فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (75):

{وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}
لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار، وأنه نزل كُلا في المحل الذي يليق به ويصلح له وهو العادل في ذلك الذي لا يجور- أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول عرشه المجيد، يسبحون بحمد ربهم، ويمجدونه ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور، وقد فصل القضية، وقضى الأمر، وحكم بالعدل؛ ولهذا قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي: بين الخلائق {بِالْحَقِّ}
ثم قال: {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: ونطق الكون أجمعه- ناطقه وبهيمه- لله رب العالمين، بالحمد في حكمه وعدله؛ ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه، فدل على أن جميع المخلوقات شَهِدَت له بالحمد.
قال قتادة: افتتح الخلق بالحمد في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ} [الأنعام: 1] واختتم بالحمد في قوله: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
آخر تفسير سورة الزمر ولله الحمد أولا وآخرًا ظاهرًا وباطنًا.

.سورة غافر:

وهي مكية.
قد كره بعض السلف، منهم محمد بن سيرين أن يقال: الحواميم وإنما يقال: آل حم.
قال عبد الله بن مسعود: آل حم ديباج القرآن.
وقال ابن عباس: إن لكل شيء لباباً ولُبَاب القرآن آل حم- أو قال: الحواميم.
قال مِسْعَر بن كِدَام: كان يقال لهن: العرائس.
روى ذلك كله الإمام العَلم أبو عُبيد القاسم بن سلام، رحمه الله، في كتاب: فضائل القرآن. وقال حُميد بن زَنْجويه: حدثنا عبيد الله بن موسى، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبيد الله قال: إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينا هو يسير فيه ويتعجب منه، إذ هبط على روضات دَمِثات فقال: عجبت من الغيث الأول، فهذا أعجب وأعجب فقيل له: إن مثل الغيث الأول مثل عِظَم القرآن، وإن مثل هؤلاء الروضات الدمثات، مثل آل حم في القرآن. أورده البغوي.
وقال ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب: أن الجرّاح بن أبي الجراح حدثه عن ابن عباس، قال: لكل شيء لباب، ولباب القرآن الحواميم.
وقال ابن مسعود: إذا وَقعتُ في آل حم فقد وقعتُ في روضات أتأنَّق فيهن.
وقال أبو عبيد: حدثنا الأشجعي، حدثنا مِسْعر- هو ابن كِدَام- عمن حدثه: أن رجلا رأى أبا الدرداء رضي الله عنه يبني مسجداً، فقال له: ما هذا؟ فقال: أبنيه من أجل آل حم.
وقد يكون هذا المسجد الذي بناه أبو الدرداء هو المسجد المنسوب إليه داخل قلعة دمشق. وقد يكون صيانتها وحفظها ببركته وبركة ما وُضع له، فإن هذا الكلام يدل على النصر على الأعداء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في بعض الغزوات: «إن بَيّتم الليلة فقولوا: حم، لا ينصرون» وفي رواية: «لا تنصرون».
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن الحكم بن ظَبْيان بن خَلف المازني، ومحمد بن الليث الهمداني قالا حدثنا موسى بن مسعود، حدثنا عبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، عن زرارة بن مصعب، عن أبي سلمة، عن أبي هُرَيرة، رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ آية الكرسي وأول حم المؤمن، عُصِم ذلك اليوم من كل سوء».
ثم قال: لا نعلمه يُروى إلا بهذا الإسناد. ورواه الترمذي من حديث المليكي، وقال: تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{حم (1) تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)}
أما الكلام على الحروف المقطعة، فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقد قيل: إن {حم} اسم من أسماء الله عز وجل، وأنشدوا في ذلك:
يُذَكِّرُني حامِيمَ والرمحُ شَاجر ** فَهَلا تلا حَاميمَ قَبْل التَّقدُّمِ

وقد ورد في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي، من حديث الثوري، عن أبي إسحاق، عن المهلب بن أبي صُفْرة قال: حدثني من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن بَيَّتم الليلة فقولوا: حم، لا ينصرون» وهذا إسناد صحيح.
واختار أبو عبيد أن يُروى: «فقولوا: حم، لا ينصروا» أي: إن قلتم ذلك لا ينصروا، جعله جزاء لقوله: فقولوا.
وقوله: {تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي: تنزيل هذا الكتاب- وهو القرآن- من الله ذي العزة والعلم، فلا يرام جنابه، ولا يخفى عليه الذر وإن تكاثف حجابه.
وقوله: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} أي: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخَضَع لديه.
وقوله: {شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا، وعتا عن أوامر الله، وبغى وقد اجتمع في هذه الآية الرجاء والخوف. وهذه كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} [الحجر: 49، 50] يقرن هذين الوصفين كثيرًا في مواضع متعددة من القرآن؛ ليبقى العبد بين الرجاء والخوف.
وقوله: {ذِي الطَّوْلِ} قال ابن عباس: يعني: السعة والغنى.
وكذا قال مجاهد وقتادة.
وقال يزيد بن الأصم: {ذِي الطَّوْلِ} يعني: الخير الكثير.
وقال عكرمة: {ذِي الطَّوْلِ} ذي المن.
وقال قتادة: يعني ذي النعم والفواضل.
والمعنى: أنه المتفضل على عباده، المتطول عليهم بما هو فيه من المنن والأنعام، التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها، {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34].
وقوله: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي: لا نظير له في جميع صفاته، فلا إله غيره، ولا رب سواه {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب، فيجازي كل عامل بعمله، {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد: 41].
وقال أبو بكر بن عياش: سمعت أبا إسحاق السَّبِيعي يقول: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين إني قَتَلْتُ، فهل لي من توبة؟ فقرأ عليه {حم. تَنزيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} وقال: اعمل ولا تيأس.
رواه ابن أبي حاتم- واللفظ له- وابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا موسى بن مروان الرِّقِّي، حدثنا عمر- يعني ابن أيوب- أخبرنا جعفر بن بَرْقان، عن يزيد بن الأصم قال: كان رجل من أهل الشام ذو بأس، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففقده عمر فقال: ما فعل فلان بن فلان؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، يتابع في هذا الشراب. قال: فدعا عمر كاتبه، فقال: اكتب: «من عمر بن الخطاب إلى فلان ابن فلان، سلام عليك، أما بعد: فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، غافر الذنب وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، لا إله إلا هو إليه المصير». ثم قال لأصحابه: ادعوا الله لأخيكم أن يُقْبِل بقلبه، وأن يتوب الله عليه. فلما بلغ الرجل كتابُ عمر جعل يقرؤه ويردده، ويقول: غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي.
ورواه الحافظ أبو نعيم من حديث جعفر بن برقان، وزاد: فلم يزل يُرَدّدها على نفسه، ثم بكى ثم نزع فأحسن النزع فلما بلغ عمر رضي الله عنه خبرهُ قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم أخاكم زل زلَّة فسددوه ووفقوه، وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمر بن شَبَّة، حدثنا حماد بن واقد- أبو عُمَر الصفار-، حدثنا ثابت البناني، قال: كنت مع مصعب بن الزبير في سواد الكوفة، فدخلت حائطًا أصلي ركعتين فافتتحت: {حم} المؤمن، حتى بلغت: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} فإذا رجل خلفي على بغلة شهباء عليه مُقَطَّعات يمنية فقال: إذا قلت: {غَافِرِ الذَّنْبِ} فقل: يا غافر الذنب، اغفر لي ذنبي.
وإذا قلت: {وَقَابِلِ التَّوْبِ}، فقل: يا قابل التوب، اقبل توبتي. وإذا قلت: {شَدِيدُ الْعِقَابِ}، فقل: يا شديد العقاب، لا تعاقبني. قال: فالتفت فلم أر أحدًا، فخرجت إلى الباب فقلت: مَرّ بكم رجل عليه مقطعات يمنية؟ قالوا: ما رأينا أحدًا فكانوا يُرَون أنه إلياس.
ثم رواه من طريق أخرى، عن ثابت، بنحوه. وليس فيه ذكر إلياس.

.تفسير الآيات (4- 6):

{مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)}
يقول تعالى: ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان {إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه، {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} أي: في أموالهم ونعيمها وزهرتها، كما قال: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران: 196، 197]، وقال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24].
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، بأن له أسوة من سلف من الأنبياء؛ فإنه قد كذبهم أممهم وخالفوهم، وما آمن بهم منهم إلا قليل، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} وهو أول رسول بَعَثه الله ينهى عن عبادة الأوثان، {وَالأحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي: من كل أمة، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي: حرصوا على قتله بكل ممكن، ومنهم من قتل رسوله، {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي: مَاحَلُوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي.
وقد قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا عارم أبو النعمان، حدثنا مُعْتَمِر ابن سليمان قال: سمعت أبي يحدث عن حَنَش، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أعان باطلا ليدحض بباطله حقًّا، فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله».
وقوله: {فَأَخَذْتُهُمْ} أي: أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام، {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} أي: فكيف بلغك عذابي لهم، ونكالي بهم؟ قد كان شديدًا موجعًا مؤلمًا.
قال قتادة: كان والله شديدًا.
وقوله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أي: كما حقت كلمةُ العذاب على الذين كفروا من الأمم السالفة، كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد بطريق الأولى والأحرى؛ لأن من كذبّك فلا وثوق له بتصديق غيرك.

.تفسير الآيات (7- 9):

{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)}
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حَمَلة العرش الأربعة، ومن حوله من الكروبيين، بأنهم يسبحون بحمد ربهم، أي: يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح، {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: خاشعون له أذلاء بين يديه، وأنهم {يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي: من أهل الأرض ممن آمن بالغيب، فقيض الله سبحانه ملائكته المقربين أن يَدْعُوا للمؤمنين بظهر الغيب، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، كانوا يُؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، كما ثبت في صحيح مسلم: «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك: آمين ولك بمثله».
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الله بن محمد- هو ابن أبي شيبة- حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صَدّق أمية في شيء من شعره، فقال:
رَجُلٌ وَثَور تَحْتَ رِجْل يَمينه ** وَالنَّسْرُ للأخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صدق». فقال:
وَالشمس تَطلعُ كل آخر لَيْلةٍ ** حَمْراءُ يُصْبحُ لَونُها يَتَوَرّدُ

تَأبَى فَما تَطلُع لَنَا في رِسْلها ** إلا معَذّبَة وَإلا تُجْلدَ

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صدق».
وهذا إسناد جيد: وهو يقتضي أن حملة العرش اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة كانوا ثمانية، كما قال تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17].
وهنا سؤال وهو أن يقال: ما الجمع بين المفهوم من هذه الآية، ودلالة هذا الحديث؟ وبين الحديث الذي رواه أبو داود:
حدثنا محمد بن الصباح البزار، حدثنا الوليد بن أبي ثور، عن سِماك، عن عبد الله بن عَمِيرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس بن عبد المطلب، قال: كنت بالبطحاء في عصابة فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت بهم سحابة، فنظر إليها فقال: «ما تسمون هذه؟» قالوا: السحاب. قال: «والمزن؟» قالوا: والمزن. قال: «والعَنَان؟» قالوا: والعنان- قال أبو داود: ولم أتقن العنان جيدًا- قال: «هل تدرون بُعْدَ ما بين السماء والأرض؟» قالوا: لا ندري. قال: «بُعد ما بينهما إما واحدة، أو اثنتان، أو ثلاث وسبعون سنة، ثم السماء فوقها كذلك» حتى عَدّ سبع سموات «ثم فوق السماء السابعة بحر، بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم فوق ذلك ثمانية أوْعَال، بين أظلافهن ورُكبهن مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم على ظهورهن العرش بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء، ثم الله، عز وجل، فوق ذلك» ثم رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه، من حديث سماك بن حرب، به.
وقال الترمذي: حسن غريب.
وهذا يقتضي أن حملة العرش ثمانية، كما قال شَهْر بن حَوْشَب: حملة العرش ثمانية، أربعة يقولون: «سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك». وأربعة يقولون: «سبحانك اللهم وبحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك».
ولهذا يقولون إذا استغفروا للذين آمنوا: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أي: إن رحمتك تَسَع ذنوبهم وخطاياهم، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم، {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي: فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا وأقلعوا عما كانوا فيه، واتبعوا ما أمرتهم به، من فعل الخيرات وترك المنكرات، {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي: وزحزحهم عن عذاب الجحيم، وهو العذاب الموجع الأليم.
{رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي: اجمع بينهم وبينهم، لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة، كما قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] أي: ساوينا بين الكل في المنزلة، لتقر أعينهم، وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني، بل رفعنا الناقص في العمل، فساويناه بكثير العمل، تفضلا منا ومنة.
قال سعيد بن جبير: إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه، وأين هم؟ فيقال: إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل فيقول: إني إنما عملت لي ولهم. فَيُلحَقُونَ به في الدرجة، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
قال مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير: أنصحُ عبادِ الله للمؤمنين الملائكةُ، ثم تلا هذه الآية: {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ} وأغشُّ عباد الله للمؤمنين الشياطينُ.
وقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: الذي لا يمانع ولا يغالب، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الحكيم في أقوالك وأفعالك، من شرعك وقدرك.
{وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} أي: فعلها أو وَبالها ممن وقعت منه، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ} أي: يوم القيامة، {فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي: لطفت به ونجيته من العقوبة، {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.