فصل: الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 4 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة الشورى

 المقدمة

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر‏.‏ وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ إلا أربع آيات منها أنزلت بالمدينة‏}‏قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى‏}‏إلى آخرها‏.‏ وهي ثلاث وخمسون آية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 4 ‏)‏

‏{‏حم، عسق، كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم، له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم‏}‏

قوله تعالى‏}‏حم‏.‏ عسق‏}‏قال عبدالمؤمن‏:‏ سألت الحسين بن الفضل‏:‏ لم قطع ‏}‏حم‏}‏من ‏}‏عسق‏}‏ولم تقطع ‏}‏كهيعص‏}‏و‏}‏المر‏}‏و‏}‏المص‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ لأن ‏}‏حم‏.‏ عسق‏}‏بين سور أولها ‏}‏حم‏}‏فجرت مجرى نظائرها قبلها وبعدها؛ فكأن ‏}‏حم‏}‏مبتدأ و‏}‏عسق‏}‏خبره‏.‏ ولأنها عدت آيتين، وعدت أخواتها اللواتي كتبت جملة آية واحدة‏.‏ وقيل‏:‏ إن الحروف المعجمة كلها في معنى واحد، من حيث إنها أس البيان وقاعدة الكلام؛ ذكره الجرجاني‏.‏ وكتبت ‏}‏حم‏.‏ عسق‏}‏منفصلا و‏}‏كهيعص‏}‏متصلا لأنه قيل‏:‏ حم؛ أي حم ما هو كائن، ففصلوا بين ما يقدر فيه فعل وبين ما لا يقدر‏.‏ ثم لو فصل هذا ووصل ذا لحجاز؛ حكاه القشيري‏.‏ وفي قراءة سبن مسعود وابن عباس ‏}‏حم‏.‏ سق‏}‏قال سبن عباس‏:‏ وكان علي رضي الله عنه يعرف الفتن بها‏.‏ وقال أرطاة بن المنذر، قال رجل لابن عباس وعنده حذيفة بن اليمان‏:‏ أخبرني عن تفسير قوله تعالى‏}‏حم‏.‏ عسق‏}‏‏؟‏ فأعرض عنه حتى عاد عليه ثلاثا فأعرض عنه‏.‏ فقال حذيفة بن اليمان‏:‏ أنا أنبئك بها، قد عرفت لم تركها؛ نزلت في رجل من أهل بيته يقال له عبدالإله أو عبدالله؛ ينزل على نهر من أنهار المشرق، يبني عليه مدينتين يشق النهر بينهما شقا، فإذا أراد الله زوال ملكهم وانقطاع دولتهم، بعث على إحداهما نارا ليلا فتصبح سوداء مظلمة، فتحرق كلها كأنها لم تكن مكانها؛ فتصبح صاحبتها متعجبة، كيف قلبت‏!‏ فما هو إلا بياض يومها حتى يجتمع فيها كل جبار عنيد، ثم يخسف الله بها وبهم جميعا؛ فذلك قوله‏}‏حم‏.‏ عسق‏}‏أي عزمة من عزمات الله، وفتنة وقضاء حم‏:‏ حم‏.‏ ‏}‏ع‏}‏‏:‏ عدلا منه، ‏}‏س‏}‏‏:‏ سيكون، ‏}‏ق‏}‏‏:‏ واقع في هاتين المدينتين‏.‏

ونظير هذا التفسير ما روى جرير بن عبدالله البجلي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقُطْرَبُلْ والصراة، يجتمع فيها جبابرة الأرض تجبى إليها الخزائن يخسف بها - وفي رواية بأهلها - فلهي أسرع ذهابا في الأرض من الوتد الجيد في الأرض الرخوة‏)‏‏.‏ وقرأ ابن عباس‏}‏حم‏.‏ سق‏}‏بغير عين‏.‏ وكذلك هو في مصحف عبدالله بن مسعود؛ حكاه الطبري‏.‏ وروى نافع عن ابن عباس‏}‏الحاء‏}‏حلمه، و‏}‏الميم‏}‏مجده، و‏}‏العين‏}‏علمه، و‏}‏السين‏}‏سناه، و‏}‏القاف‏}‏قدرته؛ أقسم الله بها‏.‏ وعن محمد بن كعب‏:‏ أقسم الله بحلمه ومجده وعلوه وسناه وقدرته ألا يعذب من عاذ بلا إله إلا الله مخلصا من قلبه‏.‏ وقال جعفر بن محمد وسعيد بن جبير‏}‏الحاء‏}‏من الرحمن، والميم ‏}‏من المجيد‏}‏، و‏}‏العين‏}‏من، و‏}‏السين‏}‏من القدوس، و‏}‏القاف‏}‏من القاهر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ فواتح السور‏.‏ وقال عبدالله بن بريدة‏:‏ إنه اسم الجبل المحيط بالدنيا‏.‏ وذكر القشيري، واللفظ للثعلبي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عرفت الكآبة في وجه؛ فقيل له‏:‏ يا رسول الله، ما أحزنك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أخبرت ببلايا تنزل بأمتي من خسف وقذف ونار تحشرهم وريح تقذفهم في البحر وآيات متتابعات متصلات بنزول عيسى وخروج الدجال‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقيل‏:‏ هذا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم فـ ‏}‏الحاء‏}‏حوضه المورود، و‏}‏الميم‏}‏ملكه الممدود، و‏}‏العين‏}‏عزه الموجود، و‏}‏السين‏}‏سناه المشهود، و‏}‏القاف‏}‏قيامه في المقام المحمود، وقربه في الكرامة من الملك المعبود‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحي إليه‏}‏حم‏.‏ عسق‏}‏؛ فلذلك قال‏}‏يوحي إليك وإلى الذين من قبلك‏}‏المهدوي‏:‏ وقد جاء في الخبر أن ‏}‏حم‏.‏ عسق‏}‏معناه أوحيت إلى الأنبياء المتقدمين وقرأ ابن محيصن وابن كثير ومجاهد ‏}‏يوحى‏}‏ بفتح الحاء على ما لم يسم فاعله؛ وروي عن ابن عمر‏.‏ فيكون الجار والمجرور في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل، ويجوز أن يكون اسم ما لم يسم فاعله مضمرا؛ أي يوحى إليك القرآن الذي تضمنه هذه السورة، ويكون اسم الله مرفوعا بإضمار فعل، التقدير‏:‏ يوحيه الله إليك؛ كقراءة ابن عامر وأبي بكر ‏}‏يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال‏{‏النور‏:‏ 36‏]‏ أي يسبحه رجال‏.‏ وأنشد سيبوبه‏:‏

ليبك يزيد ضارع بخصومة وأشعث ممن طوحته الطوائح

فقال‏:‏ لبيك يزيد، ثم بين من ينبغي أن يبكيه، فالمعنى يبكيه ضارع‏.‏ ويجوز أن يكون مبتدأ والخبر محذوف؛ كأنه قال‏:‏ الله يوحيه‏.‏ أوعلى تقدير إضمار مبتدأ أي الموحي الله‏.‏ أويكون مبتدأ والخبر ‏}‏العزيز الحكيم‏}‏‏.‏ وقرأ الباقون ‏}‏يوحي إليك‏}‏بكسر الحاء، ورفع الاسم على أنه الفاعل‏.‏ ‏}‏له ما في السماوات وما في الأرض وهو العلي العظيم‏}‏تقدم في غير موضع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 5 ‏)‏

‏{‏تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ألا إن الله هو الغفور الرحيم‏}‏

قوله تعالى‏}‏تكاد السماوات‏}‏قراءة العامة بالتاء‏.‏ وقرأ نافع وابن وثاب والكسائي بالياء‏.‏ ‏}‏يتفطرن‏}‏قرأ نافع وغيره بالياء والتاء والتشديد في الطاء، وهي قراءة العامة‏.‏ وقرأ أبو عمرو وأبو بكر والمفضل وأبو عبيد ‏}‏ينفطرن‏}‏من الانفطار؛ كقوله تعالى‏}‏إذا السماء انفطرت‏{‏الانفطار‏:‏ 1‏]‏ وقد مضى في سورة ‏}‏مريم‏}‏بيان هذا‏.‏ وقال ابن عباس‏}‏تكاد السماوات يتفطرن‏}‏أي تكاد كل واحدة منها تنفطر فوق التي تليها؛ من قول المشركين‏}‏اتخذ الله ولدا‏{‏البقرة‏:‏ 116‏]‏‏.‏ وقال الضحاك والسدي‏}‏يتفطرن‏}‏أي يتشقق من عظمة الله وجلاله فوقهن‏.‏ وقيل‏}‏فوقهن‏}‏‏:‏ فوق الأرضين من خشية الله لوكن مما يعقل‏.‏

قوله تعالى‏}‏والملائكة يسبحون بحمد ربهم‏}‏أي ينزهونه عما لا يجوز في وصفه، وما لا يليق بجلال‏.‏ وقيل يتعجبون من جرأة المشركين؛ فيذكر التسبيح في موضع التعجب‏.‏ وعن علي رضي الله عنه‏:‏ أن تسبيحهم تعجب مما يرون من تعرضهم لسخط الله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تسبيحهم خضوع لما يرون من عظمة الله‏.‏ ومعنى ‏}‏بحمد ربه‏}‏‏:‏ بأمر ربهم؛ قال السدي‏.‏ ‏}‏ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏قال الضحاك‏:‏ لمن في الأرض من المؤمنين؛ وقال السدي‏.‏ بيانه في سورة غافر‏}‏ويستغفرون للذين آمنوا‏{‏غافر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وعلى هذا تكون الملائكة هنا حملة العرش‏.‏ وقيل‏:‏ جميع ملائكة السماء؛ وهو الظاهر من قول الكلبي‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ هو منسوخ بقوله‏}‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏‏.‏ قال المهدوي‏:‏ والصحيح أنه ليس بمنسوخ؛ لأنه خبر، وهو خاص للمؤمنين‏.‏ وقال أبو الحسن الماوردي عن الكلبي‏:‏ إن الملائكة لما رأت الملكين اللذين اختبرا وبعثا إلى الأرض ليحكما بينهم، فافتتنا بالزهرة وهربا إلى إدريس - وهو جد أبي نوح عليهما السلام - وسألاه أن يدعو لهما، سبحت الملائكة بحمد ربهم واستغفرت لبني آدم‏.‏ قال أبو الحسن بن الحصار‏:‏ وقد ظن بعض من جهل أن هذه الآية نزلت بسبب هاروت وماروت، وأنها منسوخة بالآية التي في المومن، وما علموا أن حملة العرش مخصوصون بالاستغفار للمؤمنين خاصة، ولله ملائكة أخر يستغفرون لمن في الأرض‏.‏ الماوردي‏:‏ وفي استغفارهم لهم قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ من الذنوب والخطايا؛ وهو ظاهر قول مقاتل‏.‏ الثاني‏:‏ أنه طلب الرزق لهم والسعه عليهم؛ قاله الكلبي‏.‏

قلت‏:‏ وهو أظهر، لأن الأرض تعم الكافر وغيره، وعلى قول مقاتل لا يدخل فيه الكافر‏.‏ وقد روي في هذا الباب خبر رواه عاصم الأحول عن أبي عثمان عن سلمان قال‏:‏ إن العبد إذا كان يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة‏:‏ صوت معروف من آدمي ضعيف، كان يذكر الله تعالى في السراء فنزلت به الضراء؛ فيستغفرون له‏.‏ فإذا كان لا يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء قالت الملائكة‏:‏ صوت منكر من آدمي كان لا يذكر الله في السراء فنزلت به الضراء فلا يستغفرون الله له‏.‏ وهذا يدل على أن الآية في الذاكر لله تعالى في السراء والضراء، فهي خاصة ببعض من في الأرض من المؤمنين‏.‏ والله أعلم‏.‏ يحتمل أن يقصدوا بالاستغفار طلب الحلم والغفران في قوله تعالى‏}‏إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا‏{‏فاطر‏:‏ 41‏]‏ - إلى أن قال إن كان حليما غفورا‏}‏، وقوله تعالى‏}‏وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم‏{‏الرعد‏:‏ 6‏]‏‏.‏ والمراد الحلم عنهم وألا يعالجهم بالانتقام؛ فيكون عاما؛ قال الزمخشري‏.‏ وقال مطرف‏:‏ وجدنا أنصح عباد الله لعباد الله الملائكة، ووجدنا أغشى عباد الله لعباد الله الشياطين‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏ألا إن الله هو الغفور الرحيم‏}‏قال بعض العلماء‏:‏ هيب وعظم جل وعز في الابتداء، وألطف وبشر في الانتهاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل‏}‏

قوله تعالى‏}‏والذين اتخذوا من دونه أولياء‏}‏يعني أصناما يعبدونها‏.‏ ‏}‏الله حفيظ عليهم‏}‏أي يحفظ أعمالهم ليجازيهم بها‏.‏ ‏}‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏وهذه منسوخة بآية السيف‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏أطت السماء وحق لها أن تئط‏)‏ أي صوتت من ثقل سكانها لكثرتهم، فهم مع كثرتهم لا يفترون عن عبادة الله؛ وهؤلاء الكفار يشركون به‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 7 ‏)‏

‏{‏وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏

قوله تعالى‏}‏وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا‏}‏أي وكما أوحينا إليك وإلى من قبلك هذه المعاني فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا بيناه بلغة العرب‏.‏ قيل‏:‏ أي أنزلنا عليك قرآنا عربيا بلسان قومك؛ كما أرسلنا كل رسول بلسان قومه‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ ‏}‏لتنذر أم القرى‏}‏يعني مكة‏.‏ قيل لمكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحها‏.‏ ‏}‏ومن حولها‏}‏من سائر الخلق‏.‏ ‏}‏وتنذر يوم الجمع‏}‏أي بيوم الجمع، وهو يوم القيامة‏.‏ ‏}‏لا ريب فيه‏}‏لا شك فيه‏.‏ ‏}‏فريق في الجنة وفريق في السعير‏}‏ابتداء وخبر‏.‏ وأجاز الكسائي النصب على تقدير‏:‏ لتنذر فريقا في الجنة وفريقا في السعير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 8 ‏)‏

‏{‏ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير‏}‏

قوله تعالى‏}‏ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة‏}‏قال الضحاك‏:‏ أهل دين واحد؛ أو أهل ضلالة أو أهل هدى‏.‏ ‏}‏ولكن يدخل من يشاء في رحمته‏}‏قال أنس بن مالك‏:‏ في الإسلام‏.‏ ‏}‏والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير‏}‏‏}‏والظالمون‏}‏رفع على الابتداء، والخبر ‏}‏ما لهم من ولي ولا نصير‏}‏عطف على اللفظ‏.‏ ويجوز ‏}‏ولا نصير‏}‏بالرفع على الموضع و‏}‏من‏}‏زائدة

 الآية رقم ‏(‏ 9 ‏)‏

‏{‏أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏}‏أم اتخذوا‏}‏أي بل اتخذوا‏.‏ ‏}‏من دونه أولياء‏}‏يعني أصناما‏.‏ ‏}‏فالله هو الولي‏}‏أي وليك يا محمد وولي من اتبعك، لا ولي سواه‏.‏ ‏}‏وهو يحيي الموتى‏}‏يريد عند البعث‏.‏ ‏}‏وهو على كل شيء قدير‏}‏وغيره من الأولياء لا يقدر على شيء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب‏}‏

قوله تعالى‏}‏وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله‏}‏حكاية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين؛ أي وما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب والمشركين من أمر الدين، فقولوا لهم حكمه إلى الله لا إليكم، وقد حكم أن الدين هو الإسلام لا غيره‏.‏ وأمور الشرائع إنما تتلقى من بيان الله‏.‏ ‏}‏ذلكم الله ربي‏}‏أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده؛ وفيه إضمار‏:‏ أي قل لهم يا محمد ذلكم الله الذي يحيي الموتى ويحكم بين المختلفين هو ربي‏.‏ ‏}‏عليه توكلت‏}‏اعتمدت‏.‏ ‏}‏وإليه أنيب‏}‏أرجع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏

قوله تعالى‏}‏فاطر السماوات والأرض‏}‏بالرفع على النعت لاسم الله، أو على تقدير هو فاطر‏.‏ ويجوز النصب على النداء، والجر على البدل من الهاء في ‏}‏عليه‏}‏‏.‏ والفاطر‏:‏ المبدع والخالق‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ‏}‏جعل لكم من أنفسكم أزواجا‏}‏قيل معناه إناثا‏.‏ وإنما قال‏}‏من أنفسكم‏}‏لأنه خلق حواء من ضلع آدم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نسلا بعد نسل‏.‏ ‏}‏ومن الأنعام أزواجا‏}‏يعني الثمانية التي ذكرها في ‏}‏الأنعام‏}‏ذكور الإبل والبقر والضأن والمعز وإناثها‏.‏ ‏}‏يذرؤكم فيه‏}‏أي يخلقكم وينشئكم ‏}‏فيه‏}‏أي في الرحم‏.‏ وقيل‏:‏ في البطن‏.‏ وقال الفراء وابن كيسان‏}‏فيه‏}‏بمعنى به‏.‏ وكذلك قال الزجاج‏:‏ معنى ‏}‏يذرؤكم فيه يكثركم به؛ أي يكثركم يجعلكم أزواجا، أي حلائل؛ لأنهن سبب النسل‏.‏ وقيل‏:‏ إن الهاء في ‏}‏فيه‏}‏للجعل؛ ودل عليه ‏}‏جعل‏}‏؛ فكأنه قال‏:‏ يخلقكم ويكثركم في الجعل‏.‏ ابن قتيبة‏}‏يذرؤكم فيه‏}‏أي في الزوج؛ أي يخلقكم في بطون الإناث‏.‏ وقال‏:‏ ويكون ‏}‏فيه‏}‏في الرحم، وفيه بعد؛ لأن الرحم مؤنثة ولم يتقدم لها ذكر‏.‏ ‏}‏ليس كمثله شيء وهو السميع البصير‏}‏قيل‏:‏ إن الكاف زائدة للتوكيد؛ أي ليس مثله شيء‏.‏ قال‏:‏

وصاليات ككما يؤثفين

فأدخل على الكاف كافا تأكيدا للتشبيه‏.‏ وقيل‏:‏ المثل زائدة للتوكيد؛ وهو قول ثعلب‏:‏ ليس كهو شيء؛ نحو قوله تعالى‏}‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا‏}‏‏.‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏‏.‏ وفي حرف ابن مسعود ‏}‏فان آمنوا بما آمنتم به فقد اهتدوا‏}‏قال أوس بن حجر‏:‏

وقتلى كمثل جذوع النخـ ـيل يغشاهم مطر منهمر

أي كجذوع‏.‏ والذي يعتقد في هذا الباب أن الله جل اسمه في عظمته وكبريائه وملكوته وحسنى أسمائه وعليّ صفاته، لا يشبه شيئا من مخلوقاته ولا يشبه به، وإنما جاء مما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق، فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي؛ إذ صفات القديم جل وعز بخلاف صفات المخلوق؛ إذ صفاتهم لا تنفك عن الأغراض والأعراض، وهو تعالى منزه عن ذلك؛ بل لم يزل بأسمائه وبصفاته على ما بيناه في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وكفى في هذا قوله الحق‏}‏ليس كمثله شيء‏}‏‏.‏ وقد قال بعض العلماء المحققين‏:‏ التوحيد إثبات ذات غير مشبهة للذوات ولا معطلة من الصفات‏.‏ وزاد الواسطي رحمه الله بيانا فقال‏:‏ ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، ولا كصفته صفة إلا من جهة موافقة اللفظ؛ وجلت الذات القديمة أن يكون لها صفة حديثة؛ كما استحال أن يكون للذات المحدثة صفة قديمة‏.‏ وهذا كله مذهب أهل الحق والسنة والجماعة‏.‏ رضي الله عنهم ‏!‏

 الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم‏}‏

قوله تعالى‏}‏له مقاليد السماوات والأرض‏}‏تقدم في ‏}‏الزمر‏}‏بيانه‏.‏ النحاس‏:‏ والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن؛ يقال للمفاتيح‏:‏ إقليد، وجمعه على غير قياس؛ كمحاسن والواحد حسن‏.‏ ‏}‏يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم‏}‏تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 13 ‏:‏ 14 ‏)‏

‏{‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب‏}‏

قوله تعالى‏}‏شرع لكم من الدين‏}‏أي الذي له مقاليد السماوات والأرض شرع لكم من الدين ما شرع لقوم نوج وإبراهيم وموسى وعيسى؛ ثم بين ذلك بقوله تعالى‏}‏أن أقيموا الدين‏}‏وهو توحيد الله وطاعته، والإيمان برسله وكتبه وبيوم الجزاء، وبسائر ما يكون الرجل بإقامته مسلما‏.‏ ولم يرد الشرائع التي هي مصالح الأمم على حسن أحوالها، فإنها مختلفة متفاوتة؛ قال الله تعالى‏}‏لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا‏{‏المائدة‏:‏ 48‏]‏ وقد تقدم القول فيه‏.‏ ومعنى ‏}‏شرع‏}‏أي نهج وأوضح وبين المسالك‏.‏ وقد شرع لهم يشرع شرعا أي سن‏.‏ والشارع‏:‏ الطريق الأعظم‏.‏ وقد شرع المنزل إذا كان على طريق نافذ‏.‏ وشرعت الإبل إذا أمكنتها من الشريعة‏.‏ وشرعت الأديم إذا سلخته‏.‏ وقال يعقوب‏:‏ إذا شققت ما بين الرجلين، قال‏:‏ وسمعته من أم الحمارس البكرية‏.‏ وشرعت في هذا الأمر شروعا أي خضت‏.‏ ‏}‏أن أقيموا الدين‏}‏‏}‏أن‏}‏في محل رفع، على تقدير والذي وصى به نوحا أن أقيموا الدين،ويوقف على هذا الوجه على ‏}‏عيسى‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو نصب، أي شرع لكم إقامة الدين‏.‏ وقيل‏:‏ هو جر بدلا من الهاء في ‏}‏به‏}‏؛ كأنه قال‏:‏ به أقيموا الدين‏.‏ ولا يوقف على ‏}‏عيسى‏}‏على هذين الوجهين‏.‏ ويجوز أن تكون ‏}‏أن‏}‏مفسرة؛ مثل‏:‏ أن امشوا، فلا يكون لها محل من الإعراب‏.‏

قال القاضي أبو بكر بن العربي‏:‏ ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة الكبير المشهور‏:‏ ‏(‏ولكن ائتوا نوحا فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقولون له أنت أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وهذا صحيح لا إشكال فيه، كما أن آدم أول نبي بغير إشكال؛ لأن آدم لم يكن معه إلا نبوة، ولم تفرض له الفرائض ولا شرعت له المحارم، وإنما كان تنبيها على بعض الأمور واقتصارا على ضرورات المعاش، وأخذا بوظائف الحياة والبقاء؛ واستقر المدى إلى نوح فبعثه الله بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ووظف عليه الواجبات وأوضح له الآداب في الديانات، ولم يزل ذلك يتأكد بالرسل يتناصر بالأنبياء - صلوات الله عليهم - واحدا بعد واحد وشريعة إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل ملتنا على لسان أكرم الرسل نبينا محمد صلى صلى الله عليه وسلم؛ فكان المعنى أوصيناك يا محمد ونوحا دينا واحدا؛ يعني في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهى التوحيد والصلاة والزكاة والصيام والحج، والتقرب إلى الله بصالح الأعمال، والزلف إليه بما يرد القلب والجارحة إليه، والصدق والوفاء بالعهد، وأداء الأمانة وصلة الرحم، وتحريم الكفر والقتل والزنى والأذية للخلق كيفما تصرفت، والاعتداء على الحيوان كيفما دار، واقتحام الدناءات وما يعود بخرم المروآت؛ فهذا كله مشروع دينا واحدا وملة متحدة، لم تختلف على ألسنة الأنبياء وإن اختلفت أعدادهم؛ وذلك قوله تعالى‏}‏أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه‏}‏أي اجعلوه قائما؛ يريد دائما مستمرا محفوظا مستقرا من غير خلاف فيه ولا أضطراب؛ فمن الخلق من وفى بذلك ومنهم من نكث؛ ‏}‏فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏{‏الفتح‏:‏ 10‏]‏‏.‏ واختلفت الشرائع وراء هذا في معان حسبما أراده الله مما اقتضت المصلحة وأوجبت الحكمة وضعه في الأزمنة على الأمم‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ لم يبعث الله نبيا قط إلا وصاه بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة، فذلك دينه الذي شرع لهم؛ وقال الوالبي عن ابن عباس، وهو قول الكلبي‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يعني تحليل الحلال وتحريم الحرام‏.‏ وقال الحكم‏:‏ تحريم الأمهات والأخوات والبنات‏.‏ وما ذكره القاضي يجمع هذه الأقوال ويزيد عليها‏.‏ وخصى نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى بالذكر لأنهم أرباب الشرائع‏.‏

قوله تعالى‏}‏كبر على المشركين‏}‏‏}‏كبر على المشركين‏}‏أي عظم عليهم‏.‏ ‏}‏ما تدعوهم إليه‏}‏‏}‏ما تدعوهم إليه‏}‏من التوحيد ورفض الأوثان‏.‏ قال قتادة‏:‏ كبر على المشركين فاشتد عليهم شهادة أن لا إله إلا الله، وضاق بها إبليس وجنوده، فأبى الله عز وجل إلا أن ينصرها ويعليها ويظهرها عل من ناوأها‏.‏ ‏}‏الله يجتبي إليه من يشاء‏}‏‏}‏الله يجتبي إليه من يشاء‏}‏أي يختار‏.‏ والاجتباء الاختبار؛ أي يختار للتوحيد من يشاء‏.‏ ‏}‏ويهدي إليه من ينيب‏}‏ويهدي إليه من ينيب‏}‏أي يستخلص لدينه من رجع إليه‏.‏ ‏}‏وما تفرقوا‏}‏قال ابن عباس‏:‏ يعني قريشا‏.‏ ‏}‏إلا من بعد ما جاءهم العلم‏}‏محمد صلى الله عليه وسلم؛ وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي؛ دليله قوله تعالى في سورة فاطر‏}‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير‏{‏فاطر‏:‏ 42‏]‏ يريد نبيا‏.‏ وقال في سورة البقرة‏}‏فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به‏{‏البقرة‏:‏ 89‏]‏ على ما تقدم بيانه هناك‏.‏ وقيل‏:‏ أمم الأنبياء المتقدمين؛ فإنهم فيما بينهم اختلفوا لما طال بهم المدى، فأمن قوم وكفر قوم‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ يعني أهل الكتاب؛ دليله في سورة المنفكين‏}‏وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة‏{‏البينة‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فالمشركون قالوا‏:‏ لم خُص بالنبوة‏!‏ واليهود حسدوه لما بعث؛ وكذا النصارى‏.‏ ‏}‏بغيهم بينهم ‏}‏أي بغيا من بعضهم على بعض طلبا للرياسة، فليس تفرقهم لقصوره في البيان والحجج، ولكن للبغي والظلم والاشتغال بالدنيا‏.‏ ‏}‏ولولا كلمة سبقت من ربك‏}‏في تأخير العقاب عن هؤلاء‏.‏ ‏}‏إلى أجل مسمى‏}‏قيل‏:‏ القيامة؛ لقوله تعالى‏}‏بل الساعة موعدهم‏{‏القمر‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ إلى الأجل الذي قضي فيه بعذابهم‏.‏ ‏}‏لقضي بينهم‏}‏أي بين من آمن وبين من كفر بنزول العذاب‏.‏ ‏}‏وإن الذين أورثوا الكتاب‏}‏يريد اليهود والنصارى‏.‏ ‏}‏من بعدهم‏}‏أي من بعد المختلفين في الحق‏.‏ ‏}‏لقي شك منه مريب‏}‏من الذي أوصى به الأنبياء‏.‏ والكتاب هنا التوراة والإنجيل‏.‏ وقيل‏}‏إن الذين أورثوا الكتاب‏}‏قريش‏.‏ ‏}‏من بعدهم‏}‏من بعد اليهود النصارى‏.‏ ‏}‏لفي شك‏}‏من القرآن أو من محمد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معنى ‏}‏من بعدهم‏}‏من قبلهم؛ يعني من قبل مشركي مكة، وهم اليهود والنصارى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير‏}‏

قوله تعالى‏}‏فلذلك فادع واستقم كما أمرت‏}‏لما أجاز أن يكون الشك لليهود والنصارى، أو لقريش قيل له‏}‏فلذلك فادع‏}‏أي فتبينت شكهم فادع إلى الله؛ أي إلى ذلك الدين الذي شرعه الله للأنبياء ووصاهم به‏.‏ فاللام بمعنى إلى؛ كقوله تعالى‏}‏بأن ربك أوحى لها‏{‏الزلزلة‏:‏ 5‏]‏ أي إليها‏.‏ و‏}‏ذلك‏}‏بمعنى هذا‏.‏ وقد تقدم أول ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ والمعنى فلهذا القرآن فادع‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير؛ والمعنى كبر على المشركين ما تدعوهم إليه فلذلك فادع‏.‏ وقيل‏:‏ إن اللام على بابها؛ والمعنى‏:‏ فمن أجل ذلك الذي تقدم ذكره فادع واستقم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي إلى القرآن فادع الخلق‏.‏ ‏}‏واستقم‏}‏خطاب له عليه السلام‏.‏ قال قتادة‏:‏ أي استقم على أمر الله‏.‏ وقال سفيان‏:‏ أي استقم على القرآن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ استقم على تبليغ الرسالة‏.‏ ‏}‏ولا تتبع أهواءهم‏}‏أي لا تنظر إلى خلاف من خالفك‏.‏ ‏}‏وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم‏}‏أي أن أعدل؛ كقوله تعالى‏}‏وأمرت أن أسلم لرب العالمين‏{‏غافر‏:‏ 66‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ هي لام كي، أي لكي أعدل‏.‏ قال ابن عباس وأبو العالية‏:‏ لأسوي بينكم في الدين فأومن بكل كتاب وبكل رسول‏.‏ وقال غيرهما‏:‏ لأعدل في جميع الأحوال وقيل‏:‏ هذا العدل هو العدل في الأحكام‏.‏ وقيل في التبليغ‏.‏ ‏}‏الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم‏}‏قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ الخطاب لليهود؛ أي لنا ديننا ولكم دينكم‏.‏ قال‏:‏ نسخت بقوله‏}‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر‏{‏التوبة‏:‏ 29‏]‏ الآية‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ومعنى ‏}‏لاحجة بيننا وبينكم‏}‏لا خصومة بيننا وبينكم‏.‏ وقيل‏:‏ ليس بمنسوخ، لأن البراهين قد ظهرت، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدال‏.‏ قال النحاس‏:‏ ويجوز أن يكون معنى ‏}‏لاحجة بيننا وبينكم‏}‏على ذلك القول‏:‏ لم يؤمر أن يحتج عليكم يقاتلكم؛ ثم نسخ هذا‏.‏ كما أن قائلا لو قال من قبل أن تحول القبلة‏:‏ لا تصل إلى الكعبة، ثم‏.‏ حول الناس بعد؛ لجاز أن يقال نسخ ذلك‏.‏ ‏}‏الله يجمع بيننا‏}‏يريد يوم القيامة‏.‏ ‏}‏وإليه المصير‏}‏أي فهو يحكم بيننا إذا صرنا إليه، ويجازي كلا بما كان عليه‏.‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة، وقد سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن دعوته ودينه إلى دين قريش، على أن يعطيه الوليد نصف ماله ويزوجه شيبة بابنته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد‏}‏

قوله تعالى‏}‏والذين يحاجون في الله‏}‏رجع إلى المشركين‏.‏ ‏}‏من بعد ما استجيب له‏}‏قال مجاهد‏:‏ من بعد ما أسلم الناس‏.‏ قال‏:‏ وهؤلاء قد توهموا أن الجاهلية تعود‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الذين يحاجون في الله اليهود والنصارى، ومحاجتهم قولهم نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم؛ وكانوا يرون لأنفسهم الفضيلة بأنهم أهل الكتاب وأنهم أولاد الأنبياء‏.‏ وكان المشركون يقولون‏}‏أي الفريقين خير مقاما وأحسن نديا‏{‏مريم‏:‏ 73‏]‏ فقال الله تعالى‏}‏والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم‏}‏أي لا ثبات لها كالشيء الذي يزل عن موضعه‏.‏ والهاء في ‏}‏له‏}‏يجوز أن يكون لله عز وجل؛ أي من بعد ما وحدوا الله وشهدوا له بالوحدانية‏.‏ ويجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي من بعد ما استجيب محمد صلى الله عليه وسلم في دعوته من أهل بدر ونصر الله المؤمنين‏.‏ يقال‏:‏ دحضت حجته دحوضا بطلت‏.‏ وأدحضها الله‏.‏ والإدحاض‏:‏ الإزلاق‏.‏ ومكان دَحْضَ ودَحَض أيضا بالتحريك أي زلق‏.‏ ودحضت رجله تدحض دحضا زلقت‏.‏ ودحضت الشمس عن كبد السماء زالت‏.‏ ‏}‏وعليهم غضب‏}‏يريد في الدنيا‏.‏ ‏}‏ولهم عذاب شديد‏}‏يريد في الآخرة عذاب دائم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب‏}‏

قوله تعالى‏}‏الله الذي أنزل الكتاب‏}‏وما يريدك لعل الساعة قريب يعني القرآن وسائر الكتب المنزلة‏.‏ ‏}‏بالحق‏}‏أي بالصدق‏.‏ ‏}‏والميزان‏}‏أي العدل؛ قال ابن عباس وأكثر المفسرين‏.‏ والعدل يسمى ميزانا؛ لأن الميزان آله الإنصاف والعدل‏.‏ وقيل‏:‏ الميزان ما بين في الكتب مما يجب على الإنسان أن يعمل به‏.‏ وقال قتاده‏:‏ الميزان العدل فيما أمر به ونهي عنه‏.‏ وهذه الأقوال متقاربة المعنى‏.‏ وقيل‏:‏ هو الجزاء على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب‏.‏ وقيل‏:‏ إنه الميزان نفسه الذي يوزن به، أنزله من السماء وعلم العباد الوزن به؛ لئلا يكون بينهم تظالم وتباخس؛ قال الله تعالى‏}‏لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط‏{‏الحديد‏:‏ 25‏]‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هو الذي يوزن به‏.‏ ومعنى أنزل الميزان‏.‏ هو إلهامه للخلق أن يعملوه ويعملوا به‏.‏ وقيل‏:‏ الميزان محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينكم بكتاب الله‏.‏ ‏}‏وما يدريك لعل الساعة قريب‏}‏فلم يخبره بها‏.‏ يحضه على العمل بالكتاب والعدل والسوية، والعمل بالشرائع قبل أن يفاجئ اليوم الذي يكون فيه المحاسبة ووزن الأعمال، فيوفى لمن أوفى ويطفف لمن طفف‏.‏ فـ ‏}‏لعل الساعة قريب‏}‏أي منك وأنت لا تدري‏.‏ وقال‏}‏قريب‏}‏ولم يقل قريبة؛ لأن تأنيثها غير حقيقي لأنها كالوقت؛ قاله الزجاج‏.‏ والمعنى‏:‏ لعل البعث أو لعل مجيء الساعة قريب‏.‏ وقال الكسائي‏}‏قريب‏}‏نعت ينعت به المذكر والمؤنث والجمع بمعنى ولفظ واحد؛ قال الله تعالى‏}‏إن رحمة الله قريب من المحسنين‏{‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ قال الشاعر‏:‏

وكنا قريبا والديار بعيدة فلما وصلنا نصب أعينهم غبنا

 الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد‏}‏

قوله تعالى‏}‏يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها‏}‏يعني على طريق الاستهزاء، ظنا منهم أنها غير آتية، أو إيهاما للضعفة أنها لا تكون‏.‏ ‏}‏والذين آمنوا مشفقون منها‏}‏أي خائفون وجلون لاستقصارهم أنفسهم مع الجهد في الطاعة؛ كما قال‏}‏والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون‏{‏المؤمنون‏:‏ 60‏]‏‏.‏ ‏}‏ويعلمون أنها الحق‏}‏أي التي لا شك فيها‏.‏ ‏}‏ألا إن الذين يمارون في الساعة‏}‏أي يشكون ويخاصمون في قيام الساعة‏.‏ ‏}‏لفي ضلال بعيد‏}‏أي عن الحق وطريق الاعتبار؛ إذ لو تذكروا لعلموا أن الذي أنشأهم من تراب ثم من نطفة إلى أن بلغوا ما بلغوا، قادر على أن يبعثهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏الله لطيف بعباده يرزق من يشاء وهو القوي العزيز‏}‏

قوله تعالى‏}‏الله لطيف بعباده‏}‏قال ابن عباس‏:‏ حفي بهم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ بار بهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ رفيق بهم‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لطيف بالبر والفاجر؛ حيث لم يقتلهم جوعا بمعاصيهم‏.‏ وقال القرظي‏:‏ لطيف، بهم في العرض والمحاسبة‏.‏ قال‏:‏

غدا عند مولى الخلق للخلق موقف يسائلهم فيه الجليل ويلطف

وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين‏:‏ يلطف بهم في الرزق من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه جعل ورزقك من الطيبات‏.‏ والثاني‏:‏ أنه لم يدفعه إليك مرة واحدة فتبذوه‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ لطيف بهم في القرآن وتفصيله وتفسيره‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ لطيف بأوليائه حتى عرفوه، ولو لطف بأعدائه لما جحدوه‏.‏ وقال محمد بن علي الكتاني‏:‏ اللطيف بمن لجأ إليه من عباده إذا يئس من الخلق توكل ورجع إليه، فحينئذ يقبله ويقبل عليه‏.‏ وجاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تعالى يطلع على القبور الدوارس فيقول جل وعز امحت آثارهم واضمحلت صورهم وبقي عليهم العذاب وأنا اللطيف وأنا أرحم الراحمين خففوا عنهم العذاب فيخفف عنهم العذاب‏)‏‏.‏ قال أبو علي الثقفي رضي الله عنه‏:‏

أمر بأفناء القبور كأنني أخو فطنة والثواب فيه نحيف

ومن شق فاه الله قدر رزقه وربي بمن يلجأ إليه لطيف

وقيل‏:‏ اللطيف الذي ينشر من عباده المناقب ويستر عليهم المثالب؛ وعلى هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا من أظهر الجميل وستر القبيح‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يقبل القليل ويبذل الجزيل‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يجبر الكسير وييسر العسير‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي لا يخاف إلا عدله ولا يرجى إلا فضله‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يبذل لعبده النعمة فوق الهمة ويكفله الطاعة فوق الطاقة؛ قال تعالى‏}‏وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها‏{‏النحل‏:‏ 18‏]‏ ‏}‏وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة‏{‏لقمان‏:‏ 20‏]‏، وقال‏}‏وما جعل عليكم في الدين من حرج‏{‏الحج‏:‏78‏]‏، ‏}‏يريد الله أن يخفف عنكم‏{‏النساء‏:‏ 28‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يعين على الخدمة ويكثر المدحة‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي لا يعاجل من عصاه ولا يخيب من رجاه‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي لا يرد سائله يوئس آمله‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يعفو عمن يهفو‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يرحم من لا يرحم نفسه‏.‏ وقيل‏.‏ هو الذي أوقد في أسرار العارفين من المشاهدة سراجا، وجعل الصراط المستقيم لهم منهاجا، وأجزل لهم من سحائب بره ماء ثجاجا‏.‏ وقد مضى في ‏}‏الأنعام‏}‏قول أبي العالية والجنيد أيضا‏.‏ وقد ذكرنا جميع هذا في [1]‏(‏الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى‏)‏ عند اسمه اللطيف، والحمد لله‏.‏ ‏}‏يرزق من يشاء‏}‏ويحرم من يشاء‏.‏ وفي تفضيل قوم بالمال حكمة؛ ليحتاج البعض إلى البعض؛ كما قال‏}‏ليتخذ بعضهم بعضا سخريا‏{‏الزخرف‏:‏ 32‏]‏، فكان هذا لطفا بالعباد‏.‏ وأيضا ليمتحن الغني بالفقير والفقير بالغني؛ كما قال‏}‏وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون‏{‏الفرقان‏:‏ 20‏]‏ على ما تقدم بيانه‏.‏ ‏}‏وهو القوي العزيز‏}‏

 الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب‏}‏

قوله تعالى‏}‏من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه‏}‏الحرث العمل والكسب‏.‏ ومنه قول عبدالله بن عمر‏:‏ واحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا‏.‏ ومنه سمي الرجل حارثا‏.‏ والمعنى أي من طلب بما رزقناه حرثا لآخرته، فأدى حقوق الله وأنفق في إعزاز الدين؛ فإنما نعطيه ثواب ذلك للواحد عشرا إلى سبعمائة فأكثر‏.‏ ‏}‏ومن كان يريد حرث الدنيا‏}‏أي طلب بالمال الذي آتاه الله رياسة الدنيا والصل إلى المحظورات، فإنا لا نحرمه الرزق أصلا، ولكن لا حظ به في الآخرة من ماله؛ قال الله تعالى‏}‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا‏{‏الإسراء‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقيل‏}‏نزد له في حرثه‏}‏نوفقه للعبادة ونسهلها عليه‏.‏ وقيل‏:‏ حرث الآخرة الطاعة؛ أي من أطاع فله الثواب‏.‏ قيل‏}‏نزد له في حرثه‏}‏أي نعطه الدنيا مع الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ الآية في الغزو؛ أي من أراد بغزوه الآخرة أوتى الثواب، ومن أراد بغزوه الغنيمة أوتي منها‏.‏ قال القشيري‏:‏ والظاهر أن الآية في الكافر؛ يوسع له في الدنيا؛ أي لا ينبغي له أن يغتر بذ لك لأن الدنيا لا تبقى‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إن الله يعطي على نية الآخرة ما شاء من أمر الدنيا، ولا يعطي على نية الدنيا إلا الدنيا‏.‏ وقال أيضا‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏(‏من عمل لآخرته زدناه في عمله وأعطيناه من الدنيا ما كتبنا له ومن أثر دنياه على آخرته لم نجعل له نصيبا في الآخرة إلا النار ولم يصب من الدنيا إلا رزقا قد قسمناه له لا بد أن كان يؤتاه مع إيثار أو غير إيثار‏)‏‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ وقوله عز وجل‏}‏من كان يريد حرث الآخرة‏}‏من كال من الأبرار يريد بعمله الصالح ثواب الآخرة ‏}‏نزد له في حرثه‏}‏أي في حسناته‏.‏ ‏}‏ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب

‏{‏ومن كان يريد حرث الدنيا‏}‏أي من كان من الفجار يريد بعمله الحسن الدنيا ‏}‏نؤته منها‏}‏ثم نسخ ذلك في الإسراء‏}‏من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد‏{‏الإسراء‏.‏ 18‏]‏‏.‏ والصواب أن هذا ليس بنسخ؛ لأن هذا خبر الأشياء كلها بإرادة الله عز وجل‏.‏ ألا ترى أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت‏)‏‏.‏ وقد قال قتادة ما تقدم ذكره، وهو يبين لك أن لا نسخ‏.‏ وقد ذكرنا في ‏}‏هود‏}‏أن هذا من باب المطلق والمقيد، وأن النسخ لا يدخل في الأخبار‏.‏ والله المستعان‏.‏

 مسألة‏:‏

هذه الآية تبطل مذهب أبي حنيفة في قوله‏:‏إنه من توضأ تبردا أنه يجزيه عن فريضة الوضوء الموظف عليه؛ فإن فريضة الوضوء من حرث الآخرة والتبرد من حرث الدنيا، فلا يدخل أحدهما على الآخر، ولا تجزي نيته عنه بظاهر هذه الآية؛ قاله ابن العربي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ولولا كلمة الفصل لقضي بينهم وإن الظالمين لهم عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏}‏أم لهم شركاء‏}‏والميم صلة والهمزة للتقريع‏.‏ وهذا متصل بقوله‏}‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‏{‏الشورى‏:‏ 13‏]‏، وقوله تعالى‏}‏الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان‏{‏الشورى‏:‏ 17‏]‏ كانوا لا يؤمنون به، فهل لهم آلهة شرعوا لهم الشرك الذي لم يأذن به الله‏!‏ وإذا استحال هذا فالله لم يشرع الشرك، فمن أين يدينون به‏.‏ ‏}‏ولولا كلمة الفصل‏}‏القيامة حيث قال‏}‏بل الساعة موعدهم‏{‏القمر‏:‏ 46‏]‏‏.‏ ‏}‏لقضي بينهم‏}‏في الدنيا، فعاجل الظالم بالعقوبة وأثاب الطائع‏.‏ ‏}‏وإن الظالمين‏}‏أي المشركين‏.‏ ‏}‏لهم عذاب أليم‏}‏في الدنيا القتل والأسر والقهر، وفي الآخرة عذاب النار‏.‏ وقرأ ابن هرمز ‏}‏وأن‏}‏بفتح الهمزة على العطف ‏}‏ولولا كلمة‏}‏والفصل بين المعطوف عليه بجواب ‏}‏لولا‏}‏جائز‏.‏ ويجوز أن يكون موضع ‏}‏أن‏}‏رفعا على تقدير‏:‏ وجب أن الظالمين لهم عذاب أليم، فيكون منقطعا مما قبله كقراءة الكسر؛ فاعلمه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏ترى الظالمين مشفقين مما كسبوا وهو واقع بهم والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك هو الفضل الكبير‏}‏

قوله تعالى‏}‏ترى الظالمين مشفقين‏}‏أي خائفين ‏}‏مما كسبوا‏}‏أي من جزاء ما كسبوا‏.‏ والظالمون ها هنا الكافرون؛ بدليل التقسيم بين المؤمن والكافر‏.‏ ‏}‏وهو واقع بهم‏}‏أي نازل بهم‏.‏ ‏}‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنات‏}‏الروضة‏:‏ الموضع النزه الكثير الخضرة‏.‏ وقد مضى في ‏}‏الروم‏}‏‏.‏ ‏}‏لهم ما يشاؤون عند ربهم‏}‏أي من النعيم والثواب الجزيل‏.‏ ‏}‏ذلك هو الفضل الكبير‏}‏أي لا يوصف ولا تهتدي العقول إلى كنه صفته؛ لأن الحق إذا قال كبير فمن ذا الذي يقدر قدره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏)‏

‏{‏ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور‏}‏

قوله تعالى‏}‏ذلك الذي يبشر الله عباده الذين آمنوا‏}‏قرئ ‏}‏يبشر‏}‏من بشره، ‏}‏ويبشر‏}‏من أبشره، ‏}‏يبشر‏}‏من بشره، وفيه حذف؛ أي يبشر الله به عباده المؤمنين ليتعجلوا السرور ويزدادوا منه وجدا في الطاعة‏.‏

قوله تعالى‏}‏قل لا أسألكم عليه عليه أجرا‏}‏أي قل يا محمد لا أسألكم عل تبليغ الرسالة جعلا‏.‏ ‏}‏إلا المودة في القربى‏}‏قال الزجاج‏}‏إلا المودة‏}‏استثناء ليس من الأول؛ أي إلا أن تودوني لقرابتي فتحفظوني‏.‏ والخطاب لقريش خاصة؛ قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو مالك والشعبي وغيرهم‏.‏ قال الشعبي‏:‏ أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عنها؛ فكتب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوسط الناس في قريش، فليس بطن من بطونهم إلا وقد ولده؛ فقال الله له‏}‏قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى‏}‏إلا أن تودوني في قرابتي منكم؛ أي تراعوا ما بيني وبينكم فتصدقوني‏.‏ فـ ‏}‏القربى‏}‏ها هنا قرابة الرحم؛ كأنه قال‏:‏ اتبعوني للقرابة إن لم تتبعوني للنبوة‏.‏ قال عكرمة‏:‏ وكانت قريش تصل أرحامها فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعته؛ فقال‏:‏ ‏(‏صلوني كما كنتم تفعلون‏)‏‏.‏ فالمعنى على هذا‏:‏ قل لا أسألكم عليه أجرا لكن أذكركم قرابتي؛ على استئناء ليس من أول؛ ذكره النحاس‏.‏ وفي البخاري عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى‏}‏إلا المودة في القربى‏}‏فقال سعيد بن جبير‏:‏ قربى آل محمد؛ فقال ابن عباس‏:‏ عجت ‏!‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة، فقال‏:‏ إلا أن تصلوا ما بينكم من القرابة‏.‏ فهذا قول‏.‏ وقيل‏:‏ القربى قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي، كما أمر بإعظامهم ذوي القربى‏.‏ وهذا قول علي بن حسين وعمرو بن شعيب والسدي‏.‏ وفي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ لما أنزل الله عز وجل‏}‏قل لا أسالكم عيه أجرا إلا المودة في القربي‏}‏قالوا‏:‏ يا رسول الله، من هؤلاء الذين نودهم ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏علي وفاطمة وأبناؤهما‏)‏‏.‏ ويدل عليه أيضا ما روي عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ شكوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم حسد الناس لي‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذريتنا خلف أزواجنا‏)‏‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حرمت الجنة على من ظلم أهل وآذاني في عترتي ومن أصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبدالمطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة‏)‏‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ المعنى إلا أن يتوددوا إلى الله عز وجل ويتقربوا إليه بطاعته‏.‏ فـ ‏}‏القربى‏}‏على هذا بمعنى القربة‏.‏ يقال‏:‏ قربة وقربى بمعنى،؛ كالزلفة والزلفى‏.‏ وروى قزعة بن سويد عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قل لا أسألكم على ما آتيتكم به أجرا إلا أن توادوا وتقربوا إليه بالطاعة‏)‏‏.‏

وروى منصور وعوف عن الحسن ‏}‏قل لا أسالكم عليه أجرا إلا المودة في القربى‏}‏قال‏:‏ يتوددون إلى الله عز وجل ويتقربون منه بطاعته‏.‏ وقال قوم‏:‏ الآية منسوخة وإنما نزلت بمكة؛ وكان المشركون يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، وأمرهم الله بمودة نبيه صلى الله عليه وسلم وصلة رحمه، فلما هاجر آوته الأنصار ونصروه، وأراد الله أن يلحقه بإخوانه من الأنبياء حيث قالوا‏}‏وما أسئلكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين‏{‏الشعراء‏:‏ 109‏]‏ فأنزل الله تعالى‏}‏قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله‏{‏سبأ‏:‏ 47‏]‏ فنسخت بهذه الآية وبقوله‏}‏قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين‏{‏ص‏:‏ 86‏]‏، وقوله‏.‏ ‏}‏أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير‏{‏المؤمنون‏:‏ 72‏]‏، وقوله‏}‏أم تسألهم أجرا فهم من مغرم مثقلون‏{‏الطور‏:‏ 40‏]‏ قال الضحاك والحسين بن الفضل‏.‏ ورواه جويبر عن الضحاك عن ابن عباس‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وليس بالقوي، وكفى قبحا بقول من يقول‏:‏ إن التقرب إلى الله بطاعته ومودة نبيه صلى الله عليه وسلم وأهل بيته منسوخ؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من مات على حب آل محمد مات شهيدا‏.‏ ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوا في قبره الملائكة والرحمة‏.‏ ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه أيس اليوم من رحمة الله‏.‏ ومن مات على بغض آل محمد لم يرح رائحة الجنة‏.‏ ومن مات على بغض آل بيتي فلا نصيب له في شفاعتي‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وذكر هذا الخبر الزمخشري في تفسيره بأطول من هذا فقال‏:‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من مات على حب آل محمد مات شهيدا ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان‏.‏ ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك، الموت بالجنة ثم منكر ونكير‏.‏ ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها ألا ومن مات على حب آل محمد فتح له قبره بابان إلى الجنة‏.‏ ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة‏.‏ ألا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة‏.‏ ألا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله‏.‏ ألا ومن مات على بغض آل محمد مات كافرا‏.‏ ألا ومن مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة‏)‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومذهب عكرمة ليست بمنسوخة؛ قال‏:‏ كانوا يصلون أرحامهم فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم قطعوه فقال‏:‏ ‏(‏قل لا أسألكم عليه أجرا إلا أن تودوني وتحفظوني لقرابتي ولا تكذبوني‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو معنى قول ابن عباس في البخاري والشعبي عنه بعينه؛ وعليه لا نسخ‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقول الحسن حسن، ويدل على صحته الحديث المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثنا أحمد بن محمد الأزدي قال أخبرنا الربيع بن سليمان المرادي قال أخبرنا أسد بن موسى قال حدثنا قزعة - وهو ابن يزيه البصري - قال حدثنا عبدالله بن أبي نجيع عن مجاهد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا أسألكم على ما أنبئكم به من البينات والهدى أجرأ إلا أن توادوا الله عز وجل وأن تتقربوا إليه بطاعته‏)‏‏.‏ فهذا المبين عن الله عز وجل قد قال هذا، وكذا قالت الأنبياء صلى الله عليه وسلم قبله‏}‏إن أجري إلا على الله‏{‏سبأ‏:‏ 47‏]‏‏.‏

واختلفوا في سبب نزولها؛ فقال ابن عباس‏:‏ لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانت تنوبه نوائب وحقوق لا يسعها ما في يديه؛ فقالت الأنصار‏:‏ إن هذا الرجل هداكم الله به وهو ابن أخيكم، وتنوبه نوائب وحقوق لا يسعها ما في يديه فنجمع له؛ ففعلوا، ثم أتوه به فنزلت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نزلت حين تفاخرت الأنصار والمهاجرون، فقالت الأنصار نحن فعلنا، وفخرت المهاجرون بقرابتهم من رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ روى مقسم عن ابن عباس قال‏:‏ سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فخطب فقال للأنصار‏:‏ ‏(‏ألم تكونوا أذلاء فأعزكم الله بي‏.‏ ألم تكونوا ضلالا فهداكم الله بي‏.‏ ألم تكونوا خائفين فأمنكم الله بي ألا تردون علي‏)‏ ‏؟‏ فقالوا‏:‏ به نجيبك‏؟‏ قال‏.‏ ‏(‏تقولون ألم يطردك قومك فآويناك‏.‏ ألم يكذبك قومك فصدقناك‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ فعدد عليهم‏.‏ قال فجثوا على ركبهم فقالوا‏:‏ أنفسنا وأموالنا لك؛ فنزلت‏}‏قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى‏}‏وقال قتادة‏:‏ قال المشركون لعل محمد فيما يتعاطاه يطلب أجرا؛ فنزلت هذه الآية؛ ليحثهم على مودته ومودة أقربائه‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهذا أشبه بالآية، لأن السورة مكية‏.‏

قوله تعالى‏}‏ومن يقترف حسنة‏}‏أي يكتسب‏.‏ وأصل القرف الكسب، يقال‏:‏ فلان يقرف لعياله، أي يكسب‏.‏ والاقتراف الاكتساب؛ وهو مأخوذ من قولهم رجل قرفة، إذا كان محتالا‏.‏ وقد مضى في ‏}‏الأنعام‏}‏القول فيه‏.‏ وقال ابن عباس‏}‏ومن يقترف حسنة‏}‏قال المودة لآل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏نزد له فيها حسنا‏}‏أي نضاعف له الحسنة بعشر فصاعدا‏.‏ ‏}‏إن الله غفور شكور‏}‏قال قتادة‏}‏غفور‏}‏للذنوب ‏}‏شكور‏}‏للحسنات‏.‏ وقال السدي‏}‏غفور‏}‏لذنوب آل محمد عليه السلام، ‏}‏شكور‏}‏لحسناتهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 24 ‏)‏

‏{‏أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور‏}‏

قوله تعالى‏}‏أم يقولون افترى على الله كذبا‏}‏الميم صلة، والتقدير أيقولون افترى‏.‏ واتصل الكلام بما قبل؛ لأن الله تعالى لما قال‏}‏وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب‏{‏الشورى‏:‏ 15‏]‏، وقال‏}‏الله الذي أنزل الكتاب بالحق‏{‏الشورى‏:‏ 17‏]‏ قال إتماما للبيان‏}‏أم يقولون افترى على الله كذبا‏}‏يعني كفار قريش قالوا‏:‏ إن محمدا اختلق الكذب على الله‏.‏ ‏}‏فإن يشأ الله‏}‏شرط وجوابه ‏}‏يختم على قلبك‏}‏قال قتادة‏:‏ يطبع على قلبك فينسيك القرآن؛ فأخبرهم الله أنه لو افترى عليه لفعل بمحمد ما أخبرهم به في هذه الآية‏.‏ وقال مجاهد ومقاتل‏}‏إن يشاء الله‏}‏يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يدخل قلبك مشقة من قولهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إن يشأ يزل تمييزك‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذبا لطبع على قلبك؛ قال ابن عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ فإن يشأ الله يختم على قلوب الكفار وعلى ألسنتهم وعاجلهم بالعقاب‏.‏ فالخطاب له والمراد الكفار؛ ذكره القشيري‏.‏ ثم ابتدأ فقال‏}‏ويمح الله الباطل‏}‏قال ابن الأنباري‏}‏يختم على قلبك‏}‏تام‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ فيه تقديم وتأخير؛ مجازه‏:‏ والله يمحو الباطل؛ فحذف منه الواو في المصحف، وهو في موضع رفع‏.‏ كما حذفت من قوله‏}‏سندع الزبانية‏}‏، ‏[‏العلق‏:‏ 18‏]‏، ‏}‏ويدع الإنسان‏{‏الإسراء‏:‏ 1 1‏]‏ ولأنه عطف على قوله‏}‏يختم على قلبك‏}‏‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ قوله‏}‏أم يقولون افترى على الله كذبا‏}‏تمام؛ وقوله‏}‏ويمح الله الباطل‏}‏احتجاج على من أنكر ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي لوكان ما أتى به باطلا لمحاه كما جرت به عادته في المفترين‏.‏ ‏}‏ويحق الحق‏}‏أي الإسلام فيثبته ‏}‏بكلماته إنه عليم بذات الصدور‏}‏أي بما أنزل من القرآن‏.‏ ‏}‏إنه عليم بذات الصدور‏}‏عام، أي بما في قلوب العباد‏.‏ وقيل خاص‏.‏ والمعنى أنك لو حدثت نفسك أن تفتري على الله كذبا لعلمه وطبع على قلبك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون‏}‏

قوله تعالى‏}‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده‏}‏قال ابن عباس‏:‏ لما نزل قوله تعالى ‏}‏قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى‏}‏قال قوم في نفوسهم‏:‏ ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده؛ فأخبر جبريل النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم قد اتهموه فأنزل‏}‏أم يقولون افترى على الله كدبا‏}‏الآية؛ فقال القوم‏:‏ يا رسول الله، فإنا نشهد أنك صادق ونتوب‏.‏ فنزلت‏}‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي عن أوليائه وأهل طاعته‏.‏ والآية عامة‏.‏ وقد مضى الكلام في معنى التوبة وأحكامها؛ ومضى هذا اللفظ في ‏}‏التوبة‏}‏‏.‏ ‏}‏ويعفو عن السيئات‏}‏أي عن الشرك قبل الإسلام‏.‏ ‏}‏ويعلم ما تفعلون‏}‏أي من الخير والشر‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي وحفص وخلف بالتاء على الخطاب، وهى قراءة ابن مسعود وأصحابه‏.‏ الباقون بالياء على الخبر، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لأنه بين خبرين‏:‏ الأول ‏}‏وهو الذي يقبل التوبة عن عبادة‏}‏والثاني ‏}‏ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد‏}‏

قوله تعالى‏}‏الذين‏}‏في موضع نصب؛ أي ويستجيب الله الذين آمنوا، أي يقبل عبادة من أخلص له بقلبه وأطاع ببدنه‏.‏ وقيل‏:‏ يعطيهم مسألتهم إذا دعوه‏.‏ وقيل‏:‏ ويجيب دعاء المؤمنين بعضمهم لبعض؛ يقال‏:‏ أجاب واستجاب بمعنى، وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏}‏ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏يشفعهم في إخوانهم‏.‏ ‏}‏ويزيد من فضله‏}‏قال‏:‏ يشفعهم في إخوان إخوانهم‏.‏ وقال المبرد‏:‏ معنى ‏}‏يستجيب الذين آمنوا‏}‏وليستدع الذين آمنوا الإجابة؛ هكذا حقيقة معنى استفعل‏.‏ فـ ‏}‏الذين‏}‏في موضع رفع‏.‏ ‏}‏والكافرون لهم عذاب شديد‏}‏‏.‏