فصل: تفسير الآيات (1- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (1- 8):

{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
قال ابن عباس: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا} أي: تحركت من أسفلها. {وَأَخْرَجَتِ الأرْضُ أَثْقَالَهَا} يعني: ألقت ما فيها من الموتى. قاله غير واحد من السلف. وهذه كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] وكقوله {وإذا الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت} [الانشقاق: 3، 4].
وقال مسلم في صحيحه: حدثنا واصل بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن فُضَيل، عن أبيه، عن أبي حازم، عن أبي هُرَيرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قَتَلْتُ، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قَطَعتُ رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطِعت يدي، ثم يَدَعُونه فلا يأخذون منه شيئا».
وقوله: {وَقَالَ الإنْسَانُ مَا لَهَا} أي: استنكر أمرها بعد ما كانت قارة ساكنة ثابتة، وهو مستقر على ظهرها، أي: تقلبت الحال، فصارت متحركة مضطربة، قد جاءها من أمر الله ما قد أعد لها من الزلزال الذي لا محيد لها عنه، ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين، وحينئذ استنكر الناس أمرها وتبدلت الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} أي: تحدث بما عمل العاملون على ظهرها.
قال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم، حدثنا ابن المبارك- وقال الترمذي وأبو عبد الرحمن النسائي، واللفظ له: حدثنا سُوَيد بن نصر، أخبرنا عبد الله- هو ابن المبارك- عن سعيد بن أبي أيوب، عن يحيى بن أبي سليمان، عن سعيد المقْبُرِي، عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: «أتدرون ما أخبارها؟». قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عَمِل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا، يوم كذا وكذا، فهذه أخبارها».
ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
وفي معجم الطبراني من حديث ابن لَهِيعة: حدثني الحارث بن يزيد- سمع ربيعة الجُرَشي-: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحفظوا من الأرض، فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا أو شرًا، إلا وهي مُخبرة».
وقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} قال البخاري: أوحى لها وأوحى إليها، ووحى لها ووحى إليها: واحد وكذا قال ابن عباس: {أَوْحَى لَهَا} أي: أوحى إليها.
والظاهر أن هذا مُضَمَّن بمعنى أذن لها.
وقال شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: قال لها ربها: قولي، فقالت.
وقال مجاهد: {أَوْحَى لَهَا} أي: أمرها.
وقال القُرَظي: أمرها أن تنشق عنهم.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} أي: يرجعون عن مواقف الحساب، {أَشْتَاتًا} أي: أنواعًا وأصنافًا، ما بين شقي وسعيد، مأمور به إلى الجنة، ومأمور به إلى النار.
قال ابن جريج: يتصدعون أشتاتًا فلا يجتمعون آخر ما عليهم.
وقال السُّدِّي: {أَشْتَاتًا} فرقا.
وقوله تعالى: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} أي: ليعملوا ويجازوا بما عملوه في الدنيا، من خير وشر. ولهذا قال: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني مالك عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح السَّمان عن أبي هُرَيرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر؛ فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله فأطال طَيلها في مرج أو روضة، فما أصابت في طيلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها فاستنَّت شَرَفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يَسقَى به كان ذلك حسنات له، وهي لذلك الرجل أجر. ورجل ربطها تَغَنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر. ورجل ربطها فخرًا ورئاء ونواء، فهي على ذلك وزر». فسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحُمُر، فقال: «ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}».
ورواه مسلم، من حديث زيد بن أسلم، به.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا جرير بن حازم، حدثنا الحسن، عن صعصعة بن معاوية- عم الفرزدق-: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قال: حسبي! لا أبالي ألا أسمع غيرها.
وهكذا رواه النسائي في التفسير، عن إبراهيم بن يونس بن محمد المؤدب، عن أبيه، عن جرير ابن حازم، عن الحسن البصري قال: حدثنا صعصعةُ عم الفرزدق، فذكره.
وفي صحيح البخاري، عن عَدي مرفوعا: «اتقوا النار ولو بِشِقِّ تمرة، ولو بكلمة طيبة» وفي الصحيح: «لا تَحْقِرَنَّ من المعروف شيئا ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط» وفي الصحيح أيضا: «يا نساء المؤمنات، لا تحقرن جارة لجارتها ولو فِرْسَنَ شاة» يعني: ظلفها.
وفي الحديث الآخر: «ردوا السائل ولو بظلْف مُحَرق».
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، حدثنا كثير بن زيد، عن المطلب بن عبد الله، عن عائشة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا عائشة، استتري من النار ولو بشق تمرة، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان».
تفرد به أحمد.
ورُويَ عن عائشة أنها تصدقت بعنبة، وقالت: كم فيها من مثقال ذرة.
وقال أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا سعيد بن مسلم، سمعت عامر بن عبد الله بن الزبير:
حدثني عوف بن الحارث بن الطفيل: أن عائشة أخبرته: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «يا عائشة، إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالبا».
ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث سعيد بن مسلم بن بَانَك، به.
وقال ابن جرير: حدثني أبو الخطاب الحساني، حدثنا الهيثم بن الربيع، حدثنا سماك بن عطية، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فرفع أبو بكر يده وقال: يا رسول الله، إني أُجزى بما عملتُ من مثقال ذرة من شر؟ فقال: «يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ويدخر الله لك مثاقيل ذَر الخير حتى تُوفَاه يوم القيامة».
ورواه ابن أبي حاتم، عن أبيه عن أبي الخطاب، به. ثم قال ابن جرير:
حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الوهاب، حدثنا أيوب قال: في كتاب أبي قِلابة، عن أبي إدريس: أن أبا بكر كان يأكل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فذكره.
ورواه أيضًا عن يعقوب، عن ابن عُلَيَّة، عن أيوب، عن أبي قلابة: أن أبا بكر، وذكره.
طريق أخرى: قال ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني حُيَي ابن عبد الله، عن أبي عبد الرحمن الحبلي، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: لما نزلت: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا} وأبو بكر الصديق، رضي الله عنه، قاعد، فبكى حين أنزلت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا أبا بكر؟». قال: يبكيني هذه السورة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لولا أنكم تخطئون وتذنبون، فيغفر الله لكم، لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم».
حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة وعلي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة- المعروف بعلان المصري- قالا حدثنا عمرو بن خالد الحرَّاني، حدثنا ابن لَهِيعة، أخبرني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: لما أنزلت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} قلت: يا رسول الله، إني لراء عملي؟ قال: «نعم». قلت: تلك الكبار الكبار؟ قال: «نعم». قلت: الصغار الصغار؟ قال: «نعم». قلت: واثُكلَ أُمي. قال: «أبشر يا أبا سعيد؛ فإن الحسنة بعشر أمثالها- يعني إلى سبعمائة ضعف- ويضاعف الله لمن يشاء، والسيئة بمثلها أو يغفر الله، ولن ينجو أحد منكم بعمله». قلت: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه برحمة» قال أبو زُرْعَة: لم يرو هذا غير ابن لَهِيعة.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زرعة، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر، حدثني ابن لهيعة، حدثني عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وذلك لما نزلت هذه الآية: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، كان المسلمون يرون أنهم لا يُؤجَرون على الشيء القليل الذي أعطوه، فيجيء المسكين إلى أبوابهم فيستقلون أن يعطوه التمرة والكسرة والجَوْزة ونحو ذلك، فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء. إنما نُؤجَر على ما نعطي ونحن نحبه. وكان آخرون يَرَون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير: الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون: إنما وعد الله النار على الكبائر. فرغبهم في القليل من الخير أن يعملوه، فإنه يوشك أن يكثر، وحذرهم اليسير من الشر، فإنه يوشك أن يكثر، فنزلت: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} يعني: وزن أصغر النمل {خَيْرًا يَرَهُ} يعني: في كتابه، ويَسُرُّه ذلك. قال: يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة. وبكل حسنة عشر حسنات، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضًا، بكل واحدة عشر، ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات، فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة، دخل الجنة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا سليمان بن داود، حدثنا عمران، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عبد الله بن مسعود؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إياكم ومحقرات الذنوب، فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه». وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة، فحضر صَنيع القوم، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود، والرجل يجيء بالعود، حتى جمعوا سوادا، وأجَّجوا نارًا، وأنضجوا ما قذفوا فيها.
آخر تفسير سورة {إذا زلزلت} ولله الحمد والمنة.

.سورة العاديات:

وهي مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 11):

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فَعَدت وضَبَحت، وهو: الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو. {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} يعني: اصطكاك نعالها للصخر فتقدح منه النار.
{فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} يعني: الإغارة وقت الصباح، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير صباحًا ويتسمّع أذانا، فإن سمع وإلا أغار.
وقوله {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} يعني: غبارًا في مكان معترك الخيول.
{فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} أي: توسطن ذلك المكان كُلُّهن جمع.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عبدة، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} قال: الإبل.
وقال علي: هي الإبل.
وقال ابن عباس: هي الخيل. فبلغ عليا قولُ ابن عباس، فقال: ما كانت لنا خيل يوم بدر. قال ابن عباس: إنما كان ذلك في سرية بعثت.
قال ابن أبي حاتم وابن جرير: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، أخبرني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس حدثه، قال: بينا أنا في الحِجْر جالسا، جاءني رجل فسألني عن: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل الله، ثم تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم، ويورون نارهم. فانفتل عني فذهب إلى علي، رضي الله عنه، وهو عند سقاية زمزم فسأله عن {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} فقال: سألت عنها أحدًا قبلي؟ قال: نعم، سألت ابن عباس فقال: الخيل حين تغير في سبيل الله. قال: اذهب فادعه لي. فلما وقف على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك، والله لئن كان أولَ غزوة في الإسلام بدر، وما كان معنا إلا فَرَسان: فرس للزبير وفرس للمقداد، فكيف تكون العاديات ضبحًا؟ إنما العاديات ضبحا من عرفة إلى المزدلفة، ومن المزدلفة إلى منى.
قال ابن عباس: فنزعت عن قولي ورجعت إلى الذي قال علي، رضي الله عنه.
وبهذا الإسناد عن ابن عباس قال: قال علي: إنما {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} من عرفة إلى المزدلفة، فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران.
وقال العَوفي عن ابن عباس: هي الخيل.
وقد قال بقول علي: إنها الإبل جماعة. منهم: إبراهيم، وعبيد بن عمير وبقول ابن عباس آخرون، منهم: مجاهد وعكرمة، وعطاء وقتادة، والضحاك. واختاره ابن جرير.
قال ابن عباس، وعطاء: ما ضبحت دابة قط إلا فرس أو كلب.
وقال ابن جُرَيْج عن عطاء سمعت ابن عباس يصف الضبح: أح أح.
وقال أكثر هؤلاء في قوله: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} يعني: بحوافرها. وقيل: أسعَرْنَ الحرب بين رُكبانهن. قاله قتادة.
وعن ابن عباس ومجاهد: {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} يعني: مكر الرجال.
وقيل: هو إيقاد النار إذا رجعوا إلى منازلهم من الليل.
وقيل: المراد بذلك: نيران القبائل.
وقال من فسرها بالخيل: هو إيقاد النار بالمزدلفة.
وقال ابن جرير: والصواب الأول؛ أنها الخيل حين تقدح بحوافرها.
وقوله {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: يعني إغارة الخيل صبحًا في سبيل الله.
وقال من فسرها بالإبل: هو الدفع صبحا من المزدلفة إلى منى.
وقالوا كلهم في قوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} هو: المكان الذي إذا حلت فيه أثارت به الغبار، إما في حج أو غزو.
وقوله: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قال العَوفى، عن ابن عباس، وعطاء، وعكرمة، وقتادة، والضحاك: يعني جَمَع الكفار من العدو.
ويحتمل أن يكون: فوسطن بذلك المكان جَميعُهُن، ويكون {جَمْعًا} منصوبا على الحال المؤكدة.
وقد روى أبو بكر البزار هاهنا حديثًا غريبًا جدًا فقال: حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حفص بن جُمَيع، حدثنا سِمَاك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلا فأشهرت شهرًا لا يأتيه منها خبر، فنزلت: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} ضبحت بأرجلها، {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} قدحت بحوافرها الحجارة فأورت نارًا، {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} صبَّحت القوم بغارة، {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا} أثارت بحوافرها التراب، {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} قال: صبحت القوم جميعا.
وقوله: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} هذا هو المقسم عليه، بمعنى: أنه لنعم ربه لجحود كفور.
قال ابن عباس، ومجاهد وإبراهيم النَّخعِي، وأبو الجوزاء، وأبو العالية، وأبو الضحى، وسعيد بن جبير، ومحمد بن قيس، والضحاك، والحسن، وقتادة، والربيع بن أنس، وابن زيد: الكنود: الكفور. قال الحسن: هو الذي يعد المصائب، وينسى نعم ربه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ الإنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} قال: «الكفور الذي يأكل وحده، ويضرب عبده، ويمنع رفده».
ورواه ابن أبي حاتم، من طريق جعفر بن الزبير- وهو متروك- فهذا إسناد ضعيف. وقد رواه ابن جرير أيضا من حديث حريز بن عثمان، عن حمزة بن هانئ، عن أبي أمامة موقوفا.
وقوله: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} قال قتادة وسفيان الثوري: وإن الله على ذلك لشهيد. ويحتمل أن يعود الضمير على الإنسان، قاله محمد بن كعب القرظي، فيكون تقديره: وإن الإنسان على كونه كنودا لشهيد، أي: بلسان حاله، أي: ظاهر ذلك عليه في أقواله وأفعاله، كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]
وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} أي: وإنه لحب الخير- وهو: المال- لشديد. وفيه مذهبان:
أحدهما: أن المعنى: وإنه لشديد المحبة للمال.
والثاني: وإنه لحريص بخيل؛ من محبة المال. وكلاهما صحيح.
ثم قال تعالى مُزَهِّدا في الدنيا، ومُرَغِّبًا في الآخرة، ومنبهًا على ما هو كائن بعد هذه الحال، وما يستقبله الإنسان من الأهوال: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} أي: أخرج ما فيها من الأموات، {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} قال ابن عباس وغيره: يعني أبرز وأظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم، {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} أي: لعالم بجميع ما كانوا يصنعون ويعملون، مجازيهم عليه أوفر الجزاء، ولا يظلم مثقال ذرة. آخر تفسير سورة والعاديات ولله الحمد والمنة، وحسبنا الله.