فصل: الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر‏{‏ ‏{‏الحق‏{‏ رفع على خبر الابتداء المضمر؛ أي قل هو الحق‏.‏ وقيل‏:‏ هو رفع على الابتداء، وخبره في قوله ‏{‏من ربكم‏{‏‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا‏:‏ أيها الناس من ربكم الحق فإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضلال، يهدي من يشاء فيؤمن، ويضل من يشاء فيكفر؛ ليس إلي من ذلك شيء، فالله يؤتي الحق من يشاء وإن كان ضعيفا، ويحرمه من يشاء وإن كان قويا غنيا، ولست بطارد المؤمنين لهواكم؛ فإن شئتم فآمنوا، وإن شئتم فاكفروا‏.‏ وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد‏.‏ أي إن كفرتم فقد أعد لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنا أعتدنا‏{‏ أي أعددنا‏.‏ ‏{‏للظالمين‏{‏ أي للكافرين الجاحدين‏.‏ ‏{‏نارا أحاط بهم سرادقها‏{‏ قال الجوهري‏:‏ السرادق واحد السرادقات التي تمد فوق صحن الدار‏.‏ وكل بيت من كرسف فهو سرادق‏.‏ قال رؤبة‏:‏

يا حكم بن المنذر بن الجارود سرادق المجد عليك ممدود

يقال‏:‏ بيت مسردق‏.‏ وقال سلامة بن جندل يذكر أبرويز وقتله النعمان بن المنذر تحت أرجل الفيلة‏:‏

هو المدخل النعمان بيتا سماؤه صدور الفيول بعد بيت مسردق

وقال ابن الأعرابي‏{‏سرادقها‏{‏ سورها‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ حائط من نار‏.‏ الكلبي‏:‏ وقال ابن الأعرابي‏{‏سرادقها‏{‏ سورها‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ حائط من نار‏.‏ الكلبي‏:‏ عنق تخرج من النار فتحيط بالكفار كالحظيرة‏.‏ القتبي‏:‏ السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط‏.‏ وقال ابن عزيز‏.‏ وقيل‏:‏ هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة، وهو الذي ذكره الله تعالى في سورة ‏{‏والمرسلات‏{‏‏.‏ حيث يقول‏{‏انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب‏}‏المرسلات‏:‏ 30‏]‏ وقوله‏{‏وظل من يحموم‏}‏الواقعة‏:‏ 43‏]‏ قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه البحر المحيط بالدنيا‏.‏ وروي يعلي بن أمية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏البحر هو جهنم - ثم تلا - نارا أحاط بهم سرادقها - ثم قال - والله لا أدخلها أبدا ما دمت حيا ولا يصيبني منها قطرة‏)‏ ذكره الماوردي‏.‏ وخرج ابن المبارك من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لسرادق النار أربع جدر كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة‏)‏‏.‏ وخرجه أبو عيسى الترمذي، وقال فيه‏:‏ حديث حسن صحيح غريب‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يدل على أن السرادق ما يعلو الكفار من دخان أو نار، وجدره ما وصف‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ المهل ماء غليظ مثل دردي الزيت‏.‏ مجاهد‏:‏ القيح والدم‏.‏ الضحاك‏:‏ ماء أسود، وإن جهنم لسوداء، وماؤها أسود وشجرها أسود وأهلها سود‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس وقصدير، فتموج بالغليان، فذلك المهل‏.‏ ونحوه عن ابن مسعود قال سعيد بن جبير‏:‏ هو الذي قد انتهى حره‏.‏ وقال‏:‏ المهل ضرب من القطران؛ يقال‏:‏ مهلت البعير فهو ممهول‏.‏ وقيل‏:‏ هو السم‏.‏ والمعنى في هذه الأقوال متقارب‏.‏ وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ‏{‏كالمهل‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏كعكر الزيت فإذا قربه إلى وجهه سقطت فروة وجهه‏)‏ قال أبو عيسى‏:‏ هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد ورشدين قد تكلم فيه من قبل حفظه‏.‏ وخرج عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏{‏ويسقى من ماء صديد يتجرعه‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏يقرب إلى فيه فكرهه فإذا أدني منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه إذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره‏.‏ يقول الله تعالى ‏{‏وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم‏}‏محمد‏:‏ 15‏]‏ يقول ‏{‏وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا‏{‏ قال‏:‏ حديث غريب‏.‏

قلت‏:‏ وهذا يدل على صحة تلك الأقوال، وأنها مرادة، والله اعلم‏.‏ وكذلك نص عليها أهل اللغة‏.‏ في الصحاح ‏{‏المهل‏{‏ النحاس المذاب‏.‏ ابن الأعرابي‏:‏ المهل المذاب من الرصاص‏.‏ وقال أبو عمرو‏.‏ المهل دردي الزيت‏.‏ والمهل أيضا القيح والصديد‏.‏ وفي حديث أبي بكر‏:‏ ادفنوني في ثوبي هذين فإنهما للمهل والتراب‏.‏ و‏{‏مرتفقا‏{‏ قال مجاهد‏:‏ معناه مجتمعا، كأنه ذهب إلى معنى المرافقة‏.‏ ابن عباس‏:‏ منزلا‏.‏ عطاء‏:‏ مقرا‏.‏ وقيل مهادا‏.‏ وقال القتبي‏:‏ مجلسا، والمعنى متقارب؛ وأصله من المتكأ، يقال منه‏:‏ ارتفقت أي اتكأت على المرفق‏.‏ قال الشاعر‏:‏

قالت له وارتفقت ألا فتى يسوق بالقوم غزالات الضحى

ويقال‏:‏ ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه لا يأتيه نوم‏.‏ قال أبو ذؤيب الهذلي‏:‏

نام الخلي وبت الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصاب مدبوح

الصاب‏:‏ عصارة شجر مر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏:‏ 31 ‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا، أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا‏}‏

لما ذكر ما أعد للكافرين من الهوان ذكر أيضا ما للمؤمنين من الثواب‏.‏ وفي الكلام إضمار؛ أي لا نضيع أجر من أحسن منهم عملا، فأما من أحسن عملا من غير المؤمنين فعمله محبط‏.‏ و‏{‏عملا‏{‏ نصب على التمييز، وإن شئت بإيقاع ‏{‏أحسن‏{‏ عليه‏.‏ وقيل‏{‏إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا‏{‏ كلام معترض، والخبر قوله ‏{‏أولئك لهم جنات عدن‏{‏‏.‏ و‏{‏جنات عدن‏{‏ سرة الجنة، أي وسطها وسائر الجنات محدقة بها وذكرت بلفظ الجمع لسعتها؛ لأن كل بقعة منها تصلح أن تكون جنة وقيل‏:‏ العدن الإقامة، يقال‏:‏ عدن بالمكان إذا أقام به وعدنت البلد توطنته وعدنت الإبل بمكان كذا لزمته فلم تبرح منه؛ ومنه ‏{‏جنات عدن‏{‏ أي جنات إقامة ومنه سمي المعدن ‏(‏بكسر الدال‏)‏؛ لأن الناس يقيمون فيه بالصيف والشتاء ومركز كل شيء معدنه والعادن‏:‏ الناقة المقيمة في المرعى‏.‏ وعدن بلد؛ قاله الجوهري‏.‏ ‏{‏تجري من تحتهم الأنهار‏{‏ تقدم‏.‏ ‏{‏يحلون فيها من أساور من ذهب‏{‏ وهو جمع سوار‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ على كل واحد منهم ثلاثة أسورة‏:‏ واحد من ذهب، وواحد من ورق، وواحد من لؤلؤ‏.‏

قلت‏:‏ هذا منصوص في القرآن، قال هنا ‏{‏من ذهب‏{‏ وقال في الحج وفاطر ‏{‏من ذهب ولؤلؤا‏}‏الحج‏:‏ 23‏]‏ وفي الإنسان ‏{‏من فضة‏}‏الإنسان‏:‏ 21‏]‏‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء‏)‏ خرجه مسلم‏.‏ وحكى الفراء‏{‏يحلون‏{‏ بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام خفيفة؛ يقال‏:‏ حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي‏.‏ وحلي الشيء بعيني يحلى؛ ذكره النحاس‏.‏ والسوار سوار المرأة، والجمع أسورة، وجمع الجمع أساورة‏.‏ وقرئ ‏{‏فلولا ألقي عليه أساورة من ذهب‏}‏الزخرف‏:‏ وقد يكون الجمع أساور‏.‏ وقال الله تعالى ‏{‏يحلون فيها من أساور من ذهب‏{‏ قاله الجوهري‏.‏ وقال ابن عزيز‏:‏ أساور جمع أسورة، وأسورة جمع سوار وسوار، وهو الذي يلبس في الذراع من ذهب، فإن كان من فضة فهو قلب وجمعه قلبة؛ فإن كان من قرن أو عاج فهي مسكة وجمعه مسك‏.‏ قال النحاس‏:‏ وحكى قطرب في واحد الأساور إسوار، وقطرب صاحب شذوذ، قد تركه يعقوب وغيره فلم يذكره‏.‏

قلت‏:‏ قد جاء في الصحاح وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ وأحدها إسوار‏.‏ وقال المفسرون‏:‏ لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور‏.‏ والتيجان جعل الله تعالى ذلك لأهل الجنة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق‏{‏ السندس‏:‏ الرفيق النحيف، واحده سندسة؛ قال الكسائي‏.‏ والإستبرق‏:‏ ما ثخن منه - عن عكرمة - وهو الحرير‏.‏ قال الشاعر‏:‏

تراهن يلبسن المشاعر مرة وإستبرق الديباج طورا لباسها

فالإستبرق الديباج‏.‏ ابن بحر‏:‏ المنسوج بالذهب‏.‏ القتبي‏:‏ فارسي معرب‏.‏ الجوهري‏:‏ وتصغيره أبيرق‏.‏ وقيل‏:‏ هو استفعل من البريق‏.‏ والصحيح أنه وفاق بين اللغتين؛ إذ ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، على ما تقدم، والله اعلم‏.‏‏{‏ وخص الأخضر بالذكر لأنه الموافق للبصر؛ لأن البياض يبدد النظر ويؤلم، والسواد يذم، والخضرة بين البياض والسواد، وذلك يجمع الشعاع‏.‏ والله اعلم‏.‏ روى النسائي عن عبدالله بن عمرو بن العاص فال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله، أخبرنا عن ثياب الجنة، أخلق يخلق أم نسج ينسج‏؟‏ فضحك بعض القوم‏.‏ فقال لهم‏:‏ ‏(‏مم تضحكون من جاهل يسأل عالما‏)‏ فجلس يسيرا أو قليلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أين السائل عن ثياب الجنة‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ ها هو ذا يا رسول الله؛ قال ‏(‏لا بل تشقق عنها ثمر الجنة‏)‏ قالها ثلاثا‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ دار المؤمن درة مجوفة في وسطها شجرة تنبت الحلل ويأخذ بأصبعه أو قال بأصبعيه سبعين حلة منظمة بالدر والمرجان‏.‏ ذكره يحيى بن سلام في تفسيره وابن المبارك في رقائقه‏.‏ وقد ذكرنا إسناده في كتاب التذكرة‏.‏ وذكر في الحديث أنه يكون على كل واحد منهم الحلة لها وجهان لكل وجه لون، يتكلمان به بصوت يستحسنه سامعه، يقول أحد الوجهين للآخر‏:‏ أنا أكرم على ولي الله منك، أنا ألي جسده وأنت لا تلي‏.‏ ويقول الآخر‏:‏ أنا أكرم على ولي الله منك، أنا أبصر وجهه وأنت لا تبصر‏.‏

قوله تعالى‏{‏متكئين فيها على الأرائك‏{‏ ‏{‏الأرائك‏{‏ جمع أريكة، وهي السرر في الحجال‏.‏ وقيل الفرش في الحجال؛ قاله الزجاج‏.‏ ابن عباس‏:‏ هي الأسرة من ذهب، وهي مكللة بالدر والياقوت عليها الحجال، الأريكة ما بين صنعاء إلى أيلة وما بين عدن إلى الجابية‏.‏ وأصل متكئين موتكئين، وكذلك اتكأ أصله أو تكأ، وأصل التكأة وكأة؛ ومنه التوكأ للتحامل على الشيء، فقلبت الواو تاء وأدغمت‏.‏ ورجل وكأة كثير الاتكاء‏.‏ ‏{‏نعم الثواب وحسنت مرتفقا‏{‏ يعني الجنات، عكس ‏{‏وساءت مرتفقا‏{‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏ ولو كان ‏{‏نعمت‏{‏ لجاز لأنه اسم للجنة‏.‏ وعلى هذا ‏{‏وحسنت مرتفقا‏{‏‏.‏ وروى البراء بن عازب أن أعرابيا قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء فقال‏:‏ إني رجل مسلم فأخبرني عن هذه الآية ‏{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏{‏ الآية؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أنت منهم ببعيد ولا هم ببعيد منك هم هؤلاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فأعلم قومك أن هذه الآية نزلت فيهم‏)‏ ذكره الماوردي، وأسنده النحاس في كتاب معاني القرآن، قال‏:‏ حدثنا أبو عبدالله أحمد بن علي بن سهل قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا يحيى بن الضريس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب قال‏:‏ قام أعرابي‏.‏‏.‏‏.‏؛ فذكره‏.‏ وأسنده السهيلي في كتاب الأعلام‏.‏ وقد روينا جميع ذلك بالإجازة، والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 34 ‏)‏

‏{‏واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا، كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا، وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واضرب لهم مثلا رجلين‏{‏ هذا مثل لمن يتعزز بالدنيا ويستنكف عن مجالسة المؤمنين، وهو متصل بقوله ‏{‏واصبر نفسك‏}‏الكهف‏:‏ 28‏]‏‏.‏ واختلف في اسم هذين الرجلين وتعيينهما؛ فقال الكلبي‏:‏ نزلت في أخوين من أهل مكة مخزوميين، أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر بن مخزوم، زوج أم سلمة قبل النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ والآخر كافر وهو الأسود بن عبدالأسد، وهما الأخوان المذكوران في سورة ‏{‏الصافات‏{‏ في قوله ‏{‏قال قائل منهم إني كان لي قرين‏}‏الصافات‏:‏ 51‏]‏، ورث كل واحد منهما أربعة آلاف دينار، فأنفق أحدهما مال في سبيل الله وطلب من أخيه شيئا فقال ما قال‏.‏‏.‏‏.‏؛ ذكره الثعلبي والقشيري‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مثل لجميع من آمن بالله وجميع من كفر‏.‏ وقيل‏:‏ هو مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وصهيب وأصحابه؛ شبههم الله برجلين من بني إسرائيل أخوين أحدهما مؤمن واسمه يهوذا؛ في قول ابن عباس‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ اسمه تمليخا‏.‏ والآخر كافر واسمه قرطوش‏.‏ وهما اللذان وصفهما الله تعالى في سورة الصافات‏.‏ وكذا ذكر محمد بن الحسن المقرئ قال‏:‏ اسم الخير منهما تمليخا، والآخر قرطوش، وأنهما كانا شريكين ثم اقتسما المال فصار لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار، فاشترى المؤمن منهما عبيدا بألف وأعتقهم، وبالألف الثانية ثيابا فكسا العراة، وبالألف الثالثة طعاما فأطعم الجوع، وبنى أيضا مساجد، وفعل خيرا‏.‏ وأما الآخر فنكح بماله نساء ذوات يسار، واشترى دواب وبقرا فاستنتجها فنمت له نماء مفرطا، وأتجر بباقيها فربح حتى فاق أهل زمانه غنى؛ وأدركت الأول الحاجة، فأراد أن يستخدم نفسه في جنة يخدمها فقال‏:‏ لو ذهبت لشريكي وصاحبي فسألته أن يستخدمني في بعض جناته رجوت أن يكون ذلك أصلح بي، فجاءه فلم يكد يصل إليه من غلظ الحجاب، فلما دخل عليه وعرفه وسأله حاجته قال له‏:‏ ألم أكن قاسمتك المال نصفين فما صنعت بمالك‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ اشتريت به من الله تعالى ما هو خير منه وأبقى‏.‏ فقال‏.‏ أإنك لمن المصدقين، ما أظن الساعة قائمة وما أراك إلا سفيها، وما جزاؤك عندي على سفاهتك إلا الحرمان، أو ما ترى ما صنعت أنا بمالي حتى آل إلى ما تراه من الثروة وحسن الحال، وذلك أني كسبت وسفهت أنت، اخرج عني‏.‏ ثم كان من قصة هذا الغني ما ذكره الله تعالى في القرآن من الإحاطة بثمره وذهابها أصلا بما أرسل عليها من السماء من الحسبان‏.‏ وقد ذكر الثعلبي هذه القصة بلفظ آخر، والمعنى متقارب‏.‏

قال عطاء‏:‏ كانا شريكين لهما ثمانية آلاف دينار‏.‏ وقيل‏:‏ ورثاه من أبيهما وكانا أخوين فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضا بألف دينار، فقال صاحبه‏:‏ اللهم إن فلانا قد اشترى أرضا بألف دينار وإني اشتريت منك أرضا في الجنة بألف دينار فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى دارا بألف دينار فقال‏:‏ اللهم إن فلانا بنى دارا بألف دينار وإني اشتري منك دارا في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم تزوج امرأة فأنفق عليها ألف دينار، فقال‏:‏ اللهم إن فلانا تزوج امرأة بألف دينار وإني أخطب إليك من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار‏.‏ ثم اشترى خدما ومتاعا بألف دينار، وإني أشتري منك خدما ومتاعا من الجنة بألف دينار، فتصدق بألف دينار‏.‏ ثم أصابته حاجة شديدة فقال‏:‏ لعل صاحبي ينالني معروفه فأتاه فقال‏:‏ ما فعل مالك‏؟‏ فأخبره قصته فقال‏:‏ وإنك لمن المصدقين بهذا الحديث والله لا أعطيك شيئا ثم قال له‏:‏ أنت تعبد إله السماء، وأنا لا أعبد إلا صنما؛ فقال صاحبه‏:‏ والله لأعظنه، فوعظه وذكره وخوفه‏.‏ فقال‏:‏ سر بنا نصطد السمك، فمن صاد أكثر فهو على حق؛ فقال له‏:‏ يا أخي إن الدنيا أحقر عند الله من أن يجعلها ثوابا لمحسن أو عقابا لكافر‏.‏ قال‏:‏ فأكرهه على الخروج معه، فابتلاهما الله، فجعل الكافر يرمي شبكته ويسمي باسم صنمه، فتطلع متدفقه سمكا‏.‏ وجعل المؤمن يرمي شبكته ويسمي باسم الله فلا يطلع له فيها شيء؛ فقال له‏:‏ كيف ترى أنا أكثر منك في الدنيا نصيبا ومنزلة ونفرا، كذلك أكون أفضل منك في الآخرة إن كان ما تقول بزعمك حقا‏.‏ قال‏:‏ فضج الملك الموكل بهما، فأمر الله تعالى جبريل أن يأخذه فيذهب به إلى الجنان فيريه منازل المؤمن فيها، فلما رأى ما أعد الله له قال‏:‏ وعزتك لا يضره ما ناله من الدنيا بعد ما يكون مصيره إلى هذا؛ وأراه منازل الكافر في جهنم فقال‏:‏ وعزتك لا ينفعه ما أصابه من الدنيا بعد أن يكون مصيره إلى هذا‏.‏ ثم إن الله تعالى توفى المؤمن وأهلك الكافر بعذاب من عنده، فلما استقر المؤمن في الجنة ورأى ما أعد الله له أقبل هو وأصحابه يتساءلون، فقال‏{‏إني كان لي قرين‏.‏ يقول أإنك لمن المصدقين‏}‏الصافات‏:‏ 51‏]‏ الآية؛ فنادى مناد‏:‏ يا أهل الجنة هل أنتم مطلعون فاطلع إلى جهنم فرآه في سواء الجحيم؛ فنزلت ‏{‏واضرب لهم مثلا‏{‏‏.‏

بين الله تعالى حال الأخوين في الدنيا في هذه السورة، وبين حالهما في الآخرة في سورة ‏{‏الصافات‏{‏ في قول ‏{‏إني كان لي قرين‏.‏ يقول أإنك لمن المصدقين - إلى قوله - لمثل هذا فليعمل العاملون‏}‏الصافات‏:‏ 51‏]‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين، وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر فأنفق في طاعة الله حتى عيره الآخر، وجرت بينهما المحاورة فغرقها الله تعالى في ليلة، وإياها عني بهذه الآية‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن هذا مثل ضربه الله تعالى لهذه الأمة، وليس بخبر عن حال متقدمة، لتزهد في الدنيا وترغب في الآخرة، وجعله زجرا وإنذارا؛ ذكره الماوردي‏.‏ وسياق الآية يدل على خلاف هذا، والله اعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وحففناهما بنخل‏{‏ أي أطفناهما من جوانبهما بنخل‏.‏ والحفاف الجانب، وجمعه أحفة؛ ويقال‏:‏ حف القوم بفلان يحفون حفا، أي طافوا به؛ ومنه ‏{‏حافين من حول العرش‏}‏الزمر‏:‏ 75‏]‏‏.‏ ‏{‏وجعلنا بينهما زرعا‏{‏ أي جعلنا حول الأعناب النخل، ووسط الأعناب الزرع‏.‏

قوله تعالى‏{‏كلتا الجنتين‏{‏ أي كل واحدة من الجنتين، واختلف في لفظ ‏{‏كلتا وكلا‏{‏ هل هو مفرد أو مثنى؛ فقال أهل البصرة‏:‏ هو مفرد؛ لأن كلا وكلتا في توكيد الاثنين نظير ‏{‏كل‏{‏ في المجموع، وهو اسم مفرد غير مثنى؛ فإذا ولي اسما ظاهرا كان في الرفع والنصب والخفض على حالة واحدة، تقول‏:‏ رأيت كلا الرجلين وجاءني كلا الرجلين ومررت بكلا الرجلين؛ فإذا اتصل بمضمر قلبت الألف ياء في موضع الجر والنصب، تقول‏:‏ رأيت كليهما ومررت بكليهما، كما تقول عليهما‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو مثنى، وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية‏.‏ وكذلك كلتا للمؤنث، ولا يكونان إلا مضافين ولا يتكلم بواحد، ولو تكلم به لقيل‏:‏ كل وكلت وكلان وكلتان‏.‏ واحتج بقول الشاعر‏:‏

في كلت رجليها سلامى واحده كلتاهما مقرونة بزائده

أراد في إحدى رجليها فأفرد‏.‏ وهذا القول ضعيف عند أهل البصرة؛ لأنه لو كان مثنى لوجب أن تكون ألفه في النصب والجر ياء مع الاسم الظاهر، ولأن معنى ‏{‏كلا‏{‏ مخالف لمعنى ‏{‏كل‏{‏ لأن ‏{‏كلا‏{‏ للإحاطة و‏{‏كلا‏{‏ يدل على شيء مخصوص، وأما هذا الشاعر فإما حذف الألف للضرورة وقدر أنها زائدة، وما يكون ضرورة لا يجوز أن يجعل حجة، فثبت أنه اسم مفرد كمعى، إلا أنه وضع ليدل على التثنية، كما أن قولهم ‏{‏نحن‏{‏ اسم مفرد يدل على اثنين فما فوقهما، يدل على ذلك قول جرير‏:‏

كلا يومي أمامة يوم صد وإن لم نأتها إلا لماما

فأخبر عن ‏{‏كلا‏{‏ بيوم مفرد، كما أفرد الخبر بقوله ‏{‏آتت‏{‏ ولو كان مثنى لقال آتتا، ويوما‏.‏ واختلف أيضا في ألف ‏{‏كلتا‏{‏؛ فقال سيبويه‏:‏ ألف ‏{‏وكلتا‏{‏ للتأنيث والتاء بدل من لام الفعل وهي واو والأصل كلوا، وإنما أبدلت تاء لأن في التاء علم التأنيث، والألف ‏{‏في كلتا‏{‏ قد تصير ياء مع المضمر فتخرج عن علم التأنيث، فصار في إبدال الواو تاء تأكيد للتأنيث‏.‏ وقال أبو عمر الجرمي‏:‏ التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده‏:‏ فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم الجرمي‏:‏ التاء ملحقة والألف لام الفعل، وتقديرها عنده‏:‏ فعتل، ولو كان الأمر على ما زعم لقالوا في النسبة إليها كلتوي، فلما قالوا كلوي وأسقطوا التاء دل على أنهم أجروها مجرى التاء في أخت إذا نسبت إليها قلت أخوي؛ ذكره الجوهري‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وأجاز النحويون في غير القرآن الحمل على المعنى، وأن تقول‏:‏ كلتا الجنتين آتتا أكلهما؛ لأن المعنى المختار كلتاهما آتتا‏.‏ وأجاز الفراء‏:‏ كلتا الجنتين آتى أكله، قال‏:‏ لأن المعنى كل الجنتين‏.‏ قال‏:‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏كل الجنتين أتى أكله‏{‏‏.‏ والمعنى على هذا عند الفراء‏:‏ كل شيء من الجنتين آتي أكله‏.‏ والأكل ‏(‏بضم الهمزة‏)‏ ثمر النخل والشجر‏.‏ وكل ما يؤكل فهو أكل؛ ومنه قوله تعالى‏{‏أكلها دائم‏}‏الرعد‏:‏ 35‏]‏ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏آتت أكلها‏{‏ تاما ولذلك لم يقل آتتا‏.‏ ‏{‏ولم تظلم منه شيئا‏{‏ أي لم تنقص‏.‏

قوله تعالى‏{‏وفجرنا خلالهما نهرا‏{‏ أي أجرينا وشققنا وسط الجنتين بنهر‏.‏ ‏{‏وكان له ثمر‏{‏ قرأ أبو جعفر وشيبة وعاصم ويعقوب وابن أبي إسحاق ‏{‏ثمر‏{‏ بفتح الثاء والميم، وكذلك قوله ‏{‏وأحيط بثمره‏}‏الكهف‏:‏ 42‏]‏ جمع ثمرة‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الثمرة واحدة الثمر والثمرات، وجمع الثمر ثمار؛ مثل جبل وجبال‏.‏ قال الفراء‏:‏ وجمع الثمار ثمر؛ مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر أثمار؛ مثل أعناق وعنق‏.‏ والثمر أيضا المال المثمر؛ يخفف ويثقل‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏وكان له ثمر‏{‏ بضم الثاء وإسكان الميم، وفسره بأنواع المال‏.‏ والباقون بضمها في الحرفين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ذهب وفضة وأموال‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأنعام‏{‏ نحو هذا مبينا‏.‏ ذكر النحاس‏:‏ حدثنا أحمد بن شعيب قال أخبرني عمران بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن العلاء الزبيدي قال حدثنا شعيب بن إسحاق قال هارون قال حدثني أبان عن ثعلب عن الأعمش أن الحجاج قال‏:‏ لو سمعت أحدا يقرأ ‏{‏وكان له ثمر‏{‏ لقطعت لسانه؛ فقلت للأعمش‏:‏ أتأخذ بذلك‏؟‏ فقال‏:‏ لا‏؟‏ ولا نعمة عين‏.‏ فكان يقرأ ‏{‏ثمر‏{‏ ويأخذه من جمع الثمر‏.‏ قال النحاس‏:‏ فالتقدير على هذا القول أنه جمع ثمرة على ثمار، ثم جمع ثمار على ثمر؛ وهو حسن في العربية إلا أن القول الأول أشبه والله اعلم؛ لأن قوله ‏{‏كلتا الجنتين آتت أكلها‏{‏ يدل على أن له ثمرا‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقال لصاحبه وهو يحاوره‏{‏ أي يراجعه في الكلام ويجاوبه‏.‏ والمحاورة المجاوبة، والتحاور التجاوب‏.‏ ويقال‏:‏ كلمته فما أحار إلي جوابا، وما رجع إلي حويرا ولا حويرة ولا محورة ولا حوارا؛ أي ما رد جوابا‏.‏ ‏{‏أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا‏{‏ النفر‏:‏ الرهط وهو ما دون العشرة‏.‏ وأراد ههنا الاتباع والخدم والولد، حسبما تقدم بيانه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 35 ‏:‏ 36 ‏)‏

‏{‏ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ودخل جنته‏{‏ قيل‏:‏ أخذ بيد أخيه المؤمن يطيف به فيها ويريه إياها‏.‏ ‏{‏وهو ظالم لنفسه‏{‏ أي بكفره، وهو جملة في موضع الحال‏.‏ ومن أدخل نفسه النار بكفره فهو ظالم لنفسه‏.‏ ‏{‏قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا‏{‏ أنكر فناء الدار‏.‏ ‏{‏وما أظن الساعة قائمة‏{‏ أي لا أحسب البعث كائنا‏.‏ ‏{‏ولئن رددت إلى ربي‏{‏ أي وإن كان بعث فكما أعطاني هذه النعم في الدنيا فسيعطيني أفضل منه لكرامتي عليه؛ وهو معنى قوله ‏{‏لأجدن خيرا منها منقلبا‏{‏ وإنما قال ذلك لما دعاه أخوه إلى الإيمان بالحشر والنشر‏.‏ وفي مصاحف مكة والمدينة والشام ‏{‏منهما‏{‏‏.‏ وفي مصاحف أهل البصرة والكوفة ‏{‏منها‏{‏ على التوحيد، والتثنية أولى؛ لأن الضمير أقرب إلى الجنتين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 37 ‏:‏ 38 ‏)‏

‏{‏قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا، لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال له صاحبه وهو يحاوره‏{‏ يهوذا أو تمليخا؛ على الخلاف في اسمه‏.‏ ‏{‏أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا‏{‏ وعظه وبين له أن ما اعترف به من هذه الأشياء التي لا ينكرها أحد أبدع من الإعادة‏.‏ و‏{‏سواك رجلا‏{‏ أي جعلك معتدل القامة والخلق، صحيح الأعضاء ذكرا‏.‏ ‏{‏لكنا هو الله ربي‏{‏ كذا قرأه أبو عبدالرحمن السلمي وأبو العالية‏.‏ وروي عن الكسائي ‏{‏لكن هو الله‏{‏ بمعنى لكن الأمر هو الله ربي، فأضمر اسمها فيها‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏لكنا‏{‏ بإثبات الألف‏.‏ قال الكسائي‏:‏ فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ لكن الله هو ربي أنا، فحذفت الهمزة من ‏{‏أنا‏{‏ طلبا للخفة لكثرة الاستعمال وأدغمت إحدى النونين في الأخرى وحذفت ألف ‏{‏أنا‏{‏ في الوصل وأثبتت في الوقف‏.‏ وقال النحاس‏:‏ مذهب الكسائي والفراء والمازني أن الأصل لكن أنا فألقيت حركة الهمزة على نون لكن وحذفت الهمزة وأدغمت النون في النون فالوقف عليها لكنا وهي ألف أنا لبيان الحركة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الأصل لكن أنا، فحذفت الألف فالتقت نونان فجاء بالتشديد لذلك، وأنشدنا الكسائي‏:‏

لهنك من عبسية لوسيمة على هنوات كاذب من يقولها

أراد‏:‏ لله إنك، فأسقط إحدى اللامين من ‏{‏لله‏{‏ وحذف الألف من إنك‏.‏ وقال آخر فجاء به على الأصل‏:‏

وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكن إياك لا أقلي

أي لكن أنا‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ورووا عن عاصم ‏{‏لكنا هو الله ربي‏{‏ وزعم أن هذا لحن، يعني إثبات الألف في الإدراج‏.‏ قال الزجاج‏:‏ إثبات الألف في ‏{‏لكنا هو الله ربي‏{‏ في الإدراج جيد؛ لأنه قد حذفت الألف من أنا فجاؤوا بها عوضا‏.‏ قال‏:‏ وفي قراءة أبي ‏{‏لكن أنا هو الله ربي‏{‏‏.‏ وقرأ ابن عامر والمسيلي عن نافع ورويس عن يعقوب ‏{‏لكنا‏{‏ في حال الوقف والوصل معا بإثبات الألف‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

أنا سيف العشيرة فاعرفوني حميدا قد تذريت السناما

وقال الأعشى‏:‏

فكيف أنا وانتحال القوافي بعد المشيب كفى ذاك عارا

ولا خلاف في إثباتها في الوقف‏.‏ ‏{‏هو الله ربي‏{‏ ‏{‏هو‏{‏ ضمير القصة والشأن والأمر؛ كقوله ‏{‏فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا‏}‏الأنبياء‏:‏ 97‏]‏ وقوله‏{‏قل هو الله أحد‏}‏الإخلاص‏:‏ 1‏]‏‏.‏ ‏{‏ولا أشرك بربي أحدا‏{‏ دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا بالله تعالى يعبد غيره‏.‏ ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه؛ وهو الذي آتاني الفقر‏.‏ ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه؛ فهو إشراك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 39 ‏:‏ 41 ‏)‏

‏{‏ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا، فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا، أو يصبح ماؤها غورا فلن تستطيع له طلبا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله‏{‏ أي بالقلب، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه، إذ قال ‏{‏ما أظن أن تبيد هذه أبدا‏}‏الكهف‏:‏ 35‏]‏ و‏{‏ما‏{‏ في موضع رفع، تقديره‏:‏ هذه الجنة هي ما شاء الله‏.‏ وقال الزجاج والفراء‏:‏ الأمر ما شاء الله، أو هو ما شاء الله؛ أي الأمر مشيئة الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب مضمر، أي ما شاء الله كان، وما لا يشاء لا يكون‏.‏ ‏{‏لا قوة إلا بالله‏{‏ أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع‏.‏

قال أشهب قال مالك‏:‏ ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا‏.‏ وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة‏:‏ رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا ‏{‏ما شاء الله لا قوة إلا بالله‏{‏‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة‏:‏ ‏(‏ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة‏)‏ قلت‏:‏ بلى يا رسول الله، قال ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم‏)‏ أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي موسى‏.‏ وفيه‏:‏ فقال ‏(‏يا أبا موسى أو يا عبدالله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة - ‏)‏ قلت‏:‏ ما هي يا رسول الله، قال‏:‏ ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏‏.‏ وعنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة‏)‏ قلت‏:‏ بلى؛ فقال ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏)‏‏.‏ وروي أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال‏:‏ باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت‏.‏ خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان‏)‏ هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له‏:‏ ‏(‏هديت وكفيت ووقيت‏)‏‏.‏ وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي‏)‏‏.‏ وقال الحاكم أبو عبدالله في علوم الحديث‏:‏ سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء‏)‏ من الضعيف‏؟‏ قال‏:‏ الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة‏.‏ وقال أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين‏)‏‏.‏ وقد قال قوم‏:‏ ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به‏.‏ وروي أن من قال أربعا أمن من أربع‏:‏ من قال هذه أمن من العين، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا‏{‏ ‏{‏إن‏{‏ شرط ‏{‏ترن‏{‏ مجزوم به، والجواب ‏{‏فعسى ربي‏{‏ و‏{‏أنا‏{‏ فاصلة لا موضع لها من الإعراب‏.‏ ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏إن ترن أنا أقل منك‏{‏ بالرفع؛ يجعل ‏{‏أنا‏{‏ مبتدأ و‏{‏أقل‏{‏ خبره، والجملة في موضع المفعول الثاني، والمفعول الأول النون والياء؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة‏.‏ و‏{‏فعسى‏{‏ بمعنى لعل أي فلعل ربي‏.‏ ‏{‏أن يؤتيني خيرا من جنتك‏{‏ أي في الآخرة‏.‏ وقيل في الدنيا‏.‏ ‏{‏ويرسل عليها‏{‏ أي على جنتك‏.‏ ‏{‏حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا‏{‏ أي مرامي من السماء، وأحدها حسبانة؛ قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة‏.‏ وقال ابن الأعرابي‏:‏ والحسبانة السحابة، والحسبانة الوسادة، والحسبانة الصاعقة‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ والحسبان ‏(‏بالضم‏)‏‏:‏ العذاب‏.‏ وقال أبو زياد الكلابي‏:‏ أصاب الأرض حسبان أي جراد‏.‏ والحسبان أيضا الحساب، قال الله تعالى‏{‏الشمس والقمر بحسبان‏}‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وقد فسر الحسبان هنا بهذا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ الحسبان من الحساب؛ أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما اكتسبت يداك؛ فهو من باب حذف المضاف‏.‏ والحسبان أيضا‏:‏ سهام قصار يرمى بها في طلق واحد، وكان من رمي الأكاسرة‏.‏ والمرامي من السماء عذاب‏.‏ ‏{‏فتصبح صعيدا زلقا‏{‏ يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض؛ و‏{‏زلقا‏{‏ تأكيد لوصف الصعيد؛ أي وتزل عنها الأقدام لملاستها‏.‏ يقال‏:‏ مكان زلق ‏(‏بالتحريك‏)‏ أي دحض، وهو في الأصل مصدر قولك‏:‏ زلقت رجله تزلق زلقا، وأزلقها غيره‏.‏ والزلق أيضا عجز الدابة‏.‏ قال رؤبة‏:‏

كأنها حقباء بلقاء الزلق

والمزلقة والمزلقة‏:‏ الموضع الذي لا يثبت عليه قدم‏.‏ وكذلك الزلاقة‏.‏ والزلق الحلق، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه؛ قال الجوهري‏.‏ والزلق المحلوق، كالنقض والنقض‏.‏ وليس المراد أنها تصير مزلقة، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر؛ قاله القشيري‏.‏ ‏{‏أو يصبح ماؤها غورا‏{‏ أي غائرا ذاهبا، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء‏.‏ والغور مصدر وضع موضع الاسم؛ كما يقال‏:‏ رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح؛ ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع‏.‏ قال عمرو بن كلثوم‏:‏

تظل جياده نوحا عليه مقلدة أعنتها صفونا

آخر‏:‏

هريقي من دموعهما سجاما ضباع وجاوبي نوحا قياما

أي نائحات‏.‏ وقيل‏:‏ أو يصبح ماؤها ذا غور؛ فحذف المضاف؛ مثل ‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏ ذكره النحاس‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ ماء غور‏.‏ وقد غار الماء يغور غورا وغوورا، أي سفل في الأرض، ويجوز الهمزة لانضمام الواو‏.‏ وغارت عينه تغور غورا وغوورا؛ دخلت في الرأس‏.‏ وغارت تغار لغة فيه‏.‏ وقال‏:‏

أغارت عينه أم لم تغارا

وغارت الشمس تغور غيارا، أي غربت‏.‏ قال أبو ذؤيب‏:‏

هل الدهر إلا ليلة ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها

‏{‏فلن تستطيع له طلبا‏{‏ أي لن تستطيع رد الماء الغائر، ولا تقدر عليه بحيلة‏.‏ وقيل‏:‏ فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه‏.‏ وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 42 ‏)‏

‏{‏وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وأحيط بثمره‏{‏ اسم ما لم يسم فاعله مضمر، وهو المصدر‏.‏ ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع‏.‏ ومعنى ‏{‏أحيط بثمره‏{‏ أي أهلك ماله كله‏.‏ وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه‏.‏ ‏{‏فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها‏{‏ أي فأصبح الكافر يضرب إحدى يديه على الأخرى ندما؛ لأن هذا يصدر من النادم‏.‏ وقيل‏:‏ يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق؛ وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد، من قولهم‏:‏ في يده مال، أي في ملكه مال‏.‏ ودل قوله ‏{‏فأصبح‏{‏ على أن هذا الإهلاك جرى بالليل؛ كقوله ‏{‏فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون‏.‏ فأصبحت كالصريم‏}‏القلم‏:‏ 19‏]‏ ويقال‏:‏ أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها‏.‏ ‏{‏وهي خاوية على عروشها‏{‏ أي خالية قد سقط بعضها على بعض؛ مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها‏.‏ وأخوت مثله‏.‏ وخوت الدار خواء أقوت، وكذلك إذا سقطت؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏}‏النمل‏:‏ 52‏]‏ ويقال ساقطة؛ كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها؛ فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل، وهذا من أعظم الجوانح، مقابلة على بغية‏.‏ ‏{‏ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا‏{‏ أي يا ليتني عرفت نعم الله علي، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به‏.‏ وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله‏{‏ ‏{‏فئة‏{‏ اسم ‏{‏تكن‏{‏ و‏{‏له‏{‏ الخبر‏.‏ ‏{‏ينصرونه‏{‏ في موضع الصفة، أي فئة ناصرة‏.‏ ويجوز أن يكون ‏{‏ينصرونه‏{‏ الخبر‏.‏ والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم ‏{‏له‏{‏‏.‏ وأبو العباس يخالفه، ويحتج بقول الله عز وجل ‏{‏ولم يكن له كفوا أحد‏}‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏‏.‏ وقد أجاز سيبويه الآخر‏.‏ و‏{‏ينصرونه‏{‏ على معنى فئة؛ لأن معناها أقوام، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره؛ أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما كان منتصرا‏{‏ أي ممتنعا؛ قاله قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ مستردا بدل ما ذهب منه‏.‏ وقد تقدم اشتقاق الفئة في ‏{‏آل عمران‏{‏‏.‏ والهاء عوض من الياء التي نقصت من وسطه، أصله فيء مثل فيع؛ لأنه من فاء، ويجمع على فئون وفئات، مثل شيات ولدات ومئات‏.‏ أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 44 ‏)‏

‏{‏هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا‏}‏

قوله تعالى‏{‏هنالك الولاية لله الحق‏{‏ اختلف في العامل في قوله ‏{‏هنالك‏{‏ وهو ظرف؛ فقيل‏:‏ العامل فيه ‏{‏ولم تكن له فئة‏{‏ ولا كان هنالك؛ أي ما نصر ولا انتصر هنالك، أي لما أصابه من العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله ‏{‏منتصرا‏{‏‏.‏ والعامل في قوله ‏{‏هنالك‏{‏‏{‏الولاية‏{‏‏.‏ وتقديره على التقديم والتأخير‏:‏ الولاية لله الحق هنالك، أي في القيامة‏.‏ وقرأ أبو عمرو والكسائي ‏{‏الحق‏{‏ بالرفع نعتا للولاية‏.‏ وقرأ أهل المدينة وحمزة ‏{‏الحق‏{‏ بالخفض نعتا لله عز وجل، والتقدير‏:‏ لله ذي الحق‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويجوز ‏{‏الحق‏{‏ بالنصب على المصدر والتوكيد؛ كما تقول‏:‏ هذا لك حقا‏.‏ وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي ‏{‏الولاية‏{‏ بكسر الواو، الباقون بفتحها، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة‏.‏ وقيل‏:‏ الولاية بالفتح من الموالاة؛ كقوله ‏{‏الله ولي الذين آمنوا‏}‏البقرة‏:‏ 257‏]‏‏.‏ ‏{‏ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا‏}‏محمد‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة؛ كقوله ‏{‏والأمر يومئذ لله‏}‏الانفطار‏:‏ 19‏]‏ أي له الملك والحكم يومئذ، أي لا يرد أمره إلى أحد؛ والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوي والتوهمات يوم القيامة‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ إنها بفتح الواو للخالق، وبكسرها للمخلوق‏.‏ ‏{‏هو خير ثوابا‏{‏ أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به، وليس ثم غير يرجى منه، ولكنه أراد في ظن الجهال؛ أي هو خير من يرجى‏.‏ ‏{‏وخير عقبا‏{‏ قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى ‏{‏عقبا‏{‏ ساكنة القاف، الباقون بضمها، وهما بمعنى واحد؛ أي هو خير عافية لمن رجاه وآمن به‏.‏ يقال‏:‏ هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه، أي آخره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 45 ‏)‏

‏{‏واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏واضرب لهم مثل الحياة الدنيا‏{‏ أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا، أي شبهها‏.‏ ‏{‏كماء أنزلناه من السماء فاختلط به‏{‏ أي بالماء‏.‏ ‏{‏نبات الأرض‏{‏ حتى استوى‏.‏ وقيل‏:‏ إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في ‏{‏يونس‏{‏ مبينا‏.‏ وقالت الحكماء‏:‏ إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر‏.‏ وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل‏:‏ يا رسول الله، إني أريد أن أكون من الفائزين؛ قال‏:‏ ‏(‏ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي‏)‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه‏)‏‏.‏ ‏{‏فأصبح‏{‏ أي النبات ‏{‏هشيما‏{‏ أي متكسرا من اليبس متفتتا، يعني بانقطاع الماء عنه، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه‏.‏ والهشم‏:‏ كسر الشيء اليابس‏.‏ والهشيم من النبات اليابس المتكسر، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء‏.‏ ومنه قولهم‏:‏ ما فلان إلا هشيمة كرم؛ إذا كان سمحا‏.‏ ورجل هشيم‏:‏ ضعيف البدن‏.‏ وتهشم عليه فلان إذا تعطف‏.‏ واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه‏.‏ ويقال‏:‏ هشم الثريد؛ ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو، وفيه يقول عبدالله بن الزبعرى‏:‏

عمرو العلا هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف

وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة، وهشم ذلك الخبز، يعني كسره وثرده، ونحر تلك الإبل، ثم أمر الطهاة فطبخوا، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة؛ فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم؛ فسمي بذلك هاشما‏.‏ ‏{‏تذروه الرياح‏{‏ أي تفرقه؛ قاله أبو عبيدة‏.‏ ابن قتيبة‏:‏ تنسفه‏.‏ ابن كيسان‏:‏ تذهب به وتجيء‏.‏ ابن عباس‏:‏ تديره؛ والمعنى متقارب‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏{‏تذريه الريح‏{‏‏.‏ قال الكسائي‏:‏ وفي قراءة عبدالله ‏{‏تذريه‏{‏‏.‏ يقال‏:‏ ذرته الريح تذروه ذروا و‏[‏تذريه‏]‏ ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به‏.‏ وحكى الفراء‏:‏ أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته‏.‏ وأنشد سيبويه والفراء‏:‏

فقلت له صوب ولا تجهدنه فيذرك من أخرى القطاة فتزلق

قوله تعالى‏{‏وكان الله على كل شيء مقتدرا‏{‏ من الإنشاء والإفناء والإحياء، سبحانه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا‏}‏

قوله تعالى‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏{‏ ويجوز ‏{‏زينتا‏{‏ وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد‏.‏ وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا، وفي البنين قوة ودفعا، فصارا زينة الحياة الدنيا، لكن معه قرينة الصفة للمال والبنين؛ لأن المعنى‏:‏ المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم‏.‏ وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى، كالهشيم حين ذرته الريح؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة‏.‏ وكان يقال‏:‏ لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك‏.‏ ويكفي قي هذا قول الله تعالى‏{‏إنما أموالكم وأولادكم فتنة‏}‏التغابن‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم‏}‏التغابن‏:‏ 14‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏والباقيات الصالحات‏{‏ أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات ‏{‏خير عند ربك ثوابا‏{‏ أي أفضل ‏{‏وخير أملا‏{‏ أي أفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح، وليس في زينة الدنيا خير، ولكنه خرج مخرج قوله ‏{‏أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا‏}‏الفرقان‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم‏.‏

واختلف العلماء في ‏{‏الباقيات الصالحات‏{‏؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل‏:‏ هي الصلوات الخمس‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة‏.‏ وقاله ابن زيد ورجحه الطبري‏.‏ وهو الصحيح إن شاء الله؛ لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون؛ وحرث الآخرة الباقيات الصالحات، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هي الكلمات المأثور فضلها‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏ خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات‏:‏ إنها قول العبد‏:‏ الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ أسنده النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏استكثروا من الباقيات الصالحات‏)‏ قيل‏:‏ وما هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏‏.‏ صححه أبو محمد عبدالحق رحمه الله‏.‏ وروى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال‏:‏ ‏(‏إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات‏)‏‏.‏ ذكره الثعلبي، وخرجه ابن ماجة بمعناه من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها‏)‏‏.‏ وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال‏:‏ ‏(‏إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة‏)‏‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس، إلا أنه قد رآه ونظر إليه‏.‏ وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام واخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر‏)‏ قال‏:‏ حديث حسن غريب، خرجه الماوردي بمعناه‏.‏ وفيه - فقلت‏:‏ ما غراس الجنة‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏‏.‏ وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا هريرة ما الذي تغرس‏)‏ قلت غراسا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة‏)‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات؛ لأن بها تقبل الأعمال وترفع؛ قال الحسن‏.‏ وقال عبيد بن عمير‏:‏ هن البنات؛ يدل عليه أوائل، الآية؛ قال الله تعالى‏{‏المال والبنون زينة الحياة الدنيا‏{‏ ثم قال ‏{‏والباقيات الصالحات‏{‏ يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا، وخير أملا في الآخرة لمن أحسن إليهن‏.‏ يدل عليه ما روته عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ دخلت علي امرأة مسكينة‏.‏‏.‏ الحديث، وقد ذكرناه في سورة النحل في قوله ‏{‏يتوارى من القوم‏}‏النحل‏:‏ 59‏]‏ الآية‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لقد رأيت رجلا من أمتي أمر به إلى النار فتعلق به بناته وجعلن يصرخن ويقلن رب إنه كان يحسن إلينا في الدنيا فرحمه الله بهن‏)‏‏.‏ وقال قتادة في قوله تعالى‏{‏فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما‏}‏الكهف‏:‏ 81‏]‏ قال‏:‏ أبدلهما منه ابنة فتزوجها نبي فولدت له اثني عشر غلاما كلهم أنبياء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏)‏

‏{‏ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة‏{‏ قال بعض النحويين‏:‏ التقدير والباقيات الصالحات خير عند ربك يوم نسير الجبال‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا غلط من أجل الواو وقيل‏:‏ المعنى واذكر يوم نسير الجبال، أي نزيلها من أماكنها من على وجه الأرض، ونسيرها كما نسير السحاب؛ كما قال في آية أخرى ‏{‏وهي تمر مر السحاب‏}‏النمل‏:‏ 88‏]‏‏.‏ ثم تكسر فتعود إلى الأرض؛ كما قال‏{‏وبست الجبال بسا‏.‏ فكانت هباء منبثا‏}‏الواقعة‏:‏ 6‏]‏‏.‏ وقرأ ابن كثير والحسن وأبو عمرو وابن عامر ‏{‏ويوم تسير‏{‏ بتاء مضمومة وفتح الياء‏.‏ و‏{‏الجبال‏{‏ رفعا على الفعل المجهول‏.‏ وقرأ ابن محيصن ومجاهد ‏{‏ويوم تسير الجبال‏{‏ بفتح التاء مخففا من سار‏.‏ ‏{‏الجبال‏{‏ رفعا‏.‏ دليل قراءة أبي عمرو ‏{‏وإذا الجبال سيرت‏{‏‏.‏ ودليل قراءة ابن محيصن ‏{‏وتسير الجبال سيرا‏{‏‏.‏ واختار أبو عبيد القراءة الأولى ‏{‏نسير‏{‏ بالنون لقوله ‏{‏وحشرناهم‏{‏‏.‏ ومعنى ‏{‏بارزة‏{‏ ظاهرة، وليس عليها ما يسترها من جبل ولا شجر ولا بنيان؛ أي قد اجتثت ثمارها وقلعت جبالها، وهدم بنيانها؛ فهي بارزة ظاهرة‏.‏ وعلى هذا القول أهل التفسير‏.‏ وقيل‏{‏وترى الأرض بارزة‏{‏ أي برز ما فيها من الكنوز والأموات؛ كما قال ‏{‏وألقت ما فيها وتخلت‏}‏الانشقاق‏:‏ 4‏]‏ وقال ‏{‏وأخرجت الأرض أثقالها‏}‏الزلزلة‏:‏ 2‏]‏ وهذا قول عطاء‏.‏ ‏{‏وحشرناهم‏{‏ أي إلى الموقف‏.‏ ‏{‏فلم نغادر منهم أحدا‏{‏ أي لم نترك؛ يقال‏:‏ غادرت كذا أي تركته‏.‏ قال عنترة‏:‏

غادرته متعفرا أوصاله والقوم بين مجرح ومجدل

أي تركته‏.‏ والمغادرة الترك؛ ومنه الغدر؛ لأنه ترك الوفاء‏.‏ وإنما سمى الغديرا لأن الماء ذهب وتركه‏.‏ ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها‏.‏ يقول‏:‏ حشرنا برهم وفاجرهم وجنهم وإنسهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 48 ‏)‏

‏{‏وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وعرضوا على ربك صفا‏{‏ ‏{‏صفا‏{‏ نصب على الحال‏.‏ قال مقاتل‏:‏ يعرضون صفا بعد صف كالصفوف في الصلاة، كل أمة وزمرة صفا؛ لا أنهم صف واحد‏.‏ وقيل جميعا؛ كقوله ‏{‏ثم ائتوا صفا‏}‏طه‏:‏ 64‏]‏ أي جميعا‏.‏ وقيل قياما‏.‏ وخرج الحافظ أبو القاسم عبدالرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله تبارك وتعالى ينادي يوم القيامة بصوت رفيع غير فظيع يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون أحضروا حجتكم ويسروا جوابا فإنكم مسؤولون محاسبون‏.‏ يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفا على أطراف أنامل أقدامهم للحساب‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا الحديث غاية في البيان في تفسير الآية، ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة، ومنه نقلناه والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة‏{‏ أي يقال لهم‏:‏ لقد جئتمونا حفاة عراة، لا مال معكم ولا ولدا وقيل فرادى؛ دليله قوله ‏{‏ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة‏}‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏ وقد تقدم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي بعثناكم كما خلقناكم‏.‏ ‏{‏بل زعمتم‏{‏ هذا خطاب لمنكري البعث أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا وأن لن نجعل لكم موعدا للبعث‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض‏)‏‏.‏ ‏{‏غرلا‏{‏ أي غير مختونين‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏الأنعام‏{‏ بيانه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 49 ‏)‏

‏{‏ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ووضع الكتاب‏{‏ ‏{‏الكتاب‏{‏ اسم جنس، وفيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها كتب الأعمال في أيدي العباد؛ قاله مقاتل‏.‏ الثاني‏:‏ أنه وضع الحساب؛ قاله الكلبي، فعبر عن الحساب بالكتاب لأنهم يحاسبون على أعمالهم المكتوبة‏.‏ والقول الأول أظهر؛ ذكره ابن المبارك قال‏:‏ أخبرنا الحكم أو أبو الحكم - شك نعيم - عن إسماعيل بن عبدالرحمن عن رجل من بني أسد قال قال عمر لكعب‏:‏ ويحك يا كعب حدثنا من حديث الآخرة؛ قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين إذا كان يوم القيامة رفع اللوح المحفوظ فلم يبق أحد من الخلائق إلا وهو ينظر إلى عمله - قال - ثم يؤتى بالصحف التي فيها أعمال العباد فتنثر حول العرش، وذلك قوله تعالى‏{‏ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها - قال الأسدي‏:‏ الصغيرة ما دون الشرك؛ والكبيرة الشرك، إلا أحصاها - قال كعب؛ ثم يدعى المؤمن فيعطى كتابه بيمينه فينظر فيه فإذا حسناته باديات للناس وهو يقرأ سيئاته لكيلا يقول كانت لي حسنات فلم تذكر فأحب الله أن يريه عمله كله حتى إذا استنقص ما في الكتاب وجد في آخر ذلك كله أنه مغفور وأنك من أهل الجنة؛ فعند ذلك يقبل إلى أصحابه ثم يقول ‏{‏هاؤم اقرؤوا كتابيه‏.‏ إني ظننت أني ملاق حسابيه‏}‏الحاقة‏:‏ 19‏]‏ ثم يدعي بالكافر فيعطى كتابه بشماله ثم يلف فيجعل من وراء ظهره ويلوي عنقه؛ فذلك قوله ‏{‏وأما من أوتي كتابه وراء ظهره‏}‏الانشقاق‏:‏ 10‏]‏ فينظر في كتابه فإذا سيئاته باديات للناس وينظر في حسناته لكيلا يقول أفأثاب على السيئات‏.‏ وكان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية يقول‏:‏ يا ويلتاه ضجوا إلى الله تعالى من الصغائر قبل الكبائر‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ الصغيرة التبسم، والكبيرة الضحك؛ يعني ما كان من ذلك في معصية الله عز وجل؛ ذكره الثعلبي‏.‏ وحكى الماوردي عن ابن عباس أن الصغيرة الضحك‏.‏

قلت فيحتمل أن يكون صغيرة إذا لم يكن في معصية، فإن الضحك من المعصية رضا بها والرضا بالمعصية معصية، وعلى هذا تكون كبيرة، فيكون وجه الجمع هذا والله اعلم‏.‏ أو يحمل الضحك فيما ذكر الماوردي على التبسم، وقد قال تعالى‏{‏فتبسم ضاحكا من قولها‏}‏النمل‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ إن الصغائر اللمم كالمسيس والقبل، والكبيرة المواقعة والزنى‏.‏ وقد مضى في ‏{‏النساء‏{‏ بيان هذا‏.‏ قال قتادة‏:‏ اشتكى القوم الإحصاء وما اشتكى أحد ظلما، فإياكم ومحقرات الذنوب فإنها تجتمع على صاحبها حتى تهلكه‏.‏ وقد مضى‏.‏ ومعنى ‏{‏أحصاها‏{‏ عدها وأحاط بها؛ وأضيف الإحصاء إلى الكتاب توسعا‏.‏ ‏{‏ووجدوا ما عملوا حاضرا‏{‏ أي وجدوا إحصاء ما عملوا حاضرا وقيل‏:‏ وجدوا جزاء ما عملوا حاضرا‏.‏ ‏{‏ولا يظلم ربك أحدا‏{‏ أي لا يأخذ أحدا بجرم أحد، ولا يأخذوه بما لم يعمله؛ قال الضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ لا ينقص طائعا من ثوابه ولا يزيد عاصيا في عقابه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 50 ‏)‏

‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه‏{‏ تقدم‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ وفي هذه الآية سؤال، يقال‏:‏ ما معنى ‏{‏ففسق عن أمر ربه‏{‏ ففي هذا قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ وهو مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعصى، فكان سبب الفسق أمر ربه؛ كما تقول‏:‏ أطعمته عن جوع‏.‏ والقول الآخر‏:‏ وهو مذهب محمد بن قطرب أن المعنى‏:‏ ففسق عن رد أمر ربه ‏{‏أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو‏{‏ وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله أفتتخذونه يا بني آدم وذريته أولياء وهم لكم عدو؛ أي أعداء، فهو اسم جنس‏.‏ ‏{‏بئس للظالمين بدلا‏{‏ أي بئس عبادة الشيطان بدلا عن عبادة الله‏.‏ أو بئس إبليس بدلا عن الله‏.‏ واختلف هل لإبليس ذرية من صلبه؛ فقال الشعبي‏:‏ سألني رجل فقال هل إبليس زوجة‏؟‏ فقلت‏:‏ إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله ‏{‏أفتتخذونه وذريته أولياء‏{‏ فعلمت أنه لا يكون ذرية إلا من زوجة فقلت نعم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه فباض خمس بيضات؛ فهذا أصل ذريته‏.‏ وقيل‏:‏ إن الله تعالى خلق له في فخذه اليمنى ذكرا وفي اليسرى فرجا؛ فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطانا وشيطانة، فهو يخرج وهو يطير، وأعظمهم عند أبيهم منزلة أعظمهم في بني آدم فتنة، وقال قوم‏:‏ ليس له أولاد ولا ذرية، وذريته أعوانه من الشياطين‏.‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ والجملة أن الله تعالى أخبر أن لإبليس اتباعا وذرية، وأنهم يوسوسون إلى بني آدم وهم أعداؤهم، ولا يثبت عندنا كيفية في كيفية التوالد منهم وحدوث الذرية عن إبليس، فيتوقف الأمر فيه على نقل صحيح‏.‏

قلت‏:‏ الذي ثبت في هذا الباب من الصحيح ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن الإمام أبي بكر البرقاني أنه خرج في كتابه مسندا عن أبي محمد عبدالغني بن سعيد الحافظ من رواية عاصم عن أبي عثمان عن سلمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ‏)‏‏.‏ وهذا يدل على أن للشيطان ذرية من صلبه، والله اعلم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقول ‏{‏وذريته‏{‏ ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين، الذين يأتون بالمنكر ويحملون على الباطل‏.‏ وذكر الطبري وغيره أن مجاهدا قال‏:‏ ذرية إبليس الشياطين، وكان يعدهم‏:‏ زلنبور صاحب الأسواق، يضع رايته في كل سوق بين السماء والأرض، يجعل تلك الراية على حانوت أول من يفتح وآخر من يغلق‏.‏ وثبر صاحب المصائب، يأمر بضرب الوجوه وشق الجيوب، والدعاء بالويل والحرب‏.‏ والأعور صاحب أبواب الزنى‏.‏ ومسوط صاحب الأخبار، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس فلا يجدون لها أصلا‏.‏ وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع وما لم يحسن موضعه، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه‏.‏ قال الأعمش‏:‏ وإني ربما دخلت البيت فلم أذكر الله ولم أسلم، فرأيت مطهرة فقلت‏:‏ ارفعوا هذه وخاصمتهم، ثم أذكر فأقول‏:‏ داسم داسم أعوذ بالله منه زاد الثعلبي وغيره عن مجاهد‏:‏ والأبيض، وهو الذي يوسوس للأنبياء‏.‏ وصخر وهو الذي اختلس خاتم سليمان عليه السلام‏.‏ والولهان وهو صاحب الطهارة يوسوس فيها‏.‏ والأقيس وهو صاحب الصلاة يوسوس فيها‏.‏ ومرة وهو صاحب المزامير وبه يكنى‏.‏ والهفاف يكون بالصحارى يضل الناس ويتيههم‏.‏ ومنهم الغيلان‏.‏ وحكى أبو مطيع مكحول بن الفضل النسفي في كتاب اللؤلئيات عن مجاهد أن الهفاف هو صاحب الشراب، ولقوس صاحب التحريش، والأعور صاحب أبواب السلطان‏.‏ قال وقال الداراني‏:‏ إن لإبليس شيطانا يقال له المتقاضي، يتقاضى ابن آدم فيخبر بعمل كان عمله في السر منذ عشرين سنة، فيحدث به في العلانية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح، وقد طول النقاش في هذا المعنى وجلب حكايات تبعد عن الصحة، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للصلاة شيطانا يسمى خنزب‏.‏ وذكر الترمذي أن للوضوء شيطانا يسمى الولهان‏.‏

قلت‏:‏ أما ما ذكر من التعيين في الاسم فصحيح؛ وأما أن له اتباعا وأعوانا وجنودا فمقطوع به، وقد ذكرنا الحديث الصحيح في أن له أولادا من صلبه، كما قال مجاهد وغيره‏.‏ وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود‏:‏ إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب فيتفرقون فيقول الرجل منهم سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث‏.‏ وفي مسند البزار عن سلمان الفارسي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته‏)‏‏.‏ وفي مسند أحمد بن حنبل قال‏:‏ أنبأنا عبدالله بن المبارك قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبدالرحمن السلمي عن أبي موسى الأشعري قال‏:‏ إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول من أضل مسلما ألبسته التاج قال فيقول له القائل لم أزل بفلان حتى طلق زوجته، قال‏:‏ يوشك أن يتزوج‏.‏ ويقول آخر‏:‏ لم أزل بفلان حتى عق؛ قال‏:‏ يوشك أن يبر‏.‏ فال ويقول القائل‏:‏ لم أزل بفلان حتى شرب؛ قال‏:‏ أنت قال ويقول‏:‏ لم أزل بفلان حتى زنى؛ قال‏:‏ أنت قال ويقول‏:‏ لم أزل بفلان حتى فتل؛ قال‏:‏ أنت أنت وفي صحيح مسلم عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن إبليس يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة يجيء أحدهم فيقول فعلت كذا وكذا فيقول ما صنعت شيئا قال ثم يجيء أحدهم فيقول ما تركته حتى فرقت بينه وبين أهله قال فيدنيه أو قال فيلتزمه ويقول نعم أنت‏)‏‏.‏ وقد تقدم وسمعت شيخنا الإمام أبا محمد عبدالمعطي بثغر الإسكندرية يقول‏:‏ إن شيطانا يقال له البيضاوي يتمثل للفقراء المواصلين في الصيام فإذا استحكم منهم الجوع وأضر بأدمغتهم يكشف لهم عن ضياء ونور حتى يملأ عليهم البيوت فيظنون أنهم قد وصلوا وأن ذلك من الله وليس كما ظنوا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 51 ‏)‏

‏{‏ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم‏{‏ قيل‏:‏ الضمير عائد على إبليس وذريته؛ أي لم أشاورهم في خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم، بل خلقتهم على ما أردت‏.‏ وقيل‏:‏ ما أشهدت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض ‏{‏ولا خلق أنفسهم‏{‏ أي أنفس المشركين فكيف اتخذوهم أولياء من دوني‏؟‏‏.‏ وقيل‏:‏ الكناية في قوله‏{‏ما أشهدتهم‏{‏ ترجع إلى المشركين، وإلى الناس بالجملة، فتضمن الآية الرد على طوائف من المنجمين وأهل الطبائع والمتحكمين من الأطباء وسواهم من كل من ينخرط في هذه الأشياء‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وسمعت أبي رضي الله عنه يقول سمعت الفقيه أبا عبدالله محمد بن معاذ المهدي بالمهدية يقول‏:‏ سمعت عبدالحق الصقلي يقول هذا القول، ويتأول هذا التأويل في هذه الآية، وأنها رادة على هذه الطوائف، وذكر هذا بعض الأصوليين‏.‏ قال ابن عطية وأقول‏:‏ إن الغرض المقصود أولا بالآية هم إبليس وذريته؛ وبهذا الوجه يتجه الرد على الطوائف المذكورة، وعلى الكهان والعرب والمعظمين للجن؛ حين يقولون‏:‏ أعوذ بعزيز هذا الوادي؛ إذ الجميع من هذه الفرق متعلقون بإبليس وذريته وهم أضلوا الجميع، فهم المراد الأول بالمضلين؛ وتندرج هذه الطوائف في معناهم‏.‏

قال الثعلبي‏:‏ وقال بعض أهل العلم ‏{‏ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض‏{‏ رد على المنجمين أن قالوا‏:‏ إن الأفلاك تحدث في الأرض وفي بعضها في بعض، وقوله‏{‏والأرض‏{‏ رد على أصحاب الهندسة حيث قالوا‏:‏ إن الأرض كرية والأفلاك تجري تحتها، والناس ملصقون عليها وتحتها، وقوله‏{‏ولا خلق أنفسهم‏{‏ رد على الطبائعيين حيث زعموا أن الطبائع هي الفاعلة في النفوس‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏ما أشهدناهم‏{‏ بالنون والألف على التعظيم‏.‏ الباقون بالتاء بدليل قوله‏{‏وما كنت متخذ‏{‏ يعني ما استعنتهم على خلق السماوات والأرض ولا شاورتهم‏.‏ ‏{‏المضلين‏{‏ يعني الشياطين‏.‏ وقيل‏:‏ الكفار‏.‏ ‏{‏عضدا‏{‏ أي أعوانا يقال‏:‏ اعتضدت بفلان إذا استعنت به وتقويت والأصل فيه عضد اليد، ثم يوضع موضع العون؛ لأن اليد قوامها العضد‏.‏ يقال‏:‏ عضده وعاضده على كذا إذا أعانه وأعزه‏.‏ ومنه قوله‏{‏سنشد عضدك بأخيك‏}‏القصص‏:‏ 35‏]‏ أي سنعينك بأخيك‏.‏ ولفظ العضد على جهة المثل، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى عون أحد‏.‏ وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ‏.‏ وقرأ أبو جعفر الجحدري ‏{‏وما كنت‏{‏ بفتح التاء أي وما كنت يا محمد متخذ المضلين عضدا‏.‏ وفي عضد ثمانية أوجه‏{‏عضدا‏{‏ بفتح العين وضم الضاد وهي قراءة الجمهور، وأفصحها‏.‏ و‏{‏عَضْدا‏{‏ بفتح العين وإسكان الضاد، وهي لغة بني تميم‏.‏ و‏{‏عُضُدا‏{‏ بضم العين والضاد، وهي قراءة أبي عمرو والحسن‏.‏ و‏{‏عُضْدا‏{‏ بضم العين وإسكان الضاد، وهي قراءة عكرمة‏.‏ و‏{‏عِضَدا‏{‏ بكسر العين وفتح الضاد، وهي قراءة الضحاك‏.‏ و‏{‏عَضَدا‏{‏ بفتح العين والضاد وهي قراءة عيسى بن عمر‏.‏ وحكى هارون القارئ ‏{‏عَضِدا‏{‏ واللغة الثامنة ‏{‏عِضْدا‏{‏ على لغة من قال‏:‏ كتف وفخذ‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 52 ‏)‏

‏{‏ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم‏{‏ أي اذكروا يوم يقول الله‏:‏ أين شركائي‏؟‏ أي ادعوا الذين أشركتموهم بي فليمنعوكم من عذابي‏.‏ وإنما يقول ذلك لعبدة الأوثان‏.‏ وقرأ حمزة ويحيى وعيسى بن عمر ‏{‏نقول‏{‏ بنون‏.‏ الباقون بالياء؛ لقوله‏{‏شركائي‏{‏ ولم يقل‏:‏ شركائنا‏.‏ ‏{‏فدعوهم‏{‏ أي فعلوا ذلك‏.‏ ‏{‏فلم يستجيبوا لهم‏{‏ أي لم يجيبوهم إلى نصرهم ولم يكفوا عنهم شيئا‏.‏ ‏{‏وجعلنا بينهم موبقا‏{‏ قال أنس بن مالك‏:‏‏(‏هو واد في جهنم من قيح ودم‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏‏(‏أي وجعلنا بين المؤمنين والكافرين حاجزا‏)‏ وقيل‏:‏ بين الأوثان وعبدتها، ونحو قوله‏{‏فزيلنا بينهم‏{‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ كل شيء حاجز بين شيئين موبق، وذكر ابن وهب عن مجاهد في قوله تعالى‏{‏موبقا‏{‏ قال واد في جهنم يقال له موبق، وكذلك قال نوف البكالي إلا أنه قال‏:‏ يحجز بينهم وبين المؤمنين‏.‏ عكرمة‏:‏ هو نهر في جهنم يسيل نارا على حافتيه حيات مثل البغال الدهم فإذا ثارت إليهم لتأخذهم استغاثوا منها بالاقتحام في النار‏.‏ وروى زيد بن درهم عن أنس بن مالك قال‏{‏موبقا‏{‏ ‏(‏واد من قيح ودم في جهنم‏)‏‏.‏ وقال عطاء والضحاك‏:‏ مهلكا في جهنم؛ ومنه يقال‏:‏ أو بقته ذنوبه إيباقا‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ موعد للهلاك‏.‏ الجوهري‏:‏ وبق يبق وبوقا هلك، والموبق مثل الموعد مفعل من وعد يعد، ومنه قوله تعالى‏{‏وجعلنا بينهم موبقا‏{‏‏.‏ وفيه لغة أخرى‏:‏ وبق يوبق وبقا‏.‏ وفيه لغة ثالثة‏:‏ بق يبق بالكسر فيهما، وأوبقه أي أهلكه‏.‏ وقال زهير‏:‏

ومن يشتري حسن الثناء بماله يصن عرضه من كل شنعاء موبق

قال الفراء‏:‏ جعل تواصلهم في الدنيا مهلكا لهم في الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 53 ‏)‏

‏{‏ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ورأى المجرمون النار‏{‏ ‏{‏رأى‏{‏ أصله رأي؛ قلبت الياء ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها؛ ولهذا زعم الكوفيون أن ‏{‏رأى‏{‏ يكتب بالياء، وتابعهم على هذا القول بعض البصريين‏.‏ فأما البصريون الحذاق، منهم محمد بن يزيد فإنهم يكتبونه بالألف‏.‏ قال النحاس‏:‏ سمعت علي ابن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول‏:‏ لا يجوز أن يكتب مضى ورمى وكل ما كان من ذوات الياء إلا بالألف، ولا فرق بين ذوات الياء وبين ذوات الواو في الخط، كما أنه لا فرق بينهما في اللفظ، ولو وجب أن يكتب ذوات الياء بالياء لوجب أن يكتب ذوات الواو بالواو، وهم مع هذا يناقضون فيكتبون رمى بالياء رماه بالألف، فإن كانت العلة أنه من ذوات الياء وجب أن يكتبوا رماه بالياء، ثم يكتبون ضحا جمع ضحوة، وكسا جمع كسوة، وهما من ذوات الواو بالياء، وهذا ما لا يحصل ولا يثبت على أصل‏.‏ ‏{‏فظنوا أنهم مواقعوها‏{‏ ‏{‏فظنوا ‏{‏هنا بمعنى اليقين والعلم كما قال‏:‏

فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج

أي أيقنوا؛ وقد تقدم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏‏(‏أيقنوا أنهم مواقعوها‏)‏ وقيل‏:‏ رأوها من مكان بعيد فتوهموا أنهم مواقعوها، وظنوا أنها تأخذهم في الحال‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏إن الكافر ليرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة‏)‏‏.‏ والمواقعة ملابسة الشيء بشدة‏.‏ وعن علقمة أنه قرأ ‏{‏فظنوا أنهم ملافوها‏{‏ أي مجتمعون فيها، واللفف الجمع‏.‏ ‏{‏ولم يجدوا عنها مصرفا‏{‏ أي مهربا لإحاطتها بهم من كل جانب‏.‏ وقال القتبي‏:‏ معدلا ينصرفون إليه‏.‏ وقيل‏:‏ ملجأ يلجؤون إليه، والمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏ ولم تجد الأصنام مصرفا للنار عن المشركين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 54 ‏)‏

‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل‏{‏ يحتمل وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ ما ذكره لهم من العبر والقرون الخالية‏.‏ الثاني‏:‏ ما أوضحه لهم من دلائل الربوبية وقد تقدم في ‏{‏سبحان‏{‏؛ فهو على الوجه الأول زجر، وعلى الثاني بيان‏.‏ ‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلا‏{‏ أي جدالا ومجادلة والمراد به النضر بن الحرث وجداله في القرآن وقيل‏:‏ الآية في أبي بن خلف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي الكافرون أكثر شيء جدلا؛ والدليل على الكافر قوله ‏{‏ويجادل الذين كفروا بالباطل‏{‏

وروي أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يؤتى بالرجل يوم القيامة من الكفار فيقول الله له ما صنعت فيما أرسلت إليك فيقول رب آمنت بك وصدقت برسلك وعملت بكتابك فيقول الله له هذه صحيفتك ليس فيها من ذلك فيقول يا رب إني لا أقبل ما في هذه الصحيفة فيقال له هذه الملائكة الحفظة يشهدون عليك فيقول يا رب ولا أقبلهم يا رب أقبلهم ولا هم من عندي ولا من جهتي فيقول الله تعالى هذا اللوح المحفوظ أم الكتاب قد شهد بذلك فقال يا رب ألم تجرني من الظلم قال بلى فقال يا رب لا أقبل إلا شاهدا علي من نفسي فيقول الله تعالى الآن نبعث عليك شاهدا من نفسك فيتفكر من الذي يشهد عليه من نفسه فيختم على فيه ثم تنطق جوارحه بالشرك ثم يخلى بينه وبين الكلام فيدخل النار وإن بعضه ليلعن بعضا يقول لأعضائه لعنكم الله فعنكن كنت أناضل فتقول أعضاؤه لعنك الله أفتعلم أن الله تعالى يُكتم حديثا فذلك قوله تعالى‏{‏كان الإنسان أكثر شيء جدلا‏)‏ أخرجه مسلم بمعناه من حديث أنس أيضا‏.‏ وفي صحيح مسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة فقال‏:‏ ‏(‏ألا تصلون‏؟‏ فقلت يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا؛ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قلت له ذلك، ثم سمعته وهو مدبر يضرب فخذه ويقول‏{‏وكان الإنسان أكثر شيء جدلا‏{‏‏)‏

 الآية رقم ‏(‏ 55 ‏)‏

‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى‏{‏ أي القرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام ‏{‏ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين‏{‏ أي سنتنا في إهلاكهم إي ما منعهم عن الإيمان إلا حكمي عليهم بذلك؛ ولو حكمت عليهم بالإيمان آمنوا‏.‏ وسنة الأولين عادة الأولين في عذاب الاستئصال‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وما منع الناس أن يؤمنوا إلا طلب أن تأتيهم سنة الأولين فحذف‏.‏ وسنة الأولين معاينة العذاب، فطلب المشركون ذلك، وقالوا ‏{‏اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏الأنفال‏:‏32‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏أو يأتيهم العذاب قبلا‏{‏ نصب على الحال، ومعناه عيانا قاله ابن عباس‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ هو السيف يوم بدر‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ فجأة وقرأ أبو جعفر وعاصم والأعمش وحمزة ويحيى والكسائي ‏{‏قبلا‏{‏ بضمتين أرادوا به أصناف العذاب كله، جمع قبيل نحو سبيل وسبل‏.‏ النحاس‏:‏ ومذهب الفراء أن ‏{‏قبلا‏{‏ جمع قبيل أي متفرقا يتلو بعضه بعضا‏.‏ ويحوز عنده أن يكون المعنى عيانا‏.‏ وقال الأعرج‏:‏ وكانت قراءته ‏{‏قبلا‏{‏ معناه جميعا وقال أبو عمرو‏:‏ وكانت قراءته ‏{‏قبلا‏{‏ ومعناه عيانا‏.‏