فصل: تفسير الآيات (57- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (57- 58):

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}
يقول تعالى: متهددا ومتوعدا مَنْ آذاه، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره وإصراره على ذلك، وأذَى رسوله بعيب أو تنقص، عياذا بالله من ذلك.
قال عِكْرِمة في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}: نزلت في المصوّرين.
وفي الصحيحين، من حديث سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيَّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله، عز وجل: يؤذيني ابن آدم، يَسُبّ الدهر، وأنا الدهر، أقلب ليله ونهاره».
ومعنى هذا: أن الجاهلية كانوا يقولون: يا خيبة الدهر، فعل بنا كذا وكذا. فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر، ويسبونه، وإنما الفاعل لذلك هو الله، عز وجل، فنهى عن ذلك. هكذا قرره الشافعي وأبو عبيد وغيرهما من العلماء، رحمهم الله.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله: {يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}: نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزويجه صفية بنت حُيَي بن أخطب.
والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء، ومن آذاه فقد آذى الله، ومن أطاعه فقد أطاع الله، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا يونس، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن عَبيدة بن أبي رائطة الحذاء التميمي، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن المغفل المزني قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غَرَضا بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه».
وقد رواه الترمذي من حديث عَبيدة بن أبي رائطة، عن عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الله بن المغفل، به. ثم قال: وهذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي: ينسبون إليهم ما هم بُرَآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه، {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وهذا هو البهت البين أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه، على سبيل العيب والتنقص لهم، ومَنْ أكثر مَنْ يدخل في هذا الوعيد الكفرةُ بالله ورسوله، ثم الرافضة الذين يتنقصون الصحابة ويعيبونهم بما قد بَرَّأهم الله منه، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم؛ فإن الله، عز وجل، قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبدا، فهم في الحقيقة منكوسو القلوب يذمون الممدوحين، ويمدحون المذمومين.
وقال أبو داود: حدثنا القَعْنَبِيّ، حدثنا عبد العزيز- يعني: ابن محمد- عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أنه قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: «ذكرُكَ أخاك بما يكره». قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه».
وهكذا رواه الترمذي، عن قتيبة، عن الدراوردي، به. قال: حسن صحيح.
وقد قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا معاوية بن هشام، عن عمار بن أنس، عن ابن أبي مُلَيْكَة، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أيُّ الربا أربى عند الله؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «أربى الربا عند الله استحلالُ عرض امرئ مسلم»، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا}.

.تفسير الآيات (59- 62):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا (62)}.
يقول تعالى آمرا رسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما، أن يأمر النساء المؤمنات- خاصة أزواجه وبناته لشرفهن- بأن يدنين عليهن من جلابيبهن، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية وسمات الإماء. والجلباب هو: الرداء فوق الخمار. قاله ابن مسعود، وعبيدة، وقتادة، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، وإبراهيم النخعي، وعطاء الخراساني، وغير واحد. وهو بمنزلة الإزار اليوم.
قاله الجوهري: الجلباب: الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا لها:
تَمْشي النُّسور إليه وَهْيَ لاهيةٌ ** مَشْيَ العَذَارى عَلَيْهِنَّ الجَلابيبُ

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب، ويبدين عينًا واحدة.
وقال محمد بن سيرين: سألت عَبيدةَ السّلماني عن قول الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}، فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى.
وقال عكرمة: تغطي ثُغْرَة نحرها بجلبابها تدنيه عليها.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرنا أبو عبد الله الظَّهراني فيما كتب إليّ، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن ابن خُثَيْم، عن صفية بنت شيبة، عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة، وعليهن أكسية سود يلبسنها.
وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثني الليث، حدثنا يونس بن يزيد قال: وسألناه يعني: الزهري-: هل على الوليدة خمار متزوجة أو غير متزوجة؟ قال: عليها الخمار إن كانت متزوجة، وتنهى عن الجلباب لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر إلا محصنات. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ}.
وروي عن سفيان الثوري أنه قال: لا بأس بالنظر إلى زينة نساء أهل الذمة، إنما ينهى عن ذلك لخوف الفتنة؛ لا لحرمتهن، واستدل بقوله تعالى: {وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ}.
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} أي: إذا فعلن ذلك عُرِفْنَ أنَّهن حرائر، لسن بإماء ولا عواهر، قال السدي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} قال: كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة، يتعرضون للنساء، وكانت مساكن أهل المدينة ضَيِّقة، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطرق يقضين حاجتهن، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهن، فإذا رأوا امرأة عليها جلباب قالوا: هذه حرة، كفوا عنها. وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب، قالوا: هذه أمة. فوثبوا إليها.
وقال مجاهد: يتجلببن فيعلم أنهن حرائر، فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة.
وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي: لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك.
ثم قال تعالى متوعدًا للمنافقين، وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر: {وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال عكرمة وغيره: هم الزناة هاهنا {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} يعني: الذين يقولون: جاء الأعداء وجاءت الحروب، وهو كذب وافتراء، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي: لنسلطنَّك عليهم.
وقال قتادة، رحمه الله: لنحرّشَنَّك بهم.
وقال السدي: لنعلمنك بهم.
{ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا} أي: في المدينة {إِلا قَلِيلا * مَلْعُونِينَ} حال منهم في مدة إقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين، {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} أي: وجدوا، {أُخِذُوا} لذلتهم وقلتهم، {وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا}.
ثم قال: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي: هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ولم يرجعوا عما هم فيه، أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} أي: وسنة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير.

.تفسير الآيات (63- 68):

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}.
يقول تعالى مخبرا لرسوله صلى الله عليه وسلم: أنه لا علم له بالساعة، وإن سأله الناس عن ذلك. وأرشده أن يرد علمها إلى الله، عز وجل، كما قال له في سورة الأعراف، وهي مكية وهذه مدنية، فاستمر الحال في رَدّ علمها إلى الذي يقيمها، لكن أخبره أنها قريبة بقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}، كَمَا قَالَ: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَر} [القمر: 1]، وقال {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُون} [الأنبياء: 1]، وقال {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1].
ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} أي: أبعدهم عن رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} أي: في الدار الآخرة.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي: ماكثين مستمرين، فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها، {لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي: وليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه.
ثم قال: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} أي: يسحبون في النار على وجوههم، وتلوى وجوههم على جهنم، يقولون وهم كذلك، يتمنون أن لو كانوا في الدار الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول، كما أخبر الله عنهم في حال العرصات بقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا. يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنْسَانِ خَذُولا} [الفرقان: 27- 29]، وقال تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2]، وهكذا أخبر عنهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله، وأطاعوا الرسول في الدنيا.
{وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}.
وقال طاوس: سادتنا: يعني الأشراف، وكبراءنا: يعني العلماء. رواه ابن أبي حاتم.
أي: اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة، وخالفنا الرسل واعتقدنا أن عندهم شيئا، وأنهم على شيء فإذا هم ليسوا على شيء.
{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} أي: بكفرهم وإغوائهم إيانا، {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}. قرأ بعض القراء بالباء الموحدة. وقرأ آخرون بالثاء المثلثة، وهما قريبا المعنى، كما في حديث عبد الله بن عمرو: أن أبا بكر قال: يا رسول الله، علمني دعاء أدعو به في صلاتي. قال: «قل: اللهم، إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم». أخرجاه في الصحيحين، يُروى: «كبيرا» و«كثيرا»، وكلاهما بمعنى صحيح.
واستحب بعضهم أن يجمع الداعي بين اللفظين في دعائه، وفي ذلك نظر، بل الأولى أن يقول هذا تارة، وهذا تارة، كما أن القارئ مخير بين القراءتين أيتهما قرأ فَحَسَن، وليس له الجمع بينهما، والله أعلم.
وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا ضِرَار بن صُرَد، حدثنا علي بن هاشم، عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه، في تسمية مَنْ شهد مع علي، رضي الله عنه: الحجاج بن عمرو بن غَزيَّة، وهو الذي كان يقول عند اللقاء: يا معشر الأنصار، أتريدون أن تقولوا لربنا إذا لقيناه: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}؟.

.تفسير الآية رقم (69):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)}.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا عوف، عن الحسن ومحمد وخلاس، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن موسى كان رجلا حَيِيا، وذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}.
هكذا أورد هذا الحديث هاهنا مختصرًا جدًا، وقد رواه في (أحاديث الأنبياء) بهذا السند بعينه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن موسى، عليه السلام، كان رجلا حَيِيا سِتِّيرا، لا يُرَى من جلده شَيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيب بجلده، إما برص وإما أدْرَة وإما آفة، وإن الله، عز وجل، أراد أن يُبرئَه مما قالوا لموسى عليه السلام، فخلا يوما وحده، فخلع ثيابه على حجر، ثم اغتسل، فلمَّا فرغ أقبل إلى ثيابه ليأخذها، وإن الحجر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر، فجعل يقول: ثوبي حَجَر، ثوبي حَجَر، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل، فرأوه عُريانا أحسن ما خلق الله، عز وجل، وأبرأه مما يقولون، وقام الحجر، فأخذ ثوبَه فلبسه، وطَفقَ بالحجر ضربًا بعصاه، فوالله إن بالحجر لَنَدبًا من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا- قال: فذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيها}».
وهذا سياق حسن مطول، وهذا الحديث من أفراد البخاري دون مسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا روح، حدثنا عوف، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم- وخلاس، ومحمد، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن موسى كان رجلا حَيِيا ستِّيرا، لا يكاد يُرَى من جلده شَيء استحياء منه».
ثم ساق الحديث كما رواه البخاري مطولا ورواه في تفسيره. عن روح، عن عوف، به.
ورواه ابن جرير من حديث الثوري، عن جابر الجعفي، عن عامر الشعبي، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو هذا.
وهكذا رواه من حديث سليمان بن مِهْرَان الأعمش، عن المنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، وعبد الله بن الحارث، عن ابن عباس في قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} قال: قال قومه له: إنك آدر. فخرج ذات يوم يغتسل، فوضع ثيابه على صخرة، فخرجت الصخرة تشتد بثيابه، وخرج يتبعها عريانا حتى انتهت به مجالس بني إسرائيل، قال: فرأوه ليس بآدر، فذلك قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا}.
وهكذا رواه العوفي، عن ابن عباس سواء.
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا روح بن حاتم وأحمد بن المعلى الآدميّ قالا حدثنا يحيى بن حماد، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كان موسى، عليه السلام، رجلا حَيِيا، وإنه أتى- أحسبه قال: الماء- ليغتسل، فوضع ثيابه على صخرة، وكان لا يكاد تبدو عورته، فقال بنو إسرائيل: إن موسى آدر- أو: به آفة، يعنون: أنه لا يضع ثيابه- فاحتملت الصخرة ثيابه حتى صارت بحذاء مجالس بني إسرائيل، فنظروا إلى موسى كأحسن الرجال، أو كما قال، فذلك قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا}».
وقال ابن أبي حاتم، حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن سليمان، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، حدثنا الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، في قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} قال: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، عليه السلام، فقال بنو إسرائيل لموسى، عليه السلام: أنت قتلته، كان ألين لنا منك وأشد حياء. فآذوه من ذلك، فأمر الله الملائكة فحملته، فمروا به على مجالس بني إسرائيل، فتكلمت بموته، فما عرف موضع قبره إلا الرَّخَم، وإن الله جعله أصم أبكم.
وهكذا رواه ابن جرير، عن علي بن موسى الطوسي، عن عباد بن العوام، به.
ثم قال: وجائز أن يكون هذا هو المراد بالأذى، وجائز أن يكون الأول هو المراد، فلا قول أولى من قول الله، عز وجل.
قلت: يحتمل أن يكون الكل مرادا، وأن يكون معه غيره، والله أعلم.
قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن عبد الله قال: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسما، فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله. قال: فقلت: يا عدو الله، أما لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت. قال: فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمرَّ وجهه، ثم قال: «رحمة الله على موسى، فقد أوذي بأكثر من هذا فصبر».
أخرجاه في الصحيحين من حديث سليمان بن مهران الأعمش، به.
طريق أخرى: قال الإمام أحمد: حدثنا حجاج، سمعت إسرائيل بن يونس، عن الوليد بن أبي هاشم- مولى الهمداني، عن زيد بن زائد، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «لا يبلِّغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر». فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالٌ فقسمه، قال: فمررت برجلين وأحدهما يقول لصاحبه: والله ما أراد محمد بقسمته وجه الله ولا الدار الآخرة. قال: فَتَثَبَّتُ حتى سمعت ما قالا ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، إنك قلت لنا: «لا يبلغني أحد عن أصحابي شيئا»، وإني مررت بفلان وفلان، وهما يقولان كذا وكذا. فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وشَقَّ عليه، ثم قال: «دعنا منك، لقد أوذي موسى بأكثر من هذا، فصبر».
وقد رواه أبو داود في الأدب، عن محمد بن يحيى الذُّهْلي، عن محمد بن يوسف الفريابي، عن إسرائيل عن الوليد بن أبي هاشم به مختصرًا: «لا يبلغني أحد من أصحابي عن أحد شيئا؛ إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر».
وكذا رواه الترمذي في (المناقب)، عن الذهلي سواء، إلا أنه قال: زيد بن زائدة.
ورواه أيضا عن محمد بن إسماعيل، عن عبد الله بن محمد، عن عبيد الله بن موسى وحسين بن محمد كلاهما عن إسرائيل، عن السدي، عن الوليد بن أبي هاشم، به مختصرا أيضا، فزاد في إسناده السدي، ثم قال: غريب من هذا الوجه.
وقوله: {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} أي: له وجاهة وجاه عند ربه، عز وجل.
قال الحسن البصري: كان مستجابَ الدعوة عند الله.
وقال غيره من السلف: لم يسأل الله شيئا إلا أعطاه. ولكن منع الرؤية لما يشاء الله، عز وجل.
وقال بعضهم: من وجاهته العظيمة عند الله: أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه، فأجاب الله سؤاله، وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53].