فصل: الآية رقم ‏(‏ 113 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وجعلوا لله شركاء الجن‏}‏ هذا ذكر نوع آخر من جهالاتهم، أي فيهم من أعتقد لله شركاء من الجن‏.‏ قال النحاس‏{‏الجن‏}‏ مفعول أول، و‏}‏شركاء‏}‏ مفعول ثان؛ مثل ‏}‏وجعلكم ملوكا‏}‏المائدة‏:‏ 20‏]‏‏.‏ ‏}‏وجعلت له مالا ممدودا‏}‏المدثر‏:‏ 12‏]‏‏.‏ وهو في القرآن كثير‏.‏ والتقدير وجعلوا لله الجن شركاء‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏الجن‏}‏ بد لا من شركاء، والمفعول الثاني ‏}‏لله‏}‏‏.‏ وأجاز الكسائي رفع ‏}‏الجن‏}‏ بمعنى هم الجن‏.‏ ‏}‏وخلقكم‏}‏ كذا قراءة الجماعة، أي خلق الجاعلين له شركاء‏.‏ وقيل‏:‏ خلق الجن الشركاء‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏}‏وهو خلقهم‏}‏ بزيادة هو‏.‏ وقرأ يحيى بن يعمر ‏}‏وخلقهم‏}‏ بسكون اللام، وقال‏:‏ أي وجعلوا خلقهم لله شركاء؛ لأنهم كانوا يخلقون الشيء ثم يعبدونه‏.‏ والآية نزلت في مشركي العرب‏.‏ ومعنى إشراكهم بالجن أنهم أطاعوهم كطاعة الله عز وجل؛ روي ذلك عن الحسن وغيره‏.‏ قال قتادة والسدي‏:‏ هم الذين قالوا الملائكة بنات الله‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ نزلت في الزنادقة، قالوا‏:‏ إن الله وإبليس أخوان؛ فالله خالق الناس والدواب، وإبليس خالق الجان والسباع والعقارب‏.‏ ويقرب من هذا قول المجوس، فإنهم قالوا‏:‏ للعالم صانعان‏:‏ إله قديم، والثاني شيطان حادث من فكرة الإله القديم؛ وزعموا أن صانع الشر حادث‏.‏ وكذا الحائطية من المعتزلة من أصحاب أحمد بن حائط، زعموا أن للعالم صانعين‏:‏ الإله القديم، والآخر محدث، خلقه الله عز وجل ألا ثم فوض إليه تدبير العالم؛ وهو الذي يحاسب الخلق في الآخرة‏.‏ تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا‏.‏ ‏}‏وخرقوا‏}‏ قراءة نافع بالتشديد على التكثير؛ لأن المشركين ادعوا أن لله بنات وهم الملائكة، وسموهم جنا لاجتنانهم‏.‏ والنصارى ادعت المسيح ابن الله‏.‏ واليهود قالت‏:‏ عزير ابن الله، فكثر ذلك من كفرهم؛ فشدد الفعل لمطابقة المعنى‏.‏ تعالى الله عما يقولون‏.‏ وقرأ الباقون بالتخفيف على التقليل‏.‏ وسئل الحسن البصري عن معنى ‏}‏وخرقوا له‏}‏ بالتشديد فقال‏:‏ إنما هو ‏}‏وخرقوا‏}‏ بالتخفيف، كلمة عربية، كان الرجل إذا كذب في النادي قيل‏:‏ خرقها ورب الكعبة‏.‏ وقال أهل اللغة‏:‏ معنى ‏}‏خرقوا‏}‏ اختلقوا وافتعلوا ‏}‏وخرقوا‏}‏ على التكثير‏.‏ قال مجاهد وقتادة وابن زيد وابن جريج‏{‏خرقوا‏}‏ كذبوا‏.‏ يقال‏:‏ إن معنى خرق واخترق واختلق سواء؛ أي أحدث‏:‏

 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

‏{‏بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏بديع السماوات والأرض‏}‏ أي مبدعهما؛ فكيف يجوز أن يكون له ولد‏.‏ و‏}‏بديع‏}‏ خبر ابتداء مضمر أي هو بديع‏.‏ وأجاز الكسائي خفضه على النعت لله عز وجل، ونصبه بمعنى بديعا السماوات والأرض‏.‏ وذا خطأ عند البصريين لأنه لما مضى‏.‏ ‏}‏أنى يكون له ولد‏}‏ أي من أين يكون له ولد‏.‏ وولد كل شيء شبيهه، ولا شبيه له‏.‏ ‏}‏ولم تكن له صاحبة‏}‏ أي زوجة‏.‏ ‏}‏وخلق كل شيء‏}‏ عموم معناه الخصوص؛ أي خلق العالم‏.‏ ولا يدخل في ذلك كلامه ولا غيره من صفات ذاته‏.‏ ومثله ‏}‏ورحمتي وسعت كل شيء‏}‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ ولم تسع إبليس ولا من مات كافرا‏.‏ ومثله ‏}‏تدمر كل شيء‏}‏الأحقاف‏:‏ 25‏]‏ ولم تدمر السماوات والأرض‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه وهو على كل شيء وكيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو‏}‏ ‏}‏ذلكم‏}‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ ‏}‏الله ربكم‏}‏ على البدل‏.‏ ‏}‏خالق كل شيء‏}‏ خبر الابتداء‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏ربكم‏}‏ الخبر، و‏}‏خالق‏}‏ خبرا ثانيا، أو على إضمار مبتدأ، أي هو خالق‏.‏ وأجاز الكسائي والقراء فيه النصب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ بين سبحانه أنه منزه عن سمات الحدوث، ومنها الإدراك بمعنى الإحاطة والتحديد، كما تدرك سائر المخلوقات، والرؤية ثابتة‏.‏ فقال الزجاج‏:‏ أي لا يبلغ كنه حقيقته؛ كما تقول‏:‏ أدركت كذا وكذا؛ لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأحاديث في الرؤية يوم القيامة‏.‏ وقال ابن عباس‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ في الدنيا، ويراه المؤمنون في الآخرة؛ لإخبار الله بها في قوله‏{‏وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة‏}‏القيامة‏:‏ 22 - 23‏]‏‏.‏ وقال السدي‏.‏ وهو أحسن ما قيل لدلالة التنزيل والأخبار الواردة برؤية الله في الجنة‏.‏ وسيأتي بيانه في ‏}‏يونس‏}‏‏.‏ وقيل‏{‏لا تدركه الأبصار‏}‏ لا تحيط به وهو يحيط بها؛ عن ابن عباس أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تدركه أبصار القلوب، أي لا تدركه العقول فتتوهمه؛ إذ ‏}‏ليس كمثله شيء‏}‏الشورى‏:‏ 11‏]‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تدركه الأبصار المخلوقة في الدنيا، لكنه يخلق لمن يريد كرامته بصرا وإدراكا يراه فيه كمحمد عليه السلام؛ إذ رؤيته تعالى في الدنيا جائزة عقلا، إذ لو لم تكن جائزة لكان سؤال موسى عليه السلام مستحيلا، ومحال أن يجهل نبي ما يجوز على الله وما لا يجوز، بل لم يسأل إلا جائزا غير مستحيل‏.‏  واختلف السلف في رؤية نبينا عليه السلام ربه، ففي صحيح مسلم عن مسروق قال‏:‏ كنت متكئا عند عائشة، فقالت‏:‏ يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية‏.‏ قلت‏:‏ ما هن‏؟‏ قالت من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية‏.‏ قال‏:‏ وكنت متكئا فجلست فقلت‏:‏ يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني، ألم يقل الله عز وجل ‏}‏ولقد رآه بالأفق المبين‏}‏التكوير‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏}‏ولقد رآه نزلة أخرى‏}‏النجم‏:‏ 13‏]‏ ‏؟‏ فقالت‏:‏ أنا أول هذه الأمة من سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض‏)‏‏.‏ فقالت‏:‏ أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول‏{‏لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير‏}‏‏؟‏ أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول‏{‏وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا - إلى قول - علي حكيم‏}‏الشورى‏:‏ 51‏]‏ ‏؟‏ قالت‏:‏ ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ قالت‏:‏ ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول‏{‏قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله‏}‏النمل‏:‏ 65‏]‏‏.‏ إلى ما ذهبت إليه عائشة رضي الله عنها من عدم الرؤية، وأنه إنما رأى جبريل‏:‏ ابن مسعود، ومثله عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأنه رأى جبريل، واختلف عنهما‏.‏ وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين‏.‏ وعن ابن عباس أنه رآه بعينه؛ هذا هو المشهور عنه‏.‏ وحجته قوله تعالى‏{‏ما كذب الفؤاد ما رأى‏}‏النجم‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقال عب الله بن الحارث‏:‏ اجتمع ابن عباس وأبي بن كعب، فقال ابن عباس‏:‏ أما نحن بنو هاشم فنقول إن محمدا رأى ربه مرتين‏.‏ ثم قال ابن عباس‏:‏ أتعجبون أن الخلة تكون لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين‏.‏ قال‏:‏ فكبر كعب حتى جاوبته الجبال، ثم قال‏:‏ إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى عليهما السلام، فكلم موسى ورآه محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وحكى عبدالرزاق أن الحسن كان يحلف بالله لقد رأى محمد ربه‏.‏ وحكاه أبو عمر الطلمنكي عن عكرمة، وحكاه بعض المتكلمين عن ابن مسعود، والأول عنه أشهر‏.‏ وحكى ابن إسحاق أن مروان سأل أبا هريرة‏:‏ هل رأى محمد ربه‏؟‏ فقال نعم وحكى النقاش عن أحمد بن حنبل أنه قال‏:‏ أنا أقول بحديث ابن عباس‏:‏ بعينه رآه رآه‏!‏ حتى انقطع نفسه، يعني نفس أحمد‏.‏ وإلى هذا ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى الله ببصره وعيني رأسه‏.‏ وقال أنس وابن عباس وعكرمة والربيع والحسن‏.‏ وكان الحسن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأى محمد ربه‏.‏ وقال جماعة منهم أبو العالية والقرظي والربيع بن أنس‏:‏ إنه إنما رأى ربه بقلبه وفؤاده؛ وحكي عن ابن عباس أيضا وعكرمة‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ قال أحمد بن حنبل رآه بقلبه، وجبن عن القول برؤيته في الدنيا بالأبصار‏.‏ وعن مالك بن أنس قال‏:‏ لم ير في الدنيا؛ لأنه باق ولا يرى الباقي بالفاني، فإذا كان في الآخرة ورزقوا أبصارا باقية رأوا الباقي بالباقي‏.‏ قال القاضي عياض‏:‏ وهذا كلام حسن مليح، وليس فيه دليل على الاستحالة إلا من حيث ضعف القدرة؛ فإذا قوى الله تعالى من شاء من عباده وأقدره على حمل أعباء الرؤية لم يمتنع في حقه‏.‏ وسيأتي شيء من هذا في حق موسى عليه السلام في ‏}‏الأعراف‏}‏ إن شاء الله‏.‏ قوله تعالى‏{‏وهو يدرك الأبصار‏}‏ أي لا يخفى عليه شيء إلا يراه ويعلمه‏.‏ إنما خص الأبصار؛ لتجنيس الكلام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ وفي هذا الكلام دليل على أن الخلق لا يدركون الأبصار؛ أي لا يعرفون كيفية حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه دون أن يبصر من غيرهما من سائر أعضائه‏.‏ ثم قال‏{‏وهو اللطيف الخبير‏}‏ أي الرفيق بعباده؛ يقال‏:‏ لطف فلان بفلان يلطف، أي رفق به‏.‏ واللطف في الفعل الرفق فيه‏.‏ واللطف من الله تعالى التوفيق والعصمة‏.‏ وألطفه بكذا، أي بره به‏.‏ والاسم اللطف بالتحريك‏.‏ يقال‏:‏ جاءتنا من فلان لطفه؛ أي هدية‏.‏ والملاطفة المبارة؛ عن الجوهري وابن فارس‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ المعنى لطيف باستخراج الأشياء خبير بمكانها‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ اللطيف من نور قلبك بالهدى، وربى جسمك بالغذا، وجعل لك الولاية في البلوى، ويحرسك وأنت في لظى، ويدخلك جنة المأوى‏.‏ وقيل غير هذا، مما معناه راجع إلى معنى الرفق وغيره‏.‏ وسيأتي ما للعلماء من الأقوال في ذلك في ‏}‏الشورى‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏

قوله تعالى‏{‏قد جاءكم بصائر من ربكم‏}‏ أي آيات وبراهين يبصر بها ويستدل؛ جمع بصيرة وهي الدلالة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

جاؤوا بصائرهم على أكتافهم وبصيرتي يعدو بها عَتَدٌ وآي

يعني بالبصيرة الحجة البينة الظاهرة‏.‏ ووصف الدلالة بالمجيء لتفخيم شأنها؛ إذ كانت بمنزلة الغائب المتوقع حضوره للنفس؛ كما يقال‏:‏ جاءت العافية وقد انصرف المرض، وأقبل السعود وأدبر النحوس‏.‏ ‏}‏فمن أبصر فلنفسه‏}‏ الإبصار‏:‏ هو الإدراك بحاسة البصر؛ أي فمن استدل وتعرف فنفسه نفع‏.‏ ‏}‏ومن عمي فعليها‏}‏ لم يستدل، فصار بمنزلة الأعمى؛ فعلى نفسه يعود ضرر عماه‏.‏ ‏}‏وما أنا عليكم بحفيظ‏}‏ أي لم أومر بحفظكم على أن تهلكوا أنفسكم‏.‏ وقيل‏:‏ أي لا أحفظكم من عذاب الله‏.‏ وقيل‏{‏بحفظ‏}‏ برقيب؛ أحصي عليكم أعمالكم، إنما أنا رسول أبلغكم رسالات ربي، وهو الحفيظ عليكم لا يخفى عليه شيء من أفعالكم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ نزل هذا قبل فرض القتال، ثم أمر أن يمنعهم بالسيف من عبادة الأوثان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 105 ‏)‏

‏{‏وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك نصرف الآيات‏}‏ الكاف في كذلك في موضع نصب؛ أي نصرف الآيات مثل ما تلونا عليك‏.‏ أي كما صرفنا الآيات في الوعد والوعيد والوعظ والتنبيه في هذه السورة نصرف في غيرها‏.‏ ‏}‏وليقولوا درست‏}‏ والواو للعطف على مضمر؛ أي نصرف الآيات لتقوم الحجة وليقولوا درست‏.‏ وقيل‏:‏ أي ‏}‏وليقولوا درست‏}‏ صرفناها؛ فهي لام الصيرورة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ هذا كما تقول كتب فلان هذا الكتاب لحتفه؛ أي آل أمره إلى ذلك‏.‏ وكذا لما صرفت الآيات آل أمرهم إلى أن قالوا‏:‏ درست وتعلمت من جبر ويسار، وكانا غلامين نصرانيين بمكة، فقال أهل مكة‏:‏ إنما يتعلم منهما‏.‏ قال النحاس‏:‏ وفي المعنى قول آخر حسن، وهو أن يكون معنى ‏}‏نصرف الآيات‏}‏ نأتي بها آية بعد آية ليقولوا درست علينا؛ فيذكرون الأول بالآخر‏.‏ فهذا حقيقة، والذي قاله أبو إسحاق مجاز‏.‏

وفي ‏}‏درست‏}‏ سبع قراءات‏.‏ قرأ أبو عمرو وابن كثير ‏}‏دارست‏}‏ بالألف بين الدال والراء؛ كفاعلت‏.‏ وهي قراءة علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وأهل مكة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ معنى ‏}‏دارست‏}‏ تاليت‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏}‏درست‏}‏ بفتح السين وإسكان التاء غير ألف؛ كخرجت‏.‏ وهي قراءة الحسن‏.‏ وقرأ الباقون ‏}‏درست‏}‏ كخرجت‏.‏ فعلى الأولى‏:‏ دارست أهل الكتاب ودارسوك؛ أي ذاكرتهم وذاكروك؛ قال سعيد بن جبير‏.‏ ودل على هذا المعنى قوله تعالى إخبارا عنهم‏{‏وأعانه عليه قوم آخرون‏}‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ أي أعان اليهود النبي صلى الله عليه وسلم على القرآن وذاكروه فيه‏.‏ وهذا كله قول المشركين‏.‏ ومثله قولهم‏{‏وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا‏}‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏ ‏}‏إذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين‏}‏النحل‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى دارستنا؛ فيكون معناه كمعنى درست؛ ذكره النحاس واختاره، والأول ذكره مكي‏.‏ وزعم النحاس أنه مجاز؛ كما قال‏:‏

فللموت ما تلد الوالده

ومن قرأ ‏}‏درست‏}‏ فأحسن ما قيل في قراءته أن المعنى‏:‏ ولئلا يقولوا انقطعت وامحت، وليس يأتي محمد صلى الله عليه وسلم بغيرها‏.‏ وقرأ قتادة ‏}‏درست‏}‏ أي قرئت‏.‏ وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن عبيد عن الحسن أنه قرأ ‏}‏دارست‏}‏‏.‏ وكان أبو حاتم يذهب إلى أن هذه القراءة لا تجوز؛ قال‏:‏ لأن الآيات لا تدارس‏.‏ وقال غيره‏:‏ القراءة بهذا تجوز، وليس المعنى على ما ذهب إليه أبو حاتم، ولكن معناه دارست أمتك؛ أي دارستك أمتك، وإن كان لم يتقدم لها ذكر؛ مثل قوله‏{‏حتى توارت بالحجاب‏}‏ص‏:‏ 32‏]‏‏.‏ وحكى الأخفش ‏}‏وليقولوا درست‏}‏ وهو بمعنى ‏}‏درست‏}‏ إلا أنه أبلغ‏.‏ وحكى أبو العباس أنه قرئ ‏}‏وليقولوا درست‏}‏ بإسكان اللام على الأمر‏.‏ وفيه معنى التهديد؛ أي فليقولوا بما شاؤوا فإن الحق بين؛ كما قال عز وجل ‏}‏فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا‏}‏التوبة‏:‏ 82‏]‏ فأما من كسر اللام فإنها عنده لام كي‏.‏ وهذه القراءات كلها يرجع اشتقاقها إلى شيء واحد، إلى التليين والتذليل‏.‏ و‏}‏درست‏}‏ من درس يدرس دراسة، وهي القراءة على الغير‏.‏ وقيل‏:‏ درسته أي ذللته بكثرة القراءة؛ وأصله درس الطعام أي داسه‏.‏ والدياس الدراس بلغة أهل الشام‏.‏ وقيل‏:‏ أصله من درست الثوب أدرسه درسا أي أخلقته‏.‏ وقد درس الثوب درسا أي أخلق‏.‏ ويرجع هذا إلى، التذلل أيضا‏.‏ ويقال‏:‏ سمي إدريسي لكثرة دراسته لكتاب الله‏.‏ ودارست الكتب وتدارستها وادارستها أي درستها‏.‏ ودرست الكتاب درسا ودراسة‏.‏ ودرست المرأة درسا أي حاضت‏.‏ ويقال إن فرج المرأة يكنى أبا أدراس؛ وهو من الحيض‏.‏ والدرس أيضا‏:‏ الطريق الخفي‏.‏ وحكى الأصمعي‏:‏ بعير لم يدرس أي لم يركب، ودرست من درس المنزل إذا عفا‏.‏ وقرأ ابن مسعود وأصحابه وأبي وطلحة والأعمش ‏}‏وليقولوا درس‏}‏ أي درس محمد الآيات‏.‏ ‏}‏ولنبينه‏}‏ يعني القول والتصريف، أو القرآن ‏}‏لقوم يعلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 106 ‏)‏

‏{‏اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين‏}‏

قوله تعالى‏{‏اتبع ما أوحي إليك من ربك‏}‏ يعني القرآن؛ أي لا تشغل قلبك وخاطرك بهم، بل اشتغل بعبادة الله‏.‏ ‏}‏لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين‏}‏ منسوخ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 107 ‏)‏

‏{‏ولو شاء الله ما أشركوا وما جعلناك عليهم حفيظا وما أنت عليهم بوكيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو شاء الله ما أشركوا‏}‏ نص على أن الشرك بمشيئته، وهو إبطال لمذهب القدرية كما تقدم‏.‏ ‏}‏وما جعلناك عليهم حفيظا‏}‏ أي لا يمكنك حفظهم من عذاب الله‏.‏ ‏}‏وما أنت عليهم بوكيل‏}‏ أي قيم بأمورهم في مصالحهم لدينهم أو دنياهم، حتى تلطف لهم في تناول ما يجب لهم؛ فلست بحفيظ في ذلك ولا وكيل في هذا، إنما أنت مبلغ‏.‏ وهذا قبل أن يؤمر بالقتال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

‏{‏ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله‏}‏ نهي‏.‏ ‏}‏فيسبوا الله‏}‏ جواب النهي‏.‏ فنهى سبحانه لمؤمنين أن يسبوا أوثانهم؛ لأنه علم إذا سبوها نفر الكفار وازدادوا كفرا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قالت كفار قريش لأبي طالب إما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها وإما أن إلهه ونهجوه؛ فنزلت الآية‏.‏

قال العلماء‏:‏ حكمها باق في هذه الأمة على كل حال؛ فمتى كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو البني عليه السلام أو الله عز وجل، فلا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم ولا دينهم ولا كنائسهم، ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية‏.‏ وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بـ ‏}‏الذين‏}‏ على معتقد الكفرة فيها‏.‏

في هذه الآية أيضا ضرب من الموادعة، ودليل على وجوب الحكم بسد الذرائع؛ وفيها دليل على أن المحق قد يكف عن حق له إذا أدى إلى ضرر يكون في الدين‏.‏ ومن هذا المعنى ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لا تبتوا الحكم بين ذوي القرابات مخافة القطيعة‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إن كان الحق واجبا فيأخذه بكل حال وإن كان جائزا ففيه يكون هذا القول‏.‏

قوله تعالى‏{‏عدوا‏}‏ أي جهلا واعتداء‏.‏ وروي عن أهل مكة أنهم قرؤوا ‏}‏عدوا‏}‏ بضم العين والدال وتشديد الواو، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وقتادة، وهي راجعة إلى القراءة الأولى، وهما جميعا بمعنى الظلم‏.‏ وقرأ أهل مكة أيضا ‏}‏عدوا‏}‏ بفتح العين وضم الدال بمعنى عدو‏.‏ وهو واحد يؤدي عن جمع؛ كما قال‏{‏فإنهم عدو لي إلا رب العالمين‏}‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏هم العدو‏}‏ وهو منصوب على المصدر أو على المفعول من أجله‏.‏

قوله تعالى‏{‏كذلك زينا لكل أمة عملهم‏}‏ أي كما زينا لهؤلاء أعمالهم كذلك زينا لكل أمة عملهم‏.‏ قال ابن عباس‏.‏ زينا لأهل الطاعة الطاعة، ولأهل الكفر الكفر؛ وهو كقوله‏{‏كذلك يضل الله من يشاء ويهدي من يشاء‏}‏المدثر‏:‏ 31‏]‏‏.‏ وفي هذا رد على القدرية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

‏{‏وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأقسموا‏}‏ أي حلفوا‏.‏ وجهد اليمين أشدها، وهو بالله‏.‏ فقوله‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ أي غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم‏.‏ وذلك أنهم كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم، وأن هذه الآلهة إنما يعبدونها ظنا منهم أنها تقربهم إلى الله زلفى؛ كما أخبر عنهم بقوله تعالى‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى‏}‏الزمر‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وكانوا يحلفون بآبائهم وبالأصنام وبغير ذلك، وكانوا يحلفون بالله تعالى وكانوا يسمونه جهد اليمين إذا كانت اليمين بالله‏.‏ ‏}‏جهد‏}‏ منصوب على المصدر والعامل فيه ‏}‏أقسموا‏}‏ على مذهب سيبويه؛ لأنه في معناه‏.‏ والجهد ‏(‏بفتح الجيم‏)‏‏:‏ المشقة يقال‏:‏ فعلت ذلك بجهد‏.‏ والجهد ‏(‏بضمها‏)‏‏:‏ الطاقة يقال‏:‏ هذا جهدي، أي طاقتي‏.‏ ومنهم من يجعلهما واحدا، ويحتج بقول ‏}‏والذين لا يجدون إلا جهدهم‏}‏التوبة‏:‏ 79‏]‏‏.‏ وقرئ ‏}‏جهدهم‏}‏ بالفتح؛ عن ابن قتيبة‏.‏ وسبب الآية فيما ذكر المفسرون‏:‏ القرظي والكلبي وغيرهما، أن قريشا قالت‏:‏ يا محمد، تخبرنا بأن موسى ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة؛ فائتنا ببعض هذه الآيات حتى نصدقك‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏أي شيء تحبون‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ أجعل لنا الصفا ذهبا؛ فوالله إن فعلته لنتبعنك أجمعون‏.‏ فقام رسول الله صلى الله عليه سلم يدعو؛ فجاءه جبريل عليه السلام فقال‏:‏ ‏(‏إن شئت أصبح الصفا ذهبا، ولئن أرسل الله آية ولم يصدقوا عندها ليعذبنهم فأتركهم حتى يتوب تائبهم‏)‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏بل يتوب تائبهم‏)‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وبين الرب بأن من سبق العلم الأزلي بأنه لا يؤمن فإنه لا يومن وإن أقسم ليؤمنن‏.‏

قوله تعالى‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ قيل‏:‏ معناه بأغلظ الأيمان عندهم‏.‏ وتعرض هنا مسألة من الأحكام عظمى، وهي قول الرجل‏:‏ الأيمان تلزمه إن كان كذا وكذا‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وقد كانت هذه اليمين في صدر الإسلام معروفة بغير هذه الصورة، كانوا يقولون‏:‏ على أشد ما أخذه أحد على أحد؛ فقال مالك‏:‏ تطلق نساؤه‏.‏ ثم تكاثرت الصورة حتى آلت بين الناس إلى صورة هذه أمها‏.‏ وكان شيخنا الفهري الطرسوسي يقول‏:‏ يلزمه إطعام ثلاثين مسكينا إذا حنث فيها؛ لأن قوله ‏}‏الإيمان‏}‏ جمع يمين، وهو لو قال علي يمين وحنث ألزمناه كفارة‏.‏ ولو قال‏:‏ علي يمينان للزمته كفارتان إذا حنث‏.‏ والإيمان جمع يمين فيلزمه فيها ثلاث كفارات‏.‏

قلت‏:‏ وذكر أحمد بن محمد بن مغيث في وثائقه‏:‏ اختلف شيوخ القيروان فيها؛ فقال أبو محمد بن أبي زيد؛ يلزمه في زوجته ثلاث تطليقات، والمشي إلى مكة، وتفريق ثلث ماله، وكفارة يمين، وعتق رقبة‏.‏ قال ابن مغيث‏:‏ وبه قال ابن أرفع رأسه وابن بدر من فقهاء طليطلة‏.‏ وقال الشيخ أبو عمران الفاسي وأبو الحسن القابسي وأبو بكر بن عبدالرحمن القروي‏:‏ تلزمه طلقة واحدة إذا لم تكن له نية‏.‏ ومن حجتهم في ذلك رواية ابن الحسن في سماعه من ابن وهب في قوله‏{‏وأشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه ذلك كفارة يمين‏}‏‏.‏ قال ابن مغيث‏:‏ فجعل من سميناه على القائل‏{‏الإيمان تلزمه‏}‏ طلقة واحدة؛ لأنه لا يكون أسوأ حالا من قوله‏:‏ أشد ما أخذه أحد على أحد أن عليه كفارة يمين، قال وبه نقول‏.‏ قال‏:‏ واحتج الأولون بقول ابن القاسم من قال‏:‏ علي عهد الله وغليظ ميثاقه وكفالته وأشد ما أخذه أحد على أحد على أمر ألا يفعله ثم فعله؛ فقال‏:‏ إن لم يرد الطلاق ولا العتاق وعزلهما عن ذلك فلتكن ثلاث كفارات‏.‏ فان لم تكن له نية حين حلف فليكفر كفارتين في قوله‏:‏ علي عهد الله وغليظ ميثاقه‏.‏ ويعتق رقبة وتطلق نساؤه، ويمشي إلى مكة ويتصدق بثلث ما له في قوله‏:‏ وأشد ما أخذه على أحد‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ أما طريق الأدلة فإن الألف واللام في الإيمان لا تخلو أن يراد بها الجنس أو العهد؛ فإن دخلت للعهد فالمعهود قولك ‏}‏بالله‏}‏ فيكون ما قاله الفهري‏.‏ فإن دخلت للجنس فالطلاق جنس فيدخل فيها ولا يستوفى عدده، فإن الذي يكفي أن يدخل في كل جنس معنى واحد؛ فإنه لو دخل في الجنس المعنى كله للزمه أن يتصدق بجميع ما له؛ إذ قد تكون الصدقة بالمال يمينا‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل إنما الآيات عند الله‏}‏ أي قل يا محمد‏:‏ الله القادر على الآتيان بها، وإنما يأتي بها إذا شاء‏.‏ ‏}‏وما يشعركم‏}‏ أي وما يدويكم أيمانكم؛ فحذف المفعول‏.‏ ثم استأنف فقال‏{‏إنها إذا جاءت لا يؤمنون‏}‏ بكسر إن، وهي قراءة مجاهد وأبي عمرو وابن كثير‏.‏ ويشهد لهذا قراءة ابن مسعود ‏}‏وما يشعركم إذا جاءت لا يؤمنون‏}‏‏.‏ وقال مجاهد وابن زيد‏:‏ المخاطب بهذا المشركون، وتم الكلام‏.‏ حكم عليهم بأنهم لا يؤمنون، وقد أعلمنا في الآية بعد هذه أنهم لا يؤمنون‏.‏ وهذا التأويل يشبه قراءة من قرأ ‏}‏تؤمنون‏}‏ بالتاء‏.‏ وقال الفراء وغيره؛ الخطاب للمؤمنين؛ لأن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله، لو نزلت الآية لعلهم يؤمنون؛ فقال الله تعالى‏{‏وما يشعركم‏}‏ أي يعلمكم ويدريكم أيها المؤمنون‏.‏ ‏}‏أنها‏}‏ بالفتح، وهي قراءة أهل المدينة والأعمش وحمزة، أي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون‏.‏ قال الخليل‏{‏أنها‏}‏ بمعنى لعلها؛ وحكاه عنه سيبويه‏.‏ وفي التنزيل‏{‏وما يدريك لعله يزكى‏}‏عبس‏:‏ 3‏]‏ أي أنه يزكى‏.‏ وحكي عن العرب‏:‏ ايت السوق أنك تشتري لنا شيئا، أي لعلك‏.‏ وقال أبو النجم‏:‏

قلت لشيبان ادن من لقائه أنّ تغدي القوم من شوائه

وقال عدي بن زيد‏:‏

أعاذل ما يدريك أنّ منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي لعل‏.‏ وقال دريد بن الصمة‏:‏

أريني جوادا مات هزلا لأنني أري ما ترين أو بخيلا مخلدا

أي لعلني‏.‏ وهو في كلام العرب كثير ‏}‏أن‏}‏ بمعنى لعل‏.‏ وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب ‏}‏وما أدراكم لعلها‏}‏‏.‏ وقال الكسائي والفراء‏:‏ أن ‏}‏لا‏}‏ زائدة، والمعنى‏:‏ وما يشعركم أنها - أي الآيات - إذا جاءت المشركين يؤمنون، فزيدت ‏}‏لا‏}‏؛ كما زيدت ‏}‏لا‏}‏ في قوله تعالى‏{‏وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون‏}‏الأنبياء‏:‏ 95‏]‏‏.‏ لأن المعنى‏:‏ ووحرام على قرية مهلكة رجوعهم‏.‏ وفي قوله‏{‏ما منعك ألا تسجد‏}‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ ما منعك أن تسجد‏.‏ وضعف الزجاج والنحاس وغيرهما زيادة ‏}‏لا‏}‏ وقالوا‏:‏ هو غلط وخطأ؛ لأنها إنما تزاد فيما لا يشكل‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام حذف، والمعنى‏:‏ وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون أو يؤمنون، ثم حذف هذا لعلم السامع؛ ذكره النحاس وغيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ونقلب أفئدتهم وأبصارهم‏}‏ هذه آية مشكلة، ولا سيما وفيها ‏}‏ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ المعنى ونقلب أفئدتهم وأنظارهم يوم القيامة على لهب النار وحر الجمر؛ كما لم يؤمنوا في الدنيا‏.‏ ‏}‏ونذرهم‏}‏ في الدنيا، أي نمهلهم ولا نعاقبهم؛ فبعض الآية في الآخرة، وبعضها في الدنيا‏.‏ ونظيرها ‏}‏وجوه يومئذ خاشعة‏}‏الغاشية‏:‏ 2‏]‏ فهذا في الآخرة‏.‏ ‏}‏عاملة ناصبة‏}‏ في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ ونقلب في الدنيا؛ أي نحول بينهم وبين الإيمان لو جاءتهم تلك الآية، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة؛ لما دعوتهم وأظهرت المعجزة‏.‏ وفي التنزيل‏{‏واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه‏}‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏‏.‏ والمعنى‏:‏ كان ينبغي أن يؤمنوا إذا جاءتهم الآية فرأوها بأبصارهم وعرفوها بقلوبهم؛ فإذا لم يؤمنوا كان ذلك بتقليب الله قلوبهم وأبصارهم‏.‏ ‏}‏كما لم يؤمنوا به أول مرة‏}‏ ودخلت الكاف على محذوف، أي فلا يؤمنون كما لم يؤمنوا به أول مرة؛ أي أول مرة أتتهم الآيات التي عجزوا عن معارضتها مثل القرآن وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ ونقلب أفئدة هؤلاء كيلا يؤمنوا؛ كما لم تؤمن كفار الأمم السالفة لما رأوا ما اقترحوا من الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير؛ أي أنها إذا جاءت لا يؤمنون كما لم يؤمنوا أول مرة ونقلب أفئدتهم وأبصارهم‏.‏ ‏}‏ونذرهم في طغيانهم يعمهون‏}‏ يتحيرون‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة‏}‏ فرأوهم عيانا‏.‏ ‏}‏وكلمهم الموتى‏}‏ بإحيائنا إياهم‏.‏ ‏}‏وحشرنا عليهم كل شيء‏}‏ سألوه من الآيات‏.‏ ‏}‏قبلا‏}‏ مقابلة؛ عن ابن عباس وقتادة وابن زيد‏.‏ وهي قراءة نافع وابن عامر‏.‏ وقيل‏:‏ معاينة، لما آمنوا‏.‏ وقال محمد بن يزيد‏:‏ يكون ‏}‏قبلا‏}‏ بمعنى ناحية؛ كما نقول‏:‏ لي قبل فلان مال؛ فقبلا نصب على الظرف‏.‏ وقرأ الباقون ‏}‏قبلا‏}‏ بضم القاف والباء، ومعناه ضمناء؛ فيكون جمع قبيل بمعنى كفيل، نحو رغيف ورغف؛ كما قال‏{‏أو تأتي بالله والملائكة قبيلا‏}‏الإسراء‏:‏ 92‏]‏؛ أي يضمنون ذلك؛ عن الفراء‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ هو بمعنى قبيل قبيل؛ أي جماعة جماعة، وقال مجاهد، وهو نصب على الحال على القولين‏.‏ وقال محمد بن يزيد ‏}‏قبلا‏}‏ أي مقابلة؛ ومنه ‏}‏إن كان قميصه قد من قبل‏}‏يوسف‏:‏ 26‏]‏‏.‏ ومنه قبل الرجل ودبره لما كان من بين يديه ومن ورائه‏.‏ ومنه قبل الحيض‏.‏ حكى أبو زيد‏:‏ لقيت فلانا قيلا ومقابلة وقبلا وقبلا، كله بمعنى المواجهة؛ فيكون الضم كالكسر في المعنى وتستوي القراءتان؛ قاله مكي‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏قبلا‏}‏ حذف الضمة من الباء لثقلها‏.‏ وعلى قول الفراء يكون فيه نطق ما لا ينطق، وفي كفالة ما لا يعقل آية عظيمة لهم‏.‏ وعلى قول الأخفش يكون فيه اجتماع الأجناس الذي ليس بمعهود‏.‏ والحشر الجمع‏.‏ ‏}‏ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله‏}‏ ‏}‏أن‏}‏ في موضع استثناء ليس من الأول؛ أي لكن إن شاء ذلك لهم‏.‏ وقيل‏:‏ الاستثناء لأهل السعادة الذين سبق لهم في علم الله الإيمان‏.‏ وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏ولكن أكثرهم يجهلون‏}‏ أي يجهلون الحق‏.‏ وقيل‏:‏ يجهلون أنه لا يجوز اقتراح الآيات بعد أن رأوا آية واحدة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 112 ‏)‏

‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك جعلنا لكل نبي‏}‏ يعزي نبيه ويسليه، أي كما ابتليناك بهؤلاء القوم فكذلك جعلنا لكل نبي قبلك‏.‏ ‏}‏عدوا‏}‏ أي أعداء‏.‏ ثم نعتهم فقال ‏}‏شياطين الإنس والجن‏}‏ حكى سيبويه جعل بمعنى وصف‏.‏ ‏}‏عدوا‏}‏ مفعول أول‏.‏ ‏}‏لكل نبي‏}‏ في موضع المفعول الثاني‏.‏ ‏}‏شياطين الإنس والجن‏}‏ بدل من عدو‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏شياطين‏}‏ مفعولا أول، ‏}‏عدوا‏}‏ مفعولا ثانيا؛ كأنه قيل‏:‏ جعلنا شياطين الإنس والجن عدوا‏.‏ وقرأ الأعمش‏{‏شياطين الجن والإنس‏}‏ بتقديم الجن‏.‏ والمعنى واحد‏.‏ ‏}‏يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا‏}‏ عبارة عما يوسوس به شياطين الجن إلى شياطين الإنس‏.‏ وسمي وحيا لأنه إنما يكون خفية، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه؛ ومنه سمي الذهب زخرفا‏.‏ وكل شيء حسن مموه فهو زخرف‏.‏ والمزخرف المزين‏.‏ وزخارف الماء طرائقه‏.‏ و‏}‏غرورا‏}‏ نصب على المصدر، لأن معنى ‏}‏يوحي بعضهم إلى بعض‏}‏ يغرونهم بذلك غرورا‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع الحال‏.‏ والغرور الباطل‏.‏ قال النحاس‏:‏ وروي عن ابن عباس بإسناد ضعيف أنه قال في قول الله عز وجل ‏}‏يوحي بعضهم إلى بعض‏}‏ قال‏:‏ مع كل جني شيطان، ومع كل إنسي شيطان، فيلقى أحدهما الآخر فيقول‏:‏ إني قد أضللت صاحبي بكذا فأضل صاحبك بمثله‏.‏ ويقول الآخر مثل ذلك؛ فهذا وحي بعضهم إلى بعض‏.‏ وقاله عكرمة والضحاك والسدي والكلبي‏.‏ قال النحاس‏:‏ والقول الأول يدل عليه ‏}‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم‏}‏الأنعام‏:‏121‏]‏؛ فهذا يبين معنى ذلك‏.‏

قلت‏:‏ ويدل عليه من صحيح السنة قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن‏)‏ قيل‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ولا أنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير‏)‏‏.‏ روي ‏(‏فأسلم‏)‏ برفع الميم ونصبها‏.‏ فالرفع على معنى فأسلم من شره‏.‏ والنصب على معنى فأسلم هو‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏ما منكم من أحد‏)‏ ولم يقل ولا من الشياطين؛ إلا أنه يحتمل أن يكون نبه على أحد الجنسين بالآخر؛ فيكون من باب ‏}‏سرابيل تقيكم الحر‏}‏النحل‏:‏ 81‏]‏ وفيه بعد، والله أعلم‏.‏ وروى عوف بن مالك عن أبي ذر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن‏)‏‏؟‏ قال قلت‏:‏ يا رسول الله، وهل للإنس من شياطين‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم هم شر من شياطين الجن‏)‏‏.‏ وقال مالك بن دينار‏:‏ إن شيطان الإنس أشد علي من شيطان الجن، وذلك أني إذا تعوذت بالله ذهب عني شيطان الجن، وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا‏.‏ وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه امرأة تنشد‏:‏

إن النساء رياحين خلقن لكم وكلكم يشتهي شم الرياحين

فأجابها عمر رضي الله عنه‏:‏

إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين

قوله تعالى‏{‏ولو شاء ربك ما فعلوه‏}‏ أي ما فعلوا إيحاء القول بالغرور‏.‏ ‏}‏فذرهم‏}‏ أمر فيه معنى التهديد‏.‏ قال سيبويه‏:‏ ولا يقال وذر ولا ودع، استغنوا عنهما بترك‏.‏

قلت‏:‏ هذا إنما خرج على الأكثر‏.‏ وفي التنزيل‏{‏وذر الذين‏}‏ و‏}‏ذرهم‏}‏ و‏}‏ما ودعك‏}‏الضحى‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وفي السنة ‏(‏لينتهن أقوام عن ودعهم الجمعات‏)‏‏.‏ وقول‏:‏ ‏(‏إذا فعلوا - يريد المعاصي - فقد تودع منهم‏)‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الواو ثقيلة؛ فلما كان ‏}‏ترك‏}‏ ليس فيه واو بمعنى ما فيه الواو ترك ما فيه الواو‏.‏ وهذا معنى قول وليس بنصه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 113 ‏)‏

‏{‏ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولتصغى إليه أفئدة‏}‏ تصغى تميل؛ يقال‏:‏ صغوت أصغو صغوا وصغوا، وصغيت أصغي، وصغيت بالكسر أيضا‏.‏ يقال منه‏:‏ صغي يصغى صغى وصغيا، وأصغيت إليه إصغاء بمعنىً‏.‏

قال الشاعر‏:‏

ترى السفيه به عن كل محكمة زيغ وفيه إلى التشبيه إصغاء

ويقال‏:‏ أصغيت الإناء إذا أملته ليجتمع ما فيه‏.‏ وأصله الميل إلى الشيء لغرض من الأغراض‏.‏ ومنه صغت النجوم‏:‏ مالت للغروب‏.‏ وفي التنزيل‏{‏فقد صغت قلوبكما‏}‏التحريم‏:‏ 4‏]‏‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ يقال صغوه معك وصغوه، وصغاه معك، أي ميله‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏فأصغى لها الإناء‏)‏ يعني للهرة‏.‏ وأكرموا فلانا في صاغيته، أي في قرابته الذين يميلون إليه ويطلبون ما عنده‏.‏ وأصغت الناقة إذا أمالت رأسها إلى الرجل كأنها تستمع شيئا حين يشد عليها الرحل‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

تصغي إذا شدها بالكور جانحة حتى إذا ما استوى في غرزها تثب

واللام في ولتصغى لام كي، والعامل فيها ‏}‏يوحي‏}‏ تقديره‏:‏ يوحي بعضهم إلى بعض ليغروهم ولتصغى‏.‏ وزعم بعضهم أنها لام الأمر، وهو غلط؛ لأنه كان يجب ‏}‏ولتصغ إليه‏}‏ بحذف الألف، وإنما هي لام كي‏.‏ وكذلك ‏}‏وليرضوه وليقترفوا‏}‏ إلا أن الحسن قرأ ‏}‏وليرضوه وليقترفوا‏}‏ بإسكان اللام، جعلها لام أمر فيه معنى التهديد؛ كما يقال‏:‏ افعل ما شئت‏.‏ ومعنى ‏}‏وليقترفوا ما هم مقترفون‏}‏ أي وليكتسبوا؛ عن ابن عباس والسدي وابن زيد‏.‏ يقال‏:‏ خرج يقترف أهله أي يكتسب لهم‏.‏ وقارف فلان هذا الأمر إذا واقعه وعمله‏.‏ وقرفتني بما ادعيت علي، أي رميتني بالريبة‏.‏ وقرف القرحة إذا قشر منها‏.‏ واقترف كذبا‏.‏ قال رؤبة‏:‏

أعيا اقتراف الكذب المقروف تقوى التقي وعفة العفيف

وأصله اقتطاع قطعة من الشيء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 114 ‏)‏

‏{‏أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفغير الله أبتغي حكما‏}‏ ‏}‏غير‏}‏ نصب بـ ‏}‏أبتغي‏}‏‏.‏ ‏}‏حكما‏}‏ نصب على البيان، وإن شئت على الحال‏.‏ والمعنى‏:‏ أفغير الله أطلب لكم حاكما وهو كفاكم مؤونة المسألة في الآيات بما أنزله إليكم من الكتاب المفصل، أي المبين‏.‏ ثم قيل‏:‏ الحكم أبلغ من الحاكم؛ إذ لا يستحق التسمية بحكم إلا من يحكم بالحق، لأنها صفة تعظيم في مدح‏.‏ والحاكم صفة جارية على الفعل، فقد يسمى بها من يحكم بغير الحق‏.‏ ‏}‏والذين آتيناهم الكتاب‏}‏ يريد اليهود والنصارى‏.‏ وقيل‏:‏ من أسلم منهم كسلمان وصهيب وعبدالله بن سلام‏.‏ ‏}‏يعلمون أنه‏}‏ أي القرآن‏.‏ ‏}‏منزل من ربك بالحق‏}‏ أي أن كل ما فيه من الوعد والوعيد لحق ‏}‏فلا تكونن من الممترين‏}‏ أي من الشاكين في أنهم يعلمون أنه منزل من عند الله‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الذين آتيناهم الكتاب وهم رؤساء أصحاب محمد عليه السلام‏:‏ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 115 ‏)‏

‏{‏وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وتمت كلمة ربك‏}‏ قراءة أهل الكوفة بالتوحيد، والباقون بالجمع‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ مواعيد ربك، فلا مغير لها‏.‏ والكلمات ترجع إلى العبارات أو إلى المتعلقات من الوعد والوعيد وغيرهما‏.‏ قال قتادة‏:‏ الكلمات هي القرآن لا مبدل له، لا يزيد فيه المفترون ولا ينقصون‏.‏ ‏}‏صدقا وعدلا‏}‏ أي فيما وعد وحكم، لا راد لقضائه ولا خلف في وعده‏.‏ وحكى الرماني، عن قتادة‏.‏ لا مبدل لها فيما حكم به، أي إنه وإن أمكنه التغيير والتبديل في الألفاظ كما غير أهل الكتاب التوراة والإنجيل فإنه لا يعتد بذلك‏.‏ ودلت الآية على وجوب اتباع دلالات القرآن؛ لأنه حق لا يمكن تبديله بما يناقضه، لأنه من عند حكيم لا يخفى عليه شيء من الأمور كلها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 116 ‏)‏

‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن تطع أكثر من في الأرض‏}‏ أي الكفار‏.‏ ‏}‏يضلوك عن سبيل الله‏}‏ أي عن الطريق التي تؤدي إلى ثواب الله‏.‏ ‏}‏إن يتبعون إلا الظن‏}‏ ‏}‏إن‏}‏ بمعنى ما، وكذلك ‏}‏وإن هم إلا يخرصون‏}‏ أي يحدسون ويقدرون؛ ومنه الخرص، وأصله القطع‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ترى قصد المران فينا كأنه تذرع خرصان بأيدي الشواطب

يعني جريدا يقطع طولا ويتخذ منه الخرص‏.‏ وهو جمع الخرص؛ ومنه خرص يخرص النخل خرصا إذا حزره ليأخذ الخراج منه‏.‏ فالخارص يقطع بما لا يجوز القطع به؛ إذ لا يقين معه‏.‏ وسيأتي لهذا مزيد بيان في ‏}‏الذاريات‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 117 ‏)‏

‏{‏إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن ربك هو أعلم‏}‏ قال بعض الناس‏:‏ إن ‏}‏أعلم‏}‏ هنا بمعنى يعلم؛ وأنشد قول حاتم الطائي‏:‏

تحالفت طيء من دوننا حلفا والله أعلم ما كنا لهم خذلا

وقول الخنساء‏:‏

الله أعلم أن جفنته تغدو غداة الريح أو تسري

وهذا لا حجة فيه؛ لأنه لا يطابق ‏}‏هو أعلم بالمهتدين‏}‏‏.‏ ولأنه يحتمل أن يكون على أصله‏.‏ ‏}‏من يضل عن سبيله‏}‏ ‏}‏من‏}‏ بمعنى أي؛ فهو في محل رفع والرافع له ‏}‏يضل‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ في محل نصب بأعلم، أي إن ربك أعلم أي الناس يضل عن سبيله‏.‏ وقيل‏:‏ في محل نصب بنزع الخافض؛ أي بمن يضل‏.‏ قال بعض البصريين، وهو حسن؛ لقوله‏{‏وهو أعلم بالمهتدين‏}‏ وقوله في آخر النحل‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين‏}‏النحل‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وقرئ ‏}‏يضل‏}‏ وهذا على حذف المفعول، والأول أحسن؛ لأنه قال‏{‏وهو أعلم بالمهتدين‏}‏‏.‏ فلو كان من الإضلال لقال وهو أعلم بالهادين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 118 ‏)‏

‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏}‏ نزلت بسبب أناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله، إنا نأكل ما نقتل ولا نأكل ما قتل الله‏؟‏ فنزلت ‏}‏فكلوا‏}‏ إلى قوله ‏}‏وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏ خرجه الترمذي وغيره‏.‏ قال عطاء‏:‏ هذه الآية أمر بذكر اسم الله على الشراب والذبح وكل مطعوم‏.‏ وقوله‏{‏إن كنتم بآياته مؤمنين‏}‏ أي بأحكامه وأوامره آخذين؛ فإن الإيمان بها يتضمن ويقتضي الأخذ بها والانقياد لها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 119‏)‏

‏{‏وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏}‏ المعنى ما المانع لكم من أكل ما سميتم عليه ربكم وإن قتلتموه بأيديكم‏.‏ ‏}‏وقد فصل‏}‏ أي بين لكم الحلال من الحرام، وأزيل عنكم اللبس والشك‏.‏ فـ ‏}‏ما‏}‏ استفهام يتضمن التقرير‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ وأي شيء لكم في ألا تأكلوا‏.‏ ‏}‏فأن‏}‏ في موضع خفض بتقدير حرف الجر‏.‏ ويصح أن تكون في موضع نصب على ألا يقدر حرف جر، ويكون الناصب معنى الفعل الذي في قوله ‏}‏مالكم‏}‏ تقديره أي ما يمنعكم‏.‏ ثم استثنى فقال ‏}‏إلا ما اضطررتم إليه‏}‏ يريد من جميع ما حرم كالميتة وغيرها وهو استثناء منقطع‏.‏ وقرأ نافع ويعقوب ‏}‏وقد فصل لكم ما حرم‏}‏ بفتح الفعلين‏.‏ وقرأ أبو عمرو وابن عامر وابن كثير بالضم فيهما، والكوفيون ‏}‏فصل‏}‏ بالفتح ‏}‏حرم‏}‏ بالضم‏.‏ وقرأ عطية العوفي ‏}‏فصل‏}‏ بالتخفيف‏.‏ ومعناه أبان وظهر؛ كما قرئ ‏}‏الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت‏}‏هود‏:‏ 1‏]‏ أي استبانت‏.‏ واختار أبو عبيدة قراءة أهل المدينة‏.‏ وقيل‏{‏فصل‏}‏ أي بين، وهو ما ذكره في سورة ‏}‏المائدة‏}‏ من قوله‏{‏حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ الآية‏.‏

قلت‏:‏ هذا فيه نظر؛ فإن ‏}‏الأنعام‏}‏ مكية والمائدة مدنية فكيف يحيل بالبيان على ما لم ينزل بعد، إلا أن يكون فصل بمعنى يفصل‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن كثيرا ليضلون‏}‏ وقرأ الكوفيون ‏}‏يضلون‏}‏ من أضل‏.‏ ‏}‏بأهوائهم بغير علم‏}‏ يعني المشركين حيث قالوا‏:‏ ما ذبح الله بسكينه خير مما ذبحتم بسكاكينكم ‏}‏بغير علم‏}‏ أي بغير علم يعلمونه في أمر الذبح؛ إذ الحكمة فيه إخراج ما حرمه الله علينا من الدم بخلاف ما مات حتف أنفه؛ ولذلك شرع الذكاة في محل مخصوص ليكون الذبح فيه سببا لجذب كل دم في الحيوان بخلاف غيره من الأعضاء والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 120 ‏)‏

‏{‏وذروا ظاهر الإثم وباطنه إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وذروا ظاهر الإثم وباطنه‏}‏ للعلماء فيه أقوال كثيرة‏.‏ وحاصلها راجع إلى أن الظاهر ما كان عملا بالبدن مما نهى الله عنه، وباطنه ما عقد بالقلب من مخالفة أمر الله فيما أم ونهى؛ وهذه المرتبة لا يبلغها إلا من اتقى وأحسن؛ كما قال‏{‏ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا‏}‏المائدة‏:‏ 93‏]‏‏.‏ وهي المرتبة الثالثة‏.‏ حسب ما تقدم بيانه في ‏(‏المائدة‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما كان عليه الجاهلية من الزنا الظاهر واتخاذ الحلائل في الباطن‏.‏ وما قدمنا جامع لكل إثم وموجب لكل أمر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 121 ‏)‏

‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون‏}‏

روى أبو داود قال‏:‏ جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله‏؟‏ فأنزل الله عز وجل‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ وروى النسائي عن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏ قال‏:‏ خاصمهم المشركون فقالوا‏:‏ ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم أكلتموه؛ فقال الله سبحانه لهم‏:‏ لا تأكلوا؛ فإنكم لم تذكروا اسم الله عليها‏.‏ وتنشأ هنا مسألة أصولية، وهي أن اللفظ الوارد على سبب هل يقصر عليه أم لا؛ فقال علماؤنا‏:‏ لا إشكال في صحة دعوى العموم فيما يذكره الشارع ابتداء من صيغ ألفاظ العموم‏.‏ أما ما ذكره جوابا لسؤال ففيه تفصيل، على ما هو معروف في أصول الفقه؛ إلا أنه إن أتى بلفظ مستقل دون السؤال لحق بالأول في صحة القصد إلى التعميم‏.‏ فقول‏{‏لا تأكلوا‏}‏ ظاهر في تناول الميتة، وتدخل فيه ما ذكر عليه غير اسم الله بعموم أنه لم يذكر عليه اسم الله، وبزيادة ذكر غير اسم الله سبحانه عليه الذي يقتضي تحريمه نصا بقول‏{‏وما أهل به لغير الله‏}‏البقرة‏:‏ 173‏]‏‏.‏ وهل يدخل فيه ما ترك المسلم التسمية عمدا عليه من الذبح، وعند إرسال الصيد‏.‏  اختلف العلماء في ذلك على أقوال خمسة، وهي

القول الأول‏:‏ إن تركها سهوا أكلا جميعا، وهو قول إسحاق ورواية عن أحمد بن حنبل‏.‏ فإن تركها عمدا لم يؤكلا؛ وقال في الكتاب مالك وابن القاسم، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي وعيسى وأصبغ، وقاله سعيد بن جبير وعطاء، واختاره النحاس وقال‏:‏ هذا أحسن، لأنه لا يسمى فاسقا إذا كان ناسيا‏.‏

الثاني‏:‏ إن تركها عامدا أو ناسيا يأكلهما‏.‏ وهو قول الشافعي والحسن، وروي ذلك عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وعكرمة وأبي عياض وأبي رافع وطاوس وإبراهيم النخعي وعبدالرحمن بن أبي ليلى وقتادة‏.‏ وحكى الزهراوي عن مالك بن أنس أنه قال‏:‏ تؤكل الذبيحة التي تركت التسمية عليها عمدا أو نسيانا‏.‏ وروي عن ربيعة أيضا‏.‏ قال عبدالوهاب‏:‏ التسمية سنة؛ فإذا تركها الذابح ناسيا أكلت الذبيحة في قول مالك وأصحابه‏.‏

الثالث‏:‏ إن تركها عامدا أو ساهيا حرم أكلها؛ قال محمد بن سيرين وعبدالله بن عياش بن أبي ربيعة وعبدالله بن عمر ونافع وعبدالله بن زيد الخطمي والشعبي؛ وبه قال أبو ثور وداود بن علي وأحمد في رواية‏.‏

الرابع‏:‏ إن تركها عامدا كره أكلها؛ قاله القاضي أبو الحسن والشيخ أبو بكر من علمائنا‏.‏

الخامس‏:‏ قال أشهب‏:‏ تؤكل ذبيحة تارك التسمية عمدا إلا أن يكون مستخفا، وقال نحوه الطبري‏.‏ أدلة قال الله تعالى‏{‏فكلوا مما ذكر اسم الله عليه‏}‏الأنعام‏:‏ 118‏]‏ وقال‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏ فبين الحالين وأوضح الحكمين‏.‏ فقول‏{‏لا تأكلوا‏}‏ نهي على التحريم لا يجوز حمله على الكراهة؛ لتناول في بعض مقتضياته الحرام المحض، ولا يجوز أن يتبعض، أي يراد به التحريم والكراهة معا؛ وهذا من نفيس الأصول‏.‏ وأما الناسي فلا خطاب توجه إليه إذ يستحيل خطابه؛ فالشرط ليس بواجب عليه‏.‏ وأما التارك للتسمية عمدا فلا يخلو من ثلاثة أحوال‏:‏ إما أن يتركها إذا أضجع الذبيحة ويقول‏:‏ قلبي مملوء من أسماء الله تعالى وتوحيده فلا أفتقر إلى ذكر بلساني؛ فذلك يجزئه لأنه ذكر الله جل جلال وعظمه‏.‏ أو يقول‏:‏ إن هذا ليس بموضع تسمية صريحة، إذ ليست بقربة؛ فهذا أيضا يجزئه‏.‏ أو يقول‏:‏ لا أسمي، وأي قدر للتسمية؛ فهذا متهاون فاسق لا تؤكل ذبيحته‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وأعجب لرأس المحققين أمام الحرمين حيث قال‏:‏ ذكر الله تعالى إنما شرع في القرب، والذبح ليس بقربة‏.‏ وهذا يعارض القرآن والسنة؛ قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح‏:‏ ‏(‏ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ المراد بذكر اسم الله بالقلب؛ لأن الذكر يضاد النسيان ومحل النسيان القلب فمحل الذكر القلب، وقد روى البراء بن عازب‏:‏ اسم الله على قلب كل مؤمن سمى أو لم يسم‏.‏ قلنا‏:‏ الذكر باللسان وبالقلب، والذي كانت العرب تفعله تسمية الأصنام والنصب باللسان، فنسخ الله ذلك بذكره في الألسنة، وأشتهر ذلك في الشريعة حتى قيل لمالك‏:‏ هل يسمي الله تعالى إذا توضأ فقال‏:‏ أيريد أن يذبح‏.‏ وأما الحديث الذي تعلقوا به من قوله‏:‏‏(‏اسم الله على قلب كل مؤمن‏)‏ فحديث ضعيف‏.‏ وقد استدل جماعة من أهل العلم على أن التسمية على الذبيحة ليست بواجبة؛ لقوله عليه السلام لأناس سألوه، قالوا‏:‏ يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري اذكروا اسم الله عليه أم لا‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏{‏سموا الله عليه وكلوا‏}‏‏.‏ أخرجه الدارقطني عن عائشة ومالك مرسلا عن هشام بن عروة عن أبيه، لم يختلف عليه في إرساله‏.‏ وتأول بأن قال في آخره‏:‏ وذلك في أول الإسلام‏.‏ يريد قبل أن ينزل عليه‏}‏ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا ضعيف، وفي الحديث نفسه ما يرده، وذلك أنه أمرهم فيه بتسمية الله على الأكل؛ فدل على أن الآية قد كانت نزلت عليه‏.‏ ومما يدل على صحة ما قلناه أن هذا الحديث كان بالمدينة، ولا يختلف العلماء أن قوله تعالى‏{‏ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه‏}‏ نزل في سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ بمكة‏.‏ ومعنى ‏}‏وإنه لفسق‏}‏ أي لمعصية عن ابن عباس‏.‏ والفسق‏:‏ الخروج‏.‏ وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم‏}‏ أي يوسوسون فيلقون في قلوبهم الجدال بالباطل‏.‏ روى أبو داود عن ابن عباس في قوله‏{‏وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم‏}‏ يقولون‏:‏ ما ذبح الله فلا تأكلوه، وما ذبحتم أنتم فكلوه، فأنزل الله ‏}‏ولا تأكلوا مما لو يذكر اسم الله عليه‏}‏ قال عكرمة‏:‏ عنى بالشياطين في هذه الآية مردة الإنس من مجوس فارس‏.‏ وقال ابن عباس وعبدالله بن كثير‏:‏ بل الشياطين الجن، وكفرة الجن أولياء قريش‏.‏ وروي عن عبدالله بن الزبير أنه قيل له‏:‏ إن المختار يقول‏:‏ يوحى إلى فقال‏:‏ صدق، إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم‏.‏ وقوله‏{‏ليجادلوكم‏}‏‏.‏ يريد قولهم‏:‏ ما قتل الله لم تأكلوه وما قتلتموه أكلتموه‏.‏ والمجادلة‏:‏ دفع القول على طريق الحجة بالقوة؛ مأخوذ من الأجدل، طائر قوي‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الجدالة، وهي الأرض؛ فكأنه يغلبه بالحجة يقهره حتى يصير كالمجدول بالأرض‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من الجدل، وهو شدة القتل؛ فكأن كل واحد منهما يفتل حجة صاحبه حتى يقطعها، وتكون حقا في نصرة الحق وباطلا في نصرة الباطل‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن أطعتموهم‏}‏ أي في تحليل الميتة ‏}‏إنكم لمشركون‏}‏‏.‏ فدلت الآية على أن من استحل شيئا مما حرم الله تعالى صار به مشركا‏.‏ وقد حرم الله سبحانه الميتة نصا؛ فإذا قبل تحليلها من غيره فقد أشرك‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ إنما يكون المؤمن بطاعة المشرك مشركا إذا أطاعه في الاعتقاد؛ فأما إذا أطاعه في الفعل وعقده سليم مستمر على التوحيد والتصديق فهو عاص؛ فافهموه‏.‏ وقد مضى في ‏}‏المائدة‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 122 ‏)‏

‏{‏أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أومن كان ميتا فأحييناه‏}‏ قرأ الجمهور بفتح الواو، دخلت عليها همزة الاستفهام‏.‏ وروى المسيبي عن نافع بن أبي نعيم ‏}‏أو من كان‏}‏ بإسكان الواو‏.‏ قال النحاس‏:‏ يحوز أن يكون محمولا على المعنى، أي انظروا وتدبروا أغير الله أبتغي حكما‏.‏ ‏}‏أو من كان ميتا فأحييناه‏}‏ قيل‏:‏ معناه كان ميتا حين كان نطفة فأحييناه بنفخ الروح فيه؛ حكاه ابن بحر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أو من كان كافرا فهديناه‏.‏ نزلت في حمزة بن عب المطلب وأبي جهل‏.‏ وقال زيد بن أسلم والسدي‏{‏فأحييناه‏}‏ عمر رضي الله عنه‏.‏ ‏}‏كمن مثله في الظلمات‏}‏ أبو جهل لعنه الله‏.‏ والصحيح أنها عامة في كل مؤمن وكافر‏.‏ وقيل‏:‏ كان ميتا بالجهل فأحييناه بالعلم‏.‏ وأنشد بعض أهل العلم ما يدل على صحة هذا التأويل لبعض شعراء البصرة‏:‏

وفي الجهل قبل الموت موت لأهله فأجسامهم قبل القبور قبور

وإن امرأ لم يحي بالعلم ميت فليس له حتى النشور نشور

والنور عبارة عن الهدى والإيمان‏.‏ وقال الحسن‏:‏ القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ الحكمة‏.‏ وقيل‏:‏ هو النور المذكور في قوله‏{‏يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم‏}‏الحديد‏:‏ 12‏]‏، وقوله‏{‏انظرونا نقتبس من نوركم‏}‏الحديد‏:‏ 13‏]‏‏.‏ ‏}‏يمشي به‏}‏ أي بالنور ‏}‏كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها‏}‏ أي كمن هو فمثل زائدة‏.‏ تقول‏:‏ أنا أكرم مثلك؛ أي أكرمك‏.‏ ومثله ‏}‏فجزاء مثل ما قتل من النعم‏}‏المائدة‏:‏ 95‏]‏، ‏}‏ليس كمثله شيء‏}‏الشورى‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كمن مثله ما قتل من هو في الظلمات‏.‏ والمثل والمثل واحد‏.‏ ‏}‏كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون‏}‏ أي زين لهم الشيطان عبادة الأصنام وأوهمهم أنهم أفضل من المسلمين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 123 ‏)‏

‏{‏وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها‏}‏ المعنى‏:‏ وكما زينا للكافرين ما كانوا يعملون كذلك جعلنا في كل قرية‏.‏ ‏}‏مجرميها‏}‏ مفعول أول لجعل ‏}‏مفعول ثاني على التقديم والتأخير‏.‏ وجعل بمعنى صير‏.‏ والأكابر جمع الأكبر‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يريد العظماء‏.‏ وقيل‏:‏ الرؤساء والعظماء‏.‏ وخصهم بالذكر لأنهم أقدر على الفساد‏.‏ والمكر الحيلة في مخالفة الاستقامة، أصله الفتل؛ فالماكر يفتل عن الاستقامة أي يصرف عنها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانوا يجلسون على كل عقبة أربعة ينفرون الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما فعل من قبلهم من الأمم السالفة بأنبيائهم‏.‏ ‏}‏وما يمكرون إلا بأنفسهم‏}‏ أي وبال مكرهم راجع إليهم‏.‏ وهو من الله عز وجل الجزاء على مكر الماكرين بالعذاب الأليم‏.‏ ‏}‏وما يشعرون‏}‏ في الحال؛ لفرط جهلهم أن وبال مكرهم عائد إليهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 124 ‏)‏

‏{‏وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن‏}‏ بين شيئا آخر من جهلهم، وهو أنهم قالوا لن نؤمن حتى نكون أنبياء، فنؤتى مثل ما أوتي موسى وعيسى من الآيات؛ ونظيره ‏}‏بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة‏}‏المدثر‏:‏ 52‏]‏‏.‏ والكناية في ‏}‏جاءتهم‏}‏ ترجع إلى الأكابر الذين جرى ذكرهم‏.‏ قال الوليد بن المغيرة‏:‏ لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك؛ لأني أكبر منك سنا، وأكثر منك ما لا‏.‏ وقال أبو جهل‏:‏ والله لا نرضى به ولا نتبعه أبدا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه؛ فنزلت الآية‏.‏ وقيل‏:‏ لم يطلبوا النبوة ولكن قالوا لا نصدقك حتى يأتينا جبريل والملائكة يخبروننا بصدقك‏.‏ والأول أصح؛ لأن الله تعالى قال‏{‏الله أعلم حيث يجعل رسالته‏}‏الأنعام‏:‏ 124‏]‏ أي بمن هو مأمون عليها وموضع لها‏.‏ و‏}‏حيث‏}‏ ليس ظرفا هنا، بل هو اسم نصب نصب المفعول به على الاتساع؛ أي الله أعلم أهل الرسالة‏.‏ وكان الأصل الله أعلم بمواضع رسالته، ثم حذف الحرف، ولا يجوز أن يعمل ‏}‏أعلم‏}‏ في ‏}‏حيث‏}‏ ويكون ظرفا، لأن المعنى يكون على ذلك الله أعلم في هذا الموضع، وذلك لا يجوز أن يوصف به الباري تعالى، وإنما موضعها نصب بفعل مضمر دل عليه ‏}‏أعلم‏}‏‏.‏ وهي اسم كما ذكرنا‏.‏ والصغار‏:‏ الضيم والذل والهوان، وكذلك الصغر ‏(‏بالضم‏)‏‏.‏ والمصدر الصغر ‏(‏بالتحريك‏)‏‏.‏ وأصله من الصغر دون الكبر؛ فكأن الذل يصغر إلى المرء نفسه، وقيل‏:‏ أصله من الصغر وهو الرضا بالذل؛ يقال منه‏:‏ صغر يصغر بفتح الغين في الماضي وضمها في المستقبل‏.‏ وصغر بالكسر يصغر بالفتح لغتان، صغرا وصغارا، واسم الفاعل صاغر وصغير‏.‏ والصاغر‏:‏ الراضي بالضيم‏.‏ والمصغوراء الصغار‏.‏ وأرض مصغرة‏:‏ نبتها لم يطل؛ عن ابن السكيت‏.‏ ‏}‏عند الله‏}‏ أي من عند الله، فحذف‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، أي سيصيب الذين أجرموا عند الله صغار‏.‏ الفراء‏:‏ سيصيب الذين أجرموا صغار من الله‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى سيصيب الذين أجرموا صغار ثابت عند الله‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا أحسن الأقوال؛ لأن ‏}‏عند‏}‏ في موضعها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 125 ‏)‏

‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام‏}‏ أي يوسعه له، ويوفقه ويزين عنده ثوابه‏.‏ ويقال‏:‏ شرح شق، وأصله التوسعة‏.‏ وشرح الله صدره وسعه بالبيان لذلك‏.‏ وشرحت الأمر‏:‏ بنته وأوضحته‏.‏ وكانت قريش تشرح النساء شرحا، وهو مما تقدم‏:‏ من التوسعة والبسط، وهو وطء المرأة مستلقية على قفاها‏.‏ فالشرح‏:‏ الكشف؛ تقول‏:‏ شرحت الغامض؛ ومنه تشريح اللحم‏.‏ قال الراجز‏:‏

كم قد أكلت كبدا وإنفحه ثم ادخرت إلية مُشَرَّحَه

والقطعة منه شريحة‏.‏ وكل سمين من اللحم ممتد فهو شريحة‏.‏ ‏}‏ومن يرد أن يضله‏}‏ يغويه ‏}‏يجعل صدره ضيقا حرجا‏}‏ وهذا رد على القدرية‏.‏ ونظير هذه الآية من السنة قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين‏)‏ أخرجه الصحيحان‏.‏ ولا يكون ذلك إلا بشرح الصدر وتنويره‏.‏ والدين العبادات؛ كما قال‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ودليل خطابه أن من لم يرد الله به خيرا ضيق صدره، وأبعد فهمه فلم يفقهه‏.‏ والله أعلم‏.‏ وروي أن عبدالله بن مسعود قال‏:‏ يا رسول الله، وهل ينشرح الصدر‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏نعم يدخل القلب نور‏)‏ فقال‏:‏ وهل لذلك من علامة‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏التجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزول الموت‏)‏‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏}‏ضيقا‏}‏ بالتخفيف؛ مثل هين ولين لغتان‏.‏ ونافع وأبو بكر ‏}‏حرجا‏}‏ بالكسر، ومعناه الضيق‏.‏ كرر المعنى، وحسن ذلك لاختلاف اللفظ‏.‏ والباقون بالفتح‏.‏ جمع حرجة؛ وهو شدة الضيق أيضا، والحرجة الغيضة؛ والجمع حرج وحرجات‏.‏ ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه في تركه هواه للمعاصي؛ قال الهروي‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الحرج موضع الشجر الملتف؛ فكأن قلب الكافر لا تصل إليه الحكمة كما لا تصل الراعية إلى الموضع الذي التف شجره‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا المعنى؛ ذكره مكي والثعلبي وغيرهما‏.‏ وكل ضيق حرج‏.‏ قال الجوهري‏:‏ مكان حرج وحرج أي ضيق كثير الشجر لا تصل إليه الراعية‏.‏ وقرئ ‏}‏يجعل صدره ضيقا حرجا‏}‏ و‏}‏حرجا‏}‏‏.‏ وهو بمنزلة الوحد والوحد والفرد والفرد والدنف والدنف؛ في معنى واحد، وحكاه غيره عن الفراء‏.‏ وقد حرج صدره يحرج حرجا‏.‏ والحرج الإثم‏.‏ والحرج أيضا‏:‏ الناقة الضامرة‏.‏ ويقال‏:‏ الطويلة على وجه الأرض؛ عن أبي زيد، فهو لفظ مشترك‏.‏ والحرج‏:‏ خشب يشد بعضه إلى بعض يحمل فيه الموتى؛ عن الأصمعي‏.‏ وهو قول امرئ القيس‏:‏

فإما تريني في رحالة جابر على حرج كالقر تخفق أكفاني

وربما وضع فوق نعش النساء؛ قال عنترة يصف ظليما‏:‏

يتبعن قلة رأسه وكأنه حرج على نعش لهن مخيم

وقال الزجاج‏:‏ الحرج‏:‏ أضيق الضيق‏.‏ فإذا قيل‏.‏ فلان حرج الصدر، فالمعنى ذو حرج في صدره‏.‏ فإذا قيل‏:‏ حرج فهو فاعل‏.‏ قال النحاس‏:‏ حرج اسم الفاعل، وحرج مصدر وصف به؛ كما يقال‏:‏ رجل عدل ورضا‏.‏

قوله تعالى‏{‏كأنما يصعد في السماء‏}‏ قرأه ابن كثير بإسكان الصاد مخففا، من الصعود هو الطلوع‏.‏ شبه الله الكافر في نفوره من الإيمان وثقله عليه بمنزلة من تكلف ما لا يطيقه؛ كما أن صعود السماء لا يطاق‏.‏ وكذلك يصاعد وأصله يتصاعد، أدغمت التاء في الصاد، وهي قراءة أبي، بكر والنخعي؛ إلا أن فيه معنى فعل شيء بعد شيء، وذلك أثقل على فاعله‏.‏ وقرأ الباقون بالتشديد من غير ألف، وهو كالذي قبله‏.‏ معناه يتكلف ما لا يطيق شيئا بعد شيء؛ كقولك‏:‏ يتجرع ويتفوق‏.‏ وروي عن عبدالله بن مسعود أنه قرأ ‏}‏كأنما يتصعد‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومعنى هذه القراءة وقراءة من قرأ يصعد ويصاعد واحد‏.‏ والمعنى فيهما أن الكافر من ضيق صدره كأنه يريد أن يصعد إلى السماء وهو لا يقدر على ذلك؛ فكأنه يستدعي ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى كاد قلبه يصعد إلى السماء نَبْواً عن الإسلام‏.‏ ‏}‏كذلك يجعل الله الرجس‏}‏ عليهم؛ كجعله ضيق الصدر في أجسادهم‏.‏ وأصل الرجس في اللغة النتن‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ هو العذاب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الرجس هو الشيطان؛ أي يسلطه عليهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الرجس ما لا خير فيه‏.‏ وكذلك الرجس عند أهل اللغة هو النتن‏.‏ فمعنى الآية والله أعلم‏:‏ ويجعل اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ‏}‏على الذين لا يؤمنون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 126 ‏)‏

‏{‏وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهذا صراط ربك مستقيما‏}‏ أي هذا الذي أنت عليه يا محمد والمؤمنون دين ربك لا اعوجاج فيه‏.‏ ‏}‏قد فصلنا الآيات‏}‏ أي بيناها ‏}‏لقوم يذكرون‏}‏ أي للمتذكرين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 127 ‏)‏

‏{‏لهم دار السلام عند ربهم وهو وليهم بما كانوا يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏لهم‏}‏ أي للمذكرين‏.‏ ‏}‏دار السلام‏}‏ أي الجنة، فالجنة دار الله؛ كما يقال‏:‏ الكعبة بيت الله‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى دار السلامة، أي التي يسلم فيها من الآفات‏.‏ ومعنى قوله‏{‏عند ربهم‏}‏ أي مضمونة لهم عنده يوصلهم إليها بفضله‏.‏ ‏}‏وهو وليهم‏}‏ أي ناصرهم ومعينهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 128 ‏)‏

‏{‏ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم نحشرهم‏}‏ نصب على الفعل المحذوف، أي ويوم نحشرهم نقول‏.‏ ‏}‏جميعا‏}‏ نصب على الحال‏.‏ والمراد حشر جميع الخلق في موقف القيامة‏.‏ ‏}‏يا معشر الجن‏}‏ نداء مضاف‏.‏ ‏}‏قد استكثرتم من الإنس‏}‏ أي من الاستمتاع بالإنس؛ فحذف المصدر المضاف إلى المفعول، وحرف الجر؛ يدل على ذلك قوله‏{‏ربنا استمتع بعضنا ببعض‏}‏ وهذا يرد قول من قال‏:‏ إن الجن هم الذين استمتعوا من الإنس؛ لأن الإنس قبلوا منهم‏.‏ والصحيح أن كل واحد مستمتع بصاحبه‏.‏ والتقدير في العربية‏:‏ استمتع بعضنا بعضا؛ فاستمتاع الجن من الإنس إنهم تلذذوا بطاعة الإنس إياهم، وتلذذ الإنس بقبولهم من الجن حتى زنوا وشربوا الخمور بإغواء الجن إياهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجل إذا مر بواد في سفره وخاف على نفسه قال‏:‏ أعوذ برب هذا الوادي من جميع ما أحذر‏.‏ وفي التنزيل‏{‏وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا‏}‏الجن‏:‏ 6‏]‏‏.‏ فهذا استمتاع الإنس بالجن‏.‏ وأما استمتاع الجن بالإنس فما كانوا يلقون إليهم من الأراجيف والكهانة والسحر‏.‏ وقيل‏:‏ استمتاع الجن بالإنس أنهم يعترفون أن الجن يقدرون أن يدفعوا عنهم ما يحذرون‏.‏ ومعنى الآية تقريع الضالين والمضلين وتوبيخهم في الآخرة على أعين العالمين‏.‏ ‏}‏وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا‏}‏ يعني الموت والقبر، ووافينا نادمين‏.‏ ‏}‏قال النار مثواكم‏}‏ أي موضع مقامكم‏.‏ والمثوى المقام‏.‏ ‏}‏خالدين فيها إلا ما شاء الله‏}‏ استثناء ليس من الأول‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يرجع إلى يوم القيامة، أي خالدين في النار إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في الحساب؛ فالاستثناء قطع‏.‏ وقيل‏:‏ يرجع الاستثناء إلى النار، أي إلا ما شاء الله من تعذيبكم بغير النار في بعض الأوقات‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الاستثناء لأهل الإيمان‏.‏ فـ ‏}‏ما‏}‏ على هذا بمعنى من‏.‏ وعنه أيضا أنه قال‏:‏ هذه الآية توجب الوقف في جميع الكفار‏.‏ ومعنى ذلك أنها توجب الوقف فيمن لم يمت، إذ فد يسلم‏.‏ وقيل‏{‏إلا ما شاء الله‏}‏ من كونهم في الدنيا بغير عذاب‏.‏ ومعنى هذه الآية معنى الآية التي في ‏}‏هود‏}‏‏.‏ قوله‏{‏فأما الذين شقوا ففي النار‏}‏هود‏:‏ 106‏]‏ وهناك يأتي مستوفى إن شاء الله‏.‏ ‏}‏إن ربك حكيم‏}‏ أي في عقوبتهم وفي جميع أفعاله ‏}‏عليم‏}‏ بمقدار مجازاتهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 129 ‏)‏

‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا‏}‏ المعنى وكما فعلنا بهؤلاء مما وصفته لكم من استمتاع بعضهم ببعض أجعل بعض الظالمين أولياء بعض، ثم يتبرأ بعضهم من بعض غدا‏.‏ ومعنى ‏}‏نولي‏}‏ على هذا نجعل وليا‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ نسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ نسلط بعض الظلمة على بعض فيهلكه ويذله‏.‏ وهذا تهديد للظالم إن لم يمتنع من ظلمه سلط الله عليه ظالما آخر‏.‏ ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته أو السارق وغيرهم‏.‏ وقال فضيل بن عياض‏:‏ إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف، وانظر فيه متعجبا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إذا رضي الله عن قوم ولى أمرهم خيارهم، إذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم‏.‏ وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أعان ظالما سلطه الله عليه‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى نكل بعضهم إلى بعض فيما يختارونه من الكفر، كما نكلهم غدا إلى رؤسائهم الذين لا يقدرون على تخليصهم من العذاب أي كما نفعل بهم ذلك في الآخرة كذلك نفعل بهم في الدنيا‏.‏ وقد قيل في قوله تعالى‏{‏نوله ما تولى‏}‏النساء‏:‏ 115‏]‏‏:‏ نكله إلى ما وكل إليه نفسه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ تفسيرها هو أن الله إذا أراد بقوم شرا ولى أمرهم شرارهم‏.‏ يدل عليه قوله تعالى‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم‏}‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 130 ‏)‏

‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم‏}‏ أي يوم نحشرهم نقول لهم ألم يأتكم رسل فحذف؛ فيعترفون بما فيه افتضاحهم‏.‏ ومعنى ‏}‏منكم‏}‏ في الخلق والتكليف والمخاطبة‏.‏ ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال‏{‏منكم‏}‏ وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي؛ كما قال‏{‏ولوا إلى قومهم منذرين‏}‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقال مقاتل والضحاك‏:‏ أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الرسل من الإنس، والنذر من الجن؛ ثم قرأ ‏}‏إلى قومهم منذرين‏}‏الأحقاف‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وهو معنى قول ابن عباس، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في ‏}‏الأحقاف‏}‏‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس والجن جميعا‏.‏

قلت‏:‏ وهذا لا يصح، بل في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبدالله الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود‏)‏ الحديث‏.‏ على ما يأتي بيانه في ‏}‏الأحقاف‏}‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كانت الرسل تبعث إلى الإنس وإن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس؛ ذكره أبو الليث السمرقندي‏.‏ وقيل‏:‏ كان قوم من الجن‏:‏ استمعوا إلى الأنبياء ثم عادوا إلى قومهم وأخبروهم؛ كالحال مع نبينا عليه السلام‏.‏ فيقال لهم رسل الله، وإن لم ينص على إرسالهم‏.‏ وفي التنزيل‏{‏يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان‏}‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏ أي من أحدهما، وإنما يخرج من الملح دون العذب، فكذلك الرسل من الإنس دون الجن؛ فمعنى ‏}‏منكم‏}‏ أي من أحدكم‏.‏ وكان هذا جائزا؛ لأن ذكرهما سبق‏.‏ وقيل‏:‏ إنما صير الرسل في مخرج اللفظ من الجميع لأن الثقلين قد ضمتهما عرصة القيامة، والحساب عليهم دون الخلق؛ فلما صاروا في تلك العرصة في حساب واحد في شأن الثواب والعقاب خوطبوا يومئذ بمخاطبة واحدة كأنهم جماعة واحدة؛ لأن بدء خلقهم للعبودية، والثواب والعقاب على العبودية، ولأن الجن أصلهم من مارج من نار، وأصلنا من تراب، وخلقهم غير خلقنا؛ فمنهم مؤمن وكافر‏.‏ وعدونا إبليس عدوهم، يعادي مؤمنهم ويوالي كافرهم‏.‏ وفيهم أهواء‏:‏ شيعة وقدرية ومرجئة يتلون كتابنا‏.‏ وقد وصف الله عنهم في سورة ‏}‏الجن‏}‏ من قوله‏{‏وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون‏}‏الجن‏:‏ 14‏]‏‏.‏ ‏}‏وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا‏}‏الجن‏:‏ 11‏]‏ على ما يأتي بيانه هناك‏.‏ ‏}‏يقصون‏}‏ في موضع رفع نعت لرسل‏.‏ ‏}‏قالوا شهدنا على أنفسنا‏}‏ أي شهدنا أنهم بلغوا‏.‏ ‏}‏وغرتهم الحياة الدنيا‏}‏ قيل‏:‏ هذا خطاب من الله للمؤمنين؛ أي أن هؤلاء قد غرتهم الحياة الدنيا، أي خدعتهم وظنوا أنها تدوم، وخافوا زوالها عنهم إن آمنوا‏.‏ ‏}‏وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏}‏ أي اعترفوا بكفرهم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ هذا حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك وبما كانوا يعملون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 131 ‏)‏

‏{‏ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ذلك‏}‏ في موضع رفع عند سيبويه؛ أي الأمر ذلك‏.‏ و‏}‏أن‏}‏ مخففة من الثقيلة؛ أي إنما فعلنا هذا بهم لأني لم أكن أهلك القرى بظلمهم؛ أي بشركهم قبل إرسال الرسل إليهم فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير‏.‏ وقيل‏:‏ لم أكن أهلك القرى بشرك من أشرك منهم؛ فهو مثل ‏}‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏‏.‏ ولو أهلكهم قبل بعثة الرسل فله أن يفعل ما يريد‏.‏ وقد قال عيسى‏{‏إن تعذبهم فإنهم عبادك‏}‏المائدة‏:‏ 118‏]‏ وأجاز الفراء أن يكون ‏}‏ذلك‏}‏ في موضع نصب، المعنى‏:‏ فعل ذلك بهم؛ لأنه لم يكن يهلك القرى بظلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 132 ‏)‏

‏{‏ولكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولكل درجات مما عملوا‏}‏ أي من الجن والإنس؛ كما قال في آية أخرى‏{‏أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين‏}‏الأحقاف‏:‏ 18‏]‏ ثم قال‏{‏و لكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون‏}‏الأحقاف‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وفي هذا ما يدل على أن المطيع من الجن في الجنة، والعاصي منهم في النار؛ كالإنس سواء‏.‏ وهو أصح ما قيل في ذلك فاعلمه‏.‏ ومعنى ‏}‏ولكل درجات‏}‏ أي ولكل عامل بطاعة درجات في الثواب‏.‏ ولكل عامل بمعصية دركات في العقاب‏.‏ ‏}‏وما ربك بغافل‏}‏ أي ليس بلاه ولا ساه‏.‏ والغفلة أن يذهب الشيء عنك لاشتغالك بغيره‏.‏ ‏}‏عما يعملون‏}‏ قرأه ابن عامر بالتاء، الباقون بالياء‏.‏