فصل: تفسير الآيات (27- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 21):

{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)}
يقول تعالى مخبرًا أنه مالك الضر والنفع، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء، لا مُعَقِّب لحكمه، ولا رَادَّ لقضائه: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كما قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} الآية [فاطر: 2] وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اللهم لا مانع لِما أَعْطَيْت، ولا معطِيَ لما مَنَعْتَ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ»؛ ولهذا قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} أي: هو الذي خضعت له الرقاب، وذلت له الجبابرة، وعنت له الوجوه، وقهر كل شيء ودانت له الخلائق، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته الأشياء، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره.
{وَهُوَ الْحَكِيمُ} أي: في جميع ما يفعله {الْخَبِيرُ} بمواضع الأشياء ومحالها، فلا يعطي إلا لمن يستحق ولا يمنع إلا من يستحق.
ثم قال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً} أي: من أعظم الأشياء شهادة {قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي: هو العالم بما جئتكم به، وما أنتم قائلون لي: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} أي: وهو نذير لكل من بلغه، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشَجّ، حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب في قوله: {وَمَنْ بَلَغَ} قال من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم- زاد أبو خالد: وكَلّمه.
ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «بلغوا عن الله، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بَلَغه أمر الله».
وقال الربيع بن أنس: حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ينذر كالذي أنذر.
وقوله: {أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ} أي أيها المشركون {أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ} كما قال تعالى: {فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ} [الأنعام: 150]، {قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}
ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب: إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وببعثه وصفتة، وبلده ومُهَاجَرِه، وصفة أمته؛ ولهذا قال بعد هذا: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} أي: خسروا كل الخسارة، {فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه.
ثم قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} أي: لا أظلم ممن تَقَوَّل على الله، فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته، {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} أي: لا يفلح هذا ولا هذا، لا المفتري ولا المكذب.

.تفسير الآيات (22- 26):

{وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)}
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا لهم {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} كما قال تعالى في سورة القصص: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الآية: 62].
وقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} أي: حجتهم.
وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس: أي: معذرتهم.
وكذا قال قتادة.
وقال ابن جريج، عن ابن عباس: أي قيلهم.
وكذا قال الضحاك.
وقال عطاء الخراساني: ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا {إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
وقال ابن جرير: والصواب ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله {إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو يحيى الرازي، عن عمرو بن أبي قيس، عن مُطَرِّف، عن المنهال، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال يا أبا عباس. سمعت الله يقول: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} قال: أما قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة، فقالوا: تعالوا فلنجحد، فيجحدون، فيختم الله على أفواههم، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا، فهل في قلبك الآن شيء؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل فيه شيء، ولكن لا تعلمون وجهه.
وقال الضحاك، عن ابن عباس: هذه في المنافقين.
وفي هذا نظر، فإن هذه الآية مكية، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18]، وهكذا قال في حق هؤلاء: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} كَمَا قَالَ {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر: 73، 74].
وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي: يجيؤوك ليسمعوا قراءتك، ولا تجزي عنهم شيئًا؛ لأن الله جعل {عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي: أغطية لئلا يفقهوا القرآن {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} أي: صمما عن السماع النافع، فَهُم كما قال تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171].
وقوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} أي: مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات، لا يؤمنوا بها. فلا فَهْم عندهم ولا إنصاف، كما قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23].
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} أي: ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم.
وقوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} وفي معنى {يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قولان: أحدهما: أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق، وتصديق الرسول، والانقياد للقرآن، وينسأون عنه أي: ويبتعدون هم عنه، فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يتركون أحدًا ينتفع ويتباعدون قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.
وقال محمد بن الحنفية: كان كفار قريش لا يأتون النبي- صلى الله عليه وسلم-، وينهون عنه.
وكذا قال مجاهد وقتادة، والضحاك، وغير واحد. وهذا القول أظهر، والله أعلم، وهو اختيار ابن جرير.
والقول الثاني: رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} قال: نزلت في أبي طالب كان ينهى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى.
وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ، وحبيب بن أبي ثابت، وعطاء بن دينار: إنها نزلت في أبي طالب.
وقال سعيد بن أبي هلال: نزلت في عمومة النبي، صلى الله عليه وسلم، وكانوا عشرة، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر. رواه ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن كعب القرظي: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} أي: ينهون الناس عن قتله.
وقوله: {وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} أي: يتباعدون منه {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} أي: وما يهلكون بهذا الصنيع، ولا يعود وباله إلا عليهم، وما يشعرون.

.تفسير الآيات (27- 30):

{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)}
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال، فعند ذلك قالوا {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا، ليعملوا عملا صالحا، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين.
قال تعالى: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} أي: بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة، وإن أنكروها، في الدنيا أو في الآخرة، كما قال قبل هذا بيسير {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}
ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت به الرسل في الدنيا، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه، كما قال تعالى مخبرًا عن موسى أنه قال لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ} الآية [الإسراء: 102]. قال تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون للناس الإيمان ويبطنون الكفر، ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار، ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت، فقال: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11]؛ وعلى هذا فيكون إخبارًا عن حال المنافقين في الدار الآخرة، حين يعاينون العذاب يظهر لهم حينئذ غب ما كانوا يبطنون من الكفر والشقاق والنفاق، والله أعلم.
وأما معنى الإضراب في قوله: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ} فَهُم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه جزاء ما كانوا عليه من الكفر، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار؛ ولهذا قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان.
ثم قال مخبرًا عنهم: إنهم لو ردّوا إلى الدار الدنيا، لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: في قولهم: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي: لعادوا لما نهوا عنه، إنهم لكاذبون ولقالوا: {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا} أي: ما هي إلا هذه الحياة الدنيا، ثم لا معاد بعدها؛ ولهذا قال: {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ}
ثم قال {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ} أي: أوقفوا بين يديه قال: {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} أي: أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون؟ {قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} أي: بما كنتم تكذبون به، فذوقوا اليوم مَسّه {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15]

.تفسير الآيات (31- 32):

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)}
يقول تعالى مخبرًا عن خَسَارة من كذب بلقاء الله وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة، وعن ندامته على ما فرط من العمل، وما أسلف من قبيح الفعال ولهذا قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا}
وهذا الضمير يحتمل عَوْدُه على الحياة الدنيا وعلى الأعمال، وعلى الدار الآخرة، أي: في أمرها.
وقوله {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} أي: يحملون.
وقال قتادة: يعملون.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو خالد، عن عمرو بن قيس، عن أبي مرزوق قال: ويُستقبل الكافر- أو: الفاجر- عند خروجه من قبره كأقبح صورة رآها وأنتن ريحًا، فيقول: من أنت؟ فيقول: أو ما تعرفني؟ فيقول: لا والله إلا أن الله قد قَبَّحَ وجهك ونَتَّن ريحك. فيقول: أنا عملك الخبيث، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه، طالما ركبتني في الدنيا، هلم أركبك، فهو قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}
وقال أسباط: عن السُّدِّي أنه قال: ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه، أسود اللون، منتن الرائحة عليه ثياب دنسة، حتى يدخل معه قبره، فإذا رآه قال: ما أقبح وجهك! قال: كذلك كان عملك قبيحًا قال: ما أنتن ريحك! قال: كذلك كان عملك منتنًا! قال: ما أدنس ثيابك، قال: فيقول: إن عملك كان دنسًا. قال له: من أنت؟ قال: أنا عملك! قال: فيكون معه في قبره، فإذا بعث يوم القيامة قال له: إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات، وأنت اليوم تحملني. قال: فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار، فذلك قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ}
وقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} أي: إنما غالبها كذلك {وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}