فصل: تفسير الآيات (20- 21):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (20- 21):

{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)}.
يقول تعالى منبها خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة، بأنه سخر لهم ما في السموات من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار وثلج وبرد، وجعله إياها لهم سقفا محفوظا، وما خلق لهم في الأرض من قرار وأنهار وأشجار وزروع وثمار. وأسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة من إرسال الرسل وإنزال الكتب، وإزاحة الشبَه والعلل، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم، بل منهم من يجادل في الله، أي: في توحيده وإرسال الرسل. ومجادلته في ذلك بغير علم، ولا مستند من حجة صحيحة، ولا كتاب مأثور صحيح؛ ولهذا قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي: مبين مضيء.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} أي: لهؤلاء المجادلين في توحيد الله: {اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ} أي: على رسوله من الشرائع المطهرة، {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} أي: لم يكن لهم حجة إلا اتباع الآباء الأقدمين، قال الله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170] أي: فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم، أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه؛ ولهذا قال: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}.

.تفسير الآيات (22- 24):

{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)}.
يقول تعالى مخبرًا عمن أسلم وجهه لله، أي: أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه؛ ولهذا قال: {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي: في عمله، باتباع ما به أمر، وترك ما عنه زجر، {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} أي: فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ. وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} أي: لا تحزن يا محمد عليهم في كفرهم بالله وبما جئت به؛ فإن قدر الله نافذ فيهم، وإلى الله مرجعهم فينبئهم بما عملوا، أي: فيجزيهم عليه، {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، فلا تخفى عليه خافية.
ثم قال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا} أي: في الدنيا، {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ} أي: نلجئهم {إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي: فظيع صعب مشق على النفوس، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 69، 70].

.تفسير الآيات (25- 26):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)}.
يقول تعالى مخبرًا عن هؤلاء المشركين به: إنهم يعرفون أن الله خالقُ السموات والأرض، وحدَه لا شريك له، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها خَلْقٌ له وملك له؛ ولهذا قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: إذْ قامت عليكم الحجة باعترافكم، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}.
ثم قال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أي: هو خلقه وملكه، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه، الحميد في جميع ما خلق، له الحمد في السموات والأرض على ما خلق وشرع، وهو المحمود في الأمور كلها.

.تفسير الآيات (27- 28):

{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)}.
يقول تعالى مخبرًا عن عظمته وكبريائه وجلاله، وأسمائه الحسنى وصفاته العلا وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها، كما قال سيد البشر وخاتم الرسل: «لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} أي: ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما، وجعل البحر مدادًا ومَده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله لتكسرت الأقلام، ونَفدَ ماء البحر، ولو جاء أمثالها مَدَدا.
وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة، ولم يرد الحصر ولا أن ثم سبعة أبحر موجودة تحيط بالعالم، كما يقوله من تلقاه من كلام الإسرائيليين التي لا تصدق ولا تكذب، بل كما قال تعالى في الآية الأخرى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109]، فليس المراد بقوله: {بِمِثْلِهِ} آخر فقط، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله، ثم هلم جرا؛ لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته.
وقال الحسن البصري: لو جعل شجر الأرض أقلاما، وجعل البحر مدادا، وقال الله: «إن من أمري كذا، ومن أمري كذا» لنفد ما في البحور، وتكسرت الأقلام.
وقال قتادة: قال المشركون: إنما هذا كلام يوشك أن ينفد، فقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} أي: لو كان شجر الأرض أقلاما، ومع البحر سبعة أبحر، ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه.
وقال الربيع بن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها، وقد أنزل الله ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية.
يقول: لو كان البحر مدادا لكلمات الله والأشجار كلها أقلاما، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره، ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه. إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول.
وقد روي أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود، قال ابن إسحاق: حدثني ابن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس؛ أن أحبار يهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة: يا محمد، أرأيت قولك: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلا قَلِيلا}؟ [الإسراء: 85]، إيانا تريد أم قومك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا». فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان لكل شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنها في علم الله قليل، وعندكم من ذلك ما يكفيكم». وأنزل الله فيما سألوه عنه من ذلك: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} الآية.
وهكذا روي عن عكرمة، وعطاء بن يَسَار. وهذا يقتضي أن هذه الآية مدنية لا مكية، والمشهور أنها مكية، والله أعلم.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: عزيز قد عَز كلَّ شيء وقهره وغلبه، فلا مانع لما أراد ولا مخالف ولا معقب لحكمه، {حَكِيمٌ} في خلقه وأمره، وأقواله وأفعاله، وشرعه وجميع شؤونه.
وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي: ما خَلْقُ جميع الناس وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته إلا كنسبة خلق نفس واحدة، الجميع هين عليه و{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]، {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] أي: لا يأمر بالشيء إلا مرة واحدة، فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكده. {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13، 14].
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي: كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة؛ ولهذا قال: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.

.تفسير الآيات (29- 30):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)}
يخبر تعالى أنه {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} بمعنى: يأخذ منه في النهار، فيطولُ ذلك ويقصر هذا، وهذا يكون زمن الصيف يطول النهار إلى الغاية، ثم يسرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار، وهذا يكون في زمن الشتاء، {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قيل: إلى غاية محدودة. وقيل: إلى يوم القيامة. وكلا المعنيين صحيح، ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر، رضي الله عنه، الذي في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يا أبا ذر، أتدري أين تذهب هذه الشمس؟». قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأذن ربَّها فيوشك أن يقال لها: ارجعي من حيث جئت».
وقال ابن أبي الحاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو صالح، حدثنا يحيى بن أيوب، عن ابن جُرَيْج، عن عَطَاء بن أبي رباح، عن ابن عباس أنه قال: الشمس بمنزلة الساقية، تجري بالنهار في السماء في فلكها، فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من مشرقها، قال: وكذلك القمر. إسناده صحيح.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}، كقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأرْضِ} [الحج: 70]. ومعنى هذا: أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء، كقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} أي: إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق، أي: الموجود الحق، الإله الحق، وأن كل ما سواه باطل فإنه الغني عما سواه، وكل شيء فقير إليه؛ لأن كل ما في السموات والأرض الجميع خلقه وعبيده، لا يقدر أحد منهم على تحريك ذَرّة إلا بإذنه، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذبابا لعجزوا عن ذلك؛ ولهذا قال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي: العلي: الذي لا أعلى منه، الكبير: الذي هو أكبر من كل شيء، فكل شيء خاضع حقير بالنسبة إليه.

.تفسير الآيات (31- 32):

{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}
يخبر تعالى أنه هو الذي سَخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره، أي: بلطفه وتسخيره؛ فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت؛ ولهذا قال: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ} أي: من قدرته، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي: صبار في الضراء، شكور في الرخاء.
ثم قال: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} أي: كالجبال والغمام، {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، وقال {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: 65].
ثم قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال مجاهد: أي كافر. كأنه فسر المقتصد هاهنا بالجاحد، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65].
وقال ابن زيد: هو المتوسط في العمل.
وهذا الذي قاله ابن زيد هو المراد في قوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر: 32]، فالمقتصد هاهنا هو: المتوسط في العمل. ويحتمل أن يكون مرادًا هنا أيضا، ويكون من باب الإنكار على من شاهد تلك الأهوال والأمور العظام والآيات الباهرات في البحر، ثم بعدما أنعم عليه من الخلاص، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والدؤوب في العبادة، والمبادرة إلى الخيرات. فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصرا والحالة هذه، والله أعلم.
وقوله: {وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ}: فالختار: هو الغَدَّار. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة، ومالك عن زيد بن أسلم، وهو الذي كلما عاهد نقض عهده، والخَتْر: أتَم الغدر وأبلغه، قال عمرو بن معد يكرب:
وَإنَّكَ لَو رَأيتَ أبَا عُمَير ** مَلأتَ يَديْكَ مِنْ غَدْر وَخَتْر

وقوله: {كَفُورٍ} أي: جحود للنعم لا يشكرها، بل يتناساها ولا يذكرها.

.تفسير الآية رقم (33):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)}.
يقول تعالى منذرا للناس يوم المعاد، وآمرا لهم بتقواه والخوف منه، والخشية من يوم القيامة حيث {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} أي: لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبل منه. وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يتقبل منه.
ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي: لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة. {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يعني: الشيطان. قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وقتادة. فإنه يغر ابن آدم ويَعدهُ ويمنيه، وليس من ذلك شيء بل كما قال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا} [النساء: 120].
قال وهب بن منبه: قال عزير، عليه السلام: لما رأيت بلاء قومي اشتد حزني وكثر همي، وأرق نومي، فضرعت إلى ربي وصليت وصمت فأنا في ذلك أتضرع أبكي إذ أتاني الملك فقلت له: أخبرني هل تشفع أرواح المصدقين للظلمة، أو الآباء لأبنائهم؟ قال: إن القيامة فيها فصل القضاء وملك ظاهر، ليس فيه رخصة، لا يتكلم فيه أحد إلا بإذن الرحمن، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده، ولا ولد عن والده، ولا أخ عن أخيه، ولا عبد عن سيده، ولا يهتم أحد بغيره ولا يحزن لحزنه، ولا أحد يرحمه، كل مشفق على نفسه، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان، كل يَهُم همه ويبكي عَوله، ويحمل وزره، ولا يحمل وزره معه غيره. رواه ابن أبي حاتم.