فصل: تفسير الآية رقم (138):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (136):

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)}
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعًا وكفرًا وشركًا، وجعلوا لله جزءًا من خلقه، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى عما يشركون؛ ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ} أي: مما خلق وبرأ {مِنَ الْحَرْثِ} أي: من الزروع والثمار {وَالأنْعَامِ نَصِيبًا} أي: جزءا وقسما، {فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا}
وقوله: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} قال علي بن أبي طلحة، والعَوْفي، عن ابن عباس؛ أنه قال في تفسير هذه الآية: إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا، أو كانت لهم ثمرة، جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سُمّي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن. فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله، فاختلط بالذي جعلوه للوثن، قالوا: هذا فقير. ولم يردوه إلى ما جعلوه لله. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله. فسقى ما سُمّي للوثن تركوه للوثن، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فيجعلونه للأوثان، ويزعمون أنهم يحرمونه لله، فقال الله عز وجل {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا} الآية.
وهكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي، وغير واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره: كل شيء جعلوه لله من ذبْح يذبحونه، لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه، وقرأ الآية حتى بلغ: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي: ساء ما يقسمون، فإنهم أخطؤوا أولا في القسمة، فإن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وله الملك، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته، لا إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي فاسدة، بل جاروا فيها، كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 15]، وقال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21، 22].

.تفسير الآية رقم (137):

{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)}
يقول تعالى: وكما زينت الشياطين لهؤلاء المشركين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق، ووأد البنات خشية العار.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم: زينوا لهم قتل أولادهم.
وقال مجاهد: {شُرَكَاؤُهُمْ} شياطينهم، يأمرونهم أن يئدوُا أولادهم خشية العَيْلة.
وقال السدي: أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وإما {لِيُرْدُوهُمْ} فيهلكوهم، وإما {لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي: فيخلطون عليهم دينهم.
ونحو ذلك قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وهذا كقوله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِه أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58، 59]، وقال تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9]. وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق، وهو: الفقر، أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تاني المال وقد نهاهم الله عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا كله من شرع الشيطان تزيينه لهم ذلك.
قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} أي: كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا، وله الحكمة التامة في ذلك، فلا يسأل عما يفعل وهم يُسألون. {فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي: فدعهم واجتنبهم وما هم فيه، فسيحكم الله بينك وبينهم.

.تفسير الآية رقم (138):

{وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)}
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الحجْرُ: الحرام، مما حرموا الوصيلة، وتحريم ما حرموا.
وكذلك قال مجاهد، والضحاك، والسُّدِّي، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} الآية: تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم، وتغليظ وتشديد، وكان ذلك من الشياطين، ولم يكن من الله تعالى.
وقال ابن زيد بن أسلم: {حِجْرٌ} إنما احتجزوها لآلهتهم.
وقال السدي: {لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ} يقولون: حرام أن نطعم إلا من شئنا.
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59]، وكقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [المائدة: 103].
وقال السدي: أما {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا} فهي البحيرة والسائبة والحام، وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها قال: إذا أولدوها، ولا إن نحروها.
وقال أبو بكر بن عَيَّاش، عن عاصم بن أبي النَّجُود قال لي أبو وائل: تدري ما في قوله: {وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا}؟ قلت: لا. قال: هي البحيرة، كانوا لا يحجون عليها.
وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها، لا إن ركبوا، ولا إن حلبوا، ولا إن حملوا، ولا إن سحبوا ولا إن عملوا شيئا.
{افْتِرَاءً عَلَيْهِ} أي: على الله، وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه؛ فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رَضيه منهم {سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: عليه، ويُسْندون إليه.

.تفسير الآية رقم (139):

{وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)}
قال أبو إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل، عن ابن عباس: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} الآية، قال: اللبن.
وقال العوفي، عن ابن عباس: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} الآية: فهو اللبن، كانوا يحرمونه على إناثهم، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء. فنهى الله عن ذلك.
وكذا قال السُّدِّي.
وقال الشعبي: البحيرة لا يأكل من لبنها إلا الرجال، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء، وكذا قال عِكْرِمة، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد في قوله: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} قال: هي السائبة والبحيرة.
وقال أبو العالية، ومجاهد، وقتادة في قول {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} أي: قولهم الكذب في ذلك، يعني قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ} الآية [النحل: 116، 117].
إنه {حَكِيمٌ} أي: في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، {عَلِيمٌ} بأعمال عباده من خير وشر، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.

.تفسير الآية رقم (140):

{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)}
يقول تعالى: قد خسر الذين فعلوا هذه الأفعال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم، وضيقوا عليهم في أموالهم، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، وأما في الآخرة فيصيرون إلى شر المنازل بكذبهم على الله وافترائهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 69، 70].
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسير هذه الآية: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن أيوب، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك، حدثنا أبو عَوَانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: إذا سَرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام، {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}
وهكذا رواه البخاري منفردًا في كتاب مناقب قريش من صحيحه، عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم، عن أبي عوَانة- واسمه الوَضَّاح بن عبد الله اليَشْكُرِي- عن أبي بشر- واسمه جعفر بن أبي وَحْشِيَّة بن إياس، به.

.تفسير الآيات (141- 142):

{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)}
يقول تعالى بيانا لأنه الخالق لكل شيء، من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسَّموها وجَزَّءوها، فجعلوا منها حرامًا وحلالا فقال: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ}
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {مَعْرُوشَاتٍ} مسموكات.
وفي رواية: «المعروشات»: معروشات ما عرش الناس، {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} ما خرج في البر والجبال من الثمرات.
وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس: {مَعْرُوشَاتٍ} ما عرش من الكرم {وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} ما لم يعرش من الكرم.
وكذا قال السدي.
وقال ابن جُرَيْج: {مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} قال: متشابه في المنظر، وغير متشابه في الطعم.
وقال محمد بن كَعْب: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} قال: من رطبه وعنَبه.
وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال ابن جرير: قال بعضهم: هي الزكاة المفروضة.
حدثنا عمرو، حدثنا عبد الصمد، حدثنا يزيد بن درهم قال: سمعت أنس بن مالك يقول: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: الزكاة المفروضة.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يعني: الزكاة المفروضة، يوم يُكَال ويعلم كيله.
وكذا قال سعيد بن المسيب.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده، لم يخرج مما حصد شيئًا فقال الله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وذلك أن يعلم ما كيله وحقه، من كل عشرة واحدًا، ما يَلْقُط الناس من سنبله.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن يحيى ابن حبَّان، عن عمه واسع بن حبان، عن جابر بن عبد الله؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ من كُل جاد عَشْرَة أوسُق من التمر، بقنْو يعلق في المسجد للمساكين وهذا إسناده جيد قوي.
وقال طاوس، وأبو الشعثاء، وقتادة، والحسن، والضحاك، وابن جُرَيْج: هي الزكاة.
وقال الحسن البصري: هي الصدقة من الحب والثمار، وكذا قال زيد بن أسلم.
وقال آخرون: هو حق آخر سوى الزكاة.
وقال أشعث، عن محمد بن سِيرين، ونافع، عن ابن عمر في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة. رواه ابن مردويه.
وروى عبد الله بن المبارك وغيره. عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء بن أبي رباح في قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: يعطي من حضره يومئذ ما تيسر، وليس بالزكاة.
وقال مجاهد: إذا حضرك المساكين، طرحت لهم منه.
وقال عبد الرزاق، عن ابن عيينة عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: عند الزرع يعطي القبض، وعند الصرام يعطي القبض، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام.
وقال الثوري، عن حماد، عن إبراهيم النخعي قال: يعطي مثل الضغث.
وقال ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال: كان هذا قبل الزكاة: للمساكين، القبضة الضغث لعلف دابته.
وفي حديث ابن لَهِيعة، عن دَرَّاج، عن أبي الهيثم، عن سعيد مرفوعًا: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}.
قال: ما سقط من السنبل. رواه ابن مَرْدُويه.
وقال آخرون: هذا كله شيء كان واجبًا، ثم نسخه الله بالعشر ونصف العشر. حكاه ابن جرير عن ابن عباس، ومحمد بن الحنفية، وإبراهيم النخعي، والحسن، والسدي، وعطية العَوْفي. واختاره ابن جرير، رحمه الله.
قلت: وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنه فصل بيانه وبَيَّن مقدار المخرج وكميته. قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة، فالله أعلم.
وقد ذم الله سبحانه الذين يصومون ولا يتصدقون، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة ن: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} أي: كالليل المدلهم سوداء محترقة {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} أي: قوة وجلد وهمة {قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17- 33].
وقوله: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} قيل: معناه: ولا تسرفوا في الإعطاء، فتعطوا فوق المعروف.
وقال أبو العالية: كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا، ثم تباروا فيه وأسرفوا، فأنزل الله: {وَلا تُسْرِفُوا}
وقال ابن جُرَيْج نزلت في ثابت بن قَيْس بن شَمَّاس، جذَّ نخلا. فقال: لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته. فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة، فأنزل الله: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} رواه ابن جرير، عنه.
وقال ابن جريج، عن عطاء: ينهى عن السرف في كل شيء.
وقال إياس بن معاوية: ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
وقال السدي في قوله: {وَلا تُسْرِفُوا} قال: لا تعطوا أموالكم، فتقعدوا فقراء.
وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب، في قوله: {وَلا تُسْرِفُوا} قال: لا تمنعوا الصدقة فتعصوا.
ثم اختار ابن جرير قول عطاء: إنه نَهْيٌ عن الإسراف في كل شيء. ولا شك أنه صحيح، لكن الظاهر- والله أعلم- من سياق الآية حيث قال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} أن يكون عائدًا على الأكل، أي: ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن، كما قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وفي صحيح البخاري تعليقًا: «كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة» وهذا من هذا، والله أعلم.
وقوله: {وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} أي: وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش، قيل: المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل، والفرش الصغار منها. كما قال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله: {حَمُولَةً} ما حمل عليه من الإبل، {وَفَرْشًا} وقال: الصغار من الإبل.
رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال ابن عباس: الحمولة: الكبار، والفرش هي الصغار من الإبل.
وكذا قال مجاهد.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} فأما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه، وأما الفرش فالغنم.
واختاره ابن جرير، قال: وأحسبه إنما سمي فرشًا لدنوه من الأرض.
وقال الربيع بن أنس، والحسن، والضحاك، وقتادة: الحمولة: الإبل والبقر، والفرش: الغنم.
وقال السدي: أما الحمولة فالإبل، وأما الفرش فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم، وما حمل عليه فهو حمولة.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: الحمولة ما تركبون، والفرش ما تأكلون وتحلبون، شاة لا تحمل، تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافًا وفرشا.
وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 71، 72]، وقال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ} إلى أن قال: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 69- 80]، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 79- 81].
وقوله تعالى: {كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أي: من الثمار والزروع والأنعام، فكلها خلقها الله تعالى وجعلها رزقًا لكم، {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي: طرائقه وأوامره، كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله، أي: من الثمار والزروع افتراء على الله، {إِنَّهُ لَكُمْ} أي: إن الشيطان- أيها الناس- لكم {عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي: بَيِّن ظاهر العداوة، كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6]، وقال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} الآية، [الأعراف: 27]، وقال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50]. والآيات في هذا كثيرة في القرآن.