فصل: تفسير الآيات (21- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (21- 22):

{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)}
يقول تعالى: أو لم يسر هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد {فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: من الأمم المكذبة بالأنبياء، ما حل بهم من العذاب والنكال مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة {وَآثَارًا فِي الأرْضِ} أي: أثروا في الأرض من البنايات والمعالم والديارات، ما لا يقدر عليه هؤلاء، كما قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الاحقاف: 26]، وقال {وَأَثَارُوا الأرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم: 9] أي: ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد، أخذهم الله بذنوبهم، وهي كفرهم برسلهم، {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أي: وما دفع عنهم عذاب الله أحد، ولا رده عنهم راد، ولا وقاهم واق.
ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها، فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي: بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات، {فَكَفَرُوا} أي: مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا، {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أي: أهلكهم ودمَّر عليهم وللكافرين أمثالها، {إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: ذو قوة عظيمة وبطش شديد، وهو {شَدِيدُ الْعِقَابِ} أي: عقابه أليم شديد وجيع. أعاذنا الله منه.

.تفسير الآيات (23- 27):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)}
يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه، ومبشرًا له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة، كما جرى لموسى بن عمران، فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات، والدلائل الواضحات؛ ولهذا قال: {بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} والسلطان هو: الحُجة والبرهان.
{إِلَى فِرْعَوْنَ} هو: ملك القبط بالديار المصرية، {وَهَامَانَ} وهو: وزيره في مملكته {وَقَارُونَ} وكان أكثر الناس في زمانه مالا وتجارة {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي: كذبوه وجعلوه ساحرًا مُمَخْرِقًا مموهًا كذابًا في أن الله أرسله. وهذه كقوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات 52، 53].
{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} أي: بالبرهان القاطع الدال على أن الله تعالى أرسله إليهم، {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} وهذا أمر ثان من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل. أما الأول: فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم، أو لمجموع الأمرين. وأما الأمر الثاني: فللعلة الثانية، لإهانة هذا الشعب، ولكي يتشاءموا بموسى، عليه السلام؛ ولهذا قالوا: {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129].
قال قتادة: هذا أمر بعد أمر.
قال الله تعالى: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي: وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا يُنصروا عليهم، إلا ذاهب وهالك في ضلال.
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} وهذا عَزْمٌ من فرعون- لعنه الله- على قتل موسى، عليه السلام، أي: قال لقومه: دعوني حتى أقتل لكم هذا، {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أي: لا أبالي منه. وهذا في غاية الجحد والتجهرم والعناد.
وقوله- قبحه الله-: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ} يعني: موسى، يخشى فرعون أن يُضِلَّ موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم. وهذا كما يقال في المثل: صار فرعون مُذَكِّرًا يعني: واعظا، يشفق على الناس من موسى، عليه السلام.
وقرأ الأكثرون: {أن يبدل دينكم وأن يُظهِر في الأرض الفساد} وقرأ آخرون: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ} وقرأ بعضهم: {يَظْهَر في الأرض الفسادُ} بالضم.
وقال موسى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} أي: لما بلغه قول فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} قال موسى: استجرتُ بالله وعُذْتُ به من شره وشر أمثاله؛ ولهذا قال: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أيها المخاطبون، {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} أي: عن الحق، مجرم، {لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ}.
ولهذا جاء في الحديث عن أبي موسى، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوما قال: «اللهم، إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم».

.تفسير الآيات (28- 29):

{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)}
المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان قبْطيًا من آل فرعون.
قال السدي: كان ابن عم فرعون، ويقال: إنه الذي نجا مع موسى. واختاره ابن جرير، وَرَدَّ قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيليًّا؛ لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه، وكف عن قتل موسى، عليه السلام، ولو كان إسرائيليًّا لأوشك أن يعاجل بالعقوبة؛ لأنه منهم.
وقال ابن جُرَيج عن ابن عباس: لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون، والذي قال: {يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] رواه ابن أبي حاتم.
وقد كان هذا الرجلُ يكتم إيمانه عن قومه القبط، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى}، فأخذت الرجل غضبة لله عز وجل، و«أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر»، كما ثبت بذلك الحديث، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون وهي قوله: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} أي: لأجل أن يقول ربي الله، اللهم إلا ما رواه البخاري في صحيحه حيث قال:
حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا الأوزاعي، حدثني يحيى بن أبي كثير، حدثني محمد بن إبراهيم التيمي، حدثني عروة بن الزبير قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء مما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عُقْبة بن أبي مُعَيط، فأخذ بمَنْكب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولَوَى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقًا شديدا، فأقبل أبو بكر، رضي الله عنه، فأخذ بمنكبة ودَفَع عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ}.
انفرد به البخاري من حديث الأوزاعي قال: وتابعه محمد بن إسحاق، عن يحيى بن عروة، عن أبيه، به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، حدثنا عَبْدة عن هشام- يعني ابن عروة- عن أبيه، عن عمرو بن العاص أنه سُئِل: ما أشد ما رأيت قريشًا بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: مر بهم ذات يوم فقالوا له: أنت تنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال: «أنا ذاك» فقاموا إليه، فأخذوا بمجامع ثيابه، فرأيتُ أبا بكر محتضنه من ورائه، وهو يصيح بأعلى صوته، وإن عينيه ليسيلان، وهو يقول: يا قوم، {أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} حتى فرغ من الآية كلها.
وهكذا رواه النسائي من حديث عبدة، فجعله من مسند عمرو بن العاص، رضي الله عنه.
وقوله: {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} أي: كيف تقتلون رجلا لكونه يقول: «ربي الله»، وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟ ثم تَنزل معهم في المخاطبة فقال: {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} يعني: إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به، فمن العقل والرأي التام والحزم أن تتركوه ونفسه، فلا تؤذوه، فإن يك كاذبا فإن الله سيجازيه على كذبه بالعقوبة في الدنيا والآخرة، وإن يك صادقا وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم، فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة، فمن الجائز عندكم أن يكون صادقا، فينبغي على هذا ألا تتعرضوا له، بل اتركوه وقومه يدعوهم ويتبعونه.
وهكذا أخبر الله تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه طلب من فرعون وقومه الموادعة في قوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ. أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ. وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ. وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ. وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان: 17- 21] وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش أن يتركوه يدعو إلى الله تعالى عباد الله، ولا يمسوه بسوء، وأن يصلوا ما بينه وبينهم من القرابة في ترك أذيته، قال الله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] أي: إلا ألا تؤذوني فيما بيني وبينكم من القرابة، فلا تؤذوني وتتركوا بيني وبين الناس. وعلى هذا وقعت الهدنة يوم الحديبية، وكان فتحًا مبينًا.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أي: لو كان هذا الذي يزعم أن الله أرسله إليكم كاذبا كما تزعمون، لكان أمره بينا، يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله، كانت تكون في غاية الاختلاف والاضطراب، وهذا نرى أمره سديدا ومنهجه مستقيما، ولو كان من المسرفين الكذابين لما هداه الله، وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله.
ثم قال المؤمن محذرًا قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرْضِ} أي: قد أنعم الله عليكم بهذا الملك والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض، فراعوا هذه النعمة بشكر الله، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله، {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} أي: لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر، ولا ترد عنا شيئا من بأس الله إن أرادنا بسوء.
{قَالَ فِرْعَوْنُ} لقومه، رادًّا على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد الذي كان أحق بالملك من فرعون: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} أي: ما أقول لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي وقد كذب فرعون، فإنه كان يتحقق صدق موسى فيما جاء به من الرسالة {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، وقال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
فقوله: {مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} كذب فيه وافترى، وخان الله ورسوله ورعيته، فغشهم وما نصحهم وكذا قوله: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي: وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد وقد كذب أيضا في ذلك، وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه، قال الله تعالى: {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97]، وقال تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [طه: 79]، وفي الحديث: «ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا لم يَرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام».

.تفسير الآيات (30- 35):

{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)}
هذا إخبار من الله، عز وجل، عن هذا الرجل الصالح، مؤمن آل فرعون: أنه حذر قومه بأس الله في الدنيا والآخرة فقال: {يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأحْزَابِ} أي: الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر، كقوم نوح وعاد وثمود، والذين من بعدهم من الأمم المكذبة، كيف حل بهم بأس الله، وما رده عنهم راد، ولا صده عنهم صاد.
{وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} أي: إنما أهلكهم الله بذنوبهم، وتكذيبهم رسله، ومخالفتهم أمره. فأنفذ فيهم قدره، ثم قال: {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} يعني: يوم القيامة، وسمي بذلك قال بعضهم: لما جاء في حديث الصور: إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر، وماجت وارتجت، فنظر الناس إلى ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضا.
وقال آخرون منهم الضحاك: بل ذلك إذا جيء بجهنم، ذهب الناس هِرَابا، فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر، وهو قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17]، وقوله {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].
وقد روي عن ابن عباس، والحسن، والضحاك: أنهم قرؤوا: {يوم التنادّ} بتشديد الدال من ند البعير: إذا شرد وذهب.
وقيل: لأن الميزان عنده ملك، وإذا وزن عمل العبد فرجح نادى بأعلى صوته: ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا. وإن خف عمله نادى: ألا قد شقي فلان بن فلان.
وقال قتادة: ينادي كل قوم بأعمالهم: ينادي أهل الجنة أهل الجنة، وأهل النار أهل النار.
وقيل: سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44]. ومناداة أهل النار أهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 50]، ولمناداة أصحاب الأعراف أهل الجنة وأهل النار، كما هو مذكور في سورة الأعراف.
واختار البغوي وغيره: أنه سمي بذلك لمجموع ذلك. وهو قول حسن جيد، والله أعلم.
وقوله: {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي: ذاهبين هاربين، {كَلا لا وَزَرَ. إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 11، 12]، ولهذا قال: {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي: ما لكم مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي: من أضله الله فلا هادي له غيره.
وقوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} يعني: أهل مصر، قد بعث الله فيهم رسولا من قبل موسى، وهو يوسف، عليه السلام، كان عزيز أهل مصر، وكان رسولا يدعو إلى الله أمته القبط، فما أطاعوه تلك الساعة إلا لمجرد الوزارة والجاه الدنيوي؛ ولهذا قال: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا} أي: يئستم فقلتم طامعين: {لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولا} وذلك لكفرهم وتكذيبهم {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي: كحالكم هذا.
ثم قال: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أي: الذين يدفعون الحق بالباطل، ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله، فإن الله يمقت على ذلك أشد المقت؛ ولهذا قال تعالى: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: والمؤمنون أيضا يُبغضُون من تكون هذه صفته، فإن من كانت هذه صفته، يطبع الله على قلبه، فلا يعرف بعد ذلك معروفًا، ولا ينكر منكرًا؛ ولهذا قال: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ} أي: على اتباع الحق {جَبَّارٍ}.
وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة- وحكي عن الشعبي- أنهما قالا لا يكون الإنسان جبارًا حتى يقتل نفسين.
وقال أبو عمران الجوني وقتادة: آية الجبابرة القتل بغير حق.