فصل: تفسير الآيات (106- 107):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (106- 107):

{اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)}
يقول تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبع طريقته: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي: اقتد به، واقتف أثره، واعمل به؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مِرْية فيه؛ لأنه لا إله إلا هو.
{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: اعف عنهم واصفح، واحتمل أذاهم، حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم.
واعلم أن لله حكمة في إضلالهم، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا ولو شاء الله لجمعهم على الهدى.
{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} أي: بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله: {وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي: حافظا تحفظ أعمالهم وأقوالهم {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي: موكل على أرزاقهم وأمورهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} كما قال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21، 22]، وقال {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: 40]

.تفسير الآية رقم (108):

{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)}
يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين، وإن كان فيه مصلحة، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين، وهو الله لا إله إلا هو.
كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية: قالوا: يا محمد، لتنتهين عن سبك آلهتنا، أو لنهجون ربك، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم، {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
وقال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: كان المسلمون يسبون أصنام الكفار، فيسب الكفار الله عدوا بغير علم، فأنزل الله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم، عن السُّدِّي أنه قال في تفسير هذه الآية: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته، فتقول العرب: كان يمنعهم فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان، وأبو جهل، والنضر بن الحارث، وأمية، وأبي ابنا خلف، وعقبة بن أبي مُعِيط، وعمرو بن العاص، والأسود بن البَخْتَري وبعثوا رجلا منهم يقال له: المطلب، قالوا: استأذن لنا على أبي طالب، فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك، فأذن لهم عليه، فدخلوا عليه فقالوا: يا أبا طالب، أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا، ولندَعْه وإلهه. فدعاه، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تريدون؟». قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا، ولندَعْك وإلهك. قال له أبو طالب: قد أنصفك قومك، فاقبل منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرأيتم إن أعطيتكم هذا، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم، وأدت لكم الخراج؟» قال أبو جهل: وأبيك لأعطينكها وعشرة أمثالها قال فما هي؟ قال: «قولوا لا إله إلا الله». فأبوا واشمأزوا. قال أبو طالب: يا ابن أخي، قل غيرها، فإن قومك قد فزعوا منها. قال: «يا عم، ما أنا بالذي أقول غيرها، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها». إرَادَةَ أن يُؤيسَهم، فغضبوا وقالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك فذلك قوله: {فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ}
ومن هذا القبيل- وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها- ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ملعون من سب والديه». قالوا يا رسول الله، وكيف يسب الرجل والديه؟ قال: «يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه». أو كما قال، عليه السلام.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} أي: وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه، ولله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره. {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ} أي: معادهم ومصيرهم، {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي: يجازيهم بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر.

.تفسير الآيات (109- 110):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)}
يقول تعالى إخبارًا عن المشركين: إنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، أي: حلفوا أيمانًا مؤكدة {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} أي: معجزة وخارق، {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} أي: ليصدقنها، {قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتًا وكفرًا وعنادًا، لا على سبيل الهدى والاسترشاد: إنما مرجع هذه الآيات إلى الله، إن شاء أجابكم، وإن شاء ترككم، كما قال، قال ابن جرير:
حدثنا هَنَّاد حدثنا يونس بن بُكَيْر، حدثنا أبو مَعْشَر، عن محمد بن كعب القُرَظِي قال: كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا، فقالوا: يا محمد، تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي شيء تحبون أن آتيكم به؟». قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا. فقال لهم: «فإن فعلت تصدقوني؟». قالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتبعك أجمعين. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل، عليه السلام، فقال له: لك ما شئت، إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بل يتوب تائبهم». فأنزل الله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} إلى قوله تعالى {يَجْهَلُونَ}
وهذا مرسل وله شواهد من وجوه أخر.
وقال الله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59].
وقوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} قيل: المخاطب ب {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} المشركون، وإليه ذهب مجاهد كأنه يقول لهم: وما يدريكم بصدقكم في هذه الأيمان التي تقسمون بها. وعلى هذا فالقراءة: {إنها إذا جاءت لا يؤمنون} بكسر {إنها} على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عند مجيء الآيات التي طلبوها، وقراءة بعضهم: {أنها إذا جاءت لا تؤمنون} بالتاء المثناة من فوق.
وقيل: المخاطب بقوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ} المؤمنون، أي: وما يدريكم أيها المؤمنون، وعلى هذا فيجوز في {أَنَّهَا} الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم. وعلى هذا فتكون {لا} في قوله: {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} صلة كما في قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وقوله {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95]. أي: ما منعك أن تسجد إذ أمرتك وحرام أنهم يرجعون. وتقديره في هذه الآية: وما يدريكم- أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك حرصا على إيمانهم- أنها إذا جاءتهم الآيات يؤمنون.
وقال بعضهم: {أنها} بمعنى لعلها.
قال ابن جرير: وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. قال: وقد ذكر عن العرب سماعا: اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئًا بمعنى: لعلك تشتري.
قال: وقد قيل: إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا:
أعاذل ما يُدْريك أنّ مَنيَّتي ** إلى سَاعَةٍ في اليوم أو في ضُحَى الغَد

وقد اختار هذا القول ابن جرير وذكر عليه شواهد من أشعار العرب والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال العَوفي عن ابن عباس في هذه الآية: لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدَّت عن كل أمر.
وقال مجاهد: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية، فلا يؤمنون، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.
وكذا قال عِكْرِمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه. قال: {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، وقال: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 56- 58] فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى، وقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، وقال {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} قال: لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا. وقوله: {وَنَذَرُهُمْ} أي: نتركهم {فِي طُغْيَانِهِمْ} قال ابن عباس والسُّدِّي: في كفرهم.
وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة: في ضلالهم.
{يَعْمَهُونَ} قال الأعمش: يلعبون.
وقال ابن عباس، ومجاهد، وأبو العالية، والربيع، وأبو مالك، وغيره: في كفرهم يترددون.

.تفسير الآية رقم (111):

{وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)}
يقول تعالى: ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} فنزلنا عليهم الملائكة، أي: تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل، كما سألوا فقالوا: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا} [الإسراء: 92] {قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله} [الأنعام: 124]، {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان: 21].
{وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} أي: فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل، {وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا}- قرأ بعضهم: {قِبَلا} بكسر القاف وفتح الباء، من المقابلة، والمعاينة. وقرأ آخرون وقبلا بضمهما قيل: معناه من المقابلة والمعاينة أيضا، كما رواه علي بن أبي طلحة، والعوفي، عن ابن عباس. وبه قال قتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد: {قُبُلا} أفواجًا، قبيلا قبيلا أي: تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي: إن الهداية إليه، لا إليهم. بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهو الفعال لما يريد، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته، وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].

.تفسير الآيات (112- 113):

{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)}
يقول تعالى: وكما جعلنا لك- يا محمد- أعداءً يخالفونك، ويعادونك جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك، كما قال تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [آل عمران: 184]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام: 34]، وقال تعالى: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43]، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} [الفرقان: 43].
وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي.
وقوله: {شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ} بدل من {عَدُوًّا} أي: لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، ومن هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم.
قال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة في قوله تعالى {شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ} قال: من الجن شياطين، ومن الإنس شياطين، يوحي بعضهم إلى بعض، قال قتادة: وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تَعَوَّذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن». فقال: أو إن من الإنس شياطين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم».
وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر، رضي الله عنه، قال ابن جرير:
حدثنا المثنى، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة، عن ابن عائذ، عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس، قال، فقال: «يا أبا ذر، هل صليت؟». قال: لا يا رسول الله. قال: «قم فاركع ركعتين». قال: ثم جئت فجلستُ إليه، فقال: «يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس؟». قال: قلت: لا يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: «نعم، هم شر من شياطين الجن».
وهذا أيضا فيه انقطاع وروي متصلا كما قال الإمام أحمد:
حدثنا وَكِيع، حدثنا المسعودي، أنبأنى أبو عمر الدمشقي، عن عبيد بن الخشخاش، عن أبي ذر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فجلست فقال: «يا أبا ذر هل صليت؟». قلت: لا. قال: «قم فصل». قال: فقمت فصليت، ثم جلست فقال: «يا أبا ذر، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن». قال: قلت يا رسول الله، وللإنس شياطين؟ قال: «نعم».
وذكر تمام الحديث بطوله.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره، من حديث جعفر بن عون، ويعلى بن عبيد، وعبيد الله بن موسى، ثلاثتهم عن المسعودي، به طريق أخرى عن أبي ذر: قال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا الحجاج، حدثنا حماد، عن حميد بن هلال، حدثني رجل من أهل دمشق، عن عوف بن مالك، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟». قال: قلت يا رسول الله، هل للإنس من شياطين؟ قال: «نعم».
طريق أخرى للحديث: قال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا معان بن رفاعة، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر تعوذتَ من شياطين الجن والإنس؟». قال: يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين؟ قال: «نعم، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا».
فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته، والله أعلم.
وقد روي ابن جرير: حدثنا ابن وَكِيع، حدثنا أبو نُعَيم، عن شَرِيك، عن سعيد بن مسروق، عن عِكْرِمة: {شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ} قال: ليس من الإنس شياطين، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن.
قال: وحدثنا الحارث، حدثنا عبد العزيز، حدثنا إسرائيل، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} قال: للإنسى شيطان، وللجني شيطان فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
وقال أسباط، عن السُّدِّي، عن عِكْرِمة في قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ} في تفسير هذه الآية: أما شياطين الإنس، فالشياطين التي تضل الإنس وشياطين الجن الذين يضلون الجن، يلتقيان، فيقول كل واحد منهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا، فيعلم بعضهم بعضا.
ففهم ابن جرير من هذا؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي: الشياطين من الجن الذين يضلون الناس، لا أن المراد منه شياطين الإنس منهم. ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة، وأما كلام السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى، وهو محتمل، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا، عن ابن عباس من رواية الضحاك، عنه، قال: إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم، قال: فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن، فيقول هذا لهذا: أضلله بكذا، أضلله بكذا. فهو قوله: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا}
وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من حديث أبي ذر: إن للإنس شياطين منهم، وشيطان كل شيء ما رده، ولهذا جاء في صحيح مسلم، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكلب الأسود شيطان» ومعناه- والله أعلم-: شيطان في الكلاب.
وقال ابن جُرَيْج: قال مجاهد في تفسير هذه الآية: كفار الجن شياطين، يوحون إلى شياطين الإنس، كفار الإنس، زخرف القول غرورا.
وروى ابن أبي حاتم، عن عِكْرِمة قال: قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني حتى كاد يتعاهد مبيتي بالليل، قال: فقال لي: اخرج إلى الناس فحدث الناس. قال: فخرجت، فجاء رجل فقال: ما تقول في الوحي؟ فقلت: الوحي وحيان، قال الله تعالى: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: 3]، وقال الله تعالى: {شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} قال: فهموا بي أن يأخذوني، فقلت: ما لكم ذاك، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني.
وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار- وهو ابن أبي عبيد- قبحه الله، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال: صدق، قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام: 121]، وقوله تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} أي: يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} أي: وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء.
{فَذَرْهُمْ} أي: فدعهم، {وَمَا يَفْتَرُونَ} أي: يكذبون، أي: دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.
وقوله تعالى: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} أي: ولتميل إليه- قاله ابن عباس- {أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي: قلوبهم وعقولهم وأسماعهم.
وقال السُّدِّي: قلوب الكافرين، {وَلِيَرْضَوْهُ} أي: يحبوه ويريدوه. وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة، كما قال تعالى: {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ. إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 161- 163]، وقال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 8، 9].
وقال السُّدِّي، وابن زيد: وليعملوا ما هم عاملون.