فصل: سورة فاطر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.سورة فاطر:

.تفسير الآية رقم (1):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)}.
قال سفيان الثوري، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر، فقال أحدهما لصاحبه: أنا فطرتها، أنا بدأتها. فقال ابن عباس أيضًا: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} بديع السموات والأرض.
وقال الضحاك: كل شيء في القرآن فاطر السموات والأرض فهو: خالق السموات والأرض.
وقوله: {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا} أي: بينه وبين أنبيائه، {أُولِي أَجْنِحَةٍ} أي: يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعًا {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي: منهم مَنْ له جناحان، ومنهم مَنْ له ثلاثة ومنهم مَنْ له أربعة، ومنهم مَنْ له أكثر من ذلك، كما جاء في الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل ليلة الإسراء وله ستمَائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب؛ ولهذا قال: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. قال السدي: يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء.
وقال الزهري، وابن جُرَيْج في قوله: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} يعني: حسن الصوت. رواه عن الزهري البخاري في الأدب، وابن أبي حاتم في تفسيره.
وقرئ في الشاذ: {يَزِيدُ في الحلق}، بالحاء المهملة، والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (2):

{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)}.
يخبر تعالى أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع. قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن عاصم، حدثنا مغيرة، أخبرنا عامر، عن ورَّاد- مولى المغيرة بن شعبة- قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: اكتب لي بما سمعتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فدعاني المغيرة فكتبت إليه: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من الصلاة قال: «لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ»، وسمعته ينهى عن قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وعن وأد البنات، وعقوق الأمهات، ومَنْع وهَات.
وأخرجاه من طرق عن وَرّاد، به.
وثبت في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول: «سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماء والأرض وملء ما شئت من شيء بعد. اللهم، أهلَ الثناء والمجد. أحقّ ما قال العبد، وكلنا لك عبد. اللهمّ لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجدّ».
وهذه الآية كقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس: 107]. ولهذا نظائر كثيرة.
وقال الإمام مالك: كان أبو هريرة إذا مُطِروا يقول: مُطِرنا بِنَوْء الفتح، ثم يقرأ هذه الآية: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
ورواه ابن أبي حاتم، عن يونس عن ابن وهب، عنه.

.تفسير الآية رقم (3):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)}.
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده في إفراد العبادة له، كما أنه المستقل بالخلق والرزق فكذلك فَليفرد بالعبادة، ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان؛ ولهذا قال: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}، أي: فكيف تؤفكون بعد هذا البيان، ووضوح هذا البرهان، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان؟

.تفسير الآيات (4- 6):

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)}.
يقول: وإن يكذبك- يا محمد- هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة، فإنهم كذلك جاؤوا قومهم بالبينات وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم، {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ} أي: وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء.
ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: المعاد كائن لا محالة، {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: العيشة الدنيئة بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم فلا تَتَلَهَّوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية، {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} وهو الشيطان. قاله ابن عباس. أي: لا يفتننكم الشيطان ويصرفنكم عن اتباع رسل الله وتصديق كلماته فإنه غرَّار كذاب أفاك. وهذه الآية كالآية التي في آخر لقمان: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان: 33]. قال مالك، عن زيد بن أسلم: هو الشيطان. كما قال: يقول المؤمنون للمنافقين يوم القيامة حين يضرب {بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 13، 14].
ثم بين تعالى عداوة إبليس لابن آدم فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} أي: هو مبارز لكم بالعداوة، فعادوه أنتم أشد العداوة، وخالفوه وكذبوه فيما يغركم به، {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي: إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير، فهذا هو العدو المبين. فنسأل الله القوي العزيز أن يجعلنا أعداء الشيطان، وأن يرزقنا اتباع كتابه، والاقتفاء بطريق رسوله، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير. وهذه كقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا} [الكهف: 50].
وقال بعض العلماء: وتحت هذا الخطاب نوع لطيف من العتاب كأنه يقول: إنما عاديت إبليس من أجل أبيكم ومن أجلكم، فكيف يحسن بكم أن توالوه؟ بل اللائق بكم أن تعادوه وتخالفوه ولا تطاوعوه.

.تفسير الآيات (7- 8):

{الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)}.
لما ذكر الله تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى عذاب السعير، ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد؛ لأنهم أطاعوا الشيطان وعَصَوا الرحمن، وأن الذين آمنوا بالله ورسله {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} أي: لما كان منهم من ذنب، {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} على ما عملوه من خير.
ثم قال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} يعني: كالكفار والفجار، يعملون أعمالا سيئة، وهم في ذلك يعتقدون ويحسون أنهم يحسنون صنعًا، أي: أفمن كان هكذا قد أضله الله، ألك فيه حيلة؟ لا حيلة لك فيه، {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي: بقدره كان ذلك، {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي: لا تأسف على ذلك فإن الله حكيم في قدره، إنما يضل من يضل ويهدي من يهدي، لما له في ذلك من الحجة البالغة، والعلم التام؛ ولهذا قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}.
وقال ابن أبي حاتم عند هذه الآية: حدثنا أبي، حدثنا محمد بن عوف الحِمْصي، حدثنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي عمرو السَّيباني- أو: ربيعة- عن عبد الله بن الديلمي قال: أتيت عبد الله بن عمرو، وهو في حائط بالطائف يقال له: الوهط، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله خلق خلقه في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى، ومن أخطأه منه ضل، فلذلك أقول: جف القلم على ما علم الله عز وجل».
ثم قال: حدثنا يحيى بن عبدك القزويني، حدثنا حسان بن حسان البصري، حدثنا إبراهيم بن بشر حدثنا يحيى بن معين حدثنا إبراهيم القرشي، عن سعد بن شرحبيل عن زيد بن أبي أوفى قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «الحمد لله الذي يهدي من الضلالة، ويلبس الضلالة على من أحب».
وهذا أيضًا حديث غريب جدًّا.

.تفسير الآيات (9- 11):

{وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)}.
كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها- كما في أول سورة الحج- ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها، {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج: 5]، كذلك الأجساد، إذا أراد الله سبحانه بعثها ونشورها، أنزل من تحت العرش مطرا يعم الأرض جميعًا فتنبت الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض؛ ولهذا جاء في الصحيح: «كل ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب، منه خلق ومنه يركب»؛ ولهذا قال تعالى: {كَذَلِكَ النُّشُورُ}.
وتقدم في (الحج) حديث أبي رَزِين: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «يا أبا رزين، أما مررت بوادي قومك محْلا ثم مررت به يهتز خَضِرًا؟» قلت: بلى. قال: «فكذلك يحيي الله الموتى».
وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} أي: مَنْ كان يحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة، فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده؛ لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعها، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء: 139].
وقال تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [يونس: 65]، وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8].
قال مجاهد: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ} بعبادة الأوثان، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}.
وقال قتادة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} أي: فليتعزز بطاعة الله عز وجل.
وقيل: مَنْ كان يريد علْم العزة، لمن هي، {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا}، حكاه ابن جرير.
وقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} يعني: الذكر والتلاوة والدعاء. قاله غير واحد من السلف.
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن إسماعيل الأحْمَسِيّ، أخبرني جعفر بن عَوْن، عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي، عن عبد الله بن المخارق، عن أبيه المخارق بن سليم قال:
قال لنا عبد الله- هو ابن مسعود- إذا حدثناكم حديثا أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله: إن العبد المسلم إذا قال: «سبحان الله وبحمده، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تبارك الله»، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه، ثم صَعد بهن إلى السماء فلا يمُرّ بهن على جمْعٍ من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن، حتى يجيء بهن وجه الرحمن عز وجل، ثم قرأ عبد الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، أخبرنا سعيد الجُرَيْرِي، عن عبد الله بن شقيق قال: قال كعب الأحبار: إن لسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر لدويا حول العرش كدويّ النحل، يُذَكِّرْنَ بصاحبهن، والعمل الصالح في الخزائن.
وهذا إسناد صحيح إلى كعب الأحبار، رحمه الله، وقد روي مرفوعًا.
قال الإمام أحمد: حدثنا ابن نُمَيْر، حدثنا موسى- يعني: ابن مسلم الطحان- عن عون بن عبد الله، عن أبيه- أو: عن أخيه- عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الذين يذكرون من جلال الله، من تسبيحه وتكبيره وتحميده وتهليله، يتعاطفن حول العرش، لهن دوي كدوي النحل، يذكرون بصاحبهن ألا يحب أحدكم ألا يزال له عند الله شيء يذكر به؟».
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بشر بكر بن خلف، عن يحيى بن سعيد القطان، عن موسى بن أبي عيسى الطحان، عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن أبيه- أو: عن أخيه- عن النعمان بن بشير، به.
وقوله: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الكلم الطيب: ذكر الله، يصعد به إلى الله، عز وجل، والعمل الصالح: أداء فرائضه. ومن ذكر الله ولم يؤد فرائضه، رد كلامه على عمله، فكان أولى به.
وكذا قال مجاهد: العمل الصالح يرفع الكلام الطيب.
وكذا قال أبو العالية، وعكرمة، وإبراهيم النَّخعِيّ، والضحاك، والسُّدِّيّ، والربيع بن أنس، وشَهْر بن حَوْشَب، وغير واحد من السلف.
وقال إياس بن معاوية القاضي: لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام.
وقال الحسن، وقتادة: لا يقبل قولٌ إلا بعمل.
وقوله: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ}: قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر، وشَهْر بن حَوْشَب: هم المراؤون بأعمالهم، يعني: يمكرون بالناس، يوهمون أنهم في طاعة الله، وهم بُغَضَاء إلى الله عز وجل، يراؤون بأعمالهم، {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا} [النساء: 142].
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم المشركون.
والصحيح أنها عامة، والمشركون داخلون بطريق الأولى، ولهذا قال: {لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ}، أي: يفسد ويبطل ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنهى، فإنه ما أسر عبد سريرة إلا أبداها الله على صفحات وجهه وفلتات لسانه، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله رداءها، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر. فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم، بل يُكشَف لهم عن قريب، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية.
وقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي: ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين، {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} أي: ذكرًا وأنثى، لطفًا منه ورحمة أن جعل لكم أزواجًا من جنسكم، لتسكنوا إليها.
وقوله: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أي: هو عالم بذلك، لا يخفى عليه من ذلك شيء، بل {مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]. وقد تقدم الكلام على قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ. عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 8، 9].
وقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} أي: ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل يعلمه، وهو عنده في الكتاب الأول، {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} الضمير عائد على الجنس، لا على العين؛ لأن العين الطويل للعمر في الكتاب وفي علم الله لا ينقص من عمره، وإنما عاد الضمير على الجنس.
قال ابن جرير: وهذا كقولهم: «عندي ثوب ونصفه» أي: ونصف آخر.
وروي من طريق العوفي، عن ابن عباس في قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، يقول: ليس أحد قضيت له طول عُمُر وحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر وقد قضيت ذلك له، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه، وليس أحد قَضَيْتُ له أنه قصير العمر والحياة ببالغ للعمر، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له، فذلك قوله: {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}، يقول: كل ذلك في كتاب عنده.
وهكذا قال الضحاك بن مزاحم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه: {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} قال: ما لَفَظت الأرحام من الأولاد من غير تمام.
وقال عبد الرحمن في تفسيرها: ألا ترى الناس، يعيش الإنسان مائة سنة، وآخر يموت حين يولد فهذا هذا.
وقال قتادة: والذي ينقص من عمره: فالذي يموت قبل ستين سنة.
وقال مجاهد: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} أي: في بطن أمه يكتب له ذلك، لم يخلق الخلق على عمر واحد، بل لهذا عمر، ولهذا عمر هو أنقص من عمره، وكل ذلك مكتوب لصاحبه، بالغ ما بلغ.
وقال بعضهم: بل معناه: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ} أي: ما يكتب من الأجل {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ}، وهو ذهابه قليلا قليلا الجميع معلوم عند الله سنة بعد سنة، وشهرًا بعد شهر، وجمعة بعد جمعة، ويومًا بعد يوم، وساعة بعد ساعة، الجميع مكتوب عند الله في كتاب.
نقله ابن جرير عن أبي مالك، وإليه ذهب السُّدِّيّ، وعطاء الخراساني. واختار ابن جرير القول الأول، وهو كما قال.
وقال النسائي عند تفسير هذه الآية الكريمة: حدثنا أحمد بن يحيى بن أبي زيد بن سليمان، سمعت ابن وهب يقول: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ سرَّه أن يُبْسَط له في رزقه، ويُنْسَأ له في أجله فليصل رَحِمَه».
وقد رواه البخاري ومسلم وأبو داود، من حديث يونس بن يزيد الأيلي، به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا الوليد بن عبد الملك بن عبيد الله أبو مسرح، حدثنا عثمان بن عطاء، عن مسلمة بن عبد الله، عن عمه أبي مَشْجَعَة بن ربعي، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله لا يؤخر نفسًا إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد، فيدعون له من بعده، فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر».
وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي: سهل عليه، يسير لديه علمه بذلك وبتفصيله في جميع مخلوقاته، فإن علمه شامل لجميع ذلك لا يخفى منه عليه شيء.