فصل: الآية رقم ‏(‏ 101 ‏:‏ 102 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏94‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ليبلونكم الله‏}‏ أي ليختبرنكم، والابتلاء الاختبار‏.‏ وكان الصيد أحد معايش العرب العاربة، وشائعا عند الجميع منهم، مستعملا جدا، فابتلاهم الله فيه مع الإحرام والحرم، كما ابتلى بني إسرائيل في ألا يعتدوا في السبت‏.‏ وقيل‏:‏ إنها نزلت عام الحديبية؛ أحرم بعض الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحرم بعضهم، فكان إذا عرض صيد اختلف فيه أحوالهم وأفعالهم، واشتبهت أحكامه عليهم، فأنزل الله هذه الآية بيانا لأحكام أحوالهم وأفعالهم، ومحظورات حجهم وعمرتهم‏.‏

اختلف العلماء من المخاطب بهذه الآية على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنهم المحلون؛ قاله مالك‏.‏ الثاني‏:‏ أنهم المحرمون قال ابن عباس؛ وتعلق بقوله تعالى‏{‏ليبلونكم‏}‏ فإن تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا لا يلزم؛ فإن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد، وما شرع له من وصفه في كيفية الاصطياد‏.‏ والصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس مُحلِهم ومُحرِمهم؛ لقوله تعالى‏{‏ليبلونكم الله‏}‏ أي‏:‏ ليكلفنكم، والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة، وتباين في الضعف والشدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏بشيء من الصيد‏}‏ يريد ببعض الصيد، فمن للتبعيض، وهو صيد البر خاصة؛ ولم يعم الصيد كله لأن للبحر صيدا، قال الطبري وغيره‏.‏ وأراد بالصيد المصيد؛ لقوله‏{‏تناله أيديكم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏تناله أيديكم ورماحكم‏}‏ بيان لحكم صغار الصيد وكباره‏.‏ وقرأ ابن وثاب والنخعي‏{‏يناله‏}‏ بالياء منقوطة من تحت‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر، والرماح تنال كبار الصيد‏.‏ وقال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم‏}‏ وكل شيء يناله الإنسان بيده أو برمحه أو بشيء من سلاحه فقتله فهو صيد كما قال الله تعالى‏.‏

خص الله تعالى الأيدي بالذكر لأنها عظم التصرف في الاصطياد؛ وفيها تدخل الجوارح والحبالات، وما عمل باليد من فخاخ وشباك؛ وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد، وفيها يدخل السهم ونحوه؛ وقد مضى القول فيما يصاد به من الجوارح والسهام في أول السورة بما فيه الكفاية والحمد لله‏.‏

ما وقع في الفخ والحبالة فلربها، فإن ألجأ الصيد إليها أحد ولولاها لم يتهيأ له أخذه فربها فيه شريكه‏.‏ وما وقع في الجبح المنصوب في الجبل من ذباب النحل فهو كالحبالة والفخ، وحمام الأبرجة ترد على أربابها إن استطيع ذلك، وكذلك نحل الجباح؛ وقد روي عن مالك‏.‏ وقال بعض أصحابه‏:‏ إنه ليس على من حصل الحمام أو النحل عنده أن يرد‏.‏ ولو ألجأت الكلاب صيدا فدخل في بيت أحد أو داره فهو للصائد مرسل الكلاب دون صاحب البيت، ولو دخل في البيت من غير اضطرار الكلاب له فهو لرب البيت‏.‏

احتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية؛ لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعدُ شيئا، وهو قول أبي حنيفة‏.‏

كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه، لقوله تعالى‏{‏تناله أيديكم ورماحكم‏}‏ يعني أهل الإيمان، لقوله تعالى في صدر الآية‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ فخرج عنهم أهل الكتاب‏.‏ وخالفه جمهور أهل العلم، لقوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏المائدة‏:‏ 94‏]‏ وهو عندهم مثل ذبائحهم‏.‏ وأجاب علماؤنا بأن الآية إنما تضمنت أكل طعامهم، والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم الطعام، ولا يتناوله مطلق لفظه‏.‏

قلت‏:‏ هذا بناء على أن الصيد ليس مشروعا عندهم فلا يكون من طعامهم، فيسقط عنا هذا الإلزام؛ فأما إن كان مشروعا عندهم في دينهم فيلزمنا أكله لتناول اللفظ له، فإنه من طعامهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏95‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد‏}‏ الآية‏.‏ وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه ‏}‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏لا تقتلوا الصيد‏}‏ القتل هو كل فعل يميت الروح، وهو أنواع‏:‏ منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه؛ فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مقيتا للروح‏.‏ من قتل صيدا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ عليه جزاء ما أكل؛ يعني قيمته، وخالفه صاحباه فقالا‏:‏ لا شيء عليه سوى الاستغفار؛ لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى؛ ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار‏.‏ وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه؛ لأن قتله كان من محظورات الإحرام، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود - محظور إحرامه - موجبا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى‏.‏

لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله؛ وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ ذبح المحرم للصيد ذكاة؛ وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم، مضاف إلى محله وهو الأنعام؛ فأفاد مقصوده من حل الأكل؛ أصله ذبح الحلال‏.‏ قلنا‏:‏ قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد؛ إذ الأهلية لا تستفاد عقلا، وإنما يفيدها الشرع؛ وذلك بإذنه في الذبح، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح، والمحرم منهي عن ذبح الصيد؛ لقوله‏{‏لا تقتلوا الصيد‏}‏ فقد انتفت الأهلية بالنهي‏.‏ وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله، وإنما يأكل منه غيره عندكم؛ فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه؛ فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله‏.‏

قوله تعالى‏{‏الصيد‏}‏ مصدر عومل معاملة الأسماء، فأوقع على الحيوان المصيد؛ ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما‏}‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ فأباح صيد البحر إباحة مطلقة؛ على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى‏.‏

اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه؛ فقال مالك‏:‏ كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم، وإن قتله فداه‏.‏ قال‏:‏ وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم، فإن قتلها فداها؛ وهي مثل فراخ الغربان‏.‏ ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب؛ مثل الأسد والذئب والنمر والفهد؛ وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة‏.‏ قال إسماعيل‏:‏ إنما ذلك لقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم‏]‏ الحديث؛ فسماهن فساقا؛ ووصفهن بأفعالهن؛ لأن الفاسق فاعل للفسق، والصغار لا فعل لهن، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقر؛ فلا تدخل في هذا النعت‏.‏ قال القاضي إسماعيل‏:‏ الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس‏.‏ قال‏:‏ ومن ذلك الحية والعقرب؛ لأنه يخاف منهما، وكذلك الحدأة والغراب؛ لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس‏.‏ قال ابن بكير‏:‏ إنما أذن في قتل العقرب لأنها ذات حمة؛ وفي الفأرة لقرضها السقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر‏.‏ وفي الغراب لوقوعه على الظهر ونقبه عن لحومها؛ وقد روي عن مالك أنه قال‏:‏ لا يقتل الغراب ولا الحدأة إلا أن يضرا‏.‏ قال القاضي إسماعيل‏:‏ واختلف في الزنبور؛ فشبهه بعضهم بالحية والعقرب، قال‏:‏ ولولا أن الزنبور لا يبتدئ لكان أغلظ على الناس من الحية والعقرب، ولكنه ليس في طبعه من العداء ما في الحية والعقرب، وإنما يحمي الزنبور إذا أوذي‏.‏ قال‏:‏ فإذا عرض الزنبور لأحد فدفعه عن نفسه لم يكن عليه شيء في قتله؛ وثبت عن عمر بن الخطاب إباحة قتل الزنبور‏.‏ وقال مالك‏:‏ يطعم قاتله شيئا؛ وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه‏.‏ وقال أصحاب الرأي‏:‏ لا شيء على قاتل هذه كلها‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب، العقور والذئب خاصة، سواء ابتدأه أو ابتدأهما؛ وإن قتل غيره من السباع فداه‏.‏ قال‏:‏ فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه؛ قال‏:‏ ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحدأة، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر؛ وبه قال الأوزاعي والثوري والحسن؛ واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دواب بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها؛ فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها‏.‏

قلت‏:‏ العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله‏!‏ وقال زفر بن الهذيل‏:‏ لا يقتل إلا الذئب وحده، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه؛ لأنه عجماء فكان فعله هدرا؛ وهذا رد للحديث ومخالفة له‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله؛ وصغار ذلك وكباره سواء، إلا السّمْع وهو المتولد بين الذئب والضبع، قال‏:‏ وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء؛ لأن هذا ليس من الصيد، لقوله تعالى‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما‏}‏المائدة‏:‏ 96‏]‏ فدل أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا؛ حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع؛ فإن قيل‏:‏ فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل‏؟‏ قيل له‏:‏ ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه؛ لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته، فكأنه أماط بعض شعره؛ فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي‏.‏ وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي؛ قاله أبو عمر‏.‏

روى الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح‏:‏ الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور‏)‏‏.‏ اللفظ للبخاري؛ وبه قال أحمد وإسحاق‏.‏ وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا‏]‏‏.‏ وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا‏:‏ لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة؛ لأنه تقييد مطلق‏.‏ وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏ويرمي الغراب ولا يقتله‏]‏‏.‏ وبه قال مجاهد‏.‏ وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر، والله أعلم‏.‏ وعند أبي داود والترمذي‏:‏ والسبع العادي؛ وهذا تنبيه على العلة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنتم حرم‏}‏ عام في النوعين من الرجال والنساء، الأحرار والعبيد؛ يقال‏:‏ رجل حرام وامرأة حرام، وجمع ذلك حُرُم؛ كقولهم‏:‏ قذال وقذل‏.‏ وأحرم الرجل دخل في الحرم؛ كما يقال‏:‏ أسهل دخل في السهل‏.‏ وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالاشتراك لا بالعموم‏.‏ يقال‏:‏ رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحرم أو في الحرم، أو تلبس بالإحرام؛ إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف؛ قاله ابن العربي‏.‏

حرم المكان حرمان، حرم المدينة وحرم مكة وزاد الشافعي الطائف، فلا يجوز عنده قطع شجره، ولا صيد صيده، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حرم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما‏.‏ وقال ابن أبي ذئب‏:‏ عليه الجزاء‏.‏ وقال سعد‏:‏ جزاؤه أخذ سلبه، وروي عن الشافعي‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ صيد المدينة غير مُحرّم، وكذلك قطع شجرها‏.‏ واحتج له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏[‏من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه‏]‏‏.‏ وأخذ سعد سلب من فعل ذلك‏.‏ قال‏:‏ وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة، فدل ذلك على أنه منسوخ‏.‏ واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس - ما فعل النفير؛ فلم ينكر صيده وإمساكه - وهذا كله لا حجة فيه‏.‏ أما الحديث الأول فليس بالقوي، ولو صح لم يكن في نسخ أحد السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة، فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا‏.‏ وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم‏.‏ وكذلك حديث عائشة؛ أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض، فلم يترمرم كراهية أن يؤذيه‏.‏ ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال‏:‏ لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏ما بين لابتيها حرام‏]‏ فقول أبي هريرة ما ذعرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة‏.‏ وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس - وهو طائر - من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة؛ دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد‏.‏

ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح‏:‏ ‏[‏اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها‏]‏ ولأنه حرم منع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة‏.‏ قال القاضي عبدالوهاب‏:‏ وهذا قول أقيس عندي على أصولنا، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام‏.‏ ومن حجة مالك والشافعي في ألا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب - في المشهور من قول الشافعي - عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح‏:‏ ‏[‏المدينة حرم ما بين عَيْر إلى ثَوْر فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا‏]‏ فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة‏.‏ وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به؛ لما روي عنه في الصحيح أنه ركب إلى قصره بالعقيق، فوجد عبدا يقطع شجرا - أو يخبطه - فسلبه، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ من غلامهم؛ فقال‏:‏ معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى أن يرد عليهم؛ فقوله‏:‏ ‏(‏نفلنيه‏)‏ ظاهره الخصوص‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن قتله منكم متعمدا‏}‏ ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي؛ والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام‏.‏ والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه‏.‏ واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال‏:‏ إنما التكفير في العمد، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا‏.‏ الثاني‏:‏ أن قوله‏{‏متعمدا‏}‏ خرج على الغالب، فألحق به النادر كأصول الشريعة‏.‏ الثالث‏:‏ أنه لا شيء على المخطئ والناسي؛ وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير، وبه قال طاوس وأبو ثور، وهو قول داود‏.‏ وتعلق أحمد بأن قال‏:‏ لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر، دل عل أن غيره بخلافه‏.‏ وزاد بأن قال‏:‏ الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل‏.‏ الرابع‏:‏ أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان؛ قاله ابن عباس، وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم وإبراهيم، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم‏.‏ قال الزهري‏:‏ وجب الجزاء في العمد بالقرآن، وفي الخطأ والنسيان بالسنة؛ قال ابن العربي‏:‏ إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي، وما أحسنها أسوة‏.‏ الخامس‏:‏ أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه - وهو قول مجاهد - لقوله تعالى بعد ذلك‏{‏ومن عاد فينتقم الله منه‏}‏‏.‏ قال‏:‏ ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة، قال‏:‏ فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه؛ قال مجاهد‏:‏ فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة، أو أحدث فيها؛ قال‏:‏ ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه‏.‏ ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان؛ وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدا، ويستغفر الله، وحجه تام؛ وبه قال ابن زيد‏.‏ ودليلنا على داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال‏:‏ ‏[‏هي صيد‏]‏ وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا، ولم يقل عمدا ولا خطأ‏.‏ وقال ابن بكير من علمائنا‏:‏ قول سبحانه‏{‏متعمدا‏}‏ لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وإنما أراد ‏}‏متعمدا‏}‏ ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدا كفارة، وأن الصيد فيه كفارة، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ‏.‏ والله أعلم‏.‏

فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم؛ لقول الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرما فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له‏.‏ وروي عن ابن عباس قال‏:‏ لا يحكم عليه مرتين في الإسلام، ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه، ويقال له‏:‏ ينتقم الله منك؛ لقوله تعالى‏{‏ومن عاد فينتقم الله منه‏}‏‏.‏ وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح‏.‏ ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الإحرام، وتوجُهُ الخطاب عليه في دين الإسلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ فيه أربعة قراءات؛ ‏}‏فجزاء مثل‏}‏ برفع جزاء وتنوينه، و‏}‏مثل‏}‏ على الصفة، والخبر مضمر، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم‏.‏ وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه‏.‏ و‏}‏جزاء‏}‏ بالرفع غير منون و‏}‏مثل‏}‏ بالإضافة أي فعليه جزاء مثل ما قتل، و‏}‏مثل‏}‏ مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك‏.‏ ونظير هذا قوله تعالى‏{‏أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات‏}‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏ التقدير كمن هو في الظلمات؛ وقوله‏{‏ليس كمثله شيء‏}‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ أي ليس كهو شيء‏.‏ وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل؛ إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول‏.‏ وهو قول الشافعي على ما يأتي‏.‏ وقوله‏{‏من النعم‏}‏ صفة لجزاء على القراءتين جميعا‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏من النعم‏}‏ بإسكان العين وهي لغة‏.‏ وقرأ عبدالرحمن ‏}‏فجزاء‏}‏ بالرفع والتنوين ‏}‏مثل‏}‏ النصب؛ قال أبو الفتح‏{‏مثل‏}‏ منصوبة بنفس الجزاء؛ والمعنى أن يجزى مثل ما قتل‏.‏ وقرأ ابن مسعود والأعمش ‏}‏فجزاؤه مثل‏}‏ بإظهار ‏(‏هاء‏)‏؛ ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل‏.‏

الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى‏.‏ وفي ‏(‏المدونة‏)‏‏:‏ من اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار، قال‏:‏ لا جزاء عليه‏.‏ قال وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه‏.‏ وقيل‏:‏ عليه من الجزاء بقدر ما نقصه‏.‏ ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه‏.‏ ولو زمن الصيد ولم يلحق الصيد، أو تركه محوفا عليه فعليه جزاؤه كاملا‏.‏

ما يُجزَى من الصيد شيئان‏:‏ دواب وطير؛ فيُجزَى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة، ففي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة، وفي الظبي شاة؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وأقل ما يجزي عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية؛ وذلك كالجذع من الضأن والثني مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام‏.‏ وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة؛ فإن في الحمامة منه شاة اتباعا للسلف في ذلك‏.‏ والدبسي والفواخت والقمري وذوات الأطواق كله حمام‏.‏ وحكى ابن عبدالحكم عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة؛ قال‏:‏ وكذلك حمام الحرم؛ قال‏:‏ وفي حمام الحل حكومة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخلقة، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله؛ فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعاما ويطعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من تمر‏.‏ وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوم المثل كما في المتلفات يقوم المثل، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء؛ فإن المثل هو الأصل في الوجوب؛ وهذا بين وعليه تخرج قراءة الإضافة ‏(‏فجزاء مثل‏)‏‏.‏ احتج أبو حنيفة فقال‏:‏ لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرا، في النعامة بدنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عدلين يحكمان به؛ لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الارتياء والنظر؛ وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه، ويضطرب وجه النظر عليه‏.‏ ودليلنا عليه قول الله تعالى‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ الآية‏.‏ فالمثل يقتضي بظاهرة المثل الخلقي الصوري دون المعنى، ثم قال‏{‏من النعم‏}‏ فبين جنس المثل؛ ثم قال‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم‏}‏ وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم؛ لأنه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه؛ ثم قال‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏ والذي يتصور فيه الهدي مثل المقتول من النعم، فأما القيمة فلا يتصور أن تكون هديا، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية؛ فصح ما ذكرناه‏.‏ والحمد لله‏.‏ وقولهم‏:‏ لو كان الشبه معتبرا لما أوقفه على عدلين؛ فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص‏.‏

من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة‏.‏ قال مالك‏:‏ وفي صغار الصيد مثل ما في كباره؛ وهو قول عطاء‏.‏ ولا يفدى عند مالك شيء بعناق ولا جفرة؛ قال مالك‏:‏ وذلك مثل الدية؛ الصغير والكبير فيها سواء‏.‏ وفي الضب عنده واليربوع قيمتهما طعاما‏.‏ ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد، وفي اعتبار الجذع والثني، ويقول بقول عمر‏:‏ في الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة؛ رواه مالك موقوفا‏.‏ وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة‏]‏ قال‏:‏ والجفرة التي قد ارتعت‏.‏ وفي طريق آخر قلت لأبي الزبير‏:‏ وما الجفرة‏؟‏ قال‏:‏ التي قد فطمت ورعت‏.‏ خرجه الدارقطني‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ في النعامة بدنة، وفي فرخها فصيل، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سخله عجل؛ لأن الله تعالى حكم بالمثلية في الخلقة، والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفات‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا؛ قالوا‏:‏ ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسيرا لكان المثل على صفته لتتحقق المثلية، فلا يلزم المتلف فوق ما أتلف‏.‏ ودليلنا قوله تعالى‏{‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ ولم يفصل بين صغير وكبير‏.‏ وقوله‏{‏هديا‏}‏ يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحق الإطلاق‏.‏ وذلك يقتضي الهدي التام‏.‏ والله أعلم‏.‏

في بيض النعامة عشر ثمن البدنة عند مالك‏.‏ وفي بيض الحمامة المكية عنده عشر ثمن الشاة‏.‏ قال ابن القاسم‏:‏ وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر؛ فان استهل فعليه الجزاء كاملا كجزاء الكبير من ذلك الطير‏.‏ قال ابن المواز‏:‏ بحكومة عدلين‏.‏ وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة‏.‏ روى عكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بقدر ثمنه؛ خرجه الدارقطني‏.‏ وروي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين‏]‏‏.‏

وأما ما لا مثل له كالعصافير والفيلة فقيمة لحمه أو عدله من الطعام، دون ما يراد له من الأغراض؛ لأن المراعى فيما له مثل وجوب مثله، فإن عدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره‏.‏ ولأن الناس قائلان - أي على مذهبين - معتبر للقيمة في جميع الصيد؛ ومقتصر بها على ما لا مثل له من النعم؛ فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له‏.‏ وأما الفيل فقيل‏:‏ فيه بدنة من الهجان العظام التي لها سنامان؛ وهي بيض خراسانية، فإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعاما، فيكون عليه ذلك، والعمل فيه أن يجعل الفيل في مركب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عدله من الطعام‏.‏ وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر‏.‏

قوله تعالى‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم‏}‏ روى مالك عن عبدالملك بن قريب عن محمد بن سيرين أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال‏:‏ إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثغرة ثنية، فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فماذا ترى‏؟‏ فقال عمر لرجل إلى جنبه‏:‏ تعال حتى أحكم أنا وأنت؛ فحكما عليه بعنز؛ فولى الرجل وهو يقول‏:‏ هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلا يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله، هل تقرأ سورة ‏}‏المائدة‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ لا؛ قال‏:‏ هل تعرف الرجل الذي حكم معي‏؟‏ فقال‏:‏ لا، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ لو أخبرتني أنك تقرأ سورة ‏}‏المائدة‏}‏ لأوجعتك ضربا، ثم قال‏:‏ إن الله سبحانه يقول في كتابه‏{‏يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة‏}‏ وهذا عبدالرحمن بن عوف‏.‏

إذا اتفق الحَكَمان لزم الحكم؛ وبه قال الحسن والشافعي‏.‏ وإن اختلفا نظر في غيرهما‏.‏ وقال محمد بن المواز‏:‏ لا يأخذ بأرفع من قوليهما؛ لأنه عمل بغير تحكيم‏.‏ وكذلك لا ينتقل عن المثل الخلقي إذا حكما به إلى الطعام؛ لأنه أمر قد لزم؛ قال ابن شعبان‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ إن أمرهما أن يحكما بالجزاء من المثل ففعلا، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز‏.‏ وقال ابن وهب رحمه الله في ‏(‏العتبية‏)‏‏:‏ من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد، كما خيره الله في أن يخرج ‏}‏هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما‏}‏ فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي؛ وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير في أن يطعمه، أو يصوم مكان كل مد يوما؛ وكذلك قال مالك في ‏(‏المدونة‏)‏‏.‏

ويستأنف الحكم في كل ما مضت فيه حكومة أو لم تمض، ولو اجتزأ بحكومة الصحابة رضي الله عنهم فيما حكموا به من جزاء الصيد كان حسنا‏.‏ وقد روي عن مالك أنه ما عدا حمام مكة وحمار الوحش والظبي والنعامة لا بد فيه من الحكومة، ويجتزأ في هذه الأربعة بحكومة من مضى من السلف رضي الله عنهم‏.‏

لا يجوز أن يكون الجاني أحد الحكمين، وبه قال أبو حنيفة‏.‏ وقال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ يكون الجاني أحد الحكمين؛ وهذا تسامح منه؛ فإن ظاهر الآية يقتضي جانيا وحكمين فحذف بعض العدد إسقاط للظاهر، وإفساد للمعنى؛ لأن حكم المرء لنفسه لا يجوز، ولو كان ذلك جائزا لاستغنى بنفسه عن غيره؛ لأنه حكم بينه وبين الله تعالى فزيادة ثان إليه دليل على استئناف الحكم برجلين‏.‏

إذا اشترك جماعة محرمون في قتل صيد فقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ على كل واحد جزاء كامل‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ عليهم كلهم كفارة واحدة لقضاء عمر وعبدالرحمن‏.‏ وروى الدارقطني أن موالي لابن الزبير أحرموا إذ مرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم فأصابوها، فوقع في أنفسهم، فأتوا ابن عمر فذكروا له فقال‏:‏ عليكم كلكم كبش؛ قالوا‏:‏ أو على كل واحد منا كبش؛ قال‏:‏ إنكم لمعزز بكم، عليكم كلكم كبش‏.‏ قال اللغويون‏:‏ لمعزز بكم أي لمشدد عليكم‏.‏ وروي عن ابن عباس في قوم أصابوا ضبعا قال‏:‏ عليهم كبش يتخارجونه بينهم‏.‏ ودليلنا قول الله سبحانه‏{‏ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏ وهذا خطاب لكل قاتل‏.‏ وكل واحد من القاتلين للصيد قاتل نفسا على التمام والكمال، بدليل قتل الجماعة بالواحد، ولولا ذلك ما وجب عليهم القصاص، وقد قلنا بوجوبه إجماعا منا ومنهم؛ فثبت ما قلناه‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ إذا قتل جماعة صيدا في الحرم وكلهم محلون، عليهم جزاء واحد، بخلاف ما لو قتله المحرمون في الحل والحرم؛ فإن ذلك لا يختلف‏.‏ وقال مالك‏:‏ على كل واحد منهم جزاء كامل، بناء على أن الرجل يكون محرما بدخوله الحرم، كما يكون محرما بتلبيته بالإحرام، وكل واحد من الفعلين قد أكسبه صفة تعلق بها نهي، فهو هاتك لها في الحالتين‏.‏

وحجة أبي حنيفة ما ذكره القاضي أبو زيد الدبوسي قال‏:‏ السر فيه أن الجناية في الإحرام على العبادة، وقد ارتكب كل واحد منهم محظور إحرامه‏.‏ وإذا قتل المحلون صيدا في الحرم فإنما أتلفوا دابة محرمة بمنزلة ما لو أتلف جماعة دابة؛ فإن كل واحد منهم قاتل دابة، ويشتركون في القيمة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأبو حنيفة أقوى منا، وهذا الدليل يستهين به علماؤنا وهو عسير الانفصال علينا‏.‏

قوله تعالى‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏ المعنى أنهما إذا حكما بالهدي فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإشعار والتقليد، ويرسل من الحل إلى مكة، وينحر ويتصدق به فيها؛ لقوله‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏ ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها، إذ هي في المسجد، وإنما أراد الحرم ولا خلاف في هذا‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يحتاج الهدي إلى الحل بناء على أن الصغير من الهدي يجب في الصغير من الصيد، فإنه يبتاع في الحرم ويهدى فيه‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو كفارة طعام مساكين‏}‏ الكفارة إنما هي عن الصيد لا عن الهدي‏.‏ قال ابن وهب قال مالك‏:‏ أحسن ما سمعت في الذي يقتل الصيد فيحكم عليه فيه، أنه يقوم الصيد الذي أصاب، فينظركم ثمنه من الطعام، فيطعم لكل مسكين مدا، أو يصوم مكان كل مد يوما‏.‏ وقال ابن القاسم عنه‏:‏ إن قوم الصيد دراهم ثم قومها طعاما أجزأه؛ والصواب الأول‏.‏ وقال عبدالله بن عبدالحكم مثله قال عنه‏:‏ وهو في هذه الثلاثة بالخيار؛ أي ذلك فعل أجزأه موسرا كان أو معسرا‏.‏ وبه قال عطاء وجمهور الفقهاء؛ لأن ‏}‏أو‏}‏ للتخيير قال مالك‏:‏ كل شيء في كتاب الله في الكفارات كذا أو كذا فصاحبه مخير في ذلك أي ذلك أحب أن يفعل فعل‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إذا قتل المحرم ظبيا أو نحوه فعليه شاة تذبح بمكة؛ فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين، فإن لم يجد فعليه صيام ثلاثة أيام؛ وإن قتل إيلا أو نحوه فعليه بقرة، فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينا، فإن لم يجد صام عشرين يوما؛ وإن قتل نعامة أو حمارا فعليه بدنة، فإن لم يجد فإطعام ثلاثين مسكينا، فإن لم يجد فصيام ثلاثين يوما‏.‏ والطعام مد مد لشبعهم‏.‏ وقال إبراهيم النخعي وحماد بن سلمة، قالوا‏:‏ والمعنى ‏}‏أو كفار طعام‏}‏ إن لم يجد الهدي‏.‏ وحكى الطبري عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه بجزائه، فإن وجد جزاءه ذبحه وتصدق به، وإن لم يكن عنده جزاؤه قوم جزاؤه بدراهم، ثم قومت الدراهم حنطة، ثم صام مكان كل نصف صاع يوما؛ وقال‏:‏ إنما أريد بالطعام تبيين أمر الصيام، فمن لم يجد طعاما، فإنه يجد جزاءه‏.‏ وأسنده أيضا عن السدي‏.‏ ويعترض هذا القول بظاهر الآية فإنه ينافره‏.‏

اختلف العلماء في الوقت الذي يعتبر فيه المتلف؛ فقال قوم‏:‏ يوم الإتلاف‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يوم القضاء‏.‏ وقال آخرون‏:‏ يلزم المتلف أكثر القيمتين، من يوم الإتلاف إلى يوم الحكم‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ واختلف علماؤنا كاختلافهم، والصحيح أنه تلزمه القيمة يوم الإتلاف؛ والدليل على ذلك أن الوجود كان حقا للمتلف عليه، فإذا أعدمه المتلف لزمه إيجاده بمثله، وذلك في وقت العدم‏.‏

أما الهدي فلا خلاف أنه لا بد له من مكة؛ لقوله تعالى‏{‏هديا بالغ الكعبة‏}‏‏.‏ وأما الإطعام فاختلف فيه قول مالك هل يكون بمكة أو بموضع الإصابة؛ وإلى كونه بمكة ذهب الشافعي‏.‏ وقال عطاء‏:‏ ما كان من دم أو طعام فبمكة ويصوم حيث يشاء؛ وهو قول مالك في الصوم، ولا خلاف فيه‏.‏ قال القاضي أبو محمد عبدالوهاب‏:‏ ولا يجوز إخراج شيء من جزاء الصيد بغير الحرم إلا الصيام‏.‏ وقال حماد وأبو حنيفة‏:‏ يكفر بموضع الإصابة مطلقا‏.‏ وقال الطبري‏:‏ يكفر حيث شاء مطلقا، فأما قول أبي حنيفة فلا وجه له في النظر، ولا أثر فيه‏.‏ وأما من قال يصوم حيث شاء؛ فلأن الصوم عبادة تختص بالصائم فتكون في كل موضع كصيام سائر الكفارات وغيرها‏.‏ وأما وجه القول بأن الطعام يكون بمكة؛ فلأنه بدل عن الهدي أو نظير له، والهدي حق لمساكين مكة، فلذلك يكون بمكة بدله أو نظيره‏.‏ وأما من قاله إنه يكون بكل موضع؛ فاعتبار بكل طعام وفدية، فإنها تجوز بكل موضع‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو عدل ذلك صياما‏}‏ العدل والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل؛ قاله الكسائي‏.‏ وقاله الفراء‏:‏ عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه، ويؤثر هذا القول عن الكسائي، تقول‏:‏ عندي عدل دراهمك من الدراهم، وعندي عدل دراهمك من الثياب؛ والصحيح عن الكسائي أنهما لغتان، وهو قول البصريين‏.‏ ولا يصح أن يماثل الصيام الطعام في وجه أقرب من العدد قال مالك‏:‏ يصوم عن كل مد يوما، وإن زاد على شهرين أو ثلاثة؛ وبه قاله الشافعي‏.‏ وقال يحيى بن عمر من أصحابنا‏:‏ إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد، ثم يقال‏:‏ كم من الطعام يشبع هذا العدد؛ فإن شاء أخرج ذلك الطعام، وإن شاء صام عدد أمداده‏.‏ وهذا قول حسن احتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة؛ فبهذا النظر يكثر الإطعام‏.‏ ومن أهله العلم من لا يرى أن يتجاوز في صيام الجزاء شهرين؛ قالوا‏:‏ لأنها أعلى الكفارات‏.‏ واختاره ابن العربي‏.‏ وقاله أبو حنيفة رحمه الله‏:‏ يصوم عن كل مدين يوما اعتبارا بفدية الأذى‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليذوق وبال أمره‏}‏ الذوق هنا مستعار كقوله تعالى‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏الدخان‏:‏ 49‏]‏‏.‏ وقال‏{‏فأذاقها الله لباس الجوع والخوف‏}‏النحل‏:‏ 112‏]‏‏.‏ وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان، وهي في هذا كله مستعارة ومنه الحديث ‏(‏ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا‏)‏‏.‏ الحديث والوبال سوء العاقبة‏.‏ والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بغد أكله‏.‏ وطعام وبيله إذا كان ثقيلا؛ ومنه قوله‏:‏

عقيلة شيخ كالوبيل يلندد

وعبر بأمره عن جميع حاله‏.‏

قوله تعالى‏{‏عفا الله عما سلف‏}‏ بمعنى في جاهليتكم من قتلكم الصيد؛ قاله عطاء بن أبي رباح وجماعة معه‏.‏ وقيل‏:‏ قبل نزول الكفارة‏.‏ ‏}‏ومن عاد‏}‏ يعني للمنهي ‏}‏فينتقم الله منه‏}‏ أي بالكفارة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏فينتقم الله منه‏}‏ يعني في الآخرة إن كان مستحلا؛ ويكفر في ظاهر الحكم‏.‏ وقال شريح وسعيد بن جبير‏:‏ يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه، وقيله له‏:‏ اذهب ينتقم الله منك، أي ذنبك أعظم من أن يكفر، كما أن اليمين الفاجرة لا كفارة لها عند أكثر أهله العلم لعظم إثمها‏.‏ والمتورعون يتقون النقمة بالتكفير‏.‏ وقد روي عن ابن عباس‏:‏ يملأ ظهره سوطا حتى يموت وروي عن زيد بن أبي المعلى‏:‏ أن رجلا أصاب صيدا وهو محرم فتجوز عنه، ثم عاد فأنزل الله عز وجل نارا من السماء فأحرقته؛ وهذه عبرة للأمة وكف للمعتدين عن المعصية‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله عزيز ذو انتقام‏}‏ ‏}‏عزيز‏}‏ أي منيع في ملكه، ولا يمتنع عليه ما يريده‏.‏ ‏}‏ذو انتقام‏}‏ ممن عصاه إن شاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏96‏)‏

‏{‏أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما واتقوا الله الذي إليه تحشرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أحل لكم صيد البحر‏}‏ هذا حكم بتحليل صيد البحر، وهو كل ما صيد من حيتانه والصيد هنا يراد به المصيد، وأضيف إلى البحر لما كان منه بسبب‏.‏ وقد مضى القول في البحر في ‏}‏البقرة‏}‏ والحمد لله‏.‏ و‏}‏متاعا‏}‏ نصب على المصدر أي متعتم به متاعا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وطعامه‏}‏ الطعام لفظ مشترك يطلق على كل ما يطعم، ويطلق على مطعوم خاص كالماء وحده، والبر وحده، والتمر وحده، واللبن وحده، وقد يطلق على النوم كما تقدم؛ وهو هنا عبارة عما قذف به البحر وطفا عليه؛ أسند الدارقطني عن ابن عباس في قول الله عز وجل‏{‏أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة‏}‏ الآية صيده ما صيد وطعامه ما لفظ البحر‏.‏ وروي عن أبي هريرة مثله؛ وهو قوله جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين‏.‏ وروي عن ابن عباس طعامه وهو في ذلك المعنى‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ طعامه ما ملح منه وبقي؛ وقاله معه جماعة‏.‏ وقاله قوم‏:‏ طعامه ملحه الذي ينعقد من مائه وسائر ما فيه من نبات وغيره‏.‏

قال أبو حنيفة‏:‏ لا يؤكل السمك الطافي ويؤكل ما سواه من السمك، ولا يؤكل شيء من حيوان البحر إلا السمك وهو قول الثوري في رواية أبي إسحاق الفزاري عنه‏.‏ وكره الحسن أكل الطافي من السمك‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كرهه، وروي عنه أيضا أنه كره أكل الجري وروي عنه أكل ذلك كله وهو أصح؛ ذكره عبدالرزاق عن الثوري عن جعفر بن محمد عن علي قال‏:‏ الجراد والحيتان ذكي؛ فعلي مختلف عنه في أكل الطافي من السمك ولم يختلف عن جابر أنه كرهه، وهو قول طاوس ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، واحتجوا بعموم قوله تعالى‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وبما رواه أبو داود والدارقطني عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقاه وما وجدتموه ميتا أو طافيا فوق الماء فلا تأكلوه‏]‏‏.‏ قاله الدارقطني‏:‏ تفرد به عبدالعزيز بن عبيدالله عن وهب بن كيسان عن جابر، وعبدالعزيز ضعيف لا يحتج به‏.‏ وروى سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه؛ قاله الدارقطني‏:‏ لم يسنده عن الثوري غير أبي أحمد الزبيري وخالفه وكيع والعدنيان وعبدالرزاق ومؤمل وأبو عاصم وغيرهم؛ رووه عن الثوري موقوفا وهو الصواب‏.‏ وكذلك رواه أيوب السختياني، وعبيدالله بن عمر وابن جريح، وزهير وحماد بن سلمة وغيرهم عن أبي الزبير موقوفا قاله أبو داود‏:‏ وقد أسند هذا الحديث من وجه ضعيف عن ابن أبي ذئب عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قاله الدارقطني‏:‏ وروي عن إسماعيل بن أمية وابن أبي ذئب عن أبي الزبير مرفوعا، ولا يصح رفعه، رفعه يحيى بن سليم عن إسماعيل بن أمية ووقفه غيره‏.‏ وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والأوزاعي والثوري في رواية الأشجعي‏:‏ يؤكل كل ما في البحر من السمك والدواب، وسائر ما في البحر من الحيوان، وسواء اصطيد أو وجد ميتا، واحتج مالك ومن تابعه بقوله عليه الصلاة والسلام في البحر‏:‏ ‏[‏هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏]‏ وأصح ما في هذا الباب من جهة الإسناد حديث جابر في الحوت الذي يقال له‏:‏ ‏[‏العنبر‏]‏ وهو من أثبت الأحاديث خرجه الصحيحان‏.‏ وفيه‏:‏ فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقال‏:‏ ‏[‏هو رزق أخرجه الله لكم فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا‏]‏ فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله؛ لفظ مسلم وأسند الدارقطني عن ابن عباس أنه قال أشهد على أبي بكر أنه قال‏:‏ السمكة الطافية حلال لمن أراد أكلها‏.‏ وأسند عنه أيضا أنه قال‏:‏ أشهد على أبي بكر أنه أكل السمك الطافي على الماء‏.‏ وأسند عن أبي أيوب أنه ركب البحر في رهط من أصحابه، فوجدوا سمكة طافية على الماء فسألوه عنها فقال‏:‏ أطيبة هي لم تتغير‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم قال‏:‏ فكلوها وارفعوا نصيبي منها؛ وكان صائما‏.‏ وأسند عن جبلة بن عطية أن أصحاب أبي طلحة أصابوا سمكة طافية فسألوا عنها أبا طلحة فقال‏:‏ اهدوها إلي‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ الحوت ذكي والجراد ذكي كله؛ رواه عنه الدارقطني فهذه الآثار ترد قول من كره ذلك وتخصص عموم الآية، وهو حجة للجمهور؛ إلا أن مالكا كان يكره خنزير الماء من جهة اسمه ولم يحرمه وقال‏:‏ أنتم تقولون خنزيرا‏!‏ وقاله الشافعي‏:‏ لا بأس بخنزير الماء وقال الليث‏:‏ ليس بميتة البحر بأس‏.‏ قال‏:‏ وكذلك كلب الماء وفرس الماء‏.‏ قال‏:‏ ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء‏.‏

اختلف العلماء في الحيوان الذي يكون في البر والبحر هل يحل صيده للمحرم أم لا‏؟‏ فقال مالك وأبو مجلز وعطاء وسعيد بن جبير وغيرهم‏:‏ كل ما يعيش في البر وله فيه حياة فهو صيد البر، إن قتله المحرم وداه، وزاد أبو مجلز في ذلك الضفادع والسلاحف والسرطان‏.‏ الضفادع وأجناسها حرام عند أبي حنيفة ولا خلاف عن الشافعي في أنه لا يجوز أكل الضفدع، واختلف قوله فيما له شبه في البر مما لا يؤكل كالخنزير والكلب وغير ذلك‏.‏ والصحيح أكل ذلك كله؛ لأنه نص على الخنزير في جواز أكله، وهو له شبه في البر مما لا يؤكل‏.‏ ولا يؤكل عنده التمساح ولا القرش والدلفين، وكل ما له ناب لنهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ومن هذه أنواع لا زوال لها من الماء فهي لا محالة من صيد البحر، وعلى هذا خرج جواب مالك في الضفادع في ‏}‏المدونة‏}‏ فإنه قال‏:‏ الضفادع من صيد البحر‏.‏ وروي عن عطاء بن أبي رباح خلاف ما ذكرناه، وهو أنه يراعي أكثر عيش الحيوان؛ سئل عن ابن الماء أصيد بر هو أم صيد بحر‏؟‏ فقال‏:‏ حيث يكون اكثر فهو منه، وحيث يفرخ فهو منه؛ وهو قول أبي حنيفة‏.‏ والصواب في ابن الماء أنه صيد بر يرعى ويأكل الحب‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ الصحيح في الحيوان الذي يكون في البر والبحر منعه؛ لأنه تعارض فيه دليلان، دليله تحليل ودليل تحريم، فيغلب دليله التحريم احتياطا‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وللسيارة‏}‏ فيه قولان‏:‏ أحدهما للمقيم والمسافر كما جاء في حديث أبي عبيدة أنهم أكلوه وهم مسافرون وأكل النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم، فبين الله تعالى أنه حلال لمن أقام، كما أحله لمن سافر‏.‏ الثاني‏:‏ أن السيارة هم الذين يركبونه، كما جاء في حديث مالك والنسائي‏:‏ أن رجلا سأله النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر‏؟‏ فقاله النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏]‏ قال ابن العربي قاله علماؤنا‏:‏ فلو قال له النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏نعم‏]‏ لما جاز الوضوء به إلا عند خوف العطش؛ لأن الجواب مرتبط بالسؤال، فكان يكون محالا عليه، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ تأسيس القاعدة، وبيان الشرع فقاله‏:‏ ‏(‏هو الطهور ماؤه الحل ميتته‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وكان يكون الجواب مقصورا عليهم لا يتعدى لغيرهم، لولا ما تقرر من حكم الشريعة أن حكمه على الواحد حكمه على الجميع، إلا ما نص بالتخصيص عليه، كقوله لأبي بردة في العناق‏:‏ ‏[‏ضح بها ولن تجزئ عن أحد غيرك‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما‏}‏ التحريم ليس صفة للأعيان، إنما يتعلق بالأفعال فمعنى قوله‏{‏وحرم عليكم صيد البر‏}‏ أي فعله الصيد، وهو المنع من الاصطياد، أو يكون الصيد بمعنى المصيد، على معنى تسمية المفعول بالفعل كما تقدم، وهو الأظهر لإجماع العلماء على أنه لا يجوز للمحرم قبول صيد وهب له، ولا يجوز له شراؤه ولا اصطياده ولا استحداث ملكه بوجه من الوجوه، ولا خلاف بين علماء المسلمين في ذلك؛ لعموم قوله تعالى‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما‏}‏ ولحديث الصعب بن جثامة على ما يأتي‏.‏

اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد فقاله مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق، وهو الصحيح عن عثمان بن عفان‏:‏ إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له، ولا من أجله، لما رواه الترمذي والنسائي والدارقطني عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يُصد لكم‏]‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا أحسن حديث في الباب؛ وقال النسائي‏:‏ عمرو بن أبي عمرو ليس بالقوي في الحديث، وإن كان قد روى عنه مالك‏.‏ فإن أكل من صيد صيد من أجله فداه‏.‏ وبه قاله الحسن بن صالح والأوزاعي، واختلف قول مالك فيما صيد لمحرم بعينه‏.‏ والمشهور من مذهبه عند أصحابه أن المحرم لا يأكل مما صيد لمحرم معين أو غير معين ولم يأخذ بقوله عثمان لأصحابه حين أتي بلحم صيد وهو محرم‏:‏ كلوا فلستم مثلي لأنه صيد من أجلي وبه قالت طائفة من أهله المدينة، وروي عن مالك‏.‏ وقاله أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أو لم يصد لظاهر قوله تعالى‏{‏لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم‏}‏ فحرم صيده وقتله على المحرمين، دون ما صاده غيرهم‏.‏ واحتجوا بحديث البهزي واسمه زيد بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم في حمار الوحش العقير أنه أمر أبا بكر فقسمه في الرفاق، من حديث مالك وغيره‏.‏ وبحديث أبي قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه ‏[‏إنما هي طعمة أطعمكموها الله‏]‏‏.‏ وهو قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان في رواية عنه، وأبي هريرة والزبير بن العوام ومجاهد وعطاء وسعيد بن جبير‏.‏ وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال، سواء صيد من أجله أو لم يصد؛ لعموم قوله تعالى‏{‏وحرم عليكم صيد البر مادمتم حرما‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هي مبهمة وبه قال طاوس وجابر بن زيد أبو الشعثاء وروي ذلك عن الثوري وبه قال إسحاق‏.‏ واحتجوا بحديث الصعب بن جثامة الليثي، أنه أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا، وهو بالأبواء أو بودان فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال‏:‏ فلما أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي قال‏:‏ ‏[‏إنا لم نرده عليك إلا إنا حُرُم‏]‏ خرجه الأئمة واللفظ لمالك‏.‏ قاله أبو عمر‏:‏ وروى ابن عباس من حديث سعيد بن جبير ومقسم وعطاء وطاوس عنه، أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش؛ وقال سعيد بن جبير في حديثه‏:‏ عجز حمار وحش فرده يقطر دما كأنه صيد في ذلك الوقت؛ وقال مقسم في حديثه رجل حمار وحش‏.‏ وقاله عطاء في حديثه‏:‏ أهدى له عضد صيد فلم يقبله وقال‏:‏ ‏[‏إنا حرم‏]‏ وقال طاوس في حديثه‏:‏ عضدا من لحم صيد؛ حدث به إسماعيل عن علي بن المديني، عن يحيى بن سعيد عن ابن جريج، عن الحسن بن مسلم، عن طاوس، عن ابن عباس، إلا أن منهم من يجعله عن ابن عباس عن زيد بن أرقم‏.‏ قال إسماعيل‏:‏ سمعت سليمان بن حرب يتأول هذا الحديث على أنه صيد من أجله النبي صلى الله عليه وسلم، ولولا ذلك لكان أكله جائزا؛ قال سليمان‏:‏ ومما يدل على أنه صيد من أجله النبي صلى الله عليه وسلم قولهم في الحديث‏:‏ فرده يقطر دما كأنه في ذلك الوقت‏.‏ قال إسماعيل‏:‏ إنما تأول سليمان هذا الحديث لأنه يحتاج إلى تأويل؛ فأما رواية مالك فلا تحتاج إلى التأويل؛ لأن المحرم لا يجوز له أن يمسك صيدا حيا ولا يذكيه؛ قال إسماعيل‏:‏ وعلى تأويل سليمان بن حرب تكون الأحاديث المرفوعة كلها غير مختلفة فيها إن شاء الله تعالى‏.‏

إذا أحرم وبيده صيد أو في بيته عند أهله فقال مالك‏:‏ إن كان في يده فعليه إرساله، وإن كان في أهله فليس عليه إرساله‏.‏ وهو قول أبي حنيفة وأحمد بن حنبل‏.‏ وقال الشافعي في أحد قوليه‏:‏ سواء كان في يده أو في بيته ليس عليه أن يرسله‏.‏ وبه قال أبو ثور، وروي عن مجاهد وعبدالله بن الحارث مثله وروي عن مالك‏.‏ وقال ابن أبي ليلى والثوري والشافعي في القول الآخر‏:‏ عليه أن يرسله، سواء كان في بيته أو في يده فإن لم يرسله ضمن‏.‏ وجه القول بإرساله قوله تعالى‏{‏وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما‏}‏ وهذا عام في الملك والتصرف كله‏.‏ ووجه القول بإمساكه‏:‏ أنه معنى لا يمنع من ابتداء الإحرام فلا يمنع من استدامة ملكه، أصله النكاح‏.‏

فإن صاده الحلال في الحل فأدخله الحرم جاز له التصرف فيه بكل نوع من ذبحه، وأكل لحمه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجوز‏.‏ ودليلنا أنه معنى يفعل في الصيد فجاز في الحرم للحلال، كالإمساك والشراء ولا خلاف فيها‏.‏

إذا دل المحرم حِلاً على صيد فقتله الحلال اختلف فيه، فقال مالك والشافعي وأبو ثور‏:‏ لا شيء عليه، وهو قول ابن الماجشون‏.‏ وقال الكوفيون وأحمد وإسحاق وجماعة من الصحابة والتابعين‏:‏ عليه الجزاء؛ لأن المحرم التزم بإحرامه ترك التعرض؛ فيضمن بالدلالة كالمودع إذا دل سارقا على سرقة‏.‏

واختلفوا في المحرم إذا دل محرما آخر؛ فذهب الكوفيون وأشهب من أصحابنا إلى أن على كله واحد منهما جزاء‏.‏ وقال مالك والشافعي وأبو ثور‏:‏ الجزاء على المحرم القاتل؛ لقوله تعالى‏{‏ومن قتله منكم متعمدا‏}‏ فعلق وجوب الجزاء بالقتل، فدل على انتفائه بغيره؛ ولأنه دال فلم يلزمه بدلالته غرم كما لو دل الحلال في الحرم على صيد في الحرم‏.‏ وتعلق الكوفيون وأشهب بقوله عليه السلام في حديث أبي قتادة‏:‏ ‏[‏هل أشرتم أو أعنتم‏]‏ ‏؟‏ وهذا يدل على وجوب الجزاء‏.‏ والأول أصح‏.‏ والله أعلم‏.‏

إذا كانت شجرة نابتة في الحل وفرعها في الحرم فأصيب ما عليه من الصيد ففيه الجزاء؛ لأنه أخذ في الحرم وإن كان أصلها في الحرم وفرعها في الحل فاختلف علماؤنا فيما أخذ عليه على قولين‏:‏ الجزاء نظرا إلى الأصل، ونفيه نظرا إلى الفرع‏.‏

قوله تعالى‏{‏واتقوا الله الذي إليه تحشرون‏}‏ تشديد وتنبيه عقب هذا التحليل والتحريم، ثم ذكر بأمر الحشر والقيامة مبالغة في التحذير‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏97‏)‏

‏{‏جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏جعل الله الكعبة‏}‏ جعل هنا بمعنى خلق وقد تقدم‏.‏ وقد سميت الكعبة كعبة لأنها مربعة وأكثر بيوت العرب مدورة وقيل‏:‏ إنما سميت كعبة لنتوئها وبروزها، فكل ناتئ بارز كعب، مستديرا كان أو غير مستدير‏.‏ ومنه كعب القدم وكعوب القناة‏.‏ وكعب ثدي المرأة إذا ظهر في صدرها‏.‏ والبيت سمي بذلك لأنها ذات سقف وجدار، وهي حقيقة البيتية وإن لم يكن بها ساكن‏.‏ وسماه سبحانه حراما بتحريمه إياه؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس‏]‏ وقد تقدم أكثر هذا مستوفى والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏قياما للناس‏}‏ أي صلاحا ومعاشا، لأمن الناس بها؛ وعلى هذا يكون ‏}‏قياما‏}‏ بمعنى يقومون بها‏.‏ وقيل‏{‏قياما‏}‏ أي يقومون بشرائعها‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم ‏}‏قيما‏}‏ وهما من ذوات الواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها‏.‏ وقد قيل‏{‏قوام‏}‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ والحكمة في جعل الله تعالى هذه الأشياء قياما للناس، أن الله سبحانه خلق الخلق على سليقة الآدمية من التحاسد والتنافس والتقاطع والتدابر، والسلب والغارة والقتل والثأر، فلم يكن بد في الحكمة الإلهية، والمشيئة الأولية من كاف يدوم معه الحال ووازع يحمد معه المآل‏.‏ قال الله تعالى‏{‏إني جاعل في الأرض خليفة‏}‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ فأمرهم الله سبحانه بالخلافة، وجعله أمورهم إلى واحد يزعهم عن التنازع، ويحملهم على التآلف من التقاطع، ويرد الظالم عن المظلوم، ويقرر كل يد على ما تستولي عليه‏.‏ روى ابن القاسم قال حدثنا مالك أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يقول‏:‏ ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن؛ ذكره أبو عمر رحمه الله‏.‏ وجور السلطان عاما واحدا أقل إذاية من كون الناس فوضى لحظة واحدة؛ فأنشأ الله سبحانه الخليفة لهذه الفائدة، لتجري على رأيه الأمور، ويكف الله به عادية الجمهور؛ فعظم الله سبحانه في قلوبهم البيت الحرام، وأوقع في نفوسهم هيبته، وعظم بينهم حرمته، فكان من لجأ إليه معصوما به، وكان من اضطهد محميا بالكون فيه‏.‏ قال الله تعالى‏{‏أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم‏}‏العنكبوت‏:‏67‏]‏‏.‏ قال العلماء‏:‏ فلما كان موضعا مخصوصا لا يدركه كل مظلوم، ولا يناله كل خائف جعله الله الشهر الحرام ملجأ آخر

الشهر الحرام هو اسم جنس، والمراد الأشهر الثلاثة بإجماع من العرب، فقرر الله في قلوبهم حرمتها، فكانوا لا يروعون فيها سربا أي نفسا ولا يطلبون فيها دما ولا يتوقعون فيها ثأرا، حتى كان الرجل يلقى قاتل أبيه وابنه وأخيه فلا يؤذيه‏.‏ واقتطعوا فيها ثلث الزمان‏.‏ ووصلوا منها ثلاثة متوالية، فسحة وراحة ومجالا للسياحة في الأمن والاستراحة، وجعلوا منها واحدا منفردا في نصف العام دركا للاحترام، وهو شهر رجب الأصم ويسمى مضر، وإنما قيل له‏:‏ رجب الأصم؛ لأنه كان لا يسمع فيه صوت الحديد، ويسمى منصل الأسنة؛ لأنهم كانوا ينزعون فيه الأسنة من الرماح، وهو شهر قريش، وله يقول عوف بن الأحوص‏:‏

وشهر بني أمية والهدايا إذا سيقت مضرجها الدماء

وسماه النبي صلى الله عليه وسلم شهر الله؛ أي شهر آل الله، وكان يقال لأهله الحرم‏:‏ آل الله‏.‏ ويحتمل أن يريد شهر الله؛ لأن الله متنه وشدده إذ كان كثير من العرب لا يراه‏.‏ وسيأتي في ‏}‏براءة‏}‏ أسماء الشهور إن شاء الله‏.‏ ثم يسر لهم الإلهام، وشرع على ألسنة الرسل الكرام الهدي والقلائد، فكانوا إذا أخذوا بعيرا أشعروه دما، أو علقوا عليه نعلا، أو فعله ذلك الرجل بنفسه من التقليد على ما تقدم بيانه أول السورة لم يروعه أحد حيث لقيه، وكان الفيصل بينه وبين من طلبه أو ظلمه حتى جاء الله بالإسلام وبين الحق بمحمد عليه السلام، فانتظم الدين في سلكه، وعاد الحق إلى نصابه، فأسندت الإمامة إليه، وانبنى وجوبها على الخلق عليه وهو قوله سبحانه‏{‏وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض‏}‏النور‏:‏ 55‏]‏ الآية‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ أحكام الإمامة فلا معنى لإعادتها‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك لتعلموا‏}‏ ‏}‏ذلك‏}‏ إشارة إلى جعل الله هذه الأمور قياما؛ والمعنى فعل الله ذلك لتعلموا أن الله يعلم تفاصيل أمور السماوات والأرض، ويعلم مصالحكم أيها الناس قبل وبعد، فانظروا لطفه بالعباد على حال كفرهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏98‏)‏

‏{‏اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏اعلموا أن الله شديد العقاب‏}‏ تخويف ‏}‏وأن الله غفور رحيم‏}‏ ترجية، وقد تقدم هذا المعنى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏99‏)‏

‏{‏ما على الرسول إلا البلاغ والله يعلم ما تبدون وما تكتمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما على الرسول إلا البلاغ‏}‏ أي ليس له الهداية والتوفيق ولا الثواب، وإنما عليه البلاغ وفي هذا رد على القدرية كما تقدم‏.‏ وأصله البلاغ البلوغ، وهو الوصول‏.‏ بلغ يبلغ بلوغا، وأبلغه إبلاغا، وتبلغ تبلغا، وبالغه مبالغة، وبلغه تبليغا، ومنه البلاغة، لأنها إيصال المعنى إلى النفس في حسن صورة من اللفظ وتبالغ الرجل إذا تعاطى البلاغة وليس ببليغ، وفي هذا بلاغ أي كفاية؛ لأنه يبلغ مقدار الحاجة‏.‏ ‏}‏والله يعلم ما تبدون‏}‏ أي تظهرونه، يقال‏:‏ بدا السر وأبداه صاحبه يبديه‏.‏ ‏}‏وما تكتمون‏}‏ أي ما تسرونه وتخفونه في قلوبكم من الكفر والنفاق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏100‏)‏

‏{‏قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون‏}‏

قال الحسن‏{‏الخبيث والطيب‏}‏ الحلال والحرام‏.‏ وقال السدي‏:‏ المؤمن والكافر‏.‏ وقيل‏:‏ المطيع والعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ الرديء والجيد؛ وهذا على ضرب المثال‏.‏ والصحيح أن اللفظ عام في جميع الأمور، يتصور في المكاسب والأعمال، والناس، والمعارف من العلوم وغيرها؛ فالخبيث من هذا كله لا يفلح ولا ينجب، ولا تحسن له عاقبة وإن كثر، والطيب وإن قل نافع جميله العاقبة‏.‏ قال الله تعالى‏{‏والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا‏}‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏‏.‏ ونظير هذه الآية قوله تعالى‏{‏أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار‏}‏ص‏:‏ 28‏]‏ وقوله ‏}‏أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات‏}‏الجاثية‏:‏ 21‏]‏ ؛ فالخبيث لا يساوي الطيب مقدارا ولا إنفاقا، ولا مكانا ولا ذهابا، فالطيب يأخذ جهة اليمين، والخبيث يأخذ جهة الشمال، والطيب في الجنة، والخبيث في النار وهذا بين‏.‏ وحقيقة الاستواء الاستمرار في جهة واحدة، ومثله الاستقامة وضدها الاعوجاج‏.‏

قال بعض علمائنا‏:‏ إن البيع الفاسد يفسخ ولا يمضى بحوالة سوق، ولا بتغير بدن، فيستوي في إمضائه مع البيع الصحيح، بل يفسخ أبدا، ويرد الثمن على المبتاع إن كان قبضه، وإن تلف في يده ضمنه؛ لأنه لم يقبضه على الأمانة، وإنما قبضه بشبهة عقد‏.‏ وقيل‏:‏ لا يفسخ نظرا إلى أن البيع إذا فسخ ورد بعد الفوت يكون فيه ضرر وغبن على البائع، فتكون السلعة تساوي مائة وترد عليه وهي تساوي عشرين، ولا عقوبة في الأموال‏.‏ والأول أصح لعموم الآية، ولقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وإذا تتبع هذا المعنى في عدم الاستواء في مسائل الفقه تعددت وكثرت‏.‏

فمن ذلك الغاصب إذا بنى في البقعة المغصوبة أو غرس إنه يلزمه قلع ذلك البناء والغرس؛ لأنه خبيث، وردها؛ خلافا لأبي حنيفة في قوله‏:‏ لا يقلع ويأخذ صاحبها القيمة‏.‏ وهذا يرده قوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏ليس لعرق ظالم حق‏]‏‏.‏ قال هشام‏:‏ العرق الظالم أن يغرس الرجل في أرض غيره ليستحقها بذلك‏.‏ قال مالك‏:‏ العرق الظالم كل ما أخذ واحتفر وغرس في غير حق‏.‏ قال مالك‏:‏ من غصب أرضا فزرعها، أو أكراها، أو دارا فسكنها أو أكراها، ثم استحقها ربها أن على الغاصب كراء ما سكن ورد ما أخذ في الكراء واختلف قوله إذا لم يسكنها أو لم يزرع الأرض وعطلها؛ فالمشهور من مذهبه أنه ليس عليه فيه شيء؛ وقد روي عنه أنه عليه كراء ذلك كله‏.‏ واختاره الوقار، وهو مذهب الشافعي؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏[‏ليس لعرق ظالم حق‏]‏ وروى أبو داود عن أبي الزبير أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ غرس أحدهما نخلا في أرض الآخر، فقضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمر صاحب النخل أن يخرج نخله منها، قال‏:‏ فلقد رأيتها، وأنها لتضرب أصولها بالفؤوس حتى أخرجت منها وإنها لنخل عم‏.‏ وهذا نص‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ والحكم فيه أن يكون صاحب الأرض مخيرا على الظالم، إن شاء حبس ذلك في أرضه بقيمته مقلوعا، وإن شاء نزعه من أرضه؛ وأجر النزع على الغاصب‏.‏ وروى الدارقطني عن عائشة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من بنى في رباع قوم بإذنهم فله القيمة ومن بنى بغير إذنهم فله النقض‏]‏ قال علماؤنا‏:‏ إنما تكون له القيمة؛ لأنه بنى في موضع يملك منفعته‏.‏ وذلك كمن بنى أو غرس بشبهة فله حق؛ إن شاء رب المال أن يدفع إليه قيمته قائما، وإن أبى قيل للذي بنى أو غرس‏:‏ ادفع إليه قيمة أرضه براحا؛ فإن أبى كانا شريكين‏.‏ قال ابن الماجشون‏:‏ وتفسير اشتراكهما أن تقوم الأرض براحا، ثم تقوم بعمارتها فما زادت قيمتها بالعمارة على قيمتها براحا كان العامل شريكا لرب الأرض فيها، إن أحبا قسما أو حبسا‏.‏ قال ابن الجهم‏:‏ فإذا دفع رب الأرض قيمة العمارة وأخذ أرضه كان له كراؤها فيما مضى من السنين‏.‏ وقد روي عن ابن القاسم وغيره أنه إذا بنى رجل في أرض رجل بإذنه ثم وجب له إخراجه، فإنه يعطيه قيمة بنائه مقلوعا والأول أصح لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فله القيمة‏)‏ وعليه أكثر الفقهاء‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو أعجبك كثرة الخبيث‏}‏ قيل‏:‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه الخبيث‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وإعجابه له أنه صار عنده عجبا مما يشاهده من كثرة الكفار والمال الحرام، وقلة المؤمنين والمال الحلال‏.‏ ‏}‏فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون‏}‏ تقدم معناه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏:‏ 102 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم عفا الله عنها والله غفور حليم، قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين‏}‏

روى البخاري ومسلم وغيرهما واللفظ للبخاري عن أنس قال، قال رجل‏:‏ يا نبي الله، من أبي ‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏أبوك فلان‏]‏ قال فنزلت ‏}‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ الآية‏.‏ وخرج أيضا عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفيه‏:‏ ‏[‏فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا‏]‏ فقام إليه رجل فقال‏:‏ أين مدخلي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏النار‏]‏‏.‏ فقام عبدالله بن حذافة فقال‏:‏ من أبي يا رسول الله فقال‏:‏ ‏[‏أبوك حذافة‏]‏ وذكر الحديث قال ابن عبدالبر‏:‏ عبدالله بن حذافة أسلم قديما، وهاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا وكانت فيه دعابة، وكان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أرسله إلى كسرى بكتاب رسول الله صلى الله عليه سلم؛ ولما قال من أبي يا رسول الله؛ قال‏:‏ ‏[‏أبوك حذافة‏]‏ قالت له أمه‏:‏ ما سمعت بابن أعق منك آمنت أن تكون أمك قارفت ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس ‏!‏ فقال‏:‏ والله لو ألحقني بعبد أسود للحقت به‏.‏ وروى الترمذي والدارقطني عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏}‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏}‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله أفي كل عام‏؟‏ فسكت، فقالوا‏:‏ أفي كل عام ‏؟‏ قال‏:‏ ‏[‏لا ولو قلت نعم لو جبت‏]‏ ، فأنزل الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ واللفظ للدارقطني سئل البخاري عن هذا الحديث فقال‏:‏ هو حديث حسن إلا أنه مرسل؛ أبو البختري لم يدرك عليا، واسمه سعيد‏.‏ وأخرجه الدارقطني أيضا عن أبي عياض عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏يا أيها الناس كتب عليكم الحج‏]‏ فقام رجل فقال‏:‏ في كل عام يا رسول الله‏؟‏ فأعرض عنه، ثم عاد فقال‏:‏ في كل عام يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏ومن القائل‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ فلان؛ قال‏:‏ ‏[‏والذي نفسي بيده لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما أطقتموها ولو لم تطيقوها لكفرتم‏]‏ فأنزل الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ الآية‏.‏ وقال الحسن البصري في هذه الآية‏:‏ سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الجاهلية التي عفا الله عنها ولا وجه للسؤال عما عفا الله عنه‏.‏ وروى مجاهد عن ابن عباس أنها نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحام؛ وهو قول سعيد بن جبير؛ وقال‏:‏ ألا ترى أن بعده‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام‏}‏المائدة‏:‏ 103‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وفي الصحيح والمسند كفاية‏.‏ ويحتمل أن تكون الآية نزلت جوابا للجميع، فيكون السؤال قريبا بعضه من بعض‏.‏ والله أعلم‏.‏ و‏}‏أشياء‏}‏ وزنه أفعال؛ ولم يصرف لأنه مشبه بحمراء؛ قاله الكسائي وقيل‏:‏ وزنه أفعلاء؛ كقولك‏:‏ هين وأهوناء؛ عن الفراء والأخفش ويصغر فيقال‏:‏ أشياء؛ قال المازني‏:‏ يجب أن يصغر شييات كما يصغر أصدقاء؛ في المؤنث صديقات وفي المذكر صديقون‏.‏

قال ابن عون‏:‏ سألت نافعا عن قوله تعالى ‏}‏لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏}‏ فقال‏:‏ لم تزل المسائل منذ قط تكره‏.‏ روى مسلم عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات وواد البنات ومنعا وهات وكره لكم ثلاثا، قيل، وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال‏]‏ قال كثير من العلماء‏:‏ المراد بقوله ‏[‏وكثرة السؤال‏]‏ التكثير من السؤال في المسائل الفقهية تنطعا، وتكلفا فيما لم ينزل، والأغلوطات وتشقيق المولدات، وقد كان السلف يكرهون ذلك ويرونه من التكليف، ويقولون‏:‏ إذا نزلت النازلة وفق المسؤول لها‏.‏ قال مالك‏:‏ أدركت أهله هذا البلد وما عندهم علم غير الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه، وأنتم تكثرون المسائل وقد كرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بكثرة المسائل كثرة سؤال الناس الأموال والحوائج إلحاحا واستكثارا؛ وقاله أيضا مالك وقيله‏:‏ المراد بكثرة المسائل السؤال عما لا يعني من أحوال الناس بحيث يؤدي ذلك إلى كشف عوراتهم والاطلاع على مساوئهم‏.‏ وهذا مثل قوله تعالى‏{‏ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا‏}‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ قال ابن خويز منداد‏:‏ ولذلك قال بعض أصحابنا متى قدم إليه طعام لم يسأل عنه من أين هذا أو عرض عليه شيء يشتريه لم يسأل من أين هو وحمل أمور المسلمين على السلامة والصحة‏.‏

قلت‏:‏ والوجه حمل الحديث على عمومه فيتناول جميع تلك الوجوه كلها‏.‏ والله أعلم‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ اعتقد قوم من الغافلين تحريم أسئلة النوازل حتى تقع تعلقا بهذه الآية وليس كذلك لأن هذه الآية مصرحة بأن السؤال المنهي عنه إنما كان فيما تقع المساءة في جوابه ولا مساءة في جواب نوازل الوقت فافترقا‏.‏

قلت قوله‏:‏ اعتقد قوم من الغافلين فيه قبح، وإنما كان الأولى به أن يقول‏:‏ ذهب قوم إلى تحريم أسئلة النوازل، لكنه جرى على عادته، وإنما قلنا كان أولى به؛ لأنه قد كان قوم من السلف يكرهها‏.‏ وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلعن من سأل عما لم يكن؛ ذكره الدارمي في مسنده؛ وذكر عن الزهري قال‏:‏ بلغنا أن زيد بن ثابت الأنصاري كان يقول إذا سئل عن الأمر‏:‏ أكان هذا‏؟‏ فإن قالوا‏:‏ نعم قد كان حدث فيه بالذي يعلم، وإن قالوا‏:‏ لم يكن قال فذروه حتى يكون‏.‏ وأسند عن عمار بن ياسر وقد سئل عن مسألة فقال‏:‏ هل كان هذا بعد‏؟‏ قالوا‏:‏ لا؛ قال‏:‏ دعونا حتى يكون، فإذا كان تجشمناها لكم‏.‏ قال الدارمي‏:‏ حدثنا عبدالله بن محمد بن أبي شيبة، قال حدثنا ابن فضيل عن عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ ما رأيت قوما كانوا خيرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن؛ منهن ‏}‏يسألونك عن الشهر الحرام‏}‏البقرة‏:‏ 217‏]‏ ، ‏}‏ويسألونك عن المحيض‏}‏البقرة‏:‏ 222‏]‏ وشبهه ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم‏.‏

قال ابن عبدالبر‏:‏ السؤال اليوم لا يخاف منه أن ينزل تحريم ولا تحليل من أجله، فمن سأل مستفهما راغبا في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثا عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه، فلا بأس به فشفاء العي السؤال؛ ومن سأل متعنتا غير متفقه ولا متعلم فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره؛ قال ابن العربي‏:‏ الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظر، وتحصيل مقدمات الاجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الاستمداد؛ فإذا عرضت نازلة أتيت من بابها، ونشدت في مظانها، والله يفتح في صوابها‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم‏}‏ فيه غموض، وذلك أن في أول الآية النهي عن السؤال ثم قال‏{‏وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم‏}‏ فأباحه لهم؛ فقيل‏:‏ المعنى وإن تسألوا عن غيرها فيما مست الحاجة إليه، فحذف المضاف، ولا يصح حمله على غير الحذف‏.‏ قال الجرجاني‏:‏ الكناية في ‏}‏عنها‏}‏ ترجع إلى أشياء أخر؛ كقوله تعالى‏{‏ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏}‏المؤمنون‏:‏ 12‏]‏ يعني آدم، ثم قال‏{‏ثم جعلناه نطفة‏}‏المؤمنون‏:‏ 13‏]‏ أي ابن آدم؛ لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين، لكن لما ذكر الإنسان وهو آدم دل على إنسان مثله، وعرف ذلك بقرينة الحال؛ فالمعنى وإن تسألوا عن أشياء حين ينزل القرآن من تحليل أو تحريم أو حكم، أو مست حاجتكم إلى التفسير، فإذا سألتم فحينئذ تبد لكم؛ فقد أباح هذا النوع من السؤال‏:‏ ومثاله أنه بين عدة المطلقة والمتوفى عنها زوجها والحامل، ولم يجز ذكر عدة التي ليست بذات قرء ولا حامل، فسألوا عنها فنزل ‏}‏واللائى يئسن من المحيض‏}‏الطلاق‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فالنهي إذا في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه؛ فأما ما مست الحاجة إليه فلا‏.‏

قوله تعالى‏{‏عفا الله عنها والله غفور حليم‏}‏ أي عن المسألة التي سلفت منهم‏.‏ وقيل‏:‏ عن الأشياء التي سألوا عنها من أمور الجاهلية وما جرى مجراها‏.‏ وقيل‏:‏ العفو بمعنى الترك؛ أي تركها ولم يعرف بها في حلال ولا حرام فهو معفو عنها فلا تبحثوا عنه فلعله إن ظهر لكم حكمه من ساءكم‏.‏ وكان عبيد بن عمير يقول‏:‏ إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه، وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحلها ولم يحرمها، فذلك عفو من الله، ثم يتلو هذه الآية‏.‏ وخرج الدارقطني عن أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها وحدد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها‏]‏ والكلام على هذا التقدير فيه تقديم وتأخير؛ أي لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، أي أمسك عن ذكرها فلم يوجب فيها حكما‏.‏ وقيل‏:‏ ليس فيه تقديم ولا تأخير؛ بل المعنى قد عفا الله عن مسألتكم التي سلفت وإن كرهها النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تعودوا لأمثالها‏.‏ فقوله‏{‏عنها‏}‏ أي عن المسألة، أو عن السؤالات كما ذكرناه‏.‏

قوله تعالى‏{‏قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين‏}‏ أخبر تعالى أن قوما من قبلنا قد سألوا آيات مثلها، فلما أعطوها وفرضت عليهم كفروا بها، وقالوا‏:‏ ليست من عند الله؛ وذلك كسؤاله قوم صالح الناقة، وأصحاب عيسى المائدة؛ وهذا تحذير مما وقع فيه من سبق من الأمم‏.‏ والله أعلم‏.‏

إن قال قائل‏:‏ ما ذكرتم من كراهية السؤال والنهى عنه، يعارضه قوله تعالى‏{‏فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون‏}‏النحل‏:‏ 43‏]‏ فالجواب؛ أن هذا الذي أمر الله به عباده هو ما تقرر وثبت وجوبه مما يجب عليهم العمل به، والذي جاء فيه النهي هو ما لم يتعبدالله عباده به؛ ولم يذكره في كتابه‏.‏ والله أعلم‏.‏

روى مسلم عن عامر بن سعد عن أبيه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته‏]‏‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ ولو لم يسأل العجلاني عن الزنى لما ثبت اللعان‏.‏ قال أبو الفرج الجوزي‏:‏ هذا محمول على من سأل عن الشيء عنتا وعبثا فعوقب بسوء قصده بتحريم ما سأل عنه؛ والتحريم يعم‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ لا تعلق للقدرية بهذا الحديث في أن الله تعالى يفعل شيئا من أجل شيء وبسببه، تعالى الله عن ذلك؛ فإن الله على كله شيء قدير، وهو بكل شيء عليم؛ بل السبب والداعي فعله من أفعاله، لكن سبق القضاء والقدر أن يحرم من الشيء المسؤول عنه إذا وقع السؤال فيه؛ لا أن السؤال موجب للتحريم، وعلة له، ومثله كثير ‏}‏لا يسأل عما يفعل وهم يسألون‏}‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏103‏)‏

‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب وأكثرهم لا يعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما جعل الله‏}‏ جعل هنا بمعنى سمى، كما قال تعالى‏{‏إنا جعلناه قرآنا عربيا‏}‏الزخرف‏:‏3‏]‏ أي سميناه‏.‏ والمعنى في هذه الآية ما سمى الله، ولا سن ذلك حكما، ولا تعبد به شرعا، بيد أنه قضى به علما، وأوجده بقدرته وإرادته خلقا؛ فإن الله خالق كل شيء من خير وشر، ونفع وضر، وطاعة ومعصية‏.‏

قوله تعالى‏{‏من بحيرة ولا سائبة‏}‏ ‏}‏من‏}‏ زائدة‏.‏ والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، وهي على وزن النطيحة والذبيحة‏.‏ وفي الصحيح عن سعيد بن المسيب‏:‏ البحيرة هي التي يمنع درها للطواغيت، فلا يحتلبها أحد من الناس‏.‏ وأما السائبة فهي التي كانوا يسيبونها لآلهتهم‏.‏ وقيل‏:‏ البحيرة لغة هي الناقة المشقوقة الأذن؛ يقال بحرت أذن الناقة أي شققتها شقا واسعا، والناقة بحيرة ومبحورة، وكان البحر علامة التخلية‏.‏ قال ابن سيده‏:‏ يقال البحيرة هي التي خليت بلا راع، ويقال للناقة الغزيرة بحيرة‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ البحيرة هي ابنة السائبة، والسائبة هي الناقة إذا تابعت بين عشر إناث ليس بينهن ذكر، لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف، فما نتجت بعد ذلك من أنثى شقت أذنها، وخلي سبيلها مع أمها فلم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ضيف كما فعل بأمها؛ فهي البحيرة ابنة السائبة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا نتجت الناقة خمسة أبطن إناثا بحرت أذنها فحرمت؛ قال‏:‏

محرمة لا يطعم الناس لحمها ولا نحن في شيء كذاك البحائر

وقال ابن عزيز البحيرة الناقة إذا نتجت خمسة أبطن فإذا كان الخامس ذكرا نحروه فأكله الرجال والنساء، وإن كان الخامس أنثى بحروا أذنها أي شقوه وكانت حراما على النساء لحمها ولبنها وقاله عكرمة فإذا ماتت حلت للنساء‏.‏ والسائبة البعير يسيب بنذر يكون على الرجل إن سلمه الله من مرض، أو بلغه منزله أن يفعل ذلك، فلا تجس عن رعي ولا ماء، ولا يركبها أحد؛ وقال به أبو عبيد؛ قال الشاعر‏:‏

وسائبة لله تنمي تشكرا إن الله عافى عامرا أو مجاشعا

وقد يسيبون غير الناقة، وكانوا إذا سيبوا العبد لم يكن عليه ولاء‏.‏ وقيل‏:‏ السائبة هي المخلاة لا قيد عليها، ولا راعي لها؛ فاعل بمعنى مفعول، نحو ‏}‏عيشة راضية‏}‏ أي مرضية‏.‏ من سابت الحية وانسابت؛ قال الشاعر‏:‏

عقرتم ناقة كانت لربي وسائبة فقوموا للعقاب

وأما الوصيلة والحام؛ فقال ابن وهب، قال مالك‏:‏ كان أهل الجاهلية يعتقون الإبل والغنم يسيبونها؛ فأما الحام فمن الإبل؛ كان الفحل إذا انقضى ضرابه جعلوا عليه من ريش الطواويس وسيبوه؛ وأما الوصيلة فمن الغنم إذا ولدت أنثى بعد أنثى سيبوها‏.‏ وقال ابن عزيز‏:‏ الوصيلة في الغنم؛ قال‏:‏ كانوا إذا ولدت الشاة سبعة أبطن نظروا؛ فإن كان السابع ذكرا ذبح وأكل منه الرجال والنساء، وإن كان أنثى تركت في الغنم، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فلم تذبح لمكانها، وكان لحمها حراما على النساء، ولبن الأنثى حراما على النساء إلا أن يموت منهما شيء فيأكله الرجال والنساء‏.‏ والحامي الفحل إذا ركب ولد ولده‏.‏ قال‏:‏

حماها أبو قابوس في عز ملكه كما قد حمى أولاد أولاده الفحل

ويقال‏:‏ إذا نتج من صلبه عشرة أبطن قالوا‏:‏ قد حمى ظهر فلا يركب ولا يمنع من كلاء ولا ماء‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ الوصيلة الشاة إذا أتمت عشر إناث متتابعات في خمسة أبطن ليس بينهن ذكر، قالوا‏:‏ وصلت فكان ما ولدت بعد ذلك للذكور منهم دون الإناث، إلا أن يموت شيء منها فيشترك في أكله ذكورهم وإناثهم‏.‏

روى مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار وكان أول من سيب السوائب‏]‏ وفي رواية ‏[‏عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار‏]‏‏.‏ وروى أبو هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون‏:‏ ‏[‏رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندق يجر قصبه في النار فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك‏]‏ فقال أكثم‏:‏ أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله؛ قال‏:‏ ‏[‏لا إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي‏]‏ وفي رواية‏:‏ ‏[‏رأيته رجلا قصيرا أشعر له وفرة يجر قصبه في النار‏]‏‏.‏ وفي رواية ابن القاسم وغيره عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏[‏إنه يؤذي أهله النار بريحه‏]‏‏.‏ مرسل ذكره ابن العربي وقيل‏:‏ إن أول من ابتدع ذلك جنادة بن عوف‏.‏ والله أعلم‏.‏ وفي الصحيح كفاية‏.‏ وروى ابن إسحاق‏:‏ أن سبب نصب الأوثان، وتغيير دين إبراهيم عليه السلام عمرو بن لحي خرج من مكة إلى الشام، فلما قدم مآب من أرض البلقاء، وبها يومئذ العماليق أولاد عمليق ويقال عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رآهم يعبدون الأصنام فقال لهم‏:‏ ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون‏؟‏ قالوا‏:‏ هذه أصنام نستمطر بها فنمطر، ونستنصر بها فننصر؛ فقال لهم‏:‏ أفلا تعطوني منها صنما أسير به إلى أرض العرب فيعبدنه‏؟‏ فأعطوه صنما يقال له‏:‏ ‏(‏هبل‏)‏ فقدم به مكة فنصبه، وأخذ الناس بعبادته وتعظيمه؛ فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه ‏}‏ما جعل الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام‏}‏‏.‏ ‏}‏ولكن الذين كفروا‏}‏ يعني من قريش وخزاعة ومشركي العرب ‏}‏يفترون على الله الكذب‏}‏ بقولهم‏:‏ إن الله أمر بتحريمها، ويزعمون أنهم يفعلون ذلك لرضا ربهم في طاعة الله، وطاعة الله إنما تعلم من قوله، ولم يكن عندهم من الله بذلك قول، فكان ذلك مما يفترونه على الله‏.‏ وقالوا‏{‏ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا‏}‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ يعني من الولد والألبان ‏}‏ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة‏}‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ يعني إن وضعته ميتا اشترك فيه الرجال والنساء؛ فذلك قوله عز وجل‏{‏فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم‏}‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ أي بكذبهم العذاب في الآخرة ‏}‏إنه حكيم عليم‏}‏الأنعام‏:‏ 139‏]‏ أي بالتحريم والتحليل‏.‏ وأنزل عليه‏{‏قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون‏}‏يونس‏:‏ 59‏]‏ وأنزل عليه‏{‏ثمانية أزواج‏}‏الأنعام‏:‏143‏]‏ وأنزله عليه‏{‏وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه‏}‏الأنعام‏:‏ 138‏]‏‏.‏

تعلق أبو حنيفة رضي الله عنه في منعه الأحباس ورده الأوقاف؛ بأن الله تعالى عاب على العرب ما كانت تفعله من تسييب البهائم وحمايتها وحبس أنفاسها عنها، وقاس على البحيرة والسائبة والفرق بيّنٌ‏.‏ ولو عمد رجل إلى ضيعة له فقال‏:‏ هذه تكون حبسا، لا يجتنى ثمرها، ولا تزرع أرضها، ولا ينتفع منها بنفع، لجاز أن يشبه هذا بالبحيرة والسائبة‏.‏ وقد قال علقمة لمن سأله عن هذه الأشياء‏:‏ ما تريد إلى شيء كان من عمل أهله الجاهلية وقد ذهب‏.‏ وقال نحوه ابن زيد‏.‏ وجمهور العلماء على القول بجواز الأحباس والأوقاف ما عدا أبا حنيفة وأبا يوسف وزفر؛ وهو قول شريح أن أبا يوسف رجع عن قول أبى حنيفة في ذلك لما حدثه ابن علية عن ابن عون عن نافع عن ابن عمر أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أن يتصدق بسهمه بخيبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏احبس الأصل وسبل الثمرة‏]‏‏.‏ وبه يحتج كل من أجاز الأحباس؛ وهو حديث صحيح قاله أبو عمر‏.‏ وأيضا فإن المسألة إجماع من الصحابة وذلك أن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا وعائشة وفاطمة وعمرو بن العاص وابن الزبير وجابرا كلهم وقفوا الأوقاف، وأوقافهم بمكة والمدينة معروفة مشهورة‏.‏ وروي أن أبا يوسف قال لمالك بحضرة الرشيد‏:‏ إن الحبس لا يجوز؛ فقال له مالك‏:‏ هذه الأحباس أحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك وأحباس أصحابه‏.‏ وأما ما احتج به أبو حنيفة من الآية فلا حجة فيه؛ لأن الله سبحانه إنما عاب عليهم أن تصرفوا بعقولهم بغير شرع توجه إليهم، أو تكليف فرض عليهم في قطع طريق الانتفاع وإذهاب نعمة الله تعالى وإزالة المصلحة التي للعباد في تلك الإبل‏.‏ وبهذا فارقت هذه الأمور الأحباس والأوقاف‏.‏ ومما احتج به أبو حنيفة وزفر ما رواه عطاء عن ابن المسيب قال‏:‏ سألت شريحا عن رجل جعل داره حبسا على الآخر من ولده فقال‏:‏ لا حبس عن فرائض الله؛ قالوا‏:‏ فهذا شريح قاضي عمر وعثمان وعلي الخلفاء الراشدين حكم بذلك‏.‏ واحتج أيضا بما رواه ابن لهيعة عن أخيه عيسى، عن عكرمة عن ابن عباس، قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعدما أنزلت سورة ‏}‏النساء‏}‏ وأنزل الله فيها الفرائض‏:‏ ينهى عن الحبس‏.‏ قال الطبري‏:‏ الصدقة التي يمضيها المتصدق في حياته على ما أذن الله به على لسان نبيه وعمل به الأئمة الراشدون رضي الله عنهم ليس من الحبس عن فرائض الله؛ ولا حجة في قول شريح ولا في قول أحد يخالف السنة، وعمل الصحابة الذين هم الحجة على جميع الخلق؛ وأما حديث ابن عباس فرواه ابن لهيعة، وهو رجل اختلط عقله في آخر عمره، وأخوه غير معروف فلا حجة فيه؛ قال ابن القصار‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف يجوز أن تخرج الأرض بالوقف عن ملك أربابها لا إلى ملك مالك‏؟‏ قال الطحاوي يقال لهم‏:‏ وما ينكر من هذا وقد اتفقت أنت وخصمك على الأرض يجعلها صاحبها مسجدا للمسلمين، ويخلي بينهم وبينها، وقد خرجت بذلك من ملك إلى غير مالك، ولكن إلى الله تعالى؛ وكذلك السقايات والجسور والقناطر، فما ألزمت مخالفك في حجتك عليه يلزمك في هذا كله‏.‏ والله أعلم‏.‏

اختلف المجيزون للحبس فيما للمحبس من التصرف؛ فقال الشافعي‏:‏ ويحرم على الموقف ملكه كما يحرم عليه ملك رقبة العبد، إلا أنه جائز له أن يتولى صدقته، وتكون بيده ليفرقها ويسلبها فيما أخرجها فيه؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يزل يلي صدقته فيما بلغنا حتى قبضه الله عز وجل قال‏:‏ وكذلك علي وفاطمة رضي الله عنهما كانا يليان صدقاتهما؛ وبه قال أبو يوسف وقال مالك‏:‏ من حبس أرضا أو نخلا أو دارا على المساكين وكانت بيده يقوم بها ويكريها ويقسمها في المساكين حتى مات والحبس في يديه، أنه ليس بحبس ما لم يجزه غيره وهو ميراث؛ والربع عنده والحوائط والأرض لا ينفذ حبسها، ولا يتم حوزها، حتى يتولاه غير من حبسه، بخلاف الخيل والسلاح، هذا محصل مذهبه عند جماعة أصحابه؛ وبه قال ابن أبي ليلى‏.‏

لا يجوز للواقف أن ينتفع بوقفه؛ لأنه أخرجه لله وقطعه عن ملكه، فانتفاعه بشيء منه رجوع في صدقته؛ وإنما يجوز له الانتفاع إن شرط ذلك في الوقف، أو أن يفتقر المحبس، أو ورثته فيجوز لهم الأكل منه‏.‏ ذكر ابن حبيب عن مالك قال‏:‏ من حبس أصلا تجري غلته على المساكين فإن ولده يعطون منه إذا افتقروا كانوا يوم حبس أغنياء أو فقراء غير أنهم لا يعطون جميع الغلة مخافة أن يندرس الحبس ولكن يبقى منه سهم للمساكين ليبقى عليه اسم الحبس؛ ويكتب على الولد كتاب أنهم إنما يعطون منه ما أعطوا على سبيل المسكنة، وليس على حق لهم دون المساكين‏.‏

عتق السائبة جائز؛ وهو أن يقول السيد لعبده أنت حر وينوي العتق، أو يقول‏:‏ أعتقتك سائبة؛ فالمشهور من مذهب مالك عند جماعة أصحابه أن ولاءه لجماعة المسلمين، وعتقه نافذ؛ هكذا روى عنه ابن القاسم وابن عبدالحكم وأشهب وغيرهم، وبه قال ابن وهب؛ وروى ابن وهب عن مالك قال‏:‏ لا يعتق أحد سائبة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته؛ قال ابن عبدالبر‏:‏ وهذا عند كله من ذهب مذهبه، إنما هو محمول على كراهة عتق السائبة لا غير؛ فإن وقع نفذ وكان الحكم فيه ما ذكرناه‏.‏ وروى ابن وهب أيضا وابن القاسم عن مالك أنه قال‏:‏ أنا أكره عتق السائبة وأنهى عنه؛ فإن وقع نفذ وكان ميراثا لجماعة المسلمين، وعقله عليهم‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ لا بأس بعتق السائبة ابتداء؛ ذهب إلى المشهور من مذهب مالك؛ وله احتج إسماعيل القاضي ابن إسحاق وإياه تقلد‏.‏ ومن حجته في ذلك أن عتق السائبة مستفيض بالمدينة لا ينكره عالم، وأن عبدالله بن عمر وغيره من السلف أعتقوا سائبة‏.‏ وروي ابن شهاب وربيعة وأبي الزناد وهو قول عمر بن عبدالعزيز وأبي العالية وعطاء وعمرو بن دينار وغيرهم‏.‏

قلت‏:‏ أبو العالية الرياحي البصري التميمي رضى الله عنه ممن أعتق سائبة؛ أعتقته مولاة له من بني رياح سائبة لوجه الله تعالى، وطافت به على حلق المسجد، واسمه رفيع بن مهران، وقال ابن نافع‏:‏ لا سائبة اليوم في الإسلام، ومن أعتق سائبة كان ولاؤه له؛ وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وابن الماجشون، ومال إليه ابن العربي؛ واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏[‏من أعتق سائبة فولاؤه له‏]‏ وبقوله‏:‏ ‏[‏إنما الولاء لمن أعتق‏]‏‏.‏ فنفى أن يكون الولاء لغير معتق، واحتجوا بقوله تعالى‏{‏ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة‏}‏ وبالحديث ‏[‏لا سائبة في الإسلام‏]‏ وبما رواه أبو قيس عن هزيل بن شرحبيل قال‏:‏ قال رجل لعبدالله‏:‏ إني أعتقت غلاما لي سائبة فماذا ترى فيه‏؟‏ فقال عبدالله‏:‏ إن أهل الإسلام لا يسيبون، إنما كانت تسيب الجاهلية؛ أنت وارثه وولي نعمته‏.‏