فصل: تفسير الآيات (71- 72):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (71- 72):

{يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا (72)}.
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة: أنه يحاسب كل أمة بإمامهم.
وقد اختلفوا في ذلك، فقال مجاهد وقتادة: أي بنبيهم. وهذا كقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [يونس: 47].
وقال بعض السلف: هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث؛ لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن زيد: بكتابهم الذي أنزل على نبيهم، من التشريع.
واختاره ابن جرير، وروي عن ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد أنه قال: بكتبهم. فيحتمل أن يكون أراد هذا، وأن يكون أراد ما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} أي: بكتاب أعمالهم، وكذا قال أبو العالية، والحسن، والضحاك. وهذا القول هو الأرجح؛ لقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس: 12].
وقال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وقال تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28، 29].
وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته، فإنه لابد أن يكون شاهدا عليها بأعمالها، كما قال: {وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69]، وقال {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41].
ولكن المراد هاهنا بالإمام هو كتاب الأعمال؛ ولهذا قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ} أي: من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح، يقرؤه ويحب قراءته، كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} إلى أن قال: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 19- 26].
وقوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} قد تقدم أن الفتيل هو الخيط المستطيل في شق النواة.
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا في هذا فقال: حدثنا محمد بن يَعْمَر ومحمد بن عثمان بن كرامة قالا حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السُّدِّيّ، عن أبيه، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قال: «يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه، ويمد له في جسمه، ويُبَيَّض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤْلؤة تَتَلألأ فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون: اللهم ائتنا بهذا، وبارك لنا في هذا. فيأتيهم فيقول لهم: أبشروا، فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فَيُسْود وجهه، ويمدّ له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من هذا- أو: من شر هذا- اللهم لا تأتنا به. فيأتيهم فيقولون: اللهم اخزه فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا».
ثم قال البزار: لا يروى إلا من هذا الوجه.
وقوله: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلا} قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ} أي: في الحياة الدنيا {أَعْمَى} عن حجج الله وآياته وبيناته {فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} أي: كذلك يكون {وَأَضَلُّ سَبِيلا} أي: وأضل منه كما كان في الدنيا، عياذًا بالله من ذلك.

.تفسير الآيات (73- 75):

{وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلا (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) إِذًا لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)}.
يخبر تعالى عن تأييد رسوله، صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته، وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجار، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، بل هو وليه وحافظه وناصره ومؤيده ومظفره، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه، في مشارق الأرض ومغاربها، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا إلى يوم الدين.

.تفسير الآيات (76- 77):

{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلا (77)}.
قيل: نزلت في اليهود، إذ أشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسكنى الشام بلاد الأنبياء، وترك سكنى المدينة.
وهذا القول ضعيف؛ لأن هذه الآية مكية، وسكنى المدينة بعد ذلك.
وقيل: إنها نزلت بتبوك. وفي صحته نظر.
قال البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي، عن يونس بن بُكيْر، عن عبد الحميد بن بَهْرَام، عن شَهْر بن حَوْشَب، عن عبد الرحمن بن غَنْم؛ أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقالوا: يا أبا القاسم، إن كنت صادقًا أنك نبي، فالحق بالشام؛ فإن الشام أرض المحشر وأرض الأنبياء. فصدق ما قالوا، فغزا غزوة تبوك، لا يريد إلا الشام. فلما بلغ تبوك، أنزل الله عليه آيات من سورة بني إسرائيل بعد ما ختمت السورة: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} إلى قوله: {تَحْوِيلا} فأمره الله بالرجوع إلى المدينة، وقال: فيها محياك ومماتك، ومنها تبعث.
وفي هذا الإسناد نظر. والأظهر أن هذا ليس بصحيح؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يغز تبوك عن قول اليهود، إنما غزاها امتثالا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]، وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. وغزاها ليقتص وينتقم ممن قتل أهل مؤتة، من أصحابه، والله أعلم. ولو صح هذا لحمل عليه الحديث الذي رواه الوليد بن مسلم، عن عُفَير بن معدان، عن سُلَيم بن عامر، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة، والمدينة، والشام». قال الوليد: يعني بيت المقدس. وتفسير الشام بتبوك أحسن مما قال الوليد: إنه بيت المقدس والله أعلم.
وقيل: نزلت في كفار قريش، هموا بإخراج الرسول من بين أظهرهم، فتوعدهم الله بهذه الآية، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيرًا. وكذلك وقع؛ فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم، بعد ما اشتد أذاهم له، إلا سنة ونصف. حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد، فأمكنه منهم وسلطه عليهم وأظفره بهم، فقتل أشرافهم وسبى سراتهم؛ ولهذا قال: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} أي: هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم: يخرج الرسول من بين أظهرهم: ويأتيهم العذاب. ولولا أنه عليه الصلاة والسلام رسول الرحمة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33].

.تفسير الآيات (78- 79):

{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)}.
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمرًا له بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} قيل لغروبها. قاله ابن مسعود، ومجاهد، وابن زيد.
وقال هُشَيْم، عن مغيرة، عن الشعبي، عن ابن عباس: دلوكها: زوالها.
ورواه نافع، عن ابن عمر.
ورواه مالك في تفسيره، عن الزهري، عن ابن عمر. وقاله أبو بَرْزَة الأسلمي وهو رواية أيضًا عن ابن مسعود. ومجاهد. وبه قال الحسن، والضحاك، وأبو جعفر الباقر، وقتادة. واختاره ابن جرير، ومما استشهد عليه ما رواه عن ابن حميد، عن الحكم بن بشير، حدثنا عمرو بن قيس، عن ابن أبي ليلى، عن رجل، عن جابر بن عبد الله قال: دعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي، ثم خرجوا حين زالت الشمس، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «اخرج يا أبا بكر، فهذا حين دلكت الشمس».
ثم رواه عن سهل بن بكار، عن أبي عَوَانة، عن الأسود بن قيس، عن نبيح العنزي، عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه. فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلاة الخمسة فمن قوله: {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} وهو: ظلامه، وقيل: غروب الشمس، أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وقوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} يعني: صلاة الفجر.
وقد ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواترًا من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات، على ما عليه عمل أهل الإسلام اليوم، مما تلقوه خلفًا عن سلف، وقرنًا بعد قرن، كما هو مقرر في مواضعه، ولله الحمد.
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود- وعن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار».
وقال البخاري: حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن أبي سلمة- وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر». ويقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا}.
وقال الإمام أحمد: حدثنا أسباط، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم- وحدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: «تشهده ملائكة الليل، وملائكة النهار».
ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، ثلاثتهم عن عُبَيْد بن أسباط بن محمد، عن أبيه، به وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي لفظ في الصحيحين، من طريق مالك، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة الليل وملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، فَيَعْرُجُ الذين باتوا فيكم فيسألهم- وهو أعلم بكم- كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون» وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحرسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
وكذا قال إبراهيم النَّخَعي، ومجاهد، وقتادة، وغير واحد في تفسير هذه الآية.
وأما الحديث الذي رواه ابن جرير هاهنا- من حديث الليث بن سعد، عن زيادة، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عُبيد، عن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث النزول وأنه تعالى يقول: «من يستغفرني أغفر له، من يسألني أعطه، من يدعني فأستجيب له حتى يطلع الفجر». فلذلك يقول: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} فيشهده الله، وملائكة الليل، وملائكة النهار- فإنه تفرد به زيادة، وله بهذا حديث في سنن أبي داود.
وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة، كما ورد في صحيح مسلم، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «صلاة الليل».
ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد: ما كان بعد نوم. قاله علقمة، والأسود وإبراهيم النخعي، وغير واحد وهو المعروف في لغة العرب. وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان يتهجد بعد نومه، عن ابن عباس، وعائشة، وغير واحد من الصحابة، رضي الله عنهم، كما هو مبسوط في موضعه، ولله الحمد والمنة.
وقال الحسن البصري: هو ما كان بعد العشاء. ويحمل على ما بعد النوم.
واختلف في معنى قوله: {نَافِلَةً لَكَ} فقيل: معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك، فجعلوا قيام الليل واجبًا في حقه دون الأمة. رواه العوفي عن ابن عباس، وهو أحد قولي العلماء، وأحد قولي الشافعي، رحمه الله، واختاره ابن جرير.
وقيل: إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيرهُ من أمته إنما يكفر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه، قاله مجاهد، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي، رضي الله عنه.
وقوله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} أي: افعل هذا الذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقاما يحسدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم، تبارك وتعالى.
قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.
ذكر من قال ذلك: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زُفَر، عن حذيفة قال: يجمع الناس في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عُراة كما خلقوا قيامًا، لا تكلم نفس إلا بإذنه، ينادى: يا محمد، فيقول: «لبيك وسعدَيك، والخير في يديك، والشر ليس إليك، والمهديّ من هَدَيْت، وعبدك بين يديك، وبك وإليك، لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت، سبحانك رب البيت». فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عز وجل.
ثم رواه عن بُنْدَار، عن غُنْدَر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، به.
وكذا رواه عبد الرزاق عن معمر والثوري، عن أبي إسحاق، به.
وقال ابن عباس: هذا المقام المحمود مقام الشفاعة.
وكذا قال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد. وقاله الحسن البصري.
وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}
قلت: لرسول الله صلى الله عليه وسلم تسليمًا تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد؛ فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكبا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دُونَه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردًا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، فكل يقول: «لست لها» حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: «أنا لها، أنا لها» كما سنذكر ذلك مفصلا في هذا الموضع، إن شاء الله تعالى. ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار، فيردون عنها. وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته. وهو أول شفيع في الجنة، كما ثبت في صحيح مسلم. وفي حديث الصور: أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم. ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم. وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة، لا تليق إلا له. وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك. وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب السيرة في باب الخصائص، ولله الحمد والمنة.
ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود، وبالله المستعان:
قال البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبان، حدثنا أبو الأحوص، عن آدم بن علي، سمعت ابن عمر يقول: إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، يا فلان اشفع حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله مقامًا محمودًا.
ورواه حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال ابن جرير: حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا شعيب بن الليث، حدثنى الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر أنه قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر يقول: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس لَتدنو حتى يبلغ العَرَقُ نصفَ الأذن، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم، فيقول: لست صاحب ذلك، ثم بموسى فيقول كذلك، ثم بمحمد فيشفع بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا». يحمده أهل الجنة كلهم.
وهكذا رواه البخاري في (الزكاة) عن يحيى بن بُكَيْر، وعبد الله بن صالح، كلاهما عن الليث بن سعد، به، وزاد: «فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، بحمده أهل الجمع كلهم».
قال البخاري: وحدثنا علي بن عَيَّاش، حدثنا شعيب بن أبي حَمْزة، عن محمد بن المُنْكَدِر، عن جابر بن عبد الله؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حَلَّت له شفاعتي يوم القيامة».
انفرد به دون مسلم.
حديث أبيّ:
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر الأزدي، حدثنا زهير بن محمد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن الطفيل بن أبي بن كعب، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة، كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم غير فَخْر».
وأخرجه الترمذي، من حديث أبي عامر عبد الملك بن عَمْرو العَقَديّ، وقال: حسن صحيح. وابن ماجه من حديث عبد الله بن محمد بن عقيل به. وقد قدمنا في حديث: أبي بن كعب في قراءة القرآن على سبعة أحرف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخره: «فقلت: اللهم، اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق، حتى إبراهيم عليه السلام».
حديث أنس بن مالك:
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبة، حدثنا قتادة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة، فيلهمون ذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا، فأراحنا من مكاننا هذا. فيأتون آدم فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كلّ شيء، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول لهم آدم: لست هناكم، ويذكر ذنبه الذي أصاب، فيستحيي ربه، عز وجل، من ذلك، ويقول: ولكن ائتوا نوحًا، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحًا فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له به علم، فيستحيي ربه من ذلك، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن. فيأتونه فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا موسى، عبدًا كلمه الله، وأعطاه التوراة. فيأتون موسى فيقول: لست هناكم، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحيي ربه من ذلك، ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته وروحه، فيأتون عيسى فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمدًا عبدًا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتوني». قال الحسن هذا الحرف: «فأقوم فأمشي بين سِماطين من المؤمنين». قال أنس: «حتى أستأذن على ربي، فإذا رأيت ربي وقعت له- أو: خررت- ساجدًا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني». قال: «ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه. فأرفع رأسي، فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا، فأدخلهم الجنة»: «ثم أعود إليه الثانية، فإذا رأيت ربي وقعت- أو: خررت- ساجدًا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه، ثم أشفع فيحدّ لي حدًا، فأدخلهم الجنة، ثم أعود في الثالثة؛ فإذا رأيت ربي وقعت- أو: خررت- ساجدًا لربي، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع محمد، قل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يُعَلِّمُنيه ثم أشفع فيحد لي حدًا فأدخلهم الجنة. ثم أعود الرابعة فأقول: يا رب، ما بقي إلا من حبسه القرآن». فحدثنا أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فيخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن بُرَّة ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة».
أخرجاه في الصحيح من حديث سعيد، به وهكذا رواه الإمام أحمد، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس بطوله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يونس بن محمد، حدثنا حرب بن ميمون أبو الخطاب الأنصاري، عن النضر بن أنس، عن أنس قال: حدثني نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لقائم أنتظر أمتي تعبر الصراط، إذ جاءني عيسى، عليه السلام، فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمد يسألون- أو قال: يجتمعون إليك- ويَدْعُون الله أن يفرق بين جميع الأمم إلى حيث يشاء الله، لغمّ ما هم فيه، فالخلق مُلجَمون بالعرق، فأما المؤمن فهو عليه كالزكْمَة، وأما الكافر فيغشاه الموت، فقال: انتظر حتى أرجع إليك. فذهب نبي الله صلى الله عليه وسلم فقام تحت العرش، فلقي ما لم يلق مَلَك مصطفى ولا نبي مرسل. فأوحى الله، عز وجل، إلى جبريل: أن اذهب إلى محمد، وقل له: ارفع رأسك، وسل تُعطَه، واشفع تشفع. فشفَعتُ في أمتي: أن أخرج من كل تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا. فما زلت أتردد إلى ربي، عز وجل، فلا أقوم منه مقامًا إلا شفعت، حتى أعطاني الله من ذلك، أن قال: يا محمد، أَدْخِلْ من أمتك من خلق الله، عز وجل، من شهد أن لا إله إلا الله يومًا واحدًا مخلصًا ومات على ذلك».
حديث بريدة، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد بن حنبل: حدثنا الأسود بن عامر، أخبرنا أبو إسرائيل، عن الحارث بن حَصِيرة، عن ابن بُرَيْدة، عن أبيه: أنه دخل على معاوية، فإذا رجل يتكلم، فقال بريدة: يا معاوية، تأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم- وهو يرى أنه يتكلم بمثل ما قال الآخر- فقال بريدة: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة». قال: فترجوها أنت يا معاوية، ولا يرجوها عليّ، رضي الله عنه؟!.
حديث ابن مسعود:
قال الإمام أحمد: حدثنا عارم بن الفضل، حدثنا سعيد بن زيد، حدثنا علي بن الحكم البُنَاني، عن عثمان، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مُلَيْكَة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا إن أمَّنا كانت تكرم الزوج، وتعطف على الولد- قال: وذكر الضيف- غير أنها كانت وأدت في الجاهلية؟ فقال: «أمكما في النار». قال: فأدبرا والسوء يرى في وجوههما، فأمر بهما فَرُدَّا، فَرَجَعَا والسرور يرى في وجوههما؛ رجاء أن يكون قد حدث شيء، فقال: «أمي مع أمكما». فقال رجل من المنافقين: وما يغني هذا عن أمه شيئًا! ونحن نطأ عقبيه. فقال رجل من الأنصار- ولم أر رجلا قط أكثر سؤالا منه-: يا رسول الله، هل وعدك ربك فيها أو فيهما؟. قال: فظن أنه من شيء قد سمعه، فقال: «ما شاء الله ربي وما أطمعني فيه، وإني لأقوم المقام المحمود يوم القيامة». فقالَ الأنصاري: يا رسول الله، وما ذاك المقام المحمود؟ قال: «ذاك إذا جيء بكم حفاة عراة غرلا فيكون أول من يكسى إبراهيم، عليه السلام، فيقول: اكسوا خليلي. فيؤتى بريطتين بيضاوين، فيلبسهما ثم يقعده مستقبل العرش، ثم أوتي بكسوتي فألبسها، فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحد، فيغبطني فيه الأولون والآخرون. ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض». فقال المنافقون: إنه ما جرى ماء قط إلا على حال أو رضراض. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حاله المسك، ورضراضه التُّوم». قال المنافق: لم أسمع كاليوم. قلَّما جرى ماء قط على حال أو رضراض، إلا كان له نبتة. فقال الأنصاري: يا رسول الله، هل له نبت؟ قال: «نعم، قضبان الذهب». قال المنافق: لم أسمع كاليوم، فإنه قلما ينبت قضيب إلا أورق، وإلا كان له ثمر! قال الأنصاري: يا رسول الله، هل له ثمرة؟ قال: «نعم، ألوان الجوهر، وماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، من شرب منه شربةً لا يظمأ بعده، ومن حرمه لم يَرْوَ بعده».
وقال أبو داود الطيالسي: حدثنا يحيى بن سَلَمَة بن كُهَيْل، عن أبيه، عن أبي الزّعْرَاء، عن عبد الله قال: ثم يأذن الله، عز وجل، في الشفاعة، فيقوم روح القدس جبريل، ثم يقوم إبراهيم خليل الله، ثم يقوم عيسى أو موسى- قال أبو الزعراء: لا أدري أيهما- قال: ثم يقوم نبيكم صلى الله عليه وسلم رابعًا، فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع، وهو المقام المحمود الذي قال الله عز وجل: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}.
حديث كعب بن مالك، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن عبد ربه، حدثنا محمد بن حرب، حدثنا الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي، عز وجل، حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذلك المقام المحمود».
حديث أبي الدرداء، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد: حدثنا حسن، حدثنا ابن لَهِيعة، حدثنا يزيد بن أبي حبيب، عن عبد الرحمن ابن جُبَير، عن أبي الدرداء، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة، وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه، فأنظر إلى ما بين يدي، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك». فقال رجل: يا رسول الله، كيف تعرف أمتك من بين الأمم، فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: «هم غرّ مُحَجَّلُون، من أثر الوضوء، ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنهم يُؤتَونَ كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذريتهم».
حديث أبي هريرة، رضي الله عنه:
قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا أبو حَيَّان، حدثنا أبو زُرْعَة بن عمرو بن جرير، عن أبي هريرة، قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم، فَرُفع إليه الذراع- وكانت تعجبه- فَنَهَسَ منها نَهْسة، ثم قال: «أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، يُسْمعهم الداعي ويَنفذُهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون. فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه؟ ألا ترون إلى ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم عز وجل؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم!.
فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك؛ فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة على قومي، نفسي، نفسي، نفسي! اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم.
فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، فذكر كذباته نفسي، نفسي، نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى موسى.
فيأتون موسى فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي، نفسي، نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى.
فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى، أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه- قال: هكذا هو- وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبا، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد.
فيأتوني فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، عز وجل، ثم يفتح الله عليّ، ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي. فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع. فأقول: يا رب، أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب، أمتي أمتي! فيقال: يا محمد: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب»
. ثم قال: «والذي نفس محمد بيده لما بين مِصْراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وَهَجَر، أو كما بين مكة وبُصْرَى». أخرجاه في الصحيحين.
وقال مسلم، رحمه الله: حدثنا الحكم بن موسى، حدثنا هِقْلُ بن زياد، عن الأوزاعي، حدثني أبو عمار، حدثني عبد الله بن فرُّوخ، حدثني أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مُشَفَّع».
وقال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا وَكِيع، عن داود بن يزيد الزّعافري، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا}، سئل عنها فقال: «هي الشفاعة».
رواه الإمام أحمد عن وكيع وعن محمد بن عبيد، عن داود، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} قال: «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه».
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن الزهري، عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان يوم القيامة، مدّ الله الأرض مدّ الأديم، حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدمه». قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فأكون أول من يدعى، وجبريل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها، فأقول رب، إن هذا أخبرني أنك أرسلته إلي. فيقول الله تبارك وتعالى: صدق، ثم أشفع. فأقول: يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض»، قال: «فهو المقام المحمود»، وهذا حديث مرسل.