فصل: تفسير الآيات (80- 83):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (80- 83):

{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)}
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده، بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها، ويستترون بها، وينتفعون بها سائر وجوه الانتفاع، وجعل لهم أيضًا {مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا} أي: من الأدم، يستخفون حملها في أسفارهم، ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر ولهذا قال: {تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا} أي: الغنم، {وَأَوْبَارِهَا} أي: الإبل، {وَأَشْعَارِهَا} أي: المعز- والضمير عائد على الأنعام- {أَثَاثًا} أي: تتخذون منه أثاثا، وهو المال. وقيل: المتاع. وقيل: الثياب والصحيح أعم من هذا كله، فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك، ويتخذ مالا وتجارة.
وقال ابن عباس: الأثاث: المتاع.
وكذا قال مجاهد، وعكرمة، وسعيد بن جبير، والحسن، وعطية العوفي، وعطاء الخراساني، والضحاك، وقتادة.
وقوله: {إِلَى حِينٍ} أي: إلى أجل مسمى ووقت معلوم.
وقوله: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا} قال قتادة: يعني: الشجر.
{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} أي: حصونا ومعاقل، كما {جَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وهي الثياب من القطن والكتان والصوف، {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} كالدروع من الحديد المصفَّح والزَّرد وغير ذلك، {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي: هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم، وما تحتاجون إليه، ليكون- عونًا لكم على طاعته وعبادته، {لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}
هكذا فسره الجمهور، وقرؤوه بكسر اللام من {تسلمون} أي: من الإسلام.
وقال قتادة في قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} هذه السورة تسمى سورة النِّعَم.
وقال عبد الله بن المبارك وعباد بن العوام، عن حَنْظَلة السدوسي، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها {تَسلَمون} بفتح اللام، يعني من الجراح. رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، عن عباد، وأخرجه ابن جرير من الوجهين، وردَّ هذه القراءة.
وقال عطاء الخراساني: إنما نزل القرآن على قدر معرفة العرب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} وما جعل لكم من السهل أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا أصحاب جبال؟ ألا ترى إلى قوله: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ}
وما جعل لكم من غير ذلك أعظم منه وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب وبر وشَعَر، ألا ترى إلى قوله: {وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} [النور: 43]، لعجبهم من ذلك، وما أنزل من الثلج أعظم وأكثر، ولكنهم كانوا لا يعرفونه؟ ألا ترى إلى قوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} وما بقي من البرد أعظم وأكثر ولكنهم كانوا أصحاب حر.
وقوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: بعد هذا البيان وهذا الامتنان، فلا عليك منهم، {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ} وقد أديته إليهم.
{يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} أي: يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك، ويعبدون معه غيره، ويسندون النصر والرزق إلى غيره، {وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}- كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو زُرْعَة، حدثنا صفوان، حدثنا الوليد حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مجاهد؛ أن أعرابيًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا} قال الأعرابي: نعم. قال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} قال الأعرابي: نعم. ثم قرأ عليه، كل ذلك يقول الأعرابي: نعم، حتى بلغ: {كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} فولى الأعرابي، فأنزل الله: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ}.

.تفسير الآيات (84- 88):

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)}
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة، وأنه يبعث من كل أمة شهيدا، وهو نبيها، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى، {ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} أي: في الاعتذار؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كما قال: {هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35، 36]. ولهذا قال: {وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي: أشركوا {الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ} أي: لا يفتر عنهم ساعة واحدة، {وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي: ولا يؤخر عنهم، بل يأخذهم سريعا من الموقف بلا حساب، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فيشرف عُنُق منها على الخلائق، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، فتقول: إني وكلت بكل جبار عنيد، الذي جعل مع الله إلهًا آخر، وبكذا وكذا وتذكر أصنافا من الناس، كما جاء في الحديث. ثم تنطوي عليهم وتتلقطهم من الموقف كما يتلقط الطائر الحب قال الله تعالى: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} [الفرقان: 12- 14]، وقال تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا} [الكهف: 53].
وقال تعالى: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ} [الأنبياء: 39، 40].
ثم أخبر تعالى عن تبرئ آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها، فقال: {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ} أي: الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا، {قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون} أي: قالت لهم الآلهة: كذبتم، ما نحن أمرناكم بعبادتنا. كما قال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 5، 6] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} [مريم: 81، 82].
وقال الخليل عليه الصلاة والسلام: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت: 25] وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} [الكهف: 52] والآيات في هذا كثيرة.
وقوله: {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ}- قال قتادة، وعكرمة: ذلوا واستسلموا يومئذ، أي: استسلموا لله جميعهم، فلا أحد إلا سامع مطيع، كما قال: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} [مريم: 38] أي: ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذ! وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]، وقال: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه: 111] أي: خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت.
{وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} أي: ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجيز.
ثم قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} أي: عذابا على كفرهم، وعذابًا على صدهم الناس عن اتباع الحق، كما قال تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] أي: ينهون الناس، عن اتباعه، ويبتعدون هم منه أيضًا {وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام: 26]
وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم، كما قال الله تعالى: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].
وقد قال الحافظ أبو يعلى: حدثنا سُرَيْح بن يونس، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عبد الله بن مُرَّة، عن مسروق، عن عبد الله في قول الله: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} قال: زيدوا عقارب أنيابها كالنخل الطوال.
وحدثنا سريج بن يونس، حدثنا إبراهيم بن سليمان، حدثنا الأعمش، عن الحسن، عن ابن عباس أنه قال: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} قال: هي خمسة أنهار فوق العرش يعذبون ببعضها بالليل وببعضها بالنهار.

.تفسير الآية رقم (89):

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} يعني أمته.
أي: اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع. وهذه الآية شبيهة بالآية التي انتهى إليها عبد الله بن مسعود حين قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة النساء فلما وصل إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41]. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حسبك». قال ابن مسعود، رضي الله عنه: فالتفت فإذا عيناه تذرفان.
وقوله: {وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} قال ابن مسعود: وقد بين لنا في هذا القرآن كل علم، وكل شيء.
وقال مجاهد: كل حلال وحرام.
وقول ابن مسعود: أعم وأشمل؛ فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق، وعلم ما سيأتي، وحكم كل حلال وحرام، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم، ومعاشهم ومعادهم.
{وَهُدًى} أي: للقلوب، {وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}
وقال الأوزاعي: {وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} أي: بالسنة.
ووجه اقتران قوله: {وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} مع قوله: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ} أن المراد- والله أعلم-: إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك، سائلك عن ذلك يوم القيامة، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 6]، {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93]، {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص: 85] أي: إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه، ومعيدك يوم القيامة، وسائلك عن أداء ما فرض عليك. هذا أحد الأقوال، وهو مُتَّجه حسن.

.تفسير الآية رقم (90):

{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كما قال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]، وقال {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40]، وقال {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا، من شرعية العدل والندب إلى الفضل.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} قال: شهادة أن لا إله إلا الله.
وقال سفيان بن عيينة: العدل في هذا الموضع: هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملا. والإحسان: أن تكون سريرته أحسن من علانيته. والفحشاء والمنكر: أن تكون علانيته أحسن من سريرته.
وقوله: {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} أي: يأمر بصلة الأرحام، كما قال: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26].
وقوله: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} فالفواحش: المحرمات. والمنكرات: ما ظهر منها من فاعلها؛ ولهذا قيل في الموضع الآخر: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33]. وأما البغي فهو: العدوان على الناس. وقد جاء في الحديث: «ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا، مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة، من البغي وقطيعة الرحم».
وقوله {يَعِظُكُمْ} أي: يأمركم بما يأمركم به من الخير، وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
قال الشعبي، عن شُتَيْر بن شَكَل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} الآية. رواه ابن جرير.
وقال سعيد عن قتادة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ} الآية، ليس من خُلُق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به، وليس من خلق سيئ كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدم فيه. وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها.
قلت: ولهذا جاء في الحديث: «إن الله يحب معالي الأخلاق، ويكره سَفْسافها».
وقال الحافظ أبو نُعَيم في كتابه كتاب معرفة الصحابة: حدثنا أبو بكر محمد بن الفتح الحنبلي، حدثنا يحيى بن محمد مولى بني هاشم، حدثنا الحسن بن داود المنْكَدري، حدثنا عمر بن علي المقدمي، عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال: بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا: أنت كبيرنا، لم تكن لتخف إليه! قال: فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه. فانتدب رجلان فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا نحن رسل أكثم بن صيفي، وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله». قال: ثم تلا عليهم هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قالوا: اردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه. فأتيا أكثم فقالا أبى أن يرفع نسبه، فسألنا عن نسبه، فوجدناه زاكي النسب، وسطا في مضر، وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها، فلما سمعهن أكثم قال: إني قد أراه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رءوسا، ولا تكونوا فيه أذنابا.
وقد ورد في نزول هذه الآية الكريمة حديث حَسن، رواه الإمام أحمد:
حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الحميد، حدثنا شهر، حدثني عبد الله بن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء بيته جالس، إذ مر به عثمان بن مظعون، فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا تجلس؟» فقال: بلى. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شَخَص رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره في السماء، فنظر ساعة إلى السماء فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يَمْنته في الأرض، فتحرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء كما شخص أول مرة. فأتبعه بصره حتى توارى في السماء. فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى فقال: يا محمد، فيما كنت أجالسك؟ ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة! قال: «وما رأيتني فعلت؟» قال: رأيتك شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك. قال: «وفطنت لذلك؟» فقال عثمان: نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس». قال: رسولُ الله؟ قال: «نعم». قال: فما قال لك؟ قال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي، وأحببت محمدًا صلى الله عليه وسلم.
إسناد جيد متصل حسن، قد بُيِّن فيه السماع المتصل.
ورواه ابن أبي حاتم، من حديث عبد الحميد بن بَهرام مختصرًا.
حديث آخر: عن عثمان بن أبي العاص الثقفي في ذلك، قال الإمام أحمد:
حدثنا أسود بن عامر، حدثنا هُرَيْم، عن لَيْث، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عثمان بن أبي العاص قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا، إذ شَخَصَ بَصره فقال: «أتاني جبريل، فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}».
وهذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين، والله أعلم.