه محمد بن إبراهيم الميداني، فعلى قول هذا القائل يحتاج إلى الفرق بين ذكر المال وبين ذكر الملك على جواب الاستحسان.
والفرق: أن اسم المال مطلقًا إنما يفيد مال الزكاة في هذا الباب اعتبارًا لإيجاب العبد بإيجاب الله تعالى، وهذا المعنى معدوم عند ذكر الملك؛ لأنا لم نجد في إيجاب المشرع إضافة الصدقة إلى المالك المطلق، وأراد مال مقيد، فيعمل فيه بعضه اللفظ، واللفظ عام أو مطلق.
ثم قال في كتاب الهبة: ويمسك من ذلك قوته؛ لأن حاجته في هذا القدر معدم، وهذا لأنه لو لم يمسك مقدار قوته يحتاج إلى أن يسأل الناس من ساعته، ولا يحسن أن يتصدق الرجل بماله، ويسأل الناس من ساعته، ولم يبين مقدار ما يمسك.
قال مشايخنا: إن كان محترفًا يمسك قوت يوم، وإن كان صاحب حوانيت غلة يمسك قوت شهر، وإن كان دهاقًا يمسك قوت سنة؛ لأن قوت الدهاقين يحدد في كل سنة، وقوت أهل الحرف في كل يوم، فإذا وصل يده إلى شيء من المال بعد ذلك تصدق بمقدار ما أمسك؛ لأنه مستهلك قدر ما أمسك من المال الذي لزمه التصدق منه، فيصير ضامنًا مثله كما لو استهلك مال الزكاة، فإذا جعل الرجل على نفسه حجة أو عمرة، أو ما أشبه ذلك ما هو طاعة الله عزّ وجلّ، وكان النذر مرسلًا لزمه الوفاء بما سمى، ولا يلزمه الكفارة بلا خلاف، فإن كان النذر معلقًا بالشرط إن كان شرطًا يريد وجود لجلب منفعة، أو لدفع مضرة بأن قال: إن شفى الله مريضي، أو رد لي غائبي، أو مات عدوي، فعليّ صوم سنة، فوجد الشرط لزمه الوفاء بما سمى، ولا يخرج عن العهد والكفارة بلا خلاف أيضًا، وإن كان النذر معلقًا بشرط لا يريد كونه، فعليه الوفاء بما سمى في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروي عن أبي حنيفة أنه رجع عن هذا القول، وقال: هو بالخيار، إن شاء خرج عنه بين ما سمى، وإن شاء خرج عنه بالكفارة، وهكذا روي عن محمد، ومشايخ بلخ كانوا يفتون بهذا، وهو اختيار الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد، والشيخ الإمام شمس الدين السرخسي، والصدر الشهيد برهان الأئمة رحمهم الله، وبه قال عمر، وعائشة رضي الله عنهما.
وجه قول أبي حنيفة الآخر: إن النذر المعلق بشرط لا يريد كونه يمين من وجه، نذر من وجه، يمين باعتبار الشرط؛ لأن الشرط مرغوب عنه فرارًا عما يلزمه جميعًا لله تعالى على الخلوص كالشرط في اليمين بالله مرغوب عنه فرارًا عما يلزمه من الكفارة جميعًا لله تعالى على الخلوص نذر باعتبار الجزاء؛ لأن معلق الشرط صوم، أو صلاة، أو حج كما في النذر المعلق بشرط يريد كونه، وكان نذرًا من وجه يمينًا من وجه علق أحدهما على الآخر؛ لأن اليمين إنما يتم بالشرط والجزاء جميعًا، والجمع بين الوجهين متعذر؛ لأن أحدهما يوجب الكفارة، والآخر يوجب الوفاء بالمسمى، والجمع بين الكفارة والمسمى متعذر؛ لأن العقد واحد فلا يلزمه موجبان وإذا تعذر الجمع بين الوجهين والبعض من هذا، والبعض من ذلك متعذر أيضًا، وجب التوفير (على الش....... التنجيز)، وهذا بخلاف ما لو علق النذر بشرط يريد كونه، فإنه نذر من كل وجه باعتبار الجزاء والشرط جميعًا؛ لأن الشرط مرغوب فيه، والشرط باليمين بالله مرغوب عنه خوفًا عما يلزمه من الكفارة حقًا لله تعالى، بخلاف ما نحن فيه، وبخلاف النذر المرسل؛ لأنه ليس فيه معنى اليمين أصلًا، والله أعلم.

.الفصل السابع عشر في المتفرقات:

في (المنتقى) الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: في الحربي المستأجر إذا مر على العاشر أخذ منه العشر في جميع ما معه كان للتجارة، أو لم يكن. وروى الحسن عن ابن أبي مالك عن أبي يوسف إن كان معه أعشر التجارة لا يعشره.
ابن سماعة عن محمد في (نوادره): رجل اشترى عبدًا بمائة درهم، وقيمة العبد مائتا درهم، وهو يريد التجارة، فلما كان آخر الحول صار قيمته ثلاثمائة، ثم استحق نصف العبد، فعلى المشتري زكاة مائتي درهم؛ لأنه تبين أنه تم الحول وفي ملكه مائتا درهم مائة وخمسون في العبد، وخمسون في ذمة البائع نصف من العبد، والدين يضم إلى ما عنده في حق تكميل النصاب، وإن كان لا يخاطب بالأداء منه قبل القبض.
ابن سماعة في (الرقيات) عن محمد: رجل عنده عشرون دينارًا ومائتا درهم حال عليها الحول، فدفع إلى رجل خمسة دراهم من المائتين ليؤدي عن المائتين إلى المساكين، فلم يؤدها حتى ضاعت المائتان وصاحب المال لا يعلم بذلك، ثم إن الآخر دفع الخمسة إلى المساكين لا يجزئه عن زكاة الدنانير، وكذلك على هذا إذا كان لرجل ألف درهم وضح وألف درهم غلة حال عليه الحول، فدفع إلى رجل خمسة وعشرين درهمًا وضحًا ليتصدق بها عن زكاة الوضح، وباقي المسألة بحالها لا يقع المؤدى عن الغلة، ولو كان الدفع على سبيل التعجيل قبل الحول، والباقي بحاله، فالمؤدى يقع عن الباقي، وقد ذكرنا هذا التفصيل فيما إذا أدى صاحب المال بنفسه، فكذا إذا أمر غيره بالأداء.
هشام عن أبي يوسف: في رجل له على رجل دين ألف درهم فوهبها لآخر، ووكله بقبضها، فلم يقبضها حتى وجبت فيه الزكاة، ثم قبضها الوكيل، وهو الموهوب له، فزكاتها على الواهب؛ لأن قبض الوكيل بمنزلة قبض صاحب المال.
في (مجموع النوازل): قال محمد: إذا هلكت الوديعة في يد المودع، وأدى إلى صاحب الوديعة ضمانها ناويًا عن زكاة ماله، قال: إن أدى إليه لدفع خصومته لا تجزئه عن زكاته. وفيه أيضًا: روي عن أبي حنيفة: في رجل له عشرون شاة في الجبل، وعشرون في الواد، ومصدقهما يختلف، قال: يأخذ كل واحد منهما نصف شاة.
عن أبي يوسف في رجل قال: لله عليّ أن أتصدق بما عليّ من الزكاة تطوعًا، فأدى ما عليه جاز عن زكاته، ولا شيء عليه غير ذلك، ولو قال: لله عليّ أن أحج تطوعًا، ثم حج من عامه حجة الإسلام كان عليه أن يحج عن التطوع. ولو قال: لله عليّ حجة الإسلام تطوع، فحجها للإسلام لم يلزمه التطوع.
ابن سماعة عن محمد: في رجل له مائتا درهم على رجل حال الحول إلا شهرًا، ثم استفاد ألفًا، وتم الحول على الدين قال: يزكي الألف التي عنده، وإن لم يأخذ من الدين شيئًا، وكذا إذا نوى الدين بعد الحول، وفي قياس أبي حنيفة: لا يزكي الألف من الزكاة مثلها ليس له أن يعطيها، وإن أعطاها، ثم مات كان لورثة الميت أن يرجعوا عليهم بثلثها.
وفيه أيضًا: رجل دفع إلى رجل مالًا قال: أعط هذا من أحببت، ليس له أن يتصدق على نفسه عند أبي حنيفة، وقال محمد: له ذلك.
وفيه أيضًا: الدين المجحود إذا كان لصاحبه عليه بينة، ولم يقم لا تجب عليه الزكاة؛ لأن الحاكم لا يقبلها.
قال محمد رحمه الله في (الأصل): إذا قضى دين غيره من زكاته، فإن قضى بأمر المديون وكان المديون فقيرًا يجوز، وإن أدى بغير أمره لا يجوز؛ لأن المأخوذ على رب المال تمليك المال والفقير، فإذا قضى بأمر المديون، أو كان المديون فقيرًا يجوز، فقد وجد التمليك منه؛ لأن تقدير الأمر بقضاء الدين، ولا يتصور قضاء الدين عنه إلا بعد تمليك قدر الزكاة عنه ملكني قدر الزكاة، ثم كن وكيلي بقضاء ديني من ذلك، ولو قال: هكذا يجوز، وينوب قبض صاحب الدين عن قبض المديون، فإذا قضى بغير أمر المديون لم يوجد التمليك منه؛ لأنه لم يرض بوقوع الملك له، فلا يمكن أن يجعل هذا تمليكًا منه، فلهذا لا يخرج عن العهدة.
وفي (الأصل) أيضًا: إذا كان للرجل سائمة للتجارة حال عليها الحول، وهي كذلك سائمة أجمعوا على أنه لا يجمع بين زكاة السائمة وبين زكاة التجارة؛ لأن المال واحد، والجمع بينهما يؤدي إلى العناء.
بعد هذا قال أصحابنا رحمهم الله: زكاة التجارة أولى من زكاة السائمة؛ لأن نية التجارة قد صحت فيها؛ لأنها لو لم يصح إنما لا يصح لمكان السوم، إلا أن السوم لا ينافي صحة نية التجارة، ألا ترى أن السائمة إذا كانت أقل من النصاب اشتراها بنية التجارة وتركها سائمة كما كانت للتجارة، تصح نية التجارة فيها، وتجب زكاة التجارة؟ كذا هاهنا، وكل مال صحت نية التجارة فيه تجب فيها زكاة التجارة.
الحربي إذا أسلم في دار الحرب وله سوائم، وقد علم بوجوب الزكاة عليه بسبب السوائم، ولم يؤدها سنتين حتى خرج إلى دار الإسلام بسوائمه، فإنه لا ينبغي للإمام أن يأخذ منه زكاة ما مضى؛ لأنه لم يكن في حماية الإمام حال وجوب الزكاة، ويجب عليه الأداء فيما بينه وبين الله تعالى، وإن لم يعلم بوجوب الزكاة لا يجب عليه الأداء فيما بينه وبين الله تعالى، وعلى هذا الصوم والصلاة.
قال في (المنتقى): والعلم الذي به عليه الصلاة، والصوم أن يخبره بذلك رجلان عدلان، أو رجل وامرأتان في دار الحرب، أو في دار الإسلام.
وفي (المنتقى): حربي أسلم في دار الحرب، ومكث سنين لا يعلم أن عليه صلاة، أو زكاة أو صيامًا، وهو في دار الحرب، فليس عليه قضاء ما مضى، وإن علمه بذلك رجلان، أو رجل وامرأتان ممن هو عدل، ثم فرط في ذلك كان عليه أن يقضي ما فرط منه من وقت إعلامه في دار الحرب كان، أو في دار الإسلام، وإن كان إنما أعلمه بذلك، رجل واحد، أو ناس من أهل الذمة لم يكن عليه أن يقضي شيئًا فيما مضى، وقال أبو يوسف: إذا لم يبلغه، وهو في دار الحرب لم يقض، وإن كان في دار الإسلام قضى، والله أعلم بالصواب.