فصل: الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 11 ‏:‏ 22 ‏)‏

‏{‏ إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم، لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين، لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون، ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم، إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم، ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم، إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون، ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم، يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن الله يزكي من يشاء والله سميع عليم، ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم ‏}‏

قوله ‏{‏إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم‏}‏‏{‏عصبة‏}‏خبر ‏{‏إن‏}‏‏.‏ ويجوز نصبها على الحال، ويكون الخبر ‏{‏لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم‏}‏‏.‏ وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها، وهو خبر صحيح مشهور، أغنى اشتهاره عن ذكره، وسيأتي مختصرا‏.‏ وأخرجه البخاري تعليقا، وحديثه أتم‏.‏ قال‏:‏ وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت‏:‏ لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها‏.‏ وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال‏:‏ حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت‏:‏ بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت‏:‏ فعل الله بفلان وفعل بفلان فقالت أم رومان‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قالت ابني فيمن حدّث الحديث قالت‏:‏ وما ذاك‏؟‏ قالت كذا وكذا‏.‏ قالت عائشة‏:‏ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قالت نعم‏.‏ قالت‏:‏ وأبو بكر‏؟‏ قالت نعم فخرت مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏ما شأن هذه‏؟‏‏)‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، أخذتها الحمى بنافض‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فلعل في حديث تُحُدث به‏)‏ قالت نعم‏.‏ فقعدت عائشة فقالت‏:‏ والله، لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما تصفون‏.‏ قالت‏:‏ وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل الله عذرها‏.‏ قالت‏:‏ بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك‏.‏ قال أبو عبدالله الحميدي‏:‏ كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف‏.‏ وللبخاري من حديث عبيدالله بن عبدالله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ ‏{‏إذ تلقونه بألسنتكم‏}‏وتقول‏:‏ الولق الكذب‏.‏ قال ابن أبي مليكة‏:‏ وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها‏.‏ قال البخاري‏:‏ وقال معمر بن راشد عن الزهري‏:‏ كان حديث الإفك في غزوة المريسيع‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وذلك سنة ست‏.‏ وقال موسى بن عقبة‏:‏ سنة أربع‏.‏ وأخرج البخاري من حديث معمر عن الزهري قال‏:‏ قال لي الوليد بن عبدالملك‏:‏ أبلغك أن عليا كان فيمن قذف‏؟‏ قال‏:‏ قلت لا، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبدالرحمن وأبو بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما‏:‏ كان عليٌّ مُسَلًّما في شأنها‏.‏ وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن الزهري، وفيه‏:‏ قال كنت عند الوليد بن عبدالملك فقال‏:‏ الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب‏؟‏ فقلت لا، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول‏:‏ والذي تولى كبره عبدالله بن أبي‏.‏ وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة‏:‏ والذي تولى كبره منهم عبدالله بن أبي‏.‏

قوله ‏{‏بالإفك‏}‏الإفك الكذب‏.‏ والعصبة ثلاثة رجال؛ قال ابن عباس‏.‏ وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة‏.‏ ابن عيينة‏:‏ أربعون رجلا‏.‏ مجاهد‏:‏ من عشرة إلى خمسة عشر‏.‏ وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض‏.‏ والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره‏.‏ والشر ما زاد ضره على نفعه‏.‏ وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة‏.‏ وشرا لا خير فيه هو جهنم‏.‏ فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى‏.‏ فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان، إذ الخطاب لهم في قوله ‏{‏لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم‏}‏؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر‏.‏

لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل فمشت حتى جاوزت الجيش، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه، فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا، وكانت شابة قليلة اللحم، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة‏.‏ وقيل‏:‏ إنها استيقظت لاسترجاعه، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبدالله بن أبي بن سلول المنافق، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال‏:‏ والله ما نجت منه ولا نجا منها، وقال‏:‏ امرأة نبيكم باتت مع رجل‏.‏ وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش‏.‏ هذا اختصار الحديث، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم، وهو في مسلم أكمل‏.‏ ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال‏:‏

تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت ليس بشاعر

فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح حسان واستوهبه إياه‏.‏ وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر؛ على ما يأتي والله أعلم‏.‏ وكان صفوان هذا صاحبَ ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته، وكان من خيار الصحابة‏.‏ وقيل‏:‏ كان حصورا لا يأتي النساء؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة‏.‏ وقيل‏:‏ كان له ابنان؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه‏:‏ ‏(‏لهما أشبه به من الغراب بالغراب‏)‏‏.‏ وقوله في الحديث‏:‏ والله ما كشف كنف أنثى قط؛ يريد بزنى‏.‏ وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر، وقيل‏:‏ ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية‏.‏

قوله ‏{‏لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم‏}‏يعني ممن تكلم بالإفك‏.‏ ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبدالله؛ وجهل الغير؛ قال عروة بن الزبير، وقد سأله عن ذلك عبدالملك بن مروان، وقال‏:‏ إلا أنهم كانوا عصبة؛ كما قال الله تعالى‏.‏ وفي مصحف حفصة ‏{‏عصبة أربعة‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏والذي تولى كبره منهم‏}‏وقرأ حميد الأعرج ويعقوب ‏{‏كُبره‏}‏بضم الكاف‏.‏ قال الفراء‏:‏ وهو وجه جيد؛ لأن العرب تقول‏:‏ فلان تولى عظم كذا وكذا؛ أي أكبره‏.‏ روي عن عائشة أنه حسان، وأنها قالت حين عمي‏:‏ لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره؛ رواه عنها مسروق‏.‏ وروي عنها أنه عبدالله بن أبي؛ وهو الصحيح، وقال ابن عباس‏.‏ وحكى أبو عمر بن عبدالبر أن عائشة برأت حسان من الفرية، وقالت‏:‏ إنه لم يقل شيئا‏.‏ وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله‏:‏

حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينا ومنصبا نبي الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل

مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل

فإن كان ما بلغت أني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي

فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها تقاصر عنها سورة المتطاول

وقد روي أنه لما أنشدها‏:‏ حصان رزان؛ قالت له‏:‏ لست كذلك؛ تريد أنك وقعت في الغوافل‏.‏ وهذا تعارض، ويمكن الجمع بأن يقال‏:‏ إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه؛ والله أعلم‏.‏

وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا، وهل جلد الحد أم لا؛ فالله أعلم أي ذلك كان ف‏"‏روى محمد بن إسحاق وغيره‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة‏:‏ مسطحا وحسان وحمنة، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال‏:‏ جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة، وله في الآخرة عذاب النار‏.‏ قال القشيري‏:‏ والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح‏.‏ قال الماوردي وغيره‏:‏ اختلفوا هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك؛ على قولين‏:‏ أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين، وقد أخبره بكفرهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا فاسد مخالف لنص القرآن؛ فإن الله عز وجل يقول‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء‏}‏أي على صدق قولهم‏{‏فاجلدوهم ثمانين جلدة‏}‏‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك عبدالله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين‏:‏

لقد ذاق حسان الذي كان أهله وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح

وابن سلول ذاق في الحد خزية كما خاض في إفك من القول يفصح

تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا

وآذوا رسول الله فيها فجلدوا مخازي تبقى عمموها وفضحوا

فصب عليهم محصدات كأنها شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح

قلت‏:‏ المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة، ولم يسمع بحد لعبدالله بن أبي‏.‏ ‏"‏روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها‏"‏ قالت‏:‏ لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك، وتلا القرآن؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم‏:‏ حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش‏.‏ وفي كتاب الطحاوي ‏{‏ثمانين ثمانين‏}‏‏.‏ قال علماؤنا‏.‏ وإنما لم يحد عبدالله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها؛ فقد حصلت فائدة الحد، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف؛ كما قال الله ‏{‏فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون‏}‏‏.‏ وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود ‏(‏إنها كفارة لمن أقيمت عليه‏)‏؛ كما في حديث عبادة بن الصامت‏.‏ ويحتمل أن يقال‏:‏ إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه؛ كما في صحيح مسلم‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا‏}‏هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه؛ قال المهدوي‏.‏ و‏{‏لولا‏}‏بمعنى هلا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد‏.‏ وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له‏:‏ يا أبا أيوب أسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك قالت‏:‏ لا والله قال‏:‏ فعائشة والله أفضل منك؛ قالت أم أيوب نعم‏.‏ فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم‏.‏

قوله ‏{‏بأنفسهم‏}‏قال النحاس‏:‏ معنى ‏{‏بأنفسهم‏}‏بإخوانهم‏.‏ فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله‏.‏

قلت‏:‏ ولأجل هذا قال العلماء‏:‏ إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا‏.‏

قوله ‏{‏لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء‏}‏هذا توبيخ لأهل الإفك‏.‏ و‏{‏لولا‏}‏بمعنى هلا؛ أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء‏.‏ وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف‏.‏ ‏{‏فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون‏}‏أي هم في حكم الله كاذبون‏.‏ وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه، فإنما يبني على ذلك حكم الآخرة‏.‏

قلت‏:‏ ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه؛ وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه، وإن قال إن سريرته حسنة‏.‏ وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر، وأن السرائر إلى الله عز وجل‏.‏

قوله ‏{‏فضل‏}‏رفع بالابتداء عند سيبويه، والخبر محذوف لا تظهره العرب‏.‏ وحذف جواب ‏{‏لولا‏}‏لأنه قد ذكر مثله بعد؛ قال الله عز وجل ‏{‏ولولا فضل الله عليكم ورحمته لمسكم‏}‏أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة‏.‏ وهذا عتاب من الله تعالى بليغ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة‏:‏ الأخذ في الحديث؛ وهو الذي وقع عليه العتاب؛ يقال‏:‏ أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه‏.‏

قوله ‏{‏إذ تلقَّونه بألسنتكم‏}‏قراءة محمد بن السميقع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف؛ من الإلقاء، وهذه قراءة بينة‏.‏ وقرأ أبي وابن مسعود ‏{‏إذ تتلقونه‏}‏من التلقي، بتاءين‏.‏ وقرأ جمهور السبعة بحرف التاء الواحدة وإظهار الذال دون إدغام؛ وهذا أيضا من التلقي‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بإدغام الذال في التاء‏.‏ وقرأ ابن كثير بإظهار الذال وإدغام التاء في التاء؛ وهذه قراءة قلقة؛ لأنها تقتضي اجتماع ساكنين، وليست كالإدغام في قراءة من قرأ ‏{‏فلا تناجوا‏.‏ ولا تنابزوا‏}‏لأن دونه الألف الساكنة، وكونها حرف لين حسنت هنالك ما لا تحسن مع سكون الذال‏.‏ وقرأ ابن يعمر وعائشة رضي الله عنهما - وهم أعلم الناس بهذا الأمر - ‏{‏إذ تلقَّونه‏}‏بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف؛ ومعنى هذه القراءة من قول العرب‏:‏ ولق الرجل يلق ولقا إذا كذب واستمر عليه؛ فجاؤوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وعندي أنه أراد إذ تلقون فيه؛ فحذف حرف الجر فاتصل الضمير‏.‏ وقال الخليل وأبو عمرو‏:‏ أصل الولق الإسراع؛ يقال‏:‏ جاءت الإبل تلق؛ أي تسرع‏.‏ قال‏:‏

لما رأوا جيشا عليهم قد طرق جاؤوا بأسراب من الشأم ولق

إن الحصين زلق وزملق جاءت به عنس من الشأم تلق

يقال‏:‏ رجل زلق وزملق؛ مثال هُدَبِد، وزمالق وزملق ‏(‏بتشديد الميم‏)‏ وهو الذي ينزل قبل أن يجامع؛ قال الراجز‏:‏

إن الحصين زلق وزملق

والولق أيضا أخف الطعن‏.‏ وقد ولقه يلقه ولقا‏.‏ يقال‏:‏ ولقه بالسيف ولقات، أي ضربات؛ فهو مشترك‏.‏

قوله ‏{‏وتقولون بأفواهكم ما‏}‏مبالغة وإلزام وتأكيد‏.‏ والضمير في ‏{‏تحسبونه‏}‏عائد على الحديث والخوض فيه والإذاعة له‏.‏ و‏{‏هينا‏}‏أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم‏.‏ ‏{‏وهو عند الله‏}‏في الوزر ‏{‏عظيم‏}‏‏.‏ وهذا مثل قوله عليه السلام في حديث القبرين‏:‏ ‏(‏إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير‏)‏ أي بالنسبة إليكم‏.‏

قوله ‏{‏ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم، يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين، ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم‏}‏عتاب لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه ولا يتعاطاه بعضكم من بعض على جهة الحكاية والنقل، وأن تنزهوا الله تعالى عن أن يقع هذا من زوج نبيه عليه الصلاة والسلام‏.‏ وأن تحكموا على هذه المقالة بأنها بهتان؛ وحقيقة البهتان أن يقال في الإنسان ما ليس فيه، والغيبة أن يقال في الإنسان ما فيه‏.‏ وهذا المعنى قد جاء في صحيح الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ثم وعظهم تعالى في العودة إلى مثل هذه الحالة‏.‏ و‏{‏أن‏}‏مفعول من أجله، بتقدير‏:‏ كراهية أن ونحوه‏.‏ ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏توقيف وتوكيد؛ كما تقول‏:‏ ينبغي لك أن تفعل كذا وكذا إن كنت رجلا‏.‏

قوله ‏{‏يعظكم الله أن تعودوا لمثله‏}‏يعني في عائشة؛ لأن مثله لا يكون إلا نظير القول المقول عنه بعينه، أو فيمن كان في مرتبته من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من إذاية رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرضه وأهله؛ وذلك كفر من فاعله‏.‏

قال هشام بن عمار سمعت مالكا يقول‏:‏ من سب أبا بكر وعمر أدب، ومن سب عائشة قتل لأن الله تعالى يقول‏{‏يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين‏}‏فمن سب عائشة فقد خالف القرآن، ومن خالف القرآن قتل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ قال أصحاب الشافعي من سب عائشة رضي الله عنها أدب كما في سائر المؤمنين، وليس قوله ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏في عائشة لأن ذلك كفر، وإنما هو كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه‏)‏‏.‏ ولو كان سلب الإيمان في سب من سب عائشة حقيقة لكان سلبه في قوله‏:‏ ‏(‏لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن‏)‏ حقيقة‏.‏ قلنا‏:‏ ليس كما زعمتم؛ فإن أهل الإفك رموا عائشة المطهرة بالفاحشة فبرأها الله تعالى فكل من سبها بما برأها الله منه مكذب لله، ومن كذب الله فهو كافر؛ فهذا طريق قول مالك، وهي سبيل لائحة لأهل البصائر‏.‏ ولو أن رجلا سب عائشة بغير ما برأها الله منه لكان جزاؤه الأدب‏.‏

قوله ‏{‏إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة‏}‏أي تفشو؛ يقال‏:‏ شاع الشيء شيوعا وشيعا وشيعانا وشيوعه؛ أي ظهر وتفرق‏.‏ ‏{‏في الذين آمنوا‏}‏أي في المحصنين والمحصنات‏.‏ والمراد بهذا اللفظ العام عائشة وصفوان رضي الله عنهما‏.‏ والفاحشة‏:‏ الفعل القبيح المفرط القبح‏.‏ وقيل‏:‏ الفاحشة في هذه الآية القول السيء‏.‏ ‏{‏لهم عذاب أليم في الدنيا‏}‏أي الحد‏.‏ وفي الآخرة عذاب النار؛ أي للمنافقين، فهو مخصوص‏.‏ وقد بينا أن الحد للمؤمنين كفارة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ معناه إن مات مصرا غير تائب‏.‏

قوله ‏{‏والله يعلم‏}‏أي يعلم مقدار عظم هذا الذنب والمجازاة عليه ويعلم كل شيء‏.‏ ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏روي من حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أيما رجل شد عضد امرئ من الناس في خصومة لا علم له بها فهو في سخط الله حتى ينزع عنها‏.‏ وأيما رجل قال بشفاعته دون حد من حدود الله أن يقام فقد عاند الله حقا وأقدم على سخطه وعليه لعنة الله تتابع إلى يوم القيامة‏.‏ وأيما رجل أشاع عل رجل مسلم كلمة وهو منها بريء يرى أن يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله تعالى أن يرميه بها في النار - ثم تلا مصداقه من كتاب الله ‏{‏إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا‏}‏الآية‏.‏

قوله ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏يعني مسالكه ومذاهبه؛ المعنى‏:‏ لا تسلكوا الطريق الذي يدعوكم إليها الشيطان‏.‏ وواحد الخطوات خطوة هو ما بين القدمين‏.‏ والخطوة بالفتح المصدر؛ يقال‏:‏ خطوت خطوة، وجمعها خطوات‏.‏ وتخطى إلينا فلان؛ ومنه الحديث أنه رأى رجلا يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏خطوات‏}‏بضم الطاء‏.‏ وسكنها عاصم والأعمش‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ما زكى‏}‏بتخفيف الكاف؛ أي ما اهتدى ولا أسلم ولا عرف رشدا‏.‏ وقيل ‏{‏ما زكى‏}‏أي ما صلح؛ يقال‏:‏ زكا يزكو زكاء؛ أي صلح‏.‏ وشددها الحسن وأبو حيوة؛ أي أن تزكيته لكم وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم‏.‏ وقال الكسائي‏}‏يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏معترض، وقوله ‏{‏ما زكى منكم من أحد أبدا‏}‏جواب لقوله أولا وثانيا ‏{‏ولولا فضل الله عليكم‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة‏}‏الآية‏.‏ المشهور من الروايات أن هذه الآية نزلت في قصة أبي بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه ومسطح بن أثاثة‏.‏ وذلك أنه كان ابن بنت خالته وكان من المهاجرين البدريين المساكين‏.‏ وهو مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب بن عبد مناف‏.‏ وقيل‏:‏ اسمه عوف، ومسطح لقب‏.‏ وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليه لمسكنته وقرابته؛ فلما وقع أمر الإفك وقال فيه مسطح ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة أبدا، فجاء مسطح فاعتذر وقال‏:‏ إنما كنت أغشى مجالس حسان فأسمع ولا أقول‏.‏ فقال له أبو بكر‏:‏ لقد ضحكت وشاركت فيما قيل؛ ومر على يمينه، فنزلت الآية‏.‏ وقال الضحاك وابن عباس‏:‏ إن جماعة من المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا‏:‏ والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة؛ فنزلت الآية في جميعهم‏.‏ والأول أصح؛ غير أن الآية تتناول الأمة إلى يوم القيامة بألا يغتاظ ذو فضل وسعة فيحلف ألا ينفع في هذه صفته غابر الدهر‏.‏ روي في الصحيح أن الله تبارك وتعالى لما أنزل‏}‏إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم‏}‏العشر آيات، قال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته وفقره‏:‏ والله لا أنفق عليه شيئا أبدا بعد الذي قال لعائشة؛ فأنزل الله ‏{‏ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة‏}‏إلى قوله ‏{‏ألا تحبون أن يغفر الله لكم‏}‏‏.‏ قال عبدالله بن المبارك‏:‏ هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى؛ فقال أبو بكر‏:‏ والله إني لأحب أن يغفر الله لي؛ فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال‏:‏ لا أنزعها منه أبدا‏.‏

في هذه الآية دليل على أن القذف وإن كان كبيرا لا يحبط الأعمال؛ لأن الله تعالى وصف مسطحا بعد قوله بالهجرة والإيمان؛ وكذلك سائر الكبائر؛ ولا يحبط الأعمال غير الشرك بالله، قال الله ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏ ‏.‏

من حلف على شيء لا يفعله فرأى فعله أولى منه أتاه وكفر عن يمينه، أو كفر عن يمينه وأتاه؛ كما تقدم في ‏.‏المائدة ‏.‏ ورأى الفقهاء أن من حلف ألا يفعل سنة من السنن أو مندوبا وأبّد ذلك أنها جُرحة في شهادته؛ ذكره الباجي في المنتقى‏.‏

قوله ‏{‏ولا يأتل أولوا الفضل‏}‏‏{‏ولا يأتل‏}‏معناه يحلف؛ وزنها يفتعل، من الألية وهي اليمين؛ ومنه قوله ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏وقد تقدم في -البقرة -‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ معناه يقصر؛ من قولك‏:‏ ألوت في كذا إذا قصرت فيه؛ ومنه قوله ‏{‏لا يألونكم خبالا‏}‏ ‏.‏

قوله ‏{‏ألا تحبون أن يغفر الله لكم‏}‏تمثيل وحجة أي كما تحبون عفو الله عن ذنوبكم فكذلك اغفروا لمن دونكم؛ وينظر إلى هذا المعنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من لا يرحم لا يرحم‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى، من حيث لطف الله بالقذفة العصاة بهذا اللفظ‏.‏ وقيل‏.‏ أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله ‏{‏وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا‏}‏ ‏.‏ وقد قال تعالى في آية أخرى ‏}‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير‏}‏؛ فشرح الفضل الكبير في هذه الآية، وبشر به المؤمنين في تلك‏.‏ ومن آيات الرجاء قوله ‏{‏قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم‏}‏ وقوله ‏{‏الله لطيف بعباده‏}‏‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ أرجى آية في كتاب الله عز وجل ‏{‏ولسوف يعطيك ربك فترضى‏}‏؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى ببقاء أحد من أمته في النار‏.‏

قوله ‏{‏أن تؤتوا‏}‏أي ألا يؤتوا، فحذف ‏{‏لا‏}‏؛ كقول القائل‏:‏

فقلت يمين الله أبرح قاعدا

ذكره الزجاج‏.‏ وعلى قول أبي عبيدة لا حاجة إلى إضمار ‏{‏لا‏}‏‏.‏ ‏{‏وليعفو‏}‏من عفا الربع أي درس فهو محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏ إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم ‏}‏

قوله ‏{‏المحصنات‏}‏تقدم في - النساء -‏.‏ وأجمع العلماء على أن حكم المحصنين في القذف كحكم المحصنات قياسا واستدلالا، وقد بيناه أول السورة والحمد لله‏.‏ واختلف فيمن المراد بهذه الآية؛ فقال سعيد بن جبير‏:‏ هي في رماة عائشة رضوان الله عليها خاصة‏.‏ وقال قوم‏:‏ هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ قاله ابن عباس والضحاك وغيرهما‏.‏ ولا تنفع التوبة‏.‏ ومن قذف غيرهن من المحصنات فقد جعل الله له توبة؛ لأنهقال ‏{‏والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء - إلى قوله - إلا الذين تابوا‏}‏فجعل الله لهؤلاء توبة، ولم يجعل لأولئك توبة؛ قاله الضحاك‏.‏ وقيل هذا الوعيد لمن أصر على القذف ولم يتب‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في عائشة، إلا أنه يراد بها كل من اتصف بهذه الصفة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى؛ ويكون التقدير‏:‏ إن الذين يرمون الأنفس المحصنات؛ فدخل في هذا المذكر والمؤنث؛ واختاره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في مشركي مكة؛ لأنهم يقولون للمرأة إذا هاجرت إنما خرجت لتفجر‏.‏

قوله ‏{‏لعنوا في الدنيا والآخرة‏}‏قال العلماء‏:‏ إن كان المراد بهذه الآية المؤمنين من القذفة فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد واستيحاش المؤمنين منهم وهجرهم لهم، وزوالهم عن رتبه العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين‏.‏ وعلى قول من قال‏:‏ هي خاصة لعائشة تترتب هذه الشدائد في جانب عبدالله بن أبيّ وأشباهه‏.‏ وعلى قول من قال‏:‏ نزلت في مشركي مكة فلا كلام، فإنهم مبعدون، ولهم في الآخرة عذاب عظيم؛ ومن أسلم فالإسلام يجب ما قبله‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ من أحسن ما قيل في تأويل هذه الآية إنه عام لجميع الناس القذفة من ذكر وأنثى؛ ويكون التقدير‏:‏ إن الذين يرمون الأنفس المحصنات، فدخل في هذا المذكر والمؤنث، وكذا في الذين يرمون؛ إلا أنه غلب المذكر على المؤنث‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏ يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ‏}‏

قراءة العامة بالتاء، واختاره أبو حاتم‏.‏ وقرأ الأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف ‏{‏يشهد‏}‏بالياء، واختاره أبو عبيد؛ لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل، والمعنى‏:‏ يوم تشهد ألسنة بعضهم على بعض بما كانوا يعملون من القذف والبهتان‏.‏ وقيل‏:‏ تشهد عليهم ألسنتهم ذلك اليوم بما تكلموا به‏.‏ ‏{‏وأيديهم وأرجلهم‏}‏أي وتتكلم الجوارح بما عملوا في الدنيا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين ‏}‏

قوله ‏{‏يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق‏}‏أي حسابهم وجزاؤهم‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق‏}‏برفع ‏{‏الحق‏}‏على أنه نعت لله عز وجل‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع؛ ليكون نعتا لله عز وجل، وتكون موافقة لقراءة أبيّ، وذلك أن جرير بن حازم قال‏:‏ رأيت في مصحف أبيّ ‏{‏يوفيهم الله الحق دينهم‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا الكلام من أبي عبيد غير مرضي؛ لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم‏.‏ ولا حجة أيضا فيه لأنه لو صح هذا أنه في مصحف أبيّ كذا جاز أن تكون القراءة‏:‏ يومئذ يوفيهم الله الحق دينهم، يكون ‏{‏دينهم‏}‏بدلا من الحق‏.‏ وعلى قراءة ‏{‏دينهم الحق‏}‏يكون ‏{‏الحق‏}‏نعتا لدينهم، والمعنى حسن؛ لأن الله عز وجل ذكر المسيئين وأعلم أنه يجازيهم بالحق؛ كما قال عز وجل ‏{‏وهل نجازي إلا الكفور‏}‏ ؛ لأن مجازاة الله عز وجل للكافر والمسيء بالحق والعدل، ومجازاته للمحسن بالإحسان والفضل‏.‏ ‏{‏ويعلمون أن الله هو الحق المبين‏}‏اسمان من أسمائه سبحانه‏.‏ وقد ذكرناهما في غير موضع، وخاصة في الكتاب الأسنى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات أولئك مبرؤون مما يقولون لهم مغفرة ورزق كريم ‏}‏

قال ابن زيد‏:‏ المعنى الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون للخبيثات، وكذا الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات‏.‏ وقال مجاهد وابن جبير وعطاء وأكثر المفسرين‏:‏ المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال، وكذا الخبيثون من الناس للخبيثات من القول، وكذا الكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من القول‏.‏ قال النحاس في كتاب معاني القرآن‏:‏ وهذا أحسن ما قيل في هذه الآية‏.‏ ودل على صحة هذا القول ‏{‏أولئك مبرؤون مما يقولون‏}‏أي عائشة وصفوان مما يقول الخبيثون والخبيثات‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية مبنية على قوله ‏{‏الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة‏}‏ الآية؛ فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الطيبون والطيبات‏.‏ واختار هذا القول النحاس أيضا، وهو معنى قول ابن زيد‏.‏ ‏{‏أولئك مبرؤون مما يقولون‏}‏يعني به الجنس‏.‏ وقيل‏:‏ عائشة وصفوان فجمع كماقال ‏{‏فإن كان له إخوة‏}‏ والمراد أخوان؛ قاله الفراء‏.‏ و‏{‏مبرؤون‏}‏يعني منزهين مما رموا به‏.‏ قال بعض أهل التحقيق‏:‏ إن يوسف عليه السلام لما رمي بالفاحشة برأه الله على لسان صبي في المهد، وإن مريم لما رميت بالفاحشة برأها الله على لسان ابنها عيسى صلوات الله عليه، وإن عائشة لما رميت بالفاحشة برأها الله تعالى بالقرآن؛ فما رضي لها ببراءة صبي ولا نبي حتى برأها الله بكلامه من القذف والبهتان‏.‏ وروي عن علي بن زيد بن جدعان عن جدته عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏(‏لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة‏:‏ لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي صلى الله عليه وسلم وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفت الملائكة بيتي، وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله فينصرفون عنه، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه فما يبينني عن جسده، وإني لابنة خليفته وصديقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة وعند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما؛ تعني قوله ‏{‏لهم مغفرة ورزق كريم‏}‏وهو الجنة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون ‏}‏

لما خصص الله سبحانه ابن آدم الذي كرمه وفضله بالمنازل وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج أو يلجوها من غير إذن أربابها، أدبهم بما يرجع إلى الستر عليهم لئلا يطلع أحد منهم على عورة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من اطلع في بيت قوم من غير إذنهم حل لهم أن يفقؤوا عينه‏)‏‏.‏ وقد اختلف في تأويله فقال بعض العلماء‏:‏ ليس هذا على ظاهره، فإن فقأ فعليه الضمان، والخبر منسوخ، وكان قبل نزول قوله ‏{‏وإن عاقبتم فعاقبوا‏}‏ ويحتمل أن يكون خرج على وجه الوعيد لا على وجه الحتم، والخبر إذا كان مخالفا لكتاب الله تعالى لا يجوز العمل به‏.‏ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم بالكلام في الظاهر وهو يريد شيئا آخر؛ كما جاء في الخبر أن عباس بن مرداس لما مدحه قال لبلال‏:‏ ‏(‏قم فاقطع لسانه‏)‏ وإنما أراد بذلك أن يدفع إليه شيئا، ولم يرد به القطع في الحقيقة‏.‏ وكذلك هذا يحتمل أن يكون ذكر فقء العين والمراد أن يعمل به عمل حتى لا ينظر بعد ذلك في بيت غيره‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا ضمان عليه ولا قصاص؛ وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لحديث أنس على ما يأتي‏.‏

سبب نزول هذه الآية ما رواه الطبري وغيره عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت‏:‏ يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، لا والد ولا ولد فيأتي الأب فيدخل عليّ وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع ‏؟‏ فنزلت الآية‏.‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله، أفرأيت الخانات والمساكن في طرق الشام ليس فيها ساكن؛ فأنزل الله ‏{‏ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة‏}‏ ‏.‏

مد الله سبحانه وتعالى التحريم في دخول بيت ليس هو بيتك إلى غاية هي الاستئناس، وهو الاستئذان‏.‏ قال ابن وهب قال مالك‏:‏ الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان؛ وكذا في قراءة أبيّ وابن عباس وسعيد بن جبير ‏{‏حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏تستأنسوا‏}‏تستعلموا؛ أي تستعلموا من في البيت‏.‏ قال مجاهد‏:‏ بالتنحنح أو بأي وجه أمكن، ويتأنى قدر ما يعلم أنه قد شعر به، ويدخل إثر ذلك‏.‏ وقال معناه الطبري؛ ومنه قوله ‏{‏فإن آنستم منهم رشدا‏}‏ أي علمتم‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

آنست نبأة وأفزعها القناص عصرا وقد دنا الإمساء

قلت‏:‏ وفي سنن ابن ماجه‏:‏ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبدالرحيم بن سليمان عن واصل بن السائب عن أبي سورة عن أبي أيوب الأنصاري قال قلنا‏:‏ يا رسول الله، هذا السلام، فما الاستئذان‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يتكلم الرجل بتسبيحة وتكبيرة وتحميدة ويتنحنح ويؤذن أهل البيت‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا نص في أن الاستئناس غير الاستئذان؛ كما قال مجاهد ومن وافقه‏.‏

وروي عن ابن عباس وبعض الناس يقول عن سعيد بن جبير ‏{‏حتى تستأنسوا‏}‏خطأ أو وهم من الكاتب، إنما هو ‏{‏حتى تستأذنوا‏}‏‏.‏ وهذا غير صحيح عن ابن عباس وغيره؛ فإن مصاحف الإسلام كلها قد ثبت فيها ‏{‏حتى تستأنسوا‏}‏، وصح الإجماع فيها من لدن مدة عثمان، فهي التي لا يجوز خلافها‏.‏ وإطلاق الخطأ والوهم على الكاتب في لفظ أجمع الصحابة عليه قول لا يصح عن ابن عباس؛ وقد قال عز وجل ‏{‏لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد‏}‏ ، وقال ‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون‏}‏.‏ وقد روي عن ابن عباس أن في الكلام تقديما وتأخيرا؛ والمعنى‏:‏ حتى تسلموا على أهلها وتستأنسوا حكاه أبو حاتم‏.‏ قال ابن عطية‏.‏ ومما ينفي هذا القول عن ابن عباس وغيره أن ‏{‏تستأنسوا‏}‏متمكنة في المعنى، بينة الوجه في كلام العرب‏.‏ وقد قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أستأنس يا رسول الله؛ وعمر واقف على باب الغرفة، الحديث المشهور‏.‏ وذلك يقتضي أنه طلب الأنس به صلى الله عليه وسلم، فكيف يخطّئ ابن عباس أصحاب الرسول في مثل هذا‏.‏

قلت‏:‏ قد ذكرنا من حديث أبي أيوب أن الاستئناس إنما يكون قبل السلام، وتكون الآية على بابها لا تقديم فيها ولا تأخير، وأنه إذا دخل سلم‏.‏ والله أعلم‏.‏

السنة في الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها‏.‏ قال ابن وهب قال مالك‏:‏ الاستئذان ثلاث، لا أحب أن يزيد أحد عليها، إلا من علم أنه لم يسمع، فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع‏.‏ وصورة الاستئذان أن يقول الرجل‏:‏ السلام عليكم أأدخل؛ فإن أذن له دخل، وإن أمر بالرجوع انصرف، وإن سكت عنه استأذن ثلاثا؛ ثم ينصرف من بعد الثلاث‏.‏ وإنما قلنا‏:‏ إن السنة الاستئذان ثلاث مرات لا يزاد عليها لحديث أبي موسى الأشعري، الذي استعمله مع عمر بن الخطاب وشهد به لأبي موسى أبو سعيد الخدري، ثم أبيّ بن كعب‏.‏ وهو حديث مشهور أخرجه الصحيح، وهو نص صريح؛ فإن فيه‏:‏ فقال - يعني عمر - ما منعك أن تأتينا‏؟‏ فقلت‏:‏ أتيت فسلمت على بابك ثلاث مرات فلم ترد علي فرجعت، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع‏)‏‏.‏ وأما ما ذكرناه من صورة الاستئذان فما رواه أبو داود عن ربعي قال‏:‏ حدثنا رجل من بني عامر استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال‏:‏ ألج‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لخادمه‏:‏ ‏(‏أخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان - فقال له - قل السلام عليكم أأدخل‏)‏ فسمعه الرجل فقال‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏؟‏ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل‏.‏ وذكره الطبري وقال‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة‏:‏ ‏(‏قولي لهذا يقول السلام عليكم أدخل‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وروي أن ابن عمر آذته الرمضاء يوما فأتى فسطاطا لامرأة من قريش فقال‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏؟‏ فقالت المرأة‏:‏ ادخل بسلام؛ فأعاد فأعادت، فقال لها‏:‏ قولي أدخل‏.‏ فقالت ذلك فدخل؛ فتوقف لما قالت‏:‏ بسلام؛ لاحتمال اللفظ أن تريد بسلامك لا بشخصك‏.‏

قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ إنما خص الاستئذان بثلاث لأن الغالب من الكلام إذا كرر ثلاثا سمع وفهم؛ ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا حتى يفهم عنه، وإذا سلم على قوم سلم عليهم ثلاثا‏.‏ وإذا كان الغالب هذا؛ فإذا لم يؤذن له بعد ثلاث ظهر أن رب المنزل لا يريد الإذن، أو لعله يمنعه من الجواب عنه عذر لا يمكنه قطعه؛ فينبغي للمستأذن أن ينصرف؛ لأن الزيادة على ذلك قد تقلق رب المنزل، وربما يضره الإلحاح حتى ينقطع عما كان مشغولا به؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب حين استأذن عليه فخرج مستعجلا فقال‏:‏ ‏(‏لعلنا أعجلناك‏.‏‏.‏‏.‏ ‏)‏ الحديث‏.‏ و روى عقيل عن ابن شهاب قال‏:‏ أما سنة التسليمات الثلاث فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سعد بن عبادة فقال‏:‏ ‏(‏السلام عليكم‏)‏ فلم يردوا، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏السلام عليكم‏)‏ فلم يردوا، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما فقد سعد تسليمه عرف أنه قد انصرف؛ فخرج سعد في أثره حتى أدركه، فقال‏:‏ وعليك السلام يا رسول الله، إنما أردنا أن نستكثر من تسليمك، وقد والله سمعنا؛ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سعد حتى دخل بيته‏.‏ قال ابن شهاب‏:‏ فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك؛ رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي قال‏:‏ سمعت يحيى بن أبي كثير يقول حدثني محمد بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة عن قيس بن سعد قال‏:‏ زارنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزلنا فقال‏:‏ ‏(‏السلام عليكم ورحمة الله‏)‏ قال فرد سعد ردا خفيا، قال قيس‏:‏ فقلت ألا تأذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ ذره يكثر علينا من السلام‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، أخرجه أبو داود وليس فيه قال ابن شهاب فإنما أخذ التسليم ثلاثا من قبل ذلك‏.‏ قال أبو داود‏:‏ ورواه عمر بن عبدالواحد وابن سماعة عن الأوزاعي مرسلا لم يذكرا قيس بن سعد‏.‏

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الاستئذان ترك العمل به الناس‏.‏ قال علماؤنا رحمة الله عليهم‏:‏ وذلك لاتخاذ الناس الأبواب وقرعها؛ والله أعلم‏.‏ ‏"‏روى أبو داود عن عبدالله بن بسر‏"‏ قال‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول‏:‏ ‏(‏السلام عليكم السلام عليكم‏)‏ وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذ ستور‏.‏

فإن كان الباب مردودا فله أن يقف حيث شاء منه ويستأذن، وإن شاء دق الباب؛ لما رواه أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حائط بالمدينة على قُف البئر فمد رجليه في البئر فدق الباب أبو بكر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إيذن له وبشره بالجنة‏)‏‏.‏ هكذا رواه عبدالرحمن بن أبي الزناد وتابعه صالح بن كيسان ويونس بن يزيد؛ فرووه جميعا عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن عبدالرحمن بن نافع عن أبي موسى‏.‏ وخالفهم محمد بن عمرو الليثي فرواه عن أبي الزناد عن أبي سلمة عن نافع بن عبد الحارث عن النبي صلى الله عليه وسلم كذلك؛ وإسناده الأول أصح، والله اعلم‏.‏

وصفة الدق أن يكون خفيفا بحيث يسمع، ولا يعنف في ذلك؛ فقد ‏"‏روى أنس بن مالك رضي الله عنه‏"‏ قال‏:‏ كانت أبواب النبي صلى الله عليه وسلم تقرع بالأظافير؛ ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب في جامعه‏.‏

‏"‏روى الصحيحان وغيرهما عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما‏"‏ قال‏:‏ استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏من هذا‏)‏‏؟‏ فقلت أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنا أنا‏)‏‏!‏ كأنه كره ذلك‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ إنما كره النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن قوله أنا لا يحصل بها تعريف، وإنما الحكم في ذلك أن يذكر اسمه كما فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو موسى؛ لأن في ذكر الاسم إسقاط كلفة السؤال والجواب‏.‏ ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مشربة له فقال‏:‏ السلام عليك يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر‏؟‏ وفي صحيح مسلم أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب فقال‏:‏ السلام عليكم، هذا أبو موسى، السلام عليكم، هذا الأشعري‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

ذكر الخطيب في جامعه عن علي بن عاصم الواسطي قال‏:‏ قدمت البصرة فأتيت منزل شعبة فدققت عليه الباب فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ قلت أنا؛ فقال‏:‏ يا هذا ما لي صديق يقال له أنا ثم خرج إليّ فقال‏:‏ حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال‏:‏ أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة لي فطرقت عليه الباب فقال‏:‏ ‏(‏من هذا‏)‏‏؟‏ فقلت أنا؛ فقال‏:‏ ‏(‏أنا أنا‏)‏ كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره قولي هذا، أو قوله هذا‏.‏ وذكر عن عمر بن شبة حدثنا محمد بن سلام عن أبيه قال‏:‏ دققت على عمرو بن عبيد الباب فقال لي‏:‏ من هذا‏؟‏ فقلت أنا؛ فقال‏:‏ لا يعلم الغيب إلا الله‏.‏ قال الخطيب‏:‏ سمعت علي بن المحسن القاضي يحكي عن بعض الشيوخ أنه كان إذا دق بابه فقال من ذا‏؟‏ فقال الذي على الباب أنا، يقول الشيخ‏:‏ أنا هم دق‏.‏

ثم لكل قوم في الاستئذان عرفهم في العبارة؛ كما رواه أبو بكر الخطيب مسندا عن أبي عبدالملك مولى أم مسكين بنت عاصم بن عمر بن الخطاب قال‏:‏ أرسلتني مولاتي إلى أبي هريرة فجاء معي، فلما قام بالباب قال‏:‏ أندر‏؟‏ قالت أندرون‏.‏ وترجم عليه باب الاستئذان بالفارسية‏.‏ وذكر عن أحمد بن صالح قال‏:‏ كان الدراوردي من أهل أصبهان نزل المدينة، فكان يقول للرجل إذا أراد أن يدخل‏:‏ أندرون، فلقبه أهل المدينة الدراوردي‏.‏

‏"‏روى أبو داود عن كلدة بن حنبل‏"‏ أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم فقال‏:‏ ‏(‏ارجع فقل السلام عليكم‏)‏ وذلك بعدما أسلم صفوان بن أمية‏.‏ وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من لم يبدأ بالسلام فلا تأذنوا له‏)‏‏.‏ وذكر ابن جريج أخبرني عطاء قال‏:‏ سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ إذا قال الرجل أدخل‏؟‏ ولم يسلم فقل لا حتى تأتي بالمفتاح؛ فقلت السلام عليكم‏؟‏ قال نعم‏.‏ وروي أن حذيفة جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت فقال‏:‏ السلام عليكم أأدخل‏؟‏ فقال حذيفة‏:‏ أما بعينك فقد دخلت وأما باستك فلم تدخل‏.‏

ومما يدخل في هذا الباب ما رواه أبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏رسول الرجل إلى الرجل إذنه‏)‏؛ أي إذا أرسل إليه فقد أذن له في الدخول، يبينه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن‏)‏‏.‏ أخرجه أبو داود أيضا عن أبي هريرة‏.‏

فإن وقعت العين على العين فالسلام قد تعين، ولا تعد رؤيته إذنا لك في دخولك عليه، فإذا قضيت حق السلام لأنك الوارد عليه تقول‏:‏ أدخل‏؟‏ فإن أذن لك وإلا رجعت‏.‏

هذه الأحكام كلها إنما هي في بيت ليس لك، فأما بيتك الذي تسكنه فإن كان فيه أهلك فلا إذن عليها، إلا أنك تسلم إذا دخلت‏.‏ قال قتادة‏:‏ إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك، فهم أحق من سلمت عليهم‏.‏ فإن كان فيه معك أمك أو أختك فقالوا‏:‏ تنحنح واضرب برجلك حتى ينتبها لدخولك؛ لأن الأهل لا حشمة بينك وبينها‏.‏ وأما الأم والأخت فقد يكونا على حالة لا تحب أن تراهما فيها‏.‏ قال ابن القاسم قال مالك‏:‏ ويستأذن الرجل على أمه وأخته إذا أراد أن يدخل عليهما‏.‏ وقد روى عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أستأذن على أمي‏؟‏ قال ‏(‏نعم‏)‏ قال‏:‏ إني أخدمها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏استأذن عليها‏)‏ فعاوده ثلاثا؛ قال ‏(‏أتحب أن تراها عريانة‏)‏‏؟‏ قال لا؛ قال‏:‏ ‏(‏فاستأذن عليها‏)‏ ذكره الطبري‏.‏

فإن دخل بيت نفسه وليس فيه أحد؛ فقال علماؤنا‏:‏ يقول السلام علينا من ربنا التحيات الطيبات المباركات، لله السلام‏.‏ رواه ابن وهب عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسنده ضعيف‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين؛ فإنه يؤمر بذلك‏.‏ قال‏:‏ وذكر لنا أن الملائكة ترد عليهم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ والصحيح ترك السلام والاستئذان، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ قول قتادة حسن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏ فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم ‏}‏

قوله ‏{‏فإن لم تجدوا فيها أحدا‏}‏الضمير في ‏{‏تجدوا فيها‏}‏للبيوت التي هي بيوت الغير‏.‏ وحكى الطبري عن مجاهد أنه قال‏:‏ معنى قوله ‏{‏فان لم تجدوا فيها أحدا‏}‏أي لم يكن لكم فيها متاع‏.‏ وضعف الطبري هذا التأويل، وكذلك هو في غاية الضعف؛ وكأن مجاهدا رأى أن البيوت غير المسكونة إنما تدخل دون إذن إذا كان للداخل فيها متاع‏.‏ ورأى لفظة ‏{‏المتاع‏}‏متاع البيت، الذي هو البسط والثياب؛ وهذا كله ضعيف‏.‏ والصحيح أن هذه الآية مرتبطة بما قبلها والأحاديث؛ التقدير‏:‏ يا أيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا، فإن أذن لكم فادخلوا وإلا فارجعوا؛ كما فعل عليه السلام مع سعد، وأبو موسى مع عمر رضي الله عنهما‏.‏ فإن لم تجدوا فيها أحدا يأذن لكم فلا تدخلوها حتى تجدوا إذنا‏.‏ وأسند الطبري عن قتادة قال‏:‏ قال رجل من المهاجرين‏:‏ لقد طلبت عمري هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني فيقول لي ارجع فارجع وأنا مغتبط؛ لقوله ‏{‏هو أزكى لكم‏}‏‏.‏

سواء كان الباب مغلقا أو مفتوحا؛ لأن الشرع قد أغلقه بالتحريم للدخول حتى يفتحه الإذن من ربه، بل يجب عليه أن يأتي الباب ويحاول الإذن على صفة لا يطلع منه على البيت لا في إقباله ولا في انقلابه‏.‏ فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ ‏(‏من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق‏)‏ ‏"‏وروي في الصحيح عن سهل بن سعد‏"‏ أن رجلا اطلع في جحر في باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم مدرى يرجل به رأسه؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك إنما جعل الله الإذن من أجل البصر‏)‏‏.‏ وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح‏)‏‏.‏

إذا ثبت أن الإذن شرط في دخول المنزل فإنه يجوز من الصغير والكبير‏.‏ وقد كان أنس بن مالك دون البلوغ يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله عنهم‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في آخر السورة إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله ‏{‏والله بما تعملون عليم‏}‏توعد لأهل التجسس على البيوت وطلب الدخول على غفلة للمعاصي والنظر إلى ما لا يحل ولا يجوز، ولغيرهم ممن يقع في محظور‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة فيها متاع لكم والله يعلم ما تبدون وما تكتمون ‏}‏

روي أن بعض الناس لما نزلت آية الاستئذان تعمق في الأمر، فكان لا يأتي موضعا خربا ولا مسكونا إلا سلم واستأذن؛ فنزلت هذه الآية، أباح الله تعالى فيها رفع الاستئذان في كل بيت لا يسكنه أحد لأن العلة في الاستئذان إنما هي لأجل خوف الكشفة على الحرمات فإذا زالت العلة زال الحكم‏.‏

اختلف العلماء في المراد بهذه البيوت؛ فقال محمد بن الحنفية وقتادة ومجاهد‏:‏ هي الفنادق التي في طرق السابلة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل، وفيها متاع لهم؛ أي استمتاع بمنفعتها‏.‏ وعن محمد بن الحنفية أيضا أن المراد بها دور مكة ويبينه قول مالك‏.‏ وهذا على القول بأنها غير متملكة، وأن الناس شركاء فيها وأن مكة أخذت عنوة‏.‏ وقال ابن زيد والشعبي‏:‏ هي حوانيت القيساريات‏.‏ قال الشعبي‏:‏ لأنهم جاؤوا بيوعهم فجعلوها فيها، وقالوا للناس هلم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ المراد بها الخرب التي يدخلها الناس للبول والغائط؛ ففي هذا أيضا متاع‏.‏ وقال جابر بن زيد‏:‏ ليس يعني بالمتاع الجهاز، ولكن ما سواه من الحاجة؛ أما منزل ينزله قوم من ليل أو نهار، أو خربة يدخلها لقضاء حاجة، أو دار ينظر إليها فهذا متاع وكل منافع الدنيا متاع‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين، وهو موافق للغة‏.‏ والمتاع في كلام العرب‏:‏ المنفعة؛ ومنه أمتع الله بك‏.‏ ومنه ‏{‏فمتعوهن‏}‏ ‏.‏ قلت‏:‏ واختاره أيضا القاضي أبو بكر بن العربي وقال‏:‏ أما من فسر المتاع بأنه جميع الانتفاع فقد طبق المفصل وجاء بالفيصل، وبين أن الداخل فيها إنما هو لما له من الانتفاع فالطالب يدخل في الخانكات وهي المدارس لطلب العلم، والساكن يدخل الخانات وهي الفناتق، أي الفنادق، والزبون يدخل الدكان للابتياع، والحاقن يدخل الخلاء للحاجة؛ وكل يؤتي على وجهه من بابه‏.‏ وأما قول ابن زيد والشعبي فقول وذلك أن بيوت القيساريات محظورة بأموال الناس، غير مباحة لكل من أراد دخولها بإجماع، ولا يدخلها إلا من أذن له ربها، بل أربابها موكلون بدفع الناس‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون ‏}‏

قوله ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم‏}‏وصل تعالى بذكر الستر ما يتعلق به من أمر النظر؛ يقال‏:‏ غض بصره يغضه غضا؛ قال الشاعر‏:‏

فغض الطرف إنك من نمير فلا كعبا بلغت ولا كلابا

وقال عنترة‏.‏

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها

ولم يذكر الله تعالى ما يغض البصر عنه ويحفظ الفرج، غير أن ذلك معلوم بالعادة، وأن المراد منه المحرم دون المحلل‏.‏ وفي البخاري‏:‏ وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورؤوسهن‏؟‏ قال‏:‏ اصرف بصرك؛ يقول الله ‏{‏قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم‏}‏وقال قتادة‏:‏ عما لا يحل لهم؛ ‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن‏}‏ خائنة الأعين من النظر إلى ما نهي عنه‏.‏

قوله ‏{‏من أبصارهم‏}‏‏{‏من‏}‏زائدة؛ كقوله ‏{‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏}‏ ‏.‏ وقيل ‏{‏من‏}‏للتبعيض؛ لأن من النظر ما يباح‏.‏ وقيل‏:‏ الغض النقصان؛ يقال‏:‏ غض فلان من فلان أي وضع منه؛ فالبصر إذا لم يمكن من عمله فهو موضوع منه ومنقوص‏.‏ ‏{‏فمن‏}‏صلة للغض، وليست للتبعيض ولا للزيادة‏.‏

البصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وأعمر طرق الحواس إليه، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته‏.‏ ووجب التحذير منه، وغضه واجب عن جميع المحرمات، وكل ما يخشى الفتنة من أجله؛ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إياكم والجلوس على الطرقات‏)‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه‏)‏ قالوا‏:‏ وما حق الطريق يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏)‏‏.‏ رواه أبو سعيد الخدري، خرجه البخاري ومسلم‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم لعلي‏:‏ ‏(‏لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية‏)‏‏.‏ و روى الأوزاعي قال‏:‏ حدثني هارون بن رئاب أن غزوان وأبا موسى الأشعري كانا في بعض مغازيهم، فكشفت جارية فنظر إليها غزوان، فرفع يده فلطم عينه حتى نفرت، فقال‏:‏ إنك للحاظة إلى ما يضرك ولا ينفعك؛ فلقي أبا موسى فسأله فقال‏:‏ ظلمت عينك، فاستغفر الله وتب، فإن لها أول نظرة وعليها ما كان بعد ذلك‏.‏ قال الأوزاعي‏:‏ وكان غزوان ملك نفسه فلم يضحك حتى مات رضي الله عنه‏.‏ وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبدالله قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة؛ فأمرني أن أصرف بصري‏.‏ وهذا يقوي قول من يقول‏:‏ إن ‏{‏من‏}‏للتبعيض؛ لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف، إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا، فلا تكون مكتسبة فلا يكون مكلفا بها؛ فوجب التبعيض لذلك، ولم يقل ذلك في الفرج؛ لأنها تملك‏.‏ ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته؛ وزمانه خير من زماننا هذا وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرمة نظر شهوة يرددها‏.‏

قوله ‏{‏ويحفظوا فروجهم‏}‏أي يستروها عن أن يراها من لا يحل‏.‏ وقيل ‏{‏ويحفظوا فروجهم‏}‏أي عن الزنى؛ وعلى هذا القول لوقال ‏{‏من فروجهم‏}‏لجاز‏.‏ والصحيح أن الجميع مراد واللفظ عام‏.‏ و روى بهز بن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه عن جده قال‏:‏ قلت يا رسول الله، عوراتنا ما نأتي منها وما نذر‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك‏)‏‏.‏ قال‏:‏ الرجل يكون مع الرجل‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن استطعت ألا يراها فافعل‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ فالرجل يكون خاليا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏الله أحق أن يستحيا منه من الناس‏)‏‏.‏ وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحالها معه فقالت‏:‏ ما رأيت ذلك منه، ولا رأى ذلك مني‏.‏

بهذه الآية حرم العلماء نصا دخول الحمام بغير مئزر‏.‏ وقد روي عن ابن عمر أنه قال‏:‏ أطيب ما أنفق الرجل درهم يعطيه للحمام في خلوة‏.‏ وصح عن ابن عباس أنه دخل الحمام وهو محرم بالجحفة‏.‏ فدخوله جائز للرجال بالمآزر، وكذلك النساء للضرورة كغسلهن من الحيض أو النفاس أو مرض يلحقهن؛ والأولى بهن والأفضل لهن غسلهن إن أمكن ذلك في بيوتهن، فقد روى أحمد بن منيع حدثنا الحسن بن موسى حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن أبيه عن أم الدرداء أنه سمعها تقول‏:‏ لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خرجت من الحمام فقال‏:‏ ‏(‏من أين يا أم الدرداء‏)‏‏؟‏ فقالت من الحمام؛ فقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده ما من امرأة تضع ثيابها في غير بيت أحد من أمهاتها إلا وهي هاتكة كل ستر بينها وبين الرحمن عز وجل‏)‏‏.‏ ‏"‏وخرج أبو بكر البزار‏"‏ عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احذروا بيتا يقال له الحمام‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، ينقي الوسخ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فاستتروا‏)‏‏.‏ قال أبو محمد عبدالحق‏:‏ هذا أصح إسناد حديث في هذا الباب؛ على أن الناس يرسلونه عن طاوس، وأما ما خرجه أبو داود في هذا من الحظر والإباحة فلا يصح منه شيء لضعف الأسانيد، وكذلك ما ‏"‏خرجه الترمذي‏"‏‏.‏

قلت‏:‏ أما  دخول الحمام في هذه الأزمان فحرام على أهل الفضل والدين؛ لغلبة الجهل على الناس واستسهالهم إذا توسطوا الحمام رمي مآزرهم، حتى يرى الرجل البهي ذو الشيبة قائما منتصبا وسط الحمام وخارجه باديا عن عورته ضاما بين فخذيه ولا أحد يغير عليه‏.‏ هذا أمر بين الرجال فكيف من النساء لا سيما بالديار المصرية إذ حماماتهم خالية عن المظاهر التي هي من أعين الناس سواتر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

قال العلماء‏:‏ فإن استتر فليدخل بعشرة شروط

 الأول‏:‏ ألا يدخل إلا بنية التداوي أو بنية التطهير عن الرحضاء‏.‏

 الثاني‏:‏ أن يعتمد أوقات الخلوة أو قلة الناس‏.‏

 الثالث‏:‏ أن يستر عورته بإزار صفيق‏.‏

 الرابع‏:‏ أن يكون نظره إلى الأرض أو يستقبل الحائط لئلا يقع بصره على محظور‏.‏

 الخامس‏:‏ أن يغير ما يرى من منكر برفق، يقول‏:‏ استتر سترك الله

 السادس‏:‏ إن دلكه أحد لا يمكنه من عورته، من سرته إلى ركبته إلا امرأته أو جاريته‏.‏ وقد اختلف في الفخذين هل هما عورة أم لا‏.‏

 السابع‏:‏ أن يدخله بأجرة معلومة بشرط أو بعادة الناس‏.‏

 الثامن‏:‏ أن يصب الماء على قدر الحاجة‏.‏

 التاسع‏:‏ إن لم يقدر على دخوله وحده اتفق مع قوم يحفظون أديانهم على كرائه‏.‏

 العاشر‏:‏ أن يتذكر به جهنم‏.‏ فإن لم يمكنه ذلك كله فليستتر وليجتهد في غض البصر‏.‏ ذكر الترمذي أبو عبدالله في نوادر الأصول من حديث طاوس عن عبدالله بن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اتقوا بيتا يقال له الحمام‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، إنه يذهب به الوسخ ويذكّر النار فقال‏:‏ ‏(‏إن كنتم لا بد فاعلين فادخلوه مستترين‏)‏‏.‏ وخرج من حديث أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نعم البيت يدخله الرجل المسلم بيت الحمام - وذلك لأنه إذا دخله سأل الله الجنة واستعاذ به من النار - وبئس البيت يدخله الرجل بيت العروس‏)‏‏.‏ وذلك لأنه يرغبه في الدنيا وينسيه الآخرة‏.‏ قال أبو عبدالله‏:‏ فهذا لأهل الغفلة، صير الله هذه الدنيا بما فيها سببا للذكر لأهل الغفلة ليذكروا بها آخرتهم؛ فأما أهل اليقين فقد صارت الآخرة نصب أعينهم فلا بيت حمام يزعجه ولا بيت عروس يستفزه، لقد دقت الدنيا بما فيها من الصنفين والضربين في جنب الآخرة، حتى إن جميع نعيم الدنيا في أعينهم كنثارة الطعام من مائدة عظيمة، وجميع شدائد الدنيا في أعينهم كتفلة عوقب بها مجرم أو مسيء قد كان استوجب القتل أو الصلب من جميع عقوبات أهل الدنيا‏.‏

قوله ‏{‏ذلك أزكى لهم‏}‏أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر في الدين وأبعد من دنس الأنام‏.‏ ‏{‏إن الله خبير‏}‏أي عالم‏.‏ ‏{‏بما يصنعون‏}‏تهديد ووعيد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ‏}‏

قوله ‏{‏وقل للمؤمنات‏}‏خص الله سبحانه وتعالى الإناث هنا بالخطاب على طريق التأكيد؛ فإن قوله ‏{‏قل للمؤمنين‏}‏يكفي؛ لأنه قول عام يتناول الذكر والأنثى من المؤمنين، حسب كل خطاب عام في القرآن‏.‏ وظهر التضعيف في ‏{‏يغضضن‏}‏ولم يظهر في ‏{‏يغضوا‏}‏لأن لام الفعل من الثاني ساكنة ومن الأول متحركة، وهما في موضع جزم جوابا‏.‏ وبدأ بالغض قبل الفرج لأن البصر رائد للقلب؛ كما أن الحُمى رائد الموت‏.‏ وأخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال‏:‏

ألم تر أن العين للقلب رائد فما تألف العينان فالقلب آلف

وفي الخبر ‏(‏النظر سهم من سهام إبليس مسموم فمن غض بصره أورثه الله الحلاوة في قلبه‏)‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر؛ فإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر‏.‏ وعن خالد بن أبي عمران قال‏:‏ لا تتبعن النظرة النظرة فربما نظر العبد نظرة نغل منها قلبه كما ينغل الأديم فلا ينتفع به‏.‏ فأمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بغض الأبصار عما لا يحل؛ فلا يحل للرجل أن ينظر إلى المرأة ولا المرأة إلى الرجل؛ فإن علاقتها به كعلاقته بها؛ وقصدها منه كقصده منها‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فالعينان تزنيان وزناهما النظر‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وقال الزهري في النظر إلى التي لم تحض من النساء‏:‏ لا يصلح النظر إلى شيء منهن ممن يشتهى النظر إليهن وإن كانت صغيرة‏.‏ وكره عطاء النظر إلى الجواري اللاتي يبعن بمكة إلا أن يريد أن يشتري‏.‏ وفي الصحيحين عنه عليه السلام أنه صرف وجه الفضل عن الخثعمية حين سألته، وطفق الفضل ينظر إليها‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏الغيرة من الإيمان والمذاء من النفاق‏)‏‏.‏ والمذاء هو أن يجمع الرجل بين النساء والرجال ثم يخليهم يماذي بعضهم بعضا؛ مأخوذ من المذي‏.‏ وقيل‏:‏ هو إرسال الرجال إلى النساء؛ من قولهم‏:‏ مذيت الفرس إذا أرسلتها ترعى‏.‏ وكل ذكر يمذي، وكل أنثى تقذي؛ فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تبدي زينتها إلا لمن تحل له؛ أو لمن هي محرمة عليه على التأبيد؛ فهو آمن أن يتحرك طبعه إليها لوقوع اليأس له منها‏.‏

‏"‏روى الترمذي عن نبهان مولى أم سلمة‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها ولميمونة وقد دخل عليها ابن أم مكتوم‏:‏ ‏(‏احتجبا‏)‏ فقالتا‏:‏ إنه أعمى، قال‏:‏ ‏(‏أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ هذا الحديث لا يصح عند أهل النقل لأن راويه عن أم سلمة نبهان مولاها وهو ممن لا يحتج بحديثه‏.‏ وعلى تقدير صحته فإن ذلك منه عليه السلام تغليظ على أزواجه لحرمتهن كما غلظ عليهن أمر الحجاب؛ كما أشار إليه أبو داود وغيره من الأئمة‏.‏ ويبقى معنى الحديث الصحيح الثابت وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت قيس أن تعتد في بيت أم شريك؛ ثم قال‏:‏ ‏(‏تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ولا يراك‏)‏‏.‏ قلنا‏:‏ قد استدل بعض العلماء بهذا الحديث على أن المرأة يجوز لها أن تطلع من الرجل على ما لا يجوز للرجل أن يطلع من المرأة كالرأس ومعلق القرط؛ وأما العورة فلا‏.‏ فعلى هذا يكون مخصصا لعموم قوله ‏{‏وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن‏}‏، وتكون ‏{‏من‏}‏للتبعيض كما هي في الآية قبلها‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وإنما أمرها بالانتقال من بيت أم شريك إلى ببت ابن أم مكتوم لأن ذلك أولى بها من بقائها في بيت أمر شريك؛ إذ كانت أم شريك مؤثرة بكثرة الداخل إليها، فيكثر الرائي لها، وفي بيت ابن أم مكتوم لا يراها أحد؛ فكان إمساك بصرها عنه أقرب من ذلك وأولى، فرخص لها في ذلك، والله أعلم‏.‏

أمر الله سبحانه وتعالى النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين، إلا ما استثناه من الناظرين في باقي الآية حذارا من الافتتان، ثم استثنى، ما يظهر من الزينة؛ واختلف الناس في قدر ذلك؛ فقال ابن مسعود‏:‏ ظاهر الزينة هو الثياب‏.‏ وزاد ابن جبير الوجه‏.‏ وقال سعيد بن جبير أيضا وعطاء والأوزاعي‏:‏ الوجه والكفان والثياب‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة والمسور بن مخرمة‏:‏ ظاهر الزينة هو الكحل والسوار والخضاب إلى نصف الذراع والقرطة والفتخ؛ ونحو هذا فمباح أن تبديه المرأة لكل من دخل عليها من الناس‏.‏ وذكر الطبري عن قتادة في معنى نصف الذراع حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر آخر عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى ها هنا‏)‏ وقبض على نصف الذراع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أن المرأة مأمورة بألا تبدي وأن تجتهد في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء فيما يظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بد منه، أو إصلاح شأن ونحو ذلك‏.‏ فـ ‏{‏ما ظهر‏}‏على هذا الوجه مما تؤدي إليه الضرورة في النساء فهو المعفو عنه‏.‏

قلت‏:‏ هذا قول حسن، إلا أنه لما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة وذلك في الصلاة والحج، فيصلح أن يكون الاستثناء راجعا إليهما‏.‏ يدل على ذلك ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لها‏:‏ ‏(‏يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا‏)‏ وأشار إلى وجهه وكفيه‏.‏ فهذا أقوى من جانب الاحتياط؛ ولمراعاة فساد الناس فلا تبدي المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها، والله الموفق لا رب سواه‏.‏ وقد قال ابن خويز منداد من علمائنا‏:‏ إن المرأة إذا كانت جميلة وخيف من وجهها وكفيها الفتنة فعليها ستر ذلك؛ وإن كانت عجوزا أو مقبحة جاز أن تكشف وجهها وكفيها‏.‏

الزينة على قسمين‏:‏ خلقية ومكتسبة؛ فالخلقية وجهها فإنه أصل الزينة وجمال الخلقة ومعنى الحيوانية؛ لما فيه من المنافع وطرق العلوم‏.‏ وأما الزينة المكتسبة فهي ما تحاوله المرأة في تحسين خلقتها؛ كالثياب والحلي والكحل والخضاب؛ ومنه قوله ‏{‏خذوا زينتكم‏}‏ ‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يأخذن زينتهن أحسن ما ترى وإذا عطلن فهن خير عواطل

من الزينة ظاهر وباطن؛ فما ظهر فمباح أبدا لكل الناس من المحارم والأجانب؛ وقد ذكرنا ما للعلماء فيه‏.‏ وأما ما بطن فلا يحل إبداؤه إلا لمن سماهم الله تعالى في هذه الآية، أو حل محلهم‏.‏ واختلف في السوار؛ فقالت عائشة‏:‏ هي من الزينة الظاهرة لأنها في اليدين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هي من الزينة الباطنة، لأنها خارج عن الكفين وإنما تكون في الذراع‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأما الخضاب فهو من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين‏.‏

قوله ‏{‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏قرأ الجمهور بسكون اللام التي هي للأمر‏.‏ وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس بكسرها على الأصل؛ لأن الأصل في لام الأمر الكسر، وحذفت الكسرة لثقلها، وإنما تسكينها لتسكين عضد وفخذ‏.‏ و‏{‏يضربن‏}‏في موضع جزم بالأمر، إلا أنه بني على حالة واحدة إتباعا للماضي عند سيبويه‏.‏ وسبب هذه الآية أن النساء كن في ذلك الزمان إذا غطين رؤوسهن بالأخمرة وهي المقانع سدلنها من وراء الظهر‏.‏ قال النقاش‏:‏ كما يصنع النبط؛ فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر على ذلك؛ فأمر الله تعالى بليّ الخمار على الجيوب، وهيئة ذلك أن تضرب المرأة بخمارها على جيبها لتستر صدرها‏.‏ ‏"‏روى البخاري عن عائشة‏"‏ أنها قالت‏:‏ رحم الله نساء المهاجرات الأول؛ لما نزل‏}‏وليضربن بخمرهن على جيوبهن‏}‏شققن أزرهن فاختمرن بها‏.‏ ودخلت على عائشة حفصة بنت أخيها عبدالرحمن رضي الله عنهم وقد اختمرت بشيء يشف عن عنقها وما هنالك؛ فشقته عليها وقالت‏:‏ إنما يضرب بالكثيف الذي يستر‏.‏

الخمر‏:‏ جمع الخمار، وهو ما تغطي به رأسها؛ ومنه اختمرت المرأة وتخمرت، وهي حسنة الخِمرة‏.‏ والجيوب‏:‏ جمع الجيب، وهو موضع القطع من الدرع والقميص؛ وهو من الجوب وهو القطع‏.‏ ومشهور القراءة ضم الجيم من ‏{‏جيوبهن‏}‏‏.‏ وقرأ بعض الكوفيين بكسرها بسبب الياء؛ كقراءتهم ذلك في‏:‏ بيوت وشيوخ‏.‏ والنحويون القدماء لا يجيزون هذه القراءة ويقولون‏:‏ بيت وبيوت كفلس وفلوس‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ يجوز على أن تبدل من الضمة كسرة؛ فأما ما روي عن حمزة من الجمع بين الضم والكسر فمحال، لا يقدر أحد أن ينطق به إلا على الإيماء إلى ما لا يجوز‏.‏ وقال مقاتل‏}‏على جيوبهن‏}‏أي على صدورهن؛ يعني على مواضع جيوبهن‏.‏

في هذه الآية دليل على أن الجيب إنما يكون في الثوب موضع الصدر‏.‏ وكذلك كانت الجيوب في ثياب السلف رضوان الله عليهم؛ على ما يصنعه النساء عندنا بالأندلس وأهل الديار المصرية من الرجال والصبيان وغيرهم‏.‏ وقد ترجم البخاري رحمة الله تعالى عليه ‏(‏باب جيب القميص من عند الصدر وغيره‏)‏ وساق حديث أبي هريرة قال‏:‏ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى ثُديّهما وتراقيهما‏.‏‏.‏‏.‏ ‏)‏ الحديث، وقد تقدم بكماله، وفيه‏:‏ قال أبو هريرة‏:‏ فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعيه هكذا في جيبه؛ فلو رأيته يوسعها ولا تتوسع‏.‏ فهذا يبين لك أن جيبه عليه السلام كان في صدره؛ لأنه لو كان في منكبه لم تكن يداه مضطرة إلى ثدييه وتراقيه‏.‏ وهذا استدلال حسن‏.‏

قوله ‏{‏لبعولتهن‏}‏والبعل هو الزوج والسيد في كلام العرب؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم في جبريل‏:‏ ‏(‏إذا ولدت الأمة بعلها‏)‏ يعني سيدها؛ إشارة إلى كثرة السراري بكثرة الفتوحات، فيأتي الأولاد من الإماء فتعتق كل أم بولدها وكأنه سيدها الذي من عليها بالعتق إذ كان العتق حاصلا لها من سببه؛ قاله ابن العربي‏.‏

قلت‏:‏ ومنه قوله عليه السلام في مارية‏:‏ ‏(‏أعتقها ولدها‏)‏ فنسب العتق إليه‏.‏ وهذا من أحسن تأويلات هذا الحديث‏.‏ والله أعلم‏.‏

 مسألة‏:‏

فالزوج والسيد يرى الزينة من المرأة وأكثر من الزينة إذ كل محل من بدنها حلال له لذة ونظرا‏.‏ ولهذا المعنى بدأ بالبعولة؛ لأن اطلاعهم يقع على أعظم من هذا، قال الله ‏{‏والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين‏}‏ ‏.‏

اختلف الناس في جواز نظر الرجل إلى فرج المرأة؛ على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ يجوز؛ لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر أولى‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز؛ لقول عائشة رضي الله عنها في ذكر حالها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما رأيت ذلك منه ولا رأى ذلك مني‏)‏ والأول أصح، وهذا محمول على الأدب؛ قال ابن العربي‏.‏ وقد قال أصبغ من علمائنا‏:‏ يجوز له أن يلحسه بلسانه‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ أما الزوج والسيد فيجوز له أن ينظر إلى سائر الجسد وظاهر الفرج دون باطنه‏.‏ وكذلك المرأة يجوز أن تنظر إلى عورة زوجها، والأمة إلى عورة سيدها‏.‏

قلت‏:‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏النظر إلى الفرج يورث الطمس‏)‏ أي العمى، أي في الناظر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الولد بينهما يولد أعمى‏.‏ والله أعلم‏.‏

لما ذكر الله تعالى الأزواج وبدأ بهم ثنى بذوي المحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم بحسب ما في نفوس البشر‏.‏ فلا مرية أن كشف الأب والأخ على المرأة أحوط من كشف ولد زوجها‏.‏ وتختلف مراتب ما يبدى لهم؛ فيبدى للأب ما لا يجوز إبداؤه لولد الزوج‏.‏ وقد ذكر القاضي إسماعيل عن الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان أمهات المؤمنين‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن رؤيتهما لهن تحل‏.‏ قال إسماعيل‏:‏ أحسب أن الحسن والحسين ذهبا في ذلك إلى أن أبناء البعولة لم يذكروا في الآية التي في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي قوله ‏{‏لا جناح عليهن في آبائهن‏}‏ ‏.‏ وقال في سورة النور‏}‏ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن‏}‏الآية‏.‏ فذهب ابن عباس إلى هذه الآية، وذهب الحسن والحسين إلى الآية أخرى‏.‏

قوله ‏{‏أو أبناء بعولتهن‏}‏يريد ذكور أولاد الأزواج، ويدخل فيه أولاد الأولاد وإن سفلوا، من ذكران كانوا أو إناث؛ كبني البنين وبني البنات‏.‏ وكذلك آباء البعولة والأجداد وإن علوا من جهة الذكران لآباء الآباء وآباء الأمهات، وكذلك أبناؤهن وإن سفلوا‏.‏ وكذلك أبناء البنات وإن سفلن؛ فيستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات‏.‏ وكذلك أخواتهن، وهم من ولد الآباء والأمهات أو أحد الصنفين‏.‏ وكذلك بنو الأخوة وبنو الأخوات وإن سفلوا من ذكران كانوا أو إناث كبني بني الأخوات وبني بنات الأخوات‏.‏ وهذا كله في معنى ما حرم من المناكح فإن ذلك على المعاني في الولادات وهؤلاء محارم، وقد تقدم في - النساء -‏.‏ والجمهور على أن العم والخال كسائر المحارم في جواز النظر لهما إلى ما يجوز لهم‏.‏ وليس في الآية ذكر الرضاع، وهو كالنسب على ما تقدم‏.‏ وعند الشعبي وعكرمة ليس العم والخال من المحارم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لم يذكرهما في الآية لأنهما تبعان لأبنائهما‏.‏

قوله ‏{‏أو نسائهن‏}‏يعني المسلمات، ويدخل في هذا الإماء المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين من أهل الذمة وغيرهم؛ فلا يحل لامرأة مؤمنة أن تكشف شيئا من بدنها بين يدي امرأة مشركة إلا أن تكون أمة لها؛ فذلك قوله ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏‏.‏ وكان ابن جريج وعبادة بن نسي وهشام القارئ يكرهون أن تقبل النصرانية المسلمة أو ترى عورتها؛ ويتأولون ‏{‏أو نسائهن‏}‏‏.‏ وقال عبادة بن نسي‏:‏ وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح‏:‏ أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين؛ فامنع من ذلك، وحل دونه؛ فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة‏.‏ قال‏:‏ فعند ذلك قام أبو عبيدة وابتهل وقال‏:‏ أيما امرأة تدخل الحمام من غير عذر لا تريد إلا أن تبيض وجهها فسود الله وجهها يوم تبيض الوجوه‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لا يحل للمسلمة أن تراها يهودية أو نصرانية؛ لئلا تصفها لزوجها‏.‏ وفي هذه المسألة خلاف للفقهاء‏.‏ فإن كانت الكافرة أمة لمسلمة جاز أن تنظر إلى سيدتها؛ وأما غيرها فلا، لانقطاع الولاية بين أهل الإسلام وأهل الكفر، ولما ذكرناه‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات‏.‏ وهو قول جماعة من أهل العلم، وهو الظاهر من مذهب عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته‏.‏ وقال أشهب‏:‏ سئل مالك أتلقي المرأة خمارها بين يدي الخصي‏؟‏ فقال نعم، إذا كان مملوكا لها أو لغيرها؛ وأما الحر فلا‏.‏ وإن كان فحلا كبيرا وَغْداً تملكه، لا هيئة له ولا منظر فلينظر إلى شعرها‏.‏ قال أشهب قال مالك‏:‏ ليس بواسع أن تدخل جارية الولد أو الزوجة على الرجل المرحاض؛ قال الله ‏{‏أو ما ملكت أيمانكم‏}‏‏.‏ وقال أشهب عن مالك‏:‏ ينظر الغلام الوغد إلى شعر سيدته، ولا أحبه لغلام الزوج‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا تغرنكم هذه الآية ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏إنما عني بها الإماء ولم يعن بها العبيد‏.‏ وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته‏.‏ وهو قول مجاهد وعطاء‏.‏ و‏"‏روى أبو داود عن أنس‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها، قال‏:‏ وعلى فاطمة ثوب إذا غطت به رأسها لم يبلغ إلى رجليها، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ إلى رأسها؛ فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى من ذلك قال‏:‏ ‏(‏إنه لا بأس عليك إنما هو أبوك وغلامك‏)‏‏.‏

قوله ‏{‏أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال‏}‏أي غير أولي الحاجة والإربة الحاجة، يقال‏:‏ أربت كذا آرب أربا‏.‏ والإرب والإربة والمأربة والأرب‏:‏ الحاجة؛ والجمع مأرب؛ أي حوائج‏.‏ ومنه قوله ‏{‏ولي فيها مآرب أخرى ‏}‏ وقد تقدم وقال طرفة‏:‏

إذا المرء قال الجهل والحوب والخنا تقدم يوما ثم ضاعت مآربه

واختلف الناس في معنى قوله ‏{‏أو التابعين غير أولي الإربة‏}‏فقيل‏:‏ هو الأحمق الذي لا حاجة به إلى النساء‏.‏ وقيل الأبله‏.‏ وقيل‏:‏ الرجل يتبع القوم فيأكل معهم ويرتفق بهم؛ وهو ضعيف لا يكترث للنساء ولا يشتهيهن‏.‏ وقيل العنين‏.‏ وقيل الخصي‏.‏ وقيل المخنث‏.‏ وقيل الشيخ الكبير، والصبي الذي لم يدرك‏.‏ وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى، ويجتمع فيمن لا فهم له ولا همة ينتبه بها إلى أمر النساء‏.‏ وبهذه الصفة كان هيت المخنث عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سمع منه ما سمع من وصف محاسن المرأة‏:‏ بادية ابنة غيلان، أمر بالاحتجاب منه‏.‏ أخرج حديثه مسلم وأبو داود ومالك في الموطأ وغيرهم عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ذكر عبدالملك بن حبيب عن حبيب كاتب مالك قال قلت لمالك‏:‏ إن سفيان زاد في حديث ابنة غيلان‏:‏ ‏)‏أن مخنثا يقال له هيت‏)‏ وليس في كتابك هيت‏؟‏ فقال مالك‏:‏ صدق، هو كذلك وغربه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحمى وهو موضع من ذي الحليفة ذات الشمال من مسجدها‏.‏ قال حبيب وقلت لمالك‏:‏ وقال سفيان في الحديث‏:‏ إذا قعدت تبنت، وإذا تكلمت تغنت‏.‏ قال مالك‏:‏ صدق، هو كذلك‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ما ذكره حبيب كاتب مالك عن سفيان أنه قال في الحديث يعني حديث هشام بن عروة ‏)‏أن مخنثا يدعى هيتا‏)‏ فغير معروف عند أحد من رواته عن هشام، لا ابن عيينة ولا غيره، ولم يقل في نسق الحديث ‏)‏إن مخنثا يدعى هيتا‏)‏ وإنما ذكره عن ابن جريج بعد تمام الحديث، وكذلك قوله عن سفيان أنه يقول في الحديث‏:‏ إذا قعدت تبنت وإذا تكلمت تغنت، هذا ما لم يقله سفيان ولا غيره في حديث هشام بن عروة، وهذا اللفظ لا يوجد إلا من رواية الواقدي، والعجب أنه يحكيه عن سفيان ويحكي عن مالك أنه كذلك، فصارت رواية عن مالك، ولم يروه عن مالك غير حبيب ولا ذكره عن سفيان غيره أيضا، والله أعلم‏.‏ وحبيب كاتب مالك متروك الحديث ضعيف عند جميعهم، لا يكتب حديثه ولا يلتفت إلى ما يجيء به‏.‏ ذكر الواقدي والكلبي أن هيتا المخنث قال لعبدالله بن أمية المخزومي وهو أخو أم سلمة لأبيها وأمه عاتكة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له وهو في بيت أخته أم سلمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع‏:‏ إن فتح الله عليكم الطائف فعليك ببادية بنت غيلان بن سلمة الثقفي، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، مع ثغر كالأقحوان، إن جلست تبنت وإن تكلمت تغنت، بين رجليها كالإناء المكفوء، وهي كما قال قيس بن الخطيم‏:‏

تغترق الطرف وهي لاهية كأنما شف وجهها نزف

بين شكول النساء خلقتها قصد فلا جبلة ولا قضف

تنام عن كبر شأنها فإذا قامت رويدا تكاد تنقصف

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏)‏لقد غلغلت النظر إليها يا عدو الله‏)‏‏.‏ ثم أجلاه عن المدينة إلى الحمى‏.‏ قال‏:‏ فلما افتتحت الطائف تزوجها عبدالرحمن بن عوف فولدت له منه بريهة؛ في قول الكلبي‏.‏ ولم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى، ثم كلم فيه عثمان بعد‏.‏ وقيل‏:‏ إنه قد كبر وضعف واحتاج، فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه‏.‏ قال‏:‏ وكان هيت مولى لعبدالله بن أبي أمية المخزومي، وكان له طُوَيس أيضا، فمن ثم قبل الخنث‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ يقال بادية بالياء وبادنة بالنون، والصواب فيه عندهم بالياء، وهو قول أكثرهم، وكذلك ذكره الزبيري بالياء‏.‏

وصف التابعين بـ ‏{‏غير‏}‏لأن التابعين غير مقصودين بأعيانهم، فصار اللفظ كالنكرة‏.‏ و‏{‏غير‏}‏لا يتمحض نكرة فجاز أن يجري وصفا على المعرفة‏.‏ وإن شئت قلت هو بدل‏.‏ والقول فيها كالقول في ‏{‏غير المغضوب عليهم‏}‏ ‏.‏ وقرأ عاصم وابن عامر ‏{‏غير‏}‏بالنصب فيكون استثناء؛ أي يبدين زينتهن للتابعين إلا ذا الإربة منهم‏.‏ ويجوز أن يكون حالا؛ أي والذين يتبعونهن عاجزين عنهن؛ قاله أبو حاتم‏.‏ وذو الحال ما في ‏{‏التابعين‏}‏من الذكر‏.‏

قوله ‏{‏أو الطفل‏}‏اسم جنس بمعنى الجمع، والدليل على ذلك نعته ‏{‏بالذين‏}‏‏.‏ وفي مصحف حفصة ‏{‏أو الأطفال‏}‏على الجمع‏.‏ ويقال‏:‏ طفل ما لم يراهق الحلم‏.‏ و‏{‏يظهروا‏}‏معناه يطلعوا بالوطء؛ أي لم يكشفوا عن عوراتهن للجماع لصغرهن‏.‏ وقيل‏:‏ لم يبلغوا أن يطيقوا النساء؛ يقال‏:‏ ظهرت على كذا أي علمته، وظهرت على كذا أي قهرته‏.‏ والجمهور على سكون الواو من ‏{‏عورات‏}‏لاستثقال الحركة على الواو‏.‏ وروي عن ابن عباس فتح الواو؛ مثل جفنة وجفنات‏.‏ وحكى الفراء أنها لغة قيس ‏{‏عورات‏}‏بفتح الواو‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا هو القياس؛ لأنه ليس بنعت، كما تقول‏:‏ جفنة وجفنات؛ إلا أن التسكين أجود في ‏{‏عورات‏}‏وأشباهه، لأن الواو إذا تحركت وتحرك ما قبلها قلبت ألفا؛ فلو قيل هذا لذهب المعنى‏.‏

اختلف العلماء في وجوب ستر ما سوى الوجه والكفين منه على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ لا يلزم؛ لأنه لا تكليف عليه، وهو الصحيح‏.‏ والآخر يلزمه؛ لأنه قد يشتهي وقد تشتهي أيضا هي فإن راهق فحكمه حكم البالغ وجوب الستر‏.‏ ومثله الشيخ الذي سقطت شهوته اختلف فيه أيضا على قولين كما في الصبي، والصحيح بقاء الحرمة؛ قاله ابن العربي‏.‏

أجمع المسلمون على أن السوأتين عورة من الرجل والمرأة، وأن المرأة كلها عورة، إلا وجهها ويديها فإنهم اختلفوا فيهما‏.‏ وقال أكثر العلماء في الرجل‏:‏ من سرته إلى ركبته عورة؛ لا يجوز أن ترى‏.‏ وقد مضى في -الأعراف -القول في هذا مستوفى‏.‏

قال أصحاب الرأي‏:‏ عورة المرأة مع عبدها من السرة إلى الركبة‏.‏ ابن العربي‏:‏ وكأنهم ظنوها رجلا أو ظنوه امرأة، والله تعالى قد حرم المرأة على الإطلاق لنظر أو لذة، ثم استثنى اللذة للأزواج وملك اليمين، ثم استثنى الزينة لاثني عشر شخصا العبد منهم، فما لنا ولذلك هذا نظر فاسد واجتهاد عن السداد متباعد‏.‏ وقد تأول بعض الناس قوله ‏{‏أو ما ملكت أيمانهن‏}‏على الإماء دون العبيد؛ منهم سعيد بن المسيب، فكيف يحملون على العبيد ثم يلحقون بالنساء هذا بعيد جدا وقد قيل‏:‏ إن التقدير أو ما ملكت أيمانهن من غير أولي الإربة أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال؛ حكاه المهدوي‏.‏

قوله ‏{‏ولا يضربن بأرجلهن‏}‏أي لا تضرب المرأة برجلها إذا مشت لتسمع صوت خلخالها؛ فإسماع صوت الزينة كإبداء الزينة وأشد، والغرض التستر‏.‏ أسند الطبري عن المعتمر عن أبيه أنه قال‏:‏ زعم حضرمي أن امرأة اتخذت برتين من فضة واتخذت جزعا فجعلت في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت؛ فنزلت هذه الآية‏.‏ وسماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من إبدائها؛ قاله الزجاج‏.‏

من فعل ذلك منهن فرحا بحليهن فهو مكروه‏.‏ ومن فعل ذلك منهن تبرجا وتعرضا للرجال فهو حرام مذموم‏.‏ وكذلك من ضرب بنعله من الرجال، إن فعل ذلك تعجبا حرم فإن العجب كبيرة‏.‏ وإن فعل ذلك تبرجا لم يجز‏.‏

قال مكي رحمه الله تعالى‏:‏ ليس في كتاب الله تعالى آية أكثر ضمائر من هذه جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع‏.‏

قوله ‏{‏وتوبوا‏}‏أمر‏.‏ ولا خلاف بين الأمة في وجوب التوبة، وأنها فرض متعين وقد مضى الكلام فيها في ‏{‏النساء‏}‏وغيرها فلا معنى لإعادة ذلك‏.‏ والمعنى‏:‏ وتوبوا إلى الله فإنكم لا تخلون من سهو وتقصير في أداء حقوق الله تعالى، فلا تتركوا التوبة في كل حال‏.‏

قرأ الجمهور ‏{‏أيه‏}‏بفتح الهاء‏.‏ وقرأ ابن عامر بضمها؛ ووجهه أن تجعل الهاء من نفس الكلمة، فيكون إعراب المنادى فيها‏.‏ وضعف أبو علي ذلك جدا وقال‏:‏ آخر الاسم هو الياء الثانية من أي، فالمضموم ينبغي أن يكون آخر الاسم، ولو جاز ضم الهاء ها هنا لاقترانها بالكلمة لجاز ضم الميم في ‏{‏اللهم‏}‏لاقترانها بالكلمة في كلام طويل‏.‏ والصحيح أنه إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة فليس إلا اعتقاد الصحة في اللغة، فإن القرآن هو الحجة‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

يا أيه القلب اللجوج النفس أفق عن البيض الحسان اللعس

اللعس‏:‏ لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا، وذلك يستملح؛ يقال‏:‏ شفة لعساء، وفتية ونسوة لعس‏.‏ وبعضهم يقف ‏{‏أيه‏}‏‏.‏ وبعضهم يقف ‏{‏أيها‏}‏بالألف؛ لأن علة حذفها في الوصل إنما هي سكونها وسكون اللام، فإذا كان الوقف ذهبت العلة فرجعت الألف كما ترجع الياء إذا وقفت على ‏{‏محلي‏}‏من قوله ‏{‏غير محلي الصيد‏}‏ ‏.‏ وهذا الاختلاف الذي ذكرناه كذلك هو في ‏{‏يا أيه الساحر‏}‏‏.‏ ‏{‏يا أيه الثقلان‏}‏‏.‏