فصل: الآية رقم ‏(‏14 ‏:‏ 15 ‏:‏ 16‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏7‏)‏

‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا واتقوا الله إن الله عليم بذات الصدور‏}‏

قوله تعالى‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به‏}‏ قيل‏:‏ هو الميثاق الذي في قوله عز وجل‏{‏وإذ أخذ ربك من بني آدم‏}‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ؛ قال مجاهد وغيره‏.‏ ونحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الصادق به، فيجوز أن نؤمر بالوفاء به‏.‏ وقيل‏:‏ هو خطاب لليهود بحفظ ما أخذ عليهم في التوراة؛ والذي عليه الجمهور من المفسرين كابن عباس والسدي هو العهد والميثاق الذي جرى لهم مع النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره إذ قالوا‏:‏ سمعنا وأطعنا، كما جرى ليلة العقبة وتحت الشجرة، وأضافه تعالى إلى نفسه كما قال‏{‏إنما يبايعون الله‏}‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأبناءهم، وأن يرحل إليهم هو وأصحابه، وكان أول من بايعه البراء بن معرور، وكان له في تلك الليلة المقام المحمود في التوثق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشد لعقد أمره، وهو القائل‏:‏ والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أبناء الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرا عن كابر‏.‏ الخبر المشهور في سيرة ابن إسحاق‏.‏ ويأتي ذكر بيعة الرضوان في موضعها‏.‏ وقد اتصل هذا بقوله تعالى‏{‏أوفوا بالعقود‏}‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ فوفوا بما قالوا؛ جزاهم الله تعالى عنهم وعن الإسلام خيرا، ورضي الله عنهم وأرضاهم‏.‏ ‏}‏واتقوا الله‏}‏ أي في مخالفته أنه عالم بكل شيء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏8 ‏:‏ 10‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين‏}‏ الآية تقدم معناها في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ والمعنى‏:‏ أتمم عليك نعمتي فكونوا قوامين لله، أي لأجل ثواب الله؛ فقوموا بحقه، وأشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم، وحيف على أعدائكم‏.‏ ‏}‏ولا يجرمنكم شنآن قوم‏}‏ على ترك العدل وإيثار العدوان على الحق‏.‏ وفي هذا دليل على نفوذ حكم العدو على عدوه في الله تعالى ونفوذ شهادته عليه؛ لأنه أمر بالعدل وإن أبغضه، ولو كان حكمه عليه وشهادته لا تجوز فيه مع البغض له لما كان لأمره بالعدل فيه وجه‏.‏ ودلت الآية أيضا على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك؛ فليس لنا أن نقتلهم بمثله قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم؛ وإليه أشار عبدالله بن رواحة بقوله في القصة المشهورة‏:‏ هذا معنى الآية‏.‏ وتقدم في صدر هذه السورة معنى قوله‏{‏لا يجر منكم شنآن قوم‏}‏‏.‏ وقرئ ‏}‏ولا يجرمنكم‏}‏ قال الكسائي‏:‏ هما لغتان‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى ‏}‏لا يجر منكم‏}‏ لا يدخلنكم في الجرم؛ كما تقول‏:‏ آثمني أي أدخلني في الإثم‏.‏ ومعنى ‏}‏هو أقرب للتقوى‏}‏ أي لأن تتقوا الله‏.‏ وقيل‏:‏ لأن تتقوا النار‏.‏ ومعنى ‏}‏لهم مغفرة وأجر عظيم‏}‏ أي قال الله في حق المؤمنين‏{‏لهم مغفرة وأجر عظيم‏}‏ أي لا تعرف كنهه أفهام الخلق؛ كما قال‏{‏فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين‏}‏السجدة‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وإذا قال الله تعالى‏{‏أجر عظيم‏}‏ و‏}‏أجر كريم‏}‏يس‏:‏ 11‏]‏ و‏}‏أجر كبير‏}‏هود‏:‏ 11‏]‏ فمن ذا الذي يقدر قدره‏؟‏‏.‏ ولما كان الوعد من قبيل القول حسن إدخال اللام في قوله‏{‏لهم مغفرة‏}‏ وهو في موضع نصب؛ لأنه وقع موقع الموعود به، على معنى وعدهم أن لهم مغفرة أو وعدهم مغفرة إلا أن الجملة وقعت موقع المفرد؛ كما قال الشاعر‏:‏

وجدنا الصالحين لهم جزاء وجنات وعينا سلسبيلا

وموضع الجملة نصب؛ ولذلك عطف عليها بالنصب‏.‏ وقيل‏:‏ هو في موضع رفع على أن يكون الموعود به محذوفا؛ على تقدير لهم مغفرة وأجر عظيم فيما وعدهم به‏.‏ وهذا المعنى عن الحسن‏.‏

نزلت في بني النضير‏.‏ وقيل في جميع الكفار‏.‏

 الآية رقم ‏(‏11‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏

قال جماعة‏:‏ نزلت بسبب فعل الأعرابي في غزوة ذات الرقاع حين اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ من يعصمك مني يا محمد‏؟‏ كما تقدم في ‏}‏النساء‏}‏‏.‏ وفي البخاري‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الناس فاجتمعوا وهو جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعاقبه‏.‏ وذكر الواقدي وابن أبي حاتم أنه أسلم‏.‏ وذكر قوم أنه ضرب برأسه في ساق شجرة حتى مات‏.‏ وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن اسم الرجل غورث بن الحارث ‏(‏بالغين منقوطة مفتوحة وسكون الواو بعدها راء وثاء مثلثة‏)‏ وقد ضم بعضهم الغين، والأول صح‏.‏ وذكر أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، وأبو عبدالله محمد بن عمر الواقدي أن اسمه دعثور بن الحارث، وذكر أنه أسلم كما تقدم‏.‏ وذكر محمد بن إسحاق أن اسمه عمرو بن جحاش وهو أخو بني النضير‏.‏ وذكر بعضهم أن قصة عمرو بن جحاش في غير هذه القصة‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال قتادة ومجاهد وغيرهما‏:‏ نزلت في قوم من اليهود جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية فهموا بقتله صلى الله عليه وسلم الله منهم‏.‏ قال القشيري‏:‏ وقد تنزل الآية في قصة ثم ينزل ذكرها مرة أخرى لادكار ما سبق‏.‏ ‏}‏أن يبسطوا إليكم أيديهم‏}‏ أي بالسوء‏.‏ ‏}‏فكف أيديهم عنكم‏}‏ أي منعهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏12‏)‏

‏{‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل‏}‏

قال ابن عطية‏:‏ هذه الآيات المتضمنة الخبر عن نقضهم مواثيق الله تعالى تقوي أن الآية المتقدمة في كف الأيدي إنما كانت في بني النضير، واختلف أهل التأويل في كيفية بعث هؤلاء النقباء بعد الإجماع على أن النقيب كبير القوم، القائم بأمورهم الذي ينقب عنها وعن مصالحهم فيها‏.‏ والنقاب‏:‏ الرجل العظيم الذي هو في الناس على هذه الطريقة؛ ومنه قيل في عمر رضي الله عنه‏:‏ إنه كان لنقابا‏.‏ فالنقباء الضمان، واحدهم نقيب، وهو شاهد القوم وضمينهم؛ يقال‏:‏ نقب عليهم، وهو حسن النقيبة أي حسن الخليقة‏.‏ والنقب والنقب الطريق في الجبل‏.‏ وإنما قيل‏:‏ نقيب لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم وهو الطريق إلى معرفة أمورهم‏.‏ وقال قوم‏:‏ القباء الأمناء على قومهم؛ وهذا كله قريب بعضه من بعض‏.‏ والنقيب أكبر مكانة من العريف‏.‏ قال عطاء بن يسار‏:‏ حملة القرآن عرفاء أهل الجنة؛ ذكره الدرامي في مسنده‏.‏ قال قتادة - رحمه الله وغيره‏:‏ هؤلاء النقباء قوم كبار من كل سبط، تكفل كل واحد بسبطه بأن يؤمنوا ويتقوا الله؛ ونحو هذا كان النقباء ليلة العقبة؛ بايع فيها سبعون رجلا وامرأتان‏.‏ فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم من السبعين اثني عشر رجلا، وسماهم القباء اقتداء بموسى صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الربيع والسدي وغيرهما‏:‏ إنما بعث النقباء من بني إسرائيل أمناء على الاطلاع على الجبارين والسبر لقوتهم ومنعتهم؛ فساروا ليختبروا حال من بها، ويعلموه بما اطلعوه عليه فيها حتى ينظر في الغزو إليهم؛ فأطلعوا من الجبارين على قوة عظيمة - على ما يأتي - وظنوا أنهم لا قبل لهم بها؛ فتعاقدوا بينهم على أن يخفوا ذلك عن بني إسرائيل، وأن يعلموا به موسى عليه السلام، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل خان منهم عشرة فعرفوا قراباتهم، ومن وثقوه على سرهم؛ ففشا الخبر حتى أعوج أمر بني إسرائيل فقالوا‏{‏فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون‏}‏المائدة‏:‏ 24‏]‏‏.‏

ففي الآية دليل على قبول خبر الواحد فيما يفتقر إليه المرء، ويحتاج إلى اطلاعه من حاجاته الدينية والدنيوية؛ فتركب عليه الأحكام، ويرتبط به الحلال والحرام؛ وقد جاء أيضا مثله في الإسلام؛ قال صلى الله عليه وسلم لهوازن‏:‏ ‏(‏ارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم‏)‏‏.‏ أخرجه البخاري‏.‏

وفيها أيضا دليل على اتخاذ الجاسوس‏.‏ والتجسس‏:‏ التبحث‏.‏ وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبسة عينا؛ أخرجه مسلم‏.‏ وسيأتي حكم الجاسوس في ‏}‏الممتحنة‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما أسماء نقباء بني إسرائيل فقد ذكر أسماءهم محمد بن حبيب في ‏}‏المحبر‏}‏ فقال‏:‏ من سبط روبيل شموع بن ركوب، ومن سبط شمعون شوقوط بن حوري، ومن سبط يهوذا كالب بن يوقنا، ومن سبط الساحر يوغول بن يوسف، ومن سبط أفراثيم بن يوسف يوشع بن النون، ومن سبط بنيامين يلظى بن روقو، ومن سبط ربالون كرابيل بن سودا ومن سبط منشا بن يوسف كدي بن سوشا، ومن سبط دان عمائيل بن كسل، ومن سبط شير ستور بن ميخائيل، ومن سبط نفتال يوحنا بن وقوشا، ومن سبط كاذ كوال بن موخى؛ فالمؤمنان منهم يوشع وكالب، ودعا موسى عليه السلام على الآخرين فهلكوا مسخوطا عليهم؛ قاله الماوردي‏.‏ وأما نقباء ليلة العقبة فمذكورون في سيرة ابن إسحاق فلينظروا هناك‏.‏

قوله تعالى‏{‏وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة‏}‏ الآية‏.‏ قال الربيع بن أنس‏:‏ قال ذلك للنقباء‏.‏ وقال غيره‏:‏ قال ذلك لجميع يني إسرائيل‏.‏ وكسرت ‏}‏إن‏}‏ لأنها مبتدأة‏.‏ ‏}‏معكم‏}‏ لأنه ظرف، أي بالنصر والعون‏.‏ ثم ابتدأ فقال‏{‏لئن أقمتم الصلاة‏}‏ إلى أن قال ‏}‏لأكفرن عنكم سيئاتكم‏}‏ أي إن فعلتم ذلك ‏}‏ولأدخلنكم جنات‏}‏ واللام في ‏}‏لئن‏}‏ لام توكيد ومعناها القسم؛ وكذا ‏}‏لأكفرن عنكم‏}‏، ‏}‏ولأدخلنكم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لئن أقمتم الصلاة لأكفرن عنكم سيئاتكم، وتضمن شرطا آخر لقوله‏{‏لأكفرن‏}‏ أي إن فعلتم ذلك كفر‏.‏ وقيل‏:‏ قوله ‏}‏لئن أقمتم الصلاة‏}‏ جزاء لقوله‏{‏إني معكم‏}‏ وشرط لقوله‏{‏لأكفرن‏}‏ والتعزير‏:‏ التعظيم والتوقير؛ وأنشد أبو عبيدة‏:‏

وكم من ماجد لهم كريم ومن ليث يعزر في الندي

أي يعظم ويوقر‏.‏ والتعزير‏:‏ الضرب دون الحد، والرد؛ تقول‏:‏ عزرت فلانا إذا أدبته ورددت عن القبيح‏.‏ فقوله‏{‏عزرتموهم‏}‏ أي رددتم عنهم أعداءهم‏.‏ ‏}‏وأقرضتم الله قرضا حسنا‏}‏ يعني الصدقات؛ ولم يقل إقراضا، وهذا مما جاء من المصدر بخلاف المصدر كقوله‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتا‏}‏نوح‏:‏ 17‏]‏ ، ‏}‏فتقبلها ربها بقبول حسن‏}‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ وقد تقدم‏.‏ ثم قيل‏{‏حسنا‏}‏ أي طيبة بها نفوسكم‏.‏ وقيل‏:‏ يبتغون بها وجه الله‏.‏ وقيل‏:‏ حلالا‏.‏ وقيل‏{‏قرضا‏}‏ اسم لا مصدر‏.‏ ‏}‏فمن كفر بعد ذلك منكم‏}‏ أي بعد الميثاق‏.‏ ‏}‏فقد ضل سواء السبيل‏}‏ أي أخطأ قصد الطريق‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏13‏)‏

‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ أي فبنقضهم ميثاقهم، ‏}‏ما‏}‏ زائدة للتوكيد، عن قتادة وسائر أهل العلم؛ وذلك أنها تؤكد الكلام بمعنى تمكنه في النفس من جهة حسن النظم، ومن جهة تكثيره للتوكيد؛ كما قال‏:‏

لشيء ما يسود من يسود

فالتأكيد بعلامة موضوعة كالتأكيد بالتكرير‏.‏ ‏}‏لعناهم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عذبناهم بالجزية‏.‏ وقال الحسن ومقاتل‏:‏ بالمسخ‏.‏ عطاء‏:‏ أبعدناهم؛ واللعن الإبعاد والطرد من الرحمة‏.‏ ‏}‏وجعلنا قلوبهم قاسية‏}‏ أي صلبة لا تعي خيرا ولا تفعله؛ والقاسية والعاتية بمعنى واحد‏.‏ وقرأ الكسائي وحمزة‏{‏قسية‏}‏ بتشديد الياء من غير ألف؛ وهي قراءة ابن مسعود والنخعي ويحيى بن وثاب‏.‏ والعام القسي الشديد الذي لا مطر فيه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الدراهم القسيات أي الفاسدة الرديئة؛ فمعنى ‏}‏قسية‏}‏ على هذا ليست بخالصة الإيمان، أي فيها نفاق‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن؛ لأنه يقال‏:‏ درهم قسي إذا كان مغشوشا بنحاس أو غيره‏.‏ يقال‏:‏ درهم قسي ‏(‏مخفف السين مشدد الياء‏)‏ مثال شقي أي زائف؛ ذكر ذلك أبو عبيد وأنشد‏:‏

لها صواهل في صم السلام كما صاح القسيات في أيدي الصياريف

يصف وقع المساحي في الحجارة‏.‏ وقال الأصمعي وأبو عبيد‏:‏ درهم قسي كأنه معرب قاشي‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا بعيد؛ لأنه ليس في القرآن ما ليس من لغة العرب، بل الدرهم القسي من القسوة والشدة أيضا؛ لأن ما قلت نقرته يقسوا ويصلب‏.‏ وقرأ الأعمش‏{‏قسية‏}‏ بتخفيف الياء على وزن فعلة نحو عمية وشجية؛ من قسي يقسى لا من قسا يقسو‏.‏ وقرأ الباقون على وزن فاعلة؛ وهو اختيار أبي عبيد؛ وهما لغتان مثل العلية والعالية، والزكية والزاكية‏.‏ قال أبو جعفر النحاس‏:‏ أولى ما فيه أن تكون قسية بمعنى قاسية، إلا أن فعيلة أبلغ من فاعلة‏.‏ فالمعنى‏:‏ جعلنا قلوبهم غليظة نابية عن الإيمان والتوفيق لطاعتي؛ لأن القوم لم يوصفوا بشيء من الإيمان فتكون قلوبهم موصوفة بأن إيمانها خالطه كفر، كالدراهم القسية التي خالطها غش‏.‏ قال الراجز‏:‏

قد قسوت وقست لداتي

قوله تعالى‏{‏يحرفون الكلم عن مواضعه‏}‏ أي يتأولونه على غير تأويله، ويلقون ذلك إلى العوام‏.‏ وقيل‏:‏ معناه يبدلون حروفه‏.‏ ‏}‏ويحرفون‏}‏ في موضع نصب، أي جعلنا قلوبهم قاسية محرفين‏.‏ وقرأ السلمي والنخعي ‏}‏الكلام‏}‏ بالألف وذلك أنهم غيروا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم‏.‏ ‏}‏ونسوا حظا مما ذكروا به‏}‏ أي نسوا عهد الله الذي أخذه الأنبياء عليهم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏، وبيان نعته‏.‏ ‏}‏ولا تزال تطلع‏}‏ أي وأنت يا محمد لا تزال الآن تقف ‏}‏على خائنة منهم‏}‏ والخائنة الخيانة؛ قال قتادة‏.‏ وهذا جائز في اللغة، ويكون مثل قولهم‏:‏ قائلة بمعنى قيلولة‏.‏ وقيل‏:‏ هو نعت لمحذوف والتقدير فرقة خائنة‏.‏ وقد تقع ‏}‏خائنة‏}‏ للواحد كما يقال‏:‏ رجل نسابة وعلامة؛ فخائنة على هذا للمبالغة؛ يقال‏:‏ رجل خائنة إذا بالغت في وصفه بالخيانة‏.‏ قال الشاعر‏:‏

حدثت نفسك بالوفاء ولم تكن للغدر خائنة مغل الإصبع

قال ابن عباس‏{‏على خائنة‏}‏ أي معصية‏.‏ وقيل‏:‏ كذب وفجور‏.‏ وكانت خيانتهم نقضهم العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كيوم الأحزاب وغير ذلك من همهم بقتله وسبه‏.‏ ‏}‏إلا قليلا منهم‏}‏ لم يخونوا فهو استثناء من الهاء والميم اللتين في ‏}‏خائنة منهم‏}‏‏.‏ ‏}‏فاعف عنهم واصفح‏}‏ في معناه قولان‏:‏ فاعف عنهم واصفح ما دام بينك وبينهم عهد وهم أهل الذمة‏.‏ والقول الآخر إنه منسوخ بآية السيف‏.‏ وقيل‏:‏ بقوله عز وجل ‏}‏وإما تخافن من قوم خيانة‏}‏الأنفال‏:‏58‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏14 ‏:‏ 15 ‏:‏ 16‏)‏

‏{‏ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون، يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم‏}‏ أي في التوحيد والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم؛ إذ هو مكتوب في الإنجيل‏.‏ ‏}‏فنسوا حظا‏}‏ وهو الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام؛ أي لم يعملوا بما أمروا به، وجعلوا ذلك الهوى والتحريف سببا للكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومعنى ‏}‏أخذنا ميثاقهم‏}‏ هو كقولك‏:‏ أخذت من زيد ثوبه ودرهمه؛ قاله الأخفش‏.‏ ورتبة ‏}‏الذين‏}‏ أن تكون بعد ‏}‏أخذنا‏}‏ وقيل الميثاق؛ فيكون التقدير‏:‏ أخذنا من الذين قالوا إنا نصارى ميثاقهم؛ لأنه في موضع المفعول الثاني لأخذنا‏.‏ وتقديره عند الكوفيين ومن الذين قالوا إنا نصارى من أخذنا ميثاقه؛ فالهاء والميم تعودان على ‏}‏من‏}‏ المحذوفة، وعلى القول الأول تعودان على ‏}‏الذين‏}‏‏.‏ ولا يجيز النحويون أخذنا ميثاقهم من الذين قالوا إنا نصارى، ولا ألينها لبست من الثياب؛ لئلا يتقدم مضمر على ظاهر‏.‏ وفي قولهم‏{‏إنا نصارى‏}‏ ولم يقل من النصارى دليل على أنهم ابتدعوا النصرانية وتسموا بها؛ روي معناه عن الحسن‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء‏}‏ أي هيجنا‏.‏ وقيل‏:‏ ألصقنا بهم؛ مأخوذ من الغراء وهو ما يلصق الشيء بالشيء كالصمغ وشبهه‏.‏ يقال‏:‏ غري بالشيء يغرى غرا ‏}‏بفتح الغين‏}‏ مقصورا وغراء ‏}‏بكسر الغين‏}‏ ممدودا إذا أولع به كأنه التصق به‏.‏ وحكى الرماني‏:‏ الإغراء تسليط بعضهم على بعض‏.‏ وقيل‏:‏ الإغراء التحريش، وأصله اللصوق؛ يقال‏:‏ غريت بالرجل غرا - مقصور وممدود مفتوح الأول - إذ لصقت به‏.‏ وقال كثير‏.‏

إذا قيل مهلا قالت العين بالبكا غراء ومدتها حوافل نهل

وأغريت زيدا بكذا حتى غري به؛ ومنه الغراء الذي يغري به للصوقه؛ فالإغراء بالشيء الإلصاق به من جهة التسليط عليه‏.‏ وأغريت الكلب أي أولعته بالصيد‏.‏ ‏}‏بينهم‏}‏ ظرف للعداوة‏.‏ ‏}‏والبغضاء‏}‏ البغض‏.‏ أشار بهذا إلى اليهود والنصارى لتقدم ذكرهما‏.‏ عن السدي وقتادة‏:‏ بعضهم لبعض عدو‏.‏ وقيل‏:‏ أشار إلى افتراق النصارى خاصة؛ قاله الربيع بن أنس، لأنهم أقرب مذكور؛ وذلك أنهم افترقوا إلى اليعاقبة والنسطورية والملكانية؛ أي كفر بعضهم بعضا‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل في معنى ‏}‏أغرينا بينهم العداوة والبغضاء‏}‏ أن الله عز وجل أمر بعداوة الكفار وإبغاضهم، فكل فرقة مأمُورة بعداوة صاحبتها وإبغاضها لأنهم كفار‏.‏ وقوله‏{‏وسوف ينبئهم الله‏}‏ تهديد لهم؛ أي سيلقون جزاء نقض الميثاق‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ الكتاب اسم جنس بمعنى الكتب؛ فجميعهم مخاطبون‏.‏ ‏}‏قد جاءكم رسولنا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب‏}‏ أي من كتبكم؛ من الإيمان به، ومن آية الرجم، ومن قصة أصحاب السبت الذين مسخوا قردة؛ فإنهم كانوا يخفونها‏.‏ ‏}‏ويعفو عن كثير‏}‏ أي يتركه ولا يبينه، وإنما يبين ما فيه حجة على نبوته، ودلالة على صدقه وشهادة برسالته، ويترك ما لم يكن به حاجة إلى تبيينه‏.‏ وقيل‏{‏ويعفو عن كثير‏}‏ يعني يتجاوز عن كثير فلا يخبركم به‏.‏ وذكر أن رجلا من أحبارهم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال‏:‏ يا هذا عفوت عنا‏؟‏ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين؛ وإنما أراد اليهودي أن يظهر مناقضة كلامه، فلما لم يبين له رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من عنده فذهب وقال لأصحابه‏:‏ أرى أنه صادق فيما يقول‏:‏ لأنه كان وجد في كتابه أنه لا يبين له ما سأله عنه‏.‏ ‏}‏قد جاءكم من الله نور‏}‏ أي ضياء؛ قيل‏:‏ الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ محمد عليه السلام؛ عن الزجاج‏.‏ ‏}‏وكتاب مبين‏}‏ أي القرآن؛ فإنه يبين الأحكام، وقد تقدم‏.‏ ‏}‏يهدي به الله من اتبع رضوانه‏}‏ أي ما رضيه الله‏.‏ ‏}‏سبل السلام‏}‏ طرق السلامة الموصلة إلى دار السلام المنزهة عن كل آفة، والمؤمنة من كل مخافة؛ وهي الجنة‏.‏ وقال الحسن والسدي‏{‏السلام‏}‏ الله عز وجل؛ فالمعنى دين الله - وهو الإسلام - كما قال‏{‏إن الدين عند الله الإسلام‏}‏آل عمران‏:‏ 19‏]‏‏.‏ ‏}‏ويخرجهم من الظلمات إلى النور‏}‏ أي من ظلمات الكفر والجهالات إلى نور الإسلام والهدايات‏.‏ ‏}‏بإذنه‏}‏ أي بتوفيق وإرادته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏17‏)‏

‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم‏}‏ تقدم في آخر ‏}‏النساء‏}‏ بيانه والقول فيه‏.‏ وكفر النصارى في دلالة هذا الكلام إنما كان بقولهم‏:‏ إن الله هو المسيح ابن مريم على جهة الدينونة به؛ لأنهم لو قالوه على جهة الحكاية منكرين له لم يكفروا‏.‏ ‏}‏قل فمن يملك من الله شيئا‏}‏ أي من أمر الله‏.‏ و‏}‏يملك‏}‏ بمعنى يقدر؛ من قولهم ملكت على فلان أمره أي اقتدرت عليه‏.‏ أي فمن يقدر أن يمنع من ذلك شيئا‏؟‏ فأعلم الله تعالى أن المسيح لو كان إلها لقدر على دفع ما ينزل به أو بغيره، وقد أمات أمه ولم يتمكن من دفع الموت عنها؛ فلو أهلكه هو أيضا فمن يدفعه عن ذلك أو يرده‏.‏ ‏}‏ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما‏}‏ والمسيح وأمه بينهما مخلوقان محدودان محصوران، وما أحاط به الحد والنهاية لا يصلح للإلهية‏.‏ وقال ‏}‏وما بينهما‏}‏ ولم يقل وما بينهن؛ لأنه أراد النوعين والصنفين كما قال الراعي‏:‏

طرقا فتلك هماهمي أقربهما قلصا لواقح كالقصي وحولا

فقال‏{‏طرقا‏}‏ ثم قال‏{‏فتلك هماهمي‏}‏‏.‏ ‏}‏يخلق ما يشاء‏}‏ عيسى من أم بلا أب آية لعباده‏.‏ `

 الآية رقم ‏(‏ 18‏)‏

‏{‏وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما من اليهود العقاب فقالوا‏:‏ لا نخاف فإنا أبناء الله وأحباؤه؛ فنزلت الآية‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضا وبحري بن عمرو وشأس بن عدي فكلموه وكلمهم، ودعاهم إلى الله عز وجل وحذرهم نقمته فقالوا‏:‏ ما تخوفنا يا محمد‏؟‏؛ نحن أبناء الله وأحباؤه، كقول النصارى؛ فأنزل الله عز وجل فيهم ‏}‏وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ قال لهم معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب‏:‏ يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله، ولقد كنتم تذكرونه لنا فبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته؛ فقال رافع بن حريمة ووهب بن يهوذا‏:‏ ما قلنا هذا لكم، ولا أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا من بعده؛ فأنزل الله عز وجل‏{‏يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل‏}‏ إلى قوله‏{‏والله على كل شيء قدير‏}‏‏.‏ السدي‏:‏ زعمت اليهود أن الله عز وجل أوحى إلى إسرائيل عليه السلام أن ولدك بكري من الولد‏.‏ قال غيره‏:‏ والنصارى قالت نحن أبناء الله؛ لأن في الإنجيل حكاية عن عيسى ‏}‏أذهب إلى أبي وأبيكم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى‏:‏ نحن أبناء رسل الله، فهو على حذف مضاف‏.‏ وبالجملة‏.‏ فإنهم رأوا لأنفسهم فضلا؛ فرد عليهم قولهم فقال ‏}‏فلم يعذبكم بذنوبكم‏}‏ فلم يكونوا يخلون من أحد وجهين؛ إما أن يقولوا هو يعذبنا‏.‏ فيقال لهم‏:‏ فلستم إذا أبناءه وأحباءه؛ فإن الحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم تقرون بعذابه؛ فذلك دليل على كذبكم - وهذا هو المسمى عند الجدليين ببرهان الخلف - أو يقولوا‏:‏ لا يعذبنا فيكذبوا ما في كتبهم، وما جاءت به رسلهم، ويبيحوا المعاصي وهم معترفون بعذاب العصاة منهم؛ ولهذا يلتزمون أحكام كتبهم‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏}‏يعذبكم‏}‏ عذبكم؛ فهو بمعنى المضي؛ أي فلم مسخكم قردة وخنازير‏؟‏ ولم عذب من قبلكم من اليهود والنصارى بأنواع العذاب وهم أمثالكم‏؟‏ لأن الله سبحانه لا يحتج عليهم بشيء لم يكن بعد، لأنهم ربما يقولون لا نعذب غدا، بل يحتج عليهم بما عرفوه‏.‏ ثم قال‏{‏بل أنتم بشر ممن خلق‏}‏ أي كسائر خلقه يحاسبكم على الطاعة والمعصية، ويجازي كلا بما عمل‏.‏ ‏}‏يغفر لمن يشاء‏}‏ أي لمن تاب من اليهود‏.‏ ‏}‏ويعذب من يشاء‏}‏ من مات عليها‏.‏ ‏}‏ولله ملك السماوات والأرض‏}‏ فلا شريك له يعارضه‏.‏ ‏}‏وإليه المصير‏}‏ أي يؤول أمر العباد إليه في الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏19‏)‏

‏{‏يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا‏}‏ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏يبين لكم‏}‏

انقطاع حجتهم حتى لا يقولوا غدا ما جاءنا رسول‏.‏ ‏}‏على فترة من الرسل‏}‏ أي سكون؛ يقال فتر الشيء سكن‏.‏ وقيل‏{‏على فترة‏}‏ على انقطاع ما بين النبيين؛ عن أبي علي وجماعة أهل العلم، حكاه الرماني؛ قال‏:‏ والأصل فيها انقطاع العمل عما كان عليه من الجد فيه، من قولهم‏:‏ فتر عن عمله وفترته عنه‏.‏ ومنه فتر الماء إذا عما كان من السخونة إلى البرد‏.‏ وامرأة فاترة الطرف أي منقطعة عن حدة النظر‏.‏ وفتور البدن كفتور الماء‏.‏ والفتر ما بين السبابة والإبهام إذا فتحتهما‏.‏ والمعنى؛ أي مضت للرسل مدة قبله‏.‏ واختلف في قدر مدة تلك الفترة؛ فذكر محمد بن سعد في كتاب ‏}‏الطبقات‏}‏ عن ابن عباس قال‏:‏ كان بين موسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهما السلام ألف سنة وسبعمائة سنة، ولم يكن بينهما فترة، وأنه أرسل بينهما ألف نبي من بني إسرائيل سوى من أرسل من غيرهم‏.‏ وكان بين ميلاد عيسى والنبي صلى الله عليه وسلم خمسمائة سنة وتسع وستون سنة، بعث في أولها ثلاثة أنبياء؛ وهو قوله تعالى‏{‏إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث‏}‏يس‏:‏ 14‏]‏ والذي عزز به ‏}‏شمعون‏}‏ وكان من الحواريين‏.‏ وكانت الفترة التي لم يبعث الله فيها رسولا أربعمائة سنة وأربعا وثلاثين سنة‏.‏ وذكر الكلبي أن بين عيسى ومحمد عليهما السلام خمسمائة سنة وتسعا وستين، وبينهما أربعة أنبياء؛ واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان‏.‏ قال القشيري‏:‏ ومثل هذا مما لم إلا بخبر صدق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان بين عيسى ومحمد عليهما السلام ستمائة سنة؛ وقاله مقاتل والضحاك ووهب بن منبه، إلا أن وهبا زاد عشرين سنة‏.‏ وعن الضحاك أيضا أربعمائة وبضع وثلاثون سنة‏.‏ وذكر ابن سعد عن عكرمة قال‏:‏ بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام‏.‏ قال ابن سعد‏:‏ أخبرنا محمد بن عمرو بن واقد الأسلمي عن غير واحد قالوا‏:‏ كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين نوح وإبراهيم عشرة قرون، والقرن مائة سنة، وبين إبراهيم وموسى بن عمران عشرة قرون، والقرن مائة سنة؛ فهذا ما بين آدم ومحمد عليهما السلام من القرون والسنين‏.‏ والله أعلم‏.‏ ‏}‏أن تقولوا‏}‏ أي لئلا أو كراهية أن تقولوا؛ فهو في موضع نصب‏.‏ ‏}‏ما جاءنا من بشير‏}‏ أي مبشر‏.‏ ‏}‏ولا نذير‏}‏ أي منذر‏.‏ ويجوز ‏}‏من بشير ولا نذير‏}‏ على الموضع‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود؛ يا معشر يهود اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمن أن محمدا رسول الله، ولقد منتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته؛ فقالوا‏:‏ ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعده من بشير ولا نذير؛ فنزلت الآية‏.‏ ‏}‏والله على كل شيء قدير‏}‏ على إرسال من شاء من خلقه‏.‏ وقيل‏:‏ قدير على إنجاز ما بشر به وأنذر منه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 26 ‏)‏

‏{‏وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين، قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ تبيين من الله تعالى أن أسلافهم تمردوا على موسى وعصوه؛ فكذلك هؤلاء على محمد عليه السلام، وهو تسلية له؛ أي يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم، واذكروا قصة موسى‏.‏ وروي عن عبدالله بن كثير أنه قرأ ‏}‏يا قوم اذكروا‏}‏ بضم الميم، وكذلك ما أشبهه؛ وتقديره يا أيها القوم‏.‏ ‏}‏إذ جعل فيكم أنبياء‏}‏ لم ينصرف؛ لأنه فيه ألف التأنيث‏.‏ ‏}‏وجعلكم ملوكا‏}‏ أي تملكون أمركم لا يغلبكم عليه غالب بعد أن كنتم مملوكين لفرعون مقهورين، فأنقذكم منه بالغرق؛ فهم ملوك بهذا الوجه، وبنحوه فسر السدي والحسين وغيرهما‏.‏ قال السدي‏:‏ ملك كل واحد منه نفسه وأهله وماله‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إنما قال‏{‏وجعلكم ملوكا‏}‏ لأنا كنا نتحدث أنهم أول من خدم من بني آدم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف؛ لأن القبط قد كانوا يستخدمون بني إسرائيل، وظاهر أمر بني آدم أن بعضهم كان يسخر بعضا مذ تناسلوا وكثروا، وإنما اختلفت الأمم في معنى التمليك فقط‏.‏ وقيل‏:‏ جعلكم ذوي منازل لا يدخل عليكم إلا بإذن؛ روي معناه عن جماعة من أهل العلم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الرجل إذا لم يدخل أحد بيته إلا بإذنه فهو ملك‏.‏ وعن الحسن أيضا وزيد بن أسلم من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك؛ وهو قول عبدالله بن عمرو كما في صحيح مسلم عن أبي عبدالرحمن الحبلي قال‏:‏ سمعت عبدالله بن عمرو بن العاص وسأله رجل فقال‏:‏ ألسنا من فقراء المهاجرين‏؟‏ فقال له عبدالله‏:‏ ألك امرأة تأوي إليها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ألك منزل تسكنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فأنت من الأغنياء‏.‏ قال‏:‏ فإن لي خادما‏.‏ قال‏:‏ فأنت من الملوك‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وفائدة هذا أن الرجل إذا وجبت عليه كفارة وملك دار وخادما باعهما في الكفارة ولم يجز له الصيام، لأنه قادر على الرقبة والملوك لا يكفرون بالصيام، ولا يوصفون بالعجز عن الإعتاق‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ جعلهم ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام، أي هم مخدومون كالملوك‏.‏ وعن ابن عباس أيضا يعني الخادم والمنزل؛ وقاله مجاهد وعكرمة والحكم بن عيين، وزادوا الزوجة؛ وكذا قال زيد بن أسلم إلا أنه قال فيما يعلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان له بيت - أو قال منزل - يأوي إليه وزوجة وخادم يخدمه فهو ملك؛ ذكره النحاس‏.‏ ويقال‏:‏ من استغنى عن غيره فهو ملك؛ وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وآتاكم‏}‏ أي أعطاكم ‏}‏ما لم يؤت أحدا من العالمين‏}‏ والخطاب من موسى لقومه في قول جمهور المفسرين؛ وهو وجه الكلام‏.‏ مجاهد‏:‏ والمراد بالإيتاء المن والسلوى والحجر والغمام‏.‏ وقيل‏:‏ كثرة الأنبياء فيهم، والآيات التي جاءتهم‏.‏ وقيل‏:‏ قلوبا سليمة من الغل والغش‏.‏ وقيل‏:‏ إحلال الغنائم والانتفاع بها‏.‏

قلت‏:‏ وهذا القول مردود؛ فإن الغنائم لم تحل لأحد إلا لهذه الأمة على ما ثبت في الصحيح؛ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى‏.‏ وهذه المقالة من موسى توطئة لنفوسهم حتى تعزز وتأخذ الأمر بدخول أرض الجبارين بقوة، وتنقذ في ذلك نفوذ من أعزه الله ورفع من شأنه‏.‏ ومعنى ‏}‏من العالمين‏}‏ أي عالمي زمانكم؛ عن الحسن‏.‏ وقال ابن جبير وأبو مالك‏:‏ الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهذا عدول عن ظاهر الكلام بما لا يحسن مثله‏.‏ وتظاهرت الأخبار أن دمشق قاعدة الجبارين‏.‏ و‏}‏المقدسة‏}‏ معناه المطهرة‏.‏ مجاهد‏:‏ المباركة؛ والبركة التطهير من القحوط والجوع ونحوه‏.‏ قتادة‏:‏ هي الشام‏.‏ مجاهد‏:‏ الطور وما حوله‏.‏ ابن عباس والسدي وابن زيد‏:‏ هي أريحاء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ دمشق وفلسطين وبعض‏:‏ الأردن‏.‏ وقول قتادة يجمع هذا كله‏.‏ ‏}‏التي كتب الله لكم‏}‏ أي فرض دخولها عليكم ووعدكم دخولها وسكناها لكم‏.‏ ولما خرجت بنو إسرائيل من مصر أمرهم بجهاد أهل أريحاء من بلاد فلسطين فقالوا‏:‏ لا علم لنا بتلك الديار؛ فبعث بأمر الله اثني عشر نقيبا، من كل سبط رجل يتجسسون الأخبار على ما تقدم، فرأوا سكانها الجبارين من العمالقة، وهم ذوو أجسام هائلة؛ حتى قيل‏:‏ إن بعضهم رأى هؤلاء النقباء فأخذهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وجاء بهم إلى الملك فنثرهم بين يده وقال‏:‏ إن هؤلاء يريدون قتالنا؛ فقال لهم الملك‏:‏ ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا؛ على ما تقدم‏.‏ وقيل‏:‏ إنهم لما رجعوا أخذوا من عنب تلك الأرض عنقودا فقيل‏:‏ حمله رجل واحد، وقيل‏:‏ حمله النقباء الاثنا عشر‏.‏

قلت‏:‏ وهذا أشبه؛ فإنه يقال‏:‏ إنهم لما وصلوا إلى الجبارين وجدوهم يدخل في كم أحدهم رجلان منهم، ولا يحمل عنقود أحدهم إلا خمسة منهم في خشية، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبه خمسة أنفس أو أربعة‏.‏

قلت‏:‏ ولا تعارض بين هذا والأول؛ فإن ذلك الجبار الذي أخذهم في كمه - ويقال‏:‏ في حجره - هو عوج بن عناق وكان أطولهم قامة وأعظمهم خلقا؛ على ما يأتي من ذكره إن شاء الله تعالى‏.‏ وكان طول سائرهم ستة أذرع ونصف في قول مقاتل‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كان طول كل رجل منهم ثمانين ذراعا، والله أعلم‏.‏ فلما أذاعوا الخبر ما عدا يوشع وكالب بن يوفنا، وامتنعت بنو إسرائيل من الجهاد عوقبوا بالتيه أربعين سنة إلى أن مات أولئك العصاة ونشأ أولادهم، فقاتلوا الجبارين وغلبوهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا ترتدوا على أدباركم‏}‏ أي لا ترجعوا عن طاعتي وما أمرتكم به من قتال الجبارين‏.‏ وقيل‏:‏ لا ترجعوا عن طاعة الله إلى معصيته، والمعنى واحد‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين‏}‏ أي عظام الأجسام طوال، وقد تقدم؛ يقال‏:‏ نخلة جبارة أي طويلة‏.‏ والجبار المتعظم الممتنع من الذل والفقر‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الجبار من الآدميين العاتي، وهو الذي يجبر الناس على ما يريد؛ فأصله على هذا من الإجبار وهو الإكراه؛ فإنه يجبر غيره على ما يريده؛ وأجبره أي أكرهه‏.‏ وقيل‏:‏ هو مأخوذ من جبر العظم؛ فأصل الجبار على هذا المصلح أمر نفسه، ثم استعمل في كل من جر لنفسه نفعا بحق أو بطل‏.‏ وقيل‏:‏ إن جبر العظم راجع إلى معنى الإكراه‏.‏ قال الفراء‏:‏ لم أسمع فعالا من أفعل إلا في حرفين؛ جبار من أجبر ودراك من أدرك‏.‏ ثم قيل‏:‏ كان هؤلاء من بقايا عاد‏.‏ وقيل‏:‏ هم من ولد عيصو بن إسحاق، وكانوا من الروم، وكان معهم عوج الأعنق، وكان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعا؛ قاله ابن عمر، وكان يحتجن السحاب أي يجذبه بمحجنه ويشرب منه، ويتناول الحوت من قاع البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله‏.‏ وحضر طوفان نوح عليه السلام ولم يجاوز ركبتيه وكان عمره ثلاثة آلاف وستمائة سنة، وأنه قلع صخرة على قدر عسكر موسى ليرضخهم بها، فبعث الله طائرا فنقرها ووقعت في عنقه فصرعته‏.‏ وأقبل موسى عليه السلام وطوله عشرة أذرع؛ وعصاه عشرة أذرع وترقى في السماء عشرة أذرع فما أصاب إلا كعبه وهو مصروع فقتله‏.‏ وقيل‏:‏ بل ضربه في العرق الذي تحت كعبه فصرعه فمات ووقع على نيل مصر فجسرهم سنة‏.‏ ذكر هذا المعنى باختلاف ألفاظ محمد بن إسحاق والطبري ومكي وغيرهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ عوج من ولد هاروت وماروت حيث وقعا بالمرأة فحملت‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإنا لن ندخلها‏}‏ يعني البلدة إيلياء، ويقال‏:‏ أريحاء أي حتى يسلموها لنا من غير قتال‏.‏ وقيل‏:‏ قالوا ذلك خوفا من الجبارين ولم يقصدوا العصيان؛ فإنهم قالوا‏{‏فإن يخرجوا منها فإنا داخلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قال رجلان من الذين يخافون‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ هما يوشع وكالب بن يوقنا ويقال ابن قانيا، وكانا من الاثني عشر نقيبا‏.‏ و‏}‏يخافون‏}‏ أي من الجبارين‏.‏ قتادة‏:‏ يخافون الله تعالى‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هما رجلان كانا في مدينة الجبارين على دين موسى؛ فمعنى ‏}‏يخافون‏}‏ على هذا أي من العمالقة من حيث الطبع لئلا يطلعوا على إيمانهم فيفتنوهم ولكن وثقا بالله‏.‏ وقيل‏:‏ يخافون ضعف بني إسرائيل وجبنهم‏.‏ وقرأ مجاهد وابن جبير ‏}‏يخافون‏}‏ بضم الياء، وهذا يقوي أنهما من غير قوم موسى‏.‏ ‏}‏أنعم الله عليهما‏}‏ أي بالإسلام أو باليقين والصلاح‏.‏ ‏}‏ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون‏}‏ قالا لبني إسرائيل لا يهولنكم عظم أجسامهم فقلوبهم ملئت رعبا منكم؛ فأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، وكانوا قد علموا أنهم إذا دخلوا من ذلك الباب كان لهم الغلب‏.‏ ويحتمل أن يكونا قالا ذلك ثقة بوعد الله‏.‏ ثم قالا‏{‏وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين‏}‏ مصدقين به؛ فإنه ينصركم‏.‏ ثم قيل على القول الأول‏:‏ لما قالا هذا أراد بنو إسرائيل رجمهما بالحجارة، وقالوا‏:‏ نصدقكما وندع قول عشرة‏!‏ ثم قالوا لموسى‏{‏إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها‏}‏ وهذا عناد وحَيْدٌ عن القتال، وإِياسٌ من النصر‏.‏ ثم جهلوا صفة الرب تبارك وتعالى فقالوا ‏}‏فاذهب أنت وربك فقاتلا‏}‏ وصفوه بالذهاب والانتقال، والله متعال عن ذلك‏.‏ وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة؛ وهو معنى قول الحسن؛ لأنه قال‏:‏ هو كفر منهم بالله، وهو الأظهر في معنى الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ أي إن نصرة ربك لك أحق من نصرتنا، وقتاله معك - إن كنت رسوله - أولى من قتالنا؛ فعلى هذا يكون ذلك منهم كفر؛ لأنهم شكوا في رسالته‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ أذهب أنت فقاتل وليعنك ربك‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا بالرب هارون، وكان أكبر من موسى وكان موسى يطيعه‏.‏ وبالجملة فقد فسقوا بقولهم؛ لقوله تعالى‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ أي لا تحزن عليهم‏.‏ ‏}‏إنا ههنا قاعدون‏}‏ أي لا نبرح ولا نقاتل‏.‏ ويجوز ‏}‏قاعدين‏}‏ على الحال؛ لأن الكلام قد تم قبله‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي‏}‏ لأنه كان يطيعه‏.‏ وقيل المعنى‏:‏ إني لا أملك إلا نفسي، ثم ابتدأ فقال‏{‏وأخي‏}‏‏.‏ أي وأخي أيضا لا يملك إلا نفسه؛ فأخي على القول الأول في موضع نصب عطفا على نفسي، وعلى الثاني في موضع رفع، وإن شئت عطفت على اسم إن وهي الياء؛ أي إني وأخي لا نملك إلا أنفسنا‏.‏ وإن شئت عطفت على المضمر في أملك كأنه قال‏:‏ لا أملك أنا وأخي إلا أنفسنا‏.‏ ‏}‏فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏ يقال‏:‏ بأي وجه سأله الفرق بينه وبين هؤلاء القوم‏؟‏ ففيه أجوبة؛ الأول‏:‏ بما يدل على بعدهم عن الحق، وذهابهم عن الصواب فيما ارتكبوا من العصيان؛ ولذلك ألقوا في التيه‏.‏ الثاني‏:‏ بطلب التمييز أي ميزنا عن جماعتهم وجملتهم ولا تلحقنا بهم في العقاب، وقيل المعنى‏:‏ فاقض بيننا وبينهم بعصمتك إيانا من العصيان الذي ابتليتهم به؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏}‏الدخان‏:‏ 4‏]‏ أي يقضي‏.‏ وقد فعل لما أماتهم في التيه‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أراد في الآخرة، أي اجعلنا في الجنة ولا تجعلنا معهم في النار؛ والشاهد على الفرق الذي يدل على المباعدة في الأحوال قول الشاعر‏:‏

يا رب فافرق بينه وبيني أشد ما فرقت بين اثنين

وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن عبيد بن عمير أنه قرأ‏{‏فافرق‏}‏ بكسر الراء‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض‏}‏ استحباب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة‏.‏ وأصل التيه في اللغة الحيرة؛ يقال منه‏:‏ تاه يتيه تيها وتوها إذا تحير‏.‏ وتيهته وتوهته بالياء والواو، والياء أكثر‏.‏ والأرض التيهاء التي لا يهتدى فيها؛ وأرض تيه وتيهاء ومنها قال‏:‏

تيه أتاويه على السقاط

وقال آخر‏:‏

بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

فكانوا يسيرون في فراسخ قليلة - قيل‏:‏ في قدر سنة فراسخ - يومهم وليلتهم فيصبحون حيث أمسوا ويمسون حيث أصبحوا؛ فكانوا سيارة لا قرار لهم‏.‏ واختلف هل كان معهم موسى وهارون‏؟‏ فقيل‏:‏ لا؛ لأن التيه عقوبة، وكانت سنو التيه بعدد أيام العجل، فقوبلوا على كل يوم سنة؛ وقد قال‏{‏فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ كانا معهم لكن سهل الله الأمر عليهما كما جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم‏.‏ ومعنى ‏}‏محرمة‏}‏ أي أنهم ممنوعون من دخولها؛ كما يقال‏:‏ حرم الله وجهك على النار، وحرمت عليك دخول الدار؛ فهو تحريم منع لا تحريم شرع، عن أكثر أهل التفسير؛ كما قال الشاعر‏:‏

جالت لتصرعني فقلت لها اقصري إني امرؤ صرعي عليك حرام

أي أنا فارس فلا يمكنك صرعي‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ يجوز أن يكون تحريم تعبد‏.‏ ويقال‏:‏ كيف يجوز على جماعة كثيرة من العقلاء أن يسيروا في فراسخ يسيرة فلا يهتدوا للخروج منها‏؟‏ فالجواب‏:‏ قال أبو علي‏:‏ قد يكون ذلك بأن يحول الله الأرض التي هي عليها إذا ناموا فيردهم إلى المكان الذي ابتدؤوا منه‏.‏ وقد يكون بغير ذلك من الاشتباه والأسباب المانعة من الخروج عنها على طريق المعجزة الخارجة عن العادة‏.‏ ‏}‏أربعين‏}‏ ظرف زمان للتيه؛ في قول الحسن وقتادة؛ قالا‏:‏ ولم يدخلها أحد منهم؛ فالوقف على هذا على ‏}‏عليهم‏}‏‏.‏ وقال الربيع بن أنس وغيره‏:‏ إن ‏}‏أربعين سنة‏}‏ ظرف للتحريم، فالوقف على هذا على ‏}‏أربعين سنة‏}‏؛ فعلى الأول إنما دخلها أولادهم؛ قاله ابن عباس‏.‏ ولم يبق منهم إلا يوشع وكالب، فخرج منهم يوشع بذرياتهم إلى تلك المدينة وفتحوها‏.‏ وعلى الثاني‏:‏ فمن بقي منهم بعد أربعين سنة دخلوها‏.‏ وروي عن ابن عباس أن موسى وهارون ماتا في التيه‏.‏ قال غيره‏:‏ ونبأ الله يوشع وأمره بقتال الجبارين، وفيها حبست عليه الشمس حتى دخل المدينة، وفيها أحرق الذي وجد الغلول عنده، وكانت تنزل من السماء إذا غنموا نار بيضاء فتأكل الغنائم؛ وكان ذلك دليلا على قبولها، فإن كان فيها غلول لم تأكله، وجاءت السباع والوحوش فأكلته؛ فنزلت النار فلم تأكل ما غنموا فقال‏:‏ إن فيكم الغلول فلتبايعني كل قبيلة فبايعته، فلصقت يد رجل منهم بيده فقال‏:‏ فيكم الغلول فليبايعني كل رجل منكم فبايعوه رجلا رجلا حتى لصقت يد رجل منهم بيده فقال‏:‏ عند الغلول فأخرج مثل رأس البقرة من ذهب، فنزلت النار فأكل الغنائم‏.‏ وكانت نارا بيضاء مثل الفضة لها حفيف أي صوت مثل صوت الشجر وجناح الطائر فيما يذكرون؛ فذكروا أنه أحرق الغال ومتاعه بغور يقال له الآن عاجز، عرف باسم الغال؛ وكان اسمه عاجزا‏.‏

قلت‏:‏ ويستفاد من هذا عقوبة الغال قبلنا، وقد تقدم حكمه في ملتنا‏.‏ وبيان ما انبهم من اسم النبي والغال في الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏غزا نبي من الأنبياء‏)‏ الحديث أخرجه مسلم وفيه قال‏:‏ ‏(‏فغزا فأدنى للقرية حين صلاة العصر أو قريبا من ذلك فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها على شيئا فحبست عليه حتى فتح الله عليه - قال‏:‏ فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال‏:‏ فيكم غلول فليبايعني من كل قبيل رجل فبايعوه - قال - فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة فقال فيكم الغلول‏)‏ وذكر نحو ما تقدم‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ والحكمة في حبس الشمس على يوشع عند قتاله أهل أريحاء وإشرافه على فتحها عشي يوم الجمعة، وإشفاقه من أن تغرب الشمس قبل الفتح أنه لو لم تحبس عليه حرم عليه القتال لأجل السبت، ويعلم به عدوهم فيعمل فيهم السيف ويجتاحهم؛ فكان ذلك آية له خص بها بعد أن كانت نبوته ثابتة خبر موسى عليه الصلاة والسلام، على ما يقال‏.‏ والله أعلم‏.‏ وفي هذا الحديث يقول عليه السلام‏:‏ ‏(‏فلم تحل الغنائم لأحد من قبلنا‏)‏ ذلك بأن الله عز وجل رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا‏.‏ وهذا يرد قول من قال في تأويل قوله تعالى‏{‏وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين‏}‏ إنه تحليل الغنائم والانتفاع بها‏.‏ وممن قال إن موسى عليه الصلاة والسلام مات بالتيه عمرو بن ميمون الأودي، وزاد وهارون؛ وكانا خرجا في التيه إلى بعض الكهوف فمات هارون فدفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل؛ فقالوا‏:‏ ما فعل هارون‏؟‏ فقال‏:‏ مات؛ قالوا‏:‏ كذبت ولكنك قتلته لحبنا له، وكان محبا في بني إسرائيل؛ فأوحى الله تعالى إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه حتى يخبرهم أنه مات موتا ولم تقتله؛ فانطلق بهم إلى قبره فنادي يا هارون فخرج من قبره ينفض رأسه فقال‏:‏ أنا قاتلك‏؟‏ قال‏:‏ لا؛ ولكني مت؛ قال‏:‏ فعد إلى مضجعك؛ وانصرف‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إن موسى لم يمت بالتيه‏.‏ وقال غيره‏:‏ إن موسى فتح أريحاء، وكان يوشع على مقدمته فقاتل الجبابرة الذين كانوا بها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل فأقام فيها ما شاء الله أن يقيم، ثم قبضه الله تعالى إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلائق‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ وهو أصح الأقاويل‏.‏

قلت‏:‏ قد روى مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال‏{‏أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت‏}‏ قال‏:‏ فرد الله إليه عينه وقال‏{‏ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة‏}‏ قال‏{‏أي رب ثم مه‏}‏، قال‏{‏ثم الموت‏}‏ قال‏{‏فالآن‏}‏؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر‏)‏ فهذا نبينا صلى الله عليه وسلم قد علم قبره ووصف موضعه، ورآه فيه قائما يصلي كما في حديث الإسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهورا عندهم؛ ولعل ذلك لئلا يعبد، والله أعلم‏.‏ ويعني بالطريق طريق بيت المقدس‏.‏ ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطور مكان الطريق‏.‏ واختلف العلماء في تأويل لطم موسى عين ملك الموت وفقئها على أقوال؛ منها‏:‏ أنها كانت عينا متخيلة لا حقيقة، وهذا باطل، لأنه يؤدي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له‏.‏

ومنها‏:‏ أنها كانت عينا معنوية وإنما فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة‏.‏ ومنها‏:‏ أنه عليه السلام لم يعرف الموت، وأنه رأى رجلا دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن‏.‏ وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال‏{‏يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت‏}‏ فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضا قوله في الرواية الأخرى‏{‏أجب ربك‏}‏ يدل على تعريفه بنفسه‏.‏ والله أعلم‏.‏ ومنها‏:‏ أن موسى عليه الصلاة والسلام كان سريع الغضب، إذ غضب طلع الدخان من قلنسوته ورفع شعر بدنه جبته؛ وسرعة غضبه كانت سببا لصكه ملك الموت‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب‏.‏ ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال‏:‏ أن موسى عليه الصلاة والسلام عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجزم بأنه قد أمر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من ‏(‏أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخبره‏)‏ فلما جاءه على غير الوجه الذي أعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحانا لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير‏.‏ ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم‏.‏ والله بغيبه أحكم وأعلم‏.‏ هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام‏.‏ وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصا وأخبارا الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غنية عنها‏.‏ وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة؛ فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له‏:‏ كيف وجدت الموت‏؟‏ فقال‏{‏كشاة تسلخ وهي حية‏}‏‏.‏ وهذا صحيح معنى؛ قال‏:‏ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن للموت سكرات‏)‏ على ما بيناه في كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏ وقوله‏{‏فلا تأس على القوم الفاسقين‏}‏ أي لا تحزن‏.‏ والأسى الحزن؛ أسي يأسى أي حزن، قال‏:‏

يقولون لا تهلك أسى وتحمل

 الآية رقم ‏(‏27‏)‏

‏{‏واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين‏}‏

وجه اتصال هذه الآية بما قبلها التنبيه من الله تعالى على أن ظلم اليهود، ونقضهم المواثيق والعهود كظلم ابن آدم لأخيه‏.‏ المعنى‏:‏ إن هم هؤلاء اليهود بالفتك بك يا محمد فقد قتلوا قبلك الأنبياء، وقتل قابيل هابيل، والشر قديم‏.‏ أي ذكرهم هذه القصة فهي قصة صدق، لا كالأحاديث الموضوعة؛ وفي ذلك تبكيت لمن خالف الإسلام، وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واختلف في ابني آدم؛ فقال الحسن البصري‏:‏ ليسا لصلبه، كانا رجلين من بني إسرائيل - ضرب الله بهما المثل في إبانة حسد اليهود - وكان بينهما خصومة، فتقربا بقربانين ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا وهم، وكيف يجهل صورة الدفن أحد من بني إسرائيل حتى يقتدي بالغراب‏؟‏ والصحيح أنهما ابناه لصلبه؛ هذا قول الجمهور من المفسرين وقاله ابن عباس وابن عمر وغيرهما؛ وهما قابيل وهابيل، وكان قربان قابيل حزمة من سنبل - لأنه صاحب زرع - واختارها من أردأ زرعه، ثم إنه وجد فيها سنبلة طيبة ففركها وأكلها‏.‏ وكان قربان هابيل كبشا - لأنه كان صاحب غنم - أخذه من أجود غنمه‏.‏ ‏}‏فتقبل‏}‏ فرفع إلى الجنة، فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به الذبيح عليه السلام؛ قاله سعيد بن جبير وغيره‏.‏ فلما تقبل قربان هابيل لأنه كان مؤمنا - قال له قابيل حسدا‏:‏ أنه كان كافرا - أتمشي على الأرض يراك الناس أفضل مني‏!‏ ‏}‏لأقتلنك‏}‏ وقيل‏:‏ سبب هذا القربان أن حواء عليها السلام كانت تلد في كل بطن ذكرا وأنثى - إلا شيثا عليه السلام فإنها ولدته منفردا عوضا من هابيل على ما يأتي، واسمه هبة الله؛ لأن جبريل عليه السلام قال لحواء لما ولدته‏:‏ هذا هبة الله لك بدل هابيل‏.‏ وكان آدم يوم ولد شيث ابن ثلاثين ومئة سنة - وكان يزوج الذكر من هذا البطن الأنثى من البطن الآخر، ولا تحل له أخته توأمته؛ فولدت مع قابيل أختا جميلة واسمها إقليمياء، ومع هابيل أختا ليست كذلك واسمها ليوذا؛ فلما أراد آدم تزويجهما قال قابيل‏:‏ أنا أحق بأختي، فأمره آدم فلم يأتمر، وزجره فلم ينزجر؛ فاتفقوا على التقريب؛ قال جماعة من المفسرين منهم ابن مسعود‏.‏ وروي أن آدم حضر ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد روي في هذا الباب عن جعفر الصادق‏:‏ إن آدم لم يكن يزوج ابنته من ابنه؛ ولو فعل ذلك آدم لما رغب عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا كان دين آدم إلا يكن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء بنتا فسماها عناقا فبغت، وهي أول من بغى على وجه الأرض؛ فسلط الله عليها من قتلها، ثم ولدت لآدم قابيل، ثم ولدت له هابيل؛ فلما أدرك قابيل أظهر الله له جنية من ولد الجن، يقال لها‏:‏ جملة في صورة إنسية؛ وأوحى الله إلى آدم أن زوجها من قابيل فزوجها منه‏.‏ فلما أدرك هابيل أهبط الله إلى آدم حورية في صفة إنسية وخلق لها رحما، وكان اسمها بزلة، فلما نظر إليها هابيل أحبها؛ فأوحى الله إلى آدم أن زوج بزلة من هابيل ففعل‏.‏ فقال قابيل‏:‏ يا أبت ألست أكبر من أخي‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ فكنت أحق أن زوج بزلة من منه‏!‏ فقال له آدم‏:‏ يا بني إن الله قد أمرني بذلك، وإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، فقال‏:‏ لا والله، ولكنك آثرته علي‏.‏ فقال آدم‏{‏فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بالفضل‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ هذه القضية عن جعفر ما أظنها تصح، وأن القول ما ذكرناه من أنه كان يزوج غلام هذا البطن لجارية تلك البطن‏.‏ والدليل على هذا من الكتاب قوله تعالى‏{‏يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء‏}‏النساء‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وهذا كالنص ثم نسخ ذلك، حسبما تقدم بيانه في سورة ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وكان جميع ما ولدته حواء أربعين من ذكر وأنثى في عشرين بطنا؛ أولهم قابيل وتوأمته إقليمياء، وآخرهم عبدالمغيث‏.‏ ثم بارك الله في نسل آدم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا‏.‏ وما روي عن جعفر - من قوله‏:‏ فولدت بنتا وأنها بغت - فيقال‏:‏ مع من بغت‏؟‏ أمع جني تسول لها‏!‏ ومثل هذا يحتاج إلى نقل صحيح يقطع العذر، وذلك معدوم‏.‏ والله أعلم‏.‏

وفي قول هابيل ‏}‏قال إنما يتقبل الله من المتقين‏}‏ كلام قبله محذوف؛ لأنه لما قال له قابيل‏{‏لأقتلنك‏}‏ قال له‏:‏ ولم تقتلني وأنا لم أجن شيئا‏؟‏، ولا ذنب لي في قبول الله قرباني، أما إني أتقيته وكنت على لاحب الحق وإنما يتقبل الله من المتقين‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ المراد بالتقوى هنا اتقاء الشرك بإجماع أهل السنة؛ فمن اتقاه وهو موحد فأعماله التي تصدق فيها نيته مقبولة؛ وأما المتقي الشرك والمعاصي فله الدرجة العليا من القبول والختم بالرحمة؛ علم ذلك بإخبار الله تعالى لا أن ذلل يجب على الله تعالى عقلا‏.‏ وقال عدي بن ثابت وغيره‏:‏ قربان متقي هذه الأمة الصلاة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا خاص في نوع من العبادات‏.‏ وقد روى البخاري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله تبارك وتعالى قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزل عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن بكره الموت وأنا أكره مساءته‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏28 ‏:‏ 29 ‏)‏

‏{‏لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏لئن بسطت إلي يدك‏}‏ أي لئن قصدت قتلي فأنا لا أقصد قتلك؛ فهذا استسلام منه‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏إذا كانت الفتنة فكن خير ابني آدم‏)‏‏.‏ وروى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص قال قلت يا رسول‏:‏ إن دخل عل بيتي وبسط يده إلي ليقتلني‏؟‏ قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كن كخير ابني آدم‏)‏ وتلا هذه الآية ‏}‏لئن بسطت إلي يدك لتقتلني‏}‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كان الفرض عليهم حينئذ ألا يستل أحد سيفا، وألا يمتنع ممن يريد قتله‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ وذلك مما يجوز ورود التعبد به، إلا أن في شرعنا يجوز دفعه إجماعا‏.‏ وفي وجوب ذلك عليه خلاف، والأصح وجوب ذلك؛ لما فيه من النهي عن المنكر‏.‏ وفي الحشوية قوم لا يجوزون للحصول عليه الدفع؛ واحتجوا بحديث أبي ذ، وحمله العلماء على ترك القتال في الفتنة، وكف اليد عند الشبهة؛ على ما بيناه في كتاب ‏}‏التذكرة‏}‏‏.‏ وقال عبدالله بن عمرو وجمهور الناس‏:‏ كان هابيل أشد قوة من قابيل ولكنه تحرج‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا هو الأظهر، ومن ههنا يقوى أن قابيل إنما هو عاص لا كافر؛ لأنه لو كان كافرا لم يكن للتحرج هنا وجه، وإنما وجه التحرج في هذا أن المتحرج يأبى أن يقاتل موحدا، ويرضى بأن يظلم ليجازي في الآخرة؛ ونحو هذا فعل عثمان رضي الله عته‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا أقصد قتلك بل أقصد الدفع عن نفسي، وعلى هذا فيل‏:‏ كان نائما فجاء قابيل ورضخ رأسه بحجر على ما يأتي ومدافعة الإنسان عمن يريد ظلمه جائزة وإن أتى على نفس العادي‏.‏ وقيل‏:‏ لئن بدأت بقتلي فلا أبدأ بالقتل‏.‏ وقيل‏:‏ أراد لئن بسطت إلى يدك ظلما فما أنا بظالم؛ إني أخاف الله رب العالمين‏.‏

قوله تعالى‏{‏إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك‏}‏ قيل‏:‏ معناه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏إنه كان حريصا على قتل صاحبه‏)‏ وكأن هابيل أراد أني لست بحريص على قتلك؛ فالإثم الذي كان يلحقني لو كنت، حريصا على قتلك أريد أن تحمله أنت مع إثمك في قتلي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏بإثمي‏}‏ الذي يختص بي فيما فرطت؛ أي يؤخذ في سيئاتي فتطرح عليك بسبب ظلمك لي، وتبوء بإثمك في قتلك؛ وهذا يعضده قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه‏)‏‏.‏ وهذا بين لا إشكال فيه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى إني أريد ألا تبوء بإثمي وإثمك كما قال تعالى‏{‏وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم‏}‏النحل‏:‏ 15‏]‏ أي لئلا تميد بكم‏.‏ وقوله تعالى‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي لئلا تضلوا فحذف ‏}‏لا‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ضعيف؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل‏)‏، فثبت بهذا أن إثم القتل حاصل؛ ولهذا قال أكثر العلماء‏:‏ إن المعنى؛ ترجع بإثم قتلي وإثمك الذي عملته قبل قتلي‏.‏ قال الثعلبي‏:‏ هذا قول عامة أكثر المفسرين‏.‏ وقيل‏:‏ هو استفهام، أي أو إني أريد‏؟‏ على جهة الإنكار؛ كقوله تعالى‏{‏وتلك نعمة‏}‏ أي أو تلك نعمة‏؟‏ وهذا لأن إرادة القتل معصية‏.‏ حكاه القشيري وسئل أبو الحسن بن كيسان‏:‏ كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار‏؟‏ فقال‏:‏ إنما وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل؛ والمعنى‏:‏ لئن بسطت إلى يدك لتقتلني لأمتنع من ذلك مريدا للثواب؛ فقيل له‏:‏ فكيف قال‏:‏ بإثمي وإثمك؛ وأي إثم له إذا قتل‏؟‏ فقال‏:‏ فيه ثلاثة أجوبة؛ أحدها‏:‏ أن تبوء بإثم قتلي وإثم ذنبك الذي من أجله لم يتقبل قربانك، ويروى هذا القول عن مجاهد‏.‏ والوجه الآخر‏:‏ أن تبوء بإثم قتلي وإثم اعتدائك علي؛ لأنه قد يأثم بالاعتداء وإن لم يقتل‏.‏ والوجه الثالث‏:‏ أنه لو بسط يده إليه أثم؛ فرأى أنه إذا أمسك عن ذلك فإثمه يرجع على صاحبه‏.‏ فصار هذا مثل قولك‏:‏ المال به وبين زيد؛ أي المال بينهما، فالمعنى أن تبوء بإثمنا‏.‏ وأصل باء رجع إلى المباءة، وهي المنزل‏.‏ ‏}‏وباؤوا بغضب من الله‏}‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ أي رجعوا‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ مستوفى‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

ألا تنتهي عنا ملوك وتبقي محارمنا لا يبؤ الدم بالدم

أي لا يرجع الدم بالدم في القود‏.‏ ‏}‏فتكون من أصحاب النار‏}‏ دليل على أنهم كانوا في ذلك الوقت مكلفين قد لحقهم الوعد والوعيد‏.‏ وقد استدل بقول هابيل لأخيه قابيل‏{‏فتكون من أصحاب النار‏}‏ على أنه كان كافرا؛ لأن لفظ أصحاب النار إنما ورد في الكفار حيث وقع في القرآن‏.‏ وهذا مردود هنا بما ذكرناه عن أهل العلم في تأويل الآية‏.‏ ومعنى ‏}‏من أصحاب النار‏}‏ مدة كونك فيها‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏30‏)‏

‏{‏فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏فطوعت له نفسه‏}‏‏.‏ أي سولت وسهلت نفسه عليه الأمر وشجعته وصورت له أن قتل أخيه طوع سهل له يقال‏:‏ طاع الشيء أي سهل وانقاد‏.‏ وطوعه فلان له أي سهله‏.‏ قال الهروي‏:‏ طوعت وأطاعت واحد؛ يقال‏:‏ طاع له كذا إذا أتاه طوعا‏.‏ وقيل‏:‏ طاوعته نفسه في قتل أخيه؛ فنزع الخافض فانتصب‏.‏ وروي أنه جهل كيف يقتله فجاء إبليس بطائر - أو حيوان غيره - فجعل يشدخ رأسه بين حجرين ليقتدي به قابيل ففعل؛ قال ابن جريج ومجاهد وغيرهما‏.‏ وقال ابن عباس وابن مسعود‏:‏ وجده نائما فشد رأسه بحجر وكان ذلك في ثور - جبل بمكة - قال ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ عند عقبة حراء؛ حكاه محمد بن جرير الطبري‏.‏ وقال جعفر الصادق‏:‏ بالبصرة في موضع المسجد الأعظم‏.‏ وكان لهابيل يوم قتله قابيل عشرون سنة‏.‏ ويقال‏:‏ إن قابيل كان يعرف القتل بطبعه؛ لأن الإنسان وإن لم ير القتل فإنه يعلم بطبعه أن النفس فانية لحكن إتلافها؛ فأخذ حجرا فقتله بأرض الهند‏.‏ والله أعلم‏.‏ ولما قتله ندم فقعد يبكي عند رأسه إذ أقبل غرابان فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر ثم حفر له حفرة فدفنه؛ ففعل القاتل بأخيه كذا‏.‏ والسوءة يراد بها العورة، وقيل‏:‏ يراد بها جيفة المقتول؛ ثم إنه هرب إلى أرض عدن من اليمن، فأتاه إبليس وقال‏:‏ إنما أكلت النار قربان أخيك لأنه كان يعبد النار، فانصب أنت أيضا نارا تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من عبد النار فيما قيل‏.‏ والله أعلم‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه لما قتله وآدم بمكة اشتاك الشجر، وتغيرت الأطعمة، وحمضت الفواكه، وملحت المياه، واغبرت الأرض؛ فقال آدم عليه السلام‏:‏ قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل‏.‏ وقيل‏:‏ إن قابيل هو الذي انصرف إلى آدم، فلما وصل إليه قال له‏:‏ أين هابيل‏؟‏ فقال‏:‏ لا أدري كأنك وكلتني بحفظه‏.‏ فقال له آدم‏:‏ أفعلتها‏؟‏ ‏!‏ والله إن دمه لينادي، اللهم العن أرضا شربت دم هابيل‏.‏ فروي أنه من حينئذ ما شربت أرض دما‏.‏ ثم إن آدم بقي مائة سنة لم يضحك، حتى جاءه ملك فقال له‏:‏ حياك الله يا آدم وبياك‏.‏ فقال‏:‏ ما بياك‏؟‏ قال‏:‏ أضحكك؛ قال مجاهد وسالم بن أبي الجعد‏.‏ ولما مضى من عمر آدم مائة وثلاثون سنة - وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له شيثا، وتفسيره هبة الله، أي خلفا من هابيل‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان قبل قتل قابيل هابيل السباع والطيور تستأنس بآدم، فلما قتل قابيل هابيل هربوا، فلحقت الطيور بالهواء، والوحوش بالبرية، ولحقت السباع بالغياض‏.‏ وروي أن آدم لما تغيرت الحال قال‏:‏

تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغير قبيح

تغير كل ذي طعم ولون وقل بشاشة الوجه المليح

في أبيات كثيرة ذكرها الثعلبي وغيره‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ هكذا هو الشعر بنصب ‏}‏بشاشة‏}‏ وكف التنوين‏.‏ قال القشيري وغيره قال ابن عباس‏:‏ ما قال آدم الشعر، وإن محمدا والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء؛ لكن لما قتل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، فهي مرثية بلسان السريانية أوصى بها إلى ابنه شيث وقال‏:‏ إنك وصيي فاحفظ مني هذا الكلام ليتوارث؛ فحفظت منه إلى زمان يعرب بن قحطان، فترجم عنه يعرب بالعربية وجعله شعرا‏.‏

روي من حديث أنس قال‏:‏ سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن يوم الثلاثاء فقال‏:‏ ‏(‏يوم الدم فيه حاضت حواء وفيه قتل ابن آدم أخاه‏)‏‏.‏ وثبت في صحيح مسلم وغيره عن عبدالله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل‏)‏‏.‏ وهذا نص على التعليل؛ وبهذا الاعتبار يكون على إبليس كفل من معصية كل من عصى بالسجود؛ لأنه أول من عصى به، وكذلك كل من أحدث في دين الله ما لا يجوز من البدع والأهواء؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ وهذا نص في الخبر والشر‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون‏)‏‏.‏ وهذا كله صريح، ونص صحيح في معنى الآية، وهذا ما لم يتب الفاعل من تلك المعصية، لأن آدم عليه السلام كان أول من خالف في أكل ما نهي عنه، ولا يكون عليه شيء من أوزار من عصى بأكل ما نهي عنه ولا شربه من بعده بالإجماع؛ لأن آدم تاب من ذلك وتاب الله عليه، فصار كمن لم يجن‏.‏ ووجه آخر‏:‏ فإنه أكل ناسيا على الصحيح من الأقوال، كما بيناه في ‏}‏البقرة‏}‏ والناسي غير آثم ولا مؤاخذ‏.‏

تضمنت هذه الآية البيان عن حال الحاسد، حتى أنه قد يحمله حسده على إهلاك نفسه بقتل أقرب الناس إليه قرابة، وأمسه به رحما، وأولاهم بالحنو عليه ودفع الأذية عنه‏.‏ الرابعة

قوله تعالى‏{‏فأصبح من الخاسرين‏}‏ أي ممن خسر حسناته‏.‏ وقال، مجاهد‏:‏ علقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء من ثلج‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فإن صح هذا فهو من خسرانه الذي تضمنه قوله تعالى‏{‏فأصبح من الخاسرين‏}‏ وإلا فالخسران يعم خسران الدنيا والآخرة‏.‏

قلت‏:‏ ولعل هذا يكون عقوبته على القول بأنه عاص لا كافر؛ فيكون المعنى ‏}‏فأصبح من الخاسرين‏}‏ أي في الدنيا‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏31‏)‏

‏{‏فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين‏}‏

قال مجاهد‏:‏ بعث الله غرابين فاقتتلا حتى قتل أحدهما صاحبه ثم حفر فدفنه‏.‏ وكان ابن آدم هذا أول من قتل‏.‏ وقيل‏:‏ إن الغراب بحث الأرض على طعمه ليخفيه إلى وقت الحاجة إليه؛ لأنه من عادة الغراب فعل ذلك؛ فتنبه قابيل ذلك على مواراة أخيه‏.‏ وروي أن قابيل لما قتل هابيل جعله في جراب، ومشى به يحمله في عنقه مائة سنة؛ قال مجاهد‏.‏ وروى ابن القاسم عن مالك أنه حمله سنة واحدة؛ وقال ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ حتى أروح ولا يدري ما يصنع به إلى أن اقتدى بالغراب كما تقدم‏.‏ وفي الخبر عن أنس قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏امتن الله على ابن آدم بثلاث بعد ثلاث بالريح بعد الروح فلولا أن الريح يقع بعد الروح ما دفن حميم حميما وبالدود في الجثة فلولا أن الدود يقع في الجثة لاكتنزتها الملوك وكانت خيرا لهم من الدراهم والدنانير وبالموت بعد الكبر وإن الرجل ليكبر حتى يمل نفسه ويمله أهله وولده وأقرباؤه فكان الموت أستر له‏)‏‏.‏ وقال قوم‏:‏ كان قابيل يعلم الدفن، ولكن ترك أخاه بالعراء استخفافا به، فبعث الله غرابا يبحث التراب على هابيل ليدفنه، فقال عند ذلك‏{‏يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين‏}‏ ، حيث رأى إكرام الله لهابيل بأن قيض له الغراب حتى واراه، ولم يكن ذلك ندم توبة، وقيل‏:‏ إنما ندمه كان على فقده لا على قتله، وإن كان فلم يكن موفيا شروطه‏.‏ أو ندم ولم يستمر ندمه؛ فقال ابن عباس‏:‏ ولو كانت ندامته على قتله لكانت الندامة توبة منه‏.‏ ويقال‏:‏ إن آدم وحواء أتيا قبره وبكيا أياما عليه‏.‏ ثم إن قابيل كان على ذروة جبل فنطحه ثور فوقع إلى السفح وقد تفرقت عروقه‏.‏ ويقال‏:‏ دعا عليه آدم فانخسفت به الأرض‏.‏ ويقال‏:‏ إن قابيل استوحش بعد قتل هابيل ولزم البرية، وكان لا يقدر على ما يأكله إلا من الوحش، فكان إذا ظفر به وقذه حتى يموت ثم يأكله‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فكانت الموقوذة حراما من لدن قابيل بن آدم، وهو أول من يساق من الآدميين إلى النار؛ وذلك قوله تعالى‏{‏ربنا أرنا اللذين أضلانا من الجن والإنس‏}‏فصلت‏:‏ 29‏]‏ الآية، فإبليس رأس الكافرين من الجن، وقابيل رأس الخطيئة من الإنس؛ على ما يأتي بيانه في ‏}‏حم فصلت‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الندم في ذلك الوقت لم يكن توبة، والله بكل ذلك أعلم وأحكم‏.‏ وظاهر الآية أن هابيل هو أول ميت من بني آدم؛ ولذلك جهلت سنة المواراة؛ وكذلك حكى الطبري عن ابن إسحاق عن بعض أهل العلم بما في كتب الأوائل‏.‏ وقوله ‏}‏يبحث‏}‏ معناه يفتش التراب بمنقاره ويثيره‏.‏ ومن هذا سميت سورة ‏}‏براءة‏}‏ البحوث؛ لأنها فتشت عن المنافقين؛ ومن ذلك قول الشاعر‏:‏

إن الناس غطوني تغطيت عنهم وإن بحثوني كان فيهم مباحث

وفي المثل‏:‏ لا تكن كالباحث على الشفرة؛ قال الشاعر‏:‏

فكانت كعنز السوء قامت برجلها إلى مدية مدفونة تستثيرها

بعث الله الغراب حكمة؛ ليرى ابن آدم كيفية المواراة، وهو معنى قوله تعالى‏{‏ثم أماته فأقبره‏}‏عبس‏:‏ 21‏]‏ ، فصار فعل الغراب في المواراة سنة باقية في الخلق، فرضا على جميع الناس على الكفاية، من فعله منهم سقط فرضه‏.‏ عن الباقين‏.‏ وأخص الناس به الأقربون الذين يلونه، ثم الجيرة، ثم سائر المسلمين‏.‏ وأما الكفار فقد روى أبو داود عن على قال‏:‏ قلت للنبي صلى الله عليه وسلم إن عمك الشيخ الضال قد مات؛ قال‏:‏ ‏(‏أذهب فوار أباك التراب ثم لا تحدثن شيئا حتى تأتيني‏)‏ فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي‏.‏

ويستحب في القبر سعته وإحسانه؛ لما رواه ابن ماجة عن هشام بن عامر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احفروا وأوسعوا وأحسنوا‏)‏‏.‏ وروي عن الأدرع السلمي قال‏:‏ جئت ليلة أحرس النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا رجل قراءته عالية، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله‏:‏ هذا مراء؛ قال‏:‏ فمات بالمدينة ففرغوا من جهازه فحملوا نعشه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ارفقوا به رفق الله به إنه كان يحب الله ورسوله‏)‏‏.‏ قال‏:‏ وحضر حفرته فقال‏:‏ ‏(‏أوسعوا له وسع الله عليه‏)‏ فقال بعض أصحابه‏:‏ يا رسول الله لقد حزنت عليه‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏أجل إنه كان يحب الله ورسوله‏)‏؛ أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن زيد بن الحباب‏.‏ عن موسى بن عبيدة عن سعيد بن أبي سعيد‏.‏ قال أبو عمر بن عبدالبر‏:‏ أدرع السلمي روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا واحدا، وروى عنه سعيد بن أبي سعيد المقبري؛ وأما هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري، كان يسمى في الجاهلية شهابا فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه هشاما، واستشهد أبوه عامر يوم أحد‏.‏ سكن هشام البصرة ومات بها؛ ذكر هذا في كتاب الصحابة‏.‏

ثم قيل‏:‏ اللحد أفضل من الشق؛ فإنه الذي اختاره الله لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما توفي كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد والآخر لا يلحد؛ فقالوا‏:‏ أيهما جاء أول عمل عمله، فجاء الذي يلحد فلحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ذكره مالك في الموطأ عن هشام بن عروة عن أبيه، وأخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك وعائشة رضي الله عنهما‏.‏ والرجلان هما أبو طلحة وأبو عبيدة؛ وكان أبو طلحة يلحد وأبو عبيدة يشق‏.‏ واللحد هو أن يحفر في جانب القبر إن كانت تربة صلبة، يوضع فيه الميت ثم يوضع عليه اللبن ثم يهال التراب؛ قال سعد بن أبي وقاص في مرضه الذي هلك فيه‏:‏ ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ وروى ابن ماجة وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللحد لنا والشق لغيرنا‏)‏‏.‏

روى ابن ماجة عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ حضرت ابن عمر في جنازة فلما وضعها في اللحد قال‏:‏ بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أخذ في تسوية اللبن على اللحد قال‏:‏ اللهم أجرها من الشيطان ومن عذاب القبر، اللهم جاف الأرض عن جنبيها، وصعد روحها ولقها منك رضوانا‏.‏ قلت يا ابن عمر أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قلته برأيك‏؟‏ قال‏:‏ إني إذا لقادر على القول‏!‏ بل شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة ثم أتى قبر الميت فحثا عليه من قبل رأسه ثلاثا‏.‏ فهذا ما تعلق في معنى الآية من الأحكام‏.‏ والأصل في ‏}‏يا ويلتي‏}‏ يا ويلتي ثم أبدل من الياء ألف‏.‏ وقرأ الحسن على الأصل بالياء، والأول أفصح؛ لأن حذف الياء في النداء أكثر‏.‏ وهي كلمة تدعو بها العرب عند الهلاك؛ قال سيبويه‏.‏ وقال الأصمعي‏{‏ويل‏}‏ بعد‏.‏ وقرأ الحسن‏{‏أعجزت‏}‏ بكسر الجيم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهي لغة شاذة؛ إنما يقال عجزت المرأة إذا عظمت عجيزتها، وعجزت عن الشيء عجزا ومعجزة ومعجزة‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏32‏)‏

‏{‏من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون‏}‏

قوله تعالى‏{‏من أجل ذلك‏}‏ أي من جراء ذلك القاتل وجريرته‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي من جنايته؛ يقال‏:‏ أجل الرجل على أهله شرا يأجل أجلا إذا جنى؛ مثل أخذ يأخذ أخذ‏.‏ قال الخنوت‏:‏

وأهل خباء صالح كنت بينهم قد احتربوا في عاجل أنا آجله

أي جانيه، وقيل‏:‏ أنا جاره عليهم‏.‏ وقال عدي بن زيد‏:‏

أجل أن الله قد فضلكم فوق من أحكا صلبا بإزار

وأصله الجر؛ ومنه الأجل لأنه وقت يجر إليه العقد الأول‏.‏ ومنه الآجل نقيض العاجل، وهو بمعنى يجر إليه أمر متقدم‏.‏ ومنه أجل بمعنى نعم‏.‏ لأنه انقياد إلى ما جر إليه‏.‏ ومنه الإجل للقطيع من بقر الوحش؛ لأن بعضه ينجر إلى بعض؛ قاله الرماني‏.‏ وقرأ يزيد بن القعقاع أبو جعفر‏{‏من أجل ذلك‏}‏ بكسر النون وحذف الهمزة وهي لغة، والأصل ‏}‏من إجل ذلك‏}‏ فألقيت كسرة الهمزة على النون وحذفت الهمزة‏.‏ ثم قيل‏:‏ يجوز أن يكون قوله‏{‏من أجل ذلك‏}‏ متعلقا بقوله‏{‏من النادمين‏}‏المائدة‏:‏ 31‏]‏ ، فالوقف على قوله‏{‏من أجل ذلك‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون متعلقا بما بعده وهو ‏}‏كتبنا‏}‏‏.‏ فـ ‏}‏من أجل‏}‏ ابتداء كلام والتمام ‏}‏من النادمين‏}‏؛ وعلى هذا أكثر الناس؛ أي من سبب هذه النازلة كتبنا‏.‏ وخص بني إسرائيل بالذكر وقد تقدمته أمم قبلهم كان قتل النفس فيهم محظورا - لأنهم أول أمة نزل الوعيد عليهم في قتل الأنفس مكتوبا، وكان قبل ذلك قولا مطلقا؛ فغلظ الأمر على بني إسرائيل بالكتاب بحسب طغيانهم وسفكهم الدماء‏.‏ ومعنى ‏}‏بغير نفس‏}‏ أي بغير أن يقتل نفسا فيستحق القتل‏.‏ وقد حرم الله القتل في جميع الشرائع إلا بثلاث خصال‏:‏ كفر بعد إيمان، أو زني بعد إحصان، أو قتل نفس ظلما وتعديا‏.‏ ‏}‏أو فساد في الأرض‏}‏ أي شرك، وقيل‏:‏ قطع طريق‏.‏

وقرأ الحسن‏{‏أو فسادا‏}‏ بالنصب على تقدير حذف فعل يدل عليه أول الكلام تقديره؛ أو أحدث فسادا؛ والدليل عليه قوله‏{‏من قتل نفسا بغير نفس‏}‏ لأنه من أعظم الفساد‏.‏

وقرأ العامة‏{‏فساد‏}‏ بالجر على معنى أو بغير فساد‏.‏ ‏}‏فكأنما قتل الناس جميعا‏}‏ اضطرب لفظ المفسرين في ترتيب هذا التشبيه لأجل أن عقاب من قتل الناس جميعا أكثر من عقاب من قتل واحدا؛ فروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المعنى من قتل نبيا أو إمام عدل فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياه بأن شد عضده ونصره فكأنما أحيا الناس جميعا‏.‏ وعنه أيضا أنه قال‏:‏ المعنى من قتل نفسا واحدة وانتهك حرمتها فهو مثل من قتل الناس جميعا، ومن ترك قتل نفس واحدة وصان حرمتها واستحياها خوفا من الله فهو كمن أحيا الناس جميعا‏.‏ وعنه أيضا‏.‏ المعنى فكأنما قتل الناس جميعا عند المقتول، ومن أحياها واستنقذها من هلكة فكأنما أحيا الناس جميعا عند المستنقذ‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى أن الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدا جعل الله جزاءه جهنم وغضب عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما؛ يقول‏:‏ لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك، ومن لم يقتل فقد حيي الناس منه‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ المعنى أن من قتل نفسا فيلزمه من القود والقصاص ما يلزم من قتل الناس جميعا، قال‏:‏ ومن أحياها أي من عفا عمن وجب له قتله؛ وقاله الحسن أيضا؛ أي هو العفو بعد المقدرة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن من قتل نفسا فالمؤمنون كلهم خصماؤه؛ لأنه قد وتر الجميع، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، أي يجب على الكل شكره‏.‏ وقيل‏:‏ جعل إثم قاتل الواحد إثم قاتل الجميع؛ وله أن يحكم بما يريد‏.‏ وقيل‏:‏ كان هذا مختصا ببني إسرائيل تغليظا عليهم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وعلى الجملة فالتشبيه على ما قيل واقع كله، والمنتهك في واحد ملحوظ بعين منتهك الجميع؛ ومثاله رجلان حلفا على شجرتين ألا يطعما من ثمرهما شيئا، فطعم أحدهما واحدة من ثمر شجرته، وطعم الآخر ثمر شجرته كلها، فقد استويا في الجث‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن من استحل واحدا فقد استحل الجميع؛ لأنه أنكر الشرع‏.‏ وفي قوله

قوله تعالى‏{‏ومن أحياها‏}‏ تجوز؛ فإنه عبارة عن الترك والإنقاذ من هلكة، وإلا فالإحياء حقيقة - الذي هو الاختراع - إنما هو لله تعالى‏.‏ وإنما هذا الإحياء بمنزلة قول نمروذ اللعين‏{‏أنا أحيي وأميت‏}‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ فسمى الترك إحياء‏.‏ ثم أخبر الله عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسل بالبينات، وأن أكثرهم مجاوزون الحد، وتاركون أمر الله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏33 ‏:‏ 34‏)‏

‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم، إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم‏}‏

اختلف الناس في سبب نزول هذه الآية؛ فالذي عليه الجمهور أنها نزلت في العرنيين؛ روى الأئمة واللفظ لأبي داود عن أنس بن مالك‏:‏ أن قوما من عكل - أو قال من عرينة - قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتووا المدينة؛ فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلقاح وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم؛ فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم من أول النهار فأرسل في آثارهم؛ فلما ارتفع النهار حتى جيء بهم؛ فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وألقوا في الحرة يستسقون فلا يسقون‏.‏ قال أبو قلابة‏:‏ فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله‏.‏ وفي رواية‏:‏ فأمر بمسامير فأحميت فكحلهم وقطع أيديهم وأرجلهم وما حسمهم؛ وفي رواية‏:‏ فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم قافة فأتي به قال‏:‏ فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا‏}‏ الآية‏.‏ وفي رواية قال أنس‏:‏ فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشا حتى ماتوا‏.‏ وفي البخاري قال جرير بن عبدالله في حديثه‏:‏ فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم وقد أشرفوا على بلادهم، فجئنا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال جرير‏:‏ فكانوا يقولون الماء، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏النار‏)‏‏.‏ وقد حكى أهل التواريخ والسير‏:‏ أنهم قطعوا يدي الراعي ورجليه، وغرزوا الشوك في عينيه حتى مات، وأدخل المدينة ميتا‏.‏ وكان اسمه يسار وكان نوبيا‏.‏ وكان هذا الفعل من المرتدين سنة ست من الهجرة‏.‏ وفي بعض الروايات عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم‏.‏ وروي عن ابن عباس والضحاك‏:‏ أنها نزلت بسبب قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض‏.‏ وفي مصنف أبي داود عن ابن عباس قال‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله‏}‏ إلى قوله‏{‏غفور رحيم‏}‏ نزلت هذه الآية في المشركين فمن أخذ منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه‏.‏ وممن قال‏:‏ إن الآية نزلت في المشركين عكرمة والحسن، وهذا ضعيف يرده قوله تعالى‏{‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ ، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏(‏الإسلام يهدم ما قبله‏)‏ أخرجه مسلم؛ والصحيح الأول لنصوص الأحاديث الثابتة في ذلك‏.‏

وقال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي‏:‏ الآية نزلت فيمن خرج من المسلمين يقطع السبيل ويسعى في الأرض بالفساد‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ قول مالك صحيح، وقال أبو ثور محتجا لهذا القول‏:‏ وفي الآية دليل على أنها نزلت في غير أهل الشرك؛ وهو قوله جل ثناؤه‏{‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏}‏ وقد أجمعوا على أن أهل الشرك إذا وقعوا في أيدينا فأسلموا أن دماءهم تحرم؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت في أهل الإسلام‏.‏ وحكى الطبري عن بعض أهل العلم‏:‏ أن هذه الآية نسخت فعل النبي صلى الله عليه وسلم في العرنيين، فوقف الأمر على هذه الحدود‏.‏ وروى محمد بن سيرين قال‏:‏ كان هذا قبل أن تنزل الحدود؛ يعني حديث أنس؛ ذكره أبو داود‏.‏ وقال قوم منهم الليث بن سعد‏:‏ ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بوفد عرينة نسخ؛ إذ لا يجوز التمثيل بالمرتد‏.‏ قال أبو الزناد‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع الذين سرقوا لقاحه وسمل أعينهم بالنار عاتبه الله عز وجل في ذلك؛ فأنزل الله تعالى في ذلك ‏}‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا‏}‏ الآية‏.‏ أخرجه أبو داود‏.‏ قال أبو الزناد‏:‏ فلما وعظ ونهي عن المثلة لم يعد‏.‏ وحكي عن جماعة أن هذه الآية ليست بناسخة لذلك الفعل؛ لأن ذلك وقع في مرتين، لا سيما وقد ثبت في صحيح مسلم وكتاب النسائي وغيرهما قال‏:‏ إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أن أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة؛ فكان هذا قصاصا، وهذه الآية في المحارب المؤمن‏.‏

قلت‏:‏ وهذا قول حسن، وهو معنى ما ذهب إليه مالك والشافعي؛ ولذلك قال الله تعالى‏{‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏}‏ ومعلوم أن الكفار لا تختلف أحكامهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسق قبل القدرة‏.‏ والمرتد يستحق القتل بنفس الردة - دون المحاربة - ولا ينفى ولا تقطع يده ولا رجله ولا يخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم، ولا يصلب أيضا؛ فدل أن ما اشتملت عليه الآية ما عني به المرتد‏.‏ وقال تعالى في حق الكفار‏{‏قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف‏}‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وقال في المحاربين‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ الآية؛ وهذا بين‏.‏ وعلى ما قررناه في أول الباب لا إشكال ولا لوم ولا عتاب إذ هو مقتضى الكتاب؛ قال الله تعالى‏{‏فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم‏}‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ فمثلوا فمثل بهم، إلا أنه يحتمل أن يكون العتاب إن صح على الزيادة في القتل، وذلك تكحيلهم بمسامير محماة وتركهم عطاشى حتى ماتوا، والله أعلم‏.‏ وحكى الطبري عن السدي‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمل أعين العرنيين وإنما أراد ذلك؛ فنزلت الآية ناهية عن ذلك، وهذا ضعيف جدا؛ فإن الأخبار الثابتة وردت بالسمل؛ وفي صحيح البخاري‏:‏ فأمر بمسامير فأحميت لهم‏.‏ ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم هذه الآية مترتب في المحاربين من أهل الإسلام وإن كانت نزلت في المرتدين أو اليهود‏.‏ وفي قوله تعالى‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله‏}‏ استعارة ومجاز؛ إذ الله سبحانه وتعالى لا يحارب ولا يغالب لما هو عليه من صفات الكمال، ولما وجب له من التنزيه عن الأضداد والأنداد‏.‏ والمعنى‏:‏ يحاربون أولياء الله؛ فعبر بنفسه العزيزة عن أوليائه إكبارا لإذايتهم، كما عبر بنفسه عن الفقراء الضعفاء في قوله‏{‏من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا‏}‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ حثا على الاستعطاف عليهم؛ ومثله في صحيح السنة ‏(‏استطعمتك فلم تطعمني‏)‏‏.‏ الحديث أخرجه مسلم، وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏

 واختلف العلماء فيمن يستحق اسم المحاربة؛ فقال مالك‏:‏ المحارب عندنا من حمل على الناس في مصر أو في برية وكابرهم عن أنفسهم وأموالهم دون نائرة ولا ذحل ولا عداوة؛ قال ابن المنذر‏:‏ اختلف عن مالك في هذه المسألة، فأثبت المحاربة في المصر مرة ونفى ذلك مرة؛ وقالت طائفة‏:‏ حكم ذلك في المصر أو في المنازل والطرق وديار أهل البادية والقرى سواء وحدودهم واحدة؛ وهذا قول الشافعي وأبي ثور؛ قال ابن المنذر‏:‏ كذلك هو لأن كلا يقع عليه اسم المحاربة، والكتاب على العموم، وليس لأحد أن يخرج من جملة الآية قوما بغير حجة‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا تكون المحاربة في المصر إنما تكون خارجا عن المصر؛ هذا قول سفيان الثوري وإسحاق والنعمان‏.‏ والمغتال كالمحارب وهو الذي يحتال في قتل إنسان على أخذ ماله، وإن لم يشهر السلاح لكن دخل عليه بيته أو صحبه في سفر فأطعمه سما فقتله فيقتل حدا لا قودا‏.‏

 واختلفوا في حكم المحارب؛ فقالت طائفة‏:‏ يقام عليه بقدر فعله؛ فمن أخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، وإن أخذ المال وقتل قطعت يده ورجله ثم صلب، فإذا قتل ولم يأخذ المال، وإن هو لم يأخذ المال ولم يقتل نفي؛ قاله ابن عباس، وروي عن أبي مجلز والنخعي وعطاء الخراساني وغيرهم‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ إذا أخذ المال وقتل صلب وقتل على الخشبة؛ قال الليث‏:‏ بالحربة مصلوبا‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا قتل قتل، وإذا أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف، وإذا أخذ المال وقتل فالسلطان مخير فيه، إن شاء قطع يده ورجله وإن شاء لم يقطع وقتله وصلبه؛ قال أبو يوسف‏:‏ القتل يأتي على كل شيء‏.‏ ونحوه قول الأوزاعي‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إذا أخذ المال قطعت يده اليمنى وحسمت، ثم قطعت رجله اليسرى وحسمت وخلي؛ لأن هذه الجناية زادت على السرقة بالحرابة، وإذا قتل قتل، وإذا أخذ المال وقتل قتل وصلب؛ وروي عنه أنه قال‏:‏ يصلب ثلاثة أيام؛ قال‏:‏ وإن حضر وكثر وهيب وكان ردءا للعدو حبس‏.‏ وقال أحمد‏:‏ إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطعت يده ورجله كقول الشافعي‏.‏ وقال قوم‏:‏ لا ينبغي أن يصلب قبل، القتل فيحال بينه وبين الصلاة والأكل والشرب؛ وحكي عن الشافعي‏:‏ أكره أن يقتل مصلوبا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة‏.‏ وقال أبو ثور‏:‏ الإمام مخير على ظاهر الآية، وكذلك قال مالك، وهو مروي عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز ومجاهد والضحاك والنخعي كلهم قال‏:‏ الإمام مخير في الحكم على المحاربين، يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها الله تعالى من القتل والصلب أو القطع أو النفي بظاهر الآية؛ قال ابن عباس‏:‏ ما كان في القرآن ‏}‏أو‏}‏ فصاحبه بالخيار؛ وهذا القول أشعر بظاهر الآية؛ فإن أهل القول الأول الذين قالوا ‏}‏أو‏}‏ للترتيب وإن اختلفوا - فإنك تجد أقوالهم أنهم يجمعون عليه حدين فيقولون‏:‏ يقتل ويصلب؛ ويقول بعضهم‏:‏ يصلب ويقتل؛ ويقول بعضهم‏:‏ تقطع يده ورجله وينفى؛ وليس كذلك الآية ولا معنى ‏}‏أو‏}‏ في اللغة؛ قال النحاس‏.‏ واحتج الأولون بما ذكره الطبري عن أنس بن مالك أنه قال‏:‏ سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن الحكم في المحارب فقال‏{‏من أخاف السبيل وأخذ المال فأقطع به للأخذ ورجله للإخافة ومن قتل فاقتله ومن جمع ذلك فأصلبه‏}‏‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وبقي النفي للمخيف فقط والمخيف في حكم القاتل، ومع ذلك فمالك يرى فيه الأخذ بأيسر العذاب والعقاب استحسانا‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو ينفوا من الأرض‏}‏ اختلف في معناه؛ فقال السدي‏:‏ هو أن يطلب أبدا بالخيل والرجل حتى يؤخذ فيقام عليه حد الله، أو يخرج من دار الإسلام هربا ممن يطلبه؛ عن ابن عباس وأنس بن مالك ومالك بن أنس والحسن والسدي والضحاك وقتادة وسعيد بن جبير والربيع بن أنس والزهري‏.‏ حكاه الرماني في كتابه؛ وحكي عن الشافعي أنهم يخرجون من بلد إلى بلد، ويطلبون لتقام عليهم الحدود؛ وقال الليث بن سعد والزهري أيضا‏.‏ وقال مالك أيضا‏:‏ ينفى من البلد الذي أحدث فيه هذا إلى غيره ويحبس فيه كالزاني‏.‏ وقال مالك أيضا والكوفيون‏:‏ نفيهم سجنهم فينفى من سعة الدنيا إلى ضيقها، فصار كأنه إذا سجن فقد نفي من الأرض إلا من موضع استقراره؛ واحتجوا بقول بعض أهل السجون في ذلك‏:‏

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

حكى مكحول أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال‏:‏ أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه من بلد إلى بلد فيؤذيهم؛ والظاهر أن الأرض في الآية هي أرض النازلة وفد تجنب، الناس قديما الأرض التي أصابوا فيها الذنوب؛ ومنه الحديث ‏(‏الذي ناء بصدره ونحو الأرض المقدسة‏)‏‏.‏ وينبغي الإمام إن كان هذا المحارب مخوف الجانب يظن أنه يعود إلى حرابة أو إفساد أن يسجنه في البلد الذي يغرب إليه، وإن كان غير مخوف الجانب فظن أنه لا يعود إلى جناية رح؛ قال ابن عطية‏:‏ وهذا صريح مذهب مالك أن يغرب ويسن حيث يغرب، وهذا على الأغلب في أنه مخوف، ورجحه الطبري وهو الواضح؛ لأن نفيه من أرض النازلة هو نص الآية، وسجنه بعد بحسب الخوف منه، فإن تاب وفهمت حاله سرح‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو ينفوا من الأرض‏}‏ النفي أصله الإهلاك؛ ومنه الإثبات والنفي، فالنفي الإهلاك بالإعدام؛ ومنه النفاية لردي المتاع؛ ومنه النفي لما تطاير من الماء عن الدلو‏.‏ قال الراجز‏:‏

كأن متنيه من النفي مواقع الطير على الصفي

قال ابن خويز منداد‏:‏ ولا يراعى المال الذي يأخذه المحارب نصابا كما يراعى في السارق‏.‏ وقد قيل‏:‏ يراعى في ذلك النصاب ربع دينار؛ قال ابن العربي، قال الشافعي وأصحاب الرأي‏:‏ لا يقطع من قطاع الطريق إلا من أخذ قدر ما تقطع فيه يد السارق؛ وقال مالك‏:‏ يحكم عليه بحكم المحارب وهو الصحيح؛ فإن الله تعالى وقت على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام القطع في السرقة في ربع دينار، ولم يوقت في الحرابة شيئا، بل ذكر جزاء المحارب، فاقتضى ذلك توفية الجزاء لهم على المحاربة عن حبة؛ ثم إن هذا قياس أصل على أصل وهو مختلف فيه، وقياس الأعلى بالأدنى والأدنى بالأسفل وذلك عكس القياس‏.‏ وكيف يصح أن يقاس المحارب على السارق وهو يطلب خطف المال فإن شعر به فر؛ حتى إن السارق إذا دخل بالسلاح يطلب المال فإن منع منه أو صبح عليه وحارب عليه فهو محارب حكم عليه بحكم المحارب‏.‏ قال القاضي ابن العربي‏:‏ كنت في أيام حكمي بين الناس إذا جاءني أحد بسارق، وقد دخل الدار بسكين يحبسه على قلب صاحب الدار وهو نائم، وأصحابه يأخذون مال الرجل، حكمت فيهم بحكم المحاربين، فافهموا هذا من أصل الدين، وارتفعوا إلى يفاع العلم عن حضيض الجاهلين‏.‏ قلت‏:‏ اليفع أعلى الجبل ومنه غلام يفعة إذا ارتفع إلى البلوغ؛ والحضيض الحفرة في أسفل الوادي؛ كذا قال أهل اللغة‏.‏

ولا خلاف في أن الحرابة يقتل فيها من قتل وإن لم يكن المقتول مكافئا للقاتل؛ وللشافعي قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها تعتبر المكافأة لأنه قتل فاعتبر فيه المكافأة كالقصاص؛ وهذا ضعيف؛ لأن القتل هنا ليس على مجرد القتل وإنما هو على الفساد العام من التخويف وسلب المال؛ قال الله تعالى‏{‏إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا‏}‏ فأمر تعالى بإقامة الحدود على المحارب إذا جمع شيئين محاربة وسعيا في الأرض بالفساد، ولم يخص شريفا من وضيع، ولا رفيعا من دنيء‏.‏

وإذا خرج المحاربون فاقتتلوا مع القافلة فقتل بعض المحاربين ولم يقتل بعض قتل الجميع‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا قتل إلا من قتل؛ وهذا أيضا ضعيف؛ فإن من حضر الوقيعة شركاء في الغنيمة وإن لم يقتل جميعهم؛ وقد اتفق معنا على قتل الردء وهو الطليعة، فالمحارب أولى‏.‏

وإذا أخاف المحاربون السبيل وقطعوا الطريق وجب على الإمام قتالهم من غير أن يدعوهم، ووجب على المسلمين التعاون على قتالهم وهم عن أذى المسلمين، فإن انهزموا لم يتبع منهم مدبرا إلا أن يكون قد قتل وأخذ مالا، فإن كان كذلك أتبع ليؤخذ ويقام عليه ما وجب لجنايته؛ ولا يدفف منهم على جريح إلا أن يكون قد قتل؛ فإن أخذوا وجد في أيديهم مال لأحد بعينه رد إليه أو إلى ورثته، وإن لم يوجد له صاحب جعل في بيت المال؛ وما أتلفوه من مال لأحد غرموه؛ ولا دية لمن قتلوا إذا قدر عليهم قبل التوبة، فإن تابوا وجاؤوا تائبين لم يكن للإمام عليهم سبيل، وسقط عنهم ما كان حدا لله وأخذوا بحقوق الآدميين، فاقتص منهم من النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم لأوليائه في ذلك، ويجوز لهم العفو والهبة كسائر الجناة من غير المحاربين؛ هذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي‏.‏ وإنما أخذ ما بأيديهم من الأموال وضمنوا قيمه ما استهلكوا؛ لأن ذلك غصب فلا يجوز ملكه لهم، ويصرف إلى أربابه أو يوقفه الإمام عنده حتى يعلم صاحبه‏.‏ وقال قوم من الصحابة والتابعين‏:‏ لا يطلب من المال إلا بما وجد عنده، وأما ما استهلكه فلا يطالب به؛ وذكر الطبري ذلك عن مالك من رواية الوليد بن مسلم عنه، وهو الظاهر من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه، فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا؛ قال ابن خويز منداد‏:‏ واختلفت الرواية عن مالك في المحارب إذا أقيم عليه الحد ولم يوجد له مال؛ هل يتبع دينا بما أخذ، أو يسقط عنه كما سقط عن السارق‏؟‏ والمسلم والذمي في ذلك سواء‏.‏

وجمع أهل العلم على أن السلطان ولي من حارب؛ فإن قتل محارب أخا امرئ أو أباه في حال المحاربة، فليس إلى طالب الدم من أمر المحارب شيء، ولا يجوز عفو ولي الدم، والقائم بذلك الإمام؛ جعلوا ذلك بمنزلة حد من حدود الله تعالى‏.‏ قلت‏:‏ فهذه جملة من أحكام المحاربين جمعنا غررها، واجتلبنا دررها؛ ومن أغرب ما قيل في تفسيرها وهي‏:‏

وتفسير مجاهد لها؛ المراد بالمحاربة في هذه الآية الزنى والسرقة؛ وليس بصحيح؛ فإن الله سبحانه بين في كتابه وعلى لسان نبيه أن السارق تقطع يده، وأن الزاني يجلد ويغرب إن كان بكرا، ويرجم إن كان ثيبا محصنا‏.‏ وأحكام المحارب في هذه الآية مخالف لذلك، اللهم إلا أن يريد إخافة الطريق بإظهار السلاح قصدا للغلبة على الفروج، فهذا أفحش المحاربة، وأقبح من أخذ الأموال وقد دخل في معنى قوله تعالى‏{‏ويسعون في الأرض فسادا‏}‏‏.‏

قال علماؤنا‏:‏ ويناشد اللص بالله تعالى، فإن كف ترك وإن أبى قوتل، فإن أنت قتلته فشر قتيل ودمه هدر‏.‏ روى النسائي عن أبي هريرة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فانشد بالله‏)‏ قال‏:‏ فإن أبوا علي‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فانشد بالله‏)‏ قال‏:‏ فإن أبوا علي قال‏:‏ ‏(‏فانشد بالله‏)‏ قال‏:‏ فإن أبوا علي قال‏:‏ ‏(‏فقاتل فإن قتلت ففي الجنة وإن قتلت ففي النار‏)‏ وأخرجه البخاري ومسلم - وليس فيه ذكر المناشدة - عن أبي هريرة قال‏:‏ جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فلا تعطه مالك‏)‏ قال‏:‏ أرأيت إن قاتلني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فقاتله‏)‏ قال‏:‏ أرأيت إن قتلني‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏فأنت شهيد‏)‏ قال‏:‏ فإن قتلته‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏هو في النار‏)‏‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ ورينا عن جماعة من أهل العلم أنهم رأوا قتال اللصوص ودفعهم عن أنفسهم وأموالهم؛ هذا مذهب ابن عمر والحسن البصري وإبراهيم النخعي وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والنعمان، وبهذا يقول عوام أهل العلم‏:‏ إن للرجل أن يقاتل عن نفسه وأهله وماله إذا أريد ظلما؛ للأخبار التي جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخص وقتا دون وقت، ولا حالا دون حال إلا السلطان؛ فإن جماعة أهل الحديث لا يحاربه ولا يخرج عليه؛ للأخبار الدالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي فيها الأمر بالصبر على ما يكون منهم، من الجور والظلم، وترك قتالهم والخروج عليهم ما أقاموا الصلاة‏.‏

قلت‏:‏ وقد اختلف مذهبنا إذا طلب الشيء الخفيف كالثوب والطعام هل يعطونه أو يقاتلون‏؟‏ وهذا الخلاف مبني على أصل، وهو هل الأمر بقتالهم لأنه تغيير منكر أو هو من باب دفع الضرر‏؟‏ وعلى هذا أيضا ينبني الخلاف في دعوتهم قبل القتال‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك لهم خزي في الدنيا‏}‏ لشناعة المحاربة وعظم ضررها، وإنما كانت المحاربة عظيمة الضرر؛ لأن فيها سد سبيل الكسب على الناس، لأن أكثر المكاسب وأعظمها التجارات، وركنها وعمادها الضرب في الأرض؛ كما قال عز وجل‏{‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله‏}‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ فإذا أخيف الطريق انقطع الناس عن السفر، واحتاجوا إلى لزوم البيوت، فانسد باب التجارة عليهم، وانقطعت أكسابهم؛ فشرع الله على قطاع الطريق الحدود المغلظة، وذلك الخزي في الدنيا ردعا لهم عن سوء فعلهم، وفتحا لباب التجارة التي أباحها لعباده لمن أرادها منهم، ووعد فيها بالعذاب العظيم في الآخرة‏.‏ وتكون هذه المعصية خارجة عن المعاصي، ومستثناة من حديث عبادة في قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فمن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة‏)‏ والله أعلم‏.‏ ويحتمل أن يكون الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سلم في الدنيا، ويجرى هذا الذنب مجرى غيره‏.‏ ولا خلود لمؤمن في النار على ما تقدم، ولكن يعظم عقابه لعظم الذنب، ثم يخرج إما بالشفاعة وإما بالقبضة، ثم إن هذا الوعيد مشروط الإنفاذ بالمشيئة كقوله تعالى‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏النساء‏:‏ 116‏]‏ أما إن الخوف يغلب عليهم بحسب الوعيد وكبر المعصية‏.‏

قوله تعالى‏{‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏}‏ استثنى جل وعز التائبين قبل أن يقدر عليهم، وأخبر بسقوط حقه عنهم بقوله‏{‏فاعلموا أن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏ أما القصاص وحقوق الآدميين فلا تسقط‏.‏ ومن تاب بعد القدرة فظاهر الآية أن التوبة لا تنفع، وتقام الحدود عليه كما تقدم‏.‏ وللشافعي قول أنه يسقط كل حد بالتوبة، والصحيح من مذهبه أن ما تعلق به حق لآدمي قصاصا كان أو غيره فإنه لا يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالاستثناء المشرك إذا تاب وأمن قبل القدرة عليه فإنه تسقط عنه الحدود؛ وهذا ضعيف؛ لأنه إن آمن بعد القدرة عليه لم يقتل أيضا بالإجماع‏.‏ وقيل‏:‏ إنما لا يسقط الحد عن المحاربين بعد القدرة عليهم - والله أعلم - لأنهم متهمون بالكذب في توبتهم والتصنع فيها إذا نالتهم يد الإمام، أو لأنه لما قدر عليهم صاروا بمعرض أن ينكل بهم فلم تقبل توبتهم؛ كالمتلبس بالعذاب من الأمم قبلنا، أو من صار إلى حال الغرغرة فتاب؛ فأما إذا تقدمت توبتهم القدرة عليهم، فلا تهمة وهي نافعة على ما يأتي بيانه في سورة ‏}‏يونس‏}‏؛ فأما الشراب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا تبنا لم يتركوا، وهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا‏.‏ والله أعلم‏.‏