فصل: الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 62 ‏)‏

‏{‏ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم واستغفر لهم الله إن الله غفور رحيم ‏}‏

قوله ‏{‏إنما المؤمنون‏}‏‏{‏إنما‏}‏في هذه الآية للحصر؛ المعنى‏:‏ لا يتم ولا يكمل إيمان من آمن بالله ورسول إلا بأن يكون من الرسول سامعا غير معنت في أن يكون الرسول يريد إكمال أمر فيريد هو إفساده بزواله في وقت الجمع، ونحو ذلك‏.‏ وبين تعالى في أول السورة أنه أنزل آيات بينات، وإنما النزول على محمد صلى الله عليه وسلم؛ فختم السورة بتأكيد الأمر في متابعته عليه السلام؛ ليعلم أن أوامره كأوامر القرآن‏.‏

واختلف في الأمر الجامع ما هو؛ فقيل‏:‏ المراد به ما للإمام من حاجة إلى تجمع الناس فيه لإذاعة مصلحة، من إقامة سنة في الدين، أو لترهيب عدو باجتماعهم وللحروب؛ قال الله ‏{‏وشاورهم في الأمر‏} ‏.‏ فإذا كان أمر يشملهم نفعه وضره جمعهم للتشاور في ذلك‏.‏ والإمام الذي يترقب إذنه هو إمام الإمرة، فلا يذهب أحد لعذر إلا بإذنه، فإذا ذهب بإذنه ارتفع عنه الظن السيئ‏.‏ وقال مكحول والزهري‏:‏ الجمعة من الأمر الجامع‏.‏ وإمام الصلاة ينبغي أن يستأذن إذا قدمه إمام الإمرة، إذا كان يرى المستأذن‏.‏ قال ابن سيرين‏:‏ كانوا يستأذنون الإمام على المنبر؛ فلما كثر ذلك قال زياد‏:‏ من جعل يده على فيه فليخرج دون إذن، وقد كان هذا بالمدينة حتى أن سهل بن أبي صالح رعف يوم الجمعة فاستأذن الإمام‏.‏ وظاهر الآية يقتضي أن يستأذن أمير الإمرة الذي هو في مقعد النبوة، فإنه ربما كان له رأي في حبس ذلك الرجل لأمر من أمور الدين‏.‏ فأما إمام الصلاة فقط فليس ذلك إليه؛ لأنه وكيل على جزء من أجزاء الدين للذي هو في مقعد النبوة‏.‏ وروي أن هذه الآية نزلت في حفر الخندق حين جاءت قريش وقائدها أبو سفيان، وغطفان وقائدها عيينة بن حصن؛ فضرب النبي صلى الله عليه وسلم الخندق على المدينة، وذلك في شوال سنة خمس من الهجرة، فكان المنافقون يتسللون لواذا من العمل ويعتذرون بأعذار كاذبة‏.‏ ونحوه ‏"‏روى أشهب وابن عبدالحكم عن مالك، وكذلك قال محمد بن إسحاق‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في عمر رضي الله عنه، استأذن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك في الرجعة فأذن له وقال‏:‏ ‏(‏انطلق فو الله ما أنت بمنافق‏)‏ يريد بذلك أن يسمع المنافقين‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ إنما استأذن عمر رضي الله عنه في العمرة فقال عليه السلام لما أذن له‏:‏ ‏(‏يا أبا حفص لا تنسنا في صالح دعائك ‏(‏

قلت‏:‏ والصحيح الأول لتناوله جميع الأقوال‏.‏ واختار ابن العربي ما ذكره في نزول الآية عن مالك وابن إسحاق، وأن ذلك مخصوص في الحرب‏.‏ قال‏:‏ والذي يبين ذلك أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ قوله في الآية الأخرى ‏}‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا‏} ‏ُ ‏.‏ وذلك أن المنافقين كانوا يتلوذون ويخرجون عن الجماعة ويتركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الله جميعهم بألا يخرج أحد منهم حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وبذلك يتبين إيمانه‏.‏ الثاني‏:‏ قوله ‏{‏لم يذهبوا حتى يستأذنوه‏}‏وأي إذن في الحدث والإمام يخطب، وليس للإمام خيار في منعه ولا إبقائه، وقدقال ‏{‏فأذن لمن شئت منهم‏}‏؛ فبين بذلك أنه مخصوص في الحرب‏.‏

قلت‏:‏ القول بالعموم أولى وأرفع وأحسن وأعلى‏.‏ ‏{‏فأذن لمن شئت منهم‏}‏فكان النبي صلى الله عليه وسلم بالخيار إن شاء أن يأذن وإن شاء منع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قوله ‏{‏فأذن لمن شئت منهم‏}‏منسوخة بقوله ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏} ‏.‏ ‏{‏واستغفر لهم الله‏}‏أي لخروجهم عن الجماعة إن علمت لهم عذرا‏.‏ ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 63 ‏)‏

‏{‏ لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ‏}‏

قوله ‏{‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا‏}‏يريد‏:‏ يصيح من بعيد‏:‏ يا أبا القاسم‏!‏ بل عظموه كما قال في الحجرات ‏}‏إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله ‏} ‏ الآية‏.‏ وقال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ المعنى قولوا يا رسول الله، في رفق ولين، ولا تقولوا يا محمد بتجهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أمرهم أن يشرفوه ويفخموه‏.‏ ابن عباس‏:‏ لا تتعرضوا لدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة‏.‏ ‏{‏قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا‏}‏التسلل والانسلال‏:‏ الخروج واللواذ من الملاوذة، وهي أن تستتر بشيء مخافة من يراك؛ فكان المنافقون يتسللون عن صلاة الجمعة‏.‏ ‏{‏لواذا‏}‏مصدر في موضع الحال؛ أي متلاوذين، أي يلوذ بعضهم ببعض، ينضم إليه استتارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يكن على المنافقين أثقل من يوم الجمعة وحضور الخطبة؛ حكاه النقاش، وقد مضى القول فيه‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يتسللون في الجهاد رجوعا عنه يلوذ بعضهم ببعض‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لواذا فرارا من الجهاد؛ ومنه قول حسان‏:‏

وقريش تجول منا لواذا لم تحافظ وخف منها الحلوم

وصحت واوها لتحركها في لاوذ‏.‏ يقال‏:‏ لاوذ يلاوذ ملاوذة ولواذا‏.‏ ولاذ يلوذ لوذا ولياذا؛ انقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اتباعا للاذ في الاعتلال؛ فإذا كان مصدر فاعل لم يعل؛ لأن فاعل لا يجوز أن يعل‏.‏

قوله ‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره‏}‏بهذه الآية احتج الفقهاء على أن الأمر على الوجوب‏.‏ ووجهها أن الله تبارك وتعالى قد حذر من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها بقوله ‏{‏أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‏}‏فتحرم مخالفته، فيجب امتثال أمره‏.‏ والفتنة هنا القتل؛ قاله ابن عباس‏.‏ عطاء‏:‏ الزلازل والأهوال‏.‏ جعفر بن محمد‏:‏ سلطان جائر يسلط عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ الطبع على القلوب بشؤم مخالفة الرسول‏.‏ والضمير في ‏{‏أمره‏}‏قيل هو عائد إلى أمر الله تعالى؛ قاله يحيى بن سلام‏.‏ وقيل‏:‏ إلى أمر رسوله عليه السلام؛ قال قتادة‏.‏ ومعنى ‏{‏يخالفون عن أمره‏}‏أي يعرضون عن أمره‏.‏ وقال أبو عبيدة والأخفش‏}‏عن‏}‏في هذا الموضع زائدة‏.‏ وقال الخليل وسيبويه‏:‏ ليست بزائدة؛ والمعنى‏:‏ يخالفون بعد أمره؛ كما قال‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏ لم تنتطق عن تفضل

ومنه قوله ‏{‏ففسق عن أمر ربه‏} ‏ أي بعد أمر ربه‏.‏ و‏{‏أن‏}‏في موضع نصب ‏{‏بيحذر‏}‏‏.‏ ولا يجوز عند أكثر النحويين حذر زيدا، وهو في ‏{‏أن‏}‏جائز؛ لأن حروف الخفض تحذف معها‏.‏

 

الآية رقم ‏(‏ 64 ‏)‏

‏{‏ ألا إن لله ما في السماوات والأرض قد يعلم ما أنتم عليه ويوم يرجعون إليه فينبئهم بما عملوا والله بكل شيء عليم ‏}‏

قوله ‏{‏ألا إن لله ما في السماوات والأرض‏}‏خلقا وملكا‏.‏ ‏{‏قد يعلم ما أنتم عليه‏}‏فهو يجازيكم به‏.‏ و‏{‏يعلم‏}‏هنا بمعنى علم‏.‏ ‏{‏ويوم يرجعون إليه‏}‏بعد ما كان في خطاب رجع في خبر وهذا يقال له‏:‏ خطاب التلوين‏.‏ ‏{‏فينبئهم بما عملوا‏}‏أي يخبرهم بأعمالهم ويجازيهم بها‏.‏ ‏{‏والله بكل شيء عليم‏}‏من أعمالهم وأحوالهم