فصل: تفسير الآيات (149- 160):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (149- 160):

{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)}
يقول تعالى منكرًا على هؤلاء المشركين في جعلهم لله البنات، سبحانه، ولهم ما يشتهون، أي: من الذكور، أي: يَودّون لأنفسهم الجيد. {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل: 58] أي: يسوءه ذلك، ولا يختار لنفسه إلا البنين. يقول تعالى: فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم؟ ولهذا قال: {فَاسْتَفْتِهِمْ} أي: سلهم على سبيل الإنكار عليهم: {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} كقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21، 22].
وقوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} أي: كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم؟ كقوله: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] أي: يسألون عن ذلك يوم القيامة.
وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ} أي: من كذبهم {لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ} أي: صدر منه الولد {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} فذكر الله عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب، فأولا جعلوهم بنات الله، فجعلوا لله ولدًا. وجعلوا ذلك الولد أنثى، ثم عبدوهم من دون الله. وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم.
ثم قال منكرا عليهم: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} أي: أيّ شيء يحمله عن أن يختار البنات دون البنين؟ كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلا عَظِيمًا} [الإسراء: 40]؛ ولهذا قال: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي: ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون؟.
{أَفَلا تَذَكَّرُونَ. أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} أي: حجة على ما تقولونه.
{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: هاتوا برهانا على ذلك يكون مستندًا إلى كتاب مُنزل من السماء عن الله: أنه اتخذ ما تقولونه، فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل، بل لا يُجَوّزُه العقل بالكلية.
وقوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قال مجاهد: قال المشركون: الملائكةُ بناتُ الله. فسأل أبو بكر، رضي الله عنه: فمن أمهاتهن؟ قالوا: بنات سَرَوات الجن.
وكذا قال قتادة، وابن زيد، ولهذا قال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ} أي: الذين نسبوا إليهم ذلك: {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي: إن الذين قالوا ذلك لمحضرون في العذاب يوم الحساب لكذبهم في ذلك وافترائهم، وقولهم الباطل بلا علم.
وقال العوفي: عن ابن عباس في قوله: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} قال: زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان. حكاه ابن جرير.
وقوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي: تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علوا كبيرا.
وقوله: {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع، وهو من مثبت، إلا أن يكون الضمير في قوله: {عَمَّا يَصِفُونَ} عائدا إلى جميع الناس ثم استثنى منهم المخلصين، وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي ومرسل. وجعل ابن جرير هذا الاستثناء من قوله: {إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}، وفي هذا الذي قاله نظر.

.تفسير الآيات (161- 170):

{فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)}
يقول تعالى مخاطبا للمشركين {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ. إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} أي: ما ينقاد لمقالكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة من هو أضل منكم ممن ذُري للنار. {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179]. فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة، كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 8، 9] أي: إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل.
ثم قال تعالى مُنزها للملائكة مما نَسَبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي: له موضع مخصوص في السماوات ومقامات العبادة لا يتجاوزه ولا يتعداه.
وقال ابن عساكر في ترجمته لمحمد بن خالد بسنده إلى عبد الرحمن بن العلاء بن سعد، عن أبيه- وكان ممن بايع يوم الفتح- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوما لجلسائه: «أطَّت السماء وحُقّ لها أن تَئِطّ، ليس فيها موضع قَدَم إلا عليه ملك راكع أو ساجد». ثم قرأ: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}.
وقال الضحاك في تفسيره: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} قال: كان مسروق يَرْوي عن عائشة، رضي الله عنها، أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم». فذلك قوله: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}.
وقال الأعمش، عن أبي إسحاق، عن مسروق: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن في السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه، ثم قرأ عبد الله: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} وكذا قال سعيد بن جبير.
وقال قتادة: كانوا يُصَلُّون الرجال والنساء جميعًا، حتى نزلت: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، فتقدم الرجال وتأخر النساء.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} أي: نقف صفوفًا في الطاعة، كما تقدم عند قوله: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا}. قال ابن جُرَيْج، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث قال: كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}، فصفوا.
وقال أبو نَضْرَة: كان عمر إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه، ثم قال: أقيموا صفوفكم، استووا قياما، يريد الله بكم هدي الملائكة، ثم يقول: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ}، تأخر يا فلان، تقدم يا فلان، ثم يتقدم فيكبر، رضي الله عنه. رواه ابن أبي، حاتم وابن جرير.
وفي صحيح مسلم عن حذيفة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فُضِّلنا على الناس بثلاث: جُعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لنا الأرض مسجدًا، وتربتها طهورا». الحديث.
{وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أي: نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص، فنحن عبيد له، فقراء إليه، خاضعون لديه.
وقال ابن عباس، ومجاهد: {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} الملائكة، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} الملائكة، {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}: الملائكة يسبحون الله عز وجل.
وقال قتادة: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ}، يعني: المصلون، يثبتون بمكانهم من العبادة، كما قال تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 26- 29].
وقوله: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ. لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الأوَّلِينَ. لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي: قد كانوا يتمنون قبل أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله، وما كان من أمر القرون الأولى، ويأتيهم بكتاب الله، كما قال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} [فاطر: 42]، وقال: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ. أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ} [الأنعام: 156، 157]؛ ولهذا قال هاهنا: {فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ}، وعيد أكيد وتهديد شديد، على كفرهم بربهم- سبحانه وتعالى- وتكذيبهم- رسوله صلى الله عليه وسلم.

.تفسير الآيات (171- 179):

{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)}
يقول تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} أي: تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21]، وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ} [غافر: 51]؛ ولهذا قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} أي: في الدنيا والآخرة. كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ممن كذبهم وخالفهم، وكيف أهلك الله الكافرين، ونجى عباده المؤمنين.
{وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي: تكون لهم العاقبة.
وقوله جل وعلا {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} أي: اصبر على أذاهم لك، وانتظر إلى وقت مؤجل، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر؛ ولهذا قال بعضهم: غيَّى ذلك إلى يوم بدر. وما بعدها أيضا في معناها.
وقوله: {وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي: أنظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال على مخالفتك وتكذيبك؛ ولهذا قال على وجه التهديد والوعيد: {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}. ثُمَّ قَالَ عز وجل {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} أي: هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم، فإن الله يغضب عليهم بذلك، ويعجل لهم العقوبة، ومع هذا أيضا كانوا من كفرهم وعنادهم يستعجلون العذاب والعقوبة.
قال الله تعالى: {فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} أي: فإذا نزل العذاب بمحلتهم، فبئس ذلك اليوم يومهم، بإهلاكهم ودمارهم.
قال السدي: {فَإِذَا نزلَ بِسَاحَتِهِمْ} يعني: بدارهم، {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} أي: فبئس ما يصبحون، أي: بئس الصباح صباحهم؛ ولهذا ثبت في الصحيحين من حديث إسماعيل بن عُلَيَّةَ، عن عبد العزيز بن صُهَيْب، عن أنس، رضي الله عنه، قال: صَبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش، رجعوا وهم يقولون: محمد والله، محمد والخميس. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» ورواه البخاري من حديث مالك، عن حُميد، عن أنس.
وقال الإمام أحمد: حدثنا رَوح، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوَبة، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة قال: لما صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وقد أخذوا مساحيهم وغَدَوا إلى حروثهم وأرضيهم، فلما رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولوا مدبرين، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر، الله أكبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين» لم يخرجوه من هذا الوجه، وهو صحيح على شرط الشيخين.
وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}
تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك.

.تفسير الآيات (180- 182):

{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)}
ينزه تعالى نفسه الكريمة ويقدسها ويبرئها عما يقوله الظالمون المكذبون المعتدون- تعالى وتقدس عن قولهم علوا كبيرا- ولهذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ}، أي: ذي العزة التي لا ترام، {عَمَّا يَصِفُونَ} أي: عن قول هؤلاء المعتدين المفترين.
{وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} أي: سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة؛ لسلامة ما قالوه في ربهم، وصحته وحقيته.
{وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال. ولما كان التسبيح يتضمن التنزيه والتبرئة من النقص بدلالة المطابقة، ويستلزم إثبات الكمال، كما أن الحمد يدل على إثبات صفات الكمال مطابقة، ويستلزم التنزيه من النقص- قرن بينهما في هذا الموضع، وفي مواضع كثيرة من القرآن؛ ولهذا قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة، عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين، فإنما أنا رسول من المرسلين». هكذا رواه ابن جرير، وابن أبي حاتم، من حديث سعيد، عنه كذلك.
وقد أسنده ابن أبي حاتم، رحمه الله، فقال: حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد، حدثنا أبو بكر الأعين، ومحمد بن عبد الرحيم صاعقة قالا حدثنا حسين بن محمد، حدثنا شيبان، عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك، عن أبي طلحة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سلمتم عليّ فسلموا على المرسلين».
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا محمد بن أبي بكر، حدثنا نوح، حدثنا أبو هارون، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سلم قال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
ثم يسلم. إسناده ضعيف.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عمار بن خالد الواسطي، حدثنا شبابة، عن يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}».
وروي من وجه آخر متصل موقوف على علي، رضي الله عنه.
قال أبو محمد البغوي في تفسيره: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن شريح، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان، حدثنا إبراهيم بن سهلويه، حدثنا علي بن محمد الطنافسي، حدثنا وكيع، عن ثابت بن أبي صفية، عن الأصبغ بن نباتة، عن علي، رضي الله عنه، قال: «من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه في مجلسه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}».
وروى الطبراني من طريق عبد الله بن صخر بن أنس، عن عبد الله بن زيد بن أرقم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال دبر كل صلاة: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثلاث مرات، فقد اكتال بالجريب الأوفى من الأجر».
وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس: سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. وقد أفردت لها جزءا على حدة، فلتكتب هاهنا إن شاء الله تعالى.
آخر تفسير سورة الصافات.