فصل: تفسير الآيات (66- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (64- 65):

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا (65)}
يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ} أي: فرضت طاعته على من أرسله إليهم وقوله: {بِإِذْنِ اللَّهِ} قال مجاهد: أي لا يطيع أحد إلا بإذني. يعني: لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك، كقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 52] أي: عن أمره وقدره ومشيئته، وتسليطه إياكم عليهم.
وقوله: {وَلَوْ أَنْهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده، ويسألوه أن يستغفر لهم، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم، ولهذا قال: {لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}
وقد ذكر جماعة منهم: الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العُتْبي، قال: كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله، سمعت الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:
يا خيرَ من دُفنَت بالقاع أعظُمُه ** فطاب منْ طيبهنّ القاعُ والأكَمُ

نَفْسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه ** فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ

ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال: يا عُتْبى، الحقْ الأعرابيّ فبشره أن الله قد غفر له.
وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة: أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا؛ ولهذا قال: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي: إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة، كما ورد في الحديث: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».
وقال البخاري: حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة قال: خاصم الزبير رجلا في شُرَيج من الحَرَّة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زُبير ثم أرْسل الماء إلى جارك» فقال الأنصاري: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟ فَتَلَوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، ثم أرسل الماء إلى جارك» واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه في صريح الحكم، حين أحفظه الأنصاري، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة. قال الزبير: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} الآية.
وهكذا رواه البخاري هاهنا أعني في كتاب: (التفسير) من صحيحه من حديث معمر: وفي كتاب: (الشرب) من حديث ابن جُرَيْج ومعمر أيضا، وفي كتاب: (الصلح) من حديث شعيب بن أبي حمزة، ثلاثتهم عن الزهري عن عروة، فذكره وصورته صورة الإرسال، وهو متصل في المعنى.
وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال: حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدث: أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة، كانا يسقيان بها كلاهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير: «اسق ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عمتك؟ فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر» فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم، قال عروة: فقال الزبير: والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
هكذا رواه الإمام أحمد وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير؛ فإنه لم يسمع منه، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال:
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا الليث ويونس، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج في الحَرة، كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يَمُر. فأبى عليه الزبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أن كان ابن عَمَّتك؟ فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر» واستوعى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك: {فَلا وَرَبِّكَ لا يَؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب، به ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث، به وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير، وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير، والله أعلم. والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري، فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، عن الزبير فذكره، ثم قال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري يذكر عبد الله بن الزبير، غير ابن أخيه، وهو عنه ضعيف.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه: حدثنا محمد بن علي أبو دُحَيم، حدثنا أحمد بن حازم، حدثنا الفضل بن دُكَين، حدثنا ابن عُيَيْنة، عن عمرو بن دينار، عن سلمة- رجل من آل أبي سلمة- قال:
خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير، فقال الرجل: إنما قضى له لأنه ابن عمته. فنزلت: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} الآية.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو حيوة، حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن الزُّهري، عن سعيد بن المسيب في قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} الآية قال: نزلت في الزبير بن العوام، وحاطب بن أبي بلتعة. اختصما في ماء، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري.
ذكر سبب آخر غريب جدا:
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة، أخبرنا ابن وهب، أخبرني عبد الله بن لَهِيعة، عن أبي الأسود قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما، فقال الذي قضى عليه: ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انطلقا إليه» فلما أتيا إليه قال الرجل: يا ابن الخطاب، قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا، فقال: ردنا إلى عمر. فردنا إليك. فقال: أكذاك؟ فقال: نعم فقال عمر: مَكَانَكُمَا حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليهما مشتملا على سيفه، فضرب الذي قال رُدَّنا إلى عمر فقتله، وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله قتل عُمَر والله صاحبي، ولولا أني أعجزتُه لقتلني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما كنت أظن أن يجترئ عُمَر على قتل مؤمن» فأنزل الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ} الآية، فهدر دم ذلك الرجل، وبرئ عمر من قتله، فكره الله أن يسن ذلك بعد، فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء: 66].
وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق ابن لَهِيعة، عن أبي الأسود به.
وهو أثر غريب، وهو مرسل، وابن لهيعة ضعيف والله أعلم.
طريق أخرى: قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره: حدثنا شُعَيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة، حدثنا عتبة بن ضَمْرَة، حدثني أبي: أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل، فقال المقضيّ عليه: لا أرضى. فقال صاحبه: فما تريد؟ قال: أن نذهب إلى أبي بكر الصديق، فذهبا إليه، فقال الذي قُضي له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي فقال أبو بكر: فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى، قال: نأتي عمر بن الخطاب، فأتياه، فقال المقضى له: قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى لي عليه، فأبى أن يرضى، ثم أتينا أبا بكر، فقال: أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يرضى فسأله عمر، فقال: كذلك، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قدْ سَلَّه، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى، فقتله، فأنزل الله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} إلى آخر الآية.

.تفسير الآيات (66- 70):

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر، وهذا من علمه- تبارك وتعالى- بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}
قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثني إسحاق، حدثنا أبو زهير عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: لما نزلت: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهْ إلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} الآية، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي».
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا جعفر بن منير، حدثنا روح، حدثنا هشام، عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية. قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لو فعل ربنا لفعلنا، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لَلإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي».
وقال السدي: افتخر ثابت بن قيس بن شَمَّاس ورجل من اليهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابت: والله لو كتب علينا: {أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} لقتلنا. فأنزل الله هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا محمود بن غَيْلان، حدثنا بشر بن السَّرِي، حدثنا مصعب بن ثابت، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير، قال: لما نزلت {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال أبو بكر: يا رسول الله، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت، قال: «صدقت يا أبا بكر».
حدثنا أبي، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنيّ قال: سئل سفيان عن قوله {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم».
وحدثنا أبي، حدثنا أبو اليمان، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمرو، عن شُرَيْح بن عُبَيْد قال: لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} الآية، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رَواحة، فقال: «لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل» يعني: ابن رواحة.
ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} أي: ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به، وتركوا ما ينهون عنه {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي: من مخالفة الأمر وارتكاب النهي {وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} قال السدي: أي: وأشد تصديقا.
{وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا} أي: من عندنا، {أَجْرًا عَظِيمًا} يعني: الجنة. {وَلَهَدَيناهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} أي في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} أي: من عمل بما أمره الله ورسوله، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته، ويجعله مرافقًا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة، وهم الصديقون، ثم الشهداء، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم.
ثم أثنى عليهم تعالى فقال: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}
وقال البخاري: حدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من نبي يَمْرَضُ إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة» وكان في شكواه التي قبض فيه، فأخذته بُحَّة شديدة فسمعته يقول: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فعلمت أنه خُيِّر.
وكذا رواه مسلم من حديث شعبة، عن سعد بن إبراهيم به.
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «اللهم في الرفيق الأعلى» ثلاثا ثم قضى، عليه أفضل الصلاة والتسليم.
ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة:
قال ابن جرير: حدثنا ابن حميد، حدثنا يعقوب القُمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جُبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا فلان، ما لي أراك محزونًا؟» قال: يا نبي الله شيء فكرت فيه؟ قال: «ما هو؟» قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا، فأتاه جبريل بهذه الآية: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
قد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق، وعكرمة، وعامر الشَّعْبي، وقتادة، وعن الربيع بن أنس، وهو من أحسنها سندًا.
قال ابن جرير: حدثنا المثنى، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ} الآية، قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل الله في ذلك- يعني هذه الآية- فقال: يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الأعْلَيْنَ ينحدرون إلى من هو أسفل منهم، فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهُون وما يدعون به، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون فيه».
وقد روي مرفوعا من وجه آخر، فقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد، حدثنا عبد الله بن عمران، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي، وأحب إلي من ولدي، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}
وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه: صفة الجنة، من طريق الطبراني، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال، عن عبد الله بن عمران العابدي، به. ثم قال: لا أرى بإسناده بأسا والله أعلم.
وقال ابن مردويه أيضًا: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي، حدثنا أبو بكر بن ثابت بن عباس المصري حدثنا خالد بن عبد الله، عن عطاء بن السائب، عن عامر الشعبي، عن ابن عباس، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي وأحب أن أكون معك في الدرجة. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، فأنزل الله عز وجل: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وِالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}.
وقد رواه ابن جرير، عن ابن حُمَيْد، عن جرير، عن عطاء، عن الشعبي، مرسلا. وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال: كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: «سَلْ». فقلت: يا رسول الله، أسألك مرافقتك في الجنة. فقال: «أوغَيْرَ ذلك؟» قلت: هو ذاك. قال: «فَأَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود».
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرنا ابن لهيعة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، عن عيسى بن طلحة، عن عمرو بن مُرَّةَ الجُهَنِيّ قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا- ونصب أصبعيه- ما لم يعق والديه» تفرد به أحمد.
قال الإمام أحمد أيضا: حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم، حدثنا ابن لهيعة، عن زَبَّان بن فائد، عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا، إن شاء الله».
وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري، عن أبي حمزة، عن الحسن البصري، عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء».
ثم قال: هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري.
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما، من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ فقال: «المرء مع من أحب» قال أنس: فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث.
وفي رواية عن أنس أنه قال: إني أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أبا بكر وعمر، رضي الله عنهما وأرجو أن الله يبعثني الله معهم وإن لم أعمل كعملهم.
وقال الإمام مالك بن أنس، عن صفوان بن سليم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم، كما تتراءون الكوكب الدري الغابر من الأفق من المشرق أو المغرب لِتَفَاضُلِ ما بينهم». قالوا: يا رسول الله، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: «بلى، والذي نفسي بيده، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين».
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك ولفظه لمسلم.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا فزارة، أخبرني فُلَيْح، عن هلال- يعني ابن علي- عن عطاء، عن أبي هريرة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون- أو تَرون- الكوكب الدري الغارب في الأفق والطالع في تفاضل الدرجات». قالوا: يا رسول الله، أولئك النبيون؟ قال: «بلى، والذي نفسي بيده، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين».
قال الحافظ الضياء المقدسي: هذا الحديث على شرط البخاري والله أعلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن عمار الموصلي، حدثنا عُفَيْف بن سالم، عن أيوب بن عُتْبة عن عطاء، عن ابن عمر قال: أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَلْ واسْتَفْهِمْ». فقال: يا رسول الله، فُضِّلتُم علينا بالصور والألوان والنبوة، أفرأيت إن آمنتُ بما آمنتَ به، وعملتُ مثلَ ما عملتَ به، إني لكائن معك في الجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، والذي نفسي بيده إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام» قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال: لا إله إلا الله، كان له بها عهد عند الله، ومن قال: سبحان الله وبحمده، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة» فقال رجل: كيف نهلك بعدها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله، فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته» ونزلت هذه الآيات {هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} إلى قوله: {نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 1- 20] فقال الحبشي: وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «نعم». فاستبكى حتى فاضت نفسه، قال ابن عمر: لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيديه.
فيه غرابة ونكارة، وسنده ضعيف.
ولهذا قال تعالى: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ} أي: من عند الله برحمته، هو الذي أهلهم لذلك، لا بأعمالهم. {وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} أي: هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.