فصل: تفسير الآيات (18- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (18- 22):

{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نزلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حُكمه يوم القيامة مَنْ كان مُؤمنًا بآياته متبعًا لرسله، بمن كان فاسقا، أي: خارجا عن طاعة ربه مكذِّبًا لرُسُله إليه، كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28]، وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} أي: عند الله يوم القيامة.
وقد ذكر عطاء بن يَسَار والسُّدِّيّ وغيرهما: أنها نزلت في علي بن أبي طالب، وعقبة بن أبي مُعَيط؛ ولهذا فَصَّل حكمهم فقال: {أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي: صدقت قلوبهم بآيات الله وعملوا بمقتضاها، وهي الصالحات {فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى} أي: التي فيها المساكن والدور والغرف العالية {نزلا} أي: ضيافة وكرامة {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا} أي: خرجوا عن الطاعة، {فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} كقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} الآية [الحج: 22].
قال الفُضَيل بن عياض: والله إن الأيدي لموثقة، وإن الأرجل لمقيدة، وإن اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم.
{وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي: يقال لهم ذلك تقريعا وتوبيخا.
وقوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال ابن عباس: يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه. وروي مثله عن أبي بن كعب، وأبي العالية، والحسن، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، وعلقمة، وعطية، ومجاهد، وقتادة، وعبد الكريم الجَزَري، وخَصِيف.
وقال ابن عباس- في رواية عنه-: يعني به إقامة الحدود عليهم.
وقال البراء بن عازب، ومجاهد، وأبو عبيدة: يعني به عذاب القبر.
وقال النسائي: أخبرنا عمرو بن علي، أخبرنا عبد الرحمن بن مهدي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص وأبي عبيدة، عن عبد الله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ} قال: سنون أصابتهم.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدثني عبد الله بن عُمَر القَوَاريري، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن قتادة، عن عَزْرَة، عن الحسن العُرَني، عن يحيى بن الجزار، عن ابن أبي ليلى عن أبي بن كعب في هذه الآية: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأكْبَرِ} قال: المصيبات والدخان قد مضيا، والبطشة واللزام.
ورواه مسلم من حديث شعبة، به موقوفا نحوه. وعند البخاري عن ابن مسعود، نحوه.
وقال عبد الله بن مسعود أيضا، في رواية عنه: العذاب الأدنى: ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر.
وكذا قال مالك، عن زيد بن أسلم.
قال السُّدِّي وغيره: لم يبق بيت بمكة إلا دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير، فأصيبوا أو غَرموا، ومنهم مَنْ جمع له الأمران.
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أي: لا أظلم ممن ذَكَّرَه الله بآياته وبينها له ووضحها، ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها، كأنه لا يعرفها.
قال قتادة، رحمه الله: إياكم والإعراض عن ذكر الله، فإن مَنْ أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرَّة، وأعوز أشد العَوَز، وعظم من أعظم الذنوب.
ولهذا قال تعالى متهددا لمن فعل ذلك: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} أي: سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام.
وقال ابن جرير: حدثني عمران بن بكار الكِلاعي، حدثنا محمد بن المبارك، حدثنا إسماعيل بن عياش، حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله، عن عبادة بن نُسَيّ، عن جنادة بن أبي أمية عن معاذ بن جبل قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث من فعلهن فقد أجرم، من عقد لواء في غير حق، أو عقَّ والديه، أو مشى مع ظالم ينصره، فقد أجرم، يقول الله تعالى: {إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ}».
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث إسماعيل بن عياش، به، وهذا حديث غريب جدًا.

.تفسير الآيات (23- 25):

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)}
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله موسى، عليه السلام، أنه آتاه الكتاب وهو التوراة.
وقوله: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}: قال قتادة: يعني به ليلة الإسراء. ثم روي عن أبي العالية الرّياحي قال: حدثني ابن عم نبيكم- يعني ابن عباس- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أُريتُ ليلة أسري بي موسى بن عمران، رجلا آدم طُوَالا جَعْدًا، كأنه من رجال شَنُوءة. ورأيت عيسى رجلا مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، مبسط الرأس، ورأيت مالكًا خازن النار والدجال، في آيات أراهن الله إياه»، {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ}، أنه قد رأى موسى، ولقي موسى ليلة أسري به.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا الحسن بن علي الحُلْوَاني، حدثنا روح بن عبادة، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}، قال: جُعل موسى هُدى لبني إسرائيل، وفي قوله: {فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} قال: من لقاء موسى ربه عز وجل.
وقوله: {وَجَعَلْنَاهُ} أي: الكتاب الذي آتيناه {هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}، كما قال تعالى في سورة الإسراء: {وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلا} [الإسراء: 2].
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}، أي: لما كانوا صابرين على أوامر الله وترك نواهيه وزواجره وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله، ويدعون إلى الخير، ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر. ثم لما بدلوا وحَرَّفوا وأوَّلوا، سلبوا ذلك المقام، وصارت قلوبهم قاسية، يحرفون الكلم عن مواضعه، فلا عمل صالحًا، ولا اعتقاد صحيحًا؛ ولهذا قال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} قال قتادة وسفيان: لما صبروا عن الدنيا: وكذلك قال الحسن بن صالح.
قال سفيان: هكذا كان هؤلاء، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماما يُقتَدى به حتى يتحامى عن الدنيا.
قال وكيع: قال سفيان: لابد للدين من العلم، كما لابد للجسد من الخبز.
وقال ابن بنت الشافعي: قرأ أبي على عمي- أو: عمي على أبي- سئل سفيان عن قول علي، رضي الله عنه: الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ألم تسمع قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا}، قال: لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤوسًا. قال بعض العلماء: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.
ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّة وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الأمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الجاثية: 16، 17]، كما قال هنا: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: من الاعتقادات والأعمال.

.تفسير الآيات (26- 27):

{أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27)}.
يقول تعالى: أولم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية، بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به من قويم السبل، فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر؟ {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98]؛ ولهذا قال: {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي: وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين فلا يرون فيها أحدا ممن كان يسكنها ويعمرها، ذهبوا منها، {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} [الأعراف: 92]، كما قال: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]، وقال: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 45، 46]؛ ولهذا قال هاهنا: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي: إن في ذهاب أولئك القوم ودَمَارهم وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل، ونجاة من آمن بهم، لآيات وعبرا ومواعظ ودلائل متظاهرة.
{أَفَلا يَسْمَعُونَ} أي: أخبار من تقدم، كيف كان أمرهم؟.
وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ}: يبين تعالى لطفه بخلقه، وإحسانه إليهم في إرساله الماء إما من السماء أو من السيح، وهو: ما تحمله الأنهار وينحدر من الجبال إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته؛ ولهذا قال: {إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ}، وهي الأرض التي لا نبات فيها، كما قال تعالى: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 8]، أي: يَبَسًا لا تنبت شيئًا وليس المراد من قوله: {إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ} أرض مصر فقط، بل هي بعض المقصود، وإن مثل بها كثير من المفسرين فليست هي المقصودة وحدها، ولكنها مرادة قطعًا من هذه الآية، فإنها في نفسها أرض رخوة غليظة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطرًا لتهدمت أبنيتها، فيسوق الله إليها النيل بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة، وفيه طين أحمر، فيغشى أرض مصر، وهي أرض سبخة مرملة محتاجة إلى ذلك الماء، وذلك الطين أيضًا لينبُتَ الزرع فيه، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم، وطين جديد من غير أرضهم، فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود ابتداء.
قال ابن لَهِيعَة، عن قيس بن حجاج، عمن حدثه قال: لما فُتِحَت مصر، أتى أهلها عمرو بن العاص- وكان أميرًا بها- حين دخل بؤونة من أشهر العجم، فقالوا: أيها الأمير، إن لنيلنا سُنَّة لا يجري إلا بها. قال: وما ذاك؟ قالوا: إذا كانت ثنتا عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عَمَدنا إلى جارية بِكْر بين أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في هذا النيل. فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون في الإسلام، إن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤونة والنيل لا يجري، حتى هموا بالجلاء، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك، فكتب إليه: إنك قد أصبت بالذي فعلت، وقد بعثت إليك ببطاقة داخل كتابي هذا، فألقها في النيل. فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أما بعد.... فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك. قال: فألقى البطاقة في النيل، وأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعًا في ليلة واحدة، وقطع الله تلك السُّنَّة عن أهل مصر إلى اليوم. رواه الحافظ أبو القاسم اللالكائي الطبري في كتاب السنة له.
ولهذا قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ}، كما قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الأرْضَ شَقًّا. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا وَنَخْلا. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا. مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ} [عبس: 24- 32]؛ ولهذا قال هاهنا: {أَفَلا يُبْصِرُونَ}.
وقال ابن أبي نَجِيح، عن رجل، عن ابن عباس في قوله: {إِلَى الأرْضِ الْجُرُزِ} قال: هي التي لا تُمطر إلا مطرًا لا يغني عنها شيئا، إلا ما يأتيها من السيول.
وعن ابن عباس، ومجاهد: هي أرض باليمن.
وقال الحسن، رحمه الله: هي قرى فيما بين اليمن والشام.
وقال عِكْرِمة، والضحاك، وقتادة، والسُّدِّيّ، وابن زيد: الأرض الجرز: التي لا نبات فيها وهي مغبرة.
قلت: وهذا كقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ. وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ. لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ} [يس: 33- 35].