فصل: سورة آل عمران

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 سورة آل عمران

 الآية رقم ‏(‏1 ‏:‏2‏)‏

‏{‏الم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏}‏

هذه السورة مدنية بإجماع‏.‏ وحكى النقاش أن اسمها في التوراة طَيْبة، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وعاصم بن أبي النجود وأبو جعفر الرؤاسي ‏{‏الم‏.‏ ألله‏{‏ بقطع ألف الوصل، على تقدير الوقف على ‏{‏الم‏{‏ كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد في نحو واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة، وهم واصلون‏.‏ قال الأخفش سعيد‏:‏ ويجوز ‏{‏الم الله‏{‏ بكسر الميم لالتقاء الساكنين‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا خطأ، ولا تقوله العرب لثقله‏.‏ قال النحاس‏:‏ القراءة الأولى قراءة العامة، وقد تكلم فيها النحويون القدماء؛ فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين، واختاروا لها الفتح لئلا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الألف فقلت‏:‏ الم الله، والم اذكر، والمِ اقتربت‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الأصل ‏{‏الم ألله‏{‏ كما قرأ الرؤاسي فألقيت حركة الهمزة على الميم‏.‏ وقرأ عمر بن الخطاب ‏{‏الحي القيام‏{‏‏.‏ وقال خارجة‏:‏ في مصحف عبدالله ‏{‏الحي القيم‏{‏‏.‏ وقد تقدم ما للعلماء من آراء في الحروف التي في أوائل السور في أول ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ ومن حيث جاء في هذه السورة‏{‏الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏{‏ جملة قائمة بنفسها فتتصور تلك الأقوال كلها‏.‏

روى الكسائي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلى العشاء فاستفتح ‏{‏آل عمران‏{‏ فقرأ ‏{‏آلم‏.‏ الله لا إله إلا هو الحي القيام‏{‏ فقرأ في الركعة الأولى بمائة آية، وفي الثانية بالمائة الباقية‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ ولا يقرأ سورة في ركعتين، فإن فعل أجزأه‏.‏ وقال مالك في المجموعة‏:‏ لا بأس به، وما هو بالشأن‏.‏

قلت‏:‏ الصحيح جواز ذلك‏.‏ وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالأعراف في المغرب فرقها في ركعتين، خرجه النسائي أيضا، وصححه أبو محمد عبدالحق، وسيأتي‏.‏

هذه السورة ورد في فضلها آثار وأخبار؛ فمن ذلك ما جاء أنها أمان من الحيات، وكنز للصعلوك، وأنها تحاج عن قارئها في الآخرة، ويكتب لمن قرأ آخرها في ليلة كقيام ليلة، إلى غير ذلك‏.‏ ذكر الدارمي أبو محمد في مسنده حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال حدثني عبيدالله الأشجعي قال‏:‏ حدثني مسعر قال حدثني جابر، قبل أن يقع فيما وقع فيه، عن الشعبي قال قال عبدالله‏:‏ ‏(‏نِعم كنز الصعلوك سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ يقوم بها في آخر الليل‏)‏ حدثنا محمد بن سعيد حدثنا عبدالسلام عن الجريري عن أبي السليل قال‏:‏ أصاب رجل دما قال‏:‏ فأوى إلى وادي مجنة‏:‏ واد لا يمشي فيه أحد إلا أصابته حية، وعلى شفير الوادي راهبان؛ فلما أمسى قال أحدهما لصاحبه‏:‏ هلك والله الرجل‏!‏ قال‏:‏ فافتتح سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ قالا‏:‏ فقرأ سورة طيبة لعله سينجو‏.‏ قال‏:‏ فأصبح سليما‏.‏ وأسند عن مكحول قال‏:‏ ‏(‏من قرأ سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ يوم الجمعة صلت عليه الملائكة إلى الليل‏)‏‏.‏ وأسند عن عثمان بن عفان قال‏:‏ ‏(‏من قرأ آخر سورة ‏{‏آل عمران‏{‏ في ليلة كتب له قيام ليلة‏)‏ في طريقه ابن لهيعة‏.‏ وخرج مسلم عن النواس بن سمعان الكلابي قال‏:‏ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران‏)‏، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال‏:‏ - كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما‏.‏ وخرج أيضا عن أبي أمامة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن أصحابهما اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البَطَلة‏)‏‏.‏ قال معاوية‏:‏ وبلغني أن البطلة السحرة‏.‏

 للعلماء في تسمية ‏{‏البقرة وآل عمران‏{‏ بالزهراوين ثلاثة أقوال‏:‏

الأول‏:‏ إنهما النيرتان، مأخوذ من الزّهْر والزُّهْرة؛ فإما لهدايتهما قارئهما بما يزهر له من أنوارهما، أي من معانيهما‏.‏

وإما لما يترتب على قراءتهما من النور التام يوم القيامة، وهو القول الثاني‏.‏

الثالث‏:‏ سميتا بذلك لأنهما اشتركتا فيما تضمنه اسم الله الأعظم؛ كما ذكره أبو داود وغيره عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم والتي في آل عمران الله لا إله إلا هو الحي القيوم‏)‏ أخرجه ابن ماجة أيضا‏.‏ والغمام‏:‏ السحاب الملتف، وهو الغَيَاية إذا كانت قريباً من الرأس، وهي الظلة أيضا‏.‏ والمعنى‏:‏ إن قارئهما في ظل ثوابهما؛ كما جاء ‏(‏الرجل في ظل صدقته‏)‏ وقوله‏:‏ ‏(‏تحاجان‏)‏ أي يخلق الله من يجادل عنه بثوابهما ملائكة كما جاء في بعض الحديث‏:‏ ‏(‏إن من قرأ ‏{‏شهد الله أنه لا إله إلا هو‏.‏‏.‏‏.‏‏{‏ الآية خلق الله سبعين ملكا يستغفرون له إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏بينهما شرق‏)‏ قيد بسكون الراء وفتحها وهو تنبيه على الضياء، لأنه لما قال‏:‏ ‏(‏سوداوان‏)‏ قد يتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك‏.‏ بقوله‏:‏ ‏(‏بينهما شرق‏)‏‏.‏ ويعني بكونهما سوداوان أي من كثافتهما التي بسببها حالتا بين من تحتهما وبين حرارة الشمس وشدة اللهب والله أعلم‏.‏

صدر هذه السورة نزل بسبب وفد نجران فيما ذكر محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير، وكانوا نصارى وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في ستين راكبا، فيهم من أشرافهم أربعة عشر رجلا، في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يرجع أمرهم‏:‏ العاقب أمير القوم وذو آرائهم واسمه عبدالمسيح، والسيد ثمالهم وصاحب مجتمعهم واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أحد بكر بن وائل أسقفهم وعالمهم؛ فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أثر صلاة العصر، عليهم ثياب الحِبَرات جُبَب وأرْدية فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما رأينا وفدا مثلهم جمالا وجلالة‏.‏ وحانت صلاتهم فقاموا فصلوا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشرق‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏دعوهم‏)‏‏.‏ ثم أقاموا بها أياما يناظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ويزعمون أنه ابن الله، إلى غير ذلك من أقوال شنيعة مضطربة، ورسول صلى الله عليه وسلم يرد عليهم بالبراهين الساطعة وهم لا يبصرون، ونزل فيهم صدر هذه السورة إلى نيف وثمانين آية؛ إلى أن آل أمرهم إلى أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المباهلة، حسب ما هو مذكور في سيرة ابن إسحاق وغيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏3‏)‏

‏{‏نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل‏}‏

قوله تعالى‏{‏نزل عليك الكتاب‏{‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏بالحق‏{‏ أي بالصدق وقيل‏:‏ بالحجة الغالبة‏.‏ والقرآن نزل نجوما‏:‏ شيئا بعد شيء؛ فلذلك قال ‏{‏نَزّلَ‏{‏ والتنزيل مرة بعد مرة‏.‏ والتوراة والإنجيل نزلا دفعة واحدة فلذلك قال ‏{‏أنزل‏{‏ والباء في قوله ‏{‏بالحق‏{‏ في موضع الحال من الكتاب والباء متعلقة بمحذوف التقدير آتيا بالحق ولا تتعلق بـ ‏{‏نَزَّلَ‏{‏ لأنه قد تعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر، ولا يتعدى إلى ثالث‏.‏ و‏{‏مصدقا‏{‏ حال مؤكدة غير منتقلة؛ لأنه لا يمكن أن يكون غير مصدق، أي غير موافق؛ هذا قول الجمهور‏.‏ وقدر فيه بعضهم الانتقال، على معنى أنه مصدق لنفسه ومصدق لغيره‏.‏

قوله تعالى‏{‏لما بين يديه‏{‏ يعني من الكتب المنزلة، ‏{‏وأنزل التوراة والإنجيل‏{‏ والتوراة معناها الضياء والنور مشتقة من ورى الزَّنْد ووَرِيَ لغتان إذا خرجت ناره‏.‏ وأصلها تَوْرَيَة على وزن تفعلة، التاء زائدة، وتحركت الياء وقبلها فتحة فقلبت ألفا‏.‏ ويجوز أن تكون تَفْعِلة فتنقل الراء من الكسر إلى الفتح كما قالوا في جارية وفي ناصية ناصاة كلاهما عن الفراء‏.‏ وقال الخليل‏:‏ أصلها فَوْعَلة فالأصل وَوْرَيَة قلبت الواو الأولى تاء كما قلبت في تَوْلَج، والأصل وَوْلج فوعل من وَلَجَت وقلبت الياء ألفا لحركتها وانفتاح ما قبلها‏.‏ وبناء فَوْعَلة أكثر من تَفْعَلَة‏.‏ وقيل‏:‏ التوراة مأخوذة من التورية، وهي التعريض بالشيء والكتمان لغيره؛ فكأن أكثر التوراة معاريض وتلويحات من غير تصريح وإيضاح، هذا قول المؤرج‏.‏ والجمهور على القول الأول لقوله تعالى‏{‏ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين‏}‏الأنبياء‏:‏ 48‏]‏ يعني التوراة‏.‏ والإنجيل إفعيل من النَّجْل وهو الأصل، ويجمع على أناجيل وتوراة على تَوَار؛ فالإنجيل أصل لعلوم وحكم‏.‏ ويقال‏:‏ لعن الله ناجليه، يعني والديه، إذ كانا أصله‏.‏ وقيل‏:‏ هو من نجلت الشيء إذا استخرجته؛ فالإنجيل مستخرج به علوم وحكم؛ ومنه سمي الولد والنسل نجلا لخروجه؛ كما قال‏:‏

إلى معشر لم يورث اللؤم جدهم أصاغرهم وكل فحل لهم نجل

والنجل الماء الذي يخرج من النز‏.‏ واستنجلت الأرض، وبها نجال إذا خرج منها الماء، فسمي الإنجيل به؛ لأن الله تعالى أخرج به دارسا من الحق عافيا‏.‏ وقيل‏:‏ هو من النجل في العين ‏(‏بالتحريك‏)‏ وهو سعتها؛ وطعنة نجلاء، أي واسعة؛ قال‏:‏

ربما ضربة بسيف صقيل بين بصرى وطعنة نجلاء

فسمي الإنجيل بذلك؛ لأنه أصل أخرجه لهم ووسعه عليهم ونورا وضياء‏.‏ وقيل‏:‏ التناجل التنازع؛ وسمي إنجيلا لتنازع الناس فيه‏.‏ وحكى شمر عن بعضهم‏:‏ الإنجيل كل كتاب مكتوب وافر السطور‏.‏ وقيل‏:‏ نَجَل عمل وصنع؛ قال‏:‏

وأنجل في ذاك الصنيع كما نجل

أي أعمل وأصنع‏.‏ وقيل‏:‏ التوراة والإنجيل من اللغة السريانية‏.‏ وقيل‏:‏ الإنجيل بالسريانية إنكليون؛ حكاه الثعلبي‏.‏ قال الجوهري‏:‏ الإنجيل كتاب عيسى عليه السلام يذكر ويؤنث؛ فمن أنث أراد الصحيفة، ومن ذكر أراد الكتاب‏.‏ قال غيره‏:‏ وقد يسمى القرآن إنجيلا أيضا؛ كما روي في قصة مناجاة موسى عليه السلام أنه قال‏:‏ ‏(‏يا رب أرى في الألواح أقواما أناجيلهم في صدورهم فاجعلهم أمتي‏)‏‏.‏ فقال الله تعالى له‏:‏ ‏(‏تلك أمة أحمد‏)‏ صلى الله عليه وسلم، وإنما أراد بالأناجيل القرآن‏.‏ وقرأ الحسن‏{‏والأنجيل‏{‏ بفتح الهمزة، والباقون بالكسر مثل الإكليل، لغتان‏.‏ ويحتمل أن سمع أن يكون مما عربته العرب من الأسماء الأعجمية، ولا مثال له في كلامها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏4‏)‏

‏{‏من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام‏}‏

قوله تعالى‏{‏من قبل‏{‏ يعني القرآن ‏{‏هدى للناس‏{‏ قال ابن فورك‏:‏ التقدير هدى للناس المتقين؛ دليله في البقرة ‏{‏هدى للمتقين‏}‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ فرد هذا العام إلى ذلك الخاص‏.‏ و‏{‏هدى‏{‏ في موضع نصب على الحال‏.‏ و‏{‏الفرقان‏{‏ القرآن‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏5‏)‏

‏{‏إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء‏}‏

هذا خبر عن علمه تعالى بالأشياء على التفصيل؛ ومثله في القرآن كثير‏.‏ فهو العالم بما كان وما يكون وما لا يكون؛ فكيف يكون عيسى إلها أو بن إله وهو تخفى عليه الأشياء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏6‏)‏

‏{‏هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏هو الذي يصوركم‏{‏ أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات وأصل الرحِم من الرحمة، لأنها مما يتراحم به‏.‏ واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله؛ فالصورة مائلة إلى شَبَه وهيئة‏.‏ وهذه الآية تعظيم لله تعالى، وفي ضمنها الرد على نصارى نجران، وأن عيسى من المصَوَّرين، وذلك مما لا ينكره عاقل‏.‏ وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة ‏{‏الحج‏{‏ و‏{‏المؤمنون‏{‏‏.‏ وكذلك شرحه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود، على ما يأتي هناك بيانه إن شاء الله تعالى وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلة مستبدة‏.‏ وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد وفي مسند ابن سنجر - واسمه محمد بن سَنْجر - حديث ‏(‏إن الله تعالى يخلق عظام الجنين وغضاريفه من مني الرجل وشحمه ولحمه من مني المرأة‏)‏‏.‏ وفي هذا أدل دليل على أن الولد يكون من ماء الرجل والمرأة، وهو صريح في قوله تعالى‏{‏يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى‏}‏ الحجرات‏:‏ 13‏]‏ وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان وفيه‏:‏ أن اليهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ينفعك إن حدثتك‏)‏‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ أسمع بأذني، قال‏:‏ جئتك أسألك عن الولد‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذْكَرا بإذن الله تعالى وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وسيأتي بيانه آخر ‏{‏الشورى‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏كيف يشاء‏{‏ يعني من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر وسلامة وعاهة، إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة‏.‏ وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الأحاديث، فقال لهم‏:‏ إني مشغول عنكم بأربعة أشياء، فلا أتفرغ لرواية الحديث‏.‏ فقيل له‏:‏ وما ذاك الشغل‏؟‏ قال‏:‏ أحدها أني أتفكر في يوم الميثاق حيث قال‏:‏ ‏(‏هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي‏)‏ فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت‏.‏ والثاني حيث صورت في الرحم فقال الملك الذي هو موكل على الأرحام‏:‏ ‏(‏يا رب شقي هو أم سعيد‏)‏ فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت والثالث حين يقبض ملك الموت روحي فيقول‏:‏ ‏(‏يا رب مع الكفر أم مع الإيمان‏)‏ فلا أدري كيف يخرج الجواب‏.‏ والرابع حيث يقول‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏يس‏:‏59‏]‏ فلا أدري في أي الفريقين أكون‏.‏ ثم قال تعالى‏{‏لا إله إلا هو‏{‏ أي لا خالق ولا مصور سواه وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور‏.‏ ‏{‏العزيز‏{‏ الذي لا يغالب‏.‏ ‏{‏الحكيم‏{‏ ذو الحكمة أو المحكم، وهذا أخص بما ذكر من التصوير‏.‏

 الآية رقم ‏(‏7‏)‏

‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب‏}‏

خرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب‏{‏ قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم‏)‏‏.‏ وعن أبي غالب قال‏:‏ كنت أمشي مع أبي أمامة وهو على حمار له، حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق فإذا رؤوس منصوبة؛ فقال‏:‏ ما هذه الرؤوس‏؟‏ قيل‏:‏ هذه رؤوس خوارج يجاء بهم من العراق فقال أبو أمامة‏:‏ كلاب النار كلاب النار كلاب النار شر قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قتلهم وقتلوه - يقولها ثلاثا - ثم بكى فقلت‏:‏ ما يبكيك يا أبا أمامة‏؟‏ قال‏:‏ رحمة لهم، ‏(‏إنهم كانوا من أهل الإسلام فخرجوا منه؛ ثم قرأ ‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات‏.‏ ‏.‏‏.‏‏{‏ إلى آخر الآيات‏.‏ ثم قرأ ‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا أبا أمامة، هم هؤلاء‏؟‏ قال نعم‏.‏ قلت‏:‏ أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ إني إذا لجريء إني إذا لجريء‏!‏ بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس ولا ست ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال‏:‏ وإلا فصُمَّتا - قالها ثلاثا - ‏)‏ ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة واحدة في الجنة وسائرهم في النار ولتزيدن عليهم هذه الأمة واحدةً واحدةٌ في الجنة وسائرهم في النار‏)‏‏.‏

اختلف العلماء في المحكمات والمتشابهات على أقوال عديدة؛ فقال جابر بن عبدالله، وهو مقتضى قول الشعبي وسفيان الثوري وغيرهما‏:‏ ‏(‏المحكمات من أي القرآن ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله تعالى بعلمه دون خلقه، قال بعضهم‏:‏ وذلك مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج والدجال وعيسى، ونحو الحروف المقطعة في أوائل السور‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا أحسن ما قيل في المتشابه‏.‏ وقد قدمنا في أوائل سورة البقرة عن الربيع بن خيثم ‏(‏أن الله تعالى أنزل هذا القرآن فاستأثر منه بعلم ما شاء‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏ وقال أبو عثمان‏:‏ المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها‏.‏ وقال محمد بن الفضل‏:‏ سورة الإخلاص، لأنه ليس فيها إلا التوحيد فقط‏.‏ وقد قيل‏:‏ القرآن كله محكم‏:‏ لقوله تعالى‏{‏كتاب أحكمت آياته‏}‏هود‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ كله متشابه؛ لقوله‏{‏كتابا متشابها‏}‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ وليس هذا من معنى الآية في شيء؛ فإن قوله تعالى‏{‏كتاب أحكمت آياته‏{‏ أي في النظم والرصف وأنه حق من عند الله‏.‏ ومعنى ‏{‏كتابا متشابها‏{‏، أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً‏.‏ وليس المراد بقوله‏{‏آيات محكمات‏{‏ ‏{‏وأخر متشابهات‏{‏ هذا المعنى؛ وإنما المتشابه في هذه الآية من باب الاحتمال والاشتباه، من قوله‏{‏إن البقر تشابه علينا‏}‏البقرة‏:‏ 70‏]‏ أي التبس علينا، أي يحتمل أنواعاً كثيرة من البقر‏.‏ والمراد بالمحكم ما في مقابلة هذا، وهو ما لا التباس فيه ولا يحتمل إلا وجهاً واحداً‏.‏ وقيل‏:‏ إن المتشابه ما يحتمل وجوها، ثم إذا ردت الوجوه إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما‏.‏ فالمحكم أبدا أصل ترد إليه الفروع؛ والمتشابه هو الفرع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المحكمات هو قوله في سورة الأنعام ‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏الأنعام‏:‏151‏]‏ إلى ثلاث آيات، وقوله في بني إسرائيل‏{‏وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا‏}‏الإسراء 23‏]‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا عندي مثال أعطاه في المحكمات‏.‏ وقال ابن عباس أيضا‏:‏ ‏(‏المحكمات ناسخه وحرامه وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به، والمتشابهات المنسوخات ومقدمه ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به‏)‏ وقال ابن مسعود وغيره‏:‏ ‏(‏المحكمات الناسخات، والمتشابهات المنسوخات‏)‏ وقاله قتادة والربيع والضحاك‏.‏ وقال محمد بن جعفر بن الزبير‏:‏ المحكمات هي التي فيها حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه‏.‏ والمتشابهات لهن تصريف وتحريف وتأويل، ابتلى الله فيهن العباد؛ وقاله مجاهد وابن إسحاق‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا أحسن الأقوال في هذه الآية‏.‏ قال النحاس‏:‏ أحسن ما قيل في المحكمات، والمتشابهات أن المحكمات ما كان قائما بنفسه لا يحتاج أن يرجع فيه إلى غيره؛ نحو ‏{‏لم يكن له كفوا أحد‏}‏الإخلاص‏:‏ 4‏]‏ ‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}‏طه‏:‏ 82‏]‏‏.‏ والمتشابهات نحو ‏{‏إن الله يغفر الذنوب جميعا‏}‏الزمر‏:‏ 53‏]‏ يرجع فيه إلى قوله جل وعلا‏{‏وإني لغفار لمن تاب‏}‏طه‏:‏ 82‏]‏ وإلى قوله عز وجل‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به‏}‏النساء‏:‏ 48‏]‏‏.‏

قلت‏:‏ ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية، وهو الجاري على وضع اللسان؛ وذلك أن المحكَم اسم مفعول من أحْكِم، والإحكام الإتقان؛ ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها؛ ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ للمتشابه وجوه، والذي يتعلق به الحكم ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى؛ كقول علي وابن عباس في الحامل المتوفى عنها زوجها تعتد أقصى الأجلين‏.‏ فكان عمر وزيد بن ثابت وابن مسعود وغيرهم يقولون وضع الحمل ويقولون‏:‏ ‏(‏سورة النساء القصرى نسخت أربعة أشهر وعشرا‏)‏ وكان علي وابن عباس يقولان لم تنسخ‏.‏ وكاختلافهم في الوصية للوارث هل نسخت أم لم تنسخ‏.‏ وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه؛ كقوله تعالى‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏النساء‏:‏ 24‏]‏ يقتضي الجمع بين الأقارب من ملك اليمين، وقوله تعالى‏{‏وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف‏}‏النساء‏:‏ 23‏]‏ يمنع ذلك‏.‏ ومنه أيضا تعارض الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وتعارض الأقيسة، فذلك المتشابه‏.‏ وليس من المتشابه أن تقرأ الآية بقراءتين ويكون الاسم محتملا أو مجملا يحتاج إلى تفسير لأن الواجب منه قدر ما يتناوله الاسم أو جميعه‏.‏ والقراءتان كالآيتين يجب العمل بموجبهما جميعا؛ كما قرئ‏{‏وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم‏}‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ بالفتح والكسر، على ما يأتي بيانه ‏{‏في المائدة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

روى البخاري عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قال رجل لابن عباس‏:‏ إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي‏.‏ قال‏:‏ ما هو‏؟‏ قال‏{‏فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون‏}‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏ وقال‏{‏وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏}‏الصافات‏:‏ 27‏]‏ وقال‏{‏ولا يكتمون الله حديثا‏}‏النساء‏:‏42‏]‏ وقال‏{‏والله ربنا ما كنا مشركين‏}‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ فقد كتموا في هذه الآية‏.‏ وفي النازعات ‏{‏أم السماء بناها‏{‏ إلى قوله ‏{‏دحاها‏}‏النازعات‏:‏ 27 - 28 - 29 - 30‏]‏ فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال‏{‏أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين‏.‏‏.‏‏.‏ إلى‏:‏ طائعين‏}‏فصلت‏:‏9، 0 1، 11‏]‏ فذكر في هذا خلق الأرض قبل خلق السماء‏.‏ وقال‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏}‏النساء‏:‏ 100‏]‏ ‏{‏وكان الله عزيزا حكيما‏}‏النساء‏:‏ 158‏]‏‏.‏ ‏{‏وكان الله سميعا بصيرا‏}‏النساء‏:‏134‏]‏ فكأنه كان ثم مضى‏.‏ فقال ابن عباس‏:‏ ‏(‏‏{‏فلا أنساب بينهم‏{‏ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون؛ ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون‏.‏ وأما قوله‏{‏ما كنا مشركين‏{‏ ‏{‏ولا يكتمون الله حديثا‏{‏ فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون‏:‏ تعالوا نقول‏:‏ لم نكن مشركين؛ فختم الله على أفواههم فتنطق جوارحهم بأعمالهم؛ فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين‏.‏ وخلق الله الأرض في يومين، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات في يومين، ثم دحا الأرض أي بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الجبال والأشجار والآكام وما بينها في يومين آخرين؛ فذلك قوله‏{‏والأرض بعد ذلك دحاها‏{‏‏.‏ فخلقت الأرض وما فيها في أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين‏.‏ وقوله‏{‏وكان الله غفورا رحيما‏{‏ يعني نفسه ذلك، أي لم يزل ولا يزال كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد‏.‏ ويحك فلا يختلف عليك القرآن؛ فإن كلا من عند الله‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأخر متشابهات‏{‏ لم تصرف ‏{‏أُخر‏{‏ لأنها عدلت عن الألف واللام؛ لأن أصلها أن تكون صفة بالألف واللام كالكبر والصغر؛ فلما عدلت عن مجرى الألف واللام منعت الصرف‏.‏ أبو عبيد‏:‏ لم يصرفوها لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة‏.‏ وأنكر ذلك المبرد وقال‏:‏ يجب على هذا ألا ينصرف غضاب وعطاش‏.‏ الكسائي‏:‏ لم تنصرف لأنها صفة‏.‏ وأنكره المبرد أيضا وقال‏:‏ إن لبداً وحطماً صفتان وهما منصرفان‏.‏ سيبويه‏:‏ لا يجوز أن تكون أخر معدولة عن الألف واللام؛ لأنها لو كانت معدولة عن الألف واللام لكان معرفة، ألا ترى أن سَحَرَ معرفة في جميع الأقاويل لما كانت معدولة عن السحر، وأمْسِ في قول من قال‏:‏ ذهب أمس معدولا عن الأمس؛ فلو كان أخر معدولا أيضا عن الألف واللام لكان معرفة، وقد وصفه الله تعالى بالنكرة‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏{‏ الذين رفع بالابتداء، والخبر ‏{‏فيتبعون ما تشابه منه‏{‏‏.‏ والزيغ الميل؛ ومنه زاغت الشمس، وزاغت الأبصار‏.‏ ويقال‏:‏ زاغ يزيغ زيغا إذا ترك القصد؛ ومنه قوله تعالى‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏}‏الصف‏:‏ 5‏]‏‏.‏ وهذه الآية تعم كل طائفة من كافر وزنديق وجاهل وصاحب بدعة، وإن كانت الإشارة بها في ذلك الوقت إلى نصارى نجران‏.‏ وقال قتادة في تفسير قوله تعالى‏{‏فأما الذين في قلوبهم زيغ‏{‏‏:‏ إن لم يكونوا الحرورية وأنواع الخوارج فلا أدري من هم‏.‏

قلت‏:‏ قد مر هذا التفسير عن أبي أمامة مرفوعا، وحسبك‏.‏

قوله تعالى‏{‏فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‏{‏ قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه‏:‏ متبعو المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلبا للتشكيك في القرآن وإضلال العوام، كما فعلته الزنادقة والقرامطة الطاعنون في القرآن؛ أو طلبا لاعتقاد ظواهر المتشابه، كما فعلته المجسمة الذين جمعوا ما في الكتاب والسنة مما ظاهره الجسمية حتى اعتقدوا أن البارئ تعالى جسم مجسم وصورة مصورة ذات وجه وعين ويد وجنب ورجل وأصبع، تعالى الله عن ذلك؛ أو يتبعوه على جهة إبداء تأويلاتها وإيضاح معانيها، أو كما فعل صبيغ حين أكثر على عمر فيه السؤال‏.‏

فهذه أربعة أقسام‏:‏

‏(‏الأول‏)‏ لا شك في كفرهم، وإن حكم الله فيهم القتل من غير استتابة‏.‏ ‏(‏الثاني‏)‏ الصحيح القول بتكفيرهم، إذ لا فرق بينهم وبين عباد الأصنام والصور، ويستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا كما يفعل بمن ارتد‏.‏

‏(‏الثالث‏)‏ اختلفوا في جواز ذلك بناء على الخلاف في جواز تأويلها‏.‏ وقد عرف أن مذهب السلف ترك التعرض لتأويلها مع قطعهم باستحالة ظواهرها، فيقولون أمروها كما جاءت‏.‏ وذهب بعضهم إلى إبداء تأويلاتها وحملها على ما يصح حمله في اللسان عليها من غير قطع بتعيين مجمل منها‏.‏

‏(‏الرابع‏)‏ الحكم فيه الأدب البليغ، كما فعله عمر بصبيغ‏.‏ وقال أبو بكر الأنباري‏:‏ وقد كان الأئمة من السلف يعاقبون من يسأل عن تفسير الحروف المشكلات في القرآن، لأن السائل إن كان يبغي بسؤاله تخليد البدعة وإثارة الفتنة فهو حقيق بالنكير وأعظم التعزير، وإن لم يكن ذلك مقصده فقد استحق العتب بما اجترم من الذنب، إذ أوجد للمنافقين الملحدين في ذلك الوقت سبيلا إلى أن يقصدوا ضعفة المسلمين بالتشكيك والتضليل في تحريف القرآن عن مناهج التنزيل وحقائق التأويل‏.‏ فمن ذلك ما حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي أنبأنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار أن صبيغ بن عِسل قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن وعن أشياء؛ فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فبعث إليه عمر فأحضره وقد أعد له عراجين من عراجين النخل‏.‏ فلما حضر قال له عمر‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا عبدالله صبيغ‏.‏ فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ وأنا عبدالله عمر؛ ثم قام إليه فضرب رأسه بعرجون فشجه، ثم تابع ضربه حتى سال دمه على وجهه، فقال‏:‏ حسبك يا أمير المؤمنين فقد والله ذهب ما كنت أجد في رأسي‏.‏ وقد اختلفت الروايات في أدبه، وسيأتي ذكرها في ‏{‏الذاريات‏{‏‏.‏ ثم إن الله تعالى ألهمه التوبة وقذفها في قلبه فتاب وحسنت توبته‏.‏ ومعنى ‏{‏ابتغاء الفتنة‏{‏ طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم‏.‏ وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ معنى ‏{‏ابتغاء تأويله‏{‏ أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله جل وعز أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله‏.‏ قال‏:‏ والدليل على ذلك قوله تعالى‏{‏هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله‏{‏ أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب ‏{‏يقول الذين نسوه من قبل‏{‏ أي تركوه - ‏{‏قد جاءت رسل ربنا بالحق‏}‏الأعراف‏:‏ 53‏]‏ أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل قال‏:‏ فالوقف على قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ أي لا يعلم أحد متى البعث إلا الله‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ يقال‏:‏ إن جماعة من اليهود منهم حيي بن أحطب دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ بلغنا أنه نزل عليك ‏{‏آلم‏{‏ فإن كنت صادقا في مقالتك فإن ملك أمتك يكون إحدى وسبعين سنة؛ لأن الألف في حساب الجمل واحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون، فنزل ‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏‏.‏ والتأويل يكون بمعنى التفسير، كقولك‏:‏ تأويل هذه الكلمة على كذا‏.‏ ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه‏.‏ واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار‏.‏ وأولته تأويلا أي صيرته‏.‏ وقد حده بعض الفقهاء فقالوا‏:‏ هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه‏.‏ فالتفسير بيان اللفظ؛ كقوله ‏{‏لا ريب فيه‏}‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ أي لا شك‏.‏ وأصله من الفسر وهو البيان؛ يقال‏:‏ فسرت الشيء ‏(‏مخففا‏)‏ أفسره ‏(‏بالكسر‏)‏ فسرا‏.‏ والتأويل بيان المعنى؛ كقوله لا شك فيه عند المؤمنين أو لأنه حق في نفسه فلا يقبل ذاته الشك وإنما الشك وصف الشاك‏.‏ وكقول ابن عباس في الجد أبا، لأنه تأول قول الله عز وجل‏{‏يا بني آدم‏{‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏والراسخون في العلم‏{‏ اختلف العلماء في ‏{‏والراسخون في العلم‏{‏ هل هو ابتداء كلام مقطوع مما قبله، أو هو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع‏.‏ فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع مما قبله، وأن الكلام تم عند قوله ‏{‏إلا الله‏{‏ هذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز وغيرهم، وهو مذ هب الكسائي والأخفش والفراء وأبي عبيد وغيرهم‏.‏ قال أبو نهيك الأسدي‏:‏ إنكم تصلون هذه الآية وإنها مقطوعة‏.‏ وما انتهى علم الراسخين إلا إلى قولهم ‏{‏آمنا به كل من عند ربنا‏{‏‏.‏ وقال مثل هذا عمر بن عبدالعزيز، وحكى الطبري نحوه عن يونس عن أشهب عن مالك بن أنس‏.‏ و‏{‏يقولون‏{‏ على هذا خبر ‏{‏الراسخون‏{‏‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وقد جعل الله تعالى آيات كتابه الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بما فيه قسمين‏:‏ محكما ومتشابها؛ فقال عز من قائل‏{‏هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات‏.‏‏.‏‏.‏ إلى قوله‏:‏ كل من عند ربنا‏{‏ فأعلم أن المتشابه من الكتاب قد استأثر الله بعلمه، فلا يعلم تأويله أحد غيره، ثم أثنى الله عز وجل على الراسخين في العلم بأنهم يقولون آمنا به‏.‏ ولولا صحة الإيمان منهم لم يستحقوا الثناء عليه‏.‏ ومذهب أكثر العلماء أن الوقف التام في هذه الآية إنما هو عند قوله تعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏ وأن ما بعده استئناف كلام آخر، وهو قوله ‏{‏والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏{‏‏.‏ وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وعائشة‏.‏ وإنما روي عن مجاهد أنه نسق ‏{‏الراسخون‏{‏ على ما قبله وزعم أنهم يعلمونه‏.‏ واحتج له بعض أهل اللغة فقال‏:‏ معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا؛ وزعم أن موضع ‏{‏يقولون‏{‏ نصب على الحال‏.‏ وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه؛ لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معا، ولا تذكر حالا إلا مع ظهور الفعل؛ فإذا لم يظهر فعل فلا يكون حال؛ ولو جاز ذلك لجاز أن يقال‏:‏ عبدالله راكبا، بمعنى أقبل عبدالله راكبا؛ وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله‏:‏ عبدالله يتكلم يصلح بين الناس؛ فكان ‏{‏يصلح‏{‏ حالا له؛ كقول الشاعر - أنشدنيه أبو عمر قال أنشدنا أبو العباس ثعلب - ‏:‏

أرسلت فيها قطما لكالكا يقصر يمشي ويطول باركا

أي يقصر ماشيا؛ فكان قول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده، وأيضا فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئا عن الخلق ويثبته لنفسه ثم يكون له في ذلك شريك‏.‏ ألا ترى قوله عز وجل‏{‏قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله‏}‏النمل‏:‏ 65‏]‏ وقوله‏{‏لا يجليها لوقتها إلا هو‏}‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ وقوله‏{‏كل شيء هالك إلا وجهه‏}‏القصص‏:‏ 88‏]‏، فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه بعلمه لا يشركه فيه غيره‏.‏ وكذلك قوله تبارك وتعالى‏{‏وما يعلم تأويله إلا الله‏{‏‏.‏ ولو كانت الواو في قوله‏{‏والراسخون‏{‏ للنسق لم يكن لقوله‏{‏كل من عند ربنا‏{‏ فائدة‏.‏ والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل، وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به؛ وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم‏.‏ و‏{‏يقولون‏{‏ على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين؛ كما قال‏:‏

الريح تبكي شجوها والبرق يلمع في الغمامه

وهذا البيت يحتمل المعنيين؛ فيجوز أن يكون ‏{‏والبرق‏{‏ مبتدأ، والخبر ‏{‏يلمع‏{‏ على التأويل الأول، فيكون مقطوعا مما قبله‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفا على الريح، و‏{‏يلمع‏{‏ في موضع الحال على التأويل الثاني أي لامعا‏.‏ واحتج قائلو هذه المقالة أيضا بأن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم؛ فكيف يمدحهم وهم جهال وقد قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏أنا ممن يعلم تأويله‏)‏ وقرأ مجاهد هذه الآية وقال‏:‏ أنا ممن يعلم تأويله؛ حكاه عنه إمام الحرمين أبو المعالي‏.‏

قلت‏:‏ وقد رد بعض العلماء هذا القول إلى القول الأول فقال‏:‏ وتقدير تمام الكلام ‏{‏عند الله‏{‏ أن معناه وما يعلم تأويله إلا الله يعني تأويل المتشابهات، والراسخون في العلم يعلمون بعضه قائلين آمنا به كل من عند ربنا بما نصب من الدلائل في المحكم ومكن من رده إليه‏.‏ فإذا علموا تأويل بعضه ولم يعلموا البعض قالوا آمنا بالجميع كل من عند ربنا، وما لم يحط به علمنا من الخفايا مما في شرعه الصالح فعلمه عند ربنا فإن قال قائل‏:‏ قد أشكل على الراسخين بعض تفسيره حتى قال ابن عباس‏:‏ ‏(‏لا أدري ما الأواه ولا ما غسلين‏)‏ قيل له‏:‏ هذا لا يلزم؛ لأن ابن عباس قد علم بعد ذلك ففسر ما وقف عليه‏.‏ وجواب أقطع من هذا وهو أنه سبحانه لم يقل وكل راسخ فيجب هذا فإذا لم يعلمه أحد علمه الآخر‏.‏ ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون التأويل وأطنب في ذلك؛ وفي قوله عليه السلام لابن عباس‏:‏ ‏(‏اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل‏)‏ ما يبين لك ذلك، أي علمه معاني كتابك‏.‏ والوقف على هذا يكون عند قوله ‏{‏والراسخون في العلم‏{‏‏.‏ قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر‏:‏ وهو الصحيح؛ فإن تسميتهم راسخين يقتضي أنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوي في علمه جميع من يفهم كلام العرب‏.‏ وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع‏!‏‏.‏ لكن المتشابه يتنوع، فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بغيبه، وهذا لا يتعاطى علمه أحد لا ابن عباس ولا غيره‏.‏ فمن قال من العلماء الحداق بأن الراسخين لا يعلمون علم المتشابه فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة ومناح في كلام العرب فيتأول ويعلم تأويله المستقيم، ويزال ما فيه مما عسى أن يتعلق من تأويل غير مستقيم؛ كقوله في عيسى‏{‏وروح منه‏}‏النساء‏:‏ 171‏]‏ إلى غير ذلك‏.‏ فلا يسمى أحد راسخا إلا أن يعلم من هذا النوع كثيرا بحسب ما قدر له‏.‏ وأما من يقول‏:‏ إن المتشابه هو المنسوخ فيستقيم على قوله إدخال الراسخين في علم التأويل؛ لكن تخصيصه المتشابهات بهذا النوع غير صحيح‏.‏

والرسوخ‏:‏ الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ‏.‏ وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل والشجر في الأرض؛ قال الشاعر‏:‏

لقد رسخت في الصدر مني مودة لليلى أبت آياتها أن تغيرا

ورسخ الإيمان في قلب فلان يرسخ رسوخا‏.‏ وحكى بعضهم‏:‏ رسخ الغدير‏:‏ نضب ماؤه؛ حكاه ابن فارس فهو من الأضداد‏.‏ ورَسَخ ورَضَخ ورَصُن ورسَب كله ثبت فيه‏.‏ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال‏:‏ ‏(‏هو من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه‏)‏‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف كان في القرآن متشابه والله يقول‏{‏وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم‏}‏النحل‏:‏ 44‏]‏ فكيف لم يجعله كله واضحا‏؟‏ قيل له‏:‏ الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن يظهر فضل العلماء؛ لأنه لو كان كله واضحا لم يظهر فضل بعضهم على بعض‏.‏ وهكذا يفعل من يصنف تصنيفا يجعل بعضه واضحا وبعضه مشكلا، ويترك للجثوة موضعا؛ لأن ما هان وجوده قل بهاؤه‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏كل من عند ربنا‏{‏ فيه ضمير عائد على كتاب الله تعالى محكمه ومتشابهه؛ والتقدير‏:‏ كله من عند ربنا‏.‏ وحذف الضمير لدلالة ‏{‏كل‏{‏ عليه؛ إذ هي لفظة تقتضي الإضافة‏.‏ ثم قال‏{‏وما يذكر إلا أولوا الألباب‏{‏ أي ما يقول هذا ويؤمن ويقف حيث وقف ويدع اتباع المتشابه إلا ذو لب، وهو العقل‏.‏ ولب كل شيء خالصه؛ فلذلك قيل للعقل لب‏.‏ و‏{‏أولو‏{‏ جمع ذو‏.‏

 الآية رقم ‏(‏8‏)‏

‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‏}‏

قوله تعالى‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏{‏ في الكلام حذف تقديره يقولون‏.‏ وهذا حكاية عن الراسخين‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى قل يا محمد، ويقال‏:‏ إزاغة القلب فساد وميل عن الدين، أفكانوا يخافون وقد هدوا أن ينقلهم الله إلى الفساد‏؟‏ فالجواب أن يكونوا سألوا إذ هداهم الله ألا يبتليهم بما يثقل عليهم من الأعمال فيعجزوا عنه؛ نحو ‏{‏ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏النساء‏:‏ 66‏]‏‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ سألوا ألا يزيغوا فيزيغ الله قلوبهم؛ نحو ‏{‏فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏الصف‏:‏ 5‏]‏ أي ثبتنا على هدايتك إذ هديتنا وألا نزيغ فنستحق أن تزيغ قلوبنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو منقطع مما قبل؛ وذلك أنه تعالى لما ذكر أهل الزيغ‏.‏ عقب ذلك بأن علم عباده الدعاء إليه في ألا يكونوا من الطائفة الذميمة التي ذكرت هي وأهل الزيغ‏.‏ وفي الموطأ عن أبي عبدالله الصنابحي أنه قال‏:‏ قدمت المدينة في خلافة أبي بكر الصديق فصليت وراءه المغرب، فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورة من قصار المفصل، ثم قام في الثالثة، فدنوت منه حتى إن ثيابي لتكاد تمس ثيابه، فسمعته يقرأ بأم القرآن وهذه الآية ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا‏{‏ الآية‏.‏ قال العلماء‏:‏ قراءته بهذه الآية ضرب من القنوت والدعاء لما كان فيه من أمر أهل الردة‏.‏ والقنوت جائز في المغرب عند جماعة من أهل العلم، وفي كل صلاة أيضا إذا دهم المسلمين أمر عظيم يفزعهم ويخافون منه على أنفسهم‏.‏ وروى الترمذي من حديث شهر بن حوشب قال‏:‏ قلت لأم سلمة‏:‏ يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك‏؟‏ قالت‏:‏ كان أكثر دعائه ‏(‏يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏)‏‏.‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله، ما أكثر دعاءك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك قال‏:‏ ‏(‏يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ‏)‏‏.‏ فتلا معاذ ‏{‏ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا‏{‏‏.‏ قال‏:‏ حديث حسن‏.‏ وهذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم‏:‏ إن الله لا يضل العباد‏.‏ ولو لم تكن الإزاغة من قبله لما جاز أن يدعى في دفع ما لا يجوز عليه فعله‏.‏ وقرأ أبو واقد الجراح ‏{‏لا تزغ قلوبنا‏{‏ بإسناد الفعل إلى القلوب، وهذه رغبة إلى الله تعالى‏.‏ ومعنى الآية على القراءتين ألا يكون منك خلق الزيغ فيها فتزيغ‏.‏

قوله تعالى‏{‏وهب لنا من لدنك رحمة‏{‏ أي من عندك ومن قبلك تفضلا لا عن سبب منا ولا عمل‏.‏ وفي هذا استسلام وتطارح‏.‏ وفي ‏{‏لدن‏{‏ أربع لغات‏:‏ لدن بفتح اللام وضم الدال وجزم النون، وهي أفصحها، وبفتح اللام وضم الدال وحذف النون؛ وبضم اللام وجزم الدال وفتح النون؛ وبفتح اللام وسكون الدال وفتح النون‏.‏ ولعل جهال المتصوفة وزنادقة الباطنية يتشبثون بهذه الآية وأمثالها فيقولون‏:‏ العلم ما وهبه الله ابتداء من غير كسب، والنظر في الكتب والأوراق حجاب‏.‏ وهذا مردود على ما يأتي بيانه في هذا الموضع‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ هب لنا نعيماً صادراً عن الرحمة، لأن الرحمة راجعة إلى صفة الذات فلا يتصور فيها الهبة‏.‏ يقال‏:‏ وَهب يَهَب والأصل يوهب بكسر الهاء‏.‏ ومن قال‏:‏ الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو كما لم تحذف في يَوْجَل‏.‏ وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏9‏)‏

‏{‏ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد‏}‏

أي باعثهم ومحييهم بعد تفرقهم، وفي هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ هذا هو التأويل الذي علمه الراسخون وأقروا به، وخالف الذين اتبعوا ما تشابه عليهم من أمر البعث حتى أنكروه‏.‏ والريب الشك، وقد تقدمت محامله في البقرة‏.‏ والميعاد مفعال من الوعد‏.‏

 الآية رقم ‏(‏10‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار‏}‏

معناه بَيِّن، أي لن تدفع عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا‏.‏ وقرأ السلمي ‏{‏لن يغني‏{‏ بالياء لتقدم الفعل ودخول الحائل بين الاسم والفعل‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏يُغْني‏{‏ بالياء وسكون الياء الآخرة للتخفيف؛ كقول الشاعر‏:‏

كفى باليأس من أسماء كافي وليس لسقمها إذ طال شافي

وكان حقه أن يقول كافيا، فأرسل الياء‏.‏ وأنشد الفراء في مثله‏:‏

كأن أيديهن بالقاع القَرِقْ أيدي جوار يتعاطين الوَرِق

القَرِقُ والقَرِقَة لغتان في القاع‏.‏ و‏{‏من‏{‏ في قوله ‏{‏من الله‏{‏ بمعنى عند؛ قاله أبو عبيدة‏.‏ ‏{‏أولئك هم وقود النار‏{‏ والوقود اسم للحطب، وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف ‏{‏وقود‏{‏ بضم الواو على حذف مضاف تقديره حطب وقود النار‏.‏ ويجوز في العربية إذا ضم الواو أن تقول أقود مثل أُقتت‏.‏ والوقود بضم الواو المصدر؛ وقدت النار تقد إذا اشتعلت‏.‏ وخرج ابن المبارك من حديث العباس بن عبدالمطلب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار وحتى تخاض البحار بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى ثم يأتي أقوام يقرؤون القرآن فإذا قرؤوه قالوا من أقرأ منا من أعلم منا‏؟‏ ثم التفت إلى أصحابه فقال‏:‏ هل ترون في أولئكم من خير‏)‏‏؟‏ قالوا لا‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أولئك منكم وأولئك من هذه الأمة وأولئك هم وقود النار‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏11‏)‏

‏{‏كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب‏}‏

الدأب العادة والشأن‏.‏ ودأب الرجل في عمله يدأب دأبا ودؤوبا إذا جد واجتهد، وأدأبته أنا‏.‏ وأدأب بعيره إذا جهده في السير‏.‏ والدائبان الليل والنهار‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ وسمعت يعقوب يذكر ‏{‏كدأب‏{‏ بفتح الهمزة، وقال لي وأنا غليم‏:‏ على أي شيء يجوز ‏{‏كدأب‏{‏‏؟‏ فقلت له‏:‏ أظنه من دَئِب يدْأَب دَأَبا‏.‏ فقبل ذلك مني وتعجب من جودة تقديري على صغري؛ ولا أدري أيقال أم لا‏.‏ قال النحاس‏{‏وهذا القول خطأ، لا يقال البتة دَئِب؛ وإنما يقال‏:‏ دَأَب يدْأَب دُؤوبا ودَأْبا؛ هكذا حكى النحويون، منهم الفراء حكاه في كتاب المصادر؛ كما قال امرؤ القيس‏:‏

كدأبك من أم الحويرث قبلها وجارتها أم الرباب بمأسل

فأما الدَّأَب فإنه يجوز؛ كما يقال‏:‏ شَعْر وشَعَر ونَهْر ونَهَر؛ لأن فيه حرفا من ‏{‏حروف الحلق‏{‏‏.‏ واختلفوا في الكاف؛ فقيل‏:‏ هي في موضع رفع تقديره دأبهم كدأب آل فرعون، أي صنيع الكفار معك كصنيع آل فرعون مع موسى‏.‏ وزعم الفراء أن المعنى‏:‏ كفرت العرب ككفر آل فرعون‏.‏ قال النحاس‏:‏ لا يجوز أن تكون الكاف متعلقة بكفروا، لأن كفروا داخلة في الصلة‏.‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة بـ ‏{‏أخذهم الله‏{‏، أي أخذهم أخذا كما أخذ آل فرعون‏.‏ وقيل‏:‏ هي متعلقة بقوله ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏آل عمران‏:‏ 10‏]‏ أي لم تغن عنهم غناء كما لم تغن الأموال والأولاد عن آل فرعون‏.‏ وهذا جواب لمن تخلف عن الجهاد وقال‏:‏ شغلتنا أموالنا وأهلونا‏.‏ ويصح أن يعمل فيه فعل مقدر من لفظ الوقود، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق‏.‏ ويؤيد هذا المعنى ‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وحاق بآل فرعون سوء العذاب‏.‏ النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏المؤمن‏:‏ 46‏]‏‏.‏ والقول الأول أرجح، واختاره غير واحد من العلماء‏.‏ قال ابن عرفة‏{‏كدأب آل فرعون‏{‏ أي كعادة آل فرعون‏.‏ يقول‏:‏ اعتاد هؤلاء الكفرة الإلحاد والإعنات للنبي صلى الله عليه وسلم كما اعتاد آل فرعون من إعنات الأنبياء؛ وقال معناه الأزهري‏.‏ فأما قوله في سورة ‏(‏الأنفال‏)‏ ‏{‏كدأب آل فرعون‏{‏ فالمعنى جوزي هؤلاء بالقتل والأسر كما جوزي آل فرعون بالغرق والهلاك‏.‏ ‏{‏بآياتنا‏{‏ يحتمل أن يريد الآيات المتلوة، ويحتمل أن يريد الآيات المنصوبة للدلالة على الوحدانية‏.‏ ‏{‏فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏12‏)‏

‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد‏}‏

يعني اليهود، قال محمد بن إسحاق‏:‏ لما أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود فقال‏:‏ ‏(‏يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم‏)‏، فقالوا‏:‏ يا محمد، لا يغرنك أنك قتلت أقواما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت فيهم فرصة والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس‏.‏ فأنزل الله تعالى‏{‏قل للذين كفروا ستغلبون‏{‏ بالتاء يعني اليهود‏:‏ أي تهزمون ‏{‏وتحشرون إلى جهنم‏{‏ في الآخرة‏.‏ فهذه رواية عكرمة وسعيد بن جبير عن ابن عباس‏.‏ وفي رواية أبي صالح عنه أن اليهود لما فرحوا بما أصاب المسلمين يوم أحد نزلت‏.‏ فالمعنى على هذا ‏{‏سيغلبون‏{‏ بالياء، يعني قريشا، ‏{‏ويحشرون‏{‏ بالياء فيهما، وهي قراءة نافع‏.‏ ‏{‏وبئس المهاد‏{‏ يعني جهنم؛ هذا ظاهر الآية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المعنى بئس ما مهدوا لأنفسهم، فكأن المعنى‏:‏ بئس فعلهم الذي أداهم إلى جهنم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏13‏)‏

‏{‏قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏}‏

قوله تعالى‏{‏قد كان لكم آية‏{‏ أي علامة‏.‏ وقال ‏{‏كان‏{‏ ولم يقل ‏{‏كانت‏{‏ لأن ‏{‏آية‏{‏ تأنيثها غير حقيقي‏.‏ وقيل‏:‏ ردها إلى البيان، أي قد كان لكم بيان؛ فذهب إلى المعنى وترك اللفظ؛ كقول امرئ القيس‏:‏

برهرهة رؤدة رخصة كخرعوبة البانة المنفطر

ولم يقل المنفطرة؛ لأنه ذهب إلى القضيب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ذكره لأنه فرق بينهما بالصفة، فلما حالت الصفة بين الاسم والفعل ذكر الفعل‏.‏ وقد مضى هذا المعنى في البقرة في قوله تعالى‏{‏كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية‏}‏البقرة‏:‏ 180‏]‏

قوله تعالى‏{‏في فئتين التقتا‏{‏ يعني المسلمين والمشركين يوم بدر ‏{‏فئة‏{‏ قرأ الجمهور ‏{‏فئة‏{‏ بالرفع، بمعنى إحداهما فئة‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد ‏{‏فئة‏{‏ بالخفض ‏{‏وأخرى كافرة‏{‏ على البدل‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما‏.‏ قال أحمد بن يحيى‏:‏ ويجوز النصب على الحال، أي التقتا مختلفتين مؤمنة وكافرة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ النصب بمعنى أعني‏.‏ وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ الفئة الفرقة، مأخوذة من فَأَوْتُ رأسه بالسيف - ويقال‏:‏ فأيته - إذا فلقته‏.‏ ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر‏.‏ واختلف من المخاطب بها؛ فقيل‏:‏ يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة؛ وبكل احتمال منها قد قال قوم‏.‏ وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع‏.‏

قوله تعالى‏{‏يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏{‏ قال أبو علي الرؤية في هذه الآية رؤية عين؛ ولذلك تعدت إلى مفعول واحد‏.‏ قال مكي والمهدوي‏:‏ يدل عليه ‏{‏رَأْيَ العين‏{‏‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء والباقون بالياء‏.‏ ‏{‏مثليهم‏{‏ نصب على الحال من الهاء والميم في ‏{‏ترونهم‏{‏‏.‏ والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون، والضمير المتصل هو للكفار‏.‏ وأنكر أبو عمرو أن يقرأ ‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء؛ قال‏:‏ ولو كان كذلك لكان مثليكم‏.‏ قال النحاس‏{‏ وذا لا يلزم، ولكن يجوز أن يكون مثلي أصحابكم‏.‏ قال مكي‏{‏ترونهم‏{‏ بالتاء جرى على الخطاب في ‏{‏لكم‏{‏ فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين، والهاء والميم للمشركين‏.‏ وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط؛ ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى‏{‏حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم‏}‏يونس‏:‏ 22‏]‏، وقوله تعالى‏{‏وما آتيتم من زكاة‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ فخاطب ثم قال‏{‏فأولئك هم المضعفون‏}‏الروم‏:‏ 39‏]‏ فرجع إلى الغيبة‏.‏ فالهاء والميم في ‏{‏مثليهم‏{‏ يحتمل أن يكون للمشركين، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد؛ وهو بعيد في المعنى؛ لأن الله تعالى لم يكثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم ويقع التجاسر، وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وقلل المسلمين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم فينفذ حكم الله فيهم‏.‏ ويحتمل أن يكون الضمير في ‏{‏مثليهم‏{‏ للمسلمين، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مثلي ما أنتم عليه من العدد، أي ترون أنفسكم مثلي عددكم؛ فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين‏.‏ والتأويل الأول أولى؛ يدل عليه قوله تعالى‏{‏إذ يريكهم الله في منامك قليلا‏}‏الأنفال‏:‏ 43‏]‏ وقوله‏{‏وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا‏}‏الأنفال‏:‏44‏]‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ قلت لرجل إلى جنبي‏:‏ أتراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أظنهم مائة فلما أخذنا الأسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفا‏.‏ وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا‏:‏ بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضعفين‏.‏ وضعف الطبري هذا القول‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وكذلك هو مردود من جهات‏.‏ بل قلل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدم‏.‏ وعلى هذا التأويل كان يكون ‏{‏ترون‏{‏ للكافرين، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم، ويحتمل مثليكم، على ما تقدم‏.‏ وزعم الفراء أن المعنى ترونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم‏.‏ وهو بعيد غير معروف في اللغة‏.‏ قال الزجاج‏:‏ وهذا باب الغلط، فيه غلط في جميع المقاييس؛ لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثله ما يساويه مرتين‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ وقد بين الفراء قوله بأن قال‏:‏ كما تقول وعندك عبد‏:‏ أحتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله‏.‏ وتقول‏:‏ أحتاج إلى مثليه، فأنت محتاج إلى ثلاثة‏.‏ والمعنى على خلاف ما قاله، واللغة‏.‏ والذي أوقع الفراء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر؛ فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم، وهذا بعيد وليس المعنى عليه‏.‏ وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين‏:‏ إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك، لأن المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك‏.‏ والأخرى أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وسيأتي ذكر وقعة بدر إن شاء الله تعالى‏.‏ وأما قراءة الياء فقال ابن كيسان‏:‏ الهاء والميم في ‏{‏يرونهم‏{‏ عائدة على ‏{‏وأخرى كافرة‏{‏ والهاء والميم في ‏{‏مثليهم‏{‏ عائدة على ‏{‏فئة تقاتل في سبيل الله‏{‏ وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق الكلام، وهو قوله‏{‏يؤيد بنصره من يشاء‏{‏‏.‏ فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين في رأي العين وثلاثة أمثالهم في العدد‏.‏ قال‏:‏ والرؤية هنا لليهود‏.‏ وقال مكي‏:‏ الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله، والمرئية الفئة الكافرة؛ أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثلي الفئة المؤمنة، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقللهم الله في أعينهم على ما تقدم‏.‏ والخطاب في ‏{‏لكم‏{‏ لليهود‏.‏ وقرأ ابن عباس وطلحة ‏{‏تُروهم‏{‏ بضم التاء، والسلمي بالتاء المضمومة على ما لم يسم فاعله‏.‏ ‏{‏والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار‏{‏ تقدم معناه والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏14‏)‏

‏{‏زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب‏}‏

قوله تعالى‏{‏زين للناس‏{‏ زين من التزيين واختلف الناس من المزين؛ فقالت فرقة‏:‏ الله زين ذلك؛ وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ذكره البخاري‏.‏ وفي التنزيل‏{‏إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها‏}‏الكهف‏:‏ 7‏]‏؛ ولما قال عمر‏:‏ الآن يا رب حين زينتها لنا‏!‏ نزلت‏{‏قل أأنبئكم بخير من ذلكم‏}‏آل عمران‏:‏ 15‏]‏ وقالت فرقة‏:‏ المزين هو الشيطان؛ وهو ظاهر قول الحسن، فإنه قال‏:‏ من زينها‏؟‏ ما أحد أشد لها ذما من خالقها‏.‏ فتزيين الله تعالى إنما هو بالإيجاد والتهيئة للانتفاع وإنشاء الجبلة على الميل إلى هذه الأشياء‏.‏ وتزيين الشيطان إنما هو بالوسوسة والخديعة وتحسين أخذها من غير وجوهها‏.‏ والآية على كلا الوجهين ابتداء وعظ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخ لمعاصري محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود وغيرهم‏.‏ وقرأ الجمهور ‏{‏زُيِّن‏{‏ على بناء الفعل للمفعول، ورفع ‏{‏حُبُّ‏{‏‏.‏ وقرأ الضحاك ومجاهد ‏{‏زَيَّن‏{‏ على بناء الفعل للفاعل، ونصب ‏{‏حُبَّ‏{‏ وحركت الهاء من ‏{‏الشهوات‏{‏ فرقا بين الاسم والنعت‏.‏ والشهوات جمع شهوة وهي معروفة‏.‏ ورجل شهوان للشيء، وشيء شهي أي مشتهى واتباع الشهوات مرد وطاعتها مهلكة‏.‏ وفي صحيح مسلم‏:‏ ‏(‏حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات‏)‏ رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفائدة هذا التمثيل أن الجنة لا تنال إلا بقطع مفاوز المكاره وبالصبر عليها‏.‏ وأن النار لا ينجى منها إلا بترك الشهوات وفطام النفس عنها‏.‏ وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏طريق الجنة حزن بربوة وطريق النار سهل بسهوة‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏؛ وهو معنى قوله ‏(‏حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات‏)‏‏.‏ أي طريق الجنة صعبة المسلك فيه أعلى ما يكون من الروابي، وطريق النار سهل لا غلظ فيه ولا وعورة، وهو معنى قوله ‏(‏سهل بسهوة‏)‏ وهو بالسين المهملة‏.‏

قوله تعالى‏{‏من النساء‏{‏ بدأ بهن لكثرة تشوف النفوس إليهن؛ لأنهن حبائل الشيطان وفتنة الرجال‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء‏)‏ أخرجه البخاري ومسلم‏.‏ ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء‏.‏ ويقال‏:‏ في النساء فتنتان، وفي الأولاد فتنة واحدة‏.‏ فأما اللتان في النساء فإحداهما أن تؤدي إلى قطع الرحم؛ لأن المرأة تأمر زوجها بقطعه عن الأمهات والأخوات‏.‏ والثانية يبتلى بجمع المال من الحلال والحرام‏.‏ وأما البنون فإن الفتنة فيهم واحدة وهو ما ابتلي بجمع المال لأجلهم‏.‏ وروى عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهن الكتاب‏)‏‏.‏ حذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في إسكانهن الغرف تطلعا إلى الرجال، وليس في ذلك تحصين لهن ولا ستر؛ لأنهن قد يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة والبلاء، ولأنهن قد خلقن من الرجل؛ فهمتها في الرجل والرجل خلق فيه الشهوة وجعلت سكنا له؛ فغير مأمون كل واحد منهما على صاحبه‏.‏ وفي تعلمهن الكتاب هذا المعنى من الفتنة وأشد‏.‏ وفي كتاب الشهاب عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعروا النساء يلزمن الحجال‏)‏‏.‏ فعلى الإنسان إذا لم يصبر في هذه الأزمان أن يبحث عن ذات الدين ليسلم له الدين؛ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عليك بذات الدين تربت يداك‏)‏ أخرجه مسلم عن أبي هريرة‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عن عبدالله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ولا تزوجوهن لأموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏والبنين‏{‏ عطف على ما قبله‏.‏ وواحد من البنين ابن‏.‏ قال الله تعالى مخبرا عن نوح‏:‏ ‏(‏إن ابني من أهلي‏)‏‏.‏ وتقول في التصغير ‏{‏بني‏{‏ كما قال لقمان‏.‏ وفي الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأشعث بن قيس‏:‏ ‏(‏هل لك من ابنة حمزة من ولد‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم، لي منها غلام ولوددت أن لي به جفنة من طعام أطعمها من بقي من بني جبلة‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لئن قلت بذلك إنهم لثمرة القلوب وقرة الأعين وإنهم مع ذلك لمجبنة مبخلة محزنة‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏والقناطير‏{‏ القناطير جمع قنطار، كما قال تعالى‏{‏وآتيتم إحداهن قنطارا‏}‏النساء‏:‏ 20‏]‏ وهو العقدة الكبيرة من المال، وقيل‏:‏ هو اسم للمعيار الذي يوزن به؛ كما هو الرطل والربع‏.‏ ويقال لما بلغ ذلك الوزن‏:‏ هذا قنطار، أي يعدل القنطار‏.‏ والعرب تقول‏:‏ قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ القنطار مأخوذ من عقد الشيء وإحكامه؛ تقول العرب‏:‏ قنطرت الشيء إذا أحكمته؛ ومنه سميت القنطرة لإحكامها‏.‏ قال طرفة‏:‏

كقنطرة الرومي أقسم ربها لتكتنفن حتى تشاد بقرمد

والقنطرة المعقودة؛ فكأن القنطار عقد مال‏.‏ واختلف العلماء في تحرير حده كم هو على أقوال عديدة؛ فروى أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏القنطار ألف أوقية ومائتا أوقية‏)‏؛ وقال بذلك معاذ بن جبل وعبدالله بن عمر وأبو هريرة وجماعة من العلماء‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهو أصح الأقوال، لكن القنطار على هذا يختلف باختلاف البلاد في قدر الأوقية‏.‏ وقيل‏:‏ اثنا عشر ألف أوقية؛ أسنده البستي في مسنده الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏{‏القنطار اثنا عشر ألف أوقية الأوقية خير مما بين السماء والأرض‏{‏‏.‏ وقال بهذا القول أبو هريرة أيضا‏.‏ وفي مسند أبي محمد الدارمي عن أبي سعيد الخدري قال‏{‏من قرأ في ليلة عشر آيات كتب من الذاكرين، ومن قرأ بمائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ بخمسمائة آية إلى الألف أصبح وله قنطار من الأجر‏{‏ قيل‏:‏ وما القنطار‏؟‏ قال‏{‏ملء مسك ثور ذهبا‏{‏‏.‏ موقوف؛ وقال به أبو نضرة العبدي‏.‏ وذكر ابن سيده أنه هكذا بالسريانية‏.‏ وقال النقاش عن ابن الكلبي أنه هكذا بلغة الروم‏.‏ وقال ابن عباس والضحاك والحسن‏:‏ ألف ومائتا مثقال من الفضة؛ ورفعه الحسن‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ اثنا عشر ألف درهم من الفضة، ومن الذهب ألف دينار دية الرجل المسلم؛ وروى عن الحسن والضحاك‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ ثمانون ألفا‏.‏ قتادة‏:‏ مائة رطل من الذهب أو ثمانون ألف درهم من الفضة‏.‏ وقال أبو حمزة الثمالي‏:‏ القنطار بإفريقية والأندلس ثمانية آلاف مثقال من ذهب أو فضة‏.‏ السدي‏:‏ أربعة آلاف مثقال‏.‏ مجاهد‏:‏ سبعون ألف مثقال؛ وروي عن ابن عمر‏.‏ وحكى مكي قولا أن القنطار أربعون أوقية من ذهب أو فضة؛ وقاله ابن سيده في المحكم، وقال‏:‏ القنطار بَرْبَرْ ألف مثقال‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ القنطار المال الكثير بعضه على بعض؛ وهذا هو المعروف عند العرب، ومنه قوله‏{‏وآتيتم إحداهن قنطارا‏{‏ أي مالا كثيرا‏.‏ ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏إن صفوان بن أمية قنطر في الجاهلية وقنطر أبوه‏)‏ أي صار له قنطار من المال‏.‏ وعن الحكم هو ما بين السماء والأرض‏.‏ واختلفوا في معنى ‏{‏المقنطرة‏{‏ فقال الطبري وغيره‏:‏ معناه المضعفة، وكأن القناطير ثلاثة والمقنطرة تسع‏.‏ وروى عن الفراء أنه قال‏:‏ القناطير جمع القنطار، والمقنطرة جمع الجمع، فيكون تسع قناطير‏.‏ السدي‏:‏ المقنطرة المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم‏.‏ مكي‏:‏ المقنطرة المكملة؛ وحكاه الهروي؛ كما يقال‏:‏ بدر مبدرة، وآلاف مؤلفة‏.‏ وقال بعضهم‏.‏ ولهذا سمي البناء القنطرة لتكاثف البناء بعضه على بعض‏.‏ ابن كيسان والفراء‏:‏ لا تكون المقنطرة أقل من تسع قناطير‏.‏ وقيل‏:‏ المقنطرة إشارة إلى حضور المال وكونه عتيدا‏.‏ وفي صحيح البستي عن عبدالله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطِرين‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏من الذهب والفضة‏{‏ الذهب مؤنثة؛ يقال‏:‏ هي الذهب الحسنة جمعها ذهاب وذُهوب‏.‏ ويجوز أن يكون جمع ذَهْبَة، ويجمع على الأذهاب‏.‏ وذهب فلان مذهبا حسنا‏.‏ والذهب‏:‏ مكيال لأهل اليمن‏.‏ ورجل ذَهِب إذا رأى معدن الذهب فدهش‏.‏ والفضة معروفة، وجمعها فضض‏.‏ فالذهب مأخوذة من الذهاب، والفضة مأخوذة من انفض الشيء تفرق؛ ومنه فَضَضْت القوم فانفضوا، أي فرقتهم فتفرقوا‏.‏ وهذا الاشتقاق يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد في الوجود‏.‏ ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى قول بعضهم‏:‏

النار آخر دينار نطقت به والهم آخر هذا الدرهم الجاري

والمرء بينهما إن كان ذا ورع معذب القلب بين الهم والنار

قوله تعالى‏{‏والخيل‏{‏ الخيل مؤنثة‏.‏ قال ابن كيسان‏:‏ حدثت عن أبي عبيدة أنه قال‏:‏ واحد الخيل خائل، مثل طائر وطير، وضائن وضين؛ وسمي الفرس بذلك لأنه يختال في مشيه‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو اسم جمع لا واحد له من لفظه، واحد فرس، كالقوم والرهط والنساء والإبل ونحوها‏.‏ وفي الخبر من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله خلق الفرس من الريح ولذلك جعلها تطير بلا جناح‏)‏‏.‏ وهب بن منبه‏:‏ خلقها من ريح الجنوب‏.‏ قال وهب‏:‏ فليس تسبيحة ولا تكبيرة ولا تهليلة يكبرها صاحبها إلا وهو يسمعها فيجيبه بمثلها‏.‏ وسيأتي لذكر الخيل ووصفها في سورة ‏{‏الأنفال‏{‏ ما فيه كفاية إن شاء الله تعالى‏.‏ وفي الخبر‏:‏ ‏(‏إن الله عرض على آدم جميع الدواب، فقيل له‏:‏ اختر منها واحدا فاختار الفرس؛ فقيل له‏:‏ اخترت عزك‏)‏؛ فصار اسمه الخير من هذا الوجه‏.‏ وسميت خيلا لأنها موسومة بالعز فمن ركبه اعتز بنحلة الله له ويختال به على أعداء الله تعالى‏.‏ وسمي فرسا لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا، ويقطعها كالالتهام بيديه على شيء خبطا وتناولا، وسمي عربيا لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل جزاء عن رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي، فصار له نحلة من الله تعالى فسمي عربيا‏.‏ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يدخل الشيطان دارا فيها فرس عتيق‏)‏‏.‏ وإنما سمي عتيقا لأنه قد تخلص من الهجانة‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الخيل الأدهم الأقرح الأرثم ثم الأقرح المحجل طلق اليمين فإن لم يكن أدهم فكميت على هذه الشية‏)‏‏.‏ أخرجه الترمذي عن أبي قتادة‏.‏ وفي مسند الدارمي عنه أن رجلا قال‏:‏ يا رسول الله، إني أريد أن أشتري فرسا فأيها أشتري‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏اشتر أدهم أرثم محجلا طلق اليمين أو من الكميت على هذه الشية تغنم وتسلم‏)‏‏.‏ وروى النسائي عن أنس قال‏:‏ لم يكن أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد النساء من الخيل‏.‏ وروى الأئمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الخيل ثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر ولرجل وزر‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث بطوله، شهرته أغنت عن ذكره‏.‏ وسيأتي ذكر أحكام الخيل في ‏{‏الأنفال‏{‏ و‏{‏النحل‏{‏ بما فيه كفاية إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏المسومة‏{‏ يعني الراعية في المروج والمسارح؛ قاله سعيد بن جبير‏.‏ يقال‏:‏ سامت الدابة والشاة إذا سرحت تسوم سوما فهي سائمة‏.‏ وأسمتها أنا إذا تركتها لذلك فهي مسامة‏.‏ وسومتها تسويما فهي مسومة‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عن علي قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السوم قبل طلوع الشمس، وعن ذبح ذوات الدر‏.‏ السوم هنا في معنى الرعي‏.‏ وقال الله عز وجل‏{‏فيه تسيمون‏{

‏[‏النحل‏:‏10‏]‏ قال الأخطل‏:‏

مثل ابن بزعة أو كآخر مثله أولى لك ابن مسيمة الأجمال

أراد ابن راعية الإبل‏.‏ والسوام‏:‏ كل بهيمة ترعى، وقيل‏:‏ المعدة للجهاد؛ قاله ابن زيد‏.‏ مجاهد‏:‏ المسومة المطهمة الحسان‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ سومها الحسن؛ واختاره النحاس، من قولهم‏:‏ رجل وسيم‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ المسومة المعلمة بشيات الخيل في وجوهها، من السيما وهي العلامة‏.‏ وهذا مذهب الكسائي وأبي عبيدة‏.‏

قلت‏:‏ كل ما ذكر يحتمله اللفظ، فتكون راعية معدة حسانا معلمة لتعرف من غيرها‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ أصل ذلك أن تجعل عليها صوفة أو علامة تخالف سائر جسدها لتبين من غيرها في المرعى‏.‏ وحكى ابن فارس اللغوي في مجمله‏:‏ المسومة المرسلة وعليها ركبانها‏.‏ وقال المؤرج‏:‏ المسومة المكوية، المبرد‏:‏ المعروفة في البلدان‏.‏ ابن كيسان‏:‏ البلق‏.‏ وكلها متقارب من السيما‏.‏ قال النابغة‏:‏

وضمر كالقداح مسومات عليها معشر أشباه جن

قوله تعالى‏{‏والأنعام‏{‏ قال ابن كيسان‏:‏ إذا قلت نعم لم تكن إلا للإبل، فإذا قلت أنعام وقعت للإبل وكل ما يرعى‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو مذكر ولا يؤنث؛ يقولون هذا نعم وارد، ويجمع أنعاما‏.‏ قال الهروي‏:‏ والنعم يذكر ويؤنث، والأنعام المواشي من الإبل والبقر والغنم؛، إذا قيل‏:‏ النعم فهو الإبل خاصة‏.‏ وقال حسان‏:‏

وكانت لا يزال بها أنيس خلال مروجها نعم وشاء

وفي سنن ابن ماجة عن عروة البارقي يرفعه قال‏:‏ ‏(‏الإبل عز لأهلها والغنم بركة والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة‏)‏‏.‏ وفيه عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الشاة من دواب الجنة‏)‏‏.‏ وفيه عن أبي هريرة قال‏:‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الأغنياء باتخاذ الغنم، والفقراء باتخاذ الدجاج‏.‏ وقال‏:‏ عند اتخاذ الأغنياء الدجاج يأذن الله تعالى بهلاك القرى‏.‏ وفيه عن أم هانئ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏اتخذي غنما فإن فيها بركة‏)‏‏.‏ أخرجه عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن أم هانئ، إسناد صحيح‏.‏

قوله تعالى‏{‏والحرث‏{‏ الحرث هنا اسم لكل ما يحرث، وهو مصدر سمي به؛ تقول‏:‏ حرث الرجل حرثا إذا أثار الأرض لمعنى الفلاحة؛ فيقع اسم الحراثة على زرع الحبوب وعلى الجنات وعلى غير ذلك من نوع الفلاحة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا‏)‏‏.‏ يقال حرثت واحترثت‏.‏ وفي حديث عبدالله ‏(‏احرثوا هذا القرآن‏)‏ أي فتشوه‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ الحرث التفتيش؛ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏أصدق الأسماء الحارث‏)‏ لأن الحارث هو الكاسب، واحتراث المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع أحرثة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها‏.‏ وفي حديث معاوية‏:‏ ما فعلت نواضحكم‏؟‏ قالوا‏:‏ حرثناها يوم بدر‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ يعنون هزلناها؛ يقال‏:‏ حرثت الدابة وأحرثتها، لغتان‏.‏ وفي صحيح البخاري عن أبي أمامة الباهلي قال وقد رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يدخل هذا بيت قوم إلا دخله الذل‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ إن الذل هنا ما يلزم أهل الشغل بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين‏.‏ وقال المهلب‏:‏ معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم الحض على معالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات؛ وذلك لما خشي النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأمم الراكبة للخيل المتعيشة من مكاسبها؛ فحضهم على التعيش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المهنة‏.‏ ألا ترى أن عمر قال‏:‏ تمعددوا واخشوشنوا واقطعوا الركب وثبوا على الخيل وثبا لا تغلبنكم عليها رعاة الإبل‏.‏ فأمرهم بملازمة الخيل، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها‏.‏ وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من مسلم غرس غرسا أو زرع زرعا فيأمل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة‏)‏‏.‏

قال العلماء‏:‏ ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتمول به صنف من الناس؛ أما الذهب والفضة فيتمول بها التجار، وأما الخيل المسومة فيتمول بها الملوك، وأما الأنعام فيتمول بها أهل البوادي، وأما الحرث فيتمول بها أهل الرساتيق‏.‏ فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتمول، فأما النساء والبنون ففتنة للجميع‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك متاع الحياة الدنيا‏{‏ أي ما يتمتع به فيها ثم يذهب ولا يبقى‏.‏ وهذا منه تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة‏.‏‏"‏روى ابن ماجة وغيره عن عبدالله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شيء أفضل من المرأة الصالحة‏)‏‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ازهد في الدنيا يحبك الله‏)‏ أي في متاعها من الجاه والمال الزائد على الضروري‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس لابن آدم حق في سوى هذه الخصال بيت يسكنه وثوب يواري عورته وجلف الخبز والماء‏)‏ أخرجه الترمذي من حديث المقدام بن معد يكرب‏.‏ وسئل سهل بن عبدالله‏:‏ بم يسهل على العبد ترك الدنيا وكل الشهوات‏؟‏ قال‏:‏ بتشاغله بما أمر به‏.‏

قوله تعالى‏{‏والله عنده حسن المآب‏{‏ ابتداء وخبر‏.‏ والمآب المرجع؛ آب يؤوب إيابا إذا رجع؛ قال يؤوب إيابا إذا رجع؛ قال امرؤ القيس‏:‏

وقد طوفت في الآفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب

وقال آخر‏:‏

وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب

وأصل مآب مأوب، قلبت حركة الواو إلى الهمزة وأبدل من الواو ألف، مثل مقال‏.‏ ومعنى الآية تقليل الدنيا وتحقيرها والترغيب في حسن المرجع إلى الله تعالى في الآخرة‏.‏