فصل: الأطباء المكفوفون:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ البيمارستانات في الإسلام




.الباب الأول: في نشأة البيمارستانات ونظامها وأطبائها وأرزاقها:

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وصلى الله على سيدنا محمد وعلى أنبيائه أجمعين.
هذه كلمة في تاريخ المستشفيات وهي التي كان يعبر عنها بكلمة بيمارستان في العهد الإسلامي إلى العصر الحاضر أي إلى إنشاء مستشفى أبي زعبل بضاحية القاهرة وهو أول مستشفى أنشئ على النظام الحديث في مصر سنة 1825م.
وهذه البيمارستانات هي إحدى المنشآت والعمائر كالمساجد والتكايا والقباب والمدارس إلخ.. التي كان يشيدها الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء وأهل الخير على العموم صدقة وحسبة وخدمة للإنسانية وتخليدا لذكراهم. ولم تكن مهمة هذه البيمارستانات قاصرة على مداواة المرضى، بل كانت في نفس الوقت معاهد علمية ومدارس لتعليم الطب، يتخرج منها المتطببون والجراحون الجرائحيون والكحالون كما يتخرجون اليوم من مدارس الطب.

.تفسير كلمة بيمارستان:

البيمارَسْتان بفتح الراء وسكون السين كلمة فارسية مركبة من كلمتين بيمار بمعنى مريض أو عليل أو مصاب، وستان بمعنى مكان أو دار؛ فهي إذا دار المرضى، ثم اختصرت في الاستعمال فصارت مارستان كما ذكرها الجوهري في صحاحه.
وكانت البيمارستانات من أول عهدها إلى زمن طويل مستشفيات عامة، تعالج فيها جميع الأمراض والعلل من باطنية وجراحية ورمدية وعقلية، إلى أن أصابتها الكوارث ودار بها الزمن وحل بها البوار وهجرها المرضى فأقفرت إلا من المجانين حيث لا مكان لهم سواها. فصارت كلمة مارستان إذا سمعت لا تنصرف إلا إلى مأوى المجانين.
وقبل الشروع في ذكر البيمارستانات رأينا أن نذكر كلمة في حال الطب عند العرب في مبدأ نشأتهم في الإسلام؛ ثم نلحقها بالبيمارستانات وترتيبها ونظام المداواة فيها واختيار الأطباء ومعاملتهم وأرزاقهم والرقابة عليهم ثم نذكر الحبوس والهبات والأعيان الموقوفة على البيمارستانات ووظائف الأطباء ورتبهم في الدولة.

.حالة الطب عند العرب في مبدأ نشأتهم:

قال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي في كتابه طبقات الأمم: إن العرب في صدر الإسلام لم تعن بشيء من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها حاشا علوم الطب فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم غير منكورة عند جماهيرهم لحاجة الناس طرّاً إليها.
وقد كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناس يعلمون الطب ويعلمون به: ذكر ابن الجوزي رحمه الله تعالى في صفوة الصفوة عن هشام بن عروة قال: كان عروة يقول لعائشة رضي الله عنها يا أماه لا أعجب من فقهك، أقول زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة أبي بكر، ولا أعجب من علمك بالشعر وأيام الناس أقول ابنة أبي بكر وكان من أعلم الناس ولكني أعجب من علمك بالطب. فضربت على منكبه وقالت: أي عروة! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في آخر عمره فكانت تقدم عليه وفود العرب من كل وجه فتنعت له الأنعات فكنت أعالجها من ثمَّ. وفي تاريخ الإسلام للذهبي قال عروة بن الزبير:
ما رأيت أعلم بالطب من عائشة فقلت يا خالة: من أين تعلمت الطب؟ قالت: كنت أسمع الناس ينعت بعضهم لبعض فأحفظه. وروى أبو داود رحمه الله تعالى عن سعيد قال: مرضت مرضا فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فوضع يده بين ثدييّ حتى وجدت بردها على فؤادي فقال إنك مفئود، ائت الحارث بن كلدة أخا ثقيف فإنه يتطبب.
وفي الموطأ عن زيد بن أسلم: أن رجلا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جرح فاحتقن الجرح بالدم وأن الرجل دعا رجلين من بني أنمار فنظر إليهما فزعما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيكما أطب فقالا: أو في الطب خير يا رسول الله؟ فزعم زيد أن رسول الله قال: أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء.
وروى أبو داود رحمه الله تعالى عن جابر رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي طبيبا فقطع منه عرقا.
وكان في العرب كثير من المتكببين يخلط بعضهم بين الرُّقى والتطبيب، وبعضهم الآخر كان قد تعلم الطبّ في فارس أو في إحدى البلاد المجاورة لجزيرة العرب ثم رجع إلى موطنه يعاني صفة التطبيب، ومن هؤلاء المتطببين.
الحارث بن كلدة الثقفي تعلم الطب في جنديسابور بلدة من مقاطعة خوزستان أحد أقاليم فارس.
وابنه النَّضر بن الحارث بن كلدة تعلم الطب حيث تعلم أبوه وعبد الملك بن أبجر الكناني كان في أول أمره مقيما بالإسكندرية لأنه كان المتولي التدريس بها بعد الإسكندرانيين.
وابن أبي رمثة التميمي فقد كان جراحا مشهورا.
زينب طبيبة بني أود فقد كانت خبيرة بالعلاج ومداواة العين والجراحات، مشهورة بين العرب بذلك.
الشمردل بن قباب الكعبي النجراني كان في وفد نجران بن الحارث بن كعب فنزل الشمردل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني كنت كاهن قومي في الجاهلية وإني كنت أتطبب، فما يحل لي فإني تأتيني الشابة قال: قصد العرق ومجسة الطعنة إن اضطررت ولا تجعل من دوائك شر ما وعليك بالسنا ولا تدلوا أحدا حتى تعرف داءه. فقبل ركبتيه وقال: والذي بعثك بالحق أنت أعلم بالطب مني.
وضماد بن ثعلبة الأزدي من أزد شنوة، قال ابن عباس:
قدم رجل من أزد شنوة يقال له ضماد مكة معتمرا فسمع كفار قريش يقولون: محمد مجنون. فقال: لو أتيت هذا الرجل فداويته فجاءه فقال: يا محمد إني أداوي من الريح فإن شئت داويتك لعل الله ينفعك فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمد الله وتكلم بكلمات فأعجب ذلك ضمادا فقال: أعدها عليّ فأعادها عليه فقال: لم أسمع مثل هذا الكلام قط، لقد سمعت كلام الكهنة والسحرة والشعراء فما سمعت مثل هذا قط، لقد بلغ قاموس البحر يعني قعره. فأسلم وشهد شهادة الحق وبايعه على نفسه وعلى قومه.
أم عطية الأنصارية نسبة التي أمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغسل بنته زينب، لها أحاديث. روى عنها محمد بن سيرين وأخته حفصة وأم شراحيل وعلي بن الأحمر وعبد الملك بن عمير وهشام بن حسان عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات فكنت أصنع لهم طعامهم وأخلفهم في رحالهم وأداوي الجرحى وأقوم على المرضى.

.أول من اتخذ البيمارستان في الإسلام:

روى مسلم رحمه الله تعالى عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أصيب سعد بن معاذ يوم الخندق رماه رجل من قريش ابن العرفة، رمي في الأكحل، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد يعوده من قريب. وقال ابن إسحاق في السيرة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم يقال لها رُفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضبعة من المسلمين وقد كان رسول الله قد قال لقوم حين أصابه السهم بالخندق: اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب. فيفهم من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أول من أمر بالمستشفى الحربي المتنقل. وقال تقي الدين المقريزي: أول من بنى البيمارستان في الإسلام ودار المرضى، الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي في سنة 88هـ 706م وجعل في البيمارستان الأطباء وأجرى لهم الأرزاق وأمر بحبس المجدمين لئلا يخرجوا وأجرى عليهم وعلى العميان الأرزاق. وقال محمد بن جرير الطبري في تاريخ الرسل والملوك: كان الوليد بن عبد الملك عند أهل الشام أفضل خلائفهم، بنى المساجد مسجد دمشق ومسجد المدينة، ووضع المنار، وأعطى الناس، وأعطى المجذمين وقال: لا تسألوا الناس وأعطى كل مقعد خادما وكل ضرير قائدا.

.أنواع البيمارستانات:

كان للبيمارستانات نوعان: ثابت ومحمول.

.البيمارستان الثابت:

فالثابت ما كان بناء ثابتا في جهة من الجهات لا ينتقل منها وهذا النوع من البيمارستانات كان كثير الوجود في كثير من البلدان الإسلامية لا سيما في العواصم الكبرى كالقاهرة وبغداد ومدمشق... إلخ. ولا يزال أثر بعضها باقيا على مر الدهور إلى الآن كالبيمارستان المنصوري قلاوون الآن بالقاهرة، والبيمارستان المؤيدي بالقرب من القلعة بالقاهرة أيضا، والبيمارستان النوري الكبير بدمشق والبيمارستان القيمري بها أيضا، وبيمارستان أرغون بحلب... إلخ. مما سيأتي ذكره.

.البيمارستان المحمول:

هو الذي ينقل من مكان إلى مكان بحسب ظروف الأمراض والأوبئة وانتشارها وكذا الحروب، وهو المعبر عنه في العصر الحاضر بكلمات بالفرنسية بالألمانية بالإنجليزية وبالإيطالية.
كان هذا النوع من البيمارستانات معروفا لدى خلفاء الإسلام وملوكهم وسلاطينهم وأطبائهم بل الراجح أن يكونوا هم أول من أنشأه، وهو عبارة عن مستشفى مجهز بجميع ما يلزم للمرضى والمداواة من أدوات وأدوية وأطعمة وأشربة وملابس وأطباء وصيادلة وكل ما يعين على ترفيه الحال على المرضى والعجزة والمزمنين والمسجونين ينقل من بلد إلى أخرى من البلدان الخالية من بيمارستانات ثابتة أو التي يظهر فيها وباء أو مرض معد.
قال ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة: إن الوزير علي ابن عيسى بن الجراح في أيام تقلده الدواوين من قبل المقتدر بالله وتدبير المملكة في أيام وزارة حامد بن أبي العباس وقع إلى والده سنان بن ثابت في سنة كثرت فيها الأمراض جدا، وكان سنان يتقلد البيمارستانات ببغداد وغيرها توقيعا نسخته: فكرت مدَّ الله في عمرك في أمر من في الحبوس وأنهم لا يخلون مع كثرة عددهم وجفاء أماكنهم أن تنالهم الأمراض، وهم معوقون عن التصرف في منافعهم ولقاء من يشاورونه من الأطباء في أمراضهم، فينبغي أكرمك الله أن تفرد لهم أطباء يدخلون إليهم في كل يوم، ويحملون معهم الأدوية والأشربة وما يحتاجون إليه من المزوَّرات، وتتقدم إليهم بأن يدخلوا سائر الحبوس، ويعالجوا من فيها من المرضى، ويريحوا عللهم فيما يصفونه لهم إن شاء الله تعالى. ففعل سنان ذلك.
ثم وقع إليه توقيعا آخر:
فكرت فيمن بالسواد من أهله وأنه لا يخلو من أن يكون فيه مرضى لا يشرف متطبب عليهم لخلو السواد من الأطباء، فتقدم مدَّ الله في عمرك بإيفاد متطببين وخزانة من الأدوية والأشربة يطوفون السواد، ويقيمون في كل صقع منه مدة ما تدعو الحاجة إلى مقامهم، ويعالجون من فيه ثم ينتقلون إلى غيره. ففعل سنان ذلك وانتهى أصحابه إلى سورا بلدة من بلاد العراق والغالب على أهلها اليهود. فكتب سنان إلى الوزير علي بن عيسى يعرفه ورود كتب أصحابه عليه من السَّواد: بأن أكثر من بسورا وشهر ملك يهود، وأنهم استأذنوا في المقام عليهم وعلاجهم أو الانصراف عنهم إلى غيرهم، وأنه لا يعلم بما يجيبهم به إذ كان لا يعرف رأيه في أهل الذمة، وأعلمه أن الرسم في بيمارستان الحضرة قد جرى للملي والذّميّ.
فوقع الوزير توقيعا نسخته:
فهمت ما كنت به أكرمك الله، وليس بيننا خلاف في أن معالجة أهل الذمة والبهائم صواب، ولكن الذي يجب تقديمه والعمل به معالجة الناس قبل البهائم، والمسلمين قبل أهل الذمة، فإذا فضل عن المسلمين ما لا يحتاجون إليه صرف في الطبقة التي بعدهم، فاعمل أكرمك الله على ذلك واكتب إلى أصحابك به، ووصّ بالتنقل في القرى، والمواضع التي فيها الأوباء الكثيرة والأمراض الفاشية، وإن لم يجدوا بذرقة توقفوا عن المسير حتى يصح لهم الطريق ويصلح السبيل فإنهم إن فعلوا هذا وفقوا إن شاء الله تعالى.
ونذكر مثلا من البيمارستانات المتنقلة التي كان يستعملها السلاطين في تنقلاتهم وحروبهم ما ذكره ابن خلكان وابن القفطي قالا: إن أبا الحكم المغربي عبد الله بن المظفر ابن عبد الله المرسي نزيل دمشق، كان طبيب البيمارستان الذي كان يحمله أربعون حملا، المستصحب في معسكر السلطان محمود السلجوقي حيث خيم. وكان القاضي السديد أبو الوفا يحيى بن سعيد بن يحيى بن المظفر المعروف بابن المرخم الذي صار قاضي القضاة ببغداد في أيام الإمام المقتفي فاصدا وطبيبا في هذا المارستان المحمول المذكور. وكان أبو الحكم يشاركه.
وكانت العادة في دولة المماليك أن يخرج السلطان ومعه الأمراء والأعيان إلى القصور التي بنوها خارج المدن ويقيم فيها أياما فيمر الناس في إقامتهم هناك، أوقات لا يمكن وصف ما فيها من المسرات، ولا حصر ما ينفقه فيها من المآكل والهبات والأموال. ويصحب السلطان في السفر ما تدعوا الحاجة إليه حتى يكاد يكون معه مارستان لكثرة من معه من الأطباء وأرباب الكحل والجراح والأشربة والعقاقير وما يجري مجرى ذلك. وكل من عاده طبيب ووصف له ما يناسبه يصرف له من الشرابخاناه أو الدواء خاناه المحمولين في الصحبة. وكان من عادة السلطان الملك الظاهر برقوق التردد على بلدة سرياقوس بركب عظيم وحفل كبير، فيها مستمرا إلى سنة 799هـ مصحوبا بكل ما سبق.

.المكفوفون والنساء يتعاطون التطبيب:

.النساء اللاتي عانين صناعة الطب:

كان تعلم الطب ومعاناة التطبيب مكفولين لأي كان ذكرا أو أنثى مبصرا أو مكفوفا.
كانت زينب طبيبة بني أَوْد من الماهرات في صناعة الكحالة عالمة بصناعة الطب والمداواة ولها خبرة جيدة بمداواة آلام العين والجراحات مشهورة بين العرب بذلك. ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني: قال رجل من الأعراب: أتيت امرأة من بني أَود لتكحلني من رمد كان أصابني، فكحلتني ثم قالت: أضطجع قليلا حتى يدور الدواء في عينيك فاضطجعت ثم تمثلت قول الشاعر:
أمخترمي ريب المنون ولم أزر طبيب بني أود على النأي زينبا

فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر؟ قلت: لا. قالت: فيَّ والله قيل، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيبة بني أود أفتدري من الشاعر؟ قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأزدي.
ورُفيدة الأسلمية اتخذت خيمة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكانت تداوي الجرحى. وكانت أخت الحفيد أبي بكر أبن زُهر وبنتها عالمتين بصناعة الطب ولها خبرة جيدة فيما يتعلق بمداواة النساء وكانتا تدخلان المنصور أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن ولا يقبل للمنصور وأهله ولدا إلا أخت الحفيد أو بنتها لما توفيت أمها.
وكانت أم الحسن بنت القاضي أحمد بن عبد الله بن عبد المنعم أبي جعفر الطنجالي من أهل لوشة بلدة بالأندلس تجود القرآن وتشارك في فنون من الطب وأفراد مسائل الطب وتنظم الشعر.

.الأطباء المكفوفون:

كان أبو الحسن علي بن إبراهيم بن بكس طبيبا مكفوفا وكان فاضلا عاملا بصناعة الطب متقنا لها غاية الإتقان وكان يدرس الطب في البيمارستان العضدي ويفيد الطالبين وكان إذا أراد معرفة سجنات الوجود وحال بول المرضى حول على من يكون معه من تلاميذه في وصفه ذلك.
وأبو الحسن بن مكين البغدادي الضرير قاد الحكمة بزمامها وكان مكفوفا يقوده تلميذه إلى ديار المرضى وكان أبو الخير يهجنه في كتاب امتحان الأطباء وقال: من قاد أعمى شهرا يعني ذلك الطبيب تطبب وعالج وأهلك الناس.
وأبو عبد الله محمد بن سليمان بن الحناط المكفوف الشاعر الضرير القرطبي كان أوسع الناس علما بعلوم الجاهلية والإسلام بصيرا بالآثار العلوية حادقا بالطب والفلسفة ماهرا في العربية والآداب الإسلامية ولد أعشى ضعيف البصر متوقد الخاطر فقراء كثيرا في حال عشاه ثم طفئ نور عينه بالكلية فأزداد براعة، ونظر في الطب بعد ذلك فأنجح علاجا. وكان أبنه يصف له مياه الناس اليتفتين عنده فيهتدي منها إلى ما يهتدي إليه البصير ولا يخطيْ الصواب في فتواه لسرعة الاستنباط، وتطبب عنده الأعيان والملوك فاعترفوا له بمنافع جسيمة.

.التقسيم الفني لنظام البيمارستان:

لم تكن البيمارستانات لسير اتفاقا بغير نظام ولا ترتيب، بل كانت على نظام تام وترتيب محمود تسير أعمالهما على وتيرة منتظمة.
وكانت البيمارستانات منقسمة إلى قسمين منفصلين بعضها عن بعض، للذكور وقسم للإناث وكل قسم مجهز بما يحتاجه من آلة وعدة وخدم وفراشين من الرجال والنساء وقوام ومشرفين.
وفي كل قسم من هذين القسمين عدة قاعات لمختلف الأمراض: فقاعة للأمراض الباطنة، وقاعة للجراحة، وقاعة للكحالة، وقاعة للتجبير. وكانت قاعة الأمراض الباطنة منقسمة إلى أقسام أخرى: قسم للمحمومين وهم المصابون بالحمى، وقسم للممرورين وهو لمن بهم المرض المسمى مانيا وهو الجنون السبعي، وقسم للمبرودين أي المتخومين، ولمن به إسهال قاعة.. إلخ. وكانت قاعات البيمارستان فسيحة حسنة البناء وكان الماء فيها جاريا. وللبيمارستان صيدلية تسمى شرابخاناه ولها رئيس يسمى شيخ صيدليي البيمارستان. وللبيمارستان رئيس يسمى ساعور البيمارستان. ولكل قسم من أقسامه رئيس. فكان فيه رئيس للأمراض الباطنة، ورئيس للجرائحية والمجبرين، ورئيس للكحالين. وللبيمارستان الفراشون من الرجال والنساء والمشارفون والقوام للخدمة أيضا ولهم المعاليم الوافية والجامكية الوافرة.