فصل: تفسير الآيات (85- 86):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (84):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)}
يقول تعالى: ولقد أرسلنا إلى مدين- وهم قبيلة من العرب، كانوا يسكنون بين الحجاز والشام، قريبًا من بلاد معان، في بلد يعرف بهم، يقال لها مدين فأرسل الله إليهم شعيبا، وكان من أشرفهم نسبًا. ولهذا قال: {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده، وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أي: في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله، {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} أي: في الدار الآخرة.

.تفسير الآيات (85- 86):

{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}
ينهاهم أولا عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن بالقسط آخذين ومعطين، ونهاهم عن العيث في الأرض بالفساد، وقد كانوا يقطعون الطريق.
وقوله: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} قال ابن عباس: رزق الله خَيْر لكم.
وقال الحسن: رزق الله خير لكم من بخسكم الناس.
وقال الربيع بن أنس: وصية الله خير لكم.
وقال مجاهد: طاعة الله خير لكم.
وقال قتادة: حظكم من الله خير لكم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الهلاك في العذاب، والبقية في الرحمة.
وقال أبو جعفر بن جرير: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ} أي: ما يفضُل لكم من الربح بعد وفاء الكيل والميزان {خَيْرٌ لَكُمْ} أي: من أخذ أموال الناس قال: وقد روي هذا عن ابن عباس.
قلت: ويشبه قوله تعالى: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].
وقوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: برقيب ولا حفيظ، أي: افعلوا ذلك لله عز وجل. لا تفعلوه ليراكم الناس، بل لله عز وجل.

.تفسير الآية رقم (87):

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}
يقولون له على سبيل التهكم، قَبَّحهم الله: {أَصَلاتُكَ}، قال الأعمش: أي: قرآنك {تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} أي: الأوثان والأصنام، {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} فنترك التطفيف على قولك، هي أموالنا نفعل فيها ما نريد.
قال الحسن في قوله: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} إيْ والله، إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم.
وقال الثوري في قوله: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} يعنون الزكاة.
وقولهم: {إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} قال ابن عباس، وميمون بن مِهْرَان، وابن جُرَيْج، وابن أسلم، وابن جرير: يقولون ذلك- أعداء الله- على سبيل الاستهزاء، قبحهم الله ولعنهم عن رحمته، وقد فَعَلْ.

.تفسير الآية رقم (88):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}
يقول لهم أرأيتم يا قوم {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} أي: على بصيرة فيما أدعو إليه، {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} قيل: أراد النبوة. وقيل: أراد الرزق الحلال، ويحتمل الأمرين.
وقال الثوري: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي: لا أنهاكم عن شيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم، كما قال قتادة في قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر وأركَبَه {إِنْ أُرِيدُ إِلا الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي: فيما آمركم وأنهاكم، إنما مرادي إصلاحكم جهدي وطاقتي، {وَمَا تَوْفِيقِي} أي: في إصابة الحق فيما أريده {إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في جميع أموري، {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي: أرجع، قاله مجاهد وغيره.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا أبو قَزْعَةَ سُوَيد بن حُجَير الباهلي، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: أن أخاه مالكًا قال: يا معاوية، إن محمدًا أخذ جيراني، فانطَلق إليه، فإنه قد كلمك وعرفك، فانطلقت معه فقال: دع لي جيراني، فقد كانوا أسلموا. فأعرض عنه. فقام مُتَمَعطًا فقال: أما والله لئن فَعلتَ إن الناس يزعمون أنك تأمر بالأمر وتخالف إلى غيره. وجعلت أجرّه وهو يتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تقول؟» فقال: إنك والله لئن فعلت ذلك. إن الناس ليزعمون أنك لتأمر بالأمر وتخالف إلى غيره. قال: فقال: «أوَقد قالوها- أو قائلهم- ولئن فعلت ذلك ما ذاك إلا عليّ، وما عليهم من ذلك من شيء، أرسلوا له جيرانه».
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناسًا من قومي في تُهَمة فحبسهم، فجاء رجل من قومي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقال: يا محمد، علام تحبس جيرتي؟ فصَمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال: إن ناسًا ليقولون: إنك تنهى عن الشيء وتستخلي به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما يقول؟» قال: فجعلت أعرض بينهما الكلام مخافة أن يسمعها فيدعو على قومي دَعوة لا يفلحون بعدها أبدًا، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم به حتى فهمها، فقال: «أو قد قالوها- أو: قائلها منهم- والله لو فعلتُ لكان عليّ وما كان عليهم، خلوا له عن جيرانه».
ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا سليمان بن بلال، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن عبد الملك بن سعيد بن سويد الأنصاري قال: سمعت أبا حميد وأبا أسيد يقولان: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تُنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه».
هذا إسناد صحيح، وقد أخرج مسلم بهذا السند حديث: «إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم، افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل: اللهم، إني أسألك من فضلك».
ومعناه- والله أعلم-: مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}.
وقال قتادة، عن عَزْرَة عن الحسن العُرَني، عن يحيى بن الجزار، عن مسروق، أن امرأة جاءت ابن مسعود قالت أتنهى عن الواصلة؟ قال: نعم. فقالت المرأة فلعله في بعض نسائك؟ فقال: ما حفظت إذا وصية العبد الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}.
وقال عثمان بن أبي شيبة: حدثنا جرير، عن أبي سليمان العتبي قال: كانت تجيئنا كتب عمر بن عبد العزيز فيها الأمر والنهي، فيكتب في آخرها: وما كانت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.

.تفسير الآيات (89- 90):

{وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}
يقول لهم: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} أي: لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط من النقمة والعذاب.
قال قتادة: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} يقول: لا يحملنكم فراقي.
وقال السدي: عداوتي، على أن تتمادوا في الضلال والكفر، فيصيبكم من العذاب ما أصابهم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عوف، حدثنا أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج، حدثنا ابن أبي غَنيَّة، حدثني عبد الملك بن أبي سليمان، عن أبي ليلى الكندي قال: كنت مع مولاي أمسك دابته، وقد أحاط الناس بعثمان بن عفان؛ إذ أشرف علينا من داره فقال: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ} يا قوم، لا تقتلوني، إنكم إن تقتلوني كنتم هكذا، وشَبَّك بين أصابعه.
وقوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} قيل: المراد في الزمان، كما قال قتادة في قوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} يعني إنما أهلكوا بين أيديكم بالأمس، وقيل: في المكان، ويحتمل الأمران، {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} أي: استغفروه من سالف الذنوب، وتوبوا فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة، {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} أي: لمن تاب وأناب.

.تفسير الآيات (91- 92):

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)}
يقولون: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} أي: ما نفهم ولا نعقل كثيرًا من قولك، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب. {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا}.
قال سعيد بن جبير، والثوري: كان ضرير البصر. قال الثوري: وكان يقال له: خطيب الأنبياء.
وقال السدي: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} قال: أنت واحد.
وقال أبو روق: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} يعنون: ذليلا؛ لأن عشيرتك ليسوا على دينك، فأنت ذليل ضعيف.
{وَلَوْلا رَهْطُكَ} أي: قومك وعشيرتك؛ لولا معزة قومك علينا لرجمناك، قيل بالحجارة، وقيل: لسبَبْنَاك، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أي: ليس لك عندنا معزة.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} يقول: أتتركوني لأجل قومي، ولا تتركوني إعظاما لجناب الله أن تنالوا نبيه بمساءة. وقد اتخذتم جانب الله {وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا} أي: نبذتموه خلفكم، لا تطيعونه ولا تعظمونه، {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي: هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم بها.

.تفسير الآيات (93- 95):

{وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}
لما يئس نبيّ الله شعيب من استجابة قومه له، قال: يا قوم، {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي: على طريقتكم، وهذا تهديد ووعيد شديد، {إِنِّي عَامِلٌ} على طريقتي ومنهجي {سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي: في الدار الآخرة، {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} أي: مني ومنكم، {وَارْتَقِبُوا} أي: انتظروا {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}.
قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} وهم قومه، {الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ} وقوله {جَاثمِيِنَ} أي: هامدين لا حِرَاك بهم.
وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة، وفي الأعراف رجفة، وفي الشعراء عذاب يوم الظلة، وهم أمة واحدة، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقَمُ كلها. وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه، ففي الأعراف لما قالوا: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا} [الأعراف: 88]، ناسب أن يذكر هناك الرجفة، فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها، وأرادوا إخراج نبيهم منها، وهاهنا لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ناسب ذكر الصيحة التي أسكتتهم وأخمدتهم، وفي الشعراء لما قالوا: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 189]، قال {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 189]، وهذا من الأسرار الغريبة الدقيقة، ولله الحمد والمنة كثيرًا دائمًا.
وقوله: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} أي: يعيشوا في دارهم قبل ذلك، {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} وكانوا جيرانهم قريبًا منهم في الدار، وشبيهًا بهم في الكفر وقَطْع الطريق، وكانوا عرَبا شبههم.

.تفسير الآيات (96- 99):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)}
يقول تعالى مخبرًا عن إرسال موسى، عليه السلام، بآياته وبيناته، وحججه ودلائله الباهرة القاطعة إلى فرعون لعنه الله، وهو ملك ديار مصر على أمة القبط، {فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ} أي: مسلكه ومنهجه وطريقته في الغي والضلال، {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: ليس فيه رشد ولا هدى، وإنما هو جهل وضلال، وكفر وعناد، وكما أنهم اتبعوه في الدنيا، وكان مُقَدمهم ورئيسهم، كذلك هو يُقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم، فأوردهم إياها، وشربوا من حياض رَدَاها، وله في ذلك الحظ الأوفر، من العذاب الأكبر، كما قال تعالى: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا} [المزمل: 16]، وقال تعالى: {فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 21- 26]، وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} وكذلك شأن المتبوعين يكونون مُوفرين في العذاب يوم المعاد، كما قال تعالى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]، وقال تعالى إخبارًا عن الكَفَرة أنهم يقولون في النار: {رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَ رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 67، 68].
وقال الإمام أحمد: حدثنا هُشَيْم، حدثنا أبو الجهم، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «امرؤ القيس حامل لواء شعراء الجاهلية إلى النار».
وقوله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} أي: أتبعناهم زيادة على ما جازيناهم من عذاب النار لعنة في هذه الحياة الدنيا، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ}.
قال مجاهد: زيدوا لعنة يوم القيامة، فتلك لعنتان.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} قال: لعنة الدنيا والآخرة، وكذا قال الضحاك، وقتادة، وهكذا قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 41، 42]، وقال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].