فصل: تفسير الآيات (32- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (23- 24):

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)}
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ثَنَّى بذكر السُّعَداء، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فآمنت قلوبهم وعَملت جوارحهم الأعمال الصالحة قولا وفعلا من الإتيان بالطاعات وترك المنكرات، وبهذا ورثوا الجنات، المشتملة على الغرف العاليات، والسرر المصفوفات، والقطوف الدانيات، والفرش المرتفعات، والحسان الخيرات، والفواكه المتنوعات، والمآكل المشتهيات والمشارب المستلذات، والنظر إلى خالق الأرض والسموات، وهم في ذلك خالدون، لا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون، وينامون ولا يتغطَّون، ولا يبصقون ولا يتمخطون، إن هو إلا رَشْحُ مِسك يعرقون.
ثم ضرب الله تعالى مثل الكافرين والمؤمنين، فقال: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ} أي: الذين وصفهم أولا بالشقاء والمؤمنين السُّعَداء، فأولئك كالأعمى والأصم، وهؤلاء كالبصير والسميع. فالكافر أعمى عن وجه الحق في الدنيا، وفي الآخرة لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه، أصم عن سماع الحجَج، فلا يسمع ما ينتفع به، {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال: 23]، وأما المؤمن ففَطِن ذكي لبيب، بصير بالحق، يميز بينه وبين الباطل، فيتبعُ الخير ويترك الشر، سميع للحجة، يفرق بينها وبين الشبهة، فلا يَرُوج عليه باطل، فهل يستوي هذا وهذا.
{أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أفلا تعتبرون وتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء، كما قال في الآية الأخرى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20] وقال {وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 19- 24].

.تفسير الآيات (25- 27):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)}
يخبر تعالى عن نوح، عليه السلام، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عَبَدة الأصنام أنه قال لقومه: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي: ظاهر النّذَارَة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله؛ ولهذا قال: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} وقوله {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عَذَّبكم الله عذابا أليما مُوجعًا شاقًا في الدار الآخرة.
{فَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} والملأ هم: السادة والكبراء من الكافرين منهم: {مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا} أي: لست بملك، ولكنك بشر، فكيف أوحي إليك من دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إلا أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن تَرَوّ منهم ولا فكرة ولا نظر، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك فاتبعوك؛ ولهذا قال: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} أي: في أول بادئ الرأي، {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} يقولون: ما رأينا لكم علينا فضيلة في خَلْق ولا خُلُق، ولا رزق ولا حال، لَمَّا دخلتم في دينكم هذا، {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} أي: فيما تَدَّعونه لكم من البر والصلاح والعبادة، والسعادة في الدار الآخرة إذا صرتم إليها.
هذا اعتراض الكافرين على نوح، عليه السلام، وأتباعه، وذلك دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم، فإنه ليس بعار على الحق رَذَالة من اتبعه، فإن الحق في نفسه صحيح، وسواء اتبعه الأشراف أو الأراذل بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف، ولو كانوا فقراء، والذين يأبونه هم الأراذل، ولو كانوا أغنياء. ثم الواقع غالبا أن ما يتبع الحق ضعفاء الناس، والغالب على الأشراف والكبراء مخالفته، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان صخر بن حرب عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم، قال له فيما قال: أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم. فقال هرقل: هم أتباع الرسل.
وقولهم {بَادِيَ الرَّأَي} ليس بمذمة ولا عيب؛ لأن الحق إذا وضح لا يبقى للتروي ولا للفكر مجال، بل لابد من اتباع الحق والحالة هذه لكل ذي زكاء وذكاء ولا يفكر وينزوي هاهنا إلا عَيِيّ أو غبي. والرسل، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، إنما جاءوا بأمر جلي واضح.
وقد جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كَبْوَة، غير أبي بكر، فإنه لم يَتَلَعْثَم» أي: ما تردد ولا تروَّى، لأنه رأى أمرا جليا عظيما واضحا، فبادر إليه وسارع.
وقولهم: {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} هم لا يرون ذلك؛ لأنهم عُمْي عن الحق، لا يسمعون ولا يبصرون: بل هم في ريبهم يترددون، في ظلمات الجهل يعمهون، وهم الأفاكون الكاذبون، الأقلون الأرذلون، وفي الآخرة هم الأخسرون.

.تفسير الآية رقم (28):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)}
يقول تعالى مخبرًا عن نوح ما ردَّ على قومه في ذلك: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على يقين وأمر جلي، ونبوة صادقة، وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم، {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: خفيت عليكم، فلم تهتدوا إليها، ولا عرفتم قدرها، بل بادرتم إلى تكذيبها وردها، {أَنُلْزِمْكُمُوهَا} أي: نَغْضبكم بقبولها وأنتم لها كارهون.

.تفسير الآيات (29- 30):

{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30)}
يقول لقومه: لا أسألكم على نصحي لكم مالا؛ أجرة آخذها منكم، إنما أبتغي الأجر من الله عز وجل، {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} كأنهم طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه، احتشاما ونفاسة منهم أن يجلسوا معهم، كما سأل أمثالهم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنهم جماعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلسا خاصا، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الأنعام: 52]، {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الآيات [الأنعام: 53].

.تفسير الآية رقم (31):

{وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)}
يخبرهم أنه رسول من الله، يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، بإذن الله له في ذلك، ولا يسألهم على ذلك أجرا، بل هو يدعو من لقيه من شريف ووضيع، فمن استجاب له فقد نجا. ويخبرهم أنه لا يَقدِر على التصرف في خزائن الله، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه، وليس هو بمَلك من الملائكة، بل بشر مرسل، مؤيد بالمعجزات. ولا أقولُ عن هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم: إنه ليس لهم عند الله ثواب على إيمانهم الله أعمل بما في أنفسهم، فإن كانوا مؤمنين باطنًا، كما هو الظاهر من حالهم، فلهم جزاء الحسنى، ولو قطع لهم أحد بشر بعد ما آمنوا، لكان ظالما قائلا ما لا علم له به.

.تفسير الآيات (32- 34):

{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)}
يقول تعالى مخبرًا عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه وسخطه، والبلاء موكل بالمنطق: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} أي: حاججتنا فأكثرت من ذلك، ونحن لا نتبعك {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} أي: من النقمة والعذاب، ادع علينا بما شئت، فليأتنا ما تدعو به، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي: إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يُعجِزُه شيء، {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} أي: أي شيء يُجدِي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي، إن كان الله يريد إغواءكم ودماركم، {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: هو مالك أزمة الأمور، والمتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور، له الخلق وله الأمر، وهو المبدئ المعيد، مالك الدنيا والآخرة.

.تفسير الآية رقم (35):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)}
هذا كلام معترض في وسط هذه القصة، مؤكد لها ومقرر بشأنها. يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: أم يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون: افترى هذا وافتعله من عنده {قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي: فإثم ذلك علي، {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي: ليس ذلك مفتعلا ولا مفترى، لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه.

.تفسير الآيات (36- 39):

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)}
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نُوح لما استعجل قومُه نقمة الله بهم وعذابه لهم، فدعا عليهم نوحُ دعوته التي قال الله تعالى مخبرًا عنه أنه قال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26]، {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، فعند ذلك أوحى الله تعالى إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ} فلا تحزن عليهم ولا يَهُمَّنك أمرهم.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ} يعني: السفينة {بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى منا، {وَوَحْيِنَا} أي: وتعليمنا لك ماذا تصنعه، {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}.
فقال بعض السلف: أمره الله تعالى أن يغرِز الخشب ويقطِّعه وييبسه، فكان ذلك في مائة سنة، ونَجَرها في مائة سنة أخرى، وقيل: في أربعين سنة، فالله أعلم.
وذكر محمد بن إسحاق عن التوراة: أن الله أمره أن يصنعها من خشب الساج، وأن يجعل طولها ثمانين ذراعا وعرضها خمسين ذراعا.
وأن يطلي باطنها وظاهرها بالقار، وأن يجعل لها جؤجؤا أزور يشق الماء.
وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، في عرض خمسين.
وعن الحسن: طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلاثمائة ذراع.
وعنه مع ابن عباس: طولها ألف ومائتا ذراع، في عرض ستمائة.
وقيل: طولها ألفا ذراع، وعرضها مائة ذراع، فالله أعلم.
قالوا كلهم: وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعا، ثلاث طبقات، كل طبقة عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش: والوسطى للإنس: والعليا للطيور. وكان بابها في عرضها، ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير أثرا غريبا، من حديث علي بن زيد بن جُدْعَان، عن يوسف بن مِهْران، عن عبد الله بن عباس؛ أنه قال: قال الحواريون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدّثنا عنها. قال: فانطلق بهم حتى أتى إلى كَثيب من تراب، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه، قال أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا كعب حام بن نوح. قال: وضرب الكثيب بعصاه، قال: قم بإذن الله فإذا هو قائم ينفُض التراب عن رأسه، قد شاب. قال له عيسى، عليه السلام: هكذا هلكت؟ قال: لا. ولكني متّ وأنا شابّ، ولكنني ظننت أنها الساعة، فمن ثمَّ شبت. قال: حدِّثنا عن سفينة نوح؟ قال: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدواب والوحوش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير، فلما كثر أرواث الدواب، أوحى الله عز وجل إلى نوح، عليه السلام، أن اغمز ذَنَب الفيل، فغمزه، فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الروث، فلما وقع الفأر بخَرَزِ السفينة يقرضه وحبالها، أوحى إلى نوح؛ أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخره سنَّور وسنورة، فأقبلا على الفأر. فقال له عيسى، عليه السلام: كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغراب يأتيه بالخبر، فوجد جيفة فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت قال: ثم بعث الحمامة، فجاءت بورق زيتون بمنقارها، وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غَرِقت. قال: فطوّقَها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان، فمن ثم تألف البيوت. قال: فقلنا: يا رسول الله، ألا ننطلق به إلى أهلينا فيجلس معنا ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عد بإذن الله، فعاد ترابا.
وقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} أي: يَطْنزون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق، {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وعيد شديد، وتهديد أكيد، {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: يهنه في الدنيا، {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي: دائم مستمر أبدا.