فصل: الآية رقم ‏(‏23‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة الأنعام

 مقدمة السورة

سورة الأنعام مكية في قوله الأكثرين قال ابن عباس وقتادة‏:‏ هي مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة، قوله تعالى‏{‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين والأخرى قوله‏{‏وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات‏}‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏ نزلت في ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري وقال ابن جريج‏:‏ نزلت في معاذ بن جبل وقال الماوردي وقال الثعلبي سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة ‏}‏وما قدروا الله حق قدره‏}‏ إلى آخر ثلاث آيات و‏}‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ إلى آخر ثلاث آيات قال ابن عطية‏:‏ وهي الآيات المحكمات وذكر ابن العربي‏:‏ أن قوله تعالى‏{‏قل لا أجد‏}‏ نزل بمكة يوم عرفة وسيأتي القول في جميع ذلك إن شاء الله وفي الخبر أنها نزلت جملة واحدة غير الست الآيات وشيعها سبعون ألف ملك مع آية واحدة منها اثنا عشر ألف ملك وهي ‏}‏وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو‏}‏الأنعام‏:‏ 59‏]‏ نزلوا بها ليلا لهم زجل بالتسبيح والتحميد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم وأسند أبو جعفر النحاس قال‏:‏ حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو حاتم روح بن الفرج مولى الحضارمة قال حدثنا أحمد بن محمد أبو بكر العمري حدثنا ابن أبي فديك حدثني عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص عن نافع أبي سهل بن مالك عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح‏)‏ والأرض لهم ترتج ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏سبحان ربي العظيم‏)‏ ثلاث مرات وذكر الدارمي أبو محمد في مسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال‏:‏ الأنعام من عجائب القرآن‏.‏ وفيه عن كعب قال‏:‏ فاتحة ‏}‏التوراة‏}‏ فاتحة الأنعام وخاتمتها خاتمة ‏}‏هود‏}‏‏.‏ وقاله وهب بن منبه أيضا وذكر المهدوي قال المفسرون إن التوراة افتتحت بقوله‏{‏الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض‏}‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ الآية وختمت بقوله ‏}‏الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك‏}‏الإسراء‏:‏ 111‏]‏ إلى آخر الآية وذكر الثعلبي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ‏(‏من قرأ ثلاث آيات من أول سورة الأنعام إلى قوله‏{‏ويعلم ما تكسبون‏}‏الأنعام‏:‏ 3‏]‏ وكل الله به أربعين ألف ملك يكتبون له مثله عبادتهم إلى يوم القيامة وينزل ملك من السماء السابعة ومعه مرزبة من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس له أو يوحي في قلبه شيئا ضربه ضربة فيكون بينه وبينه سبعون حجابا فإذا كان يوم القيامة قال الله تعالى‏{‏امش في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي وكل من ثمار جنتي واشرب من ماء الكوثر واغتسل من ماء السلسبيل فأنت عبدي وأنا ربك‏}‏‏.‏ وفي البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ ‏}‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم‏}‏ إلى قوله‏{‏وما كانوا مهتدين‏}‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏‏.‏

 تنبيه‏:‏ قال العلماء‏:‏ هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعين ومن كذب بالبعث والنشور وهذا يقتضي إنزالها جملة واحدة لأنها في معنى واحد من الحجة وإن تصرف ذلك بوجوه كثيرة وعليها بنى المتكلمون أصول الدين لأن فيها آيات بينات ترد على القدرية دون السور التي تذكر والمذكورات وسنزيد ذلك بيانا إن شاء الله بحول الله تعالى وعونه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏1‏)‏

‏{‏الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الحمد لله‏}‏ بدأ سبحانه فاتحتها بالحمد على نفسه وإثبات الألوهية أي أن الحمد كله له فلا شريك له فإن قيل‏:‏ فقد افتتح غيرها بالحمد لله فكان الاجتزاء بواحدة يغني عن سائره فيقال‏:‏ لأن لكل واحدة منه معنى في موضعه لا يؤدي عنه غيره من أجل عقده بالنعم المختلفة وأيضا فلما فيه من الحجة في هذا الموضع على الذين هم بربهم يعدلون‏.‏ وقد تقدم معنى ‏}‏الحمد‏}‏ في الفاتحة‏.‏

قوله تعالى‏{‏الذي خلق السماوات والأرض‏}‏ أخبر عن قدرته وعلمه وإرادته فقال‏:‏ الذي خلق أي اخترع وأوجد وأنشأ وابتدع والخلق يكون بمعنى الاختراع ويكون بمعنى التقدير، وقد تقدم وكلاهما مراد هنا وذلك دليل على حدوثهما فرفع السماء بغير عمد وجعلها مستوية من غير أود وجعل فيها الشمس والقمر آيتين وزينها بالنجوم وأودعها السحاب والغيوم علامتين وبسط الأرض وأودعها الأرزاق والنبات وبث فيها من كل دابة آيات جعل فيها الجبال أوتادا وسبلا فجاجا وأجرى فيها الأنهار والبحار وفجر فيها العيون من الأحجار دلالات على وحدانيته، وعظيم قدرته وأنه هو الله الواحد القهار وبين بخلقه السماوات والأرض أنه خالق كل شيء‏.‏

خرج مسلم قال‏:‏ حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبدالله قالا حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبدالله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال‏:‏ ‏(‏خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ أدخل العلماء هذا الحديث تفسيرا لفاتحة هذه السورة؛ قال البيهقي‏:‏ وزعم أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ لمخالفة ما عليه أهله التفسير وأهله التواريخ‏.‏ وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد وإبراهيم غير محتج به وذكر محمد بن يحيى قال‏:‏ سألت علي بن المديني عن حديث أبى هريرة ‏(‏خلق الله التربة يوم السبت‏)‏‏.‏ فقال علي‏:‏ هذا حديث مدني رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال‏:‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي قال علي‏:‏ وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى فقال لي‏:‏ شبك بيدي أيوب بن خالد وقال لي شبك بيدي عبدالله بن رافع وقال لي‏:‏ شبك بيدي أبو هريرة وقال لي‏:‏ شبك بيدي أبو القاسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏خلق الله الأرض يوم السبت‏)‏ فذكر الحديث بنحوه‏.‏ قال علي بن المديني‏:‏ وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا الأمر إلا من إبراهيم بن أبي يحيى قال البيهقي‏:‏ وقد تابعه على ذلك موسى بن عبيدة الربذي عن أيوب بن خالد إلا أن موسى بن عبيدة ضعيف‏.‏ وروي عن بكر بن الشرود عن إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد وإسناده ضعيف عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن في الجمعة ساعة لا يوافقها أحد يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه إياه‏)‏ قال فقال عبدالله بن سلام‏:‏ إن الله عز وجل ابتدأ الخلق فخلق الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين وخلق السماوات يوم الثلاثاء ويوم الأربعاء وخلق الأقوات وما في الأرض يوم الخميس ويوم الجمعة إلى صلاة العصر وما بين صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس خلق آدم خرجه البيهقي

قلت‏:‏ وفيه أن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد لا يوم السبت وكذلك تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ عن ابن مسعود وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وتقدم فيها أن الاختلاف أيما خلق أولا الأرض أم السماء مستوفى‏.‏ والحمد لله‏.‏

قوله تعالى‏{‏وجعل الظلمات والنور‏}‏ ذكر بعد خلق الجواهر خلق الأعراض لكون الجوهر لا يستغني عنه وما لا يستغني عن الحوادث فهو حادث‏.‏ والجوهر في اصطلاح المتكلمين هو الجزء الذي لا يتجزأ الحامل للعرض وقد أتينا على ذكره في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى في اسمه ‏}‏الواحد‏}‏ وسمي العرض عرضا لأنه يعرض في الجسم والجوهر فيتغير به من حال إلى حال والجسم هو المجتمع وأقل ما يقع عليه اسم الجسم جوهران مجتمعان وهذه الاصطلاحات وإن لم تكن موجودة في الصدر الأول فقد دل عليها معنى الكتاب والستة فلا معنى لإنكارها وقد استعملها العلماء واصطلحوا عليها وبنوا عليها كلامهم وقتلوا بها خصومهم

واختلف العلماء في المعنى المراد بالظلمات والنور فقال السدي وقتادة وجمهور المفسرين‏:‏ المراد سواد الليل وضياء النهار وقال الحسن الكفر والإيمان قال ابن عطية‏:‏ وهذا خروج عن الظاهر‏.‏

قلت‏:‏ اللفظ يعمه وفي التنزيل‏{‏أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات‏}‏الأنعام‏:‏ 122‏]‏‏.‏ والأرض هنا اسم للجنس فإفرادها في اللفظ بمنزلة جمعها وكذلك ‏}‏والنور‏}‏ ومثله ‏}‏ثم يخرجكم طفلا‏}‏غافر‏:‏ 67‏]‏ وقال الشاعر‏:‏

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

وقد تقدم وجعل هنا بمعنى خلق لا يجوز غيره قاله ابن عطية‏.‏

قلت‏:‏ وعليه يتفق اللفظ والمعنى في النسق فيكون الجمع معطوفا على الجميع والمفرد معطوفا على المفرد فيتجانس اللفظ وتظهر الفصاحة والله أعلم وقيل‏:‏ جمع ‏}‏الظلمات‏}‏ ووحد ‏}‏النور‏}‏ لأن الظلمات لا تتعدى والنور يتعدى وحكى الثعلبي أن بعض أهل المعاني قال‏{‏جعل‏}‏ هنا زائدة والعرب تزيد ‏}‏جعل‏}‏ في الكلام كقول الشاعر‏:‏

وقد جعلت أرى الاثنين أربعة والواحد اثنين لما هدني الكبر

قال النحاس‏:‏ جعل بمعنى خلق وإذا كانت بمعنى خلق لم تتعد إلا إلى مفعول واحد‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم الذين كفروا بربهم يعدلون‏}‏ ابتداء وخبر والمعنى‏:‏ ثم الذين كفروا يجعلون لله عدلا وشريكا وهو الذي خلق هذه الأشياء وحده قال ابن عطية‏:‏ فـ ‏}‏ثم‏}‏ دالة على قبح فعل الكافرين لأن المعنى‏:‏ أن خلقه السماوات والأرض قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد ذلك كله عدلوا بربهم فهذا كما تقول‏:‏ يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني ولو وقع العطف بالواو في هذا ونحوه لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏2‏)‏

‏{‏هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي خلقكم من طين‏}‏ الآية خبر وفي معناه قولان‏:‏ أحدهما‏:‏ وهو الأشهر وعليه من الخلق الأكثر أن المراد آدم عليه السلام والخلق نسله والفرع يضاف إلى أصله فلذلك قال‏{‏خلقكم‏}‏ بالجمع فأخرجه مخرج الخطاب لهم إذ كانوا ولده؛ هذا قول الحسن وقتادة وابن أبي نجيح والسدي والضحاك وابن زيد وغيرهم الثاني‏:‏ أن تكون النطفة خلقها الله من طين على الحقيقة ثم قلبها حتى كان الإنسان منها ذكره النحاس‏.‏

قلت‏:‏ وبالجملة فلما ذكر جل وعز خلق العالم الكبير ذكر بعده خلق العالم الصغير وهو الإنسان وجعل فيه ما في العالم الكبير على ما بيناه في ‏}‏البقرة‏}‏ في آية التوحيد والله أعلم والحمد لله وقد روى أبو نعيم الحافظ في كتابه عن مرة عن ابن مسعود أن الملك الموكل بالرحم يأخذ النطفة فيضعها على كفه ثم يقول‏:‏ يا رب مخلقة أو غير مخلقة‏؟‏ فإن قال مخلقة قال‏:‏ يا رب ما الرزق ما الأثر ما الأجل‏؟‏ فيقول‏:‏ انظر في أم الكتاب فينظر اللوح المحفوظ فيجد فيه رزقه وأثره وأجله وعمله ويأخذ التراب الذي يدفن في بقعته ويعجن به نطفته فذلك قوله تعالى‏{‏منها خلقناكم وفيها نعيدكم‏}‏طه‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وخرج عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏{‏ما من مولود إلا وقد ذر عليه من تراب حفرته‏}‏‏.‏

قلت‏:‏ وعلى هذا يكون كله إنسان مخلوقا من طين وماء مهين كما أخبر جل وعز في سورة ‏}‏المؤمنون‏}‏ فتنتظم الآيات والأحاديث ويرتفع الإشكال والتعارض والله أعلم وأما الإخبار عن خلق آدم عليه السلام فقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ ذكره واشتقاقه ونزيد هنا طرفا من ذلك ونعته وسنه ووفاته ذكر ابن سعد في ‏}‏الطبقات‏}‏ عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الناس ولد آدم وآدم من التراب‏)‏ وعن سعيد بن جبير قال‏:‏ خلق الله آدم عليه السلام من أرض يقال لها دجناء قال الحسن‏:‏ وخلق جؤجؤه من ضرية قال الجوهري‏:‏ ضرية قرية لبني كلاب على طريق البصرة وهي إلى مكة أقرب وعن ابن مسعود قال‏:‏ إن الله تعالى بعث إبليس فأخذ من أديم الأرض من عذبها ومالحها فخلق منه آدم عليه السلام فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى الجنة وإن كان ابن كافر وكل شيء خلقه من مالحها فهو صائر إلى النار وإن كان ابن تقي فمن ثم قال إبليس ‏}‏أأسجد لمن خلقت طينا‏}‏الإسراء‏:‏ 61‏]‏ لأنه جاء بالطينة فسمي آدم؛ لأنه خلق من أديم الأرض وعن عبدالله بن سلام قال خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة وعن ابن عباس قال لما خلق الله آدم كان رأسه يمس السماء قال فوطده إلى الأرض حتى صار ستين ذراعا في سبعة أذرع عرضا وعن أبي بن كعب قال‏:‏ كان آدم عليه السلام طوالا جعدا كأنه نخلة سحوق وعن ابن عباس في حديث فيه طول وحج آدم عليه السلام من الهند إلى مكة أربعين حجة على رجليه وكان آدم حين أهبط تمسح رأسه السماء فمن ثم صلع وأورث ولده الصلع ونفرت من طول دواب البر فصارت وحشا من يومئذ ولم يمت حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا وتوفي على ذروة الجبل الذي أنزل عليه فقال شيث لجبريل عليهما السلام‏{‏صل على آدم‏}‏ فقال له جبريل عليه السلام‏:‏ تقدم أنت فصل على أبيك وكبر عليه ثلاثين تكبيرة فأما خمس فهي الصلاة وخمس وعشرون تفضيلا لآدم‏.‏ وقيل‏:‏ كبر عليه أربعا فجعل بنو شيث آدم في مغارة وجعلوا عليها حافظا لا يقربه أحد من بني قابيل وكان الذين يأتونه ويستغفرون له بنو شيث وكان عمر آدم تسعمائة سنة وستا وثلاثين سنة‏.‏ ويقال‏:‏ هل في الآية دليل على أن الجواهر من جنس واحد‏؟‏ الجواب نعم لأنه إذا جاز أن ينقلب الطين إنسانا حيا قادرا عليما جار أن ينقلب إلى كل حال من أحواله الجواهر لتسوية العقل بين ذلك في الحكم وقد صح انقلاب الجماد إلى الحيوان بدلالة هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم قضى أجلا‏}‏ مفعول‏.‏ ‏}‏وأجل مسمى عنده‏}‏ ابتداء وخبر قال الضحاك‏{‏أجلا‏}‏ في الموت ‏{‏وأجل مسمى عنده‏}‏ أجل القيامة فالمعنى على هذا‏:‏ حكم أجلا وأعلمكم أنكم تقيمون إلى الموت ولم يعلمكم بأجل القيامة‏.‏ وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة وهذا لفظ الحسن‏:‏ قضى أجل الدنيا من يوم خلقك إلى أن تموت ‏}‏وأجل مسمى عنده‏}‏ يعني الآخرة‏.‏ وقيل‏{‏قضى أجلا‏}‏ ما أعلمناه من أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ‏(‏وأجل مسمى‏)‏ من الآخرة وقيل‏{‏قضى أجلا‏}‏ مما نعرفه من أوقات الأهلة والزرع وما أشبههما ‏}‏وأجل مسمى‏}‏ أجل الموت لا يعلم الإنسان متى يموت وقال ابن عباس ومجاهد‏:‏ معنى الآية ‏}‏قضى أجلا‏}‏ بقضاء الدنيا، ‏}‏وأجل مسمى عنده‏}‏ لابتداء الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ الأول قبض الأرواح في النوم والثاني قبض الروح عند الموت عن ابن عباس أيضا‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم أنتم تمترون‏}‏ ابتداء وخبر أي تشكون في أنه إله واحد وقيل‏:‏ تمارون في ذلك أي تجادلون جدال الشاكين والتماري المجادلة على مذهب الشك ومنه قوله تعالى‏{‏أفتمارونه على ما يرى‏}‏النجم‏:‏ 12‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏3 ‏:‏ 5‏)‏

‏{‏وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهو الله في السماوات وفي الأرض‏}‏ يقال‏:‏ ما عامل الإعراب في الظرف من ‏}‏في السماوات وفى الأرض‏}‏ ‏؟‏ ففيه أجوبة‏:‏ أحدها‏:‏ أي وهو الله المعظم أو المعبود في السماوات وفي الأرض؛ كما تقول‏:‏ زيد الخليفة في الشرق والغرب أي حكمه ويجوز أن يكون المعنى وهو الله المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض؛ كما تقول‏:‏ هو في حاجات الناس وفي الصلاة ويجوز أن يكون خبرا بعد خبر ويكون المعنى‏:‏ وهو الله في السماوات وهو الله في الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض فلا يخفى عليه شيء؛ قال النحاس‏:‏ وهذا من أحسن ما قيل فيه وقال محمد بن جرير‏:‏ وهو الله في السماوات ويعلم سركم وجهركم في الأرض فيعلم مقدم في الوجهين والأول أسلم وأبعد من الإشكال وقيل غير هذا والقاعدة تنزيهه جل وعز عن الحركة والانتقال وشغل الأمكنة‏.‏ ‏}‏ويعلم ما تكسبون‏}‏ أي من خير وشر والكسب الفعل لاجتلاب نفع أو دفع ضرر ولهذا لا يقال لفعل الله كسب‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما تأتيهم من آية‏}‏ أي علامة كانشقاق القمر ونحوها‏.‏ و‏}‏من‏}‏ لاستغراق الجنس؛ تقول‏:‏ ما في الدار من أحد‏.‏ ‏}‏من آيات ربهم‏}‏ ‏}‏من‏}‏ الثانية للتبعيض‏.‏ و‏}‏معرضين‏}‏ خبر ‏}‏كانوا‏}‏ والإعراض ترك النظر في الآيات التي يجب أن يستدلوا بها على توحيد الله جل وعز من خلق السماوات والأرض وما بينهما وأنه يرجع إلى قديم حي غني عن جميع الأشياء قادر لا يعجزه شيء عالم لا يخفى عليه شيء من المعجزات التي أقامها لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ ليستدل بها على صدقه في جميع ما أتى به‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقد كذبوا‏}‏ يعني مشركي مكة‏.‏ ‏}‏بالحق‏}‏ يعني القرآن، وقيل‏:‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏فسوف يأتيهم‏}‏ أي يحل بهم العقاب؛ وأراد بالأنباء وهي الأخبار العذاب؛ كقولك اصبر وسوف يأتيك الخبر أي العذاب؛ والمراد ما نالهم يوم بدر ونحوه‏.‏ وقيل‏:‏ يوم القيامة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6‏)‏

‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن‏}‏ ‏}‏كم‏}‏ في موضع نصب بأهلكنا لا بقوله ‏}‏ألم يروا‏}‏ لأن لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، وإنما يعمل فيه ما بعده من أجل أن له صدر الكلام‏.‏ والمعنى‏:‏ ألا يعتبرون بمن أهلكنا من الأمم قبلهم لتكذيبهم أنبياءهم أي ألم يعرفوا ذلك والقرن الأمة من الناس‏.‏ والجمع القرون؛ قال الشاعر‏:‏

إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم وخلفت في قرن فأنت غريب

فالقرن كله عالم في عصره مأخوذ من الاقتران أي عالم مقترن به بعضهم إلى بعض؛ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏خير الناس قرني يعني أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‏)‏ هذا أصح ما قيل فيه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى من أهل قرن فحذف كقوله‏{‏واسأل القرية‏}‏يوسف‏:‏ 82‏]‏‏.‏ فالقرن على هذا مدة من الزمان؛ قيل‏:‏ ستون عاما وقيل سبعون، وقيل‏:‏ ثمانون؛ وقيل‏:‏ مائة؛ وعليه أكثر أصحاب الحديث أن القرن مائة سنة؛ واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبدالله بن بسر‏{‏تعيش قرنا‏}‏ فعاش مائة سنة؛ ذكره النحاس‏.‏ وأصل القرن الشيء الطالع كقرن ما له قرن من الحيوان‏.‏ ‏}‏مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم‏}‏ خروج من الغيبة إلى الخطاب؛ عكسه ‏}‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين؛ بهم بريح طيبة‏}‏يونس‏:‏ 22‏]‏‏.‏ وقال أهل البصرة أخبر عنهم بقوله ‏}‏ألم يروا‏}‏ وفيهم محمد عليه السلام وأصحابه؛ ثم خاطبهم معهم؛ والعرب تقول‏:‏ قلت لعبدالله ما أكرمه‏:‏ وقلت لعبدالله ما أكرمك؛ ولو جاء على ما تقدم من الغيبة لقال‏:‏ ما لم نمكن لهم‏.‏ ويجوز مكنه ومكن له؛ فجاء باللغتين جميعا؛ أي أعطيناهم ما لم نعطكم من الدنيا‏.‏ ‏}‏وأرسلنا السماء عليهم مدرارا‏}‏ يريد المطر الكثير؛ عبر عنه بالسماء لأنه من السماء ينزل؛ ومنه قوله الشاعر‏:‏

إذا سقط السماء بأرض قوم

و‏}‏مدرارا‏}‏ بناء دال على التكثير؛ كمذكار للمرأة التي كثرت ولادتها للذكور؛ ومئناث للمرأة التي تلد الإناث؛ يقال‏:‏ در اللبن يدر إذا أقبل على الحالب بكثرة‏.‏ وانتصب ‏}‏مدارا‏}‏ على الحال‏.‏ ‏}‏وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم‏}‏ أي من تحت أشجارهم ومنازلهم؛ ومنه قوله فرعون‏{‏وهذه الأنهار تجري من تحتي‏}‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏ والمعنى‏:‏ وسعنا عليهم النعم فكفروها‏.‏ ‏}‏فأهلكناهم بذنوبهم‏}‏ أي بكفرهم فالذنوب سبب الانتقام وزوال النعم‏.‏ ‏}‏وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين‏}‏ أي أوجدنا؛ فليحذر هؤلاء من الإهلاك أيضا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7‏)‏

‏{‏ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس‏}‏ الآية‏.‏ المعنى‏:‏ ولو نزلنا يا محمد بمرأى منهم كما زعموا وطلبوا كلاما مكتوبا ‏}‏في قرطاس‏}‏ وعن ابن عباس‏:‏ كتابا معلقا بين السماء والأرض وهذا يبين لك أن التنزيل على وجهين؛ أحدهما‏:‏ على معنى نزله عليك الكتاب بمعنى نزول الملك به‏.‏ والآخر‏:‏ ولو نزلنا كتابا في قرطاس من يمسكه الله بين السماء والأرض؛ وقال‏{‏نزلنا‏}‏ على المبالغة بطول مكث الكتاب بين السماء والأرض والكتاب مصدر بمعنى الكتابة فبين أن الكتابة في قرطاس؛ لأنه غير معقول كتابة إلا في قرطاس أي في صحيفة والقرطاس الصحيفة؛ ويقال‏:‏ قرطاس بالضم؛ وقرطس فلان إذا رمى فأصاب الصحيفة الملزقة بالهدف‏.‏ ‏}‏فلمسوه بأيديهم‏}‏ أي فعاينوا ذلك ومسوه باليد كما اقترحوا وبالغوا في ميزه وتقليبه جسا بأيديهم ليرتفع كل ارتياب ويزول عنهم كله إشكال، لعاندوا فيه وتابعوا كفرهم، وقالوا‏:‏ سحر مبين إنما سكرت أبصارنا وسحرنا؛ وهذه الآية جواب لقولهم‏{‏حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه‏}‏الإسراء‏:‏ 93‏]‏ فأعلم الله بما سبق في علمه من أنه لو نزل لكذبوا به‏.‏ قال الكلبي‏:‏ نزلت في النضر بن الحرث وعبدالله بن أبي أمية ونوفل بن خويلد قالوا‏{‏لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا‏}‏الإسراء‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 8 ‏:‏ 10 ‏)‏

‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون، ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون، ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقالوا لولا أنزل عليه ملك‏}‏ اقترحوا هذا أيضا و‏}‏لولا‏}‏ بمعنى هلا‏.‏ ‏}‏ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لو رأوا الملك على صورته لماتوا إذ لا يطيقون رؤيته‏.‏ مجاهد وعكرمة‏:‏ لقامت الساعة‏.‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ لأهلكوا بعذاب الاستئصال؛ لأن الله أجرى سنته بأن من طلب آية فأظهرت له فلم يؤمن أهلكه الله في الحال‏.‏ ‏}‏ثم لا ينظرون‏}‏ أي لا يمهلون ولا يؤخرون‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا‏}‏ أي لا يستطيعون أن يروا الملك في صورته إلا بعد التجسم بالأجسام الكثيفة؛ لأن كله جنس يأنس بجنسه وينفر من غير جنسه؛ فلو جعل الله تعالى الرسول إلى البشر ملكا لنفروا من مقاربته، ولما أنسوا به، ولداخلهم من الرعب من كلامه والاتقاء له ما يكفهم عن كلامه، ويمنعهم عن سؤاله، فلا تعم المصلحة؛ ولو نقله عن صورة الملائكة إلى مثل صورتهم ليأنسوا به وليسكنوا إليه لقالوا‏:‏ لست ملكا وإنما أنت بشر فلا نؤمن بك وعادوا إلى مثل حالهم‏.‏ وكانت الملائكة تأتي الأنبياء في صورة البشر فأتوا إبراهيم ولوطا في صورة الآدميين، وأتى جبريل النبي عليه الصلاة والسلام في صورة دحية الكلبي‏.‏ أي لو أنزل ملك لرأوه في صورة رجل كما جرت عادة الأنبياء، ولو نزل على عادته لم يروه؛ فإذا جعلناه رجلا التبس عليهم فكانوا يقولون‏:‏ هذا ساحر مثلك‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى ‏}‏وللبسنا عليهم‏}‏ أي على رؤسائهم كما يلبسون على ضعفتهم وكانوا يقولون لهم إنما محمد بشروا وليس بينه وبينكم فروق فيلبسون عليهم بهذا ويشككونهم؛ فأعلمهم الله عز وجل أنه لو أنزل في ملكا في صورة رجل لوجدوا سبيلا إلى اللبس كما يفعلون‏.‏ واللبس الخلط؛ يقال‏:‏ لبست عليه الأمر ألبسه لبسا أي خلطته؛ وأصله التستر بالثوب ونحوه وقال‏{‏لبسنا‏}‏ بالإضافة إلى نفسه على جهة الخلق، وقال ‏}‏ما يلبسون‏}‏ فأضاف إليهم على جهة الاكتساب‏.‏ ثم قال مؤنسا لنبيه عليه الصلاة والسلام ومعزيا‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق‏}‏ أي نزل بأممهم من العذاب ما أهلكوا به جزاء استهزائهم بأنبيائهم‏.‏ حاق بالشيء يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا نزل؛ قال الله تعالى‏{‏ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله‏}‏فاطر‏:‏ 43‏]‏ و‏}‏ما‏}‏ في قوله‏{‏ما كانوا‏}‏ بمعنى الذي وقيل‏:‏ بمعنى المصدر أي حاق بهم عاقبة استهزائهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏11 ‏:‏ 12‏)‏

‏{‏قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين، قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل سيروا في الأرض‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين المستسخرين المكذبين‏:‏ سافروا في الأرض فانظروا واستخبروا لتعرفوا ما حل بالكفرة قبلكم من العقاب وأليم العذاب وهذا السفر مندوب إليه إذا كان على سبيل الاعتبار بآثار من خلا من الأمم وأهل الديار، والعاقبة آخر الأمر‏.‏ والمكذبون هنا من كذب الحق وأهله لا من كذب بالباطل‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض‏}‏ هذا أيضا احتجاج عليهم؛ المعنى قل لهم يا محمد‏{‏لمن في السماوات والأرض‏}‏ فإن قالوا لمن هو‏؟‏ فقل هو ‏}‏لله‏}‏ المعنى‏:‏ إذا ثبت أن له ما في السماوات والأرض وأنه خالق الكل إما باعترافهم أو بقيام الحجة عليهم، فالله قادر على أن يعاجلهم بالعقاب ويبعثهم بعد الموت، ولكنه ‏}‏كتب على نفسه الرحمة‏}‏ أي وعد بها فضلا منه وكرما فلذلك أمهل وذكر النفس هنا عبارة عن وجود وتأكيد وعده، وارتفاع الوسائط دونه؛ ومعنى الكلام الاستعطاف منه تعالى للمتولين عنه إلى الإقبال إليه، وإخبار منه سبحانه بأنه رحيم بعباده لا يعجل عليهم بالعقوبة، ويقبل منهم الإنابة والتوبة‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسوله الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده إن رحمتي تغلب غضبي‏)‏ أي لما أظهر قضاءه وأبرزه لمن شاء أظهر كتابا في اللوح المحفوظ أو فيما شاءه مقتضاه خبر حق ووعد صدق ‏}‏إن رحمتي تغلب غضبي‏}‏ أي تسبقه وتزيد عليه‏.‏

قوله تعالى‏{‏ليجمعنكم‏}‏ اللام لام القسم، والنون نون التأكيد‏.‏ وقال الفراء وغيره‏:‏ يجوز أن يكون تمام الكلام عند قوله‏{‏الرحمة‏}‏ ويكون ما بعده مستأنفا على جهة التبيين؛ فيكون معنى ‏}‏ليجمعنكم‏}‏ ليمهلنكم وليؤخرن جمعكم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليجمعنكم أي في القبور إلى اليوم الذي أنكرتموه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏إلى‏)‏ بمعنى في، أي ليجعنكم في يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون موضع ‏}‏ليجمعنكم‏}‏ نصبا على البدل من الرحمة؛ فتكون اللام بمعنى ‏(‏أن‏)‏ المعنى‏:‏ كتب ربكم على نفسه ليجمعنكم، أي أن يجمعكم؛ وكذلك قال كثير من النحويين في قوله تعالى‏{‏ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه‏}‏يوسف‏:‏ 35‏]‏ أي أن يسجنوه‏.‏ وقيل‏:‏ موضعه نصب ‏(‏بكتب‏)‏؛ كما تكون ‏(‏أن‏)‏ في قوله عز وجل ‏}‏كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة‏}‏الأنعام‏:‏ 54‏]‏ وذلك أنه مفسر للرحمة بالإمهال إلى يوم القيامة؛ عن الزجاج‏.‏ ‏}‏لا ريب فيه‏}‏ لا شك فيه‏.‏ ‏}‏الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون‏}‏ ابتداء وخبر، قاله الزجاج، وهو أجود ما قيل فيه؛ تقول‏:‏ الذي يكرمني فله درهم، فالفاء تتضمن معنى الشرط والجزاء‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ إن شئت كان ‏(‏الذين‏)‏ في موضع نصب على البدل من الكاف والميم في ‏(‏ليجمعنكم‏)‏ أي ليجمعن المشركين الذين خسروا أنفسهم؛ وأنكروه المبرد وزعم أنه خطأ؛ لأنه لا يبدل من المخاطب ولا من المخاطب، لا يقال‏:‏ مررت بك زيد ولا مررت بي زيد لأن هذا لا يشكل فيبين‏.‏ قال القتبي‏:‏ يجوز أن يكون ‏(‏الذين‏)‏ جزاء على البدل من ‏(‏المكذبين‏)‏ الذين تقدم ذكرهم‏.‏ أو على النعت لهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏الذين‏)‏ نداء مفرد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 13 ‏:‏ 16 ‏)‏

‏{‏وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم، قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وله ما سكن في الليل والنهار‏}‏ أي ثبت، وهذا احتجاج عليهم أيضا‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت الآية لأنهم قالوا‏:‏ علمنا أنه ما يحملك على ما تفعل إلا الحاجة، فنحن نجمع لك من أموالنا حتى تصير أغنانا؛ فقال الله تعالى‏:‏ أخبرهم أن جميع الأشياء لله، فهو قادر على أن يغنيني‏.‏ و‏(‏سكن‏)‏ معناه هدأ واستقر؛ والمراد ما سكن وما تحرك، فحذف لعلم السامع‏.‏ وقيل‏:‏ خص الساكن بالذكر لان ما يعمه السكون أكثر مما تعمه الحركة‏.‏ وقيل المعنى ما خلق، فهو عام في جميع المخلوقات متحركها وساكنها، فإنه يجري عليه الليل والنهار؛ وعلى هذا فليس المراد بالسكون ضد الحركة بل المراد الخلق، وهذا أحسن ما قيل؛ لأنه يجمع شتات الأقوال‏.‏ ‏}‏وهو السميع‏}‏ لأصواتهم ‏}‏العليم‏}‏ بأسرارهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل أغير الله أتخذ وليا‏}‏ مفعولان؛ لما دعوه إلى عبادة الأصنام دين آبائه أنزل الله تعالى ‏}‏قل‏}‏ يا محمد‏{‏أغير الله اتخذ وليا‏}‏ أي ربا ومعبودا وناصرا دون الله‏.‏ ‏}‏فاطر السماوات والأرض‏}‏ بالخفض على النعت لاسم الله؛ وأجاز الأخفش الرفع على إضمار مبتدأ‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ويجوز النصب على المدح‏.‏ أبو علي الفارسي‏:‏ ويجوز نصبه على فعل مضمر كأنه قال‏:‏ اترك فاطر السماوات والأرض‏؟‏ لأن قوله‏{‏أغير الله اتخذ وليا‏}‏ يدل على ترك الولاية له، وحسن إضماره لقوة هذه الدلالة‏.‏ ‏}‏وهو يطعم ولا يطعم‏}‏ كذا قراءة العامة، أي يرزق ولا يرزق؛ دليله على قوله تعالى‏{‏ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون‏}‏الذاريات‏:‏57‏]‏ وقرأ سعيد بن جبير ومجاهد والأعمش‏:‏ وهو يطعم ولا يطعم، وهي قراءة حسنة؛ أي أنه يرزق عباده، وهو سبحانه غير محتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوقون من الغذاء‏.‏ وقرئ بضم الياء وكسر العين في الفعلين، أي إن الله يطعم عباده ويرزقهم والولي لا يطعم نفسه ولا من يتخذه‏.‏ وقرئ بفتح الياء والعين في الأول أي الولي ‏(‏ولا يطعم‏)‏ بضم الياء وكسر العين‏.‏ وخص الإطعام بالذكر دون غيره من ضروب الإنعام؛ لأن الحاجة إليه أمس لجميع الأنام‏.‏ ‏}‏قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم‏}‏ أي استسلم لأمر الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ أول من أخلص أي من قومي وأمتي؛ عن الحسن وغيره‏.‏ ‏}‏ولا تكونن من المشركين‏}‏ أي وقيل لي‏{‏ولا تكونن من المشركين‏}‏‏.‏ ‏}‏قل إني أخاف إن عصيت ربي‏}‏ أي بعبادة غيره أن يعذبني، والخوف توقع المكروه‏.‏ قال ابن عباس‏{‏أخاف‏}‏ هنا بمعنى أعلم‏.‏ ‏}‏من يصرف عنه‏}‏ أي العذاب ‏}‏يومئذ‏}‏ يوم القيامة ‏}‏فقد رحمه‏}‏ أي فاز ونجا ورحم‏.‏

وقرأ الكوفيون ‏}‏من يصرف‏}‏ بفتح الياء وكسر الراء، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد؛ لقوله‏{‏قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله‏}‏ ولقوله‏{‏فقد رحمه‏}‏ ولم يقل رحم على المجهول، ولقراءة أبي ‏}‏من يصرف الله عنه‏}‏ واختار سيبويه القراءة الأولى - قراءة أهل المدينة وأبي عمرو - قال سيبويه‏:‏ وكلما قل الإضمار في الكلام كان أولى؛ فأما قراءة من قرأ ‏}‏من يصرف‏}‏ بفتح الياء فتقديره‏:‏ من يصرف الله عنه العذاب، وإذا قرئ ‏(‏من يصرف عنه‏)‏ فتقديره‏:‏ من يصرف عنه العذاب‏.‏ ‏}‏وذلك الفوز المبين‏}‏ أي النجاة البينة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏17‏)‏

‏{‏وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو‏}‏ المس والكشف من صفات الأجسام، وهو هنا مجاز وتوسع؛ والمعنى‏:‏ إن تنزل بك يا محمد شدة من فقر أو مرض فلا رافع وصارف له إلا هو، وإن يصبك بعافية ورخاء ونعمة ‏}‏فهو على كل شيء قدير‏}‏ من الخير والضر روى ابن عباس قال‏:‏ كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي‏:‏ ‏(‏يا غلام - أو يا بني - ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن‏)‏‏؟‏ فقلت‏:‏ بلى؛ فقال‏:‏ ‏(‏احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله فقد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق كلهم جميعا أرادوا أن يضروك بشيء لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه واعمل الله بالشكر واليقين واعلم أن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا‏)‏ أخرجه أبو بكر بن ثابت الخطيب في كتاب ‏(‏الفصل والوصل‏)‏ وهو حديث صحيح؛ وقد خرجه الترمذي، وهذا أتم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 18‏:‏ 19 ‏)‏

‏{‏وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهو القاهر فوق عباده‏}‏ القهر الغلبة، والقاهر الغالب، وأقهر الرجل إذا صير بحال المقهور الذليل؛ قال الشاعر‏:‏

تمنى حصين أن يسود جذاعه فأمسى حصين قد أذل وأقهرا

وقهر غلب‏.‏ ومعنى ‏(‏فوق عباده‏)‏ فوقية الاستعلاء بالقهر والغلبة عليهم؛ أي هم تحت تسخيره لا فوقية مكان؛ كما تقول‏:‏ السلطان فوق رعيته أي بالمنزلة والرفعة‏.‏ وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة، وهو منع غيره عن بلوغ المراد‏.‏ ‏}‏وهو الحكيم‏}‏ في أمره ‏}‏الخبير‏}‏ بأعمال عباده، أي من اتصف بهذه الصفات يجب ألا يشرك به‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل أي شيء أكبر شهادة‏}‏ وذلك أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت الآية؛ عن الحسن وغيره‏.‏ ولفظ ‏(‏شيء‏)‏ هنا واقع موقع اسم الله تعالى؛ المعنى الله أكبر شهادة أي انفراده بالربوبية، وقيام البراهين على توحيده أكبر شهادة وأعظم؛ فهو شهيد بيني وبينكم على أني قد بلغتكم وصدقت فيما قلته وادعيته من الرسالة‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأوحي إلي هذا القرآن‏}‏ أي والقرآن شاهد بنبوتي‏.‏ ‏}‏لأنذركم به‏}‏ يا أهل مكة‏.‏ ‏}‏ومن بلغ‏}‏ أي ومن بلغه القرآن‏.‏ فحذف ‏(‏الهاء‏)‏ لطول الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ ومن بلغ الحلم‏.‏ ودل بهذا على أن من لم يبلغ الحلم ليس بمخاطب ولا متعبد‏.‏ وتبليغ القرآن والسنة مأمور بهما، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغهما؛ فقال‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏}‏المائدة‏:‏ 67‏]‏‏.‏ وفي صحيح البخاري عن عبدالله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏.‏ وفي الخبر أيضا؛ من بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله أخذ به أو تركه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له‏.‏ وقال القرظي‏:‏ من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدا صلى الله عليه وسلم وسمع منه‏.‏ وقرأ أبو نهيك‏:‏ ‏(‏وأوحى إلي هذا القرآن‏)‏ مسمى الفاعل؛ وهو معنى قراءة الجماعة‏.‏ ‏}‏أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى‏}‏ استفهام توبيخ وتقريع‏.‏ وقرئ ‏(‏أئنكم‏)‏ بهمزتين على الأصل‏.‏ وإن خففت الثانية قلت‏:‏ ‏(‏أئنكم‏)‏‏.‏ وروى الأصمعي عن أبي عمرو ونافع ‏(‏أئنكم‏)‏؛ وهذه لغة معروفة، تجعل بين الهمزتين ألف كراهة لالتقائهما؛ قال الشاعر‏:‏

أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا أأنت أم أم سالم

ومن قرأ ‏}‏أئنكم‏}‏ على الخبر فعلى أنه قد حقق عليهم شركهم‏.‏ وقال‏{‏ آلهة أخرى‏}‏ ولم يقل‏:‏ ‏(‏آخر‏)‏؛ قال الفراء‏:‏ لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث؛ ومنه قوله‏{‏ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها‏}‏طه‏:‏ 51‏]‏ ، وقوله‏{‏فما بال القرون الأولى‏}‏طه‏:‏ 51‏]‏ ولو قال‏:‏ الأول والآخر صح أيضا‏.‏ ‏}‏قل لا أشهد قل‏}‏ أي فأنا لا أشهد معكم فحذف لدلالة الكلام عليه ونظيره ‏}‏فإن شهدوا فلا تشهد معهم‏}‏الأنعام‏:‏ 150‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20‏)‏

‏{‏الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين آتيناهم الكتاب‏}‏ يريد اليهود والنصارى الذين عرفوا وعانوا و‏(‏الذين‏)‏ في موضع رفع بالابتداء‏.‏ ‏}‏يعرفونه‏}‏ في موضع الخبر؛ أي يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم؛ عن الحسن وقتادة، وهو قول الزجاج‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الكتاب، أي يعرفونه على ما يدل عليه، أي على الصفة التي هو بها من دلالته على صحة أمر النبي صلى الله عليه وسلم وآله‏.‏ ‏}‏الذين خسروا أنفسهم‏}‏ في موضع النعت؛ ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره ‏}‏فهم لا يؤمنون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏21 ‏:‏ 22 ‏)‏

‏{‏ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون، ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن أظلم‏}‏ ابتداء وخبر أي لا أحد أظلم ‏}‏ممن افترى‏}‏ أي اختلق ‏}‏على الله كذبا أو كذب بآياته‏}‏ يريد القرآن والمعجزات‏.‏ ‏}‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ قيل‏:‏ معناه في الدنيا؛ ثم استأنف فقال ‏}‏ويوم نحشرهم جميعا‏}‏ على معنى واذكر ‏}‏يوم نحشرهم‏}‏ وقيل‏:‏ معناه أنه لا يفلح الظالمون في الدنيا ولا يوم نحشرهم؛ فلا يوقف على هذا التقدير على قوله‏:‏ ‏(‏الظالمون‏)‏ لأنه متصل‏.‏ وقيل‏:‏ هو متعلق بما بعده وهو ‏(‏انظر‏)‏ أي انظر كيف كذبوا يوم نحشرهم؛ أي كيف يكذبون يوم نحشرهم‏؟‏‏.‏ ‏}‏ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم‏}‏ سؤال إفضاح لا إفصاح‏.‏ ‏}‏الذين كنتم تزعمون‏}‏ أي في أنهم شفعاء لكم عند الله بزعمكم، وأنها تقربكم منه زلفى؛ وهذا توبيخ لهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كل زعم في القرآن فهو كذب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏23‏)‏

‏{‏ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثم لم تكن فتنتهم‏}‏ الفتنة الاختبار أي لم يكن جوابهم حين اختبروا بهذا السؤال، ورأوا الحقائق، وارتفعت الدواعي‏.‏ ‏}‏إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ تبرؤوا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوزه ومغفرته للمؤمنين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم، ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره، فإذا رأى المشركون ذلك؛ قالوا إن ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول إنا كنا أهل ذنوب ولم نكن مشركين؛ فقال الله تعالى‏:‏ أما إذ كتموا الشرك فاختموا على أفواههم، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، فعند ذلك يعرف المشركون أن الله لا يكتم حديثا؛ فذلك قوله‏{‏يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا‏}‏النساء‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ تأويل هذه الآية لطيف جدا، أخبر الله عز وجل بقصص المشركين وافتتانهم بشركهم، ثم أخبر أن فتنتهم لم تكن حين رأوا الحقائق إلا أن انتفوا من الشرك، ونظير هذا في اللغة أن ترى إنسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه، فيقال‏:‏ ما كانت محبتك إياه إلا أن تبرأت منه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هذا خاص بالمنافقين جروا على عادتهم في الدنيا، ومعنى ‏(‏فتنتهم‏)‏ عاقبة فتنتهم أي كفرهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه معذرتهم‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال‏:‏ ‏(‏فيلقى العبد فيقول أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع فيقول بلى أي رب‏:‏ فيقول أفظننت أنك ملاقي فيقول لا، فيقول إني أنساك كما نسيتني‏.‏ ثم يلقى الثاني فيقول له ويقول هو مثل ذلك بعينه، ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك فيقول يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك وصليت وصمت وتصدقت يثني بخير ما استطاع قال‏:‏ فيقال ههنا إذا ثم يقال له الآن نبعث شاهدا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏24‏)‏

‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏

قوله تعالى‏{‏انظر كيف كذبوا على أنفسهم‏}‏ كذب المشركين قولهم‏:‏ إن عبادة الأصنام تقربنا إلى الله زلفى، بل ظنوا ذلك وظنهم الخطأ لا يعذرهم ولا يزيل اسم الكذب عنهم، وكذب المنافقين باعتذارهم بالباطل، وجحدهم نفاقهم‏.‏ ‏}‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏}‏ أي فانظر كيف ضل عنهم افتراؤهم أي تلاشى وبطل ما كانوا يظنونه من شفاعة آلهتهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏وضل عنهم ما كانوا يفترون‏)‏ أي فارقهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلم يغن عنهم شيئا؛ عن الحسن‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى عزب عنهم افتراؤهم لدهشهم، وذهول عقولهم‏.‏ والنظر في قوله‏:‏ ‏(‏انظر‏)‏ يراد به نظر الاعتبار؛ ثم قيل‏{‏كذبوا‏}‏ بمعنى يكذبون، فعبر عن المستقبل بالماضي؛ وجاز أن يكذبوا في الآخرة لأنه موضع دهش وحيرة وذهول عقل‏.‏ وقيل‏:‏ لا يجوز أن يقع منهم كذب في الآخرة؛ لأنها دار جزاء على ما كان في الدنيا - وعلى ذلك أكثر أهل النظر - وإنما ذلك في الدنيا؛ فمعنى ‏}‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ على هذا‏:‏ ما كنا مشركين عند أنفسنا؛ وعلى جواز أن يكذبوا في الآخرة يعارضه قوله‏:‏ ‏(‏ولا يكتمون الله حديثا‏)‏؛ ولا معارضة ولا تناقض؛ لا يكتمون الله حديثا في بعض المواطن إذا شهدت عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بعملهم، ويكذبون على أنفسهم في بعض المواطن قبل شهادة الجوارح على ما تقدم‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ قال‏:‏ اعتذروا وحلفوا؛ وكذلك قال ابن أبي نجيح وقتادة‏:‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ لما رأوا أن الذنوب تغفر إلا الشرك بالله والناس يخرجون من النار قالوا‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ وقيل‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏ أي علمنا أن الأحجار لا تضر ولا تنفع، وهذا وإن كان صحيحا من القول فقد صدقوا ولم يكتموا، ولكن لا يعذرون بهذا؛ فإن المعاند كافر غير معذور‏.‏ ثم قيل في قوله‏{‏ثم لم تكن فتنتهم‏}‏ خمس قراءات‏:‏ قرأ حمزة والكسائي ‏}‏يكن‏}‏ بالياء ‏}‏فتنتهم‏}‏ بالنصب خبر ‏}‏يكن‏}‏ ‏}‏إلا أن قالوا‏}‏ اسمها أي إلا قولهم؛ فهذه قراءة بينة‏.‏ وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو ‏}‏تكن‏}‏ بالتاء ‏}‏فتنتهم‏}‏ بالنصب ‏(‏إلا أن قالوا‏)‏ أي إلا مقالتهم‏.‏ وقرأ أبي وابن مسعود وما كان - بدل قوله ‏(‏ثم لم تكن‏)‏ - فتنتهم إلا أن قالوا‏)‏‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية حفص، والأعمش من رواية المفضل، والحسن وقتادة وغيرهم ‏(‏ثم لم تكن‏}‏ بالتاء ‏}‏فتنتهم‏}‏ بالرفع اسم ‏}‏تكن‏}‏ والخبر ‏}‏إلا أن قالوا‏}‏ فهذه أربع قراءات‏.‏ الخامسة‏:‏ ‏(‏ثم لم يكن‏}‏ بالياء ‏(‏فتنتهم‏)‏؛ رفع ويذكر الفتنة لأنها بمعنى الفتون، ومثله ‏}‏فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى‏}‏البقرة‏:‏ 275‏]‏‏.‏ ‏}‏والله‏}‏ الواو واو القسم ‏}‏ربنا‏}‏ نعت لله عز وجل، أو بدل‏.‏ ومن نصب فعلى النداء أي يا ربنا وهي قراءة حسنة؛ لأن فيها معنى الاستكانة والتضرع، إلا أنه فصل بين القسم وجوابه بالمنادى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏25‏)‏

‏{‏ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومنهم من يستمع إليك‏}‏ أفرد على اللفظ يعني المشركين كفار مكة‏.‏ ‏}‏وجعلنا على قلوبهم أكنة‏}‏ أي فعلنا ذلك بهم مجازاة على كفرهم‏.‏ وليس المعنى أنهم لا يسمعون ولا يفقهون، ولكن لما كانوا لا ينتفعون بما يسمعون، ولا ينقادون إلى الحق كانوا بمنزلة من لا يسمع ولا يفهم‏.‏ والأكنة الأغطية جمع كنان مثل الأسنة والسنان، والأعنة والعنان‏.‏ كننت الشيء في كنه إذا صنته فيه‏.‏ وأكننت الشيء أخفيته‏.‏ والكنانة معروفة‏.‏ والكنة ‏(‏بفتح الكاف والنون‏)‏ امرأة أبيك؛ ويقال‏:‏ امرأة الابن أو الأخ؛ لأنها في كنه‏.‏ ‏}‏أن يفقهوه‏}‏ أي يفهموه وهو في موضع نصب؛ المعنى كراهية أن يفهموه، أو لئلا يفهموه‏.‏ ‏}‏وفي آذانهم وقرا‏}‏ عطف عليه أي ثقلا؛ يقال منه‏:‏ وقرت أذنه ‏(‏بفتح الواو‏)‏ توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين‏.‏ وقد وقر الله أذنه يقرها وقرا؛ يقال‏:‏ اللهم قر أذنه‏.‏ وحكى أبو زيد عن العرب‏:‏ أذن موقورة على ما لم يسم فاعله؛ فعلى هذا وقرت ‏(‏بضم الواو‏)‏‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏(‏وقرا‏)‏ بكسر الواو؛ أي جعل، في آذانهم ما سدها عن استماع القول على التشبيه بوقر البعير، وهو مقدار ما يطيق أن يحمل، والوقر الحمل؛ يقال منه‏:‏ نخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير‏.‏ ورجل ذو قرة إذا كان وقورا بفتح الواو؛ ويقال منه‏:‏ وقر الرجل ‏(‏بقضم القاف‏)‏ وقارا، ووقر ‏(‏بفتح القاف‏)‏ أيضا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها‏}‏ أخبر الله تعالى بعنادهم لأنهم لما رأوا القمر منشقا قالوا‏:‏ سحر؛ فأخبر الله عز وجل بردهم الآيات بغير حجة‏.‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا جاؤوك يجادلونك‏}‏ مجادلتهم قولهم‏:‏ تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله؛ عن ابن عباس‏.‏ ‏}‏يقول الذين كفروا‏}‏ يعني قريشا؛ قال ابن عباس‏:‏ قالوا للنضر بن الحرث‏:‏‏]‏ ما يقول محمد‏؟‏ قال‏:‏ أرى تحريك شفتيه وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية، وكان النضر صاحب قصص وأسفار، فسمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار فكان يحدثهم‏.‏ وواحد الأساطير أسطار كأبيات وأباييت؛ عن الزجاج‏.‏ قال الأخفش‏:‏ واحدها أسطورة كأحدوثة وأحاديث‏.‏ أبو عبيدة‏:‏ واحدها إسطارة‏.‏ النحاس‏:‏ واحدها أسطور مثل عثكول‏.‏ ويقال‏:‏ هو جمع أسطار، وأسطار جمع سطر؛ يقال‏:‏ سطر وسطر‏.‏ والسطر الشيء الممتد المؤلف كسطر الكتاب‏.‏ القشيري‏:‏ واحدها أسطير‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع لا واحد له كمذاكير وعباديد وأبابيل أي ما سطره الأولون في الكتب‏.‏ قال الجوهري وغيره‏:‏ الأساطير الأباطيل والترهات‏.‏ قلت‏:‏ أنشدني بعض أشياخي‏:‏

تطاول ليلي واعترتني وساوسي لآت أتى بالترهات الأباطيل

 الآية رقم ‏(‏26‏)‏

‏{‏وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وهم ينهون عنه وينأون عنه‏}‏ النهي الزجر، والنأي البعد، وهو عام في جميع الكفار أي ينهون عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وينأون عنه؛ عن ابن عباس والحسن‏.‏ وقيل‏:‏ هو خاص بأبي طالب ينهى الكفار عن إذاية محمد صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عن الإيمان به؛ عن ابن عباس أيضا‏.‏ وروى أهل السير قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى الكعبة يوما وأراد أن يصلي، فلما دخل في الصلاة قال أبو جهل - لعنه الله - ‏:‏ من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته‏.‏ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فانفتل النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم أتى أبا طالب عمه فقال‏:‏ ‏(‏يا عم ألا ترى إلى ما فعل بي‏)‏ فقال أبو طالب‏:‏ من فعل هذا بك‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ عبدالله بن الزبعرى؛ فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم؛ فلما رأوا أبا طالب قد أقبل جعل القوم ينهضون؛ فقال أبو طالب‏:‏ والله لئن قام رجل جللته بسيفي فقعدوا حتى دنا إليهم، فقال‏:‏ يا بني من الفاعل بك هذا‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏عبدالله بن الزبعرى‏)‏؛ فأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم وثيابهم وأساء لهم القول؛ فنزلت هذه الآية ‏(‏وهم ينهون عنه وينأون عنه‏)‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عم نزلت فيك آية‏)‏ قال‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تمنع قريشا أن تؤذيني وتأبى أن تؤمن بي‏)‏ فقال أبو طالب‏:‏

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فأصدع بأمرك ما عليك غضاضة وابشر بذاك وقر منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصحي فلقد صدقت وكنت قبل أمينا

وعرضت دينا قد عرفت بأنه من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحا بذاك يقينا

فقالوا‏:‏ يا رسول الله هل تنفع أبا طالب نصرته‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم دفع عنه بذاك الغل ولم يقرن مع الشياطين ولم يدخل في جب الحيات والعقارب إنما عذابه في نعلين من نار في رجليه يغلي منهما دماغه في رأسه وذلك أهون أهل النار عذابا‏)‏‏.‏ وأنزل الله على رسوله ‏}‏فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل‏}‏الأحقاف‏:‏ 35‏]‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه‏:‏ ‏(‏قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة‏)‏ قال‏:‏ لولا تعيرني قريش يقولون‏:‏ إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك؛ فأنزل الله تعالى‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء‏}‏القصص‏:‏ 56‏]‏ كذا الرواية المشهورة ‏(‏الجزع‏)‏ بالجيم والزاي ومعناه الخوف‏.‏ وقال أبو عبيد‏:‏ ‏(‏الخرع‏)‏ بالخاء المنقوطة والراء المهملة‏.‏ قال يعني الضعف والخور، وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أهون أهل النار عذابا أبو طالب وهو منتعل بنعلين من نار يغلى منهما دماغه‏)‏‏.‏ وأما عبدالله بن الزبعرى فإنه أسلم عام الفتح وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل عذره؛ وكان شاعرا مجيدا؛ فقال يمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وله في مدحه أشعار كثيرة ينسخ بها ما قد مضى في كفره؛ منها قوله‏:‏

منع الرقاد بلابل وهموم والليل معتلج الرواق بهيم

مما أتاني أن أحمد لامني فيه فبت كأنني محموم

يا خير من حملت على أوصالها عيرانة سرح اليدين غشوم

إني لمعتذر إليك من الذي أسديت إذ أنا في الضلال أهيم

أيام تأمرني بأغوى خطة سهم وتأمرني بها مخزوم

وأمد أسباب الردى ويقودني أمر الغواة وأمرهم مشؤوم

فاليوم آمن بالنبي محمد قلبي ومخطئ هذه محروم

مضت العداوة فانقضت أسبابها وأتت أواصر بيننا وحلوم

فاغفر فدى لك والداي كلاهما زللي فإنك راحم مرحوم

وعليك من سمة المليك علامة نور أغر وخاتم مختوم

أعطاك بعد محبة برهانه شرفا وبرهان الإله عظيم

ولقد شهدت بأن دينك صادق حقا وأنك في العباد جسيم

والله يشهد أن أحمد مصطفى مستقبل في الصالحين كريم

قرم علا بنيانه من هاشم فرع تمكن في الذرى وأروم

وقيل‏:‏ المعنى ‏(‏ينهون عنه‏)‏ أي هؤلاء الذين يستمعون ينهون عن القرآن ‏(‏وينأون عنه‏)‏‏.‏ عن قتادة؛ فالهاء على القولين الأولين في ‏(‏عنه‏)‏ للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلى قول قتادة للقرآن‏.‏ ‏}‏وإن يهلكون إلا أنفسهم‏}‏ ‏(‏إن‏)‏ نافية أي وما يهلكون إلا أنفسهم بإصرارهم على الكفر، وحملهم أوزار الذين يصدونهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏27‏)‏

‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار‏}‏ أي إذ وقفوا غدا و‏(‏إذ‏)‏ قد تستعمل في موضع ‏(‏إذا‏)‏ و‏(‏إذا‏)‏ في موضع ‏(‏إذ‏)‏ وما سيكون فكأنه كان؛ لأن خبر الله تعالى حق وصدق، فلهذا عبر بالماضي‏.‏ ومعنى ‏(‏إذ وقفوا‏)‏ حبسوا يقال‏:‏ وقفته وقفا فوقف وقوفا‏.‏ وقرأ ابن السميقع ‏(‏إذ وقفوا‏)‏ بفتح الواو والقاف من الوقوف‏.‏ ‏}‏على النار‏}‏ أي هم فوقها على الصراط وهي تحتهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏على‏)‏ بمعنى الباء؛ أي وقفوا بقربها وهم يعاينونها‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ جمعوا، يعني على أبوابها‏.‏ ويقال‏:‏ وقفوا على متن جهنم والنار تحتهم‏.‏ وفي الخبر‏:‏ أن الناس كلهم يوقفون على متن جهنم كأنها متن إهالة، ثم ينادي مناد خذي أصحابك ودعي أصحابي‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏وقفوا‏)‏ دخلوها - أعاذنا الله منها - فعلى بمعنى ‏(‏في‏)‏ أي وقفوا في النار‏.‏ وجواب ‏(‏لو‏)‏ محذوف ليذهب الوهم إلى كل شيء فيكون أبلغ في التخويف؛ والمعنى‏:‏ لو تراهم في تلك الحال لرأيت أسوأ حال، أو لرأيت منظرا هائلا، أو لرأيت أمرا عجبا وما كان مثل هذا التقدير‏.‏

قوله تعالى‏{‏فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين‏}‏ بالرفع في الأفعال الثلاثة عطفا قراءة أهل المدينة والكسائي؛ وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم بالضم‏.‏ ابن عامر على رفع ‏(‏نكذب‏)‏ ونصب ‏(‏ونكون‏)‏ وكله داخل في معنى التمني؛ أي لا تمنوا الرد وألا يكذبوا وأن يكونوا من المؤمنين‏.‏ واختار سيبويه القطع في ‏(‏ولا نكذب‏)‏ فيكون غير داخل في التمني؛ المعنى‏:‏ ونحن لا نكذب على معنى الثبات على ترك التكذيب؛ أي لا نكذب رددنا أو لم نرد؛ قال سيبويه‏:‏ وهو مثل قوله دعني ولا أعود أي لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني‏.‏ واستدل أبو عمرو على خروجه من التمني بقوله‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏ لأن الكذب لا يكون في التمني إنما يكون في الخبر‏.‏ وقال من جعله داخلا في التمني‏:‏ المعنى وإنهم لكاذبون في الدنيا في إنكارهم البعث وتكذيبهم الرسل‏.‏ وقرأ حمزة وحفص بنصب ‏(‏نكذب‏)‏ و‏(‏نكون‏)‏ جوابا للتمني؛ لأنه غير واجب، وهما داخلان في التمني على معنى أنهم تمنوا الرد وترك التكذيب والكون مع المؤمنين‏.‏ قال أبو إسحاق‏:‏ معنى ‏(‏ولا نكذب‏)‏ أي إن رددنا لم نكذب‏.‏ والنصب في ‏(‏الكذب‏)‏ و‏(‏نكون‏)‏ بإضمار ‏(‏أن‏)‏ كما ينصب في جواب الاستفهام والأمر والنهي والعرض؛ لأن جميعه غير واجب ولا واقع بعد، فينصب، الجواب مع الواو كأنه عطف على مصدر الأول؛ كأنهم قالوا‏:‏ يا ليتنا يكون لنا رد وانتفاء من الكذب، وكون من المؤمنين؛ فحملا على مصدر ‏(‏نرد‏)‏ لانقلاب المعنى إلى الرفع، ولم يكن بد من إضمار ‏(‏أن‏)‏ فيه يتم النصب في الفعلين‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏(‏ونكون‏)‏ بالنصب على جواب التمني كقولك‏:‏ ليتك تصير إلينا ونكرمك، أي ليت مصيرك يقع وإكرامنا يقع، وأدخل الفعلين الأولين في التمني، أو أراد‏:‏ ونحن لا نكرمك على القطع على ما تقدم؛ يحتمل‏.‏ وقرأ أبي ‏(‏ولا نكذب بآيات ربنا أبدا‏)‏‏.‏ وعنه وابن مسعود ‏(‏يا ليتنا نرد فلا نكذب‏)‏ بالفاء والنصب، والفاء ينصب بها في الجواب كما ينصب بالواو؛ عن الزجاج‏.‏ وأكثر البصريين لا يجيزون الجواب إلا بالفاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏28‏)‏

‏{‏بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون‏}‏

قوله تعالى‏{‏بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل‏}‏ بل إضراب عن تمنيهم وادعائهم الإيمان لو ردوا‏.‏ واختلفوا في معنى ‏(‏بدا لهم‏)‏ على أقوال بعد تعيين من المراد؛ فقيل‏:‏ المراد المنافقون لأن اسم الكفر مشتمل عليهم، فعاد الضمير على بعض المذكورين؛ قال النحاس‏:‏ وهذا من الكلام العذب الفصيح‏.‏ وقيل‏:‏ المراد الكفار وكانوا إذا وعظهم النبي صلى الله عليه وسلم خافوا وأخفوا ذلك الخوف لئلا يفطن بهم ضعفاؤهم، فيظهر يوم القيامة؛ ولهذا قال الحسن‏:‏ ‏(‏بدا لهم‏)‏ أي بدا لبعضهم ما كان يخفيه عن بعض‏.‏ وقيل‏:‏ بل ظهر لهم ما كانوا يجحدونه من الشرك فيقولون‏:‏ ‏(‏والله ربنا ما كنا مشركين‏)‏ فينطق الله جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك حين ‏(‏بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل‏)‏‏.‏ قال أبو روق‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏بدا لهم‏)‏ ما كانوا يكتمونه من الكفر؛ أي بدت أعمالهم السيئة كما قال‏{‏وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون‏}‏الزمر‏:‏47‏]‏‏.‏ قال المبرد‏:‏ بدا لهم جزاء كفرهم الذي كانوا يخفونه‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى بل ظهر للذين اتبعوا الغواة ما كان الغواة يخفون عنهم من أمر البعث والقيامة؛ لأن بعده ‏}‏وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو ردوا‏}‏ قيل‏:‏ بعد معاينة العذاب‏.‏ وقيل‏:‏ قبل معاينته‏.‏ ‏}‏لعادوا لما نهوا عنه‏}‏ أي لصاروا ورجعوا إلى ما نهوا عنه من الشرك لعلم الله تعالى فيهم أنهم لا يؤمنون، وقد عاين إبليس ما عاين من آيات الله ثم عاند‏.‏ قوله تعالى‏{‏وإنهم لكاذبون‏}‏ إخبار عنهم، وحكاية عن الحال التي كانوا عليها في الدنيا من تكذيبهم الرسل، وإنكارهم البعث؛ كما قال‏{‏وإن ربك ليحكم بينهم‏}‏النحل‏:‏124‏]‏ فجعله حكاية عن الحال الآتية‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وإنهم لكاذبون فيما أخبروا به عن أنفسهم من أنهم لا يكذبون ويكونون من المؤمنين‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب ‏(‏ولو ردوا‏)‏ بكسر الراء؛ لأن الأصل رددوا فنقلت كسرة الدال على الراء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏29‏)‏

‏{‏وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ ابتداء وخبر و‏(‏إن‏)‏ نافية‏.‏ ‏(‏وما نحن‏)‏ ‏(‏نحن‏)‏ اسم ‏(‏ما‏)‏ بمبعوثين‏}‏ خبرها؛ وهذا ابتداء إخبار عنهم عما قالوه في الدنيا‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ هو داخل في قوله‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‏}‏ ‏}‏وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا‏}‏ أي لعادوا إلى الكفر، واشتغلوا بلذة الحال‏.‏ وهذا يحمل على المعاند كما بيناه في حال إبليس، أو على أن الله يلبس عليهم بعد ما عرفوا، وهذا شائع في العقل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏30‏)‏

‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على ربهم‏}‏ ‏(‏وقفوا‏)‏ أي حبسوا ‏(‏على ربهم‏)‏ أي على ما يكون من أمر الله فيهم‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏على‏)‏ بمعنى ‏(‏عند‏)‏ أي عند ملائكته وجزائه؛ وحيث لا سلطان فيه لغير الله عز وجل؛ تقول‏:‏ وقفت على فلان أي عنده؛ وجواب ‏}‏لو‏}‏ محذوف لعظم شأن الوقوف‏.‏ ‏}‏قال أليس هذا بالحق‏}‏ تقرير وتوبيخ أي أليس هذا البعث كائنا موجودا‏؟‏ ‏}‏قالوا بلى‏}‏ ويؤكدون اعترافهم بالقسم بقولهم‏{‏وربنا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن الملائكة تقول لهم بأمر الله أليس هذا البعث وهذا العذاب حقا‏؟‏ فيقولون‏:‏ ‏(‏بلى وربنا‏)‏ إنه حق‏.‏ ‏}‏قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏31‏)‏

‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله‏}‏ قيل‏:‏ بالبعث بعد الموت وبالجزاء؛ دليله قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان‏)‏ أي لقي جزاءه؛ لأن من غضب عليه لا يرى الله عند مثبتي الرؤية، ذهب إلى هذا القفال وغيره؛ قال القشيري‏:‏ وهذا ليس بشيء؛ لأن حمل اللقاء في موضع على الجزاء لدليل قائم لا يوجب هذا التأويل في كل موضع، فليحمل اللقاء على ظاهره في هذه الآية؛ والكفار كانوا ينكرون الصانع، ومنكر الرؤية منكر للوجود‏!‏

قوله تعالى‏{‏حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة‏}‏ سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها‏.‏ ومعنى ‏(‏بغتة‏)‏ فجأة؛ يقال‏:‏ بغتهم الأمر بغتهم بغتا وبغتة‏.‏ وهي نصب على الحال، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كما تقول‏:‏ قتلته صبرا، وأنشد‏:‏

فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا على ظهر محبوك ظماء مفاصله

ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه؛ لا يقال‏:‏ جاء فلان سرعة‏.‏

قوله تعالى‏{‏قالوا يا حسرتنا‏}‏ وقع النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التحسر، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمناديين في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء؛ قال سيبويه‏:‏ كأنه قال يا عجب تعال فهذا زمن إتيانك؛ وكذلك قولك يا حسرتي أي يا حسرتا تعالي فهذا وقتك؛ وكذلك ما لا يصح نداؤه يجرى هذا المجرى، فهذا أبلغ من قولك تعجبت‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

فيا عجبا من رحلها المتحمل

وقيل‏:‏ هو تنبيه للناس على عظيم ما يحل بهم من الحسرة؛ أي يا أيها الناس تنبوا على عظيم ما بي من الحسرة، فوقع النداء على غير المنادى حقيقة، كقولك‏:‏ لا أرينك ههنا‏.‏ فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة‏.‏

قوله تعالى‏{‏على ما فرطنا فيها‏}‏ أي في الساعة، أي في التقدمة لها؛ عن الحسن‏.‏ و‏(‏فرطنا‏)‏ معناه ضيعنا وأصله التقدم؛ يقال‏:‏ فرط فلان أي تقدم وسبق إلى الماء، ومنه ‏(‏أنا فرطكم على الحوض‏)‏‏.‏ ومنه الفارط أي المتقدم للماء، ومنه - في الدعاء للصبي - اللهم اجعله فرطا لأبويه؛ فقولهم‏:‏ ‏(‏فرطنا‏)‏ أي قدمنا العجز‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏فرطنا‏)‏ أي جعلنا غيرنا الفارط السابق لنا إلى طاعة الله وتخلفنا‏.‏ ‏(‏فيها‏)‏ أي في الدنيا بترك العمل للساعة‏.‏ وقال الطبري‏:‏ ‏(‏الهاء‏)‏ راجعة إلى الصفقة، وذلك أنهم لما تبين لهم خسران صفقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر، والآخرة بالدنيا، ‏}‏قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها‏}‏ أي في الصفقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفقة بيع؛ دليله قوله‏{‏فما ربحت تجارتهم‏}‏البقرة‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وقال السدي‏:‏ على ما ضيعنا أي من عمل الجنة‏.‏ وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال‏:‏ ‏(‏يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون‏:‏ ‏(‏يا حسرتنا‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وهم يحملون أوزارهم‏}‏ أي ذنوبهم جمع وزر‏.‏ ‏}‏على ظهورهم‏}‏ مجاز وتوسع وتشبيه بمن يحمل ثقلا؛ يقال منه‏:‏ وزر يزر، ووزر يوزر فهو وازر ومزور؛ وأصله من الوزر وهو الجبل‏.‏ ومنه الحديث في النساء اللواتي خرجن في جنازة ‏(‏ارجعن مزورات غير مأجورات‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ والعامة تقول‏:‏ ‏(‏مأزورات‏)‏ كأنه لا وجه له عنده؛ لأنه من الوزر‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ويقال للرجل إذا بسط ثوبه فجعل فيه المتاع احمل وزرك أي ثقلك‏.‏ ومنه الوزير لأنه يحمل أثقال ما يسند إليه من تدبير الولاية‏:‏ والمعنى أنهم لزمتهم الآثام فصاروا مثقلين بها‏.‏ ‏}‏ألا ساء ما يزرون‏}‏ أي ما أسوأ الشيء الذي يحملونه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏32‏)‏

‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو‏}‏ أي لقصر مدتها كما قال‏:‏

ألا إنما الدنيا كأحلام نائم وما خير عيش لا يكون بدائم

تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة فأفنيتها هل أنت إلا كحالم

وقال آخر‏:‏

فاعمل على مهل فإنك ميت واكدح لنفسك أيها الإنسان

فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى وكأن ما هو كائن قد كانا

وقيل‏:‏ المعنى متاع الحياة الدنيا لعب ولهو؛ أي الذي يشتهوه في الدنيا لا عاقبة له، فهو بمنزلة اللعب واللهو‏.‏ ونظر سليمان بن عبدالله في المرآة فقال‏:‏ أنا الملك الشاب؛ فقالت له جارية له‏:‏

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى غير أن لا بقاء للإنسان

ليس فيما بدا لنا منك عيب كان في الناس غير أنك فاني

وقيل‏:‏ معنى ‏(‏لعب ولهو‏)‏ باطل وغرور، كما قال‏:‏ ‏(‏وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور‏)‏ ‏}‏آل عمران‏:‏ 185‏]‏ فالمقصد بالآية تكذيب الكفار في قولهم‏{‏إن هي إلا الحياة الدنيا‏}‏ واللعب معروف، والتلعابة الكثير اللعب، والملعب مكان اللعب؛ يقال‏:‏ لعب يلعب‏.‏ واللهو أيضا معروف، وكل ما شغلك فقد ألهاك، ولهوت من اللهو، وقيل‏:‏ أصله الصرف عن الشيء؛ من قولهم‏:‏ لهيت عنه؛ قال المهدوي‏:‏ وفيه بعد؛ لأن الذي معناه الصرف لامه ياء بدليل قولهم‏:‏ لهيان، ولام الأول واو‏.‏

ليس من اللهو واللعب ما كان من أمور الآخرة، فإن حقيقة اللعب ما لا ينتفع به واللهو ما يلتهى به، وما كان مرادا للآخرة خارج عنهما؛ وذم رجل الدنيا عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال علي‏:‏ الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزود منها‏.‏ وقال محمود الوراق‏:‏

لا تتبع الدنيا وأيامها ذما وإن دارت بك الدائرة

من شرف الدنيا ومن فضلها أن بها تستدرك الآخرة

وروى أبو عمر بن عبدالبر عن أبي سعيد الخدري، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان فيها من ذكر الله أو أدى إلى ذكر الله والعالم والمتعلم شريكان في الأجر وسائر الناس همج لا خير فيه‏)‏ وأخرجه الترمذي عن أبي هريرة وقال‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ‏(‏من هوان الدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها‏)‏‏.‏ وروى الترمذي عن سهل بن سعد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏‏(‏لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء‏)‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

تسمع من الأيام إن كنت حازما فإنك منها بين ناه وآمر

إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فات من شيء فليس بضائر

ولن تعدل الدنيا جناح بعوضة ولا وزن زف من جناح لطائر

فما رضي الدنيا ثوابا لمؤمن ولا رضي الدنيا جزاء لكافر

وقال ابن عباس‏:‏ هذه حياة الكافر لأنه يزجيها في غرور وباطل، فأما حياة المؤمن فتنطوي على أعمال صالحة، فلا تكون لهوا ولعبا‏.‏

قوله تعالى‏{‏وللدار الآخرة خير‏}‏ أي الجنة لبقائها؛ وسميت آخرة لتأخرها عنا، والدنيا لدنوها منا‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏(‏ولدار الآخرة‏)‏ بلام واحدة؛ والإضافة على تقدير حذف المضاف وإقامة الصفة مقامه، التقدير‏:‏ ولدار الحياة الآخرة‏.‏ وعلى قراءة الجمهور ‏(‏وللدار الآخرة‏)‏ اللام لام الابتداء، ورفع الدار بالابتداء، وجعل الآخرة نعتا لها والخبر ‏(‏خير للذين‏)‏ يقويه ‏}‏تلك الدار الآخرة‏}‏القصص‏:‏ 83‏]‏ ‏}‏وإن الدار الآخرة لهي الحيوان‏}‏العنكبوت‏:‏ 64‏]‏‏.‏ فأتت الآخرة صفة للدار فيهما ‏}‏للذين يتقون‏}‏ أي الشرك‏.‏ ‏}‏أفلا تعقلون‏}‏ قرئ بالياء والتاء؛ أي أفلا يعقلون أن الأمر هكذا فيزهدوا في الدنيا‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏33 ‏:‏34‏)‏

‏{‏قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون، ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏

قوله تعالى‏{‏قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون‏}‏ كسرت ‏(‏إن‏)‏ لدخول اللام‏.‏ قال أبو ميسرة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا‏:‏ يا محمد والله ما نكذبك وإنك عندنا لصادق، ولكن نكذب ما جئت به؛ فنزلت هذه الآية ‏}‏فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏ ثم آنسه بقوله‏{‏ولقد كذبت رسل من قبلك‏}‏ الآية‏.‏ وقرئ ‏}‏يكذبونك‏}‏ مخففا ومشددا؛ وقيل‏:‏ هما بمعنى واحد كحزنته وأحزنته؛ واختار أبو عبيد قراءة التخفيف، وهي قراءة علي رضي الله عنه؛ وروي عنه أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به؛ فأنزل الله عز وجل ‏}‏فإنهم لا يكذبونك‏}‏

قال النحاس‏:‏ وقد خولف أبو عبيد في هذا‏.‏ وروي‏:‏ لا نكذبك‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏{‏لا يكذبونك‏}‏‏.‏ ويقوي هذا أن رجلا قرأ على ابن عباس ‏}‏فإنهم لا يكذبونك‏}‏ مخففا فقال له ابن عباس‏{‏فإنهم لا يكذبونك‏}‏ لأنهم كانوا يسمون النبي صلى الله عليه وسلم الأمين‏.‏ ومعنى ‏}‏يكذبونك‏}‏ عند أهل اللغة ينسبونك إلى الكذب، ويردون عليك ما قلت‏.‏ ومعنى ‏}‏لا يكذبونك‏}‏ أي لا يجدونك تأتي بالكذب؛ كما تقول‏:‏ أكذبته وجدته كذابا؛ وأبخلته وجدته بخيلا، أي لا يجدونك كذابا إن تدبروا ما جئت به‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ لا يثبتون عليك أنك كاذب؛ لأنه يقال‏:‏ أكذبته إذا احتججت عليه وبينت أنه كاذب‏.‏ وعلى التشديد‏:‏ لا يكذبونك بحجة ولا برهان؛ ودل على هذا ‏}‏ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ والقول في هذا مذهب أبي عبيد، واحتجاجه لازم؛ لأن عليا كرم الله وجهه هو الذي روى الحديث، وقد صح عنه أنه قرأ بالتخفيف؛ وحكى الكسائي عن العرب‏:‏ أكذبت الرجل إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه، وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب؛ وكذلك قال الزجاج‏:‏ كذبته إذا قلت له كذبت، وأكذبته إذا أردت أن ما أتى به كذب‏.‏

قوله تعالى‏{‏فصبروا على ما كذبوا‏}‏ أي فاصبر كما صبروا‏.‏ ‏}‏وأوذوا حتى أتاهم نصرنا‏}‏ أي عوننا، أي فسيأتيك ما وعدت به‏.‏ ‏}‏ولا مبدل لكلمات الله‏}‏ مبين لذلك النصر؛ أي ما وعد الله عز وجل به فلا يقدر أحد أن يدفعه؛ لا ناقض لحكمه، ولا خلف لوعده؛ و‏}‏لكل أجل كتاب‏}‏الرعد‏:‏ 38‏]‏ ، ‏}‏إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا‏}‏غافر‏:‏ 51‏]‏ ‏}‏ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين‏.‏ إنهم لهم المنصورون‏.‏ وإن جندنا لهم الغالبون‏}‏الصافات‏:‏ 171 - 173‏]‏ ، ‏}‏كتب الله لأغلبن أنا ورسلي‏}‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏‏.‏ ‏}‏ولقد جاءك من نبأ المرسلين‏}‏ فاعل ‏(‏جاءك‏)‏ مضمر؛ المعنى‏:‏ جاءك من نبأ المرسلين نبأ‏.‏