فصل: تفسير الآيات (11- 20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (11- 20):

{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}
قال ابن جرير: حدثني عمر بن إسماعيل بن مجالد، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن أبيه، عن عطية، عن ابن عمر في قوله: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قال: جبل في جهنم.
وقال كعب الأحبار: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} هو سبعون درجة في جهنم.
وقال الحسن البصري: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} قال: عقبة في جهنم.
وقال قتادة: إنها قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله عز وجل.
وقال قتادة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} ثم أخبر عن اقتحامها. فقال: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ}.
وقال ابن زيد: {اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} أي: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير. ثم بينها فقال: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ}
قرئ: {فَكُّ رَقَبَةٍ} بالإضافة، وقُرئ على أنه فعل، وفيه ضمير الفاعل والرقبة مفعوله وكلتا القراءتين معناهما متقارب.
قال الإمام أحمد: حدثنا علي بن إبراهيم، حدثنا عبد الله- يعني ابن سعيد بن أبي هند- عن إسماعيل بن أبي حكيم- مولى آل الزبير- عن سعيد بن مرجانة: أنه سمع أبا هُرَيرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرْب منها إربا منه من النار، حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج». فقال علي بن الحسين: أنتَ سَمعتَ هذا من أبي هُرَيرة؟ فقال سعيد: نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له- أفْرَهَ غلمانه-: ادعُ مطْرَفًا. فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حُر لوجه الله.
وقد رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، من طرق، عن سعيد بن مرجانة، به وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين زين العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم.
وقال قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مَعدانَ بن أبي طلحة، عن أبي نَجِيح قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما مسلم أعتقَ رَجُلا مسلما، فإن الله جاعلٌ وفاء كل عظم من عظامه عظمًا من عظام محرره من النار، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة، فإن الله جاعل وفاء كل عظم من عظامها عظما من عظامها من النار».
رواه ابن جرير هكذا وأبو نجيح هذا هو عمرو بن عَبسَةَ السلمي، رضي الله عنه.
قال الإمام أحمد: حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا بقية، حدثني بَحير بن سعد، عن خالد بن معدان، عن كثير بن مرة، عن عمرو بن عَبسَة أنه حدثهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من بنى مسجدا ليذكر الله فيه، بنى الله له بيتا في الجنة. ومن أعتق نفسًا مسلمة، كانت فديته من جهنم. ومن شاب شيبة في الإسلام، كانت له نورا يوم القيامة».
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا حَريز؛ عن سُليم بن عامر: أن شرحبيل بن السمط قال لعمرو بن عَبسةَ حَدِّثنا حديثًا ليس فيه تَزَيّد ولا نسيان. قال عمرو: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أعتق رقبة مسلمة كانت فكاكه من النار، عُضْوا بعضو. ومن شاب شيبة في سبيل الله، كانت له نورا يوم القيامة، ومن رمى بسهم فبلغ فأصاب أو أخطأ، كان كمعتق رقبة من بني إسماعيل».
وروى أبو داود، والنسائي بعضه.
طريق أخرى: قال أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا الفرج، حدثنا لقمان، عن أبي أمامة، عن عمرو بن عَبسَةَ قال السلمي قلت له: حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيه انتقاص ولا وَهم. قال: سمعته يقول: «من وُلد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحِنْثَ، أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة، ومن رَمى بسهم في سبيل الله، بلغ به العدو، أصاب أو أخطأ، كان له عتق رقبة. ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار، ومن أنفق زوجين في سبيل الله، فإن للجنة ثمانية أبواب، يدخله الله من أي باب شاء منها».
وهذه أسانيد جيدة قوية، ولله الحمد والمنة.
حديث آخر: قال أبو داود: حدثنا عيسى بن محمد الرملي، حدثنا ضَمْرة، عن ابن أبي عَبلَة، عن الغريف بن الديلمي قال: أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا له: حدثنا حَديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان. فغضب وقال: إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته، فيزيد وينقص. قلنا: إنما أردنا حديثًا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب- يعني النار- بالقتل، فقال: «أعتقوا عنه يُعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار».
وكذا رواه النسائي من حديث إبراهيم بن أبي عَبلة، عن الغَريف بن عياش الديلمي، عن واثلة، به.
حديث آخر: قال أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا هشام، عن قتادة، عن قيس الجذامي، عن عقبة بن عامر الجهني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مسلمة فهو فداؤه من النار».
وحدثنا عبد الوهاب الخفاف، عن سعيد، عن قتادة قال: ذُكِر أن قيسا الجذامي حَدّث عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أعتق رقبة مؤمنة فهي فكاكه من النار».
تفرد به أحمد من هذا الوجه.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم وأبو أحمد قالا حدثنا عيسى بن عبد الرحمن البجلي- من بني بجيلة- من بني سليم- عن طلحة- قال أبو أحمد: حدثنا طلحة بن مصرف- عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، علمني عملا يدخلني الجنة. فقال: «لئن كنت أقصرتَ الخطبة لقد أعرضت المسألة. أعتق النسمة، وفك الرقبة». فقال: يا رسول الله، أوليستا بواحدة؟ قال: «لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها. والمنحة الوكوف، والفيء على ذي الرحم الظالم؛ فإن لم تُطِق ذلك فأطعم الجائعَ، واسْقِ الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من الخير».
وقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} قال ابن عباس: ذي مجاعة.
وكذا قال عكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة، وغير واحد. والسَّغَب: هو الجوع.
وقال إبراهيم النَّخَعِي: في يومٍ الطعامُ فيه عزيزٌ.
وقال قتادة: في يوم يُشتهى فيه الطعام.
وقوله: {يَتِيمًا} أي: أطعم في مثل هذا اليوم يتيما، {ذَا مَقْرَبَةٍ} أي: ذا قرابة منه. قاله ابن عباس، وعكرمة، والحسن، والضحاك، والسدي. كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد:
حدثنا يزيد، أخبرنا هشام، عن حفصة بنت سيرين، عن سليمان بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة».
وقد رواه الترمذي والنسائي وهذا إسناد صحيح.
وقوله: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} أي: فقيرا مُدقعًا لاصقا بالتراب، وهو الدقعاء أيضا.
قال ابن عباس: {ذَا مَتْرَبَةٍ} هو المطروح في الطريق الذي لا بيت له، ولا شيء يقيه من التراب- وفي رواية: هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة، ليس له شيء- وفي رواية عنه: هو البعيد التربة.
قال ابن أبي حاتم: يعني الغريب عن وطنه.
وقال عكرمة: هو الفقير المديون المحتاج.
وقال سعيد بن جبير: هو الذي لا أحد له.
وقال ابن عباس، وسعيد، وقتادة، ومقاتل بن حيان: هو ذو العيال.
وكل هذه قريبة المعنى.
وقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي: ثم هو مع هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمنٌ بقلبه، محتسب ثواب ذلك عند الله عز وجل. كما قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] وقال {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية [النحل: 97].
وقوله: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} أي: كان من المؤمنين العاملين صالحا، المتواصين بالصبر على أذى الناس، وعلى الرحمة بهم. كما جاء في الحديث: «الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء» وفي الحديث الآخر: «لا يَرْحَم اللهُ من لا يَرْحَم الناس».
وقال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نَجِيح، عن ابن عامر عن عبد الله بن عَمْرو- يرويه- قال: «من لم يَرْحم صغيرنا ويَعْرِف حَقَّ كبيرنا، فليس منا».
وقوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} أي: المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين.
ثم قال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} أي: أصحاب الشمال، {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} أي: مطبقة عليهم، فلا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها.
قال أبو هريرة، وابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومحمد بن كعب القرظي، وعطية العوفي، والحسن، وقتادة، والسدي: {مُؤْصَدَةٌ} أي: مطبقة- قال ابن عباس: مغلقة الأبواب.
وقال مجاهد: أصد الباب بلغة قريش: أي أغلقه.
وسيأتي في ذلك حديث في سورة: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ}
وقال الضحاك: {مُؤْصَدَةٌ} حيط لا باب له.
وقال قتادة: {مُؤْصَدَةٌ} مطبقة فلا ضوء فيها ولا فُرَج، ولا خروج منها آخر الأبد.
وقال أبو عمران الجوني: إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان وكل من كان يَخاف الناس في الدنيا شره، فأوثقوا في الحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم، ثم أوصدوها عليهم، أي: أطبقوها- قال: فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدا، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدا، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدا،. ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدا. رواه ابن أبي حاتم.
آخر تفسير سورة البلد ولله الحمد والمنة.

.سورة الشمس:

وهي مكية.
تقدم حديث جابر الذي في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: «هلا صليت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى} {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}؟».
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 10):

{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)}
قال مجاهد: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} أي: وضوئها.
وقال قتادة: {وَضُحَاهَا} النهار كله.
قال ابن جرير: والصواب أن يقال: أقسم الله بالشمس ونهارها؛ لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار.
{وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} قال مجاهد: تبعها.
وقال العوفي، عن ابن عباس: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا} قال: يتلو النهار.
وقال قتادة: {إِذَا تَلاهَا} ليلة الهلال، إذا سقطت الشمس رؤي الهلال.
وقال ابن زيد: هو يتلوها في النصف الأول من الشهر، ثم هي تتلوه. وهو يتقدمها في النصف الأخير من الشهر.
وقال مالك، عن زيد بن أسلم: إذا تلاها ليلة القدر.
وقوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} قال مجاهد: أضاء.
وقال قتادة: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} إذا غشيها النهار.
قال ابن جرير: وكان بعض أهل العربية يتأول ذلك بمعنى: والنهار إذا جلا الظلمة، لدلالة الكلام عليها.
قلت: ولو أن هذا القائل تأول ذلك بمعنى {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} أي: البسيطة، لكان أولى، ولصح تأويله في قول الله {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} فكان أجود وأقوى، والله أعلم. ولهذا قال مجاهد: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا} إنه كقوله: {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2].
وأما ابن جرير فاختار عود الضمير في ذلك كله على الشمس، لجريان ذكرها. وقالوا في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} يعني: إذا يغشى الشمس حين تغيب، فتظلم الآفاق.
وقال بَقِيَّة بن الوليد، عن صفوان، حدثني يزيد بن ذي حمامة قال: إذا جاء الليل قال الرب جل جلاله: غشي عبادي خلقي العظيم، فالليل يهابه، والذي خلقه أحق أن يهاب. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} يحتمل أن تكون ما هاهنا مصدرية، بمعنى: والسماء وبنائها. وهو قول قتادة، ويحتمل أن تكون بمعنى مَن يعني: والسماء وبانيها. وهو قول مجاهد، وكلاهما متلازم، والبناء هو الرفع، كقوله: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} أي: بقوة {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 47، 48].
وهكذا قوله: {وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا} قال مجاهد: {طَحَاهَا} دحاها.
وقال العوفي، عن ابن عباس: {وَمَا طَحَاهَا} أي: خلق فيها.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {طَحَاهَا} قسمها.
وقال مجاهد، وقتادة والضحاك، والسُّدِّي، والثوري، وأبو صالح، وابن زيد: {طَحَاهَا} بسطها.
وهذا أشهر الأقوال، وعليه الأكثر من المفسرين، وهو المعروف عند أهل اللغة، قال الجوهري: طحوته مثل دحوته، أي: بسطته.
وقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} أي: خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة، كما قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه أو يُنَصِّرانه أو يُمَجِّسانه، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعَاء هل تحسون فيها من جدعاء؟».
أخرجاه من رواية أبي هريرة.
وفي صحيح مسلم من رواية عياض بن حمار المجاشعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل: إني خلقت عبادي حُنَفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم».
وقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي: فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي: بين لها ذلك، وهداها إلى ما قدر لها.
قال ابن عباس: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} بين لها الخير والشر.
وكذا قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والثوري.
وقال سعيد بن جبير: ألهمها الخير والشر.
وقال ابن زيد: جعل فيها فجورها وتقواها.
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا صفوان بن عيسى وأبو عاصم النبيل قالا حدثنا عَزْرَة بن ثابت، حدثني يحيى بن عقيل، عن يحيى بن يَعْمَر، عن أبي الأسود الدّيلي قال: قال لي عمران بن حصين: أرأيت ما يعمل فيه الناس ويتكادحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قَدَر قد سبق، أو فيما يُستَقبَلُون مما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأكدت عليهم الحجة؟ قلت: بل شيء قضي عليهم. قال: فهل يكون ذلك ظلمًا؟ قال: ففزعت منه فزعًا شديدًا، قال: قلت له: ليس شيء إلا وهو خَلقُه وملْك يَده، لا يسألُ عما يفعل وهم يسألون. قال: سددك الله، إنما سألت لأخبر عقلك، إن رجلا من مُزَينة- أو جهينة- أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قَدر قد سبق، أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم، وأكدت به عليهم الحجة؟ قال: «بل شيء قد قضي عليهم». قال: ففيم نعمل؟ قال: «من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يُهَيِّئه لها، وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}».
رواه أحمد ومسلم، من حديث عَزْرَة بن ثابت به.
وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى نفسه، أي: بطاعة الله- كما قال قتادة- وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل. ويُروَى نحوه عن مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير. وكقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14، 15].
{وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أي: دسسها، أي: أخملها ووضع منها بخذلانه إياها عن الهُدَى، حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل.
وقد يحتمل أن يكون المعنى: قد أفلح من زكى الله نفسه، وقد خاب من دَسَّى الله نفسه، كما قال العوفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي وأبو زُرْعَة قالا حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا أبو مالك- يعني عمرو بن هشام- عن جُوَيبر، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قول الله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أفلحت نفس زكاها الله».
ورواه ابن أبي حاتم من حديث أبي مالك، به. وجويبر هذا هو ابن سعيد، متروك الحديث، والضحاك لم يلق ابن عباس.
وقال الطبراني: حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثنا أبي، حدثنا ابن لَهِيعة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بهذه الآية: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وقف، ثم قال: «اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وخير من زكاها».
حديث آخر: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا يعقوب بن حميد المدني، حدثنا عبد الله بن عبد الله الأموي، حدثنا مَعْن بن محمد الغفاري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} قال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» لم يخرجوه من هذا الوجه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، عن نافع- عن ابن عمر- عن صالح بن سُعَيد، عن عائشة: أنها فَقَدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه وهو ساجد، وهو يقول: «رب، أعط نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها» تفرد به.
حديث آخر: قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا عبد الواحد بن زياد، حدثنا عاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث، عن زيد بن أرقم قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم، إني أعوذ بك من العجز والكَسَل والهرم، والجُبن والبخل وعذاب القبر. اللهم، آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم، إني أعوذ بك من قَلْب لا يخشع، ومن نَفْس لا تشبع، وعِلْم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها». قال زيد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكوهن.
رواه مسلم من حديث أبي معاوية، عن عاصم الأحول، عن عبد الله بن الحارث- وأبي عثمان النهدي، عن زيد بن أرقم، به.