فصل: الآية رقم ‏(‏64‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏44 ‏:‏ 53‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا وكفى بالله نصيرا، من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا، إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما، ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا، انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا، ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا، أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ‏}‏إلى قوله تعالى‏{‏فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه ‏}‏الآية‏.‏

نزلت في يهود المدينة وما والاها‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ وكان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء يهود، إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال‏:‏ أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك؛ ثم طعن في الإسلام وعابه فأنزل الله عز وجل ‏}‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ‏}‏إلى قوله ‏}‏قليلا‏}‏‏.‏ ومعنى ‏}‏يشترون ‏}‏يستبدلون فهو في موضع نصب على الحال، وفي الكلام حذف تقديره يشترون الضلالة بالهدى؛ كما قال تعالى‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ‏}‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ قاله القتبي وغيره‏.‏ ‏}‏ويريدون أن تضلوا السبيل‏}‏ عطف عليه، والمعنى تضلوا طريق الحق‏.‏ وقرأ الحسن‏{‏تضلوا ‏}‏بفتح الضاد أي عن السبيل‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله أعلم بأعدائكم‏}‏ يريد منكم؛ فلا تستصحبوهم فإنهم أعداؤكم‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏أعلم ‏}‏بمعنى عليم؛ كقوله تعالى‏{‏وهو أهون عليه ‏}‏الروم‏:‏ 27‏]‏ أي هين‏.‏ ‏}‏وكفى بالله وليا‏}‏ الباء زائدة؛ زيدت لأن المعنى اكتفوا بالله فهو يكفيكم أعداءكم‏.‏ و‏}‏وليا ‏}‏و ‏}‏نصيرا‏}‏ نصب على البيان، وإن شئت على الحال‏.‏

قوله تعالى‏{‏من الذين هادوا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ إن جعلت ‏}‏من ‏}‏متعلقة بما قبل فلا يوقف على قول ‏}‏نصيرا‏}‏، وإن جعلت منقطعة فيجوز الوقف على ‏}‏نصيرا ‏}‏والتقدير من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم؛ ثم حذف‏.‏ وهذا مذهب سيبويه، وأنشد النحويون‏:‏

لو قلت ما في قومها لم تيثم يفضلها في حسب ومبسم

قالوا‏:‏ المعنى لو قلت ما في قومها أحد يفضلها؛ ثم حذف‏.‏ وقال الفراء‏:‏ المحذوف ‏}‏من‏}‏ المعنى‏:‏ من الذين هادوا من يحرفون‏.‏ وهذا كقوله تعالى‏{‏وما منا إلا له مقام معلوم‏}‏الصافات‏:‏ 164‏]‏ أي من له‏.‏ وقال ذو الرمة‏:‏

فظلوا ومنهم دمعه سابق له وآخر يذري عبرة العين بالهمل

يريد ومنهم من دمعه، فحذف الموصول‏.‏ وأنكره المبرد والزجاج؛ لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة‏.‏ ‏}‏يحرفون‏}‏ يتأولونه على غير تأويله‏.‏ وذمهم الله تعالى بذلك لأنهم يفعلونه متعمدين‏.‏ وقيل‏{‏عن مواضعه‏}‏ يعني صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏ويقولون سمعنا وعصينا‏}‏ أي سمعنا قولك وعصينا أمرك‏.‏ ‏}‏واسمع غير مسمع‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا يقولون النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اسمع لا سمعت، هذا مرادهم - لعنهم الله - وهم يظهرون أنهم يريدون اسمع غير مسمع مكروها ولا أذى‏.‏ وقال الحسن ومجاهد‏.‏ معناه غير مسمع منك، أي مقبول ولا مجاب إلى ما تقول‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولو كان كذلك لكان غير مسموع منك‏.‏ وتقدم القول في ‏}‏راعنا‏}‏‏.‏ ومعنى ‏}‏ليا بألسنتهم‏}‏ أي يلوون ألسنتهم عن الحق أي يميلونها إلى ما في قلوبهم‏.‏ وأصل اللي الفتل، وهو نصب على المصدر، وإن شئت كان مفعولا من أجله‏.‏ وأصله لويا ثم أدغمت الواو في الياء‏.‏ ‏}‏وطعنا‏}‏ معطوف عليه أي يطعنون في الدين، أي يقولون لأصحابهم لو كان نبيا لدرى أننا نسبه، فأظهر الله تعالى نبيه على ذلك فكان من علامات نبوته، ونهاهم عن هذا القول‏.‏ ومعنى ‏}‏أقوم‏}‏ أصوب لهم في الرأي‏.‏ ‏}‏فلا يؤمنون إلا قليلا ‏}‏أي إلا إيمانا قليلا لا يستحقون به اسم الإيمان‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا يؤمنون إلا قليلا منهم؛ وهذا بعيد لأنه عز وجل قد أخبر عنهم أنه لعنهم بكفرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا‏}‏ قال ابن إسحاق‏:‏ كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود منهم عبدالله بن صوريا الأعور وكعب بن أسد فقال لهم‏:‏ ‏(‏يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به الحق ‏)‏ قالوا‏:‏ ما نعرف ذلك يا محمد‏.‏ وجحدوا ما عرفوا وأصروا على الكفر؛ فأنزل الله عز وجل فيهم ‏}‏يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها ‏}‏إلى آخر الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏مصدقا لما معكم‏}‏ نصب على الحال‏.‏ ‏}‏من قبل أن نطمس وجوها‏}‏ الطمس استئصال أثر الشيء؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فإذا النجوم طمست ‏}‏المرسلات‏:‏ 8‏]‏‏.‏ ونطمس ونطمس بكسر الميم وضمها في المستقبل لغتان‏.‏ ويقال في الكلام‏:‏ طسم يطسم ويطسم بمعنى طمس؛ يقال‏:‏ طمس الأثر وطسم أي أمحى، كله لغات؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ربنا اطمس على أموالهم‏}‏يونس‏:‏ 88‏]‏ أي أهلكها؛ عن ابن عرفة‏.‏ ويقال‏:‏ طمسته فطمس لازم ومتعد‏.‏ وطمس الله بصره، وهو مطموس البصر إذا ذهب أثر العين؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ولو نشاء لطمسنا على أعينهم ‏}‏يس‏:‏ 66‏]‏ يقول أعميناهم‏.‏

واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية؛ هل هو حقيقة فيجعل الوجه كالقفا فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين‏.‏ أو ذلك عبارة عن الضلال في قلوبهم وسلبهم التوفيق ‏؟‏ قولان‏.‏ روي عن أبي بن كعب أنه قال‏{‏من قبل أن نطمس ‏}‏من قبل أن نضلكم إضلالا لا تهتدون بعده‏.‏ يذهب إلى أنه تمثيل وأنهم إن لم يؤمنوا فعل هذا بهم عقوبة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه من قبل أن نجعل الوجوه أقفاء‏.‏ أي يذهب بالأنف والشفاه والأعين والحواجب؛ هذا معناه عند أهل اللغة‏.‏ وروي عن ابن عباس وعطية العوفي‏:‏ أن الطمس أن تزال العينان خاصة وترد في القفا؛ فيكون ذلك ردا على الدبر ويمشي القهقرى‏.‏ وقال مالك رحمه الله‏:‏ كان أول إسلام كعب الأحبار أنه مر برجل من الليل وهو يقرأ هذه الآية‏{‏يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا ‏}‏فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته فأسلم مكانه وقال‏:‏ والله لقد خفت ألا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي‏.‏ وكذلك فعل عبدالله بن سلام، لما نزلت هذه الآية وسمعها أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال‏:‏ يا رسول الله، ما كنت أدرى أن أصل إليك حتى يحول وجهي في قفاي‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف جاز أن يهددهم بطمس الوجه إن لم يؤمنوا ثم لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؛ فقيل‏:‏ إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين‏.‏ وقال المبرد‏:‏ الوعيد باق منتظر‏.‏ وقال‏:‏ لا بد من طمس في اليهود ومسخ قبل يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو نلعنهم‏}‏ أي أصحاب الوجوه ‏}‏كما لعنا أصحاب السبت‏}‏ أي نمسخهم قردة وخنازير؛ عن الحسن وقتادة‏.‏ وقيل‏:‏ هو خروج من الخطاب إلى الغيبة ‏}‏وكان أمر الله مفعولا‏}‏ أي كائنا موجودا‏.‏ ويراد بالأمر المأمور فهو مصدر وقع موقع المفعول؛ فالمعنى أنه متى أراده أوجده‏.‏ وقيل‏:‏ معناه أن كل أمر أخبر بكونه فهو كائن على ما أخبر به‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏ روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا‏{‏إن الله يغفر الذنوب جميعا ‏}‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ فقال له رجل‏:‏ يا رسول الله والشرك ‏!‏ فنزل ‏}‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏‏.‏ وهذا من المحكم المتفق عليه الذي لا اختلاف فيه بين الأمة‏.‏ ‏}‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏}‏من المتشابه الذي قد تكلم العلماء فيه‏.‏ فقال محمد بن جرير الطبري‏:‏ قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله تعالى إن شاء عفا عنه ذنبه، وإن شاء عاقبه عليه ما لم تكن كبيرته شركا بالله تعالى‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ قد بين الله تعالى ذلك بقول‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ‏}‏النساء‏:‏ 31‏]‏ فاعلم أنه يشاء أن يغفر الصغائر لمن اجتنب الكبائر ولا يغفرها لمن أتى الكبائر‏.‏ وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه الآية ناسخة للتي في آخر ‏}‏الفرقان‏}‏‏.‏ قال زيد بن ثابت‏:‏ نزلت سورة ‏}‏النساء ‏}‏بعد ‏}‏الفرقان ‏}‏بستة أشهر، والصحيح أن لا نسخ؛ لأن النسخ في الأخبار يستحيل‏.‏ وسيأتي بيان الجمع بين الآي في هذه السورة وفي ‏}‏الفرقان ‏}‏إن شاء الله تعالى‏.‏ وفي الترمذي عن علي بن أبي طالب قال‏:‏ ما في القرآن آية أحب إلي من هذه الآية ‏}‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ‏}‏قال‏:‏ هذا حديث حسن غريب‏.‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم‏}‏ هذا اللفظ عام في ظاهره ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود‏.‏ واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم؛ فقال قتادة والحسن‏:‏ ذلك قولهم‏{‏نحن أبناء الله وأحباؤه‏}‏، وقولهم‏{‏لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ‏}‏وقال الضحاك والسدي‏:‏ قولهم لا ذنوب لنا وما فعلناه نهارا غفر لنا ليلا وما فعلناه ليلا غفر لنا نهارا، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب‏.‏ وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة‏:‏ تقديمهم الصغار للصلاة؛ لأنهم لا ذنوب عليهم‏.‏ وهذا يبعد من مقصد الآية‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ذلك قولهم آباؤنا الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ ذلك ثناء بعضهم على بعض‏.‏ وهذا أحسن ما قيل؛ فإنه الظاهر من معنى الآية، والتزكية‏:‏ التطهير والتبرية من الذنوب‏.‏

هذه الآية وقوله تعالى‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏النجم‏:‏ 32‏]‏ يقتضي الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل فلا عبرة بتزكية الإنسان نفسه، وإنما العبرة بتزكية الله له‏.‏ وفي صحيح مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال‏:‏ سميت ابنتي برة؛ فقالت لي زينب بنت أبي سلمة‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، وسميت برة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزكوا أنفسكم الله أعلم بأهل البر منكم ‏)‏ فقالوا‏:‏ بم نسميها ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏سموها زينب ‏)‏‏.‏ فقد دل الكتاب والسنة على المنع من تزكية الإنسان نفسه، ويجري هذا المجرى ما قد كثر في هذه الديار المصرية من نعتهم أنفسهم بالنعوت التي تقتضي التزكية؛ كزكي الدين ومحي الدين وما أشبه ذلك، لكن لما كثرت قبائح المسمين بهذه الأسماء ظهر تخلف هذه النعوت عن أصلها فصارت لا تفيد شيئا‏.‏

فأما تزكية الغير ومدحه له؛ ففي البخاري من حديث أبي بكرة أن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويحك قطعت عنق صاحبك - يقوله مرارا - إن كان أحدكم مادحا لا محالة فليقل أحسب كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك وحسيبه الله ولا يزكي على الله أحدا ‏)‏ فنهى صلى الله عليه وسلم أن يفرط في مدح الرجل بما ليس فيه فيدخله في ذلك الإعجاب والكبر، ويظن أنه في الحقيقة بتلك المنزلة فيحمله ذلك على تضييع العمل وترك الازدياد من الفضل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ويحك قطعت عنق صاحبك ‏)‏‏.‏ وفي الحديث الآخر ‏(‏قطعتم ظهر الرجل ‏)‏ حين وصفوه بما ليس فيه‏.‏ وعلى هذا تأول العلماء قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏احثوا التراب في وجوه المداحين ‏)‏ إن المراد به المداحون في وجوههم بالباطل وبما ليس فيهم، حتى يجعلوا ذلك بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه؛ فأما مدح الرجل بما فيه من الفعل الحسن والأمر المحمود ليكون منه ترغيبا له في أمثاله وتحريضا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح، وإن كان قد صار مادحا بما تكلم به من جميل القول فيه‏.‏ وهذا راجع إلى النيات ‏}‏والله يعلم المفسد من المصلح‏}‏‏.‏ وقد مدح في الشعر والخطب والمخاطبة ولم يحث في وجوه المداحين التراب، ولا أمر بذلك‏.‏ كقول أبي طالب‏:‏

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

وكمدح العباس وحسان له في شعرهما، ومدحه كعب بن زهير، ومدح هو أيضا أصحابه فقال‏:‏ ‏(‏إنكم لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع ‏)‏‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح الحديث‏:‏ ‏(‏لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم وقولوا‏:‏ عبدالله ورسوله ‏)‏ فمعناه لا تصفوني بما ليس في من الصفات تلتمسون بذلك مدحي، كما وصفت النصارى عيسى بما لم يكن فيه، فنسبوه إلى أنه ابن الله فكفروا بذلك وضلوا‏.‏ وهذا يقتضي أن من رفع أمرا فوق حده وتجاوز مقداره بما ليس فيه فمعتد آثم؛ لأن ذلك لو جاز في أحد لكان أولى الخلق بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا يظلمون فتيلا‏}‏ الضمير في ‏}‏يظلمون‏}‏ عائد على المذكورين ممن زكى نفسه وممن يزكيه الله عز وجل‏.‏ وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمه من غير هذه الآية‏.‏ والفتيل الخيط الذي في شق نواة التمرة؛ قال ابن عباس وعطاء ومجاهد‏.‏ وقيل‏:‏ القشرة التي حول النواة بينها وبين البسرة‏.‏ وقال ابن عباس أيضا وأبو مالك والسدي‏:‏ هو ما يخرج بين أصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما؛ فهو فعيل بمعنى مفعول‏.‏ وهذا كله يرجع إلى كناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه شيئا‏.‏ ومثل هذا في التحقير قوله تعالى‏{‏ولا يظلمون نقيرا‏}‏النساء‏:‏ 124‏]‏ وهو النكتة التي في ظهر النواة، ومنه تنبت النخلة، وسيأتي‏.‏ قال الشاعر يذم بعض الملوك‏:‏

تجمع الجيش ذا الألوف وتغزو ثم لا ترزأ العدو فتيلا

ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال‏{‏انظر كيف يفترون على الله الكذب‏}‏ في قولهم‏:‏ نحن أبناء الله وأحباؤه‏.‏ وقيل‏:‏ تزكيتهم لأنفسهم؛ عن ابن جريج‏.‏ وروي أنهم قالوا‏:‏ ليس لنا ذنوب إلا كذنوب أبنائنا يوم تولد‏.‏ والافتراء الاختلاق؛ ومنه افترى فلان على فلان أي رماه بما ليس فيه‏.‏ وفريت الشيء قطعته‏.‏ ‏}‏وكفى به إثما مبينا‏}‏ نصب على البيان‏.‏ والمعنى تعظيم الذنب وذمه‏.‏ العرب تستعمل مثل ذلك في المدح والذم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب‏}‏ يعني اليهود ‏}‏يؤمنون بالجبت والطاغوت‏}‏ اختلف أهل التأويل في تأويل الجبت والطاغوت؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية‏:‏ الجبت الساحر بلسان الحبشة، والطاغوت الكاهن‏.‏ وقال الفاروق عمر رضي الله عنه‏:‏ الجبت السحر والطاغوت الشيطان‏.‏ ابن مسعود‏:‏ الجبت والطاغوت ههنا كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب‏.‏ عكرمة‏:‏ الجبت حيي بن أخطب والطاغوت كعب بن الأشرف؛ دليله قوله تعالى‏{‏يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ‏}‏النساء‏:‏60‏]‏‏.‏ قتادة‏:‏ الجبت الشيطان والطاغوت الكاهن‏.‏ وروى ابن وهب عن مالك بن أنس‏:‏ الطاغوت ما عبد من دون الله‏.‏ قال‏:‏ وسمعت من يقول إن الجبت الشيطان؛ ذكره النحاس‏.‏ وقيل‏:‏ هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية الله؛ وهذا حسن‏.‏ وأصل الجبت الجبس وهو الذي لا خير فيه، فأبدلت التاء من السين؛ قاله قطرب‏.‏ وقيل‏:‏ الجبت إبليس والطاغوت أولياؤه‏.‏ وقول مالك في هذا الباب حسن؛ يدل عليه قوله تعالى‏{‏أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ‏}‏النحل‏:‏ 36‏]‏ وقال تعالى‏{‏والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها ‏}‏الزمر‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الطرق والطيرة والعيافة من الجبت ‏)‏‏.‏ الطرق الزجر، والعيافة الخط؛ خرجه أبو داود في سننه‏.‏ وقيل‏:‏ الجبت كل ما حرم الله، الطاغوت كل ما يطغي الإنسان‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويقولون للذين كفروا‏}‏ أي يقول اليهود لكفار قريش أنتم أهدى سبيلا من الذين آمنوا بمحمد‏.‏ وذلك أن كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش فتعاقدوا وتعاهدوا ليجتمعن على قتال محمد؛ فقال أبو سفيان‏:‏ إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى سبيلا وأقرب إلى الحق‏.‏ نحن أم محمد ‏؟‏ فقال كعب‏:‏ أنتم والله أهدى سبيلا مما عليه محمد‏.‏

قوله تعالى‏{‏أم لهم نصيب من الملك‏}‏ أي ألهم ‏؟‏ والميم صلة‏.‏ ‏}‏نصيب‏}‏ حظ ‏}‏من الملك‏}‏ وهذا على وجه الإنكار؛ يعني ليس لهم من الملك شيء، ولو كان لهم منه شيء لم يعطوا أحدا منه شيئا لبخلهم وحسدهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى بل ألهم نصيب؛ فتكون أم منقطعة ومعناها الإضراب عن الأول والاستئناف للثاني‏.‏ وقيل‏:‏ هي عاطفة على محذوف؛ لأنهم أنفوا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ والتقدير‏:‏ أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته أم لهم نصيب من الملك ‏؟‏‏.‏ ‏}‏فإذا لا يؤتون الناس نقيرا ‏}‏أي يمنعون الحقوق‏.‏ خبر الله عز وجل عنهم بما يعلمه منهم‏.‏ والنقير‏:‏ النكتة في ظهر النواة؛ عن ابن عباس وقتادة وغيرهما‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ النقير‏:‏ ما نقر الرجل بأصبعه كما ينقر الأرض‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ سألت ابن عباس عن النقير فوضع طرف الإبهام على باطن السبابة ثم رفعهما وقال‏:‏ هذا النقير‏.‏ والنقير‏:‏ أصل خشبة ينقر وينبذ فيه؛ وفيه جاء النهي ثم نسخ‏.‏ وفلان كريم النقير أي الأصل‏.‏ و‏}‏إذا ‏}‏هنا ملغاه غير عاملة لدخول فاء العطف عليها، ولو نصب لجاز‏.‏ قال سيبويه‏{‏إذا ‏}‏في عوامل الأفعال بمنزلة ‏}‏أظن ‏}‏في عوامل الأسماء، أي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها، فإن كانت في أول الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت؛ كقولك‏:‏ أنا أزورك فيقول مجيبا لك‏:‏ إذا أكرمك‏.‏ قال عبدالله بن عنتمة الضبي‏:‏

اردد حمارك لا يرتع بروضتنا إذن يرد وقيد العير مكروب

نصب لأن الذي قبل ‏}‏إذن ‏}‏تام فوقعت ابتداء كلام‏.‏ فإن وقعت متوسطة بين شيئين كقولك‏.‏ زيد إذا يزورك ألغيت؛ فإن دخل عليها فاء العطف أو واو العطف فيجور فيها الإعمال والإلغاء؛ أما الأعمال فلأن ما بعد الواو يستأنف على طريق عطف الجملة على الجملة، فيجوز في غير القرآن فإذا لا يؤتوا‏.‏ وفي التنزيل ‏}‏وإذا لا يلبثون ‏}‏الإسراء‏:‏ 76‏]‏ وفي مصحف أبي ‏}‏وإذا لا يلبثوا‏}‏‏.‏ وأما الإلغاء فلأن ما بعد الواو لا يكون إلا بعه كلام يعطف عليه، والناصب للفعل عند سيبويه ‏}‏إذا‏}‏ لمضارعتها ‏}‏أن‏}‏، وعند الخليل أن مضمرة بعد إذا‏.‏ وزعم الفراء أن إذا تكتب بالألف وأنها منونة‏.‏ قال النحاس‏:‏ وسمعت علي بن سليمان يقول‏:‏ سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول‏:‏ أشتهي أن أكوي يد من يكتب إذاً بالألف؛ إنها مثل لن وإن، ولا يدخل التنوين في الحروف‏.‏

 الآية رقم ‏(‏54 ‏:‏ 55‏)‏

‏{‏أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما، فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏أم يحسدون‏}‏ يعني اليهود‏.‏ ‏}‏الناس‏}‏ يعني النبي صلى الله عليه وسلم خاصة؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏.‏ حسدوه على النبوة وأصحابه على الإيمان به‏.‏ وقال قتادة‏{‏الناس ‏}‏العرب، حسدتهم اليهود على النبوة‏.‏ الضحاك‏:‏ حسدت اليهود قريشا؛ لأن النبوة فيهم‏.‏ والحسد مذموم وصاحبه مغموم وهو يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد؛ نفس دائم، وحزن لازم، وعبرة لا تنفد‏.‏ وقال عبدالله بن مسعود‏:‏ لا تعادوا نعم الله‏.‏ قيل له‏:‏ ومن يعادي نعم الله ‏؟‏ قال‏:‏ الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، يقول الله تعالى في بعض الكتب‏:‏ الحسود عدو نعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي‏.‏ ولمنصور الفقيه‏:‏

ألا قل لمن ظل لي حاسدا أتدري على من أسأت الأدب

أسأت على الله في حكمه إذا أنت لم ترض لي ما وهب

ويقال‏:‏ الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض؛ فأما في السماء فحسد إبليس لآدم، وأما في الأرض فحسد قابيل لهابيل‏.‏ ولأبي العتاهية في الناس‏:‏

فيا رب إن الناس لا ينصفونني فكيف ولو أنصفتهم ظلموني

وإن كان لي شيء تصدوا لأخذه وإن شئت أبغي شيئهم منعوني

وإن نالهم بذلي فلا شكر عندهم وإن أنا لم أبذل لهم شتموني

وإن طرقتني نكبة فكهوا بها وإن صحبتني نعمة حسدوني

سأمنع قلبي أن يحن إليهمو وأحجب عنهم ناظري وجفوني

وقيل‏:‏ إذا سرك أن تسلم من الحاسد فغم عليه أمرك‏.‏ ولرجل من قريش‏:‏

حسدوا النعمة لما ظهرت فرموها بأباطيل الكلم

وإذا ما الله أسدى نعمة لم يضرها قول أعداء النعم

ولقد أحسن من قال‏:‏

أصبر على حسد الحسو د فإن صبرك قاتله

فالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

وقال بعض أهل التفسير في قول الله تعالى‏{‏ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين ‏}‏فصلت‏:‏ 29‏]‏‏.‏ إنه إنما أراد بالذي من الجن إبليس والذي من الإنس قابيل؛ وذلك أن إبليس كان أول من سن الكفر، وقابيل كان أول من سن القتل، وإنما كان أصل ذلك كله الحسد‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إن الغراب وكان يمشي مشية فيما مضى من سالف الأحوال

حسد القطاة فرام يمشي مشيها فأصابه ضرب من التعقال

قوله تعالى‏{‏فقد آتينا‏}‏ ثم أخبر تعالى أنه آتى آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتاهم ملكا عظيما‏.‏ قال همام بن الحارث‏:‏ أيدوا بالملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ يعني ملك سليمان؛ عن ابن عباس‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ المعنى أم يحسدون محمدا على ما أحل الله له من النساء فيكون الملك العظيم على هذا أنه أحل لداود تسعا وتسعين امرأة ولسليمان أكثر من ذلك‏.‏ واختار الطبري أن يكون المراد ما أوتيه سليمان من الملك وتحليل النساء‏.‏ والمراد تكذيب اليهود والرد عليهم في قولهم‏:‏ لو كان نبيا ما رغب في كثرة النساء ولشغلته النبوة عن ذلك؛ فأخبر الله تعالى بما كان لداود وسليمان يوبخهم، فأقرت اليهود أنه اجتمع عند سليمان ألف امرأة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ألف امرأة ‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم ثلاثمائة مهرية، وسبعمائة سرية، وعند داود مائة امرأة‏.‏ فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ألف عند رجل ومائة عند رجل أكثر أو تسع نسوة ‏)‏ ‏؟‏ فسكتوا‏.‏ وكان له يومئذ تسع نسوة‏.‏

يقال‏:‏ إن سليمان عليه السلام كان أكثر الأنبياء نساء‏.‏ والفائدة في كثرة تزوجه أنه كان له قوة أربعين نبيا، وكل من كان أقوى فهو أكثر نكاحا‏.‏ ويقال‏:‏ إنه أراد بالنكاح كثرة العشيرة؛ لأن لكل امرأة قبيلتين قبيلة من جهة الأب وقبيلة من جهة الأم؛ فكلما تزوج امرأة صرف وجوه القبيلتين إلى نفسه فتكون عونا له على أعدائه‏.‏ ويقال‏:‏ إن كل من كان أتقى فشهوته أشد؛ لأن الذي لا يكون تقيا فإنما يتفرج بالنظر والمس، ألا ترى ما روى في الخبر‏:‏ ‏(‏العينان تزنيان واليدان تزنيان ‏)‏‏.‏ فإذا كان في النظر والمس نوع من قضاء الشهوة قل الجماع، والمتقي لا ينظر ولا يمس فتكون الشهوة مجتمعة في نفسه فيكون أكثر جماعا‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ كل شهوة تقسي القلب إلا الجماع فإنه يصفي القلب؛ ولهذا كان الأنبياء يفعلون ذلك‏.‏

قوله تعالى‏{‏فمنهم من آمن به‏}‏ يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم لأنه تقدم ذكره وهو المحسود‏.‏ ‏}‏ومنهم من صد عنه‏}‏ أعرض فلم يؤمن به‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في ‏}‏به ‏}‏راجع إلى إبراهيم‏.‏ والمعنى‏:‏ فمن آل إبراهيم من آمن به ومنهم من صد عنه‏.‏ وقيل‏:‏ يرجع إلى الكتاب‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏56 ‏:‏ 57‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا‏}‏

قد تقدم معنى الإصلاء أول السورة‏.‏ وقرأ حميد بن قيس ‏}‏نصليهم ‏}‏بفتح النون أي نشويهم‏.‏ يقال‏:‏ شاة مصلية‏.‏ ونصب ‏}‏نارا ‏}‏على هذه القراءة بنزع الخافض تقديره بنار‏.‏ ‏}‏كلما نضجت جلودهم‏}‏ يقال‏:‏ نضج الشيء نضجا ونضجا، وفلان نضيج الرأي محكمه‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ تبدل الجلود جلودا أخر‏.‏ فإن قال من يطعن في القرآن من الزنادقة‏:‏ كيف جاز أن يعذب جلدا لم يعصه ‏؟‏ قيل له‏:‏ ليس الجلد بمعذب ولا معاقب، وإنما الألم واقع على النفوس؛ لأنها هي التي تحس وتعرف فتبديل الجلود زيادة في عذاب النفوس‏.‏ يدل عليه قوله تعالى‏{‏ليذوقوا العذاب ‏}‏وقوله تعالى‏{‏كلما خبت زدناهم سعيرا ‏}‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏‏.‏ فالمقصود تعذيب الأبدان وإيلام الأرواح‏.‏ ولو أراد الجلود لقال‏:‏ ليذقن العذاب‏.‏ مقاتل‏:‏ تأكله النار كل يوم سبع مرات‏.‏ الحسن‏:‏ سبعين ألف مرة كلما أكلتهم قيل لهم‏:‏ عودوا فعادوا كما كانوا‏.‏ ابن عمر‏:‏ إذا احترقوا بدلت لهم جلود بيض كالقراطيس‏.‏ وقيل‏:‏ عنى بالجلود السرابيل؛ كما قال تعالى‏{‏وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران ‏}‏إبراهيم‏:‏ 49 - 50‏]‏ سميت جلودا للزومها جلودهم على المجاورة؛ كما يقال للشيء الخاص بالإنسان‏:‏ هو جلدة ما بين عينيه‏.‏ وأنشد ابن عمر رضي الله عنه‏:‏

يلومونني في سالم وألومهم وجلدة بين العين والأنف سالم

فكلما احترقت السرابيل أعيدت‏.‏ قال الشاعر‏:‏

كسا اللؤم تيما خضرة في جلودها فويل لتيم من سرابيلها الخضر

فكنى عن الجلود بالسرابيل‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أعدنا الجلد الأول جديدا؛ كما تقول للصائغ‏:‏ صغ لي من هذا الخاتم خاتما غيره؛ فيكسره ويصوغ لك منه خاتما‏.‏ فالخاتم المصوغ هو الأول إلا أن الصياغة تغيرت والفضة واحدة‏.‏ وهذا كالنفس إذا صارت ترابا وصارت لا شيء ثم أحياها الله تعالى‏.‏ وكعهدك بأخ لك صحيح ثم تراه بعد ذلك سقيما مدنفا فتقول له‏:‏ كيف أنت ‏؟‏ فيقول‏:‏ أنا غير الذي عهدت‏.‏ فهو هو، ولكن حاله تغيرت‏.‏ فقول القائل‏:‏ أنا غير الذي عهدت، وقوله تعالى‏{‏غيرها‏}‏ مجاز‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏{‏يوم تبدل الأرض غير الأرض ‏}‏إبراهيم‏:‏ 48‏]‏ وهي تلك الأرض بعينها إلا أنها تغير آكامها وجبالها وأنهارها وأشجارها، ويزاد في سعتها ويسوى ذلك منها؛ على ما يأتي بيانه في سورة ‏}‏إبراهيم ‏}‏عليه السلام‏.‏ ومن هذا المعنى قول الشاعر‏:‏

فما الناس بالناس الذين عهدتهم ولا الدار بالدار التي كنت أعرف

وقال الشعبي‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس فقال‏:‏ ألا ترى ما صنعت عائشة‏.‏ ذمت دهرها، وأنشدت بيتي لبيد‏:‏

ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب

يتلذذون مجانة ومذلة ويعاب قائلهم وإن لم يشغب

فقالت‏:‏ رحم الله لبيدا فكيف لو أدرك زماننا هذا ‏!‏ فقال ابن عباس‏:‏ لئن ذمت عائشة دهرها لقد ذمت ‏}‏عاد‏}‏ دهرها؛ لأنه وجد في خزانة ‏}‏عاد‏}‏ بعدما هلكوا بزمن طويل كأطول ما يكون من رماح ذلك الزمن عليه مكتوب‏:‏

بلاد بها كنا ونحن بأهلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد

البلاد باقية كما هي إلا أن أحوالها وأحوال أهلها تنكرت وتغيرت‏.‏ ‏}‏إن الله كان عزيزا‏}‏ أي لا يعجزه شيء ولا يفوته‏.‏ ‏}‏حكيما‏}‏ في إيعاده عباده‏.‏ وقوله في صفة أهل الجنة‏{‏وندخلهم ظلا ظليلا ‏}‏يعني كثيفا لا شمس فيه‏.‏ الحسن‏:‏ وصف بأنه ظليل؛ لأنه لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحر والسموم ونحو ذلك‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يعني ظلال الأشجار وظلال قصورها الكلبي‏{‏ظلا ظليلا‏}‏ يعني دائما‏.‏

 الآية رقم ‏(‏58‏)‏

‏{‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات‏}‏ هذه الآية من أمهات الأحكام تضمنت جميع الدين والشرع‏.‏ وقد اختلف من المخاطب بها؛ فقال علي بن أبى طالب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب وابن زيد‏:‏ هذا خطاب لولاة المسلمين خاصة، فهي للنبي صلى الله عليه وسلم وأمرائه، ثم تتناول من بعدهم‏.‏ وقال ابن جريج وغيره‏:‏ ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة في أمر مفتاح الكعبة حين أخذه من عثمان بن أبي طلحة الحجبي العبدري من بني عبدالدار ومن ابن عمه شيبة بن عثمان بن أبي طلحة وكانا كافرين وقت فتح مكة، فطلبه العباس بن عبدالمطلب لتنضاف له السدانة إلى السقاية؛ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة فكسر ما كان فيها من الأوثان، وأخرج مقام إبراهيم ونزل عليه جبريل بهذه الآية‏.‏ قال عمر بن الخطاب‏:‏ وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، وما كنت سمعتها قبل منه، فدعا عثمان وشيبة فقال‏:‏ ‏(‏خذاها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم ‏)‏‏.‏ وحكى مكي‏:‏ أن شيبة أراد ألا يدفع المفتاح، ثم دفعه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ خذه بأمانة الله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الآية في الولاة خاصة في أن يعظوا النساء في النشوز ونحوه ويردوهن إلى الأزواج‏.‏ والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال ورد الظلامات والعدل في الحكومات‏.‏ وهذا اختيار الطبري‏.‏ وتتناول من دونهم من الناس في حفظ الودائع والتحرز في الشهادات وغير ذلك، كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه؛ والصلاة والزكاة وسائر العبادات أمانة الله تعالى‏.‏ وروي هذا المعنى مرفوعا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها ‏)‏ أو قال‏:‏ ‏(‏كل شيء إلا الأمانة - والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع ‏)‏‏.‏ ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية‏.‏ وممن قال إن الآية عامة في الجميع البراء بن عازب وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب قالوا‏:‏ الأمانة في كل شيء في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس‏:‏ لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة‏.‏

قلت‏:‏ وهذا إجماع‏.‏ وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها الأبرار منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر‏.‏ والأمانة مصدر بمعنى المفعول فلذلك جمع‏.‏ ووجه النظم بما تقدم أنه تعالى أخبر عن كتمان أهل الكتاب صفة محمد صلى الله عليه وسلم، وقولهم‏:‏ إن المشركين أهدى سبيلا، فكان ذلك خيانة منهم فانجر الكلام إلى ذكر جميع الأمانات؛ فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا‏.‏ وأمهاتها في الأحكام‏:‏ الوديعة واللقطة والرهن والعارية‏.‏ وروى أبي بن كعب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ‏)‏‏.‏ أخرجه الدارقطني‏.‏ ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في ‏}‏البقرة ‏}‏معناه‏.‏ وروى أبو أمامة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع‏:‏ ‏(‏العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم ‏)‏‏.‏ صحيح أخرجه الترمذي وغيره‏.‏ وزاد الدارقطني‏:‏ فقال رجل‏:‏ فعهد الله ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏عهد الله أحق ما أدي ‏)‏‏.‏ وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب تعدي فيها أو لم يتعد - عطاء والشافعي وأحمد وأشهب‏.‏ وروي أن ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهما ضمنا الوديعة‏.‏ وروى ابن القاسم عن مالك أن من استعار حيوانا أو غيره مما لا يغاب عليه فتلف عنده فهو مصدق في تلفه ولا يضمنه إلا بالتعدي‏.‏ وهذا قول الحسن البصري والنخعي، وهو قول الكوفيين والأوزاعي قالوا‏:‏ ومعنى قول عليه السلام‏:‏ ‏(‏العارية مؤداة‏)‏ هو كمعنى قوله تعالى‏{‏إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها‏}‏‏.‏ فإذا تلفت الأمانة لم يلزم المؤتمن غرمها لأنه مصدق فكذلك العارية إذا تلفت من غير تعد؛ لأنه لم يأخذها على الضمان، فإذا تلفت بتعديه عليها لزمه قيمتها لجنايته عليها‏.‏ وروي عن علي وعمر وابن مسعود أنه لا ضمان في العارية‏.‏ وروى الدارقطني عن، عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا ضمان على مؤتمن ‏)‏‏.‏ واحتج الشافعي فيما استدل به بقول صفوان للنبي صلى الله عليه وسلم لما استعار منه الأدراع‏:‏ أعارية مضمونة أو عارية مؤداة ‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏بل عارية مؤداة ‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل‏}‏ قال الضحاك‏:‏ بالبينة على المدعي واليمين على من أنكر‏.‏ وهذا خطاب للولاة والأمراء والحكام، ويدخل في ذلك بالمعنى جميع الخلق كما ذكرنا في أداء الأمانات‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته والرجل راع على أهله وهو مسؤول عنهم والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة عنه والعبد راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ‏)‏‏.‏ فجعل في هذه الأحاديث الصحيحة كل هؤلاء رعاة‏:‏ وحكاما على مراتبهم، وكذلك العالم الحاكم؛ لأنه إذا أفتى حكم وقضى وفصل بين الحلال والحرام، والفرض والندب، والصحة والفساد، فجميع ذلك أمانة تؤدى وحكم يرضى‏.‏ وقد تقدم في ‏(‏البقرة‏)‏ القول في ‏}‏نعما‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله كان سميعا بصيرا‏}‏ وصف الله تعالى نفسه بأنه سميع بصير يسمع ويرى؛ كما قال تعالى‏{‏إنني معكما أسمع وأرى‏}‏طه‏:‏46‏]‏ فهذا طريق السمع‏.‏ والعقل يدل على ذلك؛ فإن انتفاء السمع والبصر يدل على نقيضهما من العمى والصمم، إذ المحل القابل للضدين لا يخلو من أحدهما، وهو تعالى مقدس عن النقائص ويستحيل صدور الأفعال الكاملة من المتصف، بالنقائص؛ كخلق السمع والبصر ممن ليس له سمع ولا بصر‏.‏ وأجمعت الأمة على تنزيهه تعالى عن النقائص وهو أيضا دليل سمعي يكتفى به مع نص القرآن في مناظرة من تجمعهم كلمة الإسلام‏.‏ جل الرب تبارك وتعالى عما يتوهمه المتوهمون ويختلقه المفترون الكاذبون ‏}‏سبحان ربك رب العزة عما يصفون ‏}‏الصافات‏:‏180‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏59‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا‏}‏

لما تقدم إلى الولاة في الآية المتقدمة وبدأ بهم فأمرهم بأداء الأمانات وأن يحكموا بين الناس بالعدل، تقدم في هذه الآية إلى الرعية فأمر بطاعته جل وعز أولا، وهي امتثال أوامره واجتناب نواهيه، ثم بطاعة رسوله ثانيا فيما أمر به ونهى عنه، ثم بطاعة الأمراء ثالثا؛ على قول الجمهور وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم‏.‏ قال سهل بن عبدالله التستري‏:‏ أطيعوا السلطان في سبعة‏:‏ ضرب الدراهم والدنانير، والمكاييل والأوزان، والأحكام والحج والجمعة والعيدين والجهاد‏.‏ قال سهل‏:‏ وإذا نهى السلطان العالم أن يفتي فليس له أن يفتي، فإن أفتى فهو عاص وإن كان أميرا جائرا‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ وأما طاعة السلطان فتجب فيما كان له فيه طاعة، ولا تجب فيما كان لله فيه معصية؛ ولذلك قلنا‏:‏ إن ولاة زماننا لا تجوز طاعتهم ولا معاونتهم ولا تعظيمهم، ويجب الغزو معهم متى غزوا، والحكم من قولهم، وتولية الإمامة والحسبة؛ وإقامة ذلك على وجه الشريعة‏.‏ وإن صلوا بنا وكانوا فسقة من جهة المعاصي جازت الصلاة معهم، وإن كانوا مبتدعة لم تجز الصلاة معهم إلا أن يخافوا فيصلي معهم تقية وتعاد الصلاة‏.‏

قلت‏:‏ روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال‏:‏ حق على الإمام أن يحكم بالعدل، ويؤدي الأمانة؛ فإذا فعل ذلك وجب على المسلمين أن يطيعوه؛ لأن الله تعالى أمرنا بأداء الأمانة والعدل، ثم أمر بطاعته‏.‏ وقال جابر بن عبدالله ومجاهد‏{‏أولو الأمر ‏}‏أهل القرآن والعلم؛ وهو اختيار مالك رحمه الله، ونحوه قول الضحاك قال‏:‏ يعني الفقهاء والعلماء في الدين‏.‏ وحكي عن مجاهد أنهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ وحكى عن عكرمة أنها إشارة إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما خاصة‏.‏ وروى سفيان بن عيينة عن الحكم بن أبان أنه سأل عكرمة عن أمهات الأولاد فقال‏:‏ هن حرائر‏.‏ فقلت بأي شيء ‏؟‏ قال بالقرآن‏.‏ قلت‏:‏ بأي شيء في القرآن ‏؟‏ قال‏:‏ قال الله تعالى‏{‏أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ‏}‏وكان عمر من أولي الأم؛ قال‏:‏ عتقت ولو بسقط‏.‏ وسيأتي هذا المعنى مبينا في سورة ‏}‏الحشر ‏}‏عند قوله تعالى‏{‏وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا‏}‏الحشر‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ هم أولو العقل، الرأي الذين يدبرون أمر الناس‏.‏

قلت‏:‏ وأصح هذه الأقوال الأول والثاني؛ أما الأول فلأن أصل الأم منهم والحكم إليهم‏.‏ وروى الصحيحان عن ابن عباس قال‏:‏ نزل ‏}‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ في عبدالله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وكان في عبدالله بن حذافة دعابة معروفة؛ ومن دعابته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره على سرية فأمرهم أن يجمعوا حطبا ويوقدوا نارا؛ فلما أوقدوها أمرهم بالتقحم فيها، فقال لهم‏:‏ ألم يأمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعتي ‏؟‏ ‏!‏ وقال‏:‏ ‏(‏من أطاع أميري فقد أطاعني ‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ ما آمنا بالله واتبعنا رسوله إلا لننجو من النار ‏!‏ فصوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم وقال‏:‏ ‏(‏لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الله تعالى‏{‏ولا تقتلوا أنفسكم ‏}‏النساء‏:‏ 29‏]‏ ‏)‏‏.‏ وهو حدث صحيح الإسناد مشهور‏.‏ وروى محمد بن عمرو بن علقمة عن عمر بن الحكم بن ثوبان أن أبا سعيد الخدري قال‏:‏ كان عبدالله بن حذافة بن قيس، السهمي من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة‏.‏ وذكر الزبير قال‏:‏ حدثني عبدالجبار بن سعيد عن عبدالله بن وهب عن الليث بن سعد قال‏:‏ بلغني أنه حل حزام راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع‏.‏ قال ابن وهب‏:‏ فقلت لليث ليضحكه ‏؟‏ قال‏:‏ نعم كانت فيه دعابة‏.‏ قال ميمون بن مهران ومقاتل والكلبي‏{‏أولوا الأمر‏}‏ أصحاب السرايا‏.‏ وأما القول الثاني فيدل على صحته قوله تعالى ‏}‏فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول‏}‏‏.‏ فأمر تعالى برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليس لغير العلماء معرفة كيفية الرد إلى الكتاب والسنة؛ ويدل هذا على صحة كون سؤال العلماء واجبا، وامتثال فتواهم لازما‏.‏ قال سهل بن عبدالله رحمه الله‏:‏ لا يزال الناس بخير ما عظموا السلطان والعلماء؛ فإذا عظموا هذين أصلح الله دنياهم وأخراهم، وإذا استخفوا بهذين أفسد دنياهم وأخراهم‏.‏ وأما القول الثالث فخاص، وأخص منه القول الرابع‏.‏ وأما الخامس فيأباه ظاهر اللفظ وإن كان المعنى صحيحا، فإن العقل لكل فضيلة أس، ولكل أدب ينبوع، وهو الذي جعله الله للدين أصلا وللدنيا عمادا، فأوجب الله التكليف بكمال، وجعل الدنيا مدبرة بأحكامه؛ والعاقل أقرب إلى ربه تعالى من جميع المجتهدين بغير عقل وروى هذا المعنى عن ابن عباس‏.‏ وزعم قوم أن المراد بأولي الأمر علي والأئمة المعصومون‏.‏ ولو كان كذلك ما كان لقوله‏{‏فردوه إلى الله والرسول ‏}‏معنى، بل كان يقول فردوه إلى الإمام وأولي الأمر، فإن قوله عند هؤلاء هو المحكم على الكتاب والسنة‏.‏ وهذا قول مهجور مخالف لما عليه الجمهور‏.‏ وحقيقة الطاعة امتثال الأمر، كما أن المعصية ضدها وهي مخالفة الأمر‏.‏ والطاعة مأخوذة من أطاع إذا انقاد، والمعصية مأخوذة من عصى إذا اشتد‏.‏ و‏}‏أولو ‏}‏واحدهم ‏}‏ذو ‏}‏على غير قياس كالنساء والإبل والخيل، كل واحد اسم الجمع ولا واحد له من لفظه‏.‏ وقد قيل في واحد الخيل‏:‏ خائل وقد تقدم‏.‏

قوله تعالى‏{‏فإن تنازعتم في شيء‏}‏ أي تجادلتم واختلفتم؛ فكأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويذهبها‏.‏ والنزع الجذب‏.‏ والمنازعة مجاذبة الحجج؛ ومنه الحديث ‏(‏وأنا أقول ما لي ينازعني القرآن ‏)‏‏.‏ وقال الأعشى‏:‏

نازعتم قضب الريحان متكئا وقهوة مزة راووقها خضل

الخضل النبات الناعم والخضيلة الروضة ‏}‏في شيء‏}‏ أي من أمر دينكم‏.‏ ‏}‏فردوه إلى الله والرسول‏}‏ أي ردوا ذلك الحكم إلى كتاب الله أو إلى رسوله بالسؤال في حياته، أو بالنظر في سنته بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ هذا قول مجاهد والأعمش وقتادة، وهو الصحيح‏.‏ ومن لم ير هذا أختل إيمانه؛ لقوله تعالى‏{‏إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى قولوا الله ورسوله أعلم؛ فهذا هو الرد‏.‏ وهذا كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل‏.‏ والقول الأول أصح؛ لقول علي رضي الله عنه‏:‏ ما عندنا إلا ما في كتاب الله وما في هذه الصحيفة، أو فهم أعطيه رجل مسلم‏.‏ ولو كان كما قال هذا القائل لبطل الاجتهاد الذي خص به هذه الأمة والاستنباط الذي أعطيها، ولكن تضرب الأمثال ويطلب المثال حتى يخرج الصواب‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ وذلك قوله تعالى‏{‏ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ‏}‏النساء‏:‏ 83‏]‏‏.‏ نعم، ما كان مما استأثر الله بعلمه ولم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقال فيه‏:‏ الله أعلم‏.‏ وقد استنبط علي رضي الله عنه مدة أقل الحمل - وهو ستة أشهر - من قوله تعالى‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ‏}‏الأحقاف‏:‏15‏]‏ وقوله تعالى‏{‏والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين‏}‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ فإذا فصلنا الحولين من ثلاثين شهرا بقيت ستة أشهر؛ ومثله كثير‏.‏ وفي قوله تعالى‏{‏وإلى الرسول‏}‏ دليل على أن سنته صلى الله عليه وسلم يعمل بها ويمتثل ما فيها‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ‏)‏ أخرجه مسلم‏.‏ وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ‏)‏‏.‏ وعن العرباض بن سارية أنه حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس وهو يقول‏:‏ ‏(‏أيحسب أحدكم متكئا على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئا إلا ما في هذا القرآن ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر ‏)‏‏.‏ وأخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معديكرب بمعناه وقال‏:‏ حديث حسن غريب‏.‏ والقاطع قوله تعالى‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ‏}‏النور‏:‏ 63‏]‏ الآية‏.‏ وسيأتي‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك خير‏}‏ أي ردكم ما اختلفتم فيه إلى الكتاب والسنة خير من التنازع‏.‏ ‏}‏وأحسن تأويلا‏}‏ أي مرجعا؛ من آل يؤول إلى كذا أي صار‏.‏ وقيل‏:‏ من ألت الشيء إذا جمعته وأصلحته‏.‏ فالتأويل جمع معاني ألفاظ أشكلت بلفظ لا إشكال فيه؛ يقال‏:‏ أول الله عليك أمرك أي جمعه‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى وأحسن من تأويلكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏60 ‏:‏ 61‏)‏

‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا‏}‏

روى يزيد بن زريع عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال‏:‏ كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه علم أنه لا يقبل الرشوة‏.‏ ودعا المنافق اليهودي إلى حكامهم؛ لأنه علم أنهم يأخذون الرشوة في أحكامهم؛ فلما اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة؛ فأنزل الله تعالى في ذلك‏{‏ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك‏}‏ يعني المنافق‏.‏ ‏}‏وما أنزل من قبلك‏}‏ يعني اليهودي‏.‏ ‏}‏يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت‏}‏ إلى قوله‏{‏ويسلموا تسليما‏}‏ وقال الضحاك‏:‏ دعا اليهودي المنافق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف وهو ‏}‏الطاغوت‏}‏ ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال‏:‏ كان بين رجل من المنافقين يقال له بشر وبين يهودي خصومة؛ فقال اليهودي‏:‏ انطلق بنا إلى محمد، وقال المنافق‏:‏ بل إلى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله ‏}‏الطاغوت‏}‏ أي ذو الطغيان فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلما رأى ذلك المنافق أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي‏.‏ فلما خرجا قال المنافق‏:‏ لا أرضى، انطلق بنا إلى أبي بكر؛ فحكم لليهودي فلم يرض ذكره الزجاج وقال‏:‏ انطلق بنا إلى عمر فأقبلا على عمر فقال اليهودي‏:‏ إنا صرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم إلى أبي بكر فلم يرض؛ فقال عمر للمنافق‏:‏ أكذلك هو ‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ رويدكما حتى أخرج إليكما‏.‏ فدخل وأخذ السيف ثم ضرب به المنافق حتى برد، وقال‏:‏ هكذا أقضي على من لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله؛ وهرب اليهودي، ونزلت الآية، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنت الفاروق ‏)‏‏.‏ ونزل جبريل وقال‏:‏ إن عمر فرق بين الحق والباطل؛ فسمي الفاروق‏.‏ وفي ذلك نزلت الآيات كلها إلى قوله‏{‏ويسلموا تسليما ‏}‏النساء‏:‏ 65‏]‏ وانتصب‏{‏ضلالا ‏}‏على المعنى، أي فيضلون ضلالا؛ ومثله قوله تعالى‏{‏والله أنبتكم من الأرض نباتا ‏}‏نوح‏:‏ 17‏]‏‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى مستوفى‏.‏ و‏}‏صدودا ‏}‏اسم للمصدر عند الخليل، والمصدر الصد‏.‏ والكوفيون يقولون‏:‏ هما مصدران‏.‏

 الآية رقم ‏(‏62 ‏:‏ 63‏)‏

‏{‏فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا‏}‏

أي ‏}‏فكيف‏}‏ يكون حالهم، أو ‏}‏فكيف‏}‏ يصنعون ‏}‏إذا أصابتهم مصيبة‏}‏ أي ترك الاستعانة بهم، وما يلحقهم من الذل في قوله‏{‏فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا ‏}‏التوبة‏:‏ 83‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ يريد قتل صاحبهم ‏}‏بما قدمت أيديهم ‏}‏وتم الكلام‏.‏ ثم ابتدأ يخبر عن فعلهم؛ وذلك أن عمر لما قتل صاحبهم جاء قومه يطلبون ديته ويحلفون ما نريد بطلب ديته إلا الإحسان وموافقة الحق‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ما أردنا بالعدول عنك في المحاكمة إلا التوفيق بين الخصوم، والإحسان بالتقريب في الحكم‏.‏ ابن كيسان‏:‏ عدلا وحقا؛ نظيرها ‏}‏وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى‏}‏التوبة‏:‏ 107‏]‏‏.‏ فقال الله تعالى مكذبا لهم‏{‏أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ‏}‏قال الزجاج‏:‏ معناه قد علم الله أنهم منافقون‏.‏ والفائدة لنا‏:‏ اعلموا أنهم منافقون‏.‏ ‏}‏فأعرض عنهم‏}‏ قيل‏:‏ عن عقابهم‏.‏ وقيل‏:‏ عن قبول اعتذارهم ‏}‏وعظهم‏}‏ أي خوفهم‏.‏ قيل في الملأ‏.‏ ‏}‏وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا‏}‏ أي ازجرهم بأبلغ الزجر في السر والخلاء‏.‏ الحسن‏:‏ قل لهم إن أظهرتم ما في قلوبكم قتلتكم‏.‏ وقد بلغ القول بلاغة؛ ورجل بليغ يبلغ بلسانه كنه ما في قلبه‏.‏ والعرب تقول‏:‏ أحمق بلغ وبلغ، أي نهاية في الحماقة‏.‏ وقيل‏:‏ معناه يبلغ ما يريد وإن كان أحمق‏.‏ ويقال‏:‏ إن قوله تعالى‏{‏فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ‏}‏نزل في شأن الذين بنوا مسجد الضرار؛ فلما أظهر الله نفاقهم، وأمرهم بهدم المسجد حلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعا عن أنفسهم‏:‏ ما أردنا ببناء المسجد إلا طاعة الله وموافقة الكتاب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏64‏)‏

‏{‏وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏وما أرسلنا من رسول‏}‏ ‏}‏من ‏}‏زائدة للتوكيد‏.‏ ‏}‏إلا ليطاع‏}‏ فيما أمر به ونهى عنه‏.‏ ‏}‏بإذن الله‏}‏ بعلم الله‏.‏ وقيل‏:‏ بتوفيق الله‏.‏ ‏}‏ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول‏}‏ روى أبو صادق عن علي قال‏:‏ قدم علينا أعرابي بعد ما دفنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فرمى بنفسه على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثا على رأسه من ترابه؛ فقال‏:‏ قلت يا رسول الله فسمعنا قولك، ووعيت عن الله فوعينا عنك، وكان فيما أنزل الله عليك ‏}‏ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ‏}‏الآية، وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي‏.‏ فنودي من القبر أنه قد غفر لك‏.‏ ‏}‏لوجدوا الله توابا رحيما‏}‏ أي قابلا لتوبتهم، وهما مفعولان لا غير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏65‏)‏

‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما‏}‏

قال مجاهد وغيره‏:‏ المراد بهذه الآية من تقدم ذكره ممن أراد التحاكم إلى الطاغوت وفيهم نزلت‏.‏ وقال الطبري‏:‏ قوله ‏}‏فلا ‏}‏رد على ما تقدم ذكره؛ تقديره فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، ثم استأنف القسم بقوله‏{‏وربك لا يؤمنون‏}‏‏.‏ وقال غيره‏:‏ إنما قدم ‏}‏لا ‏}‏على القسم اهتماما بالنفي وإظهارا لقوته، ثم كرره بعد القسم تأكيدا للتهمم بالنفي، وكان يصح إسقاط ‏}‏لا ‏}‏الثانية ويبقى أكثر الاهتمام بتقديم الأولى، وكان يصح إسقاط الأولى ويبقى معنى النفي ويذهب معنى الاهتمام‏.‏ و‏}‏شجر ‏}‏معناه اختلف واختلط؛ ومنه الشجر لاختلاف أغصانه‏.‏ ويقال لعصي الهودج‏:‏ شجار؛ لتداخل بعضها في بعض‏.‏ قال الشاعر‏:‏

نفسي فداؤك والرماح شواجر والقوم ضنك للقاء قيام

وقال طرفة‏:‏

وهم الحكام أرباب الهدى وسعاة الناس في الأمر الشجر

وقالت طائفة‏:‏ نزلت في الزبير مع الأنصاري، وكانت الخصومة في سقي بستان؛ فقال عليه السلام للزبير‏:‏ ‏(‏اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك ‏)‏‏.‏ فقال الخصم‏:‏ أراك تحابي ابن عمتك؛ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال للزبير‏:‏ ‏(‏اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ‏)‏ ونزل‏{‏فلا وربك لا يؤمنون‏}‏‏.‏ الحديث ثابت صحيح رواه البخاري عن علي بن عبدالله عن محمد بن جعفر عن معمر، ورواه مسلم عن قتيبة كلاهما عن الزهري‏.‏ واختلف أهل هذا القول في الرجل الأنصاري؛ فقال بعضهم‏:‏ هو رجل من الأنصار من أهل بدر‏.‏ وقال مكي والنحاس‏:‏ هو حاطب بن أبي بلتعة‏.‏ وقال الثعلبي والواحدي والمهدوي‏:‏ هو حاطب‏.‏ وقيل‏:‏ ثعلبة بن حاطب‏.‏ وقيل غيره‏:‏ والصحيح القول الأول؛ لأنه غير معين ولا مسمى؛ وكذا في البخاري ومسلم أنه رجل من الأنصار‏.‏ واختار الطبري أن يكون نزول الآية في المنافق واليهودي‏.‏ كما قال مجاهد؛ ثم تتناول بعمومها قصة الزبير‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهو الصحيح؛ فكل من اتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم فهو كافر، لكن الأنصاري زل زله فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وأقال عثرته لعلمه بصحة يقينه، وأنها كانت فلتة وليست لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكل من لم يرض بحكم الحاكم وطعن فيه ورده فهي ردة يستتاب‏.‏ ‏(‏أما إن طعن في الحاكم نفسه لا في الحكم فله تعزيره وله أن يصفح عنه وسيأتي بيان هذا في آخر سورة ‏}‏الأعراف‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

وإذا كان سبب نزول هذه الآية ما ذكرناه من الحديث ففقهها أنه عليه السلام سلك مع الزبير وخصمه مسلك الصلح فقال‏:‏ ‏(‏اسق يا زبير ‏)‏ لقربه من الماء ‏(‏ثم أرسل الماء إلى جارك ‏)‏‏.‏ أي تساهل في حقك ولا تستوفه وعجل في إرسال الماء إلى جارك‏.‏ فحضه على المسامحة والتيسير، فلما سمع الأنصاري هذا لم يرض بذلك وغضب؛ لأنه كان يربد ألا يمسك الماء أصلا، وعند ذلك نطق بالكلمة الجائرة المهلكة الفاقرة فقال‏:‏ أن كان ابن عمتك ‏؟‏ بمد همزة ‏}‏أن ‏}‏المفتوحة على جهة الإنكار؛ أي أتحكم له علي لأجل أنه قرابتك ‏؟‏‏.‏ فعند ذلك تلون وجه النبي صلى الله عليه وسلم غضبا عليه، وحكم للزبير باستيفاء حقه من غير مسامحة له‏.‏ وعليه لا يقال‏:‏ كيف حكم في حال غضبه وقد قال‏:‏ ‏(‏لا يقضى القاضي وهو غضبان ‏)‏ ‏؟‏ فإنا نقول‏:‏ لأنه معصوم من الخطأ في التبليغ والأحكام، بدليل العقل الدال على صدقه فيما يبلغه عن الله تعالى فليس مثل غيره من الحكام‏.‏ وفي هذا الحديث إرشاد الحاكم إلى الإصلاح بين الخصوم وإن ظهر الحق‏.‏ ومنعه مالك، واختلف فيه قول الشافعي‏.‏ وهذا الحديث حجة واضحة على الجواز؛ فإن اصطلحوا وإلا استوفى لذي الحق حقه وثبت الحكم‏.‏

واختلف أصحاب مالك في صفة إرسال الماء الأعلى إلى الأسفل؛ فقال ابن حبيب‏:‏ يدخل صاحب الأعلى جميع الماء في حائطه ويسقي به، حتى إذا بلغ الماء من قاعة الحائط إلى الكعبين من القائم فيه أغلق مدخل الماء، وصرف ما زاد من الماء على مقدار الكعبين إلى من يليه، فيصنع به مثل ذلك حتى يبلغ السيل إلى أقصى الحوائط‏.‏ وهكذا فسره لي مطرف وابن الماجشون‏.‏ وقاله ابن وهب‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ إذا انتهى الماء في الحائط إلى مقدار الكعبين أرسله كله إلى من تحته ولا يحبس منه شيئا في حائطه‏.‏ قال ابن حبيب‏:‏ وقول مطرف وابن الماجشون أحب إلي وهم أعلم بذلك؛ لأن المدينة دارهما ومها كانت القضية وفيها جرى العمل‏.‏

روى مالك عن عبدالله بن أبي بكر أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في سيل مهزور ومذينب‏:‏ ‏(‏يمسك حتى الكعبين ثم يرسل الأعلى على الأسفل ‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏{‏لا أعلم هذا الحديث يتصل عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه من الوجوه، وأرفع أسانيده ما ذكره محمد بن إسحاق عن أبي مالك بن ثعلبة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه أهل مهزور فقضى أن الماء إذا بلغ الكعبين لم يحبس الأعلى‏.‏ وذكر عبدالرزاق عن أبي حازم القرطبي عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في سيل مهزور أن يحبس على كل حائط حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل‏.‏ وغيره من السيول كذلك‏.‏ وسئل أبو بكر البزار عن حديث هذا الباب فقال‏:‏ لست أحفظ فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا يثبت‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ في هذا المعنى - وإن لم يكن بهذا اللفظ حديث ثابت مجتمع على صحته‏.‏ رواه ابن وهب عن الليث بن سعد ويونس بن يزيد جميعا عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير حدثه أن عبدالله بن الزبير حدثه عن الزبير أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة كانا يسقيان بها كلاهما النخل؛ فقال الأنصاري‏:‏ سرح الماء؛ فأبى عليه، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏}‏ وذكر الحديث‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقوله في الحديث‏:‏ ‏(‏يرسل ‏)‏ وفي الحديث الآخر ‏(‏إذا بلغ الماء الكعبين لم يحبس الأعلى ‏)‏ يشهد لقول ابن القاسم‏.‏ ومن جهة النظر أن الأعلى لو لم يرسل إلا ما زاد على الكعبين لا يقطع ذلك الماء في أقل مدة، ولم ينته حيث ينتهي إذا أرسل الجميع، وفي إرسال الجميع بعد أخذ الأعلى منه ما بلغ الكعبين أعم فائدة وأكثر نفعا فيما قد جعل الناس فيه شركاء؛ فقول ابن القاسم أولى على كل حال‏.‏ هذا إذا لم يكن أصله ملكا للأسفل مختصا به، فإن ما استحق بعمل أو بملك صحيح أو استحقاق قديم وثبوت ملك فكل على حقه على حسب ما كان من ذلك بيده وعلى أصل مسألته‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت‏}‏ أي ضيقا وشكا؛ ومنه قيل للشجر الملتف‏:‏ حرج وحرجة، وجمعها حراج‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أي إثما بإنكارهم ما قضيت‏.‏ ‏}‏ويسلموا تسليما‏}‏ أي ينقادوا لأمرك في القضاء‏.‏ وقال الزجاج‏{‏تسليما ‏}‏مصدر مؤكد؛ فإذا قلت‏:‏ ضربت ضربا فكأنك قلت لا أشك فيه؛ وكذلك ‏}‏ويسلموا تسليما ‏}‏أي ويسلموا لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏66 ‏:‏ 67 ‏:‏ 68‏)‏

‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا، وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما، ولهديناهم صراطا مستقيما‏}‏

سبب نزولها ما روى أن ثابت بن قيس بن شماس تفاخر هو ويهودي؛ فقال اليهودي‏:‏ والله لقد كتب علينا أن نقتل أنفسنا فقتلنا، وبلغت القتلى سبعين ألفا؛ فقال ثابت‏:‏ والله لو كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم لفعلنا‏.‏ وقال أبو إسحاق السبيعي‏:‏ لما نزلت ‏}‏ولو أنا كتبنا عليهم ‏}‏الآية، قال رجل‏:‏ لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا‏.‏ فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ‏)‏‏.‏ قال ابن وهب قال مالك‏:‏ القائل ذلك هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه؛ وهكذا ذكر مكي أنه أبو بكر‏.‏ وذكر النقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏.‏ وذكر عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ لو كتب علينا ذلك لبدأت بنفسي وأهل بيتي‏.‏ وذكر أبو الليث السمرقندي‏:‏ أن القائل منهم عمار بن ياسر وابن مسعود وثابت بن قيس، قالوا‏:‏ لو أن الله أمرنا أن نقتل أنفسنا أو نخرج من ديارنا لفعلنا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الإيمان أثبت في قلوبنا الرجال من الجبال الرواسي ‏)‏‏.‏ و‏}‏لو ‏}‏حرف يدل على امتناع الشيء لامتناع غيره؛ فأخبر الله سبحانه أنه لم يكتب ذلك علينا رفقا بنا لئلا تظهر معصيتنا‏.‏ فكم من أمر قصرنا عنه مع خفته فكيف بهذا الأمر مع ثقله ‏!‏ لكن أما والله لقد ترك المهاجرون مساكنهم خاوية وخرجوا يطلبون بها عيشة راضية‏.‏ ‏}‏ما فعلوه‏}‏ أي القتل والخروج ‏}‏إلا قليل منهم‏}‏ ‏}‏قليل ‏}‏بدل من الواو، والتقدير ما فعله أحد إلا قليل‏.‏ وأهل الكوفة يقولون‏:‏ هو على التكرير ما فعلوه ما فعله إلا قليل منهم‏.‏ وقرأ عبدالله بن عامر وعيسى بن عمر ‏}‏إلا قليلا ‏}‏على الاستثناء‏.‏ وكذلك هو في مصاحف أهل الشام‏.‏ الباقون بالرفع، والرفع أجود عند جميع النحويين‏.‏ وقيل‏:‏ انتصب على إضمار فعل، تقديره إلا أن يكون قليلا منهم‏.‏ وإنما صار الرفع أجود لأن اللفظ أولى من المعنى، وهو أيضا يشتمل على المعنى‏.‏ وكان من القليل أبو بكر وعمر وثابت بن قيس كما ذكرنا‏.‏ وزاد الحسن ومقاتل وعمار وابن مسعود وقد ذكرناهما‏.‏ ‏}‏ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم‏}‏ أي في الدنيا والآخرة‏.‏ ‏}‏وأشد تثبيتا‏}‏ أي على الحق‏.‏ ‏}‏وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما‏}‏ أي ثوابا في الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ اللام لام الجواب، و‏}‏إذا ‏}‏دالة على الجزاء، والمعنى لو فعلوا ما يوعظون به لآتيناهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏69 ‏:‏ 70‏)‏

‏{‏ ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما‏}‏

فيه ثلاث مسائل الأولى قوله تعالى‏{‏ومن يطع الله والرسول‏}‏ لما ذكر تعالى الأمر الذي لو فعله المنافقون حين وعظوا به وأنابوا إليه لأنعم عليهم، ذكر بعد ذلك ثواب من يفعله‏.‏ وهذه الآية تفسير قوله تعالى‏{‏اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ‏}‏الفاتحة‏:‏6 - 7‏]‏ وهي المراد في قوله عليه السلام عند موته ‏(‏اللهم الرفيق الأعلى ‏)‏‏.‏ وفي البخاري عن عائشة قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ما من نبي يمرض إلا خير بين الدنيا والآخرة ‏)‏ كان في شكواه الذي مرض فيه أخذته بحة شديدة فسمعته يقول‏:‏ ‏(‏مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ‏)‏ فعلمت أنه خير‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ إنما نزلت هذه الآية لما قال عبدالله بن زيد بن عبدربه الأنصاري - الذي أري الأذان - ‏:‏ يا رسول الله، إذا مت ومتنا كنت في عليين لا نراك ولا نجتمع بك؛ وذكر حزنه على ذلك فنزلت هذه الآية‏.‏ وذكر مكي عن عبدالله هذا وأنه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ اللهم أعمني حتى لا أري شيئا بعده؛ فعمي مكانه‏.‏ وحكاه القشري فقال‏:‏ اللهم أعمني فلا أرى شيئا بعد حبيبي حتى ألقى حبيبي؛ فعمي مكانه‏.‏ وحكى الثعلبي‏:‏ أنها نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه، يعرف في وجهه الحزن؛ فقال له‏:‏ ‏(‏يا ثوبان ما غير لونك ‏)‏ فقال‏:‏ يا رسول الله ما بي ضر ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف ألا أراك هناك؛ لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني إن دخلت الجنة كنت في منزلة هي أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل فذلك حين لا أراك أبدا؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ذكره الواحدي عن الكلبي‏.‏ وأسند عن مسروق قال‏:‏ قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا؛ فأنزل الله تعالى‏{‏ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين‏}‏‏.‏ وفي طاعة الله طاعة رسوله ولكنه ذكره تشريفا لقدره وتنويها باسمه صلى الله عليه وسلم وعلى آله‏.‏ ‏}‏فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم‏}‏ أي هم معهم في دار واحدة ونعيم واحد يستمتعون برؤيتهم والحضور معهم، لا أنهم يساوونهم في الدرجة؛ فإنهم يتفاوتون لكنهم يتزاورون للاتباع في الدنيا والاقتداء‏.‏ وكل من فيها قد رزق الرضا بحاله، وقد ذهب عنه اعتقاد أنه مفضول‏.‏ قال الله تعالى‏{‏ونزعنا ما في صدورهم من غل ‏}‏الأعراف‏:‏ 43‏]‏‏.‏ والصديق فعيل، المبالغ في الصدق أو في التصديق، والصديق هو الذي يحقق بفعله ما يقول بلسانه‏.‏ وقيل‏:‏ هم فضلاء أتباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق كأبي بكر الصديق‏.‏ وقد تقدم في البقرة اشتقاق الصديق ومعنى الشهيد‏.‏ والمراد هنا بالشهداء عمر وعثمان وعلي، والصالحين سائر الصحابة رضي الله عنهم أجمعين‏.‏ وقيل ‏}‏الشهداء‏}‏ القتلى في سبيل الله‏.‏ ‏}‏والصالحين‏}‏ صالحي أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قلت‏:‏ واللفظ يعم كل صالح وشهيد، والله أعلم‏.‏ والرفق لين الجانب‏.‏ وسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك بصحبته؛ ومنه الرفقة لارتفاق بعضهم ببعض‏.‏ ويجوز ‏}‏وحسن أولئك رفقاء‏}‏‏.‏ قال الأخفش‏{‏رفيقا ‏}‏منصوب على الحال وهو بمعنى رفقاء؛ وقال‏:‏ انتصب على التمييز فوحد لذلك؛ فكأن المعنى وحسن كل واحد منهم رفيقا‏.‏ كما قال تعالى‏{‏ثم نخرجكم طفلا ‏}‏الحج‏:‏ 5‏]‏ أي نخرج كل واحد منكم طفلا‏.‏ وقال تعالى‏{‏ينظرون من طرف خفي ‏}‏الشورى‏:‏45‏]‏ وينظر معنى هذه الآية قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الرفقاء أربعة‏)‏ ولم يذكر الله تعالى هنا إلا أربعة فتأمله‏.‏

في هذه الآية دليل على خلافة أبي بكر رضي الله عنه؛ وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون، ثم ثنى بالصديقين ولم يجعل بينهما واسطة‏.‏ وأجمع المسلمون على تسمية أبى بكر الصديق رضي الله عنه صديقا، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه السلام رسولا، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصديق وأنه ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجز أن يتقدم بعده أحد‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك الفضل من الله‏}‏ أخبر تعالى أنهم لم ينالوا الدرجة‏.‏ بطاعتهم بل نالوها بفضل الله تعالى وكرمه‏.‏ خلافا لما قالت المعتزلة‏:‏ إنما ينال العبد ذلك بفعله‏.‏ فلما امتن الله سبحانه على أوليائه بما آتاهم من فضله، وكان لا يجوز لأحد أن يثني على نفسه بما لم يفعله دل ذلك على بطلان قولهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم‏}‏ هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع‏.‏ ووجه النظم والاتصال بما قبل أنه لما ذكر طاعة الله وطاعة رسوله، أمر أهل الطاعة بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته، وأمرهم ألا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم، ويعلموا كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم فقال‏{‏خذوا حذركم ‏}‏فعلمهم مباشرة الحروب‏.‏ ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام عين التوكل كما تقدم في ‏}‏آل عمران ‏}‏ويأتي‏.‏ والحذر والحذر لغتان كالمثل والمثل‏.‏ قال القراء‏:‏ أكثر الكلام الحذر، والحذر مسموع أيضا؛ يقال‏:‏ خذ حذرك، أي أحذر‏.‏ وقيل‏:‏ خذوا السلاح حذرا؛ لأنه به الحذر والحذر لا يدفع القدر‏.‏

خلافا للقدرية في قولهم‏:‏ إن الحذر يدفع ويمنع من مكائد الأعداء، ولو لم يكن كذلك ما كان لأمرهم بالحذر معنى‏.‏ فيقال لهم‏:‏ ليس في الآية دليل على أن الحذر ينفع من القدر شيئا؛ ولكنا تعبدنا بألا نلقي بأيدينا إلى التهلكة؛ ومنه الحديث ‏(‏اعقلها وتوكل ‏)‏‏.‏ وإن كان القدر جاريا على ما قضى، ويفعل الله ما يشاء، فالمراد منه طمأنينة النفس، لا أن ذلك ينفع من القدر وكذلك أخذ الحذر‏.‏ الدليل على ذلك أن الله تعالى أثنى على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله‏{‏قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ‏}‏التوبة‏:‏ 51‏]‏ فلو كان يصيبهم غير ما قضى عليهم لم يكن لهذا الكلام معنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏فانفروا ثبات‏}‏ يقال‏:‏ نفر ينفر ‏(‏بكسر الفاء ‏)‏ نفيرا‏.‏ ونفرت الدابة تنفر ‏(‏بضم الفاء‏)‏ نفورا؛ المعنى‏:‏ انهضوا لقتال العدو‏.‏ واستنفر الإمام الناس دعاهم إلى النفر، أي للخروج إلى قتال العدو‏.‏ والنفير اسم للقوم الذين ينفرون، وأصله من النفار والنفور وهو الفزع؛ ومنه قوله تعالى‏{‏ولوا على أدبارهم نفورا ‏}‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏ أي نافرين‏.‏ ومنه نفر الجلد أي ورم‏.‏ وتخلل رجل بالقصب فنفر فمه أي ورم‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ إنما هو من نفار الشيء من الشيء وهو تجافيه عنه وتباعده منه‏.‏ قال ابن فارس‏:‏ النفر عدة رجال من ثلاثة إلى عشرة‏.‏ والنفير النفر أيضا، وكذلك النفر والنفرة، حكاها الفراء بالهاء‏.‏ ويوم النفر‏:‏ يوم ينفر الناس عن منى‏.‏ ‏}‏ثبات ‏}‏معناه جماعات متفرقات‏.‏ ويقال‏:‏ ثبين يجمع جمع السلامة في التأنيث والتذكير‏.‏ قال عمرو بن كلثوم‏:‏

فأما يوم خشينا عليهم فتصبح خيلنا عصبا ثبينا

كناية عن السرايا، الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس‏.‏ وكانت في الأصل الثبية‏.‏ وقد ثبيت الجيش جعلتهم ثبة ثبة‏.‏ والثبة‏:‏ وسط الحوض الذي يثوب إليه الماء أي يرجع قال النحاس‏:‏ وربما توهم الضعيف في العربية أنهما واحد، وأن أحدهما من الآخر؛ وبينهما فرق، فثبة الحوض يقال في تصغيرها‏:‏ ثويبة؛ لأنها من ثاب يثوب‏.‏ ويقال في ثبة الجماعة‏:‏ ثيبة‏.‏ قال غير‏:‏ فثبة الحوض محذوفة الواو وهو عين الفعل، وثبة الجماعة معتل اللام من ثبا يثبو مثل خلا يخلو‏.‏ ويجوز أن يكون الثبة بمعنى الجماعة من ثبة الحوض؛ لأن الماء إذا ثاب اجتمع؛ فعلى هذا تصغر به الجماعة ثوبية فتدخل إحدى الياءين في الأخرى‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ثبة الجماعة إنما اشتقت من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه في حياته وجمعت محاسن ذكره فيعود إلى الاجتماع‏.‏

قوله تعالى‏{‏أو انفروا جميعا‏}‏ معناه الجيش الكثيف مع الرسول عليه السلام؛ قاله ابن عباس وغيره‏.‏ ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام ليكون متجسسا لهم، عضدا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى درئه‏.‏ وسيأتي حكم السرايا وغنائمهم وأحكام الجيوش ووجوب النفير في ‏}‏الأنفال ‏}‏و ‏}‏براءة ‏}‏التوبة‏]‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

ذكر ابن خويز منداد‏:‏ وقيل إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏{‏انفروا خفافا وثقالا‏}‏ وبقوله‏{‏إلا تنفروا يعذبكم ‏}‏التوبة‏:‏39‏]‏؛ ولأن يكون ‏}‏انفروا خفافا وثقالا ‏}‏التوبة‏:‏41‏]‏ منسوخا بقوله‏{‏فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ‏}‏و بقوله‏{‏وما كان المؤمنون لينفروا كافة‏}‏التوبة‏:‏122‏]‏ أولى؛ لأن فرض الجهاد تقرر على الكفاية، فمتى سد الثغور بعض المسلمين أسقط الفرض عن الباقين‏.‏ والصحيح أن الآيتين جميعا محكمتان، إحداهما في الوقت الذي يحتاج فيه إلى تعين الجميع، والأخرى عند الاكتفاء بطائفة دون غيرها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏72 ‏:‏ 73‏)‏

‏{‏ وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن منكم لمن ليبطئن‏}‏ يعني المنافقين‏.‏ والتبطئة والإبطاء التأخر، تقول‏:‏ ما أبطأك عنا؛ فهو لازم‏.‏ ويجوز بطأت فلانا عن كذا أي أخرته؛ فهو متعد‏.‏ والمعنيان مراد في الآية؛ فكانوا يقعدون عن الخروج ويقعدون غيرهم‏.‏ والمعنى إن من دخلائكم وجنسكم وممن أظهر إيمانه لكم‏.‏ فالمنافقون في ظاهر الحال من أعداد المسلمين بإجراء أحكام المسلمين عليهم‏.‏ واللام في قوله ‏}‏لمن ‏}‏لام توكيد، والثانية لام قسم، و‏}‏من ‏}‏في موضع نصب، وصلتها ‏}‏ليبطئن ‏}‏لأن فيه معنى اليمين، والخبر ‏}‏منكم‏}‏‏.‏ وقرأ مجاهد والنخعي والكلبي ‏}‏وإن منكم لمن ليبطئن ‏}‏بالتخفيف، والمعنى واحد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بقوله ‏}‏وإن منكم لمن ليبطئن ‏}‏بعض المؤمنين؛ لأن الله خاطبهم بقوله‏{‏وإن منكم ‏}‏وقد فرق الله تعالى بين المؤمنين والمنافقين بقوله ‏}‏وما هم منكم ‏}‏التوبة‏:‏ 56‏]‏ وهذا يأباه مساق الكلام وظاهره‏.‏ وإنما جمع بينهم في الخطاب من جهة الجنس والنسب كما بينا لا من جهة الإيمان‏.‏ هذا قول الجمهور وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، والله أعلم‏.‏ يدل عليه قوله ‏}‏فإن أصابتكم مصيبة‏}‏ أي قتل وهزيمة ‏}‏قال قد أنعم الله علي‏}‏ يعني بالقعود، وهذا لا يصدر إلا من منافق؛ لا سيما في ذلك الزمان الكريم، بعيد أن يقول مؤمن‏.‏ وينظر إلى هذه الآية ما رواه الأئمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخبارا عن المنافقين ‏(‏إن أثقل صلاة عليهم صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا ‏)‏ الحديث‏.‏ في رواية ‏(‏ولو علم أحدهم أنه يجد عظما سمينا لشهدها ‏)‏ يعني صلاة العشاء‏.‏ يقول‏:‏ لو لاح شيء من الدنيا يأخذونه وكانوا على يقين منه لبادروا إليه‏.‏ وهو معنى قوله‏{‏ولئن أصابكم فضل من الله‏}‏ أي غنيمة وفتح ‏}‏ليقولن‏}‏ هذا المنافق قول نادم حاسد ‏}‏يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما‏}‏ ‏}‏كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ‏}‏فالكلام فيه تقديم وتأخير‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏ليقولن كأن لم يكن بينكم وبينه مودة ‏}‏أي كأن لم يعاقدكم على الجهاد‏.‏ وقيل‏:‏ هو في موضع نصب على الحال‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏ليقولن‏}‏ بضم اللام على معنى ‏}‏من‏}‏؛ لأن معنى قوله ‏}‏لمن ليبطئن‏}‏ ليس يعني رجلا بعينه‏.‏ ومن فتح اللام أعاد فوحد الضمير على لفظ ‏}‏من‏}‏‏.‏ وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ‏}‏كأن لم تكن ‏}‏بالتاء على لفظ المودة‏.‏ ومن قرأ بالياء جعل مودة بمعنى الود‏.‏ وقول المنافق ‏}‏يا ليتني كنت معهم ‏}‏على وجه الحسد أو الأسف على فوت الغنيمة مع الشك في الجزاء من الله‏.‏ ‏}‏فأفوز‏}‏ جواب التمني ولذلك نصب‏.‏ وقرأ الحسن ‏}‏فأفوز‏}‏ بالرفع على أنه تمنى الفوز، فكأنه قال‏:‏ يا ليتني أفوز فوزا عظيما‏.‏ والنصب على الجواب؛ والمعنى إن أكن معهم أفز‏.‏ والنصب فيه بإضمار ‏}‏أن‏}‏ لأنه محمول على تأويل المصدر؛ التقدير يا ليتني كان لي حضور ففوز‏.‏

 الآية رقم ‏(‏74‏)‏

‏{‏فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرا عظيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏فليقاتل في سبيل الله‏}‏ الخطاب للمؤمنين؛ أي فليقاتل في سبيل الله الكفار ‏}‏الذين يشرون ‏}‏أي يبيعون، أي يبذلون أنفسهم وأموالهم لله عر وجل ‏}‏بالآخرة ‏}‏أي بثواب الآخرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن يقاتل في سبيل الله‏}‏ شرط‏.‏ ‏}‏فيقتل أو يغلب ‏}‏عطف عليه، والمجازاة ‏}‏فسوف نؤتيه أجرا عظيما‏}‏‏.‏ ومعنى ‏}‏فيقتل ‏}‏فيستشهد‏.‏ ‏}‏أو يغلب ‏}‏يظفر فيغنم‏.‏ وقرأت طائفة ‏}‏ومن يقاتل ‏}‏‏}‏فليقاتل ‏}‏بسكون لام الأمر‏.‏ وقرأت فرقة ‏}‏فليقاتل ‏}‏بكسر لام الأمر‏.‏ فذكر تعالى غايتي حالة المقاتل واكتفى بالغايتين عما بينهما؛ ذكره ابن عطية‏.‏

ظاهر الآية يقتضي التسوية بين من قتل شهيدا أو انقلب غانما‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة ‏)‏ وذكر الحديث‏.‏ وفيه عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون الغنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم من الآخرة ويبقى لهم الثلث وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم‏)‏‏.‏ فقوله‏:‏ ‏(‏نائلا ما نال من أجر أو غنيمة‏)‏ يقتضي أن لمن يستشهد من المجاهدين أحد الأمرين؛ إما الأجر إن لم يغنم، وإما الغنيمة ولا أجر، بخلاف حديث عبدالله بن عمرو، ولما كان هذا قال قوم‏:‏ حديث عبدالله بن عمرو ليس بشيء؛ لأن في إسناده حميد بن هانئ وليس بمشهور، ورجحوا الحديث الأول عليه لشهرته‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ليس بينهما تعارض ولا اختلاف‏.‏ و‏}‏أو ‏}‏في حديث أبي هريرة بمعنى الواو، كما يقول الكوفيون وقد دلت عليه رواية أبي داود فإنه قال فيه‏:‏ ‏(‏من أجر وغنيمة ‏)‏ بالواو الجامعة‏.‏ وقد رواه بعض رواة مسلم بالواو الجامعة أيضا‏.‏ وحميد بن هانئ مصري سمع أبا عبدالرحمن الحبلى وعمرو بن مالك، وروى عنه حيوة بن شريح وابن وهب؛ فالحديث الأول محمول على مجرد النية والإخلاص في الجهاد؛ فذلك الذي ضمن الله له إما الشهادة، وإما رده إلى أهله مأجورا غانما، ويحمل الثاني على ما إذا نوى الجهاد ولكن مع نيل المغنم، فلما انقسمت نيته انحط أجره؛ فقد دلت السنة على أن للغانم أجرا كما دل عليه الكتاب فلا تعارض‏.‏ ثم قيل‏:‏ إن نقص أجر الغانم على من يغنم إنما هو بما فتح الله عليه من الدنيا فتمتع به وأزال عن نفسه شظف عيشه؛ ومن أخفق فلم يصب شيئا بقي على شظف عيشه والصبر على حالته، فبقي أجره موفرا بخلاف الأول‏.‏ ومثله قوله في الحديث الآخر‏:‏ ‏(‏فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا - منهم مصعب بن عمير - ومنا من أينعت له تمرته فهو يهدبها ‏)‏‏.‏