فصل: تفسير الآيات (37- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (36):

{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا (36)}
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له؛ فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: «أتَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد؟» قال: الله ورسوله أعلم. قال: «أن يَعْبدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئا»، ثم قال: «أتَدْري ما حَقُّ العبادِ عَلَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلك؟ ألا يُعَذِّبَهُم» ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين، فإن الله، سبحانه، جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيرا ما يقرنُ الله، سبحانه، بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، كقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14] وكقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23].
ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، كما جاء في الحديث: «الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصِلَةٌ».
ثم قال: {وَالْيَتَامَى} وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم، ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم.
ثم قال: {وَالْمَسَاكِينِ} وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم. وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة.
وقوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} قال علي بن أبي طَلْحَةَ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني الذي بينك وبينه قرابة، {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} الذي ليس بينك وبينه قرابة.
وكذا رُوِيَ عن عِكْرِمةَ، ومُجَاهد، وميمون بنِ مهْرانَ، والضحاك، وزيد بْنِ أَسْلَمَ، ومقاتل بن حيَّان، وقتادة.
وقال أبو إسحاق عن نَوْف البِكَالِي في قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني المسلم {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني اليهودي والنصراني رواه ابنُ جَريرٍ، وابنُ أبي حَاتم.
وقال جَابِرٌ الْجُعْفِيّ، عن الشعبي، عن علي وابنِ مسعود: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} يعني المرأة.
وقال مُجَاهِد أيضا في قوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ} يعني الرفيق في السفر.
وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار، فنذكر منها ما تيسر، والله المستعان:
الحديث الأول: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن عمر بن محمد بن زيد: أنه سمع أباه محمدًا يحدث، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما زال جِبرِيل يوصيني بالْجَارِ حَتِّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِثُه».
أخرجاه في الصحيح من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر، به.
الحديث الثاني: قال الإمامُ أحمدُ: حدثنا سُفْيَانُ، عن داودَ بنِ شَابُورٍ، عن مجاهد، عن عبد الله بن عَمْرٍو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالْجَارِ حتى ظننْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ».
وروى أبو داود والترمذي نحوه، من حديث سفيان بن عيينة، عن بَشِيرِ أبي إسْمَاعيلَ- زاد الترمذي: وداود بن شابور- كلاهما عن مجاهد، به ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه وقد رُوي عن مجاهد عن عائشةَ وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثالث عنه: قال أحمد أيضا: حدثنا عبد الله بن يَزِيد، أخبرنا حَيْوةُ، أخبرنا شَرْحَبِيلُ بنُ شُرَيكٍ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بْنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خَيْرُ الأصْحَابِ عِندَ اللهِ خَيْرُهُم لِصَاحِبِهِ، وخَيْرُ الجِيرانِ عند اللهِ خيرهم لِجَارِهِ».
ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح- به، وقال: حديث حسن غريب.
الحديث الرابع: قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عن عُمَر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَشْبَعُ الرجل دون جَارِهِ».
تفرد به أحمد.
الحديث الخامس: قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري، سمعت أبا ظَبْية الكَلاعِيّ، سمعت المقدادَ بن الأسود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «ما تقولون في الزنا؟» قالوا: حرام حَرَّمَهُ اللهُ ورسُولُه، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «لأنْ يَزني الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَة، أَيْسَرُ عليه من أَن يزنيَ بامرَأَةِ جَارِهِ». قال: ما تقولون في السَّرِقَة؟ قالوا: حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فهي حرام. قال: «لأن يَسْرِقَ الرجل مِن عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرِقَ مِنْ جَارِهِ».
تفرد به أحمد وله شاهد في الصحيحين من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ: قلت: يا رسول الله، أيُّ الذَّنْب أَعْظَمُ؟ قَالَ: «أن تجعل لله نِدًّا وهُوَ خَلَقَكَ». قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قال: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَن يُطْعَم معك». قُلتُ: ثُمَّ أيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تُزَاني حَليلةَ جَارِكَ».
الحديث السادس: قال الإمامُ أحمد: حدثنا يَزِيدُ، أخبرنا هِشَامُ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أبِي الْعَالية، عَنْ رَجُلٍ من الأنصار قال: خَرَجْتُ من أهلي أريدُ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذَا به قَائِمٌ ورجل مَعَهُ مُقْبِل عَليه، فَظَنَنْتُ أَنَّ لهما حَاجة- قَالَ الأنْصَارِيُّ: لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أَرْثِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من طُولِ الْقِيَامِ، فَلمَّا انْصَرفَ قُلْتُ: يا رسول الله، لقد قام بك هذا الرَّجُلُ حتى جَعَلْتُ أَرْثِي لَك من طُولِ الْقِيَامِ. قال: «وَلَقَدْ رَأَيتَه؟» قُلتُ: نعم. قَالَ: «أَتَدْرِي مَن هُوَ؟» قُلْتُ: لا. قَال: «ذَاكَ جِبْرِيِلُ، ما زال يُوصِينِي بِالجِارِ حتى ظَنَنْتُ أَنَّه سَيُورثُه. ثُمَّ قال: أَمَا إِنَّك لَو سَلَّمْتَ عليه، رد عليك السلام».
الحديث السابع: قال عبد بن حُمَيْدٍ في مسنده: حدثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْد، حدثنا أَبُو بَكْرٍ- يعني الْمدَنيّ- عن جابر بن عبد الله قال: جاء رجل من الْعَوَالِي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجِبْرِيلُ عليه السلام يُصَلِّيانِ حَيْثُ يُصَلَّى على الْجَنائِز، فلما انصرف قال الرجل: يا رسولَ الله، من هذا الرجل الذي رأيت معك؟ قال: «وقد رأيْتَه؟» قال: نعم. قال: «لقد رأَيْتَ خَيْرًا كثيرًا، هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بالجار حتى رُئِيت أَنَّه سَيُورثُه».
تفرد به من هذا الوجه وهو شاهد للذي قبله.
الحديث الثامن: قال أبو بكر البزار: حدثنا عبيد الله بن محمد أبو الرَّبِيعِ الْحَارِثِيّ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْن أَبِي فُدَيْك، أخبرني عبد الرَّحمن بنُ الْفَضل عن عَطَاء الخَراساني، عن الحسن، عن جابر بنِ عَبْدِ الله قال: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الجِيرانُ ثَلاثَةٌ: جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقًّا، وجار له حقَّان، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقا، فأما الذي له حق واحد فجار مُشْرِكٌ لا رَحمَ لَهُ، لَهُ حق الجَوار. وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، له حق الإسلام وحق الْجِوارِ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حق الجوار وحق الإسلام وحَقُّ الرحِمِ».
قال البَزَّارُ: لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الْفُضَيْل إلا ابْنُ أَبِي فُدَيْك.
الحديث التاسع: قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن أبي عِمْرَانَ، عنْ طَلْحَةَ بنِ عَبْد اللهِ، عن عائشة؛ أنها سألت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالت: إنَّ لي جَارَيْنِ، فإلى أيِّهِمَا أُهْدِي؟ قَالَ: «إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا».
ورواه البخاري من حديث شعبة، به.
وقوله: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} قال الثوريُّ، عن جابر الْجُعْفِي، عن الشَّعبي، عن علي وابنِ مسعودٍ قالا هي المرأة.
وقال ابن أبي حاتم: ورُويَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى، وإبراهيم النَّخَعِيّ، والحسن، وسعيد بن جُبَير- في إحدى الروايات- نحوُ ذلك.
وقال ابن عباس ومجاهدٌ، وعِكْرِمَةُ، وقَتَادةُ: هو الرفيق في السفر.
وقال سعيد بن جُبَيْرٍ: هو الرفيق الصالح.
وقال زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ: هو جليسك في الحضر، ورفيقك في السفر.
وأما {ابْنِ السَّبِيلِ} فعن ابن عباس وجماعة هو: الضيف.
وقال مجاهد، وأبو جَعْفَرٍ الباقرُ، والحسنُ، والضحاكُ، ومقاتلُ: هو الذي يمر عليك مجتازًا في السفر.
وهذا أظهر، وإن كان مراد القائل بالضيف: المار في الطريق، فهما سواء. وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة، وبالله الثقة وعليه التكلان.
وقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وصية بالأرقاء؛ لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يُوصِي أُمَّتَه في مرضِ الموت يقول: «الصلاةَ الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكُم». فجعل يُرَدِّدُها حتى ما يَفِيضُ بها لسانه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إبراهيم بن أبي العباس، حدثنا بَقِيّة، حدثنا بَحِيرُ بن سعد، عن خالد بن مَعْدَان، عن الْمِقْدَامِ بن مَعْدِ يكَرِب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أطعمت نَفْسَك فهو لك صدقةٌ، وما أطعمتَ وَلَدَكَ فهو لك صدقة، وما أطعمت زَوْجَتَكَ فهو لك صَدَقَةٌ، ومَا أطعَمْتَ خَادِمَكَ فهو لَك صَدَقَهٌ».
ورواه النسائي من حديث بَقِيَّة، وإسناده صحيح ولله الحمد.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لِقَهْرَمَانَ له: هل أعطيت الرقيق قُوتَهم؟ قال: لا. قال: فانطلق فأعطهم؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم». رواه مسلم.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «للمملوك طعامه وكِسْوتُه، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يُطيق». رواه مسلم أيضا.
وعنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه، فليناوله لقمةً أو لقمتين أو أكْلَةً أو أكْلَتين، فإنه وَليَ حَرّه وعلاجه».
أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم: «فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مَشْفُوها قليلا فَلْيضع في يده أكلة أو أكلتين».
وعن أبي ذر، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هم إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم، فأعينوهم». أخرجاه.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} أي: مختالا في نفسه، معجبا متكبرا، فخورا على الناس، يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض.
قال مجاهد في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا} يعني: متكبرا {فَخُورًا} يعني: يَعُد ما أعطي، وهو لا يشكر الله، عز وجل. يعني: يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه، وهو قليل الشكر لله على ذلك.
وقال ابن جرير: حدثني القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كَثيرٍ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا- وتلا {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا- وتلا {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم: 32].
وروى ابن أبي حاتم، عن العوام بن حَوْشَبٍ، مثله في المختال الفخور. وقال:
حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا الأسود بن شَيْبَان، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال: قال مُطَرِّف: كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه، فلقيته فقلت: يا أبا ذر، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم: «إن الله يحب ثلاثة ويُبْغض ثلاثة؟» قال: أجل، فلا إخالنى أكذب على خليلي، ثلاثا. قلت: من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال: المختال الفخور، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل؟ ثم قرأ الآية: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا} [النساء: 36].
وحدثنا أبي، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا وُهَيْبُ عن خالد، عن أبي تَمِيمَةَ عن رجل من بَلْهُجَيم قال: قلت يا رسول الله، أوصني. قال: «إياك وإسبالَ الإزار، فإن إسبال الإزار من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المَخِيلة».

.تفسير الآيات (37- 39):

{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)}
يقول تعالى ذامًّا الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به- من بر الوالدين، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين، والجار ذي القربى، والجار الجُنُب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء- ولا يدفعون حق الله فيها، ويأمرون الناس بالبخل أيضا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وأي داء أَدْوَأ من البخل؟». وقال: «إياكم والشّحَ، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعةِ فقطعوا، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا».
وقوله: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فالبخيل جَحُود لنعمة الله عليه لا تظهر عليه ولا تبين، لا في أكله ولا في ملبسه، ولا في إعطائه وبذله، كما قال تعالى: {إِنَّ الإنْسَاَن لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 6، 7] أي: بحاله وشمائله، {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] وقال هاهنا: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} ولهذا توعَّدهم بقوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها، فهو كافر لنعم الله عليه.
وفي الحديث: «إن الله إذا أنعم نعمةً على عبدٍ أحبَّ أن يَظْهَرَ أثرُها عليه» وفي الدعاء النبوي: «واجعلنا شاكرين لنعمتك، مثنين بها عليك قابليها- ويروى: قائليها- وأتممها علينا».
وقد حمل بعضُ السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم، من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك؛ ولهذا قال: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} رواه ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس. وقاله مجاهد وغير واحد.
ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب والضعفاء، وكذا الآية التي بعدها، وهي قوله: {والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ} فَذَكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يُمدَحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي حديث الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تُسَجَّرُ بهم النار، وهم: العالم والغازي والمنفق، والمراءون بأعمالهم، يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله: كذبت؛ إنما أردت أن يقال: جواد فقد قيل. أي: فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك.
وفي الحديث: أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعَدِيّ: «إن أباك رامَ أمرًا فبلغه».
وفي حديث آخر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جُدعان: هل ينفعه إنفاقُه، وإعتاقُه؟ فقال: «لا إنه لم يقل يوما من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين».
ولهذا قال: {وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} أي: إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيحِ وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطانُ؛ فإنه سَوَّلَ لهم وأملى لهم، وقارنهم فحسّن لهم القبائح {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} ولهذا قال الشاعر:
عَن المَرْء لا تَسْأل وسَلْ عن قَرينه ** فكلُّ قرين بالمقارن يَقْتَدي

ثم قال تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} أي: وأيّ شيء يَكرثُهم لو سلكوا الطريق الحميدة، وعَدَلُوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا} أي: وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي، الذي مَنْ طُرِدَ عن بابه فقد خاب وخَسِرَ في الدنيا والآخرة، عياذا بالله من ذلك بلطفه الجزيل.