فصل: تفسير الآيات (121- 122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (116- 117):

{فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}
يقول تعالى: فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض.
وقوله: {إِلا قَلِيلا} أي: قد وجد منهم من هذا الضرب قليل، لم يكونوا كثيرا، وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غِيَره، وفجأة نِقَمه؛ ولهذا أمر تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، كما قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]. وفي الحديث: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيّروه، أوشك أن يَعُمَّهُم الله بعقاب»؛ ولهذا قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}.
وقوله: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي: استمروا على ما هم فيه من المعاصي والمنكرات، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك، حتى فَجَأهم العذابُ، {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ}.
ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ولم يأت قرية مصلحة بأسه وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين، كما قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101]، وقال {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46].

.تفسير الآيات (118- 119):

{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)}
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمة واحدة، من إيمان أو كفران كما قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا} [يونس: 99].
وقوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أي: ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم.
قال عكرمة: {مُخْتَلِفِينَ} في الهدى.
وقال الحسن البصري: {مُخْتَلِفِينَ} في الرزق، يُسخّر بعضهم بعضا، والمشهورُ الصحيح الأول.
وقوله: {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} أي: إلا المرحومين من أتباع الرسل، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين. أخبرتهم به رسل الله إليهم، ولم يزل ذلك دأبهم، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء، فاتبعوه وصدقوه، ونصروه ووازروه، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة؛ لأنهم الفرقة الناجية، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن، من طرق يشد بعضها بعضا: «إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقة واحدة». قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي».
رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة.
وقال عطاء: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يعني: اليهود والنصارى والمجوس {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يعني: الحنَيفيَّة.
وقال قتادة: أهلُ رحمة الله أهل الجماعة، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم.
وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال الحسن البصري- في رواية عنه-: وللاختلاف خَلَقهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: خلقهم فريقين، كقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105].
وقيل: للرحمة خلقهم. قال ابن وهب: أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نَجِيح، عن طاوس؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا فقال طاوس: اختلفتما فأكثرتما! فقال أحد الرجلين: لذلك خلقنا. فقال طاوس: كذبت. فقال: أليس الله يقول: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: لم يخلقهم ليختلفوا، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة. كما قال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة. ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
وقيل: بل المراد: وللرحمة والاختلاف خلقهم، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: الناس مختلفون على أديان شتى، {إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فمن رحم ربك غير مختلف. قيل له: فلذلك خلقهم؟ قال خلق هؤلاء لجنته، وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه.
وكذا قال عطاء بن أبي رَبَاح، والأعمش.
وقال ابن وَهْب: سألت مالكا عن قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: فريق في الجنة وفريق في السعير.
وقد اختار هذا القول ابن جرير، وأبو عبيدة والفراء.
وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قال: للرحمة، وقال قوم: للاختلاف.
وقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره، لعلمه التام وحكمته النافذة، أن ممن خلقه من يستحق الجنة، ومنهم من يستحق النار، وأنه لابد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس، وله الحجة البالغة والحكمة التامة. وفي الصحيحين عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اختصمت الجنة والنار، فقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم؟ وقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين. فقال الله عز وجل للجنة، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.
وقال للنار: أنت عذابي، أنتقم بك ممن أشاء، ولكل واحدة منكما ملؤها. فأما الجنة فلا يزال فيها فضل، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة، وأما النار فلا تزال تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع عليه ربّ العزة قَدمه، فتقول: قَطْ قط، وعزتك»
.

.تفسير الآية رقم (120):

{وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)}
يقول تعالى: وكل أخبار نقصها عليك، من أنباء الرسل المتقدمين قبلك مع أممهم، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين- كل هذا مما نثبت به فؤادك- يا محمد- أي: قلبك، ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسْوةً.
وقوله: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} أي: في هذه السورة. قاله ابن عباس، ومجاهد، وجماعة من السلف.
وعن الحسن- في رواية عنه- وقتادة: في هذه الدنيا.
والصحيح: في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء وكيف نَجّاهم الله والمؤمنين بهم، وأهلك الكافرين، جاءك فيها قَصَصُ حق، ونبأ صدق، وموعظة يرتدع بها الكافرون، وذكرى يتوقر بها المؤمنون.

.تفسير الآيات (121- 122):

{وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)}
يقول تعالى آمرا رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: على طريقتكم ومنهجكم، {إِنَّا عَامِلُونَ} أي: على طريقتنا ومنهجنا، {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} أي: فستعلمون من تكون له عاقبة الدار، إنه لا يفلح الظالمون.
وقد أنجز الله لرسوله وعده، ونصره وأيده، وجعل كلمته هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والله عزيز حكيم.

.تفسير الآية رقم (123):

{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)}
يخبر تعالى أنه عالم غيب السموات والأرض، وأنه إليه المرجع والمآب، وَسيُوَفِّى كل عامل عمله يوم الحساب، فله الخلق والأمر. فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه؛ فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه.
وقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي: ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد، بل هو عليم بأحوالهم وأقوالهم وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة، وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان، عن أبي عمران الجَوْني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب قال: خاتمة التوراة خاتمة هود والله أعلم تم تفسير سورة هود.

.سورة يوسف:

وهي مكية.
روى الثعلبي وغيره، من طريق سَلام بن سليم- ويقال: سليم- المدائني، وهو متروك، عن هارون بن كثير- وقد نصّ على جهالته أبو حاتم- عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «علموا أرقاءكم سورة يوسف، فإنه أيما مسلم تلاها، أو علمها أهله، أو ما ملكت يمينه، هَوَّن الله عليه سكرات الموت، وأعطاه من القوة ألا يحسد مسلما».
وهذا من هذا الوجه لا يصح، لضعف إسناده بالكلية. وقد ساقه له الحافظ ابن عساكر متابعا من طريق القاسم بن الحكم، عن هارون بن كثير، به- ومن طريق شَبَابة، عن مخلد بن عبد الواحد البصري عن علي بن زيد بن جدعان- وعن عطاء بن أبي ميمونة، عن زر بن حُبَيش، عن أُبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم- فذكر نحوه وهو منكر من سائر طرقه.
وروى البيهقي في الدلائل أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم. وهو من رواية الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)}
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة.
وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أي: هذه آيات الكتاب، وهو القرآن، {الْمُبِينِ} أي: الواضح الجلي، الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها.
{إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس؛ فلهذا أنزلَ أشرف الكتب بأشرف اللغات، على أشرف الرسل، بسفارة أشرف الملائكة، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو رمضان، فكمل من كل الوجوه؛ ولهذا قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن.
وقد وَرَدَ في سبب نزول هذه الآيات ما رواه ابن جرير:
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأوْدِيّ. حدثنا حكام الرازي، عن أيوب، عن عمرو- هو ابن قيس الملائي- عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا؟ فنزلت: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ}.
ورواه من وجه آخر، عن عمرو بن قيس مرسلا.
وقال أيضا: حدثنا محمد بن سعيد العطار، حدثنا عمرو بن محمد، أنبأنا خَلاد الصفار، عن عمرو بن قيس، عن عمرو بن مُرَّة، عن مصعب بن سعد عن عن سعد قال: أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، قال: فتلا عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو قصصتَ علينا. فأنزل الله عز وجل: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}. ثم تلا عليهم زمانا، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل: {اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} الآية [الزمر: 23]، وذكر الحديث.
ورواه الحاكم من حديث إسحاق بن رَاهَويه، عن عمرو بن محمد القرَشي العَنْقزي، به.
وروى ابن جرير بسنده، عن المسعودي، عن عَوْن بن عبد الله قال: مَلّ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَلّةَ، فقالوا: يا رسول الله، حَدثنا. فأنزل الله: {اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ثم مَلّوا ملة أخرى فقالوا: يا رسول الله، حدثنا فوق الحديث ودون القرآن- يعنون القصص- فأنزل الله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} فأرادوا الحديث، فدلَّهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص.
ومما يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة، المشتملة على مدح القرآن، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما قال الإمام أحمد:
حدثنا سُرَيْج بن النعمان، أخبرنا هُشَيْم، أنبأنا مجالد، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله؛ أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: «أمُتَهوكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذّبونه، أو بباطل فتصدقونه، والذي نفسي بيده، لو أن موسى كان حيا، لما وسعه إلا أن يتبعني».
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت قال: جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني مررت بأخ لي من قريظة، فكتب لي جوامع من التوراة، ألا أعرضها عليك؟ قال: فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله بن ثابت: فقلت له: ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. قال: فسُرِّي عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «والذي نفس محمد بيده، لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم، إنكم حَظِّي من الأمم، وأنا حظكم من النبيين».
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا عبد الغفار بن عبد الله بن الزبير، حدثنا علي بن مُسْهِر، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، عن خالد بن عُرْفَطة قال: كنت جالسا عند عمر، إذ أتي برجل من عبد القيس مسكنه بالسوس، فقال له عمر: أنت فلان بن فلان العبدي؟ قال: نعم. قال: وأنت النازل بالسوس، قال: نعم. فضربه بقناة معه، قال: فقال الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال له عمر: اجلس. فجلس، فقرأ عليه: {بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} إلى قوله: {لَمِنَ الْغَافِلِينَ} فقرأها ثلاثا، وضربه ثلاثا، فقال له الرجل: ما لي يا أمير المؤمنين؟ فقال: أنت الذي نسخت كتاب دانيال! قال: مرني بأمرك أتبعه. قال: انطلق فامحه بالحميم والصوف الأبيض، ثم لا تقْرأه ولا تُقرئه أحدا من الناس، فلئن بلغني عنك أنك قرأته أو أقرأته أحدا من الناس لأنهكنّك عقوبة، ثم قال له: اجلس، فجلس بين يديه، فقال: انطلقت أنا فانتسخت كتابا من أهل الكتاب، ثم جئت به في أديم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا في يدك يا عمر؟». قال: قلت: يا رسول الله، كتاب نسخته لنزداد به علما إلى علمنا. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرّت وجنتاه، ثم نودي بالصلاة جامعة، فقالت الأنصار: أغضب نبيكم صلى الله عليه وسلم؟ السلاح السلاح. فجاءوا حتى أحدقوا بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أيها الناس، إني قد أوتيت جوامع الكلم وخواتيمه، واختُصِر لي اختصارا، ولقد أتيتكم بها بيضاء نقية فلا تَتهوَّكوا، ولا يغرنكم المتهوِّكون». قال عمر: فقمت فقلت: رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا، وبك رسولا. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه ابن أبي حاتم في تفسيره مختصرا، من حديث عبد الرحمن بن إسحاق، به. وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وعبد الرحمن بن إسحاق هو أبو شَيبَة الواسطي، وقد ضعفوه وشيخه. قال البخاري: لا يصح حديثه.
قلت: وقد روي له شاهد من وجه آخر، فقال الحافظ أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي: أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا يعقوب بن سفيان، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي، حدثني عمرو بن الحارث، حدثنا عبد الله بن سالم الأشعري، عن الزبيدي، حدثنا سليم بن عامر: أن جُبَير بن نُفَير حَدّثهم: أن رجلين كانا بحمص في خلافة عمر، رضي الله عنه، فأرسل إليهما فيمن أرسل من أهل حمص، وكانا قد اكتتبا من اليهود صلاصفة فأخذاها معهما يستفتيان فيها أمير المؤمنين ويقولون: إن رضيها لنا أمير المؤمنين ازددنا فيها رغبة. وإن نهانا عنها رفضناها، فلما قدما عليه قالا إنا بأرض أهل الكتابين، وإنا نسمع منهم كلاما تقشعر منه جلودنا، أفنأخذ منه أو نترك؟ فقال: لعلكما كتبتما منه شيئا. قالا لا. قال: سأحدثكما، انطلقت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت خيبر، فوجدت يهوديا يقول قولا أعجبني، فقلت: هل أنت مكتبي ما تقول؟ قال: نعم. فأتيت بأديم، فأخذ يملي علي، حتى كتبت في الأكرُع. فلما رجعت قلت: يا نبي الله، وأخبرته، قال: «ائتني به». فانطلقت أرغب عن المشي رجاء أن أكون أتيت رسول الله ببعض ما يحب، فلما أتيت به قال: «اجلس اقرأ عليّ». فقرأت ساعة، ثم نظرت إلى وجهه فإذا هو يتلوّن، فتحيرت من الفَرق، فما استطعت أجيز منه حرفا، فلما رأى الذي بي دَفَعه ثم جعل يتبعه رسما رسما فيمحوه بريقه، وهو يقول: «لا تتبعوا هؤلاء، فإنهم قد هَوكوا وتَهَوَّكوا»، حتى محا آخره حرفًا حرفا. قال عمر، رضي الله عنه: فلو علمت أنكما كتبتما منه شيئًا جعلتكما نكالا لهذه الأمة! قالا والله ما نكتب منه شيئًا أبدا. فخرجا بصلاصفتهما فحفرا لها فلم يألُوا أن يعمِّقَا، ودفناها فكان آخر العهد منها.
وكذا روى الثوري، عن جابر بن يزيد الجُعْفي، عن الشعبي، عن عبد الله بن ثابت الأنصاري، عن عمر بن الخطاب، بنحوه وروى أبو داود في المراسيل، من حديث أبي قِلابة، عن عمر نحوه. والله أعلم.