فصل: الآية رقم ‏(‏ 83 ‏:‏ 91 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 83 ‏:‏ 91 ‏)‏

‏{‏ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا فأتبع سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما، قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا، وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا‏}‏

قال ابن اسحاق‏:‏ وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت غيره، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ حدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما توارثوا من علم ذي القرنين أن ذا القرنين كان من أهل مصر اسمه مرزبان بن مردبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح‏.‏ قال ابن هشام‏:‏ واسمه الإسكندر وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي - وكان خالد رجلا قد أدرك الناس - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال‏:‏ ‏(‏ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب‏)‏ وقال خالد‏:‏ وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول يا ذا القرنين، فقال‏:‏‏(‏اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة‏)‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فالله أعلم أي ذلك كان‏؟‏ أقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أم لا‏؟‏ والحق ما قال‏.‏ قلت‏:‏ وقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه مثل قول عمر؛ سمع رجل يدعو آخر يا ذا القرنين، فقال علي‏:‏‏(‏أما كفاكم أن تسميتم بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة‏)‏ وعنه أنه عبد ملك ‏(‏بكسر اللام‏)‏ صالح نصح الله فأيده‏.‏ وقيل‏:‏ هو نبي مبعوث فتح الله تعالى على يديه الأرض‏.‏ وذكر الدار قطني في كتاب الأخبار أن ملكا يقال له رباقيل كان ينزل على ذي القرنين، وذلك الملك هو الذي يطوي الأرض يوم القيامة، وينقضها فتقع أقدام الخلائق كلهم بالساهرة؛ فيما ذكر بعض أهل العلم‏.‏ وقال السهيلي‏:‏ وهذا مشاكل بتوكيله بذي القرنين الذي قطع الأرض مشارقها ومغاربها؛ كما أن قصة خالد بن سنان في تسخير النار له مشاكلة بحال الملك الموكل بها، وهو مالك عليه السلام وعلى جميع الملائكة أجمعين‏.‏ ذكر ابن أبي خيثمة في كتاب البدء له خالد بن سنان العبسي وذكر نبوته، وذكر أنه وكل به من الملائكة مالك خازن النار، وكان من أعلام نبوته أن نارا يقال لها نار الحدثان، كانت تخرج على الناس من مغارة فتأكل الناس ولا يستطيعون ردها، فردها خالد بن سنان فلم تخرج بعد‏.‏ واختلف في اسم ذي القرنين وفي السبب الذي سمي به بذلك اختلافا كثيرا؛ فأما اسمه فقيل‏:‏ هو الإسكندر الملك اليوناني المقدوني، وقد تشدد قافه فيقال‏:‏ المقدوني‏.‏ وقيل‏:‏ اسمه هرمس‏.‏ ويقال‏:‏ اسمه هرديس‏.‏ وقال ابن هشام‏:‏ هو الصعب بن ذي يزين الحميري من ولد وائل بن حمير؛ وقد تقدم قول ابن إسحاق‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ هو رومي‏.‏ وذكر الطبري حديثا عن النبي عليه الصلاة والسلام ‏(‏أن ذا القرنين شاب من الروم‏)‏ وهو حديث واهي السند؛ قال ابن عطية‏.‏ قال السهيلي‏:‏ والظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان‏:‏ أحدهما‏:‏ كان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال‏:‏ إنه الذي قضى لإبراهيم عليه السلام حين تحاكموا إليه في بئر السبع بالشام‏.‏ والآخر‏:‏ أنه كان قريبا من عهد عيسى عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ إنه أفريدون الذي قتل بيوراسب بن أرونداسب الملك الطاغي على عهد إبراهيم عليه السلام، أو قبله بزمان‏.‏ وأما الاختلاف في السبب الذي سمي به، فقيل‏:‏ إنه كان ذا ضفيرتين من شعر فسمي بهما؛ ذكره الثعلبي وغيره‏.‏ والضفائر قرون الرأس؛ ومنه قول الشاعر‏:‏

فلثمت فاها آخذا بقرونها شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وقيل‏:‏ إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس، فقص ذلك، ففسر أنه سيغلب ما ذرت عليه الشمس، فسمي بذلك ذا القرنين‏.‏ وقيل‏:‏ إنما سمي بذلك، لأنه بلغ المغرب والمشرق فكأنه حاز قرني الدنيا‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إنه لما بلغ مطلع الشمس كشف بالرؤية قرونها فسمي بذلك ذا القرنين؛ أو قرني الشيطان بها‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ كان له قرنان تحت عمامته‏.‏ وسأل ابن الكواء عليا رضي الله تعالى عنه عن ذي القرنين أنبيا كان أم ملكا‏؟‏ فقال‏(‏لاذا ولاذا، كان عبدا صالحا دعا قومه إلى الله تعالى فشجوه على قرنه، ثم دعاهم فشجوه على قرنه الآخر، فسمي ذا القرنين‏)‏ واختلفوا أيضا في وقت زمانه، فقال قوم‏:‏ كان بعد موسى‏.‏ وقال قوم‏:‏ كان في الفترة بعد عيسى وقيل‏:‏ كان في وقت إبراهيم وإسماعيل‏.‏ وكان الخضر عليه السلام صاحب لوائه الأعظم؛ وفد ذكرناه في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وبالجملة فإن الله تعالى مكنه وملكه ودانت له الملوك، فروي أن جميع ملوك الدنيا كلها أربعة‏:‏ مؤمنان وكافران؛ فالمؤمنان سليمان بن داود وإسكندر، والكافران نمرود وبختنصر؛ وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى‏{‏ليظهره على الدين كله‏}‏التوبة‏:‏ 33‏]‏ وهو المهدي وقد قيل‏:‏ إنما سمي ذا القرنين لأنه كان كريم الطرفين من أهل بيت شريف من قبل أبيه وأمه وقيل‏:‏ لأنه أنقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي وقيل‏:‏ لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركابيه جميعا‏.‏ وقيل لأنه أعطي علم الظاهر والباطن‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه دخل الظلمة والنور‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه ملك فارس والروم‏.‏

قوله تعالى‏{‏إنا مكنا له في الأرض‏{‏ قال علي رضي الله عنه‏:‏‏(‏سخر له السحاب، ومدت له الأسباب، وبسط له في النور، فكان الليل والنهار عليه سواء‏)‏ وفي حديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجال من أهل الكتاب سألوه عن ذي القرنين فقال‏:‏ ‏(‏إن أول أمره كان غلاما من الروم فأعطي ملكا فسار حتى أتى أرض مصر فابتنى بها مدينة يقال لها الإسكندرية فلما فرغ أتاه ملك فعرج به فقال له انظر ما تحتك قال أرى مدينتي وحدها لا أرى غيرها فقال له الملك تلك الأرض كلها وهذا السواد الذي تراه بها هو البحر وإنما أراد الله تعالى أن يريك الأرض وقد جعل لك سلطانا فيها فسر في الأرض‏.‏ فعلم الجاهل وثبت العالم‏)‏ الحديث‏.‏

قوله تعالى‏{‏وآتيناه من كل شيء سببا‏{‏ قال ابن عباس‏:‏‏(‏من كل شيء علما يتسبب به إلى ما يريد‏)‏ وقال الحسن‏:‏ بلاغا إلى حيث أراد‏.‏ وقيل‏:‏ من كل شيء يحتاج إليه الخلق‏.‏ وقيل‏:‏ من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهر الأعداء‏.‏ وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء‏.‏

قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ‏{‏فأتبع سببا‏{‏ مقطوعة الألف وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو ‏{‏فاتبع سببا‏{‏ بوصلها؛ أي اتبع سببا من الأسباب التي أوتيها‏.‏ قال الأخفش‏:‏ تبعته وأتبعته بمعنى؛ مثل ردفته وأردفته، ومنه قوله تعالى‏{‏إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب‏}‏الصافات‏:‏ 10‏]‏ ومنه الإتباع في الكلام مثل حسن بسن وقبيح شقيح‏.‏ قال النحاس‏:‏ واختار أبو عبيد قراءة أهل الكوفة قال‏:‏ لأنها من السير، وحكى هو والأصمعي أنه يقال‏:‏ تبعه واتبعه إذا سار ولم يلحقه، وأتبعه إذا لحقه؛ قال أبو عبيد‏:‏ ومثله ‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏{‏ قال النحاس‏:‏ وهذا التفريق إن كان الأصمعي قد حكاه لا يقبل إلا بعلة أو دليل‏.‏ وقوله عز وجل‏{‏فأتبعوهم مشرقين‏}‏الشعراء‏:‏ 60‏]‏ ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما الحديث‏:‏ لما خرج موسى عليه السلام وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر والحق في هذا أن تبع وأتبع وأتبع لغات بمعنى واحد، وهي بمعنى السير، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وألا يكون‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة‏{‏ قرأ ابن عاصم وعام وحمزة والكسائي ‏{‏حامية‏{‏ أي حارة‏.‏ الباقون ‏{‏حمئة‏{‏ أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء، تقول‏:‏ حمأت البئر حمأ ‏(‏بالتسكين‏)‏ إذا نزعت حمأتها‏.‏ وحمئت البئر حمأ ‏(‏بالتحريك‏)‏ كثرت حمأتها‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏حامية‏{‏ من الحمأة فخففت الهمزة وقلبت ياء‏.‏ وقد يجمع بين القراءتين فيقال‏:‏ كانت حارة وذات حمأة‏.‏ وقال عبدالله بن عمرو‏:‏ نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غربت؛ فقال‏:‏ ‏(‏نار الله الحامية لولا ما يزعها من أمر الله لأحرقت ما على الأرض‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏‏(‏أقرأنيها أبي كما أقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏في عين حمئة‏{‏؛ وقال معاوية‏:‏ هي ‏{‏حامية‏{‏ فقال عبدالله بن عمرو بن العاص‏:‏ فأنا مع أمير المؤمنين؛ فجعلوا كعبا بينهم حكما وقالوا‏:‏ يا كعب كيف تجد هذا في التوراة‏؟‏ فقال‏:‏ أجدها تغرب في عين سوداء، فوافق ابن عباس‏)‏ وقال الشاعر وهو تبع اليماني‏:‏

قد كان ذو القرنين قبلي مسلما ملكا تدين له الملوك وتسجد

بلغ المغارب والمشارق يبتغي أسباب أمر من حكيم مرشد

فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثأط حرمد

الخلب‏:‏ الطين‏:‏ والثأط‏:‏ الحماة‏.‏ والحرمد‏.‏ والأسود‏.‏ وقال القفال قال بعض العلماء‏:‏ ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغربا ومشرقا وصل إلى جرمها ومسها؛ لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلتصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض، بل هي أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهة المغرب ومن جهة المشرق، فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما أنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال‏{‏وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا‏{‏ ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليهم‏.‏ وقال القتبي‏:‏ ويجوز أن تكون هذه العين من البحر، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها أو معها أو عندها، فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ووجد عندها قوما‏{‏ أي عند العين، أو عند نهاية العين، وهم أهل جابرس، ويقال لها بالسريانية‏:‏ جرجيسا؛ يسكنها قوم من نسل ثمود بقيتهم الذين آمنوا بصالح؛ ذكره السهيلي‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ ‏(‏كان ذو القرنين رجلا من الروم ابن عجوز من عجائزهم ليس لها ولد غيره وكان اسمه الإسكندر، فلما بلغ وكان عبدا صالحا قال الله تعالى‏:‏ يا ذا القرنين إني باعثك إلى أمم الأرض وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم أمم جميع الأرض، وهم أصناف‏:‏ أمتان بينهما طول الأرض كله، وأمتان بينهما عرض الأرض كله، وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج؛ فأما اللتان بينهما طول الأرض فأمة عند مغرب الشمس يقال لها ناسك، وأما الأخرى فعند مطلعها ويقال لها منسك‏.‏ وأما اللتان بينهما عرض الأرض فأمة في قطر الأرض الأيمن يقال لها هاويل؛ وأما الأخرى التي في قطر الأرض الأيسر يقال لها تاويل‏.‏ فقال ذو القرنين‏:‏ إلهي قد ندبتني لأمر عظيم لا يقدر قدره إلا أنت؛ فأخبرني عن هذه الأمم بأي قوة أكاثرهم‏؟‏ وبأي صبر أقاسيهم‏؟‏ وبأي لسان أناطقهم‏؟‏ فكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس عندي قوة‏؟‏ فقال الله تعالى‏:‏ سأظفرك بما حملتك؛ أشرح لك صدرك فتسمع كل شيء، وأثبت لك فهمك فتفقه كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة فيكونان جندا من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك؛ فلما قيل له ذلك سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس؛ لأنها كانت أقرب الأمم منه وهي ناسك، فوجد جموعا لا يحصيها إلا الله تعالى وقوة وبأسا لا يطيقه إلا الله‏.‏ وألسنة مختلقة، وأهواء متشتتة فكاثرهم بالظلمة؛ فضرب حولهم ثلاث عساكر من جند الظلمة قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعتهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر وصد عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة فغشيتهم من كل مكان، فدخلت إلى أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وماجوا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله تعالى بصوت واحد‏:‏ إنا آمنا؛ فكشفها عنهم، وأخذهم عنوة، ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمما عظيمة فجعلهم جندا واحدا، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه، والنور أمامهم يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض اليمنى يريد الأمة التي في قطر الأرض الأيمن وهى هاويل، وسخر الله تعالى يده وقلبه وعقله ونظره فلا يخطئ إذا عمل عملا، فإذا أتوا مخاضة أو بحرا بنى سفنا من ألواح صغار مثل النعال فنظمها في ساعة، ثم جعل فيها جميع من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار فتقها ودفع إلى كل رجل لوحا فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل وفعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، ففرغ منهم، وأخذ جيوشهم وانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنودا كفعله في الأولى، ثم كر مقبلا حتى أخذ ناحية الأرض اليسرى يريد تاويل، وهي الأمة التي تقابل هاويل بينهما عرض الأرض، ففعل فيها كفعله فيما قبلها، ثم عطف إلى الأمم التي في وسط الأرض من الجن الإنس ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق مما يلي منقطع الترك من المشرق قالت أمة صالحة من الإنس‏:‏ يا ذا القرنين إن بين هذين الجبلين خلقا من خلق الله تعالى كثيرا لهم عدد، وليس فيهم مشابهة من الإنس، وهم أشباه البهائم؛ يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون حشرات الأرض كلها من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله تعالى في الأرض، وليس لله تعالى خلق ينمو نماءهم في العام الواحد، فإن طالت المدة فسيملؤون الأرض، ويجلون أهلها فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا‏؟‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث؛ وسيأتي من صفة يأجوج ومأجوج والترك إذ هم نوع منهم ما فيه كفاية‏.‏

قوله تعالى‏{‏قلنا يا ذا القرنين‏{‏ قال القشيري أبو نصر‏:‏ إن كان نبيا فهو وحي، وإن لم يكن نبيا فهو إلهام من الله تعالى‏.‏ ‏{‏إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا‏{‏ قال إبراهيم بن السري‏:‏ خيره بين هذين كما خير محمدا صلى الله عليه وسلم فقال‏{‏فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏}‏المائدة‏:‏ 42‏]‏ ونحوه‏.‏ وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ المعنى أن الله تعالى خيره بين هذين الحكمين؛ قال النحاس‏:‏ وردّ علي بن سليمان عليه قوله؛ لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا، فكيف يقول لربه عز وجل‏{‏ثم يرد إلى ربه‏{‏‏؟‏ وكيف يقول‏{‏فسوف نعذبه‏{‏ فيخاطب بالنون‏؟‏ قال‏:‏ التقدير؛ قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء‏.‏ أما قوله‏{‏قلنا يا ذا القرنين‏{‏ فيجوز أن يكون الله عز وجل خاطبه على لسان نبي في وقته، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال لنبيه‏{‏فإما منا بعد وإما فداء‏}‏محمد‏:‏ 4‏]‏، وأما إشكال ‏{‏فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه‏{‏ فإن تقديره أن الله تعالى خيره بين القتل في قوله

قوله تعالى‏{‏قال أما من ظلم‏{‏ أي من أقام على الكفر منكم، ‏{‏فسوف نعذبه‏{‏ أي بالقتل ‏{‏ثم يرد إلى ربه‏{‏ أي يوم القيامة‏{‏فيعذبه عذابا نكرا‏{‏ أي شديدا في جهنم‏.‏ ‏{‏وأما من آمن وعمل صالحا‏{‏ أي تاب من الكفر ‏{‏فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا‏{‏ قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ‏{‏فله جزاء الحسنى‏{‏ بالرفع على الابتداء أو بالاستقرار و‏{‏الحسنى‏{‏ موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة؛ أي له جزاء الحسنى عند الله تعالى في الآخرة وهي الجنة، فأضاف الجزاء إلى الجنة، كقوله‏{‏حق اليقين‏}‏الواقعة‏:‏ 95‏]‏، ‏{‏ولدار الآخرة‏}‏الأنعام‏:‏ 32‏]‏؛ قاله الفراء‏.‏ ويحتمل أن يريد بـ ‏{‏الحسنى‏{‏ الأعمال الصالحة ويمكن أن يكون الجزاء من ذي القرنين؛ أي أعطيه وأتفضل عليه ويجوز أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون ‏{‏الحسنى‏{‏ في موضع رفع على البدل عند البصريين، وعلى الترجمة عند الكوفيين، وعلى هذا قراءة ابن أبي إسحاق ‏{‏فله جزاء الحسنى‏{‏ إلا أنك لم تحذف التنوين، وهو أجود‏.‏ وقرأ سائر الكوفيين ‏{‏فله جزاء الحسنى‏{‏ منصوبا منونا؛ أي فله الحسنى جزاء قال الفراء‏{‏جزاء‏{‏ منصوب على التمييز وقيل‏:‏ على المصدر؛ وقال الزجاج‏:‏ هو مصدر في موضع الحال؛ أي مجزيا بها جزاء وقرأ ابن عباس ومسروق ‏{‏فله جزاء الحسنى‏{‏ منصوبا غير منون وهي عند أبي حاتم على حذف التنوين لالتقاء الساكنين مثل ‏{‏فله جزاء الحسنى‏{‏ في أحد الوجهين‏.‏ النحاس‏:‏ وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ويكون تقديره‏:‏ فله الثواب جزاء الحسنى‏.‏

تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا بلغ مطلع الشمس‏{‏ وقرأ مجاهد وابن محيصن بفتح الميم واللام؛ يقال‏:‏ طلعت الشمس والكواكب طلوعا ومطلعا‏.‏ والمطلَع والمطلِع أيضا موضع طلوعها قاله الجوهري‏.‏ ‏{‏وجدها تطلع على قوم‏{‏ المعنى أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين مطلع الشمس أحد من الناس‏.‏ والشمس تطلع وراء ذلك بمسافة بعيدة وقد اختلف فيهم؛ فعن وهب بن منبه ما تقدم، وأنها أمة يقال لها منسك وهي مقابلة ناسك؛ وقال مقاتل وقال قتادة‏:‏ يقال لهما الزنج وقال الكلبي‏:‏ هم تارس وهاويل ومنسك؛ حفاة عراة عماة عن الحق، يتسافدون مثل الكلاب، ويتهارجون تهارج الحمر‏.‏ وقيل‏:‏ هم أهل جابلق وهم من نسل مؤمني عاد الذين آمنوا بهود، ويقال لهم بالسريانية مرقيسا والذين عند مغرب الشمس هم أهل جابرس؛ ولكل واحدة من المدينتين عشرة آلاف باب، وبين كل باب فرسخ ووراء جابلق أمم وهم تافيل وتارس وهم يجاورون يأجوج ومأجوج وأهل جابرس وجابلق آمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ‏(‏مر بهم ليلة الإسراء فدعاهم فأجابوه، ودعا الأمم الآخرين فلم يجيبوه‏)‏؛ ذكره السهيلي وقال‏:‏ اختصرت هذا كله من حديث طويل رواه مقاتل بن حيان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه الطبري مسندا إلى مقاتل يرفعه؛ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏لم نجعل لهم من دونها سترا‏{‏ أي حجابا يستترون منها عند طلوعها‏.‏ قال قتادة‏:‏ لم يكن بينهم وبين الشمس سترا؛ كانوا في مكان لا يستقر عليه بناء، وهم يكونون في أسراب لهم، حتى إذا زالت الشمس عنهم رجعوا إلى معايشهم وحروثهم؛ يعني لا يستترون منها بكهف جبل ولا بيت يكنهم منها‏.‏ وقال أمية‏:‏ وجدت رجالا بسمرقند يحدثون الناس، فقال بعضهم‏:‏ خرجت حتى جاوزت الصين، فقيل لي‏:‏ إن بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلا يرينيهم حتى صبحتهم، فوجدت أحدهم يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى، وكان صاحبي يحسن كلامهم، فبتنا بهم، فقالوا‏:‏ فيم جئتم‏؟‏ قلنا‏:‏ جئنا ننظر كيف تطلع الشمس؛ فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلعت الشمس على الماء إذ هي على الماء كهيئة الزيت، وإذا طرف السماء كهيئة الفسطاط، فلما ارتفعت أدخلوني سربا لهم، فلما ارتفع النهار وزالت الشمس عن رؤوسهم خرجوا يصطادون السمك، فيطرحونه في الشمس فينضج‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ جاءهم جيش مرة، فقال لهم أهلها‏:‏ لا تطلع الشمس وأنتم بها، فقالوا‏:‏ ما نبرح حتى تطلع الشمس‏.‏ ثم قالوا‏:‏ ما هذه العظام‏؟‏ قالوا‏:‏ هذه والله عظام جيش طلعت عليهم الشمس ههنا فماتوا قال‏:‏ فولوا هاربين في الأرض‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا، فيتراعون كما تتراعى البهائم‏.‏

قلت‏:‏ وهذه الأقوال تدل على أن مدينة هناك والله أعلم‏.‏ وربما يكون منهم من يدخل في النهر ومنهم من يدخل في السرب فلا تناقض بين قول الحسن وقتادة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 92 ‏)‏

{‏ثم أتبع سببا‏}

تقدم معناه أن أتبع واتبع بمعنى أي سلك طريقا ومنازل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 93 ‏)‏

{‏حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا‏}

قوله تعالى‏{‏حتى إذا بلغ بين السدين‏{‏ وهما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان‏.‏ روى عطاء الخراساني عن ابن عباس‏{‏بين السدين‏{‏ الجبلين أرمينية وأذربيجان ‏{‏وجد من دونهما‏{‏ أي من ورائهما‏.‏ ‏{‏قوما لا يكادون يفقهون قولا‏{‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏يفقهون‏{‏ بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان أي لا يفقهون غيرهم كلاما‏.‏ الباقون بفتح الياء والقاف، أي يعلمون‏.‏ والقراءتان صحيحتان، فلا هم يفقهون من غيرهم ولا يفقهون غيرهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 94 ‏)‏

{‏قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا على أن تجعل بيننا وبينهم سدا‏}

قوله تعالى‏{‏قالوا ياذا القرنين‏{‏ أي قالت له أمة من الإنس صالحة‏.‏ ‏{‏إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض‏{‏ قال الأخفش‏:‏ من همز ‏{‏يأجوج‏{‏ فجعل الألفين من الأصل يقول‏:‏ يأجوج يفعول ومأجوج مفعول كأنه من أجيج النار‏.‏ قال‏:‏ ومن لا يهمز ويجعل الألفين زائدتين يقول‏{‏ياجوج‏{‏ من يججت وماجوج من مججت وهما غير مصروفين؛ قال رؤبة‏:‏

لو أن يأجوج ومأجوج معا وعاد عاد واستجاشوا تبعا

ذكره الجوهري‏.‏ وقيل‏:‏ إنما لم ينصرفا لأنهما اسمان أعجميان، مثل طالوت وجالوت غير مشتقين؛ علتاهما في منع الصرف العجمة والتعريف والتأنيث‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ هو معرب من أج وأجج علتاهما في منع الصرف التعريف والتأنيث‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكونا عربيين؛ فمن همز ‏{‏يأجوج‏{‏ فهو على وزن يفعول مثل يربوع، من قولك أجت النار أي ضويت، ومنه الأجيج، ومنه ملح أجاج، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفا مثل رأس، وأما ‏{‏مأجوج‏{‏ فهو مفعول من أج، والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق ومن لم يهمز فيجوز أن يكون خفف الهمزة، ويجوز أن يكون فاعولا من مج، وترك الصرف فيهما للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة‏.‏ واختلف في إفسادهم؛ سعيد بن عبدالعزيز‏:‏ إفسادهم أكل بني آدم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ إفسادهم إنما كان متوقعا، أي سيفسدون، فطلبوا وجه التحرز منهم‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ إفسادهم هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد المعلوم من البشر، والله أعلم‏.‏ وقد وردت أخبار بصفتهم وخروجهم وأنهم ولد يافث‏.‏ روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ولد لنوح سام وحام ويافث فولد سام العرب وفارس والروم والخير فيهم وولد يافث يأجوج ومأجوج والترك والصقالبة ولا خير فيهم وولد حام القبط والبربر والسودان‏)‏‏.‏ وقال كعب الأحبار‏:‏ احتلم آدم عليه السلام فاختلط ماؤه بالتراب فأسف فخلقوا من ذلك الماء، فهم متصلون بنا من جهة الأب لا من جهة الأم‏.‏ وهذا فيه نظر؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، وكذلك قال مقاتل وغيره‏.‏ وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يموت رجل منهم حتى يولد لصلبه ألف رجل‏)‏‏.‏ يعني يأجوج ومأجوج‏.‏ وقال أبو سعيد‏:‏‏(‏هم خمس وعشرون قبيلة من وراء يأجوج ومأجوج لا يموت الرجل من هؤلاء ومن يأجوج ومأجوج حتى يخرج من صلبه ألف رجل‏)‏ ذكره القشيري‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال، عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏يأجوج ومأجوج أمتان كل أمة أربعمائة ألف أمة كل أمة لا يعلم عددها إلا الله لا يموت الرجل منهم حتى يولد له ألف ذكر من صلبه كلهم قد حمل السلاح‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله صفهم لنا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏هم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال الأرز - شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء نحوا من الذراع وصنف يفترش أذنه ويلتحف بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه ويأكلون من مات منهم مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون أنهار الشرق وبحيرة طبرية فيمنعهم الله من مكة والمدينة وبيت المقدس‏)‏‏.‏ وقال علي رضي الله تعالى عنه‏:‏‏(‏وصنف منهم في طول شبر، لهم مخالب وأنياب السباع، وتداعي الحمام، وتسافد البهائم، وعواء الذئاب، وشعور تقيهم الحر والبرد، وآذان عظام إحداها وبرة يشتون فيها، والأخرى جلدة يصيفون فيها، ويحفرون السد حتى كادوا ينقبونه فيعيده الله كما كان، فيقولون‏:‏ ننقبه غدا إن شاء الله تعالى فينقبونه ويخرجون، ويتحصن الناس بالحصون، فيرمون إلى السماء فيرد السهم عليهم ملطخا بالدم، ثم يهلكم الله تعالى بالنغف في رقابهم‏)‏‏.‏ ذكره الغزنوي‏.‏ وقال علي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يأجوج أمة لها أربعمائة أمير وكذا مأجوج لا يموت أحدهم حتى ينظر إلى ألف فارس من ولده‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء مرفوعا من حديث أبي هريرة، خرجه ابن ماجه في السنن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن يأجوج ومأجوج يحفران كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستحفرونه غدا فيعيده الله أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله تعالى أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال ارجعوا فستحفرونه غدا إن شاء الله تعالى فاستثنوا فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحقرونه ويخرجون على الناس فينشفون الماء ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فيرجع عليها الدم - الذي أحفظ - فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء فيبعث الله تعالى عليهم نغفا في أقفائهم فيقتلهم بها‏)‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده إن دواب الأرض لتسمن وتشكر شكرا من لحومهم‏)‏ قال الجوهري شكرت الناقة تشكر شكرا فهي شكرة؛ وأشكر الضرع امتلأ لبنا‏.‏

وقال وهب بن منبه‏:‏ رآهم ذو القرنين، وطول الواحد منهم مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب في مواضع الأظفار وأضراس وأنياب كالسباع، وأحناك كأحناك الإبل، وهم هلب عليهم من الشعر ما يواريهم، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يلتحف إحداهما ويفترش الأخرى، وكل واحد منهم قد عرف أجله لا يموت حتى يخرج له من صلبه ألف رجل إن كان ذكرا، ومن رحمها ألف أنثى إن كانت أنثى‏.‏ وقال السدي والضحاك‏:‏ الترك شرذمة من يأجوج ومأجوج خرجت تغير، فجاء ذو القرنين فضرب السد فبقيت في هذا الجانب‏.‏ قال السدي‏:‏ بني السد على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك قاله قتادة‏.‏

قلت‏:‏ وإذا كان هذا فقد نعت النبي صلى الله عليه وسلم الترك كما نعت يأجوج ومأجوج، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون الترك قوما وجوههم كالمجان المطرقة يلبسون الشعر ويمشون في الشعر‏)‏ في رواية ‏(‏ينتعلون الشعر‏)‏ خرجه مسلم وأبو داود وغيرهما‏.‏ ولما علم النبي صلى الله عليه وسلم عددهم وكثرتهم وحدة شوكتهم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏اتركوا الترك ما تركوكم‏)‏‏.‏ وقد خرج منهم في هذا الوقت أمم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ولا يردهم عن المسلمين إلا الله تعالى، حتى كأنهم يأجوج ومأجوج أو مقدمتهم‏.‏ وروى أبو داود عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ينزل ناس من أمتي بغائط يسمونه البصرة عند نهر يقال له دجلة يكون عليه جسر يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين - قال ابن يحيى قال أبو معمر وتكون من أمصار المسلمين فإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء عراض الوجوه صغار الأعين حتى ينزلوا على شاطئ النهر فيتفرق أهلها ثلاث فرق فرقة يأخذون أذناب البقر والبرية وهلكوا وفرقة يأخذون لأنفسهم وكفروا وفرقة يجعلون ذراريهم خلف ظهورهم ويقاتلونهم وهم الشهداء‏)‏ الغائط المطمئن من الأرض والبصرة الحجارة الرخوة وبها سميت البصرة وبنو قنطوراء هم الترك يقال‏:‏ إن قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، ولدت له أولادا جاء من نسلهم الترك‏.‏

قوله تعالى‏{‏فهل نجعل لك خرجا‏{‏ استفهام على جهة حسن الأدب ‏{‏خرجا‏{‏ أي جعلا وقرئ ‏{‏خراجا‏{‏ والخرج أخص من الخراج يقال‏:‏ أد خرج رأسك وخراج مدينتك وقال الأزهري‏:‏ الخراج يقع على الضريبة، ويقع على مال الفيء، ويقع على الجزية وعلى الغلة والخراج اسم لما يخرج من الفرائض في الأموال‏.‏ والخرج‏:‏ المصدر‏.‏ ‏{‏على أن تجعل بيننا وبينهم سدا‏{‏ أي ردما؛ والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل وثوب مردم أي مرقع قال الهروي يقال‏:‏ ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردما أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد وقيل‏:‏ الردم أبلغ من السد إذ السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوه حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكاثفة بعضها فوق بعض ومنه قول عنترة‏:‏

هل غادر الشعراء من متمرد

أي من قول يركب بعضه على بعض وقرئ ‏{‏سدا‏{‏ بالفتح في السين، فقال الخليل وسيبويه‏:‏ الضم هو الاسم والفتح المصدر‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ الفتح والضم لغتان بمعنى واحد وقال عكرمة وأبو عمرو بن العلاء وأبو عبيدة‏:‏ ما كان من خلقة الله لم يشاركه فيه أحد بعمل فهو بالضم، وما كان من صنع البشر فهو بالفتح‏.‏ ويلزم أهل هذه المقالة أن يقرؤوا ‏{‏سدا‏{‏ بالفتح وقبله ‏{‏بين السدين‏{‏ بالضم، وهي قراءة حمزة والكسائي‏.‏ وقال أبو حاتم عن ابن عباس وعكرمة عكس ما قال أبو عبيدة‏.‏ وقال ابن أبي إسحاق‏:‏ ما رأته عيناك فهو سد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح‏.‏

في هذه الآية دليل على اتخاذ السجون، وحبس أهل الفساد فيها، ومنعهم من التصرف لما يريدونه، ولا يتركون وما هم عليه، بل يوجعون ضربا ويحبسون أو يكلفون ويطلقون كما فعل عمر رضي الله عنه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 95 ‏)‏

{‏قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما‏}

فيه مسألتان

‏[‏الأولى‏]‏ قوله تعالى‏{‏قال ما مكني قيه ربي خير فأعينوني بقوة‏{‏ المعنى قال لهم ذو القرنين ما بسطه الله تعالى لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم ولكن أعينوني بقوة الأبدان، أي برجال وعمل منكم بالأبدان، والآلة التي أبني بها الردم وهو السد وهذا تأييد من الله تعالى لذي القرنين في هذه المحاورة فإن القوم لو جمعوا له خرجا لم يعنه أحد ولو كلوه إلى البنيان ومعونته بأنفسهم أجمل به وأسرع في انقضاء هذا العمل وربما أربى ما ذكروه له على الخرج‏.‏ وقرأ ابن كثير وحده ‏{‏ما مكنني‏{‏ بنونين‏.‏ وقرأ الباقون ‏{‏ما مكني فيه ربي‏{‏

‏[‏الثانية‏]‏ في هذه الآية دليل أن الملك فرض عليه أن يقوم بحماية الخلق في حفظ بيضتهم، وسد فرجتهم، وإصلاح ثغورهم، من أموالهم التي تفيء عليهم، وحقوقهم التي تجمعها خزانتهم تحت يده ونظره، حتى لو أكلتها الحقوق، وأنفذتها المؤن، لكان عليهم جبر ذلك من أموالهم، وعليه حسن النظر لهم؛ وذلك بثلاثة شروط‏:‏ الأول‏:‏ ألا يستأثر عليهم بشيء‏.‏ الثاني‏:‏ أن يبدأ بأهل الحاجة فيعينهم الثالث أن يسوي في العطاء بينهم على قدر منازلهم، فإذا فنيت بعد هذا وبقيت صفرا فأطلعت الحوادث أمرا بذلوا أنفسهم قبل أموالهم، فإن لم يغن ذلك فأموالهم تؤخذ منهم على تقدير، وتصريف بتدبير؛ فهذا ذو القرنين لما عرضوا عليه المال في أن يكف عنهم ما يحذرونه من عادية يأجوج ومأجوج قال‏:‏ لست احتاج إليه وإنما احتاج إليكم ‏{‏فأعينوني بقوة‏{‏ أي اخدموا بأنفسكم معي، فان الأموال عندي والرجال عندكم، ورأى أن الأموال لا تغني عنهم، فإنه إن أخذها أجرة نقص ذلك مما يحتاج إليه، فيعود بالأجر عليهم، فكان التطوع بخدمة الأبدان أولى‏.‏ وضابط الأمور لا يحل مال أحد إلا لضرورة تعرض، فيؤخذ ذلك، المال جهرا لا سرا، وينفق بالعدل لا بالاستئثار، وبرأي الجماعة لا بالاستبداد بالأمر‏.‏ والله تعالى الموفق للصواب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 96 ‏)‏

{‏آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا‏}

قوله تعالى‏{‏آتوني زبر الحديد‏{‏ أي أعطوني زبر الحديد وناولونيها أمرهم بنقل الآلة، وهذا كله إنما هو استدعاء العطية التي بغير معنى الهبة، وإنما هو استدعاء للمناولة، لأنه قد ارتبط من قوله‏:‏ إنه لا يأخذ منهم الخرج فلم يبق إلا استدعاء المناولة، وأعمال الأبدان و‏{‏زبر الحديد‏{‏ قطع الحديد‏.‏ وأصل الكلمة الاجتماع، ومنه زُبرة الأسد لما اجتمع من الشعر على كاهله‏.‏ وزبرت الكتاب أي كتبته وجمعت حروفه‏.‏ وقرأ أبو بكر والمفضل ‏{‏ردما ايتوني‏{‏ من الإتيان الذي هو المجيء؛ أي جيؤوني بزبر الحديد، فلما سقط الخافض انتصب الفعل على نحو قول الشاعر‏:‏

أمرتك الخير‏.‏‏.‏‏.‏

حذف الجار فنصب الفعل وقرأ الجمهور ‏{‏زبر‏{‏ بفتح الباء وقرأ الحسن بضمها؛ وكل ذلك جمع زبرة وهي القطعة العظيمة منه‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا ساوى‏{‏ يعني البناء فحذف لقوة الكلام عليه‏.‏ ‏{‏بين الصدفين‏{‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هما جانبا الجبل، وسميا بذلك لتصادفهما أي لتلاقيهما‏.‏ وقاله الزهري وابن عباس؛ ‏(‏كأنه يعرض عن الآخر‏)‏ من الصدوف؛ قال الشاعر‏:‏

كلا الصدفين ينفذه سناها توقد مثل مصباح الظلام

ويقال للبناء المرتفع صدف تشبيه بجانب الجبل‏.‏ وفي الحديث‏:‏ كان إذا مر بصدف مائل أسرع المشي‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ الصدف والهدف كل بناء عظيم مرتفع‏.‏ ابن عطية‏:‏ الصدفان الجبلان المتناوحان ولا يقال للواحد صدف، وإنما يقال صدفان للاثنين؛ لأن أحدهما يصادف الآخر‏.‏ وقرأ نافع وحمزة والكسائي ‏{‏الصدفين‏{‏ بفتح الصاد وشدها وفتح الدال، وهي قراءة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبدالعزيز، وهي اختيار أبي عبيدة لأنها أشهر اللغات‏.‏ وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ‏{‏الصدفين‏{‏ بضم الصاد والدال وقرأ عاصم في رواية أبي بكر ‏{‏الصدفين‏{‏ بضم الصاد وسكون الدال، نحو الجرف والجرف فهو تخفيف‏.‏ وقرأ ابن الماجشون بفتح الصاد وضم الدال‏.‏ وقرأ قتادة ‏{‏بين الصدفين‏{‏ بفتح الصاد وسكون الدال، وكل ذلك بمعنى واحد وهما الجبلان المتناوحان‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال انفخوا حتى إذا جعله نارا‏{‏ ‏{‏قال انفخوا‏{‏ أي على زبر الحديد بالأكيار، وذلك أنه كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة، ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى تحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار، فذلك قوله تعالى‏{‏حتى إذا جعله نارا‏{‏ ثم يؤتى بالنحاس المذاب أو بالرصاص أو بالحديد بحسب الخلاف في القطر، فيفرغه على ذلك الطاقة المنضدة، فإذا التأم واشتد ولصق البعض بالبعض استأنف وضع طاقة أخرى، إلى أن استوى العمل فصار جبلا صلدا قال قتادة‏:‏ هو كالبرد المحبر، طريقة سوداء، وطريقة حمراء‏.‏ ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ جاءه رجل فقال‏:‏ يا رسول الله إني رأيت سد يأجوج ومأجوج، قال‏:‏ ‏(‏كيف رأيته‏)‏ قال‏:‏ رأيته كالبرد المحبر، طريقة صفراء، وطريقة حمراء، وطريقة سوداء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏قد رأيته‏)‏‏.‏ ومعنى ‏{‏حتى إذا جعل نارا‏{‏ أي كالنار‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال آتوني أفرغ عليه قطرا‏{‏ أي أعطوني قطرا أفرغ عليه، على التقديم والتأخير‏.‏ ومن قرأ ‏{‏ائتوني‏{‏ فالمعنى عنده تعالوا أفرغ عليه نحاسا‏.‏ والقطر عند أكثر المفسرين النحاس المذاب، وأصله من القطر؛ لأنه إذا أذيب قطر كما يقطر الماء وقالت فرقة‏:‏ القطر الحديد المذاب‏.‏ وقالت فرقة منهم ابن الأنباري‏:‏ الرصاص المذاب‏.‏ وهو مشتق من قطر يقطر قطرا‏.‏ ومنه ‏{‏وأسلنا له عين القطر‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 97 ‏)‏

{‏فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا‏}

قوله تعالى‏{‏فما اسطاعوا أن يظهروه‏{‏ أي ما استطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوه ويصعدوا فيه؛ لأنه أملس مستو مع الجبل والجبل عال لا يرام‏.‏ وارتفاع السد مائتا ذراع وخمسون ذراعا‏.‏ وروي‏:‏ في طوله ما بين طرفي الجبلين مائة فرسخ، وفي عرضه خمسون فرسخ؛ قاله وهب بن منبه‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما استطاعوا له نقبا‏{‏ لبعد عرضه وقوته‏.‏ وروي في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه‏)‏ وعقد وهب بن منبه بيده تسعين وفي رواية - وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وذكر يحيى بن سلام عن سعد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن يأجوج ومأجوج يخرقون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستخرقونه غدا فيعيده الله كأشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم أرجعوا فستحفرونه إن شاء الله فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيخرقونه ويخرجون على الناس‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث وقد تقدم‏.‏ قوله تعالى‏{‏فما استطاعوا‏{‏ بتخفيف الطاء على قراءة الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ هي لغة بمعنى استطاعوا‏.‏ وقيل‏:‏ بل استطاعوا بعينه كثر في كلام العرب حتى حذف بعضهم منه التاء فقالوا‏:‏ اسطاعوا‏.‏ وحذف بعضهم منه الطاء فقال استاع يستيع بمعنى استطاع يستطيع، وهي لغة مشهورة‏.‏ وقرأ حمزة وحده ‏{‏فما استطاعوا‏{‏ بتشديد الطاء كأنه أراد استطاعوا، ثم أدغم التاء في الطاء فشددها، وهي قراءة ضعيفة الوجه؛ قال أبو علي‏:‏ هي غير جائزة‏.‏ وقرأ الأعمش ‏{‏فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا‏{‏ بالتاء في الموضعين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 98 ‏)‏

{‏قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا‏}

قوله تعالى‏{‏قال هذا رحمة من ربي‏{‏ القائل ذو القرنين، وأشار بهذا إلى الردم، والقوة عليه، والانتفاع به في دفع ضرر يأجوج ومأجوج‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏هذه رحمة من ربي‏{‏‏.‏ ‏{‏فإذا جاء وعد ربي‏{‏ أي يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ وقت خروجهم‏.‏ ‏{‏جعله دكاء وكان وعد ربي حقا‏{‏ أي مستويا بالأرض؛ ومنه قوله تعالى‏{‏إذا دكت الأرض‏}‏الفجر‏:‏ 21‏]‏ قال ابن عرفة‏:‏ أي جعلت مستوية لا أكمة فيها، ومنه قوله تعالى‏{‏جعله دكاء‏{‏ قال اليزيدي‏:‏ أي مستويا؛ يقال‏:‏ ناقة دكاء إذا ذهب سنامها‏.‏ وقال القتبي‏:‏ أي مدكوكا ملصقا بالأرض‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ قطعا متكسرا؛ قال‏:‏

هل غير غاد دك غارا فانهدم

وقال الأزهري‏:‏ يقال دككته أي دققته‏.‏ ومن قرأ ‏{‏دكاء‏{‏ أراد جعل الجبل أرضا دكاء، وهي الرابية التي لا تبلغ أن تكون جبلا وجمعها دكاوات‏.‏ قرأ حمزة وعاصم والكسائي ‏{‏دكاء‏{‏ بالمد على التشبيه بالناقة الدكاء، وهي التي لا سنام لها، وفي الكلام حذف تقديره‏:‏ جعله مثل دكاء؛ ولا بد من تقدير هذا الحذف‏.‏ لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء‏.‏ ومن قرأ ‏{‏دكا‏{‏ فهو مصدر دك يدك إذا هدم ورض؛ ويحتمل أن يكون ‏{‏جعل‏{‏ بمعنى خلق‏.‏ وينصب ‏{‏دكا‏{‏ على الحال‏.‏ وكذلك النصب أيضا في قراءة من مد يحتمل الوجهين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 99 ‏)‏

{‏وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا‏}

قوله تعالى‏{‏وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض‏{‏ الضمير في ‏{‏تركنا‏{‏ لله تعالى؛ أي تركنا الجن والإنس يوم القيامة يموج بعضهم في بعض‏.‏ وقيل‏:‏ تركنا يأجوج ومأجوج ‏{‏يومئذ‏{‏ أي وقت كمال السد يموج بعضهم في بعض‏.‏ واستعارة الموج لهم عبارة عن الحيرة وتردد بعضهم في بعض، كالمولهين من هو وخوف؛ فشبههم بموج البحر الذي يضطرب بعضه في بعض‏.‏ وقيل‏:‏ تركنا يأجوج ومأجوج يوم انفتاح السد يموجون في الدنيا مختلطين لكثرتهم‏.‏ قلت‏:‏ فهذه ثلاثة أقوال أظهرها أوسطها، وأبعدها آخرها، وحسن الأول؛ لأنه تقدم ذكر القيامة في تأويل قوله تعالى‏{‏فإذا جاء وعد ربي‏{‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ونفخ في الصور‏{‏ والصور قرن من نور ينفخ فيه، النفخة الأولى للفناء والثانية للإنشاء‏.‏ وليس جمع صورة كما زعم بعضهم؛ أي ينفخ في صور الموتى على ما نبينه‏.‏ روى مسلم من حديث عبدالله بن عمرو ‏(‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا - قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله - قال فيصعق ويصعق الناس ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وكذا في التنزيل ‏{‏ثم نفخ فيه أخرى‏}‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ولم يقل فيها؛ فعلم أنه ليس جمع الصورة‏.‏ والأمم مجمعة على أن الذي ينفخ في الصور إسرافيل عليه السلام‏.‏ قال أبو الهيثم‏:‏ من أنكر أن يكون الصور قرنا فهو كمن ينكر العرش والميزان والصراط، وطلب لها تأويلات‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ الصور الذي في الحديث كالقرن ينفخ فيه، والصور جمع صورة‏.‏ وقال الجوهري‏:‏ الصور القرن‏.‏ قال الراجز‏:‏

لقد نطحناهم غداة الجمعين نطحا شديدا لا كنطح الصورين

ومنه قوله‏{‏ويوم ينفخ في الصور‏{‏‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لا أدري ما هو الصور‏.‏ ويقال‏:‏ هو جمع صورة مثل بسرة وبسر؛ أي ينفخ في صور الموتى والأرواح‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏يوم ينفخ في الصور‏{‏‏.‏ والصور ‏(‏بكسر الصاد‏)‏ لغة في الصور جمع صورة والجمع صوار، وصيار ‏(‏بالياء لغة فيه‏.‏ وقال عمرو بن عبيد‏:‏ قرأ عياض ‏{‏يوم ينفخ في الصور‏{‏ فهذا يغني به الخلق‏.‏ والله أعلم‏.‏ قات‏:‏ وممن قال إن المراد بالصور في هذه الآية جمع صورة أبو عبيد‏.‏ وهذا وإن كان محتملا فهو مردود بما ذكرناه من الكتاب والسنة‏.‏ وأيضا لا ينفخ في الصور للبعث مرتين؛ بل ينفخ فيه مرة واحدة؛ فإسرافيل عليه السلام ينفخ في الصور الذي هو القرن والله عز وجل يحيى الصور‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏فنفخنا فيه من روحنا‏}‏التحريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فجمعناهم جمعا‏{‏ يعني الجن والإنس في عرصات القيامة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

{‏وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا‏}

أي أبرزناها لهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

{‏الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا‏}

قوله تعالى‏{‏الذين كانت أعينهم‏{‏ في موضع خفض نعت ‏{‏للكافرين‏{‏‏.‏ ‏{‏في غطاء عن ذكري‏{‏ أي هم بمنزلة من عينه مغطاة فلا ينظر إلى دلائل الله تعالى‏.‏ ‏{‏وكانوا لا يستطيعون سمعا‏{‏ أي لا يطيقون أن يسمعوا كلام الله تعالى، فهم بمنزلة من صم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

{‏أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا‏}

قوله تعالى‏{‏أفحسب الذين كفروا‏{‏ أي ظن‏.‏ وقرأ علي وعكرمة ومجاهد وابن محيصن ‏{‏أفحسب‏{‏ بإسكان السين وضم الباء؛ أي كفاهم‏.‏ ‏{‏أن يتخذوا عبادي‏{‏ يعني عيسى والملائكة وعزيرا‏.‏ ‏{‏من دوني أولياء‏{‏ ولا أعاقبهم؛ ففي الكلام حذف‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى؛ أفحسبوا أن ينفعهم ذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏:‏ 105 ‏)‏

{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏}

فيه دلالة على أن من الناس من يعمل العمل وهو يظن أنه محسن وقد حبط سعيه، والذي يوجب إحباط السعي إما فساد الاعتقاد أو المراءاة، والمراد هنا الكفر‏.‏ روى البخاري عن مصعب قال‏:‏ سألت أبي ‏{‏قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا‏{‏ أهم الحرورية‏؟‏ قال‏:‏ لا؛ هم اليهود والنصارى‏.‏ وأما اليهود فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة، فقالوا‏:‏ لا طعام فيها ولا شراب؛ والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه؛ وكان سعد يسميهم الفاسقين‏.‏ والآية معناها التوبيخ؛ أي قل لهؤلاء الكفرة الذين عبدوا غيري‏:‏ يخيب سعيهم وآمالهم غدا؛ فهم الأخسرون أعمالا، وهم ‏{‏الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏{‏ في عبادة من سواي‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏يريد كفار أهل مكة‏)‏‏.‏ وقال علي‏:‏‏(‏هم الخوارج أهل حروراء‏.‏ وقال مرة‏:‏ هم الرهبان أصحاب الصوامع‏)‏‏.‏ وروي أن ابن الكواء سأله عن الأخسرين أعمالا فقال له‏:‏ أنت وأصحابك‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ويضعف هذا كله قوله تعالى بعد ذلك‏{‏أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم‏{‏ وليس من هذه الطوائف من يكفر بالله ولقائه والبعث والنشور، وإنما هذه صفة مشركي مكة عبدة الأوثان، وعلي وسعد رضي الله عنهما ذكرا أقواما أخذوا بحظهم من هذه الآية‏.‏ و‏{‏أعمالا‏{‏ نصب على التمييز‏.‏ و‏{‏حبطت‏{‏ قراءة الجمهور بكسر الباء‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏{‏حبطت‏{‏ بفتحها‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا‏{‏ قراءة الجمهور ‏{‏نقيم‏{‏ بنون والعظمة‏.‏ وقرأ مجاهد بياء الغائب؛ يريد فلا يقيم الله عز وجل، وقرأ عبيد بن عمير ‏{‏فلا يقوم‏{‏ ويلزمه أن يقرأ ‏{‏وزن‏{‏ وكذلك قرأ مجاهد ‏{‏فلا يقوم لهم يوم القيامة وزن‏{‏‏.‏ قال عبيد بن عمير‏:‏ يؤتى يوم القيامة بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن عند الله جناح بعوضة‏.‏

قلت‏:‏ هذا لا يقال مثله من جهة الرأي، وقد ثبت معناه مرفوعا صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة اقرؤوا إن شئتم ‏(‏فلا نقيم له يوم القيامة وزنا‏)‏‏.‏ والمعنى أنهم لا ثواب لهم، وأعمالهم مقابلة بالعذاب، فلا حسنة لهم توزن في موازين القيامة ومن لا حسنة له فهو في النار‏.‏ وقال أبو سعيد الخدري‏:‏ يؤتى بأعمال كجبال تهامة فلا تزن شيئا‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يريد المجاز والاستعارة؛ كأنه قال‏:‏ فلا قدر لهم عندنا يومئذ؛ والله أعلم‏.‏ وفي هذا الحديث من الفقه ذم السمن لمن تكلفه، لما في ذلك من تكلف المطاعم والاشتغال بها عن المكارم، بل يدل على تحريم الأكل الزائد على قدر الكفاية المبتغى به الترفه والسمن‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أبغض الرجال إلى الله تعالى الحبر السمين‏)ومن حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خيركم قرني ثم الذين يلونهم - قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن من بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن‏)‏ وهذا ذم‏.‏ وسبب ذلك أن السمن المكتسب إنما هو من كثرة الأكل والشره، والدعة والراحة والأمن والاسترسال مع النفس على شهواتها، فهو عبد نفسه لا عبد ربه، ومن كان هذا حاله وقع لا محالة في الحرام، وكل لحم تولد عن سحت فالنار أولى به؛ وقد ذم الله تعالى الكفار بكثرة الأكل فقال‏{‏والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم‏}‏محمد‏:‏ 12‏]‏ فإذا كان المؤمن يتشبه بهم، ويتنعم بتنعمهم في كل أحواله وأزمانه، فأين حقيقة الإيمان، والقيام بوظائف الإسلام‏؟‏ ‏!‏ ومن كثر أكله وشربه كثر نهمه وحرصه، وزاد بالليل كسله ونومه، فكان نهاره هائما، وليله نائما‏.‏ وقد مضى في ‏{‏الأعراف‏{‏ هذا المعنى؛ وتقدم فيها ذكر الميزان، وأن له كفتين توزن فيهما صحائف الأعمال فلا معنى للإعادة‏.‏ وقال عليه الصلاة والسلام حين ضحكوا من حمش ساق ابن مسعود وهو يصعد النخلة‏:‏ ‏(‏تضحكون من ساق توزن بعمل أهل الأرض‏)‏ فدل هذا على أن الأشخاص توزن؛ ذكره الغزنوي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 106 ‏)‏

{‏ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا‏}

قوله تعالى‏{‏ذلك جزاؤهم‏{‏ ‏{‏ذلك‏{‏ إشارة إلى ترك الوزن، وهو في موضع رفع بالابتداء ‏{‏جزاؤهم‏{‏ خبره‏.‏ ‏{‏جهنم‏{‏ بدل من المبتدأ الذي هو ‏{‏ذلك‏{‏‏.‏ ‏{‏بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا‏{‏ و‏{‏ما‏{‏ في قوله‏{‏بما كفروا‏{‏ مصدرية، والهزء الاستخفاف والسخرية؛ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 107 ‏)‏

{‏إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا‏}

قال قتادة‏:‏ الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأعلاها وأفضلها وأرفعها وقال أبو أمامة الباهلي‏:‏ الفردوس سرة الجنة‏.‏ وقال كعب‏:‏ ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس؛ فيها الآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر‏.‏ وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من آمن بالله وبرسوله وأقام الصلاة وصام رمضان كان حقا على الله أن يدخله الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله أفلا نبشر الناس‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إنه في الجنة جاهد في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها‏)‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله أفلا نبشر الناس‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة - أراه قال - وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة‏)‏ وقال مجاهد‏:‏ والفردوس البستان بالرومية‏.‏ الفراء‏:‏ هو عربي‏.‏ والفردوس حديقة في الجنة‏.‏ وفردوس اسم روضة دون اليمامة‏.‏ والجمع فراديس، قال أمية بن أبي الصلت الثقفي‏:‏

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة فيها الفراديس والفومان والبصل

والفراديس موضع بالشام‏.‏ وكرم مفردس أي معرش‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 108 ‏)‏

{‏خالدين فيها لا يبغون عنها حولا‏}

قوله تعالى‏{‏خالدين فيها‏{‏ أي دائمين‏.‏ ‏{‏لا يبغون عنها حولا‏{‏ أي لا يطلبون تحويلا عنها إلى غيرها‏.‏ والحول بمعنى التحويل؛ قال أبو علي‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ حال من مكانه حولا كما يقال‏:‏ عظم عظما‏.‏ قال‏:‏ ويجوز أن يكون من الحيلة، أي لا يحتالون منزلا غيرها‏.‏ قال الجوهري‏:‏ التحول التنقل من موضع إلى موضع، والاسم الحول، ومنه قوله تعالى‏{‏خالدين فيها لا يبغون عنها حولا‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 109 ‏)‏

{‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا‏}

قوله تعالى‏{‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي‏{‏ نفد الشيء إذا تم وفرغ؛ وقد تقدم‏.‏ ‏{‏ولو جئنا بمثله مددا‏{‏ أي زيادة على البحر عددا أو وزنا‏.‏ وفي مصحف أُبي ‏{‏مدادا‏{‏ وكذلك قرأها مجاهد وابن محيصن وحميد‏.‏ وانتصب ‏{‏مددا‏{‏ على التمييز أو الحال‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قالت اليهود لما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏وما أوتيتم من العلم إلا قليلا‏}‏الإسراء‏:‏ 85‏]‏ قالوا‏:‏ وكيف وقد أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا‏؟‏ فنزلت ‏{‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر‏{‏ الآية‏.‏ وقيل‏:‏ قالت اليهود إنك أوتيت الحكمة، ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم زعمت أنك لا علم لك بالروح‏؟‏ ‏!‏ فقال الله تعالى قل وإن أوتيت القرآن وأوتيتم التوراة فهي بالنسبة إلى كلمات الله تعالى قليلة، قال ابن عباس‏{‏كلمات ربي‏{‏ أي مواعظ ربي‏.‏ وقيل‏:‏ عنى بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو وإن كان واحدا فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من فوائد الكلمات، ولأنه ينوب منا بها، فجازت العبادة عنها بصيغة الجمع تفخيما؛ وقال الأعشى‏:‏

ووجه نقي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم

فعبر باللبات عن اللبة‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏نحن أولياؤكم‏}‏فصلت‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏إنا نحن نزلنا الذكر‏}‏الحجر‏:‏ 9‏]‏ ‏{‏وإنا لنحن نحيي ونميت‏}‏الحجر‏:‏ 23‏]‏ وكذلك ‏{‏إن إبراهيم كان أمة‏}‏النحل‏:‏120‏]‏ لأنه ناب مناب أمة‏.‏ وقيل‏:‏ أي ما نفدت العبارات والدلالات التي تدل على مفهومات معاني كلامه سبحانه وتعالى‏.‏ وقال السدي‏:‏ أي إن كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد صفات الجنة التي هي دار الثواب‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لنفد البحر قبل أن ينفه ثواب من قال لا إله إلا الله‏.‏ ونظير هذه الآية‏{‏ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله‏}‏لقمان‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏قبل أن ينفد‏{‏ بالياء لتقدم الفعل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

{‏قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏}

قوله تعالى‏{‏قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد‏{‏ أي لا أعلم إلا ما يعلمني الله تعالى، وعلم الله تعالى لا يحصى، وإنما أمرت بأن أبلغكم بأنه لا إله إلا الله‏.‏ ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه‏{‏ أي يرجو رؤيته وثوابه ويخشى عقابه ‏{‏فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ نزلت في جندب بن زهير العامري قال‏:‏ يا رسول الله إني أعمل العمل لله تعالى، وأريد وجه الله تعالى، إلا أنه إذا اطلع عليه سرني النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب ولا يقبل ما شورك فيه‏)‏ فنزلت الآية‏.‏ وقال طاووس قال رجل‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إني أحب الجهاد في سبيل الله تعالى وأحب أن يرى مكاني فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إني أتصدق وأصل الرحم أصنع ذلك إلا لله تعالى فيذكر ذلك مني وأحمد عليه فيسرني ذلك وأعجب به، فسكت رسو الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئا، فأنزل الله تعالى ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ والكل مراد، والآية تعم ذلك كله وغيره من الأعمال‏.‏ وقد تقدم في سورة ‏{‏هود‏{‏ حديث أبي هريرة الصحيح في الثلاثة الذين يقضى عليهم أول الناس وقد تقدم في سورة ‏{‏النساء‏{‏ الكلام على الرياء، وذكرنا من الأخبار هناك ما فيه كفاية‏.‏ وقال الماوردي وقال جميع أهل التأويل‏:‏ معنى قوله تعالى‏{‏ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏{‏ إنه لا يرائي بعمله أحدا‏.‏ وروى الترمذي الحكيم رحمه الله تعالى في ‏(‏نوادر الأصول‏)‏ قال‏:‏ حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال‏:‏ حدثنا مكي بن إبراهيم قال‏:‏ حدثنا عبدالواحد بن زيد عن عبادة بن نسي قال‏:‏ أتيت شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت‏:‏ ما الذي أبكاك يا أبا عبدالرحمن‏؟‏ قال‏:‏ حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، إذ رأيت بوجهه أمرا ساءني فقلت‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما الذي أرى بوجهك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أمرا أتخوفه على أمتي من بعدي‏)‏ قلت‏:‏ ما هو يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الشرك والشهوة الخفية‏)‏ قلت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ وتشرك أمتك من بعدك‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يا شداد أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكنهم يراؤون بأعمالهم‏)‏ قلت‏:‏ والرياء شرك هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ فما الشهوة الخفية‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوات الدنيا فيفطر‏)‏ قال عبدالواحد‏:‏ فلقيت الحسن، فقلت‏:‏ يا أبا سعيد‏!‏ أخبرني عن الرياء أشرك هو‏؟‏ قال‏:‏ نعم؛ أما تقرأ ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏{‏‏.‏ وروى إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا حمد بن أبي بكر قال حدثنا المعتمر بن سليمان عن ليث عن شهر بن حوشب قال‏:‏ ‏(‏كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس جالسين، فقالا‏:‏ إنا نتخوف على هذه الأمة من الشرك والشهوة الخفية، فأما الشهوة الخفية فمن قبل النساء‏)‏‏.‏ وقالا‏:‏ سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من صلى صلاة يرائي بها فقد أشرك ومن صام صياما يرائي به فقد أشرك‏)‏ ثم تلا ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ وقد جاء تفسير الشهوة الخفية بخلاف هذا، وقد ذكرناه في ‏{‏النساء‏{‏‏.‏ وقال سهل بن عبدالله‏:‏ وسئل الحسن عن الإخلاص والرياء فقال‏:‏ من الإخلاص أن تحب أن تكتم حسناتك ولا تحب أن تكتم سيئاتك، فإن أظهر الله عليك حسناتك تقول هذا من فضلك وإحسانك، وليس هذا من فعلي ولا من صنيعي، وتذكر قوله تعالى‏{‏فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا‏)‏‏.‏ ‏(‏والذين يؤتون ما آتوا‏}‏المؤمنون‏:‏ 10‏]‏ الآية؛ يؤتون الإخلاص، وهم يخافون ألا يقبل منهم؛ وأما الرياء فطلب حظ النفس من عملها في الدنيا؛ قيل لها‏:‏ كيف يكون هذا‏؟‏ قال‏:‏ من طلب بعمل بينه وبين الله تعالى سوى وجه الله تعالى والدار الآخرة فهو رياء‏.‏ وقال علماؤنا رضي الله تعالى عنهم‏:‏ وقد يقضي الرياء بصاحبه إلى استهزاء الناس به؛ كما يحكى أن طاهر بن الحسين قال لأبي عبدالله المروزي‏:‏ منذ كم صرت إلى العراق يا أبا عبدالله‏؟‏ قال‏:‏ دخلت العراق منذ عشرين سنة وأنا منذ ثلاثين سنة صائم؛ فقال يا أبا عبدالله سألناك عن مسألة فأجبتنا عن مسألتين‏.‏ وحكى الأصمعي أن أعرابيا صلى فأطال وإلى جانبه قوم، فقالوا‏:‏ ما أحسن صلاتك‏؟‏ ‏!‏ فقال‏:‏ وأنا مع ذلك صائم‏.‏ أين هذا من قول الأشعث، بن قيس وقد صلى فخفف، فقيل له إنك خففت، فقال‏:‏ إنه لم يخالطها رياء؛ فخلص من تنقصهم بنفي الرياء عن نفسه، والتصنع من صلاته؛ وقد تقدم في ‏{‏النساء‏{‏ دواء الرياء من قول لقمان؛ وأنه كتمان العمل، وروى الترمذي الحكيم حدثنا أبي رحمه الله تعالى قال‏:‏ أنبأنا الحماني قال‏:‏ أنبأنا جرير عن ليث عن شيخ عن معقل بن يسار قال قال أبو بكر وشهد به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك، قال‏:‏ ‏(‏هو فيكم أخفى من دبيب النمل وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره تقول اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم تقولها ثلاث مرات‏)‏‏.‏ وقال عمر بن قيس الكندي سمعت معاوية تلا هذه الآية على المنبر ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه‏{‏ فقال‏:‏ إنها لآخر آية نزلت من السماء‏.‏ وقال عمر قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أوحى إلي أنه من قرأ ‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا‏{‏ رفع له نور ما بين عدن إلى مكة حشوه الملائكة يصلون عليه ويستغفرون له‏)‏‏.‏ وقال معاذ بن جبل قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قرأ أول سورة الكهف وآخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء‏)‏وعن ابن عباس أنه قال له رجل‏:‏ إني أضمر أن أقوم ساعة من الليل فيغلبني النوم، فقال‏:‏ ‏(‏إذا أردت أن تقوم أي ساعة شئت من الليل فاقرأ إذا أخذت مضجعك ‏{‏قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي‏{‏ إلى آخر السورة فإن الله تعالى يوقظك متى شئت من الليل‏)‏؛ ذكر هذه الفضائل الثعلبي رضي الله تعالى عنه‏.‏ وفي مسند الدرامي أبي محمد أخبرنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن عبدة عن زر بن حبيش قال من قرأ آخر سورة الكهف لساعة أن يقوم من الليل قامها؛ قال عبدة فجربناه فوجدناه كذلك قال ابن العربي‏:‏ كان شيخنا الطرطوشي الأكبر يقول‏:‏ لا تذهب بكم الأزمان في مصاولة الأقران، ومواصلة الإخوان؛ وقد ختم سبحانه وتعالى البيان بقوله‏{‏فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعيادة ربه أحدا‏{‏‏.‏