فصل: تفسير الآية رقم (152):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (152):

{وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)}
قال عطاء بن السائب، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} الآية [النساء: 10]، فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله ويفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عَزَّ وجل: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220]، قال: فخلطوا طعامهم بطعامهم، وشرابهم بشرابهم. رواه أبو داود.
وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال الشعبي، ومالك، وغير واحد من السلف: يعني: حتى يحتلم.
وقال السُّدِّي: حتى يبلغ ثلاثين سنة، وقيل: أربعون سنة، وقيل: ستون سنة. قال: وهذا كله بعيد هاهنا، والله أعلم.
وقوله: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء، كما توعد على تركه في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1- 6]. وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي، من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرّحَبي، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان: «إنكم وُلّيتم أمرًا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم». ثم قال: لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحُسين، وهو ضعيف في الحديث، وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا.
قلت: وقد رواه ابن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث شَرِيك، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجَعْد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنكم مَعْشَر الموالي قد بَشَّرَكم الله بخصلتين بها هلكت القرون المتقدمة: المكيال والميزان».
وقوله تعالى: {لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي: من اجتهد في أداء الحق وأخذه، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه.
وقد روى ابن مَرْدُوَيه من حديث بَقِيَّة، عن مُبَشر بن عبيد، عن عمرو بن ميمون بن مهْران، عن أبيه، عن سعيد بن المسَيَّب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} فقال: «من أوفى على يده في الكيل والميزان، والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما، لم يؤاخذ». وذلك تأويل {وُسْعَهَا} هذا مرسل غريب.
وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [المائدة: 8]، وكذا التي تشبهها في سورة النساء [الآية: 135]، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال، على القريب والبعيد، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد، في كل وقت، وفي كل حال.
وقوله: {وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا} قال ابن جرير: يقول وَبِوَصِيَّة الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك: أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله، وذلك هو الوفاء بعهد الله.
{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} يقول تعالى: هذا وصاكم به، وأمركم به، وأكد عليكم فيه {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه قبل هذا، وقرأ بعضهم بتشديد الذال، وآخرون بتخفيفها.

.تفسير الآية رقم (153):

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)}
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} وقوله {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13]، ونحو هذا في القرآن، قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا. قاله مجاهد، وغير واحد.
وقال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر: شاذان، حدثنا أبو بكر- هو ابن عياش- عن عاصم- هو ابن أبي النجود- عن أبي وائل، عن عبد الله- هو ابن مسعود، رضي الله عنه- قال: خَطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده، ثم قال: «هذا سَبِيل الله مستقيما». وخط على يمينه وشماله، ثم قال: «هذه السُّبُل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه». ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}
وكذا رواه الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار، عن أبي بكر بن عياش، به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وهكذا رواه أبو جعفر الرازي، وورقاء وعمرو بن أبي قيس، عن عاصم، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة، عن ابن مسعود به مرفوعا نحوه.
وكذا رواه يزيد بن هارون ومُسدَّد والنسائي، عن يحيى بن حبيب بن عربي- وابن حِبَّان، من حديث ابن وَهْب- أربعتهم عن حماد بن زيد، عن عاصم، عن أبي وائل، عن ابن مسعود، به.
وكذا رواه ابن جرير، عن المثنى، عن الحِمَّاني، عن حماد بن زيد، به.
ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي، عن سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، به كذلك. وقال: صحيح ولم يخرجاه.
وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم، من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس، عن أبي بكر ابن عياش، عن عاصم، عن زِرٍّ، عن عبد الله بن مسعود. به مرفوعا.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث يحيى الحماني، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن زِرٍّ، به.
فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين، ولعل هذا الحديث عند عاصم بن أبي النجود، عن زر، وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعود، به، والله أعلم.
قال الحاكم: وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي عن جابر، من وجه غير معتمد.
يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد، وعبد بن حميد جميعا- واللفظ لأحمد: حدثنا عبد الله بن محمد- وهو أبو بكر بن أبي شيبة- أنبأنا أبو خالد الأحمر، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فخط خطًا هكذا أمامه، فقال: «هذا سبيل الله». وخطين عن يمينه، وخطين عن شماله، وقال: «هذه سبيل الشيطان». ثم وضع يده في الخط الأوسط، ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه، والبزار عن أبي سعيد بن عبد الله بن سعيد، عن أبي خالد الأحمر، به.
قلت: ورواه الحافظ ابن مَرْدُوَيه من طريقين، عن أبي سعيد الكندي، حدثنا أبو خالد، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر قال: خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا، وخط عن يمينه خطًّا، وخط عن يساره خطا، ووضع يده على الخط الأوسط وتلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ}.
ولكن العمدة على حديث ابن مسعود، مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرًا، وقد روي موقوفا عليه.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثور، عن مَعْمَر، عن أبَان؛ أن رجلا قال لابن مسعود: ما الصراط المستقيم؟ قال: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وعن يمينه جَوَادّ، وعن يساره جَوَادّ، وثمّ رجال يدعون من مر بهم. فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية.
وقال ابن مَرْدُوَيه: حدثنا أبو عمرو، حدثنا محمد بن عبد الوهاب، حدثنا آدم، حدثنا إسماعيل ابن عَيَّاش، حدثنا أبان بن عياش، عن مسلم بن أبي عمران، عن عبد الله بن عمر: سأل عبد الله عن الصراط المستقيم، فقال له ابن مسعود: تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه، وطرفه في الجنة، وذكر تمام الحديث كما تقدم، والله أعلم.
وقد روي من حديث النوّاس بن سمْعان نحوه، قال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن سَوَّار أبو العلاء، حدثنا لَيْث- يعني ابن سعد- عن معاوية بن صالح؛ أن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نفير حدثه، عن أبيه، عن النواس بن سمعان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ضرب الله مثلا صِراطًا مستقيمًا، وعن جَنْبتَي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: أيها الناس، ادخلوا الصراط المستقيم جميعا، ولا تتفرجوا وداع يدعو من جوف الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال: ويحك. لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم».
ورواه الترمذي والنسائي، عن علي بن حُجْر- زاد النسائي- وعمرو بن عثمان، كلاهما عن بَقِيَّة بن الوليد، عن بَحير بن سعد، عن خالد بن مَعْدان، عن جُبَير بن نفير، عن النوّاس بن سِمْعان، به.
وقال الترمذي: حسن غريب.
وقوله: {فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} إنما وحد سبحانه سَبيله لأن الحق واحد؛ ولهذا جمع لتفرقها وتشعبها، كما قال تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257].
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن أبي إدريس الخولاني، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيكم يبايعني على هذه الآيات الثلاث؟». ثم تلا {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} حتى فرغ من ثلاث الآيات، ثم قال: «ومن وَفَّى بهن أجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا أدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخَّرَه إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه، وإن شاء عفا عنه».

.تفسير الآيات (154- 155):

{ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}
قال ابن جرير: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} تقديره: ثم قل- يا محمد- مخبرًا عنا بأنا آتينا موسى الكتاب، بدلالة قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ}
قلت: وفي هذا نظر، وثُم هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر، لا للترتيب هاهنا، كما قال الشاعر:
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُم سَادَ أبوهُ ** ثُمّ قد سَادَ قَبْلَ ذَلكَ جَده

وهاهنا لما أخبر الله تعالى عن القرآن بقوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} عطف بمدح التوراة ورسولها، فقال: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} وكثيرًا ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة، كقوله تعالى: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف: 12]، وقوله في أول هذه السورة: {قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الآية: 91]، وبعدها {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ} الآية [الأنعام: 92]، وقال تعالى مخبرًا عن المشركين: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} [القصص: 48]، وقال تعالى مخبرًا عن الجن أنهم قالوا: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30].
وقوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا} أي: آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تمامًا كاملا جامعا لجميع ما يحتاج إليه في شريعته، كما قال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية [الأعراف: 145].
وقوله: {عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} أي: جزاء على إحسانه في العمل، وقيامه بأوامرنا وطاعتنا، كقوله: {هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ} [الرحمن: 60]، وكقوله {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124]، وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24].
وقال أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} يقول: أحسن فيما أعطاه الله.
وقال قتادة: من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة.
واختار ابن جرير أن تقديره الكلام: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا} على إحسانه. فكأنه جعل الذي مصدرية، كما قيل في قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} [التوبة: 69] أي: كخوضهم وقال ابن رَوَاحة:
فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍ ** في المرسلين ونصرًا كالذي نُصِرُوا

وقال آخرون: الذي هاهنا بمعنى الذين.
قال ابن جرير: وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود: أنه كان يقرؤها: {تماما على الذين أحسنوا}.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} قال: على المؤمنين والمحسنين، وكذا قال أبو عبيدة. قال البغوي: والمحسنون: الأنبياء والمؤمنون، يعني: أظهرنا فضله عليهم.
قلت: كما قال تعالى: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف: 144]، ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل، عليهما السلام لأدلة أخر.
قال ابن جرير: وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يَعْمَر أنه كان يقرؤها. {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} رفعا، بتأويل: على الذي هو أحسن، ثم قال: وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها، وإن كان لها في العربية وجه صحيح.
وقيل: معناه: تمامًا على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن الله إليه، حكاه ابن جرير، والبَغوي.
ولا منافاة بينه وبين القول الأول، وبه جمع ابن جرير كما بيناه، ولله الحمد.
وقوله: {وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً} فيه مَدْحٌ لكتابه الذي أنزله الله عليه، {لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فيه الدعوة إلى اتباع القرآن ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة.