فصل: تفسير الآيات (84- 90):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (84- 90):

{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)}
يخبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق، بعد أن طَعَن في السن، وأيس هو وامرأته سارة من الولد، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط، فبشروهما بإسحاق، فتعجبت المرأة من ذلك، وقالت: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 72، 73]، وبشروه مع وجوده بنبوته، وبأن له نسلا وعَقِبا، كما قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112]، وهذا أكمل في البشارة، وأعظم في النعمة، وقال: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] أي: ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يَعْقب لضعفه، وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية، وكان هذا مجازاة لإبراهيم، عليه السلام، حين اعتزل قومه وتركهم، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض، فعوضه الله، عَزَّ وجل، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه، لتقر بهم عينه، كما قال تعالى {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49]، وقال هاهنا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا}
وقوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} أي: من قبله، هديناه كما هديناه، ووهبنا له ذرية صالحة، وكل منهما له خصوصية عظيمة، أما نوح، عليه السلام، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به- وهم الذين صحبوه في السفينة- جعل الله ذريته هم الباقين، فالناس كلهم من ذرية نوح، وكذلك الخليل إبراهيم، عليه السلام، لم يبعث الله، عَزَّ وجل، بعده نبيا إلا من ذريته، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} الآية [العنكبوت: 27]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: 26]، وقال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
وقوله في هذه الآية الكريمة: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي: وهدينا من ذريته {دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} الآية، وعود الضمير إلى نوح؛ لأنه أقرب المذكورين، ظاهر. وهو اختيار ابن جرير، ولا إشكال عليه. وعوده إلى إبراهيم؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن، لكن يشكل على ذلك لوط، فإنه ليس من ذرية إبراهيم، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر؛ اللهم إلا أن يقال: إنه دخل في الذرية تغليبًا، كما في قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 133]، فإسماعيل عمه، ودخل في آبائه تغليبا.
وكما قال في قوله: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30، 31] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود، وذم على المخالفة؛ لأنه كان قد تشبه بهم، فعومل معاملتهم، ودخل معهم تغليبا، وكان من الجن وطبيعتهم النار والملائكة من النور.
وفي ذكر عيسى، عليه السلام، في ذرية إبراهيم أو نوح، على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال؛ لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام بأمه مريم عليها السلام، فإنه لا أب له.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا سهل بن يحيى العسكري، حدثنا عبد الرحمن بن صالح، حدثنا علي ابن عابس عن عبد الله بن عطاء المكي، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أرسل الحجاج إلى يحيى بن يَعْمُر فقال: بَلَغَني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم، تجده في كتاب الله، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده؟ قال: أليس تقرأ سورة الأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} حتى بلغ {وَيَحْيَى وَعِيسَى}؟ قال: بلى، قال: أليس عيسى من ذرية إبراهيم، وليس له أب؟ قال: صدقت.
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته، أو وقف على ذريته أو وهبهم، دخل أولاد البنات فيهم، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه، واحتجوا بقول الشاعر العربي:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ** بنوهن أبناء الرجال الأجانب

وقال آخرون: ويدخل بنو البنات فيه أيضا، لما ثبت في صحيح البخاري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي: «إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» فسماه ابنا، فدل على دخوله في الأبناء.
وقال آخرون: هذا تجوز.
وقوله: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} ذكر أصولهم وفروعهم. وذوي طبقتهم، وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم؛ ولهذا قال: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
ثم قال: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي: إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم، {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تشديد لأمر الشرك، وتغليظ لشأنه، وتعظيم لملابسته، كما قال تعالى {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية [الزمر: 65]، وهذا شرط، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع، كقوله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81]، وكقوله {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] وكقوله {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4].
وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} أي: أنعمنا عليهم بذلك رحمة للعباد بهم، ولطفا منا بالخليقة، {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا} أي: بالنبوة. ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على هذه الأشياء الثلاثة: الكتاب، والحكم، والنبوة.
وقوله: {هَؤلاءِ} يعني: أهل مكة. قاله ابن عباس، وسعيد بن المُسَيَّب، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّي. {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} أي: إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض، من عرب وعجم، ومليين وكتابيين، فقد وكلنا بها قوما {آخَرِينَ} يعني: المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة، {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} أي: لا يجحدون شيئا منها، ولا يردون منها حرفًا واحدًا، بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وإحسانه.
ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: {أُولَئِكَ} يعني: الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} أي: هم أهل الهداية لا غيرهم، {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} أي: اقتد واتبع. وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى الله عليه وسلم، فأمته تبع له فيما يشرعه لهم ويأمرهم به.
قال البخاري عند هذه الآية: حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني سليمان الأحول، أن مجاهدا أخبره، أنه سأل ابن عباس: أفي (ص) سجدة؟ فقال: نعم، ثم تلا {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} ثم قال: هو منهم- زاد يزيد بن هارون، ومحمد بن عبيد، وسهل بن يوسف، عن العوام، عن مجاهد قال: قلت لابن عباس، فقال: نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أُمِرَ أن يَقْتَدي بهم.
وقوله: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} أي: لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن {أَجْرًا} أي: أجرة، ولا أريد منكم شيئا، {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} أي: يتذكرون به فَيُرْشَدُوا من العمى إلى الهدى، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الكفر إلى الإيمان.

.تفسير الآيات (91- 92):

{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)}
يقول تعالى: وما عظموا الله حق تعظيمه، إذ كذبوا رسله إليهم، قال ابن عباس، ومجاهد، وعبد الله بن كثير: نزلت في قريش. واختاره ابن جرير، وقيل: نزلت في طائفة من اليهود؛ وقيل: في فنحاص رجل منهم، وقيل: في مالك بن الصيف.
{قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} والأول هو الأظهر؛ لأن الآية مكية، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء، وقريش- والعرب قاطبة- كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر، كما قال تعالى {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس: 2]، وقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا} [الإسراء: 94، 95]، وقال هاهنا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} قال الله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}؟ أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله، في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة: {مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} يعني: التوراة التي قد علمتم- وكل أحد- أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورًا وهدى للناس، أي: ليستضاء بها في كشف المشكلات، ويهتدى بها من ظلم الشبهات.
وقوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} أي: يجعلها حَمَلَتُهَا قراطيس، أي: قِطَعًا يكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرفون فيها ما يحرفون ويبدلون ويتأولون، ويقولون: {هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79]، أي: في كتابه المنزل، وما هو من عند الله؛ ولهذا قال: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا}
وقوله: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ} أي: ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك أنتم ولا آباؤكم.
قال قتادة: هؤلاء مشركو العرب.
وقال مجاهد: هذه للمسلمين.
وقوله: {قُلِ اللَّهُ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أي: قل: الله أنزله. وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة، لا ما قاله بعض المتأخرين، من أن معنى {قُلِ اللَّهُ} أي: لا يكون خطاب لهم إلا هذه الكلمة، كلمة: الله.
وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمرًا بكلمة مفردة من غير تركيب، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها.
وقوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} أي: ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون، حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون ألهم العاقبة، أم لعباد الله المتقين؟.
وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ} يعني: القرآن {أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} يعني: مكة {وَمَنْ حَوْلَهَا} من أحياء العرب، ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم، كما قال في الآية الأخرى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158]، وقال {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، وقال {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17]، وقال {تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، وقال {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 20]، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أعْطِيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنّ أحد من الأنبياء قبلي» وذكر منهن: «وكان النبي يبعث إلى قومه، وبعثت إلى الناس عامة»؛ ولهذا قال: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: كل من آمن بالله واليوم الآخر آمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد، وهو القرآن، {وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} أي: يقومون بما افترض عليهم، من أداء الصلوات في أوقاتها.

.تفسير الآيات (93- 94):

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)}
يقول تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي: لا أحد أظلم ممن كذب على الله، فجعل له شريكا أو ولدا، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يكن أرسله؛ ولهذا قال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ}
قال عِكْرِمة وقتادة: نزلت في مسيلمة الكذاب لعنه الله.
{وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ} يعني: ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول، كما قال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال: 31]، قال الله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي: في سكراته وغمراته وكُرُباته، {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي: بالضرب كما قال: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ} الآية [المائدة: 28]، وقال: {وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} الآية [الممتحنة: 2].
وقال الضحاك، وأبو صالح: {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي: بالعذاب. وكما قال تعالى {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50]؛ ولهذا قال: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} أي: بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم؛ ولهذا يقولون لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنَّكال، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضب الرحمن الرحيم، فتتفرق روحه في جسده، وتعصى وتأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم، قائلين لهم: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} أي: اليوم تهانون غاية الإهانة، كما كنتم تكذبون على الله، وتستكبرون عن اتباع آياته، والانقياد لرسله.
وقد وردت أحاديث متواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر، وهي مقررة عند قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27].
وقد ذكر ابن مَرْدُوَيه هاهنا حديثا مطولا جدا من طريق غريبة، عن الضحاك، عن ابن عباس مرفوعا، فالله أعلم.
وقوله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: يقال لهم يوم معادهم هذا، كما قال {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 48]، أي: كما بدأناكم أعدناكم، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه، فهذا يوم البعث.
وقوله: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ} أي: من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا {وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس».
وقال الحسن البصري: يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله، عَزَّ وجل، له أين ما جمعت؟ فيقول يا رب، جمعته وتركته أوفر ما كان، فيقول: فأين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئا، وتلا هذه الآية: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدار الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان، ظانين أن تلك تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ معاد، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب، وانزاح الضلال، وضل عنهم ما كانوا يفترون، ويناديهم الرب، عَزَّ وجل، على رءوس الخلائق: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] وقيل لهم {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ} [الشعراء: 92، 93]؛ ولهذا قال هاهنا: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} أي: في العبادة، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} قُرئ بالرفع، أي شملكم، وقُرئ بالنصب، أي: لقد انقطع ما بينكم من الوُصُلات والأسباب والوسائل {وَضَلَّ عَنْكُمْ} أي: وذهب عنكم {مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} من رجاء الأصنام، كما قال: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 166، 167]، وقال تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون: 101]، وقال {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25]، وقال {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} الآية [القصص: 64]، وقال تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا} إلى قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 22- 24]، والآيات في هذا كثيرة جدا.