فصل: الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة الكهف

 مقدمة السورة

سورة الكهف وهي مكية في قول جميع المفسرين‏.‏ روي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله ‏{‏جرزا‏}‏الكهف‏:‏ 8‏]‏، والأول أصح‏.‏ وروي في فضلها من حديث أنس أنه قال‏:‏ من قرأ بها أعطي نورا بين السماء والأرض ووقي بها فتنة القبر‏.‏ وقال إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ألا أدلكم على سورة شيعها سبعون ألف ملك ملأ عظمها ما بين السماء والأرض لتاليها مثل ذلك‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏سورة أصحاب الكهف من قرأها يوم الجمعة غفر له الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام وأعطي نورا يبلغ السماء ووقي فتنة الدجال‏)‏ ذكره الثعلبي، والمهدوي أيضا بمعناه‏.‏ وفي مسند الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أضاء له من النور فيما بينه وبين البيت العتيق‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي الدرداء أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال‏)‏‏.‏ وفي رواية ‏(‏من آخر الكهف‏)‏‏.‏ وفي مسلم أيضا من حديث النواس بن سمعان ‏(‏فمن أدركه - يعني الدجال - فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف‏)‏‏.‏ وذكره الثعلبي‏.‏ قال‏:‏ سمرة بن جندب قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضره فتنة الجال‏)‏‏.‏ ومن قرأ السورة كلها دخل الجنة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 1 ‏:‏ 3 ‏)‏

‏{‏الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا‏}‏

ذكر ابن إسحاق أن قريشا بعثوا النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود وقالوا لهما‏:‏ سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته وأخبراهم بقوله؛ فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ليس عندنا من علم أنبياء؛ فخرجا حتى قدما المدينة، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصفا لهم أمره، وأخبراهم ببعض قوله، وقالا لهم‏:‏ إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا‏.‏ فقالت لهما أحبار يهود‏:‏ سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم؛ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، ما كان أمرهم؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب‏.‏ سلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه‏.‏ وسلوه عن الروح، ما هي؛ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي، وإن لم يفعل فهو رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم‏.‏ فأقبل النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط قدما مكة على قريش فقالا‏:‏ يا معشر قريش، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها، فإن أخبركم عنها فهو نبي، وإن لم يفعل فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم‏.‏ فجاؤوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول، قد كانت لهم قصة عجب، وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وأخبرنا عن الروح ما هي‏؟‏ قال فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أخبركم بما سألتم عنه غدا‏)‏ ولم يستثن‏.‏ فانصرفوا عنه، فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يزعمون خمس عشرة ليلة، لا يحدث الله إليه في ذلك وحيا ولا يأتيه جبريل، حتى أرجف أهل مكة وقالوا‏:‏ وعدنا محمد غدا، واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه؛ وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من عند الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف والروح‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل‏:‏ ‏(‏لقد احتبست عني يا جبريل حتى سؤت ظنا‏{‏ فقال له جبريل‏{‏وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا‏}‏مريم‏:‏ 64‏]‏‏.‏

فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده، وذكر نبوة رسوله صلى الله عليه وسلم لما أنكروا عليه من ذلك فقال‏{‏الحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب‏{‏ يعني محمدا، إنك رسول مني، أي تحقيق لما سألوا عنه من نبوتك‏.‏ ‏{‏ولم يجعل له عوجا قيما‏{‏ أي معتدلا لا اختلاف فيه‏.‏ ‏{‏لينذر بأسا شديدا من لدنه‏{‏ أي عاجل عقوبته في الدنيا، وعذابا أليما في الآخرة، أي من عند ربك الذي بعثك رسولا‏.‏ ‏{‏ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا‏{‏ أي دار الخلد لا يموتون فيها، الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال‏.‏ ‏{‏وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا‏}‏الكهف‏:‏ 4‏]‏ بعني قريشا في قولهم‏:‏ إنا نعبد الملائكة وهي بنات الله‏.‏ ‏{‏ما لهم به من علم ولا لآبائهم‏}‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم‏.‏ ‏{‏كبرت كلمة تخرج من أفواههم‏}‏الكهف‏:‏ 5‏]‏ أي لقولهم إن الملائكة بنات الله‏.‏ ‏{‏إن يقولون إلا كذبا‏.‏ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا‏}‏الكهف‏:‏ 6‏]‏ لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجوه منهم، أي لا تفعل‏.‏ فال ابن هشام‏{‏باخع نفسك‏{‏ مهلك نفسك؛ فيما حدثني أبو عبيدة‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

ألا أي هذا الباخع الوجد نفسه بشيء نحته عن يديه المقادر

وجمعها باخعون وبخعه‏.‏ وهذا البيت في قصيدة له‏.‏ وقول العرب‏:‏ قد بخعت له نصحي ونفسي، أي جهدت له‏.‏ ‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا‏}‏الكهف‏:‏ 7‏]‏ قال ابن إسحاق‏:‏ أي أيهم اتبع لأمري وأعمل بطاعتي‏{‏وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا‏}‏الكهف‏:‏ 8‏]‏ أي الأرض، وإن ما عليها لفان وزائل، وإن المرجع إلي فأجزي كلا بعمله؛ فلا تأس ولا يحزنك ما ترى وتسمع فيها‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ الصعيد وجه الأرض، وجمعه صعد‏.‏ قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا‏:‏

كأنه بالضحى ترمي الصعيد به دبابة في عظام الرأس خرطوم

وهذا البيت في قصيدة له‏.‏ والصعيد أيضا‏:‏ الطريق، وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إياكم والقعود على الصعدات‏)‏ يريد الطرق‏.‏ والجرز‏:‏ الأرض التي لا تنبت شيئا، وجمعها أجراز‏.‏ ويقال‏:‏ سنة جرز وسنون أجراز؛ وهي التي لا يكون فيها مطر‏.‏ وتكون فيها جدوبة ويبس وشدة‏.‏ قال ذو الرمة يصف إبلا‏:‏

طوى النحز والأجراز ما في بطونها فما بقيت إلا الضلوع الجراشع

قال ابن إسحاق‏:‏ ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية فقال‏{‏أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا‏}‏الكهف‏:‏ 9‏]‏ أي قد كان من آياتي فيه وضعت على العباد من حجتي ما هو أعجب من ذلك‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ والرقيم الكتاب الذي رقم بخبرهم، وجمعه رقم‏.‏ قال العجاج‏:‏

ومستقر المصحف المرقم

وهذا البيت في أرجوزة له‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ ثم قال ‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا‏.‏ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا‏.‏ ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا‏}‏الكهف‏:‏ 12‏]‏‏.‏ ثم قال‏{‏نحن نقص عليك نبأهم بالحق‏}‏الكهف‏:‏ 13‏]‏ أي بصدق الخبر ‏{‏إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى‏.‏ وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا‏}‏الكهف‏:‏ 14‏]‏ أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ والشطط الغلو ومجاوزة الحق‏.‏ قال أعشى بن قيس بن ثعلبة‏:‏

أتنتهون ولا ينهى ذوي شطط كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل

وهذا البيت في قصيدة له‏.‏ قال ابن إسحاق‏{‏هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين‏}‏الكهف‏:‏ 15‏]‏‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ أي بحجة بالغة‏.‏ ‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا‏.‏ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا‏.‏ وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الحال وهم في فجوة منه‏}‏الكهف‏:‏ 17‏]‏‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ تزاور تميل؛ وهو من الزور‏.‏ وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا‏:‏

جدب المندي عن هوانا أزور ينضي المطايا خمسه العشنزر

وهذان البيتان في أرجوزة له‏.‏ و‏{‏تقرضهم ذات الشمال‏{‏ تجاوزهم وتتركهم عن شمالها‏.‏ قال ذو الرمة‏:‏

إلى ظعن يقرضن أقواز مشرف شمالا وعن أيمانهن الفوارس

وهذا البيت في قصيدة له‏.‏ والفجوة‏:‏ السعة، وجمعها الفجاء‏.‏ قال الشاعر‏:‏

ألبست قومك مخزاة ومنقصة حتى أبيحوا وحلوا فجوة الدار

‏{‏ذلك من آيات الله‏{‏ أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم‏.‏ ‏{‏من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا‏.‏ وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد‏}‏الكهف‏:‏ ‏]‏ قال ابن هشام‏:‏ الوصيد الباب‏.‏ قال العبسي واسمه عبد بن وهب‏:‏

بأرض فلاة لا يسد وصيلاها علي ومعروفي بها غير منكر

وهذا البيت في أبيات له‏.‏ والوصيد أيضا الفناء، وجمعه وصائد ووصد وصدان‏.‏ ‏{‏لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا - إلى قوله - الذين غلبوا على أمرهم‏}‏الكهف‏:‏ ‏]‏ أهل السلطان والملك منهم‏.‏ ‏{‏لنتخذن عليهم مسجدا‏.‏ سيقولون‏}‏الكهف‏:‏21‏]‏ يعني أحبار اليهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم‏.‏ ‏{‏ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي اعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم‏}‏أي لا تكابرهم‏.‏ ‏{‏إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا‏}‏الكهف‏:‏22‏]‏ فإنهم لا علم لهم بهم‏.‏ ‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا‏.‏ إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا‏}‏الكهف‏:‏24‏]‏ أي لا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا إني مخبركم غدا، واستثن مشيئة الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لخبر ما سألتموني عنه رشدا، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك‏.‏ ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا‏}‏الكهف‏:‏ ‏]‏ أي سيقولون ذلك‏.‏ ‏{‏قل الله اعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به واسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا‏}‏الكهف‏:‏26‏]‏ أي لم يخف عليه شيء ما سألوك عنه‏.‏

قلت‏:‏ هذا ما وقع في السيرة من خبر أصحاب الكهف ذكرناه على نسقه‏.‏ ويأتي خبر ذي القرنين، ثم نعود إلى أول السورة فنقول‏:‏

قد تقدم معنى الحمد لله‏.‏ وزعم الأخفش والكسائي والفراء وأبو عبيد وجمهور المتأولين أن في أول هذه السورة تقديما وتأخيرا، وأن المعنى‏:‏ الحمد لله الزي أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعل له عوجا‏.‏ و‏{‏قيما‏{‏ نصب على الحال‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الكلام على سياقه من غير تقديم ولا تأخير، ومعناه‏:‏ ولم يجعل له عوجا ولكن جعلناه قيما‏.‏ وقول الضحاك فيه حسن، وأن المعنى‏:‏ مستقيم، أي مستقيم الحكمة لا خطأ فيه ولا فساد ولا تناقض‏.‏ وقيل‏{‏قيما‏{‏ على الكتب السابقة يصدقها‏.‏ وقيل‏{‏قيما‏{‏ بالحجج أبدا‏.‏ ‏{‏عوجا‏{‏ مفعول به؛ والعوج ‏(‏بكسر العين‏)‏ في الدين والرأي والأمر والطريق‏.‏ وبفتحها في الأجسام كالخشب والجدار؛ وقد تقدم‏.‏ وليس في القرآن عوج، أي عيب، أي ليس متناقضا مختلقا؛ كما قال تعالى‏{‏ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا‏}‏النساء‏:‏82‏]‏ وقيل‏:‏ أي لم يجعله مخلوقا؛ كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى ‏{‏قرآنا عربيا غير ذي عوج‏}‏الزمر‏:‏28‏]‏ قال‏:‏ غير مخلوق‏.‏ وقال مقاتل‏{‏عوجا‏{‏ اختلافا‏.‏ قال الشاعر‏:‏ أدوم بودي للصديق تكرما ولا خير فيمن كان في الود أعوجا

‏{‏لينذر بأسا شديدا‏{‏ أي لينذر محمد أو القرآن‏.‏ وفيه إضمار، أي لينذر الكافرين عقاب الله‏.‏ وهذا العذاب الشديد قد يكون في الدنيا وقد يكون في الآخرة‏.‏ ‏{‏من لدنه‏{‏ أي من عنده وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏من لدنه‏{‏ بإسكان الدال وإشمامها الضم وكسر النون، والهاء موصولة بياء‏.‏ والباقون ‏{‏لدنه‏{‏ بضم الدال وإسكان النون وضم الهاء‏.‏ قال الجوهري‏:‏ وفي ‏{‏لدن‏{‏ ثلاث لغات‏:‏ لدن، ولدي، ولد‏.‏ وقال‏:‏

من لد لحييه إلى منحوره

المنحور لغة المنحر‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم‏{‏ أي بأن لهم ‏{‏أجرا حسنا‏{‏ وهي الجنة‏.‏ ‏{‏ماكثين‏{‏ دائمين‏.‏ ‏{‏فيه أبدا‏{‏ لا إلى غاية‏.‏ وإن حملت التبشير على البيان لم يحتج إلى الباء في ‏{‏بأن‏{‏‏.‏ والأجر الحسن‏:‏ الثواب العظيم الذي يؤدي إلى الجنة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 4 ‏:‏ 5 ‏)‏

‏{‏وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا، ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا‏}‏

وهم اليهود، قالوا عزير ابن الله، والنصارى قالوا المسيح ابن الله، وقريش قالت الملائكة بنات الله‏.‏ فالإنذار في أول السورة عام، وهذا خاص فيمن قال لله ولد‏.‏ ‏{‏ما لهم به من علم‏{‏ ‏{‏من‏{‏ صلة، أي ما لهم بذلك القول علم؛ لأنهم مقلدة قالوه بغير دليل‏.‏ ‏{‏ولا لآبائهم‏{‏ أي أسلافهم‏.‏ ‏{‏كبرت كلمة‏{‏ ‏{‏كلمة‏{‏ نصب على البيان؛ أي كبرت تلك الكلمة كلمة‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد ويحيى بن يعمر وابن أبي إسحاق ‏{‏كلمة‏{‏ بالرفع؛ أي عظمت كلمة؛ يعني قولهم اتخذ الله ولدا‏.‏ وعلى هذه القراءة فلا حاجة إلى إضمار‏.‏ يقال‏:‏ كبر الشيء إذا عظم‏.‏ وكبر الرجل إذا أسن‏.‏ ‏{‏تخرج من أفواههم‏{‏ في موضع الصفة‏.‏ ‏{‏إن يقولون إلا كذبا‏{‏ أي ما يقولون إلا كذبا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 6 ‏)‏

‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا‏}‏

قوله تعالى‏{‏فلعلك باخع نفسك على آثارهم‏{‏ ‏{‏باخع‏{‏ أي مهلك وقاتل؛ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏آثارهم‏{‏ جمع أثر، ويقال إثر‏.‏ والمعنى‏:‏ على أثر توليهم وإعراضهم عنك‏.‏ ‏{‏إن لم يؤمنوا بهذا الحديث‏{‏ أي القرآن‏.‏ ‏{‏أسفا‏{‏ أي حزنا وغضبا على كفرهم؛ وانتصب على التفسير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 7 ‏)‏

‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة‏{‏ ‏{‏ما‏{‏ و‏{‏زينة‏{‏ مفعولان‏.‏ والزينة كل ما على وجه الأرض؛ فهو عموم لأنه دال على بارئه‏.‏ وقال ابن جبير عن ابن عباس‏:‏ أراد بالزينة الرجال؛ قال مجاهد‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس أن الزينة الخلفاء والأمراء‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏{‏ قال‏:‏ العلماء زينة الأرض‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ أراد النعم والملابس والثمار والخضرة والمياه، ونحو هذا مما فيه زينة؛ ولم يدخل فيه الجبال الصم وكل ما لا زينة فيه كالحيات والعقارب‏.‏ والقول بالعموم أولى، وأن كل ما على الأرض فيه زينة من جهة خلقه وصنعه وإحكامه‏.‏ والآية بسط في التسلية؛ أي لا تهتم يا محمد للدنيا وأهلها فإنا إنما جعلنا ذلك امتحانا واختبارا لأهلها؛ فمنهم من يتدبر ويؤمن، ومنهم من يكفر، ثم يوم القيامة بين أيديهم؛ فلا يعظمن عليك كفرهم فإنا نجازيهم‏.‏

معنى هذه الآية ينظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الدنيا خضرة حلوة والله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون‏)‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا‏)‏ قال‏:‏ وما زهرة الدنيا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بركات الأرض‏)‏ خرجهما مسلم وغيره من حديث أبي سعيد الخدري‏.‏ والمعنى‏:‏ أن الدنيا مستطابة في ذوقها معجبة في منظرها كالثمر المستحلى المعجب المرأى؛ فابتلى الله بها عباده لينظر أيهم أحسن عملا‏.‏ أي من أزهد فيها وأترك لها؛ ولا سبيل للعباد إلى معصية ما زينة الله إلا (1) يعينه على ذلك‏.‏ ولهذا كان عمر يقول فيما ذكر البخاري‏:‏ اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينته لنا، اللهم إني أسألك أن أنفقه في حقه‏.‏ فدعا الله أن يعينه على إنفاقه في حقه‏.‏ وهذا معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه ومن أخذه بإشراف نفس كان كالذي يأكل ولا يشبع‏)‏‏.‏ وهكذا هو المكثر من الدنيا لا يقنع بما يحصل له منها بل همته جمعها؛ وذلك لعدم الفهم عن الله تعالى ورسوله؛ فإن الفتنة معها حاصلة وعدم السلامة غالبة، وقد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما آتاه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ كان أبي رضى الله عنه يقول في قوله ‏{‏أحسن عملا‏{‏‏:‏ أحسن العمل أخذ بحق وإنفاق في حق مع الإيمان وأداء الفرائض واجتناب المحارم والإكثار من المندوب إليه‏.‏

قلت‏:‏ هذا قول حسن، وجيز في ألفاظه بليغ في معناه، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في لفظ واحد وهو قوله لسفيان بن عبدالله الثقفي لما قال‏:‏ يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك - في رواية‏:‏ غيرك‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏قل آمنت بالله ثم استقم‏)‏ خرجه مسلم‏.‏ وقال سفيان الثوري‏{‏أحسن عملا‏{‏ أزهدهم فيها‏.‏ وكذلك قال أبو عصام العسقلاني‏{‏أحسن عملا‏{‏ أترك لها‏.‏ وقد اختلفت عبارات العلماء في الزهد؛ فقال قوم‏:‏ قصر الأمل وليس بأكل الخشن ولبس العباء؛ قاله سفيان الثوري‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وصدق رضي الله عنه لأن من قصر أمله لم يتأنق في المطعومات ولا يتفنن في الملبوسات، وأخذ من الدنيا ما تيسر، واجتزأ منها بما يبلغ‏.‏ وقال قوم‏:‏ بغض المحمدة وحب الثناء‏.‏ وهو قول الأوزاعي ومن ذهب إليه‏.‏ وقال قوم‏:‏ ترك الدنيا كلها هو الزهد؛ أحب تركها أم كره‏.‏ وهو قول فضيل‏.‏ وعن بشر بن الحارث قال‏:‏ حب الدنيا حب لقاء الناس، والزهد في الدنيا الزهد في لقاء الناس‏.‏ وعن الفضيل أيضا‏:‏ علامة الزهد في الدنيا الزهد في الناس‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا يكون الزاهد زاهدا حتى يكون ترك الدنيا أحب إليه من أخذها؛ قال إبراهيم بن أدهم‏.‏ وقال قوم‏:‏ الزهد أن تزهد في الدنيا بقلبك؛ قاله ابن المبارك‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الزهد حب الموت‏.‏ والقول الأول يعم هذه الأقوال بالمعنى فهو أولى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 8 ‏)‏

‏{‏وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا‏}‏

تقدم بيانه‏.‏ وقال أبو سهل‏:‏ ترابا لا نبات به؛ كأنه قطع نباته‏.‏ والجرز‏:‏ القطع؛ ومنه سنة جرز‏.‏ قال الراجز‏:‏

قد جرفتهن النون الأجراز

والأرض الجرز التي لا نبات فيها ولا شيء من عمارة وغيرها؛ كأنه قطع وأزيل‏.‏ يعني يوم القيامة؛ فإن الأرض تكون مستوية لا مستتر فيها‏.‏ النحاس‏:‏ والجرز في اللغة الأرض التي لا نبات بها‏.‏ قال الكسائي‏:‏ يقال جرزت الأرض تجرز، وجرزها القوم يجرزونها إذا أكلوا كل ما جاء فيا من النبات والزرع فهي مجروزة وجرز‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 9 ‏)‏

‏{‏أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا‏}‏

مذهب سيبويه أن ‏{‏أم‏{‏ إذا جاءت دون أن يتقدمها ألف استفهام أنها بمعنى بل وألف الاستفهام، وهي المنقطعة‏.‏ وقيل‏{‏أم‏{‏ عطف على معنى الاستفهام في لعلك، أو بمعنى ألف الاستفهام على الإنكار‏.‏ قال الطبري‏:‏ وهو تقرير للنبي صلى الله عليه وسلم على حسابه أن أصحاب الكهف كانوا عجبا، بمعنى إنكار ذلك عليه؛ أي لا يعظم ذلك بحسب ما عظمه عليك السائلون من الكفرة، فإن سائر آيات الله أعظم من قصتهم وأشيع؛ هذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن إسحاق‏.‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن المشركين سألوه عن فتية فقدوا، وعن ذي القرنين وعن الروح، وأبطأ الوحي على ما تقدم‏.‏ فلما نزل قال الله تعالى لنبيه عليه السلام‏:‏ أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا؛ أي ليسوا بعجب من آياتنا، بل في آياتنا ما هو أعجب من خبرهم‏.‏ الكلبي‏:‏ خلق السماوات والأرض أعجب من خبرهم‏.‏ الضحاك‏:‏ ما أطلعتك عله من الغيب أعجب‏.‏ الجنيد‏:‏ شأنك في الإسراء أعجب‏.‏ الماوردي‏:‏ معنى الكلام النفي؛ أي ما حسبت لولا إخبارنا‏.‏ أبو سهل‏:‏ استفهام تقرير؛ أي أحسبت ذلك فإنهم عجب‏.‏ والكهف‏:‏ النقب المتسع في الجبل؛ وما لم يتسع فهو غار‏.‏ وحكى النقاش عن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ الكهف الجبل؛ وهذا غير شهير في اللغة‏.‏

واختلف الناس في الرقيم؛ فقال ابن عباس‏:‏ كل شيء في القرآن أعلمه إلا أربعة‏:‏ غسلين وحنان والأواه والرقيم‏.‏ وسئل مرة عن الرقيم فقال‏:‏ زعم كعب أنها قرية خرجوا منها‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الرقيم واد‏.‏ وقال السدي‏:‏ الرقيم الصخرة التي كانت على الكهف‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الرقيم كتاب غم الله علينا أمره، ولم يشرح لنا قصته‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ الرقيم كتاب في لوح من نحاس‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في لوح من رصاص كتب فيه القوم الكفار الذي فر الفتية منهم قصتهم وجعلوها تاريخا لهم، ذكروا وقت فقدهم، وكم كانوا، وبين من كانوا‏.‏ وكذا قال القراء، قال‏:‏ الرقيم لوح من رصاص كتب فيه أسماؤهم وأنسابهم ودينهم وممن هربوا‏.‏ فال ابن عطية‏:‏ ويظهر من هذه الروايات أنهم كانوا قوما مؤرخين للحوادث، وذلك من نبل المملكة، وهو أمر مفيد‏.‏ وهذه الأقوال مأخوذة من الرقم؛ ومنه كتاب مرقوم‏.‏ ومنه الأرقم لتخطيطه‏.‏ ومنه رقمة الوادي؛ أي مكان جري الماء وانعطافه‏.‏ وما روي عن ابن عباس ليس بمتناقض؛ لأن القول الأول إنما سمعه من كعب‏.‏ والقول الثاني يجوز أن يكون عرف الرقيم بعده‏.‏ وروى عنه سعيد بن جبير قال‏:‏ ذكر ابن عباس أصحاب الكهف فقال‏:‏ إن الفتية فقدوا فطلبهم أهلوهم فلم يجدوهم فرفع ذلك إلى الملك فقال‏:‏ ليكونن لهم نبأ، وأحضر لوحا من رصاص فكتب فيه أسماءهم وجعله في خزانته؛ فذلك اللوح هو الرقيم‏.‏ وقيل‏:‏ إن مؤمنين كانا في بيت الملك فكتبا شأن الفتية وأسماءهم وأنسابهم في لوح من رصاص ثم جعلاه في تابوت من نحاس وجعلاه في البنيان؛ فالله اعلم‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ الرقيم كتاب مرقوم كان عندهم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام‏.‏ وقال النقاش عن قتادة‏:‏ الرقيم دراهمهم‏.‏ وقال أنس بن مالك والشعبي‏:‏ الرقيم كلبهم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ الرقيم الدواة‏.‏ وقيل‏:‏ الرقيم اللوح من الذهب تحت الجدار الذي أقامه الخضر‏.‏ وقيل‏:‏ الرقيم أصحاب الغار الذي انطبق عليهم؛ فذكر كل واحد منهم أصلح عمله‏.‏

قلت‏:‏ وفي هذا خير معروف أخرجه الصحيحان، وإليه نحا البخاري‏.‏ وقال قوم‏:‏ أخبر الله عن أصحاب الكهف، ولم يخبر عن أصحاب الرقيم بشيء‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الرقيم بلدة بالروم فيها غار فيه أحد وعشرون نفسا كأنهم نيام على هيئة أصحاب الكهف، فعلى هذا هم فتية آخرون جرى لهم ما جرى لأصحاب الكهف‏.‏ والله اعلم‏.‏ وقيل‏:‏ الرقيم واد دون فلسطين فيه الكهف؛ مأخوذ من رقمة الوادي وهي موضع الماء؛ يقال‏:‏ عليك بالرقمة ودع الضفة؛ ذكره الغزنوي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وبالشام على ما سمعت به من ناس كثير كهف فيه موتى، يزعم مجاوروه أنهم أصحاب الكهف وعليهم مسجد وبناء يسمى الرقيم ومعهم كلب رمة‏.‏ وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة، وأكثرهم قد تجرد لحمه وبعضهم متماسك، وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم أثارة‏.‏ ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف، دخلت إليهم ورأيهم سنة أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة، وعليهم مسجد، وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم، كأنه قصر مخلق قد بقي بعض جدرانه، وهو في فلاة من الأرض خربة، وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة آثار مدينة قديمة رومية يقال لها مدينة دقيوس، وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكر من رؤيته لهم بالأندلس فإنما هم غيرهم، لأن الله تعالى يقول في حق أصحاب الكهف‏{‏لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا‏}‏الكهف‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس لمعاوية لما أراد رؤيتهم‏:‏ قد منع الله من هو خير منك عن ذلك؛ وسيأتي في آخر القصة‏.‏ وقال مجاهد في قول ‏{‏كانوا من آياتنا عجبا‏{‏ قال‏:‏ هم عجب‏.‏ كذا روى ابن جريج عنه؛ يذهب إلى أنه بإنكار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عنده أنهم عجب‏.‏ وروى ابن نجيح عنه قال‏:‏ يقول ليس بأعجب آياتنا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 10 ‏)‏

‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إذ أوى الفتية إلى الكهف‏{‏ روي أنهم قوم من أبناء أشراف مدينة دقيوس الملك الكافر، ويقال فيه دقينوس‏.‏ وروي أنهم كانوا مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب، وهم من الروم واتبعوا دين عيسى‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا قبل عيسى، والله اعلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إن ملكا من الملوك يقال له دقيانوس ظهر على مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس‏.‏ وقيل هي طرسوس وكان بعد زمن عيسى عليه السلام فأمر بعبادة الأصنام فدعا أهلها إلى عبادة الأصنام، وكان بها سبعة أحداث يعبدون سرا، فرفع خبرهم إلى الملك وخافوه فهربوا ليلا، ومروا براع معه كلب فتبعهم فآووا إلى الكهف فتبعهم الملك إلى فم الغار، فوجد أثر دخولهم ولم يجد أثر خروجهم، فدخلوا فأعمى الله أبصارهم فلم يروا شيئا؛ فقال الملك‏:‏ سدوا عليهم باب الغار حتى يموتوا فيه جوعا وعطشا‏.‏ وروى مجاهد عن ابن عباس أيضا أن هؤلاء الفتية كانوا في دين ملك يعبد الأصنام ويذبح لها ويكفر بالله، وقد تابعه على ذلك أهل المدينة، فوقع للفتية علم من بعض الحواريين - حسبما ذكر النقاش أو من مؤمني الأمم قبلهم - فآمنوا بالله ورأوا ببصائرهم قبيح فعل الناس، فأخذوا نفوسهم بالتزام الدين وعبادة الله؛ فرفع أمرهم إلى الملك وقيل لي‏:‏ إنهم قد فارقوا دينك واستخفوا آلهتك وكفروا بها، فاستحضرهم الملك إلى مجلسه وأمرهم باتباع دينه والذبح لآلهته، وتوعدهم على فراق ذلك بالقتل؛ فقالوا له فيما روي‏{‏ربنا رب السماوات والأرض - إلى قوله - وإذا اعتزلتموهم‏}‏الكهف‏:‏ 16‏]‏ وروي أنهم قالوا نحو هذا الكلام وليس به، فقال لهم الملك‏:‏ إنكم شبان أغمار لا عقول لكم، وأنا لا أعجل بكم بل استأني فاذهبوا إلى منازلكم ودبروا رأيكم وارجعوا إلى أمري، وضرب لهم في ذلك أجلا، ثم إنه خلال الأجل فتشاور الفتية في الهروب بأديانهم، فقال لهم أحدهم‏:‏ إني أعرف كهفا في جبل كذا، وكان أبي يدخل فيه غنمه فلنذهب فلنختف فيه حتى يفتح الله لنا؛ فخرجوا فيما روي يلعبون بالصولجان والكرة، وهم يدحرجونها إلى نحو طريقهم لئلا يشعر الناس بهم‏.‏ وروي أنهم كانوا مثقفين فحضر عيد خرجوا إليه فركبوا في جملة الناس، ثم أخذوا باللعب بالصولجان حتى خلصوا بذلك‏.‏ وروى وهب بن منبه أن أول أمرهم إنما كان حواري لعيسى بن مريم جاء إلى مدينة أصحاب الكهف يريد دخولها، فأجر نفسه من صاحب الحمام وكان يعمل فيه، فرأى صاحب الحمام في أعماله بركة‏.‏ عظيمة، فألقى إليه بكل أمره، وعرف ذلك الرجل فتيان من المدينة فعرفهم الله تعالى فآمنوا به واتبعوه على دينه، واشتهرت خلطتهم به؛ فأتى يوما إلى ذلك الحمام ولد الملك بامرأة أراد الخلوة بها، فنهاه ذلك الحواري فانتهى، ثم جاء مرة أخرى فنهاه فشتمه، وأمضى عزمه في دخول الحمام مع البغي، فدخل فماتا فيه جميعا؛ فاتهم ذلك الحواري وأصحابه بقتلهما؛ ففروا جميعا حتى دخلوا الكهف‏.‏ وقيل في خروجهم غير هذا‏.‏

وأما الكلب فروي أنه كان كلب صيد لهم، وروي أنهم وجدوا في طريقهم راعيا له كلب فاتبعهم الراعي على رأيهم وذهب الكلب معهم؛ قال ابن عباس‏.‏ واسم الكلب حمران وقيل قطمير‏.‏ وأما أسماء أهل الكهف فأعجمية، والسند في معرفتها واه‏.‏ والذي ذكره الطبري هي هذه‏:‏ مكسلمينا وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومحسيميلنينا ويمليخا، وهو الذي مضى بالورق إلى المدينة عند بعثهم من رقدتهم، ومرطوس وكشوطوش ودينموس ويطونس وبيرونس‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وكان الكلب لمكسلمينا، وكان أسنهم وصاحب غنم‏.‏

هذه الآية صريحة في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة‏.‏ وقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم فارا بدينه، وكذلك أصحابه، وجلس في الغار حسبما تقدم في سورة ‏{‏النحل‏{‏‏.‏ وقد نص الله تعالى على ذلك في ‏{‏براءة‏{‏ وقد تقدم‏.‏ وهجروا أوطانهم وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين‏.‏ فسكنى الجبال ودخول الغيران، والعزلة عن الخلق والانفراد بالخالق، وجواز الفرار من الظالم هي سنة الأنبياء صلوات الله عليهم والأولياء‏.‏ وقد فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزلة، وفضلها جماعة العلماء لا سيما عند ظهور الفتن وفساد الناس، وقد نص الله تعالى عليها في كتابه فقال‏{‏فأووا إلى الكهف‏{‏‏.‏

وقال العلماء الاعتزال عن الناس يكون مرة في الجبال والشعاب، ومرة في السواحل والرباط، ومرة في البيوت؛ وقد جاء في الخبر‏:‏ ‏(‏إذا كانت الفتنة فأخف مكانك وكف لسانك‏)‏‏.‏ ولم يخص موضعا من موضع‏.‏ وقد جعلت طائفة من العلماء العزلة اعتزال الشر وأهله بقلبك وعملك، إن كنت بين أظهرهم‏.‏ وقال ابن المبارك في تفسير العزلة‏:‏ أن تكون مع القوم فإذا خاضوا في ذكر الله فخض معهم، وإن خاضوا في غير ذلك فاسكت‏.‏ وروى البغوي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم‏)‏‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏نعم صوامع المؤمنين بيوتهم‏)‏ من مراسل الحسن وغيره‏.‏ وقال عقبة بن عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما النجاة يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏يا عقبة أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك‏)‏‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يأتي على الناس زمان خير مال الرجل المسلم الغنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن‏)‏‏.‏ خرجه البخاري‏.‏ وذكر علي بن سعد عن الحسن بن واقد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا كانت سنة ثمانين ومائة فقد حلت لأمتي العزبة والعزلة والترهب في رؤوس الجبال‏)‏‏.‏ وذكر أيضا علي بن سعد عن عبدالله بن المبارك عن مبارك بن فضالة عن الحسن يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فر بدينه من شاهق إلى شاهق أو حجر إلى حجر فإذا كان ذلك لم تنل المعيشة إلا بمعصية الله فإذا كان ذلك حلت العزبة‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله، كيف تحل العزبة وأنت تأمرنا بالتزويج‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إذا كان ذلك كان فساد الرجل على يدي أبويه فإن لم يكن له أبوان كان هلاكه على يدي زوجته فإن لم تكن له زوجة كان هلاكه على يدي ولده فإن لم يكن له ولد كان هلاكه على يدي القرابات والجيران‏)‏‏.‏ قالوا وكيف ذلك يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يعيرونه بضيق المعيشة ويكلفونه ما لا يطيق فعند ذلك يورد نفسه الموارد التي يهلك فيها‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ أحوال الناس في هذا الباب تختلف، فرب رجل تكون له قوة على سكنى الكهوف والغيران في الجبال، وهي أرفع الأحوال لأنها الحالة التي اختارها الله لنبيه صلى الله عليه وسلم في بداية أمره، ونص عليها في كتابه مخبرا عن الفتية، فقال‏{‏وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف‏}‏الكهف‏:‏ 16‏]‏‏.‏ ورب رجل تكون العزلة له في بيته أخف عليه وأسهل؛ وقد اعتزل رجال من أهل بدر فلزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم‏.‏ ورب رجل متوسط بينهما فيكون له من القوة ما يصبر بها على مخالطة الناس وأذاهم، فهو معهم في الظاهر ومخالف لهم في الباطن‏.‏ وذكر ابن المبارك حدثنا وهيب بن الورد قال‏:‏ جاء رجل إلى وهب بن منبه فقال‏:‏ إن الناس وقعوا فيما وقعوا وقد حدثت نفسي ألا أخالطهم‏.‏ فقال‏:‏ لا تفعل إنه لا بد لك من الناس، ولا بد لهم منك، ولك إليهم حوائج، ولهم إليك حوائج، ولكن كن فيهم أصم سميعا، أعمى بصيرا، سكوتا نطوقا‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن كل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معنى الجبال والشعاب؛ مثل الاعتكاف في المساجد، ولزوم السواحل للرباط والذكر، ولزوم البيوت فرارا عن شرور الناس‏.‏ وإنما جاءت الأحاديث بذكر الشعاب والجبال واتباع الغنم - والله اعلم - لأن ذلك هو الأغلب في المواضع التي يعتزل فيها؛ فكل موضع يبعد عن الناس فهو داخل في معناه، كما ذكرنا، والله الموفق وبه العصمة‏.‏ وروى عقبة بن عامر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يعجب ربك من راعي غنم في رأس شظية الجبل يؤذن بالصلاة ويصلي فيقول الله عز وجل انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة‏)‏‏.‏ خرجه النسائي‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة‏{‏ لما فروا ممن يطلبهم اشتغلوا بالدعاء ولجؤوا إلى الله تعالى فقالوا‏{‏ربنا آتنا من لدنك رحمة‏{‏ أي مغفرة ورزقا‏.‏ ‏{‏وهيئ لنا من أمرنا رشدا‏{‏ توفيقا للرشاد‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ مخرجا من الغار في سلامة‏.‏ وقيل صوابا‏.‏ ومن هذا المعنى أنه عليه السلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 11 ‏)‏

‏{‏فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا‏}‏

عبارة عن إلقاء الله تعالى النوم عليهم‏.‏ وهذه من فصيحات القرآن التي أقرت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله‏.‏ قال الزجاج‏:‏ أي منعناهم عن أن يسمعوا؛ لأن النائم إذا سمع انتبه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ضربنا على آذانهم بالنوم؛ أي سددنا آذانهم عن نفوذ الأصوات إليها‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏{‏فضربنا على آذانهم‏{‏ أي فاستجبنا دعاءهم، وصرفنا عنهم شر قومهم، وأنمناهم‏.‏ والمعنى كله متقارب‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هذا كقول العرب ضرب الأمير على يد الرعية إذا منعهم الفساد، وضرب السيد على يد عبده المأذون له في التجارة إذا منعه من التصرف‏.‏ قال الأسود بن يعفر وكان ضريرا‏:‏

ومن الحوادث لا أبالك أنني ضربت علي الأرض بالأسداد

وأما تخصيص الأذان بالذكر فلأنها الجارحة التي منها عظم فساد النوم، وقلما ينقطع نوم نائم إلا من جهة أذنه، ولا يستحكم نوم إلا من تعطل السمع‏.‏ ومن ذكر الأذن في النوم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ذاك رجل بال الشيطان في أذنه‏)‏ خرجه الصحيح‏.‏ أشار عليه السلام إلى رجل طويل النوم، لا يقوم الليل‏.‏ و‏{‏عددا‏{‏ نعت للسنين؛ أي معدودة، والقصد به العبارة عن التكثير؛ لأن القليل لا يحتاج إلى عدد لأنه قد عرف‏.‏ والعد المصدر، والعدد اسم المعدود كالنفض والخبط‏.‏ وقال أبو عبيدة‏{‏عددا‏{‏ نصب على المصدر‏.‏ ثم قال قوم‏:‏ بين الله تعالى عدد تلك السنين من بعد فقال‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعا‏}‏الكهف‏:‏ 25‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 12 ‏)‏

‏{‏ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم بعثناهم‏{‏ أي من بعد نومهم‏.‏ ويقال لمن أحيي أو أقيم من نومه مبعوث؛ لأنه كان ممنوعا من الانبعاث والتصرف‏.‏ ‏{‏لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا‏{‏ ‏{‏لنعلم‏{‏ عبارة عن خروج ذلك الشيء إلى الوجود ومشاهدته؛ وهذا على نحو كلام العرب، أي نعلم ذلك موجودا، إلا فقد كان الله تعالى علم أي الحزبين أحصى الأمد‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏ليعلم‏{‏ بالياء‏.‏ والحزبان الفريقان، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا‏.‏ والحزب الثاني أهل المدينة الذين بعث الفتية على عهدهم، حين كان عندهم التاريخ لأمر الفتية‏.‏ وهذا قول الجمهور من المفسرين‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هما حزبان من الكافرين، اختلفا في مدة أصحاب الكهف‏.‏ وقيل‏:‏ هما حزبان من المؤمنين‏.‏ وقيل غير ذلك مما لا يرتبط بألفاظ الآية‏.‏ و‏{‏أحصى‏{‏ فعل ماض‏.‏ و‏{‏أمدا‏{‏ نصب على المفعول به؛ قاله أبو علي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ نصب على التمييز‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ نصب على الظرف، أي أي الحزبين أحصى للبثهم في الأمد، والأمد الغاية‏.‏ وقال مجاهد‏{‏أمدا‏{‏ نصب معناه عددا، وهذا تفسير بالمعنى على جهة التقريب‏.‏ وقال الطبري‏{‏أمدا‏{‏ منصوب بـ ‏{‏لبثوا‏{‏‏.‏ ابن عطية‏:‏ وهذا غير متجه، وأما من قال إنه نصب على التفسير فيلحقه من الاختلال أن أفعل لا يكون من فعل رباعي إلا في الشاذ، و‏{‏أحصى‏{‏ فعل رباعي‏.‏ وقد يحتج له بأن يقال‏:‏ إن أفعل في الرباعي قد كثر؛ كقولك‏:‏ ما أعطاه للمال وآتاه للخير‏.‏ وقال في صفة حوضه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ماؤه أبيض من اللبن‏)‏‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ فهو لما سواها أضيع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 13 ‏)‏

‏{‏نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى‏}‏

قوله تعالى‏{‏نحن نقص عليك نبأهم بالحق‏{‏ لما اقتضى قوله تعالى ‏{‏لنعلم أي الحزبين أحصى‏{‏ اختلافا وقع في أمد الفتية، عقب بالخبر عن أنه عز وجل يعلم من أمرهم بالحق الذي وقع‏.‏ ‏{‏إنهم فتية‏{‏ أي شباب وأحداث حكم لهم بالفتوة حين آمنوا بلا واسطة؛ كذلك قال أهل اللسان‏:‏ رأس الفتوة الإيمان‏.‏ وقال الجنيد‏:‏ الفتوة بذل الندى وكف الأذى وترك الشكوى‏.‏ وقيل‏:‏ الفتوة اجتناب المحارم واستعجال المكارم‏.‏ وقيل غير هذا‏.‏ وهذا القول حسن جدا؛ لأنه يعم بالمعنى جميع ما قيل في الفتوة‏.‏ ‏{‏وزدناهم هدى‏{‏ أي يسرناهم للعمل الصالح؛ من الانقطاع إلى الله تعالى، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا‏.‏ وهذه زيادة على الإيمان‏.‏ وقال السدي‏:‏ زادهم هدى بكلب الراعي حين طردوه ورجموه مخافة أن ينبح عليهم وينبه بهم؛ فرفع الكلب يديه إلى السماء كالداعي فأنطقه الله، فقال‏:‏ يا قوم لم تطردونني، لم ترجمونني لم تضربونني فوالله لقد عرفت الله قبل أن تعرفوه بأربعين سنة؛ فزادهم الله بذلك هدى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 14 ‏)‏

‏{‏وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وربطنا على قلوبهم‏{‏ عبارة عن شدة عزم وقوة صبر، أعطاها الله لهم حتى قالوا بين يدي الكفار‏{‏ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا‏{‏‏.‏ ولما كان الفزع وخور النفس يشبه بالتناسب الانحلال حسن في شدة النفس وقوة التصميم أن يشبه الربط؛ ومنه يقال‏:‏ فلان رابط الجأش، إذا كان لا تفرق نفسه عند الفزع والحرب وغيرها‏.‏ ومنه الربط على قلب أم موسى‏.‏ وقوله تعالى‏{‏وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام‏}‏الأنفال‏:‏ 11‏]‏ وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إذ قاموا فقالوا‏{‏ يحتمل ثلاثة معان‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون هذا وصف مقامهم بين يدي الملك الكافر - كما تقدم، وهو مقام يحتاج إلى الربط على القلب حيث خالفوا دينه، ورفضوا في ذات الله هيبته‏.‏ والمعنى الثاني فيما قيل‏:‏ إنهم أولاد عظماء تلك المدينة، فخرجوا واجتمعوا وراء تلك المدينة من غير ميعاد؛ فقال أسنهم‏:‏ إني أجد في نفسي أن ربي رب السماوات والأرض؛ فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا‏.‏ فقاموا جميعا فقالوا‏{‏ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا‏{‏‏.‏ أي لئن دعونا إلها غيره فقد قلنا إذا جورا ومحالا‏.‏ والمعنى الثالث‏:‏ أن يعبر بالقيام، عن انبعاثهم بالعزم إلى الهروب إلى الله تعالى ومنابذة الناس؛ كما تقول‏:‏ قام فلان إلى أمر كذا إذا عزم عليه بغاية الجد‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ تعلقت الصوفية في القيام والقول بقول ‏{‏إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا تعلق غير صحيح هؤلاء قاموا فذكروا الله على هدايته، وشكروا لما أولاهم من نعمه ونعمته، ثم هاموا على وجوههم منقطعين إلى ربهم خائفين من قومهم؛ وهذه سنة الله في الرسل والأنبياء والفضلاء الأولياء‏.‏ أين هذا من ضرب الأرض بالأقدام والرقص بالأكمام وخاصة في هذه الأزمان عند سماع الأصوات الحسان من المرد والنسوان؛ هيهات بينهما والله ما بين الأرض والسماء‏.‏ ثم هذا حرام عند جماعة العلماء، على ما يأتي بيانه في سورة لقمان إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏سبحان‏{‏ عند قوله‏{‏ولا تمش في الأرض مرحا‏}‏الإسراء‏:‏ 37‏]‏ ما فيه كفاية‏.‏ وقال الإمام أبو بكر الطرسوسي وسئل عن مذهب الصوفية فقال‏:‏ وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري؛ لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون؛ فهو دين الكفار وعباد العجل، على ما يأتي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 15 ‏)‏

‏{‏هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا‏}‏

قوله تعالى‏{‏هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة‏{‏ أي قال بعضهم لبعض‏:‏ هؤلاء قومنا أي أهل عصرنا وبلدنا، عبدوا الأصنام تقليدا من غير حجة‏.‏ ‏{‏لولا‏{‏ أي هلا‏.‏ ‏{‏يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا‏{‏ أي بحجة على عبادتهم الصنم‏.‏ وقيل‏{‏عليهم‏{‏ راجع إلى الآلهة؛ أي هلا أقاموا بينة على الأصنام في كونها آلهة؛ فقولهم ‏{‏لولا‏{‏ تحضيض بمعنى التعجيز؛ وإذا لم يمكنهم ذلك لم يجب أن يلتفت إلى دعواهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 16 ‏)‏

‏{‏وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ اعتزلتموهم‏{‏ قيل‏:‏ هو من قول الله لهم‏.‏ أي وإذ اعتزلتموهم فاؤوا إلى الكهف‏.‏ وقيل‏:‏ هو من قول رئيسهم يمليخا؛ فيما ذكر ابن عطية‏.‏ وقال الغزنوي‏:‏ رئيسهم مكسلمينا، قال لهم ذلك؛ أي إذ اعتزلتموهم واعتزلتم ما يعبدون‏.‏ ثم استثنى وقال ‏{‏إلا الله‏{‏ أي إنكم لم تتركوا عبادته؛ فهو استثناء منقطع‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا على تقدير إن الذين فر أهل الكهف منهم لا يعرفون الله، ولا علم لهم به؛ وإنما يعتقدون الأصنام في ألوهيتهم فقط‏.‏ وإن فرضنا أنهم يعرفون الله كما كانت العرب تفعل لكنهم يشركون أصنامهم معه في العبادة فالاستثناء متصل؛ لأن الاعتزال وقع في كل ما يعبد الكفار إلا في جهة الله‏.‏ وفي مصحف عبدالله بن مسعود ‏{‏وما يعبدون من دون الله‏{‏‏.‏ قال قتادة هذا تفسيرها‏.‏

قلت‏:‏ ويدل على هذا ما ذكره أبو نعيم الحافظ عن عطاء الخراساني في قوله تعالى ‏{‏وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله‏{‏ قال‏:‏ كان فتية من قوم يعبدون الله ويعبدون معه آلهة فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله‏.‏

ابن عطية‏:‏ فعلى ما قال قتادة تكون ‏{‏إلا‏{‏ بمنزلة غير، و‏{‏ما‏{‏ من قوله ‏{‏وما يعبدون إلا الله‏{‏ قي موضع نصب، عطفا على الضمير في قول ‏{‏اعتزلتموهم‏{‏‏.‏ ومضمن هذه الآية أن بعضهم قال لبعض‏:‏ إذا فارقنا الكفار وانفردنا بالله تعالى فلنجعل الكهف مأوى ونتكل على الله؛ فإنه سيبسط لنا رحمته، وينشرها علينا، ويهيئ لنا من أمرنا مرفقا‏.‏ وهذا كله دعاء بحسب الدنيا، وعلى ثقة كانوا من الله في أمر آخرتهم‏.‏ وقال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنه‏:‏ كان أصحاب الكهف صياقلة، واسم الكهف حيوم‏.‏ ‏{‏مرفقا‏{‏ قرئ بكسر الميم وفتحها، وهو ما يرتفق به وكذلك مرفق الإنسان ومرفقه؛ ومنهم من يجعل ‏{‏المرفق‏{‏ بفتح الميم الموضع كالمسجد وهما لغتان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 17 ‏)‏

‏{‏وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وترى الشمس إذا طلعت تتزاور عن كهفهم ذات اليمين‏{‏ أي ترى أيها المخاطب الشمس عند طلوعها تميل عن كهفهم‏.‏ والمعنى‏:‏ إنك لو رأيتهم لرأيتهم كذا؛ لا أن المخاطب رآهم على التحقيق‏.‏ و‏{‏تزاور‏{‏ تتنحى وتميل؛ من الازورار‏.‏ والزور الميل‏.‏ والأزور في العين المائل النظر إلى ناحية، ويستعمل في غير العين؛ كما قال ابن أبي ربيعة‏:‏

وجنبي خيفة القوم أزور

ومن اللفظة قول عنترة‏:‏

فازور من وقع القنا بلبانه

وفي حديث غزوة مؤتة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في سرير عبدالله بن رواحة ازورارا عن سرير جعفر وزيد بن حارثة‏.‏ وقرأ أهل الحرمين وأبو عمرو ‏{‏تزاور‏{‏ بإدغام التاء في الزاي، والأصل ‏{‏تتزاور‏{‏‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة والكسائي ‏{‏تزاور‏{‏ مخففة الزاي‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏تزور‏{‏ مثل تحمر‏.‏ وحكى الفراء ‏{‏تزوار‏{‏ مثل تحمار؛ كلها بمعنى واحد‏.‏ ‏{‏وإذا غربت تقرضهم‏{‏ قرأ الجمهور بالتاء على معنى تتركهم؛ قاله مجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تدعهم‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا معروف في اللغة، حكى البصريون أنه يقال‏:‏ قرضه يقرضه إذا تركه؛ والمعنى‏:‏ أنهم كانوا لا تصيبهم شمس البتة كرامة لهم؛ وهو قول ابن عباس‏.‏ يعني أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الكهف، وإذا غربت تمر بهم ذات الشمال، أي شمال الكهف، فلا تصيبهم في ابتداء النهار ولا في آخر النهار‏.‏ وكان كهفهم مستقبل بنات نعش في أرض الروم، فكانت الشمس تميل عنهم طالعة وغاربة وجارية لا تبلغهم لتؤذيهم بحرها، وتغير ألوانهم وتبلي ثيابهم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب، وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته‏.‏ وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله، دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك‏.‏ وقرأت فرقة ‏{‏بقرضهم‏{‏ بالياء من القرض وهو القطع، أي يقطعهم الكهف بظله من ضوء الشمس‏.‏ وقيل‏{‏وإذا غربت تقرضهم‏{‏ أي يصيبهم يسير منها، مأخوذ من قارضة الذهب والفضة، أي تعطيهم الشمس اليسير من شعاعها‏.‏ وقالوا‏:‏ كان في مسها لهم بالعشي إصلاح لأجسادهم‏.‏ وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس علبهم في معظم النهار‏.‏ وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر‏.‏ والمقصود بيان حفظهم عن تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم، والتأذي بحر أو برد‏.‏ ‏{‏وهم في فجوة منه‏{‏ أي من الكهف والفجوة المتسع، وجمعها فجوات وفجاء؛ مثل ركوة وركاء وركوات وقال الشاعر‏:‏

ونحن ملأنا كل واد وفجوة رجالا وخيلا غير ميل ولا عزل

أي كانوا بحيث يصيبهم نسيم الهواء‏.‏ ‏{‏ذلك من آيات الله‏{‏ لطف بهم‏.‏ ‏{‏من يهد الله فهو المهتدي‏{‏ أي لو هداهم الله لاهتدوا‏.‏ ‏{‏ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا‏{‏ أي لا يهديهم أحد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 18 ‏)‏

‏{‏وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وتحسبهم أيقاظا‏{‏ وقال أهل التفسير‏:‏ كانت أعينهم مفتوحة وهم نائمون؛ فكذلك كان الرائي يحسبهم أيقاظا‏.‏ وقيل‏:‏ تحسبهم أيقاظا لكثرة تقلبهم كالمستيقظ في مضجعه‏.‏ و‏{‏أيقاظا‏{‏ جمع يقظ ويقظان، وهو المنتبه‏.‏ ‏{‏وهم رقود‏{‏ كقولهم‏:‏ وهم قوم ركوع وسجود وقعود فوصف الجمع بالمصدر‏.‏ ‏{‏ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ لئلا تأكل الأرض لحومهم‏.‏ قال أبو هريرة‏:‏ كان لهم في كل عام تقليبتان‏.‏ وقيل‏:‏ في كل سنة مرة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ في كل سبع سنين مرة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا‏.‏ وظاهر كلام المفسرين أن التقليب كان من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله، فيضاف إلى الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكلبهم‏{‏ قال عمرو بن دينار‏:‏ إن مما أخذ على العقرب ألا تضر أحدا (2)‏ في ليله أو في نهاره‏:‏ صلى الله على نوح‏.‏ وإن مما أخذ على الكلب ألا يضر من حمل عليه (3):‏ وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد‏.‏

أكثر المفسرين على أنه كلب حقيقة، وكان لصيد أحدهم أو لزرعه أو غنمه؛ على ما قال مقاتل‏.‏ واختلف في لونه اختلافا كثيرا، ذكره الثعلبي‏.‏ تحصيله‏:‏ أي لون ذكرت أصبت؛ حتى قيل لون الحجر وقيل لون السماء‏.‏ واختلف أيضا في اسمه؛ فعن علي‏:‏ ريان‏.‏ ابن عباس‏:‏ قطمير‏.‏ الأوزاعي‏:‏ مشير‏.‏ عبدالله بن سلام‏:‏ بسيط‏.‏ كعب‏:‏ صهيا‏.‏ وهب‏:‏ نقيا‏.‏ وقيل قطمير؛ ذكره الثعلبي‏.‏ وكان اقتناء الكلب جائزا في وقتهم، كما هو عندنا اليوم جائز في شرعنا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هربوا ليلا، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب فاتبعهم على دينهم‏.‏ وقال كعب‏:‏ مروا بكلب فنبح لهم فطردوه فعاد فطردوه مرارا، فقام الكلب على رجليه ورفع يديه إلى السماء كهيئة الداعي، فنطق فقال‏:‏ لا تخافوا مني أنا أحب أحباء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم‏.‏

ورد في الصحيح عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من أجره كل يوم قيراطان‏)‏‏.‏ وروى الصحيح أيضا عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انقص من أجره كل يوم قيراط‏)‏‏.‏ قال الزهري‏:‏ وذكر لابن عمر قول أبي هريرة فقال‏:‏ يرحم الله أبا هريرة كان صاحب زرع‏.‏ فقد دلت السنة الثابتة على اقتناء الكلب للصيد والزرع والماشية‏.‏ وجعل النقص في أجر من اقتناها على غير ذلك من المنفعة؛ إما لترويع الكلب المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه، أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته، على ما يراه الشافعي، أو لاقتحام النهي عن اتخاذ ما لا منفعة فيه؛ والله اعلم‏.‏ وقال في إحدى الروايتين ‏(‏قيراطان‏)‏ وفي الأخرى ‏(‏قيراط‏)‏‏.‏ وذلك يحتمل أن يكون في نوعين من الكلاب أحدهما أشد أذى من الآخر، كالأسود الذي أمر عليه السلام بقتله، ولم يدخله في الاستثناء حين نهى عن قتلها كما هو منصوص في حديث جابر؛ أخرجه الصحيح‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان‏)‏‏.‏ ويحتمل أن يكون ذلك لاختلاف المواضع، فيكون ممسكه بالمدينة مثلا أو بمكة ينقص قيراطان وبغيرها قيراط‏.‏ وأما المباح اتخاذه فلا ينقص؛ كالفرس والهرة‏.‏ والله اعلم‏.‏

وكلب الماشية المباح اتخاذه عند مالك هو الذي يسرح معها، لا الذي يحفظها في الدار من السراق‏.‏ وكلب الزرع هو الذي يحفظها من الوحوش بالليل أو بالنهار لا من السراق‏.‏ وقد أجاز غير مالك اتخاذها لسراق الماشية والزرع‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏المائدة‏{‏ من أحكام الكلاب ما فيه كفاية، والحمد لله‏.‏

الرابعة‏:‏ قال ابن عطية‏:‏ وحدثني أبي رضي الله عنه قال سمعت أبا الفضل الجوهري في جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة‏:‏ إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم؛ كلب أحب أهل فضل وصحبهم في ذكره الله في محكم تنزيله‏.‏

قلت‏:‏ إذ كان بعض الكلاب قد نال هذه الدرجة العليا بصحبته ومخالطته الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله تعالى بذلك في كتابه جل وعلا فما ظنك بالمؤمنين الموحدين المخالطين المحبين للأولياء والصالحين بل في هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال، المحبين للنبي صلى الله عليه وسلم وآله خير آل‏.‏ روى الصحيح عن أنس بن مالك قال‏:‏ بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد فلقينا رجل عند سدة المسجد فقال‏:‏ يا رسول الله، متى الساعة‏؟‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أعددت لها‏)‏ قال‏:‏ ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فأنت مع من أحببت‏)‏‏.‏ في رواية قال أنس بن مالك‏:‏ فما فرحنا بعد الإسلام فرحا أشد من قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فأنت مع من أحببت‏)‏‏.‏ قال أنس‏:‏ فأنا أحب الله ورسوله وأبا بكر وعمر، فأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم‏.‏

قلت‏:‏ وهذا الذي تمسك به أنس يشمل من المسلمين كل ذي نفس، فكذلك تعلقت أطماعنا بذلك وإن كنا مقصرين، ورجونا رحمة الرحمن وإن كنا غير مستأهلين؛ كلب أحب قوما فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عقد الإيمان وكلمة الإسلام، وحب النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا‏}‏الإسراء‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وقالت فرقة‏:‏ لم يكن كلبا حقيقة، وإنما كان أحدهم، وكان قد قعد عند باب الغار طليعة لهم كما سمي النجم التابع للجوزاء كلبا؛ لأنه منها كالكلب من الإنسان؛ ويقال له‏:‏ كلب الجبار‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فسمي باسم الحيوان اللازم لذلك الموضع أما إن هذا القول يضعفه ذكر بسط الذراعين فإنها في العرف من صفة الكلب حقيقة؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب‏)‏‏.‏ وقد حكى أبو عمر المطرز في كتاب اليواقيت أنه قرئ ‏{‏وكالبهم باسط ذراعيه بالوصيد‏{‏‏.‏ فيحتمل أن يريد بالكالب هذا الرجل على ما روي؛ إذ بسط الذراعين واللصوق بالأرض مع رفع الوجه للتطلع هي هيئة الريبة المستخفي بنفسه‏.‏ ويحتمل أن يريد بالكالب الكلب‏.‏ وقرأ جعفر بن محمد الصادق ‏{‏كالبهم‏{‏ يعني صاحب الكلب‏.‏

قوله تعالى‏{‏باسط ذراعيه‏{‏ أعمل اسم الفاعل وهو بمعنى المضي؛ لأنها حكاية حال ولم يفصد الإخبار عن فعل الكلب‏.‏ والذرع من طرف المرفق إلى طرف الأصبع الوسطى‏.‏ ثم قيل‏:‏ بسط ذراعيه لطول المدة‏.‏ وقيل‏:‏ نام الكلب، وكان ذلك من الآيات‏.‏ وقيل‏:‏ نام مفتوح العين‏.‏ ‏{‏بالوصيد‏{‏ الوصيد‏:‏ القناء؛ قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير، أي فناء الكهف، والجمع وصائد ووصد‏.‏ وقيل الباب‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏.‏ وأنشد‏:‏

بأرض فضاء لا يسد وصيدها علي ومعروفي بها غير منكر

وقد تقدم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ عتبة الباب، والباب الموصد هو المغلق‏.‏ وقد أوصدت الباب وآصدته أي أغلقته‏.‏ والوصيد‏:‏ النبات المتقارب الأصول، فهو مشترك، والله اعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏لو اطلعت عليهم‏{‏ قرأ الجمهور بكسر الواو‏.‏ والأعمش ويحيى بن وثاب بضمها‏.‏ ‏{‏لوليت منهم فرارا‏{‏ أي لو أشرفت عليهم لهربت منهم‏.‏ ‏{‏ولملئت منهم رعبا‏{‏ أي لما حفهم الله تعالى من الرعب واكتنفهم من الهيبة‏.‏ وقيل‏:‏ لوحشة مكانهم؛ وكأنهم آواهم الله إلى هذا المكان الوحش في الظاهر لينقر الناس عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان الناس محجوبين عنهم بالرعب، لا يجسر أحد منهم على الدنو إليهم‏.‏ وقيل‏:‏ الفرار منهم لطول شعورهم وأظفارهم؛ وذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري‏.‏ وهذا بعيد؛ لأنهم لما استيقظوا قال بعضهم لبعض‏:‏ لبثنا يوما أو بعض يوم‏.‏ ودل هذا على أن شعورهم وأظفارهم كانت بحالها؛ إلا أن يقال‏:‏ إنما قالوا ذلك قبل أن ينظروا إلى أظفارهم وشعورهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ناموا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يبل لهم ثوب ولم تغير صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليه أهم‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير وابن عباس وأهل مكة والمدينة ‏{‏لملئت منهم‏{‏ بتشديد اللام على تضعيف المبالغة؛ أي ملئت ثم ملئت‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏لملئت‏{‏ بالتخفيف، والتخفيف أشهر في اللغة‏.‏ وقد جاء التثقيل في قول المخبَّل السعدي‏:‏

وإذ فتك النعمان بالناس محرما فملِّىء من كعب بن عوف سلاسله

وقرأ الجمهور ‏{‏رعبا‏{‏ بإسكان العين‏.‏ وقرأ بضمها أبو جعفر‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ هما لغتان‏.‏ و‏{‏فرارا‏{‏ نصب على الحال و‏{‏رعبا‏{‏ مفعول ثان أو تمييز‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 19 ‏)‏

‏{‏وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم‏{‏ البعث‏:‏ التحريك عن سكون‏.‏ والمعنى‏:‏ كما ضربنا على آذانهم وزدناهم هدى وقلبناهم بعثناهم أيضا؛ أي أيقظناهم من نومهم على ما كانوا عليهم من هيئتهم في ثيابهم وأحوالهم‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة فقاموا جميعا بين عاث ونشوان

أي أيقظت واللام في قوله ‏{‏ليتساءلوا‏{‏ لام الصيرورة وهي لام العاقبة؛ كقوله ‏{‏ليكون لهم عدوا وحزنا‏}‏القصص‏:‏ 8‏]‏ فبعثهم لم سكن لأجل تساؤلهم‏.‏ ‏{‏قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم‏{‏ وذلك أنهم دخلوه غدوة وبعثهم الله في آخر النهار؛ فقال رئيسهم يمليخا أو مكسلمينا‏:‏ الله اعلم بالمدة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت ورقهم كأخفاف الربع؛ ذكره النحاس‏.‏ وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم ‏{‏بورقكم‏{‏ بكسر الراء‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم ‏{‏بورقكم‏{‏ بسكون الراء، حذفوا الكسرة لثقلها، وهما لغتان‏.‏ وقرأ الزجاج ‏{‏بورقكم‏{‏ بكسر الواو وسكون الراء‏.‏ ويروى أنهم انتبهوا جياعا، وأن المبعوث هو يمليخا، كان أصغرهم؛ فيما ذكر الغزنوي‏.‏ والمدينة‏:‏ أفسوس ويقال هي طرسوس، وكان اسمها في الجاهلية أفسوس؛ فلما جاء الإسلام سموها طرسوس‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ كان معهم دراهم عليها صورة الملك الذي كان في زمانهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلينظر أيها أزكى طعاما‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ أحل ذبيحة؛ لأن أهل بلدهم كانوا يذبحون على اسم الصنم، وكان فيهم قوم يخفون إيمانهم‏.‏ ابن عباس‏:‏ كان عامتهم مجوسا‏.‏ وقيل ‏{‏أزكى طعاما‏{‏ أي أكثر بركة‏.‏ قيل‏:‏ إنهم أمروه أن يشتري ما يظن أنه طعام اثنين أو ثلاثة لئلا يطلع عليهم، ثم إذا طبخ كفى جماعة؛ ولهذا قيل ذلك الطعام الأرز‏.‏ وقيل‏:‏ كان زبيبا‏.‏ وقيل تمرا؛ فالله اعلم‏.‏ وقيل‏{‏أزكى‏{‏ أطيب‏.‏ وقيل أرخص‏.‏

قوله تعالى‏{‏فليأتكم برزق منه‏{‏ أي بقوت‏.‏ ‏{‏وليتلطف‏{‏ أي في دخول المدينة وشراء الطعام‏.‏ ‏{‏ولا يشعرن بكم أحدا‏{‏ أي لا يخبرن‏.‏ وقيل‏:‏ إن ظهر عليه فلا يوقعن إخوانه فيما وقع فيه‏.‏

في هذه البعثة بالورق دليل على الوكالة وصحتها‏.‏ وقد وكل علي بن أبي طالب أخاه عقيلا عند عثمان رضي الله عنه؛ ولا خلاف فيها في الجملة‏.‏ والوكالة معروفه في الجاهلية والإسلام؛ ألا ترى إلى عبدالرحمن بن عوف كيف وكل أمية بن خلف بأهله وحاشيته بمكة؛ أي يحفظهم، وأمية مشرك، والتزم عبدالرحمن لأمية من حفظ حاشيته بالمدينة مثل ذلك مجازاة لصنعه‏.‏ روى البخاري عن عبدالرحمن بن عوف قال‏:‏ كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة؛ فلما ذكرت الرحمن؛ قال‏:‏ لا أعرف الرحمن كاتبني باسمك الذي كان في الجاهلية، فكاتبته عبد عمرو‏.‏‏.‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ قال الأصمعي‏:‏ صاغية الرجل الذين يميلون إليه ويأتونه؛ وهو مأخوذ من صغا يصغو ويصغى إذا مال، وكل مائل إلى الشيء أو معه فقد صغا إليه وأصغى؛ من كتاب الأفعال‏.‏

الوكالة عقد نيابة، أذن الله سبحانه فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة في ذلك، إذ ليس كل أحد يقدر على تناول أموره إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من يريحه‏.‏

وقد استدل علماؤنا على صحتها بآيات من الكتاب، منها هذه الآية، وقوله تعالى‏{‏والعاملين عليها‏}‏التوبة‏:‏ 60‏]‏ وقوله ‏{‏اذهبوا بقميصي في آخر الأنعام‏.‏ روى جبر بن عبدالله قال أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له‏:‏ إني أردت الخروج إلى خيبر؛ فقال‏:‏ ‏(‏إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته‏)‏ خرجه أبو داود‏.‏ والأحاديث كثيرة في هذه المعنى، وفي إجماع الأمة على جوازها كفاية‏.‏

الوكالة جائزة في كل حق تجوز النيابة فيه، فلو وكل الغاصب لم يجز، وكان هو الوكيل؛ لأن كل محرم فعله لا تجوز النيابة فيه‏.‏

في هذه الآية نكتة بديعة، وهي أن الوكالة إنما كانت مع التقية خوف أن يشعر بعم أحد لما كانوا عليه من الخوف على أنفسهم‏.‏ وجواز توكيل ذوي العذر متفق عليه؛ فأما من لا عذر له فالجمهور على جوازها‏.‏ وقال أبو حنيفة وسحنون‏:‏ لا تجوز‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وكأن سحنون تلقفه من أسد بن الفرات فحكم به أيام قضائه، ولعله كان يفعل ذلك بأهل الظلم والجبروت؛ إنصافا منهم وإذلالا لهم، وهو الحق؛ فإن الوكالة معونة ولا تكون لأهل الباطل‏.‏

قلت‏:‏ هذا حسن؛ فأما أهل الدين والفضل فلهم أن يوكلوا وإن كانوا حاضرين أصحاء‏.‏ والدليل على صحة جواز الوكالة للشاهد الصحيح ما خرجه الصحيحان وغيرهما عن أبي هريرة قال‏:‏ كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل فجاء يتقاضاه فقال‏:‏ ‏(‏أعطوه‏)‏ فطلبوا له سنة فلم يجدوا إلا سنا فوقها؛ فقال‏:‏ ‏(‏أعطوه‏)‏ فقال‏:‏ أوفيتني أوفى الله لك‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن خيركم أحسنكم قضاء‏)‏‏.‏ لفظ البخاري‏.‏ فدل هذا الحديث مع صحته على جواز توكيل الحاضر الصحيح البدن؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يعطوا عنه السن التي كانت عليه؛ وذلك توكيد منه لهم على ذلك، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مريضا ولا مسافرا‏.‏ وهذا يرد قول أبي حنيفة وسحنون في قولهما‏:‏ أنه لا يجوز توكيل الحاضر الصحيح البدن إلا برضا خصمه؛ وهذا الحديث خلاف قولهما‏.‏

قال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية جواز الشركة لأن الورق كان لجميعهم وتضمنت جواز الوكالة لأنهم بعثوا من وكلوه بالشراء‏.‏ وتضمنت جواز أكل الرفقاء وخلطهم طعامهم معا، وإن كان بعضهم أكثر أكلا من الآخر؛ ومثله قوله تعالى‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏البقرة‏:‏ 220‏]‏ حسبما تقدم بيانه في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ولهذا قال أصحابنا في المسكين يتصدق عليه فيخلطه بطعام لغني ثم يأكل معه‏:‏ إن ذلك جائز‏.‏ وقد قالوا في المضارب يخلط طعامه بطعام غيره ثم يأكل معه‏:‏ إن ذلك جائز‏.‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من اشترى له أضحية‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ليس في الآية دليل على ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكون كل واحد منهم قد أعطاه منفردا فلا يكون فيه اشتراك‏.‏ ولا معول في هذه المسألة إلا على حديثين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن ابن عمر مر بقوم يأكلون تمرا فقال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاقتران إلا أن يستأذن الرجل أخاه‏.‏ الثاني‏:‏ حديث أبي عبيدة في جيش الخبط‏.‏ وهذا دون الأول في الظهور؛ لأنه يحتمل أن يكون أبو عبيدة يعطيهم كفافا من ذلك القوت ولا يجمعهم عليه‏.‏

قلت‏:‏ ومما يدل على خلاف هذا من الكتاب قوله تعالى‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏البقرة‏:‏ 220‏]‏ وقوله ‏{‏ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا‏}‏النور‏:‏ 61‏]‏ على ما يأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 20 ‏)‏

‏{‏إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا‏}‏

قال الزجاج‏:‏ معناه بالحجارة، وهو أخبث القتل‏.‏ وقيل‏:‏ يرموكم بالسب والشتم؛ والأول أصح، لأنه كان عازما على قتلهم كما تقدم في قصصهم‏.‏ والرجم فيما سلف هي كانت على ما ذكر قبله (4)‏ مخالفة دين الناس إذ هي أشفى لجملة أهل ذلك الدين من حيث إنهم يشتركون فيها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 21 ‏)‏

‏{‏وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك أعثرنا عليهم‏{‏ أي أطلعنا عليهم وأظهرناهم‏.‏ و‏{‏أعثر‏{‏ تعدية عثر بالهمزة، وأصل العثار في القدم‏.‏ ‏{‏ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم‏{‏ ‏{‏يتنازعون‏{‏ يعني الأمة المسلمة الذين بعث أهل الكهف على عهدهم‏.‏ وذلك أن دقيانوس مات ومضت قرون وملك أهل تلك الدار رجل صالح، فاختلف أهل بلده في الحشر وبعث الأجساد من القبور، فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا‏:‏ إنما تحشر الأرواح والجسد تأكله الأرض‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ تبعث الروح والجسد جميعا؛ فكبر ذلك على الملك وبقي حيران لا يدري كيف يتبين أمره لهم، حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان، فأعثر الله على أهل الكهف؛ فيقال‏:‏ إنهم لما بعثوا أحدهم بورقهم إلى المدينة ليأتيهم برزق منها استنكر شخصه واستنكرت دراهمه لبعد العهد، فحمل إلى الملك وكان صالحا قد آمن من معه، فلما نظر إليه قال‏:‏ لعل هذا من الفتية الذين خرجوا على عهد دقيانوس الملك، فقد كنت أدعو الله أن يرينيهم، وسأل الفتى فأخبره؛ فسر الملك بذلك وقال‏:‏ لعل الله قد بعث لكن آية، فلنسر إلى الكهف معه، فركب مع أهل المدينة إليهم، فلما دنوا إلى الكهف قال تمليحا‏:‏ أنا أدخل عليهم لئلا يرعبوا فدخل عليهم فأعلمهم الأمر وأن الأمة أمة إسلام، فروي أنهم سروا بذلك وخرجوا إلى الملك وعظموه وعظمهم ثم رجعوا إلى كهفهم‏.‏ وأكثر الروايات على انهم ماتوا حين حدثهم تمليخا ميتة الحق، على ما يأتي‏.‏ ورجع من كان شك في بعث الأجساد إلى اليقين‏.‏ فهذا معنى ‏{‏أعثرنا عليهم‏{‏‏.‏ ‏{‏ليعلموا أن وعد الله حق‏{‏ أي ليعلم الملك ورعيته أن القيامة حق والبعث حق ‏{‏إذ يتنازعون بينهم أمرهم‏{‏‏.‏ وإنما استدلوا بذلك الواحد على خبرهم وهابوا الدخول عليهم فقال الملك‏:‏ ابنوا عليهم بنيانا؛ فقال الذين‏.‏ هم على دين الفتية‏:‏ اتخذوا عليهم مسجدا‏.‏ وروي أن طائفة كافرة قالت‏:‏ نبني بيعة أو مضيفا، فمانعهم المسلمون وقالوا لنتخذن عليهم مسجدا‏.‏ وروي أن بعض القوم ذهب إلى طمس الكهف عليهم وتركهم فيه مغيبين‏.‏ وروي عن عبدالله بن عمر أن الله تعالى أعمى على الناس حينئذ أثرهم وحجبهم عنهم، فذلك دعا إلى بناء البنيان ليكون معلما لهم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملك أراد أن يدفنهم في صندوق من ذهب فأتاه آت منهم في المنام فقال‏:‏ أردت أن تجعلنا في صندوق من ذهب فلا تفعل؛ فإنا من التراب خلقنا وإليه نعود، فدعنا‏.‏

وتنشأ هنا مسائل ممنوعة وجائزة؛ فاتخاذ المساجد على القبور والصلاة فيها والبناء عليها، إلى غير ذلك مما تضمنته السنة من النهي عنه ممنوع لا يجوز؛ لما روى أبو داود والترمذي عن ابن عباس قال‏:‏ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج‏.‏ قال الترمذي‏:‏ وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة حديث ابن عباس حديث حسن‏.‏ وروى الصحيحان عن عائشة أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بالحبشة فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة‏)‏‏.‏ لفظ مسلم‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وهذا يحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجد‏.‏ وروى الأئمة عن أبي مرثد الغنوي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها‏)‏ لفظ مسلم‏.‏ أي لا تتخذوها قبلة فتصلوا عليها أو إليها كما فعل اليهود والنصارى، فيؤدي إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام‏.‏ فحذر النبي صلى الله عليه وسلم عن مثل ذلك، وسد الذرائع المؤدية إلى ذلك فقال‏:‏ ‏(‏اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد‏)‏‏.‏ وروى الصحيحان عن عائشة وعبدالله بن عباس قالا‏:‏ لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك‏:‏ ‏(‏لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد‏)‏ يحذر ما صنعوا‏.‏ وروى مسلم عن جابر قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه‏.‏ وخرجه أبو داود والترمذي أيضا عن جابر قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن يبنى عليها وأن توطأ‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث حسن صحيح‏.‏ وروى الصحيح عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب‏:‏ ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته - في رواية - ولا صورة إلا طمستها‏.‏ وأخرجه أبو داود والترمذي‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ ظاهره منع تسنيم القبور ورفعها وأن تكون لاطئة‏.‏ وقد قال به بعض أهل العلم‏.‏ وذهب الجمهور إلى أن هذا الارتفاع المأمور بإزالته هو ما زاد على التسنيم، ويبقى للقبر ما يعرف به ويحترم، وذلك صفة قبر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنهما - على ما ذكر مالك في الموطأ - وقبر أبينا آدم صلى الله عليه وسلم، على ما رواه الدارقطني من حديث ابن عباس‏.‏ وأما ثعلبة البناء الكثير على نحو ما كانت الجاهلية تفعله تفخيما وتعظيما فذلك يهدم ويزال؛ فإن فيه استعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة، وتشبها بمن كان يعظم القبور ويعبدها‏.‏ وباعتبار هذه المعاني وظاهر النهي أن ينبغي أن يقال‏:‏ هو حرام‏.‏ والتسنيم في القبر‏:‏ ارتفاعه قدر شبر؛ مأخوذ من سنام البعير‏.‏ ويرش عليه بالماء لئلا ينتثر بالريح‏.‏ وقال الشافعي لا بأس أن يطين القبر‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء فيسقط‏.‏ ولا بأس بوضع الأحجار لتكون علامة؛ لما رواه أبو بكر الأثرم قال‏:‏ حدثنا مسدد حدثنا نوح بن دراج عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد قال‏:‏ كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تزور قبر حمزة بن عبدالمطلب كل جمعة وعلمته بصخرة؛ ذكره أبو عمر‏.‏

وأما الجائزة‏:‏ فالدفن في التابوت؛ وهو جائز لا سيما في الأرض الرخوة‏.‏ روي أن دانيال صلوات الله عليه كان في تابوت من حجر، وأن يوسف عليه السلام أوصى بأن يتخذ له تابوت من زجاج ويلقى في ركية مخافة أن يعبد، وبقي كذلك إلى زمان موسى صلوات الله عليهم أجمعين؛ فدلته عليه عجوز فرفعه ووضعه في حظيرة إسحاق عليه السلام‏.‏ وفي الصحيح عن سعد ابن أبي وقاص أنه قال في مرضه الذي هلك فيه‏:‏ اتخذوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا؛ كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ اللحد‏:‏ هو أن يشق في الأرض ثم يحفر قبر آخر في جانب الشق من جانب القبلة إن كانت الأرض صلبة يدخل فيه الميت ويسد عليه باللبن‏.‏ وهو أفضل عندنا من الشق؛ لأنه الذي اختاره الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وبه قال أبو حنيفة قال‏:‏ السنة اللحد‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ الشق‏.‏ ويكره الآجر في اللحد‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا بأس به لأنه نوع من الحجر‏.‏ وكرهه أبو حنيفة وأصحابه؛ لأن الآجر لإحكام البناء، والقبر وما فيه للبلى، فلا يليق به الإحكام‏.‏ وعلى هذا يسوي بين الحجر والآجر‏.‏ وقيل‏:‏ إن الآجر أثر النار فيكره تفاؤلا؛ فعلى هذا يفرق بين الحجر والآجر‏.‏ قالوا‏:‏ ويستحب اللبن والقصب لما روي أنه وضع على قبر النبي صلى الله عليه وسلم حزمة من قصب‏.‏ وحكي عن الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الحنفي رحمه الله أنه جوز اتخاذ التابوت في بلادهم لرخاوة الأرض‏.‏ وقال‏:‏ لو اتخذ تابوت من حديد فلا بأس به، لكن ينبغي أن يفرش فيه التراب وتطين الطبقة العليا مما يلي الميت، ويجعل اللبن الخفيف على يمين الميت ويساره ليصير بمنزلة اللحد‏.‏

قلت‏:‏ ومن هذا المعنى جعل القطيفة في قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن المدينة سبخة، قال شقران‏:‏ أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر‏.‏ قال أبو عيسى الترمذي‏:‏ حديث شقران حديث حسن غريب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 22 ‏)‏

‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم‏{‏ الضمير في ‏{‏سيقولون‏{‏ يراد به أهل التوراة ومعاصري محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وذلك أنهم اختلفوا في عدد أهل الكهف هذا الاختلاف المنصوص‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به النصارى؛ فإن قوما منهم حضروا النبي صلى الله عليه وسلم من نجران فجرى ذكر أصحاب الكهف فقالت اليعقوبية‏:‏ كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم‏.‏ وقالت النسطورية‏:‏ كانوا خمسة سادسهم كلبهم‏.‏ وقال المسلمون‏:‏ كانوا سبعة ثامنهم كلبهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو إخبار عن اليهود الذين أمروا المشركين بمسألة النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الكهف‏.‏ والواو في قول ‏{‏وثامنهم كلبهم‏{‏ طريق النحو بين أنها واو عطف دخلت في آخر إخبار عن عددهم؛ لتفصل أمرهم، وتدل على أن هذا غاية ما قيل، ولو سقطت لصح الكلام‏.‏ وقالت فرقة منها ابن خالويه‏:‏ هي واو الثمانية‏.‏ وحكى الثعلبي عن أبي بكر بن عياش أن قريشا كانت تقول في عددها ستة سبعة وثمانية؛ فتدخل الواو في الثمانية‏.‏ وحكى نحوه القفال، فقال‏:‏ إن قوما قالوا العدد ينتهي عند العرب إلى سبعة، فإذا احتيج إلى الزيادة عليها استؤنف خبر آخر بإدخال الواو، كقوله ‏{‏التائبون العابدون - ثم قال - والناهون عن المنكر والحافظون‏}‏التوبة‏:‏ 112‏]‏‏.‏ يدل عليه أنه لما ذكر أبواب جهنم ‏{‏حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 71‏]‏ بلا واو، ولما ذكر الجنة قال‏{‏وفتحت أبوابها‏}‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ بالواو‏.‏ وقال ‏{‏خير منكن مسلمات‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ ثم قال ‏{‏وأبكارا‏}‏التحريم‏:‏ 5‏]‏ فالسبعة نهاية العدد عندهم كالعشرة الآن عندنا‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ ومثل هذا الكلام تحكم، ومن أين السبعة نهاية عندهم ثم هو منقوض بقوله تعالى‏{‏هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر‏}‏الحشر‏:‏ 23‏]‏ ولم يذكر الاسم الثامن بالواو‏.‏ وقال قوم ممن صار إلى أن عددهم سبعة‏:‏ إنما ذكر الواو في قوله ‏{‏سبعة وثامنهم‏{‏ لينبه على أن هذا العدد هو الحق، وأنه مباين للأعداد الأخر التي قال فيها أهل الكتاب؛ ولهذا قال تعالى في الجملتين المتقدمتين ‏{‏رجما بالغيب‏{‏ ولم يذكره في الجملة الثالثة ولم يقدح فيها بشيء؛ فكأنه قال لنبيه هم سبعة وثامنهم كلبهم‏.‏ والرجم‏:‏ القول بالظن؛ يقال لكل ما يخرص‏:‏ رجم فيه ومرجوم ومرجم؛ كما قال‏:‏

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم

قلت‏:‏ قد ذكر الماوردي والغزنوي‏:‏ وقال ابن جريج ومحمد بن إسحاق كانوا ثمانية، وجعلا قوله تعالى ‏{‏وثامنهم كلبهم‏{‏ أي صاحب كلبهم‏.‏ وهذا مما يقوي طريق النحويين في الواو، وأنها كما قالوا‏.‏ وقال القشري‏:‏ لم يذكر الواو في قوله‏:‏ رابعهم سادسهم، ولو كان بالعكس لكان جائزا، فطلب الحكمة والعلة في مثل هذه الواو تكلف بعيد، وهو كقوله في موضع آخر ‏{‏وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم‏}‏الحجر‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وفي موضع آخر‏{‏إلا لها منذرون‏.‏ ذكرى‏}‏الشعراء‏:‏ 208‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل ربي أعلم بعدتهم‏{‏ أمر الله تعالى نبيه عليه السلام في هذه الآية أن يرد علم عدتهم إليه عز وجل‏.‏ ثم أخبر أن عالم ذلك من البشر قليل‏.‏ والمراد به قوم من أهل الكتاب؛ في قول عطاء‏.‏ وكان ابن عباس يقول‏:‏ أنا من ذلك القليل، كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، ثم ذكر السبعة بأسمائهم، والكلب اسمه قطمير كلب أنمر، فوق القلطي ودون الكردي‏.‏ وقال محمد بن سعيد بن المسيب‏:‏ هو كلب صيني‏.‏ والصحيح أنه زبيري‏.‏ وقال‏:‏ ما بقي بنيسابور محدث إلا كتب عني هذا الحديث إلا من لم يقدر له‏.‏ قال‏:‏ وكتبه أبو عمرو الحيري عني‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا‏{‏ أي لا تجادل في أصحاب الكهف إلا بما أوحيناه إليك؛ وهو رد علم عدتهم إلى الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ معنى المراء الظاهر أن تقول‏:‏ ليس كما تقولون، ونحو هذا، ولا تحتج على أمر مقدر في ذلك‏.‏ وفي هذا دليل على أن الله تعالى لم يبين لأحد عددهم فلهذا قال ‏{‏إلا مراء ظاهرا‏{‏ أي ذاهبا؛ كما قال‏:‏

وتلك شكاة ظاهر عنك عارها

ولم يبح له في هذه الآية أن يماري؛ ولكن قوله ‏{‏إلا مراء‏{‏ استعارة من حيث يماريه أهل الكتاب‏.‏ سميت مراجعته لهم مراء ثم قيد بأنه ظاهر؛ ففارق المراء الحقيقي المذموم‏.‏ والضمير في قوله ‏{‏قيهم‏{‏ عائد على أهل الكهف‏.‏ وقوله‏{‏فلا تمار فيهم‏{‏ يعني في عدتهم؛ وجذفت العدة لدلالة ظاهر القول عليها‏.‏ ‏{‏ولا تستفت فيهم منهم أحدا‏{‏ روي أنه عليه السلام سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن السؤال‏.‏ والضمير في قوله ‏{‏منهم‏{‏ عائد على أهل الكتاب المعارضين‏.‏ وفي هذا دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 24 ‏)‏

‏{‏ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا‏}‏

قال العلماء عاتب الله تعالى نبيه عليه السلام على قوله للكفار حين سألوه عن الروح والفتية وذي القرنين‏:‏ غدا أخبركم بجواب أسئلتكم؛ ولم يستثن في ذلك‏.‏ فاحتبس الوحي عنه خمسة عشر يوما حتى شق ذلك عليه وأرجف الكفار به، فنزلت عليه هذه السورة مفرجة‏.‏ وأمر في هذه الآية ألا يقول في أمر من الأمور إني أفعل غدا كذا وكذا، إلا أن يعلق ذلك بمشيئة الله عز وجل حتى لا يكون محققا لحكم الخبر؛ فإنه إذا قال‏:‏ لأفعلن ذلك ولم يفعل كان كاذبا، وإذا قال لأفعلن ذلك إن شاء الله خرج عن أن بكون محققا للمخبر عنه‏.‏ واللام في قوله ‏{‏لشيء‏{‏ بمنزلة في، أو كأنه قال لأجل شيء‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا أن يشاء الله‏{‏ قال ابن عطية‏:‏ وتكلم الناس في هذه الآية في الاستثناء في اليمين، والآية ليست في الأيمان وإنما هي في سنة الاستثناء في غير اليمين‏.‏ وقوله‏{‏إلا أن يشاء الله‏{‏ في الكلام حذف يقتضيه الظاهر ويحسنه الإيجاز؛ تقديره‏:‏ إلا أن تقول إلا أن يشاء الله؛ أو إلا أن تقول إن شاء الله‏.‏ فالمعنى‏:‏ إلا أن يذكر مشيئة الله؛ فليس ‏{‏إلا أن يشاء الله‏{‏ من القول الذي نهي عنه‏.‏

قلت‏:‏ ما اختاره ابن عطية وارتضاه هو قول الكسائي والفراء والأخفش‏.‏ وقال البصريون‏:‏ المعنى إلا بمشيئة الله‏.‏ فإذا قال الإنسان أنا أفعل هذا إن شاء الله فمعناه بمشيئة الله‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقالت فرقة ‏{‏إلا أن يشاء الله‏{‏ استثناء من قوله ‏{‏ولا تقولن‏{‏‏.‏ قال‏:‏ وهذا قول حكاه الطبري ورد عليه، وهو من الفساد بحيث كان الواجب ألا يحكى‏.‏ وقد تقدم القول في الاستثناء في اليمين وحكمه في ‏{‏المائدة‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏{‏ وفيه مسألة واحدة، وهي الأمر بالذكر بعد النسيان - واختلف في الذكر المأمور به؛ فقيل‏:‏ هو قوله ‏{‏وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا‏{‏ قال محمد الكوفي المفسر‏:‏ إنها بألفاظها مما أمر أن يقولها كل من لم يستثن، وإنها كفارة لنسيان الاستثناء‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هو دعاء مأمور به دون هذا التخصيص‏.‏ وقيل‏:‏ هو قوله ‏{‏إن شاء الله‏}‏الصافات‏:‏ 102‏]‏ الذي كان نسيه عند يمينه‏.‏ حكي عن ابن عباس أنه إن نسي الاستثناء ثم ذكر ولو بعد سنة لم يحنث إن كان حالفا‏.‏ وهو قول مجاهد‏.‏ وحكى إسماعيل بن إسحاق ذلك عن أبي العالية في قوله تعالى‏{‏واذكر ربك إذا نسيت‏{‏ قال‏:‏ يستثني إذا ذكره‏.‏ الحسن‏:‏ ما دام في مجلس الذكر‏.‏ ابن عباس‏:‏ سنتين؛ ذكره الغزنوي قال‏:‏ فيحمل على تدارك التبرك بالاستثناء للتخلص عن الإثم‏.‏ فأما الاستثناء المفيد حكما فلا يصح إلا متصلا‏.‏ السدي‏:‏ أي كل صلاة نسيها إذا ذكرها‏.‏ وقيل‏:‏ استثن باسمه لئلا تنسى‏.‏ وقيل‏:‏ اذكره متى ما نسيته‏.‏ وقيل‏:‏ إذا نسيت شيئا فاذكره يذكركه‏.‏ وقيل‏:‏ اذكره إذا نسيت غيره أو نسيت نفسك؛ فذلك حقيقة الذكر‏.‏ وهذه الآية مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي استفتاح كلام على الأصح، ولست من الاستثناء في المين بشيء، وهي بعد تعم جميع أمته؛ لأنه حكم يتردد في الناس لكثرة وقوعه‏.‏ والله الموفق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 25 ‏)‏

‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا‏}‏

هذا خبر من الله تعالى عن مدة لبثهم‏.‏ وفي قراءة ابن مسعود ‏{‏وقالوا لبثوا‏{‏‏.‏ قال الطبري‏:‏ إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم إلى مدة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم‏:‏ إنهم لبثوا ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فأخبر الله تعالى نبيه أن هذه المدة في كونهم نياما، وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر‏.‏ فأمر الله تعالى أن يرد علم ذلك إليه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فقوله على هذا ‏{‏لبثوا‏{‏ الأول يريد في نوم الكهف، و‏{‏لبثوا‏{‏ الثاني يريد بعد الإعثار إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم، أو إلى وقت عدمهم بالبلاء‏.‏ مجاهد‏:‏ إلى وقت نزول القرآن‏.‏ الضحاك‏:‏ إلى أن ماتوا‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنه لما قال ‏{‏وازدادوا تسعا‏{‏ لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام‏.‏ واختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك، فأمر الله تعالى برد العلم إليه في التسع، فهي على هذا مبهمة‏.‏ وظاهر كلام العرب المفهوم منه أنها أعوام، والظاهر من أمرهم أنهم قاموا ودخلوا الكهف بعد عيسى بيسير وقد بقيت من الحواريين بقية‏.‏ وقيل غير هذا على ما يأتي‏.‏ قال القشيري‏:‏ لا يفهم من التسع تسع ليال وتسع ساعات لسبق ذكر السنين؛ كما تقول‏:‏ عندي مائة درهم وخمسة؛ والمفهوم منه خمسة دراهم‏.‏ وقال أبو علي ‏{‏وازدادوا تسعا‏{‏ أي ازدادوا لبث تسع؛ فحذف‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ لما نزلت ‏{‏ولبثوا في كهفهم ثلثمائة‏{‏ قالوا سنين أم شهور أم جمع أم أيام؛ فأنزل الله عز وجل ‏{‏سنين‏{‏‏.‏ وحكى النقاش ما معناه أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية بحساب الأيام؛ فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ذكرت التسع؛ إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، وهذه الزيادة هي ما بين الحسابين‏.‏ ونحوه ذكر الغزنوي‏.‏ أي باختلاف سني الشمس والقمر؛ لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث سنة سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏ثلثمائة سنين‏{‏ بتنوين مائة ونصب سنين، على التقديم والتأخير؛ أي سنين ثلاثمائة فقدم الصفة على الموصوف، فتكون ‏{‏سنين‏{‏ على هذا بدلا أو عطف بيان‏.‏ وقيل‏:‏ على التفسير والتمييز‏.‏ و‏{‏سنين‏{‏ في موضع سنة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي بإضافة مائة إلى سنين، وترك التنوين؛ كأنهم جعلوا سنين بمنزلة سنة إذ المعنى بهما واحد‏.‏ قال أبو علي‏:‏ هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلاثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى الجموع‏.‏ وفي مصحف عبدالله ‏{‏ثلثمائة سنة‏{‏‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏ثلثمائة سنون‏{‏ بالواو‏.‏ وقرأ أبو عمرو بخلاف ‏{‏تسعا‏{‏ بفتح التاء وقرأ الجمهور بكسرها‏.‏ وقال الفراء والكسائي وأبو عبيدة‏:‏ التقدير ولبثوا في كهفهم سنين ثلثمائة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 26 ‏)‏

‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض أبصر به وأسمع ما لهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل الله أعلم بما لبثوا‏{‏ قيل بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم، على قول مجاهد‏.‏ أو إلى أن ماتوا؛ على قول الضحاك‏.‏ أو إلى وقت تغيرهم بالبلى؛ على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ بما لبثوا في الكهف، وهي المدة التي ذكرها الله تعالى عن اليهود وإن ذكروا زيادة ونقصانا‏.‏ أي لا يعلم علم ذلك إلا الله أو من علمه ذلك ‏{‏له غيب السماوات والأرض‏{‏‏.‏ ‏{‏أبصر به وأسمع‏{‏ أي ما أبصره وأسمعه‏.‏ قال قتادة‏:‏ لا أحد أبصر من الله ولا اسمع‏.‏ وهذه عبارات عن الإدراك‏.‏ ويحتمل أن يكون المعنى ‏{‏أبصر به‏{‏ أي بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور، واسمع به العالم؛ فيكونان أمرين لا على وجه التعجب‏.‏ وقيل‏.‏ المعنى أبصرهم وأسمعهم ما قال الله فيهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ما لهم من دونه من ولي‏{‏ أي لم يكن لأصحاب الكهف ولي يتولى حفظهم دون الله‏.‏ ويحتمل أن يعود الضمير في ‏{‏لهم‏{‏ على معاصري محمد صلى الله عليه وسلم من الكفار‏.‏ والمعنى‏:‏ ما لهؤلاء المختلفين في مدة لبثهم ولي دون الله يتولى تدبير أمرهم؛ فكيف يكونون اعلم منه، أو كيف يتعلمون من غير إعلامه إياهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يشرك في حكمه أحدا‏{‏ قرئ بالياء ورفع الكاف، على معنى الخبر عن الله تعالى‏.‏ وقرأ ابن عامر والحسن وأبو رجاء وقتادة والجحدري ‏{‏ولا تشرك‏{‏ بالتاء من فوق وإسكان الكاف على جهة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون قوله ‏{‏ولا يشرك‏{‏ عطفا على قوله‏{‏أبصر به واسمع‏{‏‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏يشرك‏{‏ بالياء من تحت والجزم‏.‏ قال يعقوب‏:‏ لا أعرف وجهه‏.‏

 مسألة‏:‏

اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا، أو هم نيام وأجسادهم محفوظة؛ فروي عن ابن عباس أنه مر بالشام في بعض غزواته مع ناس على موضع الكهف وجبله، فمشى الناس معه إليه فوجدوا عظاما فقالوا‏:‏ هذه عظام أهل الكهف‏.‏ فقال لهم ابن عباس‏:‏ أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة؛ فسمعه راهب فقال‏:‏ ما كنت أحسب أن أحدا من العرب يعرف هذا؛ فقيل له‏:‏ هذا ابن عم نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليحجن عيسى بن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد‏)‏‏.‏ ذكره ابن عطية‏.‏

قلت‏:‏ ومكتوب في التوراة والإنجيل أن عيسى بن مريم عبدالله ورسوله، وأنه يمر بالروحاء حاجا أو معتمرا أو يجمع الله له ذلك فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم، فيمرون حجاجا فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا‏.‏ وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في كتاب ‏{‏التذكرة‏{‏‏.‏ فعلى هذا هم نيام ولم يموتوا إلى يوم القيامة، بل يموتون قبيل الساعة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 27 ‏)‏

‏{‏واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته‏{‏ قيل‏:‏ هو من تمام قصة أصحاب الكهف؛ أي اتبع القرآن فلا مبدل لكلمات الله ولا خلف فيما أخبر به من قصة أصحاب الكهف‏.‏ وقال الطبري‏:‏ لا مغير لما أوعد بكلماته أهل معاصيه والمخالفين لكتابه‏.‏ ‏{‏ولن تجد‏{‏ أنت ‏{‏من دونه‏{‏ إن لم تتبع القرآن وخالفته‏.‏ ‏{‏ملتحدا‏{‏ أي ملجأ وقيل موئلا وأصله الميل ومن لجأت إليه فقد ملت إليه‏.‏ قال القشيري أبو نصر عبدالرحيم‏:‏ وهذا آخر قصة أصحاب الكهف‏.‏ ولما غزا معاوية غزوة المضيق نحو الروم وكان معه ابن عباس فانتهى إلى الكهف الذي فيه أصحاب الكهف؛ فقال معاوية‏:‏ لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم؛ فقال ابن عباس‏:‏ قد منع الله من هو خير منك عن ذلك، فقال‏{‏لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا‏}‏الكهف‏:‏ 18‏]‏ فقال‏:‏ لا انتهي حتى اعلم علمهم، وبعث قوما لذلك، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم؛ ذكره الثعلبي أيضا‏.‏ وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله أن يريه إياهم، فقال إنك لن تراهم في دار الدنيا ولكن أبعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام‏:‏ كيف أبعثهم‏؟‏ فقال‏:‏ ابسط كساءك واجلس على طرف من أطرافه أبا بكر وعلى الطرف الآخر عمر وعلى الثالث عثمان وعلى الرابع علي بن أبي طالب، ثم ادع الريح الرخاء المسخرة لسليمان فإن الله تعالى يأمرها أن تطيعك؛ ففعل فحملتهم الريح إلى باب الكهف، فقلعوا منه حجرا، فحمل الكلب عليهم فلما رآهم حرك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ إليهم برأسه أن ادخلوا فدخلوا الكهف فقالوا‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ فرد الله على الفتية أرواحهم فقاموا بأجمعهم وقالوا‏:‏ عليكم السلام ورحمة الله وبركاته؛ فقالوا لهم‏:‏ معشر الفتية، إن النبي محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم السلام؛ فقالوا‏:‏ وعلى محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليكم بما أبلغتم، وقبلوا دينه وأسلموا، ثم قالوا‏:‏ أقرئوا محمدا رسول الله منا السلام، وأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي‏.‏ فيقال‏:‏ إن المهدي يسلم عليهم فيحييهم الله ثم يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان منهم، ثم ردتهم الريح فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كيف وجدتموهم‏)‏‏؟‏‏.‏ فأخبروه الخبر‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم لا تفرق بيني وبين أصحابي وأصهاري واغفر لمن أجنبي وأحب أهل بيتي وخاصتي وأصحابي‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن أصحاب الكهف دخلوا الكهف قبل المسيح؛ فأخبر الله تعالى المسيح بخبرهم ثم بعثوا في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا قبل موسى عليه السلام وأن موسى ذكرهم في التوراة؛ ولهذا سألت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ دخلوا الكهف بعد المسيح؛ فالله اعلم أي ذلك كان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 28 ‏)‏

‏{‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏{‏ هذا مثل قوله‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي‏}‏الأنعام‏:‏ 52‏]‏ في سورة ‏{‏الأنعام‏{‏ وقد مضى الكلام فيه‏.‏ وقال سلمان الفارسي رضي الله عنه‏:‏ جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ عيينة بن حصن والأقرع بن حابس فقالوا‏:‏ يا رسول الله؛ إنك لو جلست في صدر المجلس ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين، وكانت عليهم جباب الصوف لم يكن عليهم غيرها - جلسنا إليك وحادثناك وأخذنا عنك، فأنزل الله تعالى ‏{‏واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا‏.‏ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه - حتى بلغ - إنا اعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها‏{‏‏.‏ يتهددهم بالنار‏.‏ فقام النبي صلى الله عليه وسلم يلتمسهم حتى إذا أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا ومعكم الممات‏)‏‏.‏ ‏{‏يريدون وجهه‏{‏ أي طاعته‏.‏ وقرأ نصر بن عاصم ومالك بن دينار وأبو عبدالرحمن ‏{‏ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغدوة والعشي‏{‏ وحجتهم أنها في السواد بالواو‏.‏ وقال أبو جعفر النحاس‏:‏ وهذا لا يلزم لكتبهم الحياة والصلاة بالواو، ولا تكاد العرب تقول الغدوة لأنها معروفة‏.‏ وروي عن الحسن أي لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم من أبناء الدنيا طلبا لزينتها؛ حكاه اليزيدي‏.‏ وقيل‏:‏ لا تحتقرهم عيناك؛ كما يقال فلان تنبو عنه العين؛ أي مستحقرا‏.‏

قوله تعالى‏{‏تريد زينة الحياة الدنيا‏{‏ أي تتزين بمجالسة هؤلاء الرؤساء الذين اقترحوا إبعاد الفقراء من مجلسك؛ ولم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك، ولكن الله نهاه عن أن يفعله، وليس هذا بأكثر من قوله ‏{‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏}‏الزمر‏:‏ 65‏]‏‏.‏ وإن كان الله أعاذه من الشرك‏.‏ و‏{‏تريد‏{‏ فعل مضارع في موضع الحال؛ أي لا تعد عيناك مريدا؛ كقول امرئ القيس‏:‏

فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

وزعم بعضهم أن حق الكلام‏:‏ لا تعد عينيك عنهم؛ لأن ‏{‏تعد‏{‏ متعد بنفسه‏.‏ قيل له‏:‏ والذي وردت به التلاوة من رفع العينين يؤول إلى معنى النصب فيها، إذا كان لا تعد عيناك عنهم بمنزلة لا تنصرف عيناك عنهم، ومعنى لا تنصرف عيناك عنهم لا تصرف عينيك عنهم؛ فالفعل مسند إلى العينين وهو في الحقيقة موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال تعالى‏{‏فلا تعجبك أموالهم‏{‏ فأسند الإعجاب إلى الأموال، والمعنى‏:‏ لا تعجبك يا محمد أموالهم‏.‏ ويزيدك وضوحا قول الزجاج‏:‏ إن المعنى لا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا‏{‏ روى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى‏{‏ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا‏{‏ قال‏:‏ نزلت في أمية بن خلف الجمحي، وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه من تجرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة؛ فأنزل الله تعالى‏{‏ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا‏{‏ يعني من ختمنا على قلبه عن التوحيد‏.‏ ‏{‏واتبع هواه‏{‏ يعني الشرك‏.‏ ‏{‏وكان أمره فرطا‏{‏ قيل هو من التفريط الذي هو التقصير وتقديم العجز بترك الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ من الإفراط ومجاوزة الحد، وكان القوم قالوا‏:‏ نحن أشراف مضر إن أسلمنا أسلم الناس؛ وكان هذا من التكبر والإفراط ف في القول‏.‏ وقيل‏{‏فرطا‏{‏ أي قدما في الشر؛ من قولهم‏:‏ فرط منه أمر أي سبق‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏أغفلنا قلبه‏{‏ وجدناه غافلا؛ كما تقول‏:‏ لقيت فلانا فأحمدته؛ أي وجدته محمودا‏.‏ وقال عمرو بن معد يكرب لبني الحارث بن كعب‏:‏ والله لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم، وهاجيناكم فما أفحمناكم؛ أي ما وجدناكم بخلاء ولا جبناء ولا مفحمين‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت ‏{‏ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا‏{‏ في عيينة بن حصن الفزاري؛ ذكره عبدالرزاق، وحكاه النحاس عن سفيان الثوري‏.‏ والله اعلم‏.‏