فصل: الآية رقم ‏(‏ 15 ‏:‏ 19 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 15 ‏:‏ 19 ‏)‏

‏{‏ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم، قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين، فأصبح في المدينة خائفا يترقب فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه قال له موسى إنك لغوي مبين، فلما أن أراد أن يبطش بالذي هو عدو لهما قال يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ‏}‏

قوله ‏{‏ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها‏}‏قيل‏:‏ لما عرف موسى عليه السلام ما هو عليه من الحق في دينه، عاب ما عليه قوم فرعون؛ وفشا ذلك، منه فأخافوه فخافهم، فكان لا يدخل مدينة فرعون إلا خائفا مستخفيا وقال السدي‏:‏ كان موسى في وقت هذه القصة على رسم التعلق بفرعون، وكان يركب مراكبه، حتى كان يدعى موسى بن فرعون؛ فركب فرعون يوما وسار إلى مدينة من مدائن مصر يقال لها منف ـ قال مقاتل على رأس فرسخين من مصر ـ ثم علم موسى بركوب فرعون، فركب بعده ولحق بتلك القرية في وقت القائلة، وهو وقت الغفلة؛ قال ابن عباس وقال أيضا‏:‏ هو بين العشاء والعتمة وقال ابن إسحاق‏:‏ بل المدينة مصر نفسها، وكان موسى في هذا الوقت قد أظهر خلاف فرعون، وعاب عليهم عبادة فرعون والأصنام، فدخل مدينة فرعون يوما على حين غفلة من أهلها قال سعيد بن جبير وقتادة‏:‏ وقت الظهيرة والناس نيام وقال ابن زيد‏:‏ كان فرعون قد نابذ موسى وأخرجه من المدينة، وغاب عنها سنينوجاء والناس على غفلة بنسيانهم لأمره، وبعد عهدهم به، وكان ذلك يوم عيد وقال الضحاك‏:‏ طلب أن يدخل المدينة وقت غفلة أهلها، فدخلها حين علم ذلك منهم، فكان منه من قتل الرجل من قبل أن يؤمر بقتله، فاستغفر ربه فغفر له ويقال في الكلام‏:‏ دخلت المدينة حين غفل أهلها، ولا يقال‏:‏ على حين غفل أهلها؛ فدخلت ‏{‏على‏}‏في هذه الآية لأن الغفلة هي المقصودة؛ فصار هذا كما تقول‏:‏ جئت على غفلة، وإن شئت قلت‏:‏ جئت على حين غفلة، وكذا الآية‏.‏ ‏{‏هذا من شيعته‏}‏والمعنى‏:‏ إذا نظر إليهما الناظر قال هذا من شيعته؛ أي من بني إسرائيل‏.‏ ‏{‏وهذا من عدوه‏}‏أي من قوم فرعون‏.‏ ‏{‏فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه‏}‏أي طلب نصره وغوثه، وكذا قال في الآية بعدها‏}‏فإذا الذي استنضره بالأمس يستصرخه‏}‏أي يستغيث به على قبطي آخر وإنما أغاثه لأن نصر المظلوم دين في الملل كلها على الأمم، وفرض في جميع الشرائع قال قتادة‏:‏ أراد القبطي أن يسخر الإسرائيلي ليحمل حطبا لمطبخ فرعون فأبى عليه، فاستغاث بموسي قال سعيد بن جبير‏:‏ وكان خبازا لفرعون‏.‏ ‏{‏فوكزه موسى‏}‏قال قتادة‏:‏ بعصاه وقال مجاهد‏:‏ بكفه؛ أي دفعه والوكز واللكز واللهز واللهد بمعنى واحد، وهو الضرب بجمع الكف مجموعا كعقد ثلاثة وسبعين وقرأ ابن مسعود‏}‏فلكزه‏}‏وقيل‏:‏ اللكز في اللحى والوكز على القلب وحكى الثعلبي أن في مصحف عبدالله بن مسعود ‏{‏فنكزه‏}‏بالنون والمعنى واحد وقال الجوهري عن أبي عبيدة‏:‏ اللكز الضرب بالجمع على الصدر وقال أبو زيد‏:‏ في جميع الجسد، واللهز‏:‏ الضرب بجمع اليد في الصدر مثل اللكز؛ عن أبي عبيدة أيضا وقال أبو زيد‏:‏ هو بالجمع في اللهازم والرقبة؛ والرجل ملهز بكسر الميم وقال الأصمعي‏:‏ نكزه؛ أي ضربه ودفعه الكسائي‏:‏ نهزه مثل نكزه ووكزه، أي ضربه ودفعه ولهده لهدا أي دفعه لذله فهو ملهود؛ وكذلك لهده؛ قال طرفة يذم رجلا‏:‏

بطيء عن الداعي سريع إلى الخنا ذلول بإجماع الرجال ملهد

أي مدفع وإنما شدد للكثرة وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فلهدني ـ تعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ لهدة أوجعني؛ خرجه مسلم ففعل موسى عليه السلام ذلك وهو لا يريد قتله، إنما قصد دفعه فكانت فيه نفسه، وهو معنى‏}‏فقضى عليه‏}‏وكل شيء أتيت عليه وفرغت منه فقد قضيت عليه قال‏:‏

قد عضه فقضي عليه الأشجع

قوله ‏{‏قال هذا من عمل الشيطان‏}‏أي من إغوائه قال الحسن‏:‏ لم يكن يحل قتل الكافر يومئذ في تلك الحال؛ لأنها كانت حال كف عن القتال‏.‏ ‏{‏إنه عدو مضل مبين‏}‏خبر بعد خبر‏.‏ ‏{‏قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له‏}‏ندم موسى عليه السلام على ذلك الوكز الذي كان فيه ذهاب النفس، فحمله ندمه على الخضوع لربه والاستغفار من ذنبه قال قتادة‏:‏ عرف والله المخرج فاستغفر؛ ثم لم يزل صلى الله عليه وسلم يعدد ذلك على نفسه، مع علمه بأنه قد غفر له، حتى أنه في القيامة يقول‏:‏ إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها وإنما عدده على نفسه ذنبا وقال ‏{‏ظلمت نفسي فاغفر لي‏}‏من أجل أنه لا ينبغي لنبي أن يقتل حتى يؤمر، وأيضا فإن الأنبياء يشفقون مما لا يشفق منه غيرهم قال النقاش‏:‏ لم يقتله عن عمد مريدا للقتل، وإنما وكزه وكزة يريد بها دفع ظلمه قال وقد قيل‏:‏ إن هذا كان قبل النبوة وقال كعب‏:‏ كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة، وكان قتله مع ذلك خطأ؛ فإن الوكزة واللكزة في الغالب لا تقتل و‏"‏روى مسلم عن سالم بن عبدالله‏"‏ أنه قال‏:‏ يا أهل العراق ما أسألكم عن الصغيرة وأركبكم للكبيرة سمعت أبي عبدالله بن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏إن الفتنة تجيء من ها هنا وأومأ بيده نحو المشرق - من حيث يطلع قرنا الشيطان وأنتم بعضكم يضرب رقاب بعض وإنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ فقال الله عز وجل ‏{‏وقتلت نفسا فنجيناك من الغم وفتناك فتونا‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏قال رب بما أنعمت علي‏}‏أي من المعرفة والحكم والتوحيد ‏{‏فلن أكون ظهيرا للمجرمين‏}‏أي عونا للكافرين قال القشيري‏:‏ ولم يقل بما أنعمت علي من المغفرة؛ لأن هذا قبل الوحي، وما كان عالما بأن الله غفر له ذلك القتل وقال الماوردي‏}‏بما أنعمت علي‏}‏فيه وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ من المغفرة؛ وكذلك ذكر المهدوي والثعلبي‏.‏ قال المهدوي‏}‏بما أنعمت علي ‏{‏من المغفرة فلم تعاقبني‏.‏ الوجه الثاني‏:‏ من الهداية

قلت‏:‏ قوله ‏{‏فغفر له‏}‏يدل على المغفرة؛ والله أعلم

قال الزمخشري قوله ‏{‏بما أنعت علي‏}‏يجوز أن يكون قسما جوابه محذوف تقديره؛ أقسم بإنعامك علي بالمغفرة لأتوبن ‏{‏فلن أكون ظهيرا للمجرمين ‏}‏وأن يكون استعطافا كانه قال‏:‏ رب أعصمني بحق ما أنعمت علي من المغفرة فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين وأراد بمظاهرة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته، وتكثير سواده، حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد، وكان يسمى ابن فرعون؛ وإما بمظاهرة من أدت مظاهرته إلى الجرم والإثم، كمظاهرة الإسرائيلي المؤدية إلي القتل الذي لم يحل له قتله وقيل‏:‏ أراد إني وإن أسأت في هذا القتل الذي لم أومر به فلا أترك نصرة المسلمين على المجرمين، فعلى هذا كان الإسرائيلي مؤمنا ونصرة المؤمن واجبه في جميع الشرائع وقيل في بعض الروايات‏:‏ إن ذلك الإسرائيلي كان كافرا وإنما قيل له إنه من شيعته لأنه كان إسرائيليا ولم يرد الموافقة في الدين، فعلى هذا ندم لأنه أعان كافر علي كافر، فقال‏:‏ لا أكون بعدها ظهيرا للكافرين وقيل‏:‏ ليس هذا خبرا بل هو دعاء؛ أي فلا أكون بعد هذا ظهيرا أي فلا تجعلني يا رب ظهيرا للمجرمين وقال الفراء‏:‏ المعنى؛ اللهم فلن أكون بعد ظهير للمجرمين، وزعم أن قول هذا هو قول ابن عباس قال النحاس‏:‏ وأن يكون بمعنى الخبر أولي وأشبه بنسق الكلام كما يقال‏:‏ لا أعصيك لأنك أنعمت علي؛ وهذا قول ابن عباس على الحقيقة لا ما حكاه الفراء، لأن ابن عباس قال‏:‏ لم يستثن فابتلي من ثاني يوم؛ والاستثناء لا يكون في الدعاء لا يقال‏:‏ اللهم اغفر لي إن شئت؛ وأعجب الأشياء أن الفراء روى عن ابن عباس هذا ثم حكى عنه قوله‏.‏

قلت‏:‏ قد مضى هذا المعنى ملخصا مبينا في سورة ‏{‏النمل‏}‏وأنه خبر لا دعاء وعن ابن عباس‏:‏ لم يستثن فابتلي به مرة أخرى؛ يعني لم يقل فلن أكون إن شاء الله وهذا نحو قوله ‏{‏ولا تركنوا إلى الذين ظلموا‏}‏ ‏.‏

قال سلمة بن نبيط‏:‏ بعث عبدالرحمن بن مسلم إلى الضحاك بعطاء أهل بخارى وقال‏:‏ أعطهم؛ فقال‏:‏ اعفني؛ فلم يزل يستعفيه حتى أعفاه فقيل له ما عليك أن تعطيهم وأنت لا ترزؤهم شيئا ‏؟‏ وقال‏:‏ لا أحب أن أعين الظلمة على شيء من أمرهم وقال عبيدالله بن الوليد الوصافي قلت لعطاء بن أبي رباح‏:‏ إن لي أخا يأخذ بقلمه، وإنما يحسب ما يدخل ويخرج، وله عيال ولو ترك ذلك لاحتاج وأدان ‏؟‏ فقال‏:‏ من الرأس ‏؟‏ قلت‏:‏ خالد بن عبدالله القسري، قال‏:‏ أما تقرأ ما قال العبد الصالح‏}‏رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهير للمجرمين‏}‏قال ابن عباس‏:‏ فلم يستثن فابتلي به ثانية فأعانه الله، فلا يعينهم أخوك فإن الله يعينه قال عطاء‏:‏ فلا يحل لأحد أن يعين ظالما ولا يكتب له ولا يصحبه، وأنه إن فعل شيئا من ذلك فقد صار معينا للظالمين وفي الحديث‏:‏ ‏(‏ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة حتى من لاق لهم دواة أو برى لهم قلما فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنم‏)‏ ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من مشي مع مظلوم ليعينه على مظلمته ثبت الله قدميه على الصراط يوم القيام يوم تزل فيه الأقدام ومن مشي مع ظالم ليعينه على ظلمه أزل الله قدميه على الصراط يوم تدحض فيه الأقدام‏)‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من مشى مع ظالم فقد أجرم‏)‏ فالمشي مع الظالم لا يكون جرما إلا إذا مشي معه ليعينه، ولأنه ارتكب نهي الله تعالى في قول سبحانه و‏}‏ولا تعاونوا على الإثم والعدوان‏}

قوله ‏{‏فأصبح في المدينة خائفا‏}‏قد تقدم في طه وغيرها أن الأنبياء صلوات الله عليهم يخافون؛ ردا على من قال غير ذلك، وأن الخوف لا ينافي المعرفة بالله ولا التوكل عليه فقيل‏:‏ أصبح خائفا من قتل النفس أن يؤخذ بها وقيل خائفا من قومه أن يسلموه وقيل‏:‏ خائفا من الله تعالى‏.‏ ‏{‏يترقب‏}‏قال سعيد بن جبير‏:‏ يتلفت من الخوف وقيل‏:‏ ينتظر الطلب، وينتظر ما يتحدث به الناس وقال قتادة‏}‏يترقب‏}‏أي يترقب الطلب وقيل‏:‏ خرج يستخبر الخبر ولم يكن أحد علم بقتل القبطي غير الإسرائيلي‏.‏ و‏{‏أصبح‏}‏يحتمل أم يكون بمعنى صار أي لما قتل صار خائفا ومحتمل أن يكون دخل في الصباح، أي في صباح اليوم الذي يلي يومه ‏{‏وخائفا‏}‏منصوب على أنه خبر ‏{‏أصبح‏}‏، وإن شئت على الحال، ويكون الظرف في موضع الخبر ‏{‏فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه‏}‏أي فإذا صاحبه الإسرائيلي الذي خلصه بالأمس يقاتل قبطيا آخر أرد أن يسخره والاستصراخ الاستغاثة وهو من الصراخ، وذلك لأن المستغيث يصرخ ويصوت في طلب الغوث قال‏:‏

كنا إذا ما أتانا صارخ فزع كان الصراخ له قرع الظنابيب

قيل‏:‏ كان هذا الإسرائيلي المستنصر السامري استسخره طباخ فرعون في حمل الحطب إلي المطبخ؛ ذكره القشيري و‏{‏الذي‏}‏رفع بالابتداء ‏{‏ويستصرخه‏}‏في موضع الخبر ويجوز أن يكون في موضع نصب على الحال وأمس لليوم الذي قبل يومك، وهو مبني علي على الكسر لالتقاء الساكنين فإذا دخله الألف واللام أو الإضافة تمكن فأعرب بالرفع والفتح عند أكثر النحويين ومنهم من يبنيه وفيه الألف واللام وحكى سيبويه وغيره أن من العرب من يجري أمس مجري ما لا ينصرف في موضع الرفع خاصة، وربما اضطر الشاعر ففعل هذا في الخفض والنصب وقال الشاعر‏:‏

لقد رأيت عجبا مذ أمس

فخفض بمذ ما مضى واللغة الجيدة الرفع، فأجري أمس في الخفض مجراه في الرفع على اللغة‏.‏ ‏{‏قال له موسى إنك لغوي مبين‏}‏والغوي الخائب، وأي لأنك تشاد من لا تطيقه وقيل‏:‏ مضل بين الضلالة؛ قتلت بسببك أمس رجلا، وتدعوني اليوم لآخر والغوي فعيل من أغوي يغوي، وهو بمعنى مغو؛ وهو كالوجيع والأليم بمعنى الموجع والمؤلم وقيل‏:‏ الغوي بمعنى الغاوي أي إنك لغوي في قتال من لا تطيق دفع شره عنك، وقال الحسن‏:‏ إنما قال للقبطي‏}‏إنك لغوي مبين‏}‏في استسخار هذا الإسرائيلي وهم أن يبطش به، ويقال‏:‏ بطش يبطش ويبطش والضم أقيس لأنه فعل لا يتعدى‏.‏ ‏{‏قال ياموسى أتريد أن تقتلني‏}‏قال ابن جبير‏:‏ أراد موسى أن يبطش بالقبطي فتوهم الإسرائيلي أنه يريده، لأنه أغلظ له في القول فقال ‏{‏أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس‏}‏فسمع القبطي الكلام فأفشاه وقيل‏:‏ أراد أن يبطش الإسرائيلي بالقبطي فنهاه موسى فخاف منه؛ فقال ‏{‏أتريد أن تقتلتي كما قتلت نفسا بالأمس‏}‏‏.‏ ‏{‏إن تريد‏}‏أي ما تريد‏.‏ ‏{‏إلا أن تكون جبارا في الأرض‏}‏أي قتالا وقال عكرمة والشعبي‏:‏ لا يكون الإنسان جبارا حتى يقتل نفسين بغير حق ‏{‏وما تريد أن تكون من المصلحين‏}‏أي من الذين يصلحون بين الناس‏.‏

 الآية رقم ‏(‏20 ‏:‏ 22 ‏)‏

‏{‏وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين، فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين، ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ‏}‏

قوله ‏{‏وجاء رجل‏}‏قال أكثر أهل التفسير‏:‏ هذا الرجل هو حزقيل بن صبورا مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم فرعون؛ ذكره الثعلبي وقيل‏:‏ طالوت؛ ذكره السهيلي وقال المهدوي عن قتادة‏:‏ شمعون مؤمن آل فرعون وقيل‏:‏ شمعان؛ قال الدارقطني‏:‏ لا يعرف شمعان بالشين المعجمة إلا مؤمن آل فرعون وروي أن فرعون أمر بقتل موسى فسبق ذلك الرجل بالخبر؛ فـ ‏{‏قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك‏}‏أي يتشاورون في قتلك بالقبطي الذي قتلته بالأمس وقيل‏:‏ يأمر بعضهم بعضا قال الأزهري‏:‏ ائتمر القوم وتآمروا أي أم بعضهم بعضا؛ نظيره قوله ‏{‏وأتمروا بينكم بمعروف‏}‏ وقال النمر بن تولب‏:‏

أرى الناس قد أحدثوا شيمة وفي كل حادثة يؤتمر

‏{‏فخرج منها خائفا يترقب‏}‏أي ينتظر الطلب‏.‏ ‏{‏قال رب نجني من القوم الظالمين‏}‏قيل‏:‏ الجبار الذي يفعل ما يريده من الضرب والقتل بظلم، لا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن وقيل‏:‏ المتعظم الذي لا يتواضع لأمر الله تعالى

قوله ‏{‏ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل‏}‏لما خرج موسى عليه السلام فارا بنفسه منفردا خائفا، لا شيء معه من زاد ولا راحلة ولا حذاء نحو مدين، للنسب الذي بينه وبينهم؛ لأن مدين من ولد إبراهيم، وموسى من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم؛ ورأى حاله وعدم معرفته بالطريق، وخلوه من زاد وغيره، أسند أمره إلى الله تعالى بقوله ‏{‏عسى ربي أن يهديني سواء السبيل‏}‏وهذه حالة المضطر‏.‏

قلت‏:‏ روي أنه كان يتقوت ورق الشجر، وما وصل حتى سقط خف قدميه قال أبو مالك‏:‏ وكان فرعون وجه في طلبه وقال لهم‏:‏ اطلبوه في ثنيات الطريق، فإن موسى لا يعرف الطريق فجاءه ملك راكبا فرسا ومعه عنزة، فقال لموسى اتبعني فاتبعه فهداه إلى الطريق، فيقال‏:‏ إنه أعطاه العنزة فكانت عصاه ويروى أن عصاه إنما أخذها لرعيي الغنم من مدين وهو أكثر وأصح قال مقاتل والسدي‏:‏ إن الله بعث إليه جبريل؛ فالله أعلم‏.‏ وبين مدين ومصر ثمانية أيام؛ قال ابن جبير والناس وكان ملك مدين لغير فرعون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 23 ‏:‏ 28 ‏)‏

‏{‏ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير، فسقى لهما ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير، فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين، قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين، قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين، قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي والله على ما نقول وكيل ‏}‏

قوله ‏{‏ولما ورد ماء مدين‏}‏مشى موسى عليه السلام حتى ورد ماء مدين أي بلغها ووروده الماء معناه بلغه لا أنه دخل فيه ولفظة الورود قد تكون بمعنى الدخول في المورود، وقد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه إن لم يدخل فورود موسى هذا الماء كان بالوصول إليه؛ ومنه قول زهير‏:‏

فلما وردن الماء زرقا جمامه وضعن عصي الحاضر المتخيم

وقد تقدمت هذه المعاني في قوله ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ ومدين لا تنصرف إذ هي بلدة معروفةقال الشاعر‏:‏

رهبان مدين لو رأوك تنزلوا والعصم من شعف الجبال الفادر

وقيل‏:‏ قبيلة من ولد مدين بن إبراهيم؛ وقد مضى القول فيه في الأعراف والأمة‏:‏ الجمع الكثير و‏{‏يسقون‏}‏معناه ماشيتهم‏.‏ و‏{‏من دونهم‏}‏معناه ناحية إلى الجهة التي جاء منها، فوصل إلى المرأتين قبل وصول إلى الأمة، ووجدهما تذودان ومعناه تمنعان وتحبسان، ومنه قول عليه السلام‏:‏ ‏(‏فليذادَنَّ رجال عن حوضي‏)‏ وفي بعض المصاحف‏}‏امرأتين حابستين تذودان‏}‏يقال‏:‏ ذاد يذود إذا حبس وذدت الشيء حبسته؛ قال الشاعر‏:‏

أبيت على باب القوافي كأنما أذود بها سربا من الوحش نزعا

أي أحبس وأمنع وقيل ‏{‏تذودان‏}‏تطردان؛ قال‏:‏

لقد سلبت عصاك بنو تميم فما تدري بأي عصا تذود

أي تطرد وتكف وتمنع ابن سلام‏:‏ تمنعان غنمهما لئلا تختلط بغنم الناس؛ فحذف المفعول‏:‏ إما إيهاما على المخاطب، وإما استغناء بعلمه قال ابن عباس‏:‏ تذودان غنمهما عن الماء خوفا من السقاة الأقوياء قتادة‏:‏ تذودان الناس عن غنمهما؛ قال النحاس‏:‏ والأول أولى؛ لأن بعده ‏{‏قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء‏}‏ولو كانتا تذودان عن غنمهما الناس لم تخبرا عن سبب تأخير سقيهما حتى يصدر الرعاء فلما رأى موسى عليه السلام ذلك منهما ‏{‏قال ما خطبكما‏}‏ أي شأنكما؛ قال رؤبة‏:‏

يا عجبا ما خطبه وخطبي

ابن عطية‏:‏ وكان استعمال السؤال بالخطب إنما هو في مصاب، أو مضطهد، أومن يشفق عليه، أو يأتي بمنكر من الأمر، فكأنه بالجملة في شر؛ فأخبرتاه بخبرهما، وأن أباهما شيخ كبير؛ فالمعنى‏:‏ لا يستطيع لضعفه أن يباشر أمر غنمه، وأنهما لضعفهما وقلة طاقتهما لا تقدران على مزاحمة الأقوياء، وأن عادتهما التأني حتى يصدر الناس عن الماء ويخلى؛ وحينئذ تردان وقرأ ابن عامر وأبو عمرو‏}‏يصدر‏}‏من صدر، وهو ضد ورد أي يرجع الرعاء والباقون ‏{‏يصدر‏}‏بضم الياء من أصدر؛ أي حتى يصدروا مواشيهم من وردهم والرعاء جمع راع؛ مثل تاجر وتجار، وصاحب وصحاب قالت فرقة‏:‏ كانت الآبار مكشوفة، وكان زحم الناس يمنعهما، فلما أراد موسى أن يسقى لهما زحم الناس وغلبهم على الماء حتى سقى، فعن هذا الغلب الذي كان منه وصفته إحداهما بالقوة وقالت فرقة‏:‏ إنهما كانتا تتبعان فضالتهم في الصهاريج، فإن وجدتا في الحوض بقية كان ذلك سقيهما، وإن لم يكن فيه بقيه عطشت غنمهما، فرق لهما موسى، فعمد إلى بئر كانت مغطاة والناس يسقون من غيرها، وكان حجرها لا يرفعه إلا سبعة، قال ابن زيد ابن جريج‏:‏ عشرة ابن عباس‏:‏ ثلاثون الزجاج‏:‏ أربعون؛ فرفعه وسقى للمرأتين؛ فعن رفع الصخرة وصفته بالقوة وقيل‏:‏ إن بئرهم كانت واحدة، وإنه رفع عنها الحجر بعد انفصال السقاة، إذ كانت عادة المرأتين شرب الفضلات‏.‏ روى عمرو بن ميمون عن عمر بن الخطاب أنه قال‏:‏ لما استقى الرعاة غطوا على البئر صخرة لا يقلعها إلا عشرة رجال، فجاء موسى فاقتلعها واستقى ذنوبا واحدا لم تحتج إلى غيره فسقى لهما

إن قيل كيف ساغ لنبي الله الذي هو شعيب صلى الله عليه وسلم أن يرضى لا بنتيه بسقي الماشية ‏؟‏ قيل له‏:‏ ليس ذلك بمحظور والدين لا يأباه؛ وأما المروءة فالناس مختلفون في ذلك، والعادة متباينة فيه، وأحوال العرب فيه خلاف أحوال العجم، ومذهب أهل البدو غير مذهب الحضر، خصوصا إذا كانت الحالة حالة ضرورة

قوله ‏{‏ثم تولى إلى الظل‏}‏تولى إلى ظل سمرة؛ قاله ابن مسعود وتعرض لسؤال ما يطعمه بقوله ‏{‏إني لما أنزلت إلي من خير فقير‏}‏وكان لم يذق طعاما سبعة أيام، وقد لصق بطنه بظهره؛ فعرض بالدعاء ولم يصرح بسؤال؛ هكذا روى جميع المفسرين أنه طلب في هذا الكلام ما يأكله؛ فالخير يكون بمعنى الطعام كما في هذه الآية، ويكون بمعنى المال كماقال ‏{‏إن ترك خيرا‏}‏ وقول ‏{‏وإنه لحب الخير لشديد‏}‏ ويكون بمعنى القوة كماقال ‏{‏أهم خير أم قوم تبع‏}‏ ويكون بمعنى العبادة كقول‏}‏وأوحينا إليهم فعل الخيرات‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ وكان قد بلغ به الجوع، وأخضر لونه من أكل البقل في بطنه، لإنه لأكرم الخلق على الله ويروي أنه لم يصل إلى مدين حتى سقط باطن قدميه وفي هذا معتبر وإشعار بهوان الدنيا على الله وقال أبو بكر بن طاهر في قوله ‏{‏إني لما أنزلت إلى من خير فقير‏}‏أي إني لما أنزلت من فضلك وغناك فقير إلى أن تغنيني بك عمن سواك‏.‏

قلت‏:‏ ما ذكره أهل التفسير أولى؛ فإن الله تعالى إنما أغناه بواسطة شعيب

قوله ‏{‏فجاءته إحداهما تمشي على استحياء‏}‏في هذا الكلام اختصار يدل عليه هذا الظاهر؛ قدره ابن إسحاق‏:‏ فذهبتا إلى أبيهما سريعتين، وكانت عادتهما الإبطاء في السقي، فحدثتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، فأمر الكبرى من بنتيه - وقيل الصغرى ـ أن تدعوه له، ‏{‏فجاءت‏}‏على ما في هذه الآية قال عمر وابن ميمون‏:‏ ولم تكن سلفعا من النساء، خراجة ولاّجة وقيل‏:‏ جاءته ساترة وجهها بكم درعها؛ قال عمر بن الخطاب وروي أن اسم إحداهما ليا والأخرى صفوريا ابنتا يثرون، ويثرون وهو شعيب عليه السلام وقيل‏:‏ ابن أبي شعيب، وأن شعيبا كان قد مات وأكثر الناس على أنهما ابنتا شعيب عليه السلام وهو ظاهر القرآن، قال الله تعالي‏{‏وإلى مدين أخاهم شعيبا‏}‏ كذا في سورة الأعراف‏}‏وفي سورة الشعراء‏}‏كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعب‏}‏ قال قتادة‏:‏ بعث الله تعالى شعيبا إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين وقد مضى في الأعراف‏}‏الخلاف في اسم أبيه فروي أن موسى عليه السلام لما جاءته بالرسالة قام يتبعها، وكان بين موسى وبين أبيها ثلاثة أميال، فهبت ريح فضمت قميصها فوصفت عجيزتها، فتحرج موسى من النظر إليها فقال‏:‏ أرجعي خلفي وأرشديني إلى الطريق بصوتك وقيل‏:‏ أن موسى قال ابتداء‏:‏ كوني ورائي فإني رجل عبراني لا أنظر في أدبار النساء، ودليني على الطريق يمينا أو يسارا؛ فذلك سبب وصفها له بالأمانة؛ قال ابن عباس فوصل موسى إلى داعيه فقص عليه أمره من أوله إلى آخره فآنسه بقوله ‏{‏لا تخف نجوت من القوم الظالمين‏}‏وكانت مدين خارجة عن مملكة فرعون وقرب إليه طعاما فقال موسى‏:‏ لا أكل؛ إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا؛ فقال شعيب‏:‏ ليس هذا عوض السقي، ولكن عادتي وعادة أبائي قرى الضيف، وإطعام الطعام؛ فحينئذ أكل موسى‏.‏

قوله ‏{‏قالت إحداهما يا أبت استأجره‏}‏دليل على أن الإجارة كانت عندهم مشروعة معلومة، وكذلك كانت في كل ملة وهي من ضرورة الخليقة، ومصلحة الخلطة بين الناس؛ خلاف الأصم حيث كان عن سماعها أصم‏.‏

قوله ‏{‏قال إني أريد أن أنكحك‏}‏الآية‏.‏ فيه عرض الولي بنته على الرجل؛ وهذه سنة قائمة؛ عرض صالح مدين ابنته على صالح بني إسرائيل، وعرض عمر بن الخطاب ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن الحسن عرض الرجل وليته، والمرأة نفسها على الرجل الصالح، اقتداء بالسلف الصالح قال ابن عمر‏:‏ لما تأيمت حفصة قال عمر لعثمان‏:‏ إن شئت أنكحك حفصة بنت عمر؛ الحديث انفرد بإخراجه البخاري‏.‏

وفي هذه الآية دليل على أن النكاح إلى الولي لا حظ للمرأة فيه، لأن صالح مدين تولاه، وبه قال فقهاء الأمصار وخالف في ذلك أبو حنيفة وقد مضى‏.‏

هذه الآية تدل على أن للأب أن يزوج ابنته البكر البالغ من غير استئمار، وبه قال مالك واحتج بهذه الآية، وهو ظاهر قوي في الباب، واحتجاجه بها يدل على أنه كان يعول على الإسرائيليات؛ كما تقدم وبقول مالك في هذه المسألة قال الشافعي وكثير من العلماء وقال أبو حنيفة‏:‏ إذا بلغت الصغيرة فلا يزوجها أحد إلا برضاها؛ لأنها بلغت حد التكليف، فأما إذا كانت صغيرة فإنه يزوجها بغير رضاها لأنه لا إذن لها ولا رضا، بغير خلاف

استدل أصحاب الشافعي بقوله ‏{‏إني أريد أن أنكحك‏}‏علي أن النكاح موقوف على لفظ التزويج والإنكاح وبه قال ربيعة وأبو ثور وأبو عبيد وداود ومالك على اختلاف عنه وقال علماؤنا في المشهور‏:‏ ينعقد النكاح بكل لفظ وقال أبو حنيفة‏:‏ ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك على التأبيد؛ أما الشافعية فلاحجة لهم في الآية لأنه شرع من قبلنا وهم لا يرونه حجة في شيء في المشهور عندهم وأما أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن بن حي فقالوا‏:‏ ينعقد النكاح بلفظ الهبة وغيره إذا كان قد أشهد عليه؛ لأن الطلاق يقع بالصريح والكناية، قالوا‏:‏ فكذلك النكاح قالوا‏:‏ والذي خص به النبي صلى الله عليه وسلم تعرى البضع من العوض لا النكاح بلفظ الهبة، وتابعهم ابن القاسم فقال‏:‏ إن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظ عن مالك فيه شيئا، وهو عندي جائز كالبيع قال أبو عمر‏:‏ الصحيح أنه لا ينعقد نكاح بلفظ الهبة، كما لا ينعقد بلفظ النكاح هبة شيء من الأموال وأيضا فإن النكاح مفتقر إلى التصريح لتقع الشهادة عليه، وهو ضد الطلاق فكيف يقاس عليه، وقد أجمعوا أن النكاح لا ينعقد بقول‏:‏ أبحت لك وأحللت لك فكذلك الهبة وقال صلي الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏استحللتم فروجهن بكلمة الله‏)‏ يعني القرآن، وليس في القرآن عقد النكاح بلفظ الهبة، وإنما فيه التزويج والنكاح، وفي إجازة النكاح بلفظ الهبة إبطال بعض خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله ‏{‏إحدى ابنتي هاتين‏}‏دل على أنه عرض لا عقد، لأنه لو كان عقدا لعين المعقود عليها له؛ لأن العلماء إن كانوا قد اختلفوا في جواز البيع إذا قال‏:‏ بعتك أحد عبدي هذين بثمن كذا؛ فإنهم اتفقوا على أن ذلك لا يجوز في النكاح؛ لأنه خيار وشيء من الخيار لا يلصق بالنكاح

قال مكي‏:‏ في هذه الآية خصائص في النكاح منها أنه لم يعين الزوجة ولا حد أول الأمد، وجعل المهر إجارة، ودخل ولم ينقد شيئا

قلت‏:‏ فهذه أربع مسائل تضمنتها هذه المسألة

الأولى‏:‏ التعيين، قال علماؤنا‏:‏ أما التعيين فيشبه أنه كان في ثاني حال المراوضة، وإنما عرض الأمر مجملا، وعين بعد ذلك وقد قيل‏:‏ إنه زوجه صفوريا وهي الصغرى يروى عن أبي ذر قال‏:‏ قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن سئلت أي الأجلين قضى موسى فقل خيرهما وأوفاهما وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى وهي التي جاءت خلفه وهي التي قالت‏{‏يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين ‏}‏‏)‏‏.‏ قيل‏:‏ إن الحكمة في تزويجه الصغرى منه قبل الكبرى وإن كانت الكبرى أحوج إلى الرجال أنه توقع أن يميل إليها؛ لأنه رأها في رسالته، وماشاها في إقباله إلى أبيها معها، فلو عرض عليه الكبرى ربما أظهر له الاختيار وهو يضمر غيره وقيل غير هذا؛ والله أعلم وفي بعض الأخبار أنه تزوج بالكبرى؛ حكاه القشيري‏.‏

الثانية‏:‏ وأما ذكر أول المدة فليس في الآية ما يقتضي إسقاطه بل هو مسكوت عنه؛ فإما رسماه، وإلا فهو من أول وقت العقد‏.‏

الثالثة‏:‏ وأما النكاح بالإجارة فظاهر من الآية، وهو أمر قد قرره شرعنا، وجري في حديث الذي لم يكن عنده إلا شيء من القرآن؛ رواه الأئمة؛ وفي بعض طرقه‏:‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما تحفظ من القرآن‏)‏ فقال‏:‏ سورة البقرة والتي تليها؛ قال‏:‏ ‏(‏فعلمها عشرين آية وهي امرأتك‏)‏ واختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال‏:‏ فكرهه مالك، ومنعه ابن القاسم، وأجازه ابن حبيب؛ وهو قول الشافعي وأصحابه؛ قالوا‏:‏ يجوز أن تكون منفعة الحر صداقا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يصح، وجوز أن يتزوجها بأن يخدمها عبده سنة، أو يسكنها داره سنة؛ لأن العبد والدار مال، وليس خدمتها بنفسه مالا وقال أبو الحسن الكرخي‏:‏ إن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز؛ لقوله ‏{‏فآتوهن أجورهن‏}‏ وقال أبو بكر الرازي‏:‏ لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت، وعقد النكاح مؤبد، فهما متنافيان وقال ابن القاسم‏:‏ ينفسخ قبل البناء ويثبت بعده‏.‏ وقال أصبغ‏:‏ إن نقد معه شيئا ففيه اختلاف، وإن لم ينقد فهو أشد، فإن ترك مضى على كل حال بدليل قصة شعيب؛ قال مالك وابن المواز وأشهب وعول على هذه الآية جماعة من المتأخرين والمتقدمين في هذه النازلة؛ قال ابن خويز منداد تضمنت هذه الآية النكاح على الإجارة والعقد صحيح، ويكره أن تجعل الإجارة مهرا، وينبغي أن يكون المهر مالا كما قال عز وجل ‏{‏أن تبتغوا بأموالكم محصنين‏}‏ هذا قول أصحابنا جميعا‏.‏

الرابعة‏:‏ وأما قوله‏:‏ ودخل ولم ينقد فقد اختلف الناس في هذا؛ هل دخل حين عقد أم حين سافر، فإن كان حين عقد فماذا نقد ‏؟‏ وقد منع علماؤنا من الدخول حتى ينقد ولو ربع دينار؛ قال ابن القاسم فإن دخل قبل أن ينقد مضى، لأن المتأخرين من أصحابنا قالوا‏:‏ تعجيل الصداق أو شيء منه مستحب على أنه إن كان الصداق رعية الغنم فقد نقد الشروع في الخدمة؛ وإن كان دخل حين سافر فطول الانتظار في النكاح جائز إن كان مدى العمر بغير شرط وأما إن كان بشرط فلا يجوز إلا أن يكون الغرض صحيحا مثل التأهب للبناء أو انتظار صلاحية الزوجة للدخول إن كانت صغيرة؛ نص عليه علماؤنا

في هذه الآية اجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال‏:‏ الأول‏:‏ قال في ثمانية أبي زيد‏:‏ يكره ابتداء فإن وقع مضى‏.‏ الثاني‏:‏ قال مالك وابن القاسم في المشهور‏:‏ لا يجوز ويفسخ قبل الدخول وبعده؛ لاختلاف مقاصدهما كسائر العقود المتباينة‏.‏ الثالث‏:‏ أجازه أشهب وأصبغ قال ابن العربي‏:‏ وهذا هو الصحيح وعليه تدل الآية؛ وقد قال مالك النكاح أشبه شيء بالبيوع، فأي فرق بين إجارة وبيع أو بين بيع ونكاح فرع‏:‏ وإن أصدقها تعليم شعر مباح صح؛ قال المزني‏:‏ وذلك مثل قول الشاعر‏:‏

يقول العبد فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل ما استفادا

وإن أصدقها تعليم شعر فيه هجو أو فحش كان كما لو أصدقها خمرا أو خنزيرا

قوله ‏{‏على أن تأجرني ثماني حجج‏}‏جرى ذكر الخدمة مطلقا وقال مالك‏:‏ إنه جائز ويحمل على العرف، فلا يحتاج في التسمية إلى الخدمة وهو ظاهر قصة موسى، فإنه ذكر إجارة مطلقة وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ لا يجوز حتى يسمى لأنه مجهول وقد ترجم البخاري‏:‏ [1]‏[‏باب من استأجر أجيرا فبين له الأجل ولم يبين له العمل‏]‏ لقوله ‏{‏على أن تأجرني ثماني حجج‏}‏‏.‏ قال المهلب‏:‏ ليس كما ترجم؛ لأن العمل عندهم كان معلوما من سقي وحرث ورعي وما شاكل أعمال البادية في مهنة أهلها، فهذا متعارف وإن لم يبين له أشخاص الأعمال ولا مقاديرها؛ مثل أن يقول له‏:‏ إنك تحرث كذا من السنة، وترعى كذا من السنة، فهذا إنما هو على المعهود من خدمة البادية، وإنما الذي لا يجوز عند الجميع أن تكون المدة مجهولة، والعمل مجهول غير معهود لا يجوز حتى يعلم قال ابن العربي‏:‏ وقد ذكر أهل التفسير أنه عين له رعية الغنم، ولم يرو من طريق صحيحة، ولكن قالوا‏:‏ إن صالح مدين لم يكن له عمل إلا رعية الغنم، فكان ما علم من حاله قائما مقام التعيين للخدمة فيه‏.‏

أجمع العلماء على أنه جائز أن يستأجر الراعي شهورا معلومة، بأجرة معلومة، لرعاية غنم معدودة؛ فإن كانت معدودة معينة، ففيها تفصيل لعلمائنا؛ قال ابن القاسم‏:‏ لا يجوز حتى يشترط الخلف إن ماتت، وهي رواية ضعيفة جدا؛ وقد استأجر صالح مدين موسى على غنمه، وقد رآها ولم يشترط خلفا؛ وإن كانت مطلقة غير مسماة ولا معينة جازت عند علمائنا وقال أبو حنيفة والشافعي‏:‏ لا تجوز لجهالتها؛ وعول علماؤنا على العرف حسبما ذكرناه آنفا؛ وأنه يعطى بقدر ما تحتمل قوته وزاد بعض علمائنا أنه لا يجوز حتى يعلم المستأجر قدر قوته، وهو صحيح فإن صالح مدين علم قدر قوة موسى برفع الحجر‏.‏

قال مالك‏:‏ وليس على الراعي ضمان وهو مصدق فيما هلك أو سرق، لأنه أمين كالوكيل وقد ترجم البخاري‏:‏ [2]‏[‏باب إذا أبصر الراعي أو الوكيل شاة تموت أو شيئا يفسد فأصلح ما يخاف الفساد‏]‏ وساق حديث كعب بن مالك عن أبيه أنه كانت لهم غنم ترعى بسلع، فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا فكسرت حجرا فذبحتها به، فقال لهم‏:‏ لا تأكلوا حتى أسأل النبي ـ أو أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من يسأله ـ وأنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أو أرسل إليه ـ فأمره بأكلها؛ قال عبدالله‏:‏ فيعجبني أنها أمة وأنها ذبحت قال المهلب‏:‏ فيه من الفقه تصديق الراعي والوكيل فيما اؤتمنا عليه حتى يظهر عليهما دليل الخيانة والكذب؛ وهذا قول مالك وجماعة وقال ابن القاسم‏:‏ إذا خاف الموت على شاة فذبحها لم يضمن ويصدق إذا جاء بها مذبوحة وقال غيره‏:‏ يضمن حتى يبين ما قال‏.‏

واختلف ابن القاسم وأشهب إذا أنزى الراعي على إناث الماشية بغير إذن أربابها فهلكت؛ فقال ابن القاسم‏:‏ لا ضمان عليه؛ لأن الإنزاء من إصلاح المال ونمائه وقال أشهب‏:‏ عليه الضمان؛ وقول ابن القاسم أشبه بدليل حديث كعب، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف عليه باجتهاده، إن كان من أهل الصلاح، وممن يعلم إشفاقه على المال؛ وأما إن كان من أهل الفسوق والفساد وأراد صاحب المال أن يضمنه فعل؛ لأنه لا يصدق أنه رأى بالشاة موتا لما عرف من فسقه‏.‏

لم ينقل ما كانت أجرة موسى عليه السلام؛ ولكن روى يحيى بن سلام أن صالح مدين جعل لموسى كل سخلة توضع خلاف لون أمها، فأوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك بينهن يلدن خلاف شبههن كلهن وقال غير يحيى ‏:‏ بل جعل له كل بلقاء تولد له، فولدن له كلهن بلقا وذكر القشيري أن شعيبا لما استأجر موسى قال له‏:‏ أدخل بيت كذا وخذ عصا من العصي التي في البيت، فأخرج موسى عصا، وكان أخرجها آدم من الجنة، وتوارثها الأنبياء حتى صارت إلى شعيب، فأمره شعيب أن يلقيها في البيت ويأخذ عصا أخرى، فدخل وأخرج تلك العصا؛ وكذلك سبع مرات كل ذلك لا تقع بيده غير تلك، فعلم شعيب أن له شأنا؛ فلما أصبح قال له‏:‏ سق الأغنام إلي مفرق الطريق، فخذ عن يمينك وليس بها عشب كثير، ولا تأخذ عن يسارك فإن بها عشبا كثيرا وتنينا كبيرا لا يقبل المواشي، فساق المواشي إلى مفرق الطريق، فأخذت نحو اليسار ولم يقدر على ضبطها، فنام موسى وخرج التنين، فقامت العصا وصارت شعبتاها حديدا وحاربت التنين حتى قتلته، وعادت إلى موسى عليه السلام، فلما انتبه موسى رأى العصا مخضوبة بالدم، والتنين مقتولا؛ فعاد إلى شعيب عشاء، وكان شعيب ضريرا فمس الأغنام، فإذا أثر الخصب باد عليها، فسأله عن القصة فأخبره بها، ففرح شعيب وقال‏:‏ كل ما تلد هذه المواشي هذه السنة قالب لون ـ أي ذات لونين ـ فهو لك؛ فجاءت جميع السخال تلك السنة ذات لونين، فعلم شعيب أن لموسى عند الله مكانة‏.‏ و روى عيينة بن حصن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أجر موسى نفسه بشبع بطنه وعفة فرجه‏)‏ فقال له شعيب لك منها ـ يعني من نتاج غنمها ما جاءت به قالب لون ليس فيها عزوز ولا فشوش ولا كموش ولا ضبوب ولا ثعول قال الهروي‏:‏ العزوز البكيئة؛ مأخوذ من العزاز وهي الأرض الصلبة، وقد تعززت الشاة والفشوش التي ينفش لبنها من غير حلب وذلك لسعة الإحليل، ومثله الفتوح والثرور ومن أمثالهم‏:‏ لأُفشّنّك فَشّ الوطب أي لأخرجن غضبك وكبرك من رأسك ويقال‏:‏ فش السقاء إذا أخرج منه الريح ومنه الحديث‏:‏ ‏(‏إن الشيطان يفش بين إليتي أحدكم حتى يخيل إليه أنه أحدث‏)‏ أي ينفخ نفخا ضعيفا والكموش‏:‏ الصغيرة الضرع، وهي الكميشة أيضا؛ سميت بذلك لانكماش ضرعها وهو تقلصه؛ ومنه يقال‏:‏ رجل كميش الإزار والكشود مثل الكموش والضبوب الضيقة ثقب الإحليل والضب الحلب بشدة العصر والثعول الشاة التي لها زيادة حلمة وهي الثعل والثعل زيادة السن، وتلك الزيادة هي الراؤول ورجل أثعل والثعل ضيق مخرج اللبن قال الهروي‏:‏ وتفسير قالب لون في الحديث أنها جاءت على غير ألوان أمهاتها

الإجارة بالعوض المجهول لا تجوز؛ فإن ولادة الغنم غير معلومة، وإن من البلاد الخصبة ما يعلم ولاد الغنم فيها قطعا وعدتها وسلامة سخالها كديار مصر وغيرها، بيد أن ذلك لا يجوز في شرعنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر، ونهى عن المضامين والملاقيح والمضامين ما في بطون الإناث، والملاقيح ما في أصلاب الفحول وعلى خلاف ذلك قال الشاعر‏:‏

ملقوحة في بطن ناب حامل

وقد مضى في سورة ‏{‏الحجر‏}‏بيانه على أن راشد بن معمر أجاز الإجارة على الغنم بالثلث والربع وقال ابن سيرين وعطاء‏:‏ ينسج الثوب بنصيب منه؛ وبه قال أحمد

الكفاءة في النكاح معتبرة؛ واختلف العلماء هل في الدين والمال والحسب، أو في بعض ذلك والصحيح جواز نكاح الموالي للعربيات والفرشيات؛ لقوله ‏{‏إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏}‏ وقد جاء موسى إلى صالح مدين غريبا طريدا خائفا وحيدا جائعا عريانا فأنكحه ابنته لما تحقق من دينه ورأى من حاله، وأعرض عما سوى ذلك وقد تقدمت هذه المسألة مستوعبة والحمد لله

قال بعضهم‏:‏ هذا الذي جرى من شعيب لم يكن ذكرا لصداق المرأة، وأنما كان اشتراطا لنفسه على ما يفعله الأعراب؛ فإنها تشترط صداق بناتها، وتقول لي كذا في خاصة نفسي، وترك المهر مفوضا؛ ونكاح التفويض جائز قال ابن العربي‏:‏ هذا الذي تفعله الأعراب هو حلوان وزيادة على المهر، وهو حرام لا يليق بالأنبياء؛ فأما إذا اشترط الولي شيئا لنفسه، فقد اختلف العلماء فيما يخرجه الزوج من يده ولا يدخل في يد المرأة على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه جائز والآخر‏:‏ لا يجوز والذي يصح عندي التقسيم؛ فإن المرأة لا تخلو أن تكون بكرا أو ثيبا؛ فإن كانت ثيبا جاز؛ لأن نكاحها بيدها، وإنما يكون للولي مباشرة العقد، ولا يمتنع أخذ العوض عليه كما يأخذه الوكيل على عقد البيع، وإن كانت بكرا كان العقد بيده، وكأنه عوض في النكاح لغير الزوج وذلك باطل؛ فإن وقع فُسِخ قبل البناء، وثبت بعده على مشهور الرواية والحمد الله‏.‏

لما ذكر الشرط وأعقبه بالطوع في العشر خرج كل واحد منهما على حكمه، ولم يلحق الآخر بالأول، ولا أشترك الفرض والطوع؛ ولذلك يكتب في العقود الشروط المتفق عليها، ثم يقال وتطوع بكذا، فيجري الشرط على سبيله، والطوع على حكمه، وانفصل الواجب من التطوع وقيل‏:‏ ومن لفظ شعيب حسن في لفظ العقود في النكاح أنكحه إياها أولى من أنكحها إياه على ما يأتي بيانه في الأحزاب وجعل شعيب الثمانية الأعوام شرطا، ووكل العاشرة إلي المروءة

قوله ‏{‏قال ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي‏}‏لما فرغ كلام شعيب قرره موسى عليه السلام وكرر معناه على جهة التوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج و‏{‏أيما‏}‏استفهام منصوب بـ قضيت و‏{‏الأجلين‏}‏مخفوض بإضافة ‏{‏أي‏}‏إليهما و‏{‏ما‏}‏صلة للتأكيد وفيه معنى الشرط وجوابه ‏{‏فلا عدوان‏}‏وأن ‏{‏عدوان‏}‏منصوب بـ ‏{‏لا‏}‏وقال ابن كيسان‏{‏ما‏}‏في موضع خفض بإضافة ‏{‏أي‏}‏إليها وهي نكرة و‏{‏الأجلين‏}‏بدل منها وكذلك في قوله ‏{‏فبما رحمة من الله ‏}‏ أي رحمة بدل من ما؛ قال مكي‏:‏ وكان يتلطف في ألا يجعل شيئا زائدا في القرآن ويخرج له وجها يخرجه من الزيادة وقرأ الحسن‏}‏أيما‏}‏بسكون الياء وقرأ ابن مسعود‏}‏أي الأجلين ما قضيت‏}‏وقرأ الجمهور‏}‏عدوان‏}‏بضم العين وأبو حيوة بكسرها؛ والمعنى‏:‏ لا تبعة علي ولا طلب في الزيادة عليه والعدوان التجاوز في غير الواجب، والحجج السنون قال الشعر‏:‏

لمن الديار بقنة الحجر أقوين من حجج ومن دهر

الواحدة حجة بكسر الحاء ‏{‏والله على ما نقول وكيل‏}‏قيل‏:‏ هو من قول موسى وقيل‏:‏ هو من قول والد المرأة فاكتفى الصالحان صلوات الله عليهما في الإشهاد عليهما بالله ولم يشهدا أحدا من الخلق، وقد اختلف العلماء في وجوب الإشهاد في النكاح؛ على قولين‏:‏ أحدهما أنه لا ينعقد إلا بشاهدين وبه قال أبو حنيفة والشافعي ‏[‏وقال مالك‏]‏‏:‏ إنه ينعقد دون شهود؛ لأنه عقد معاوضة فلا يشترط فيه الإشهاد، وإنما يشترط فيه الإعلان والتصريح، وفرق ما بقن النكاح والسفاح الدف وقد مضت هذه المسألة في ‏{‏البقرة‏}‏مستوفاة وفي البخاري عن أبي هريرة‏:‏ أن رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار فقال ايتني بالشهداء أشهدهم، فقال كفى بالله شهيدا؛ فقال أيتني بكفيل؛ فقال كفى بالله كفيلا قال صدقت فدفعها إليه؛ وذكر الحديث‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 29 ‏)‏

‏{‏ فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس من جانب الطور نارا قال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون ‏}‏

قوله ‏{‏فلما قضى موسى الأجل‏}‏قال سعيد بن جبير‏:‏ سألني رجل من النصارى أي الأجلين قضى موسى فقلت‏:‏ لا أدري حتى أقدم على حبر العرب فأسأله - يعني ابن عباس - فقدمت عليه فسألته؛ فقال‏:‏ قضى أكملهما وأوفاهما فأعلمت النصراني فقال‏:‏ صدق والله هذا العالم وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل في ذلك جبريل فأخبره أنه قضى عشر سنين وحكى الطبري عن مجاهد أنه قضى عشرا وعشرا بعدها؛ وواه الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس قال ابن عطية‏:‏ وهذا ضعيف‏.‏ ‏{‏وسار بأهله‏}‏قيل‏:‏ فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء، لما له عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرا فالمؤمنون عند شروطهم، وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج آنس من جانب الطور نارا‏}‏الآية‏.‏ تقدمت‏.‏ والجذوة بكسر الجيم قراءة العامة، وضمها حمزة ويحيى ، وفتحها عاصم والسلمي وزور بن حبيش قال الجوهري‏:‏ الجذوة والجذوة والجذوة الجمرة الملتهبة والجمع جذا وجذا وجذا قال مجاهد في قوله ‏{‏أو جذوة من النار‏}‏أي قطعة من الجمر؛ قال‏:‏ وهي بلغة جميع العرب وقال أبو عبيدة‏:‏ والجذوة مثل الجذمة وهي القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن قال ابن مقبل‏:‏

باتت حواطب ليلى يلتمسن لها جزل الجذا غير خوار ولا دعر

وقال‏:‏

وألقى على قيس من النار جذوة شديدا عليها حميها ولهيبها

 الآية رقم ‏(‏ 30 ‏)‏

‏{‏ فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين ‏}‏

قوله ‏{‏فلما أتاها‏}‏يعني الشجرة قدم ضميرها عليها ‏{‏نودي من شاطئ الواد‏}‏‏{‏من‏}‏الأولى والثانية لابتداء الغاية، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة و‏{‏من الشجرة‏}‏بدل من قوله ‏{‏من شاطئ الواد‏}‏بدل الاشتمال، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، وشاطئ الوادي وشطه جانبه، والجمع شطان وشواطئ، وذكره القشيري، وقال الجوهري‏:‏ ويقال شاطئ الأودية ولا يجمع وشاطأت الرجل إذا مشيت علي شاطئ ومشى هو على شاطئ آخر ‏{‏الأيمن‏}‏أي عن يمين موسى وقيل‏:‏ عن يمين الجبل ‏{‏في البقعة المباركة من الشجرة‏}‏وقرأ الأشهب العقيلي‏}‏في البقعة‏}‏بفتح الباء وقولهم بقاع يدل علي بقعة، كما يقال جفنة وجفان ومن قال بقعة قال بقع مثل غرفة وغرف ‏{‏ومن الشجرة‏}‏أي من ناحية الشجرة قيل‏:‏ كانت شجرة العليق وقيل‏:‏ سمرة وقيل‏:‏ عوسج ومنها كانت عصاه، ذكره الزمخشري وقيل‏:‏ عناب، والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد وفي الحديث‏:‏ ‏(‏إنه من شجر اليهود فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود فلا ينطق‏)‏ خرجه مسلم قال المهدوي‏:‏ وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء ولا يجوز أن يوصف الحق تعالى بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين قال أبو المعالي‏:‏ وأهل المعاني وأهل الحق يقولون من كلمه الله تعالى وخصه بالرتبة العليا والغاية القصوى، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات، كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزها عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته، وأجمعت الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه قال الأستاذ أبو إسحاق‏:‏ اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه كان اختصاصه في سماعه، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الإسراء كلام الله، وهل سمع جبريل كلامه على قولين؛ وطريق أحدهما النقل المقطوع به وذلك مفقود، واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه وقال عبدالله بن سعد بن كلاب‏:‏ إن موسى عليه السلام فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام قال أبو المعالي‏:‏ وهذا مردود؛ بل يجب اختصاص موسى عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقا للعادة، ولو لم يقل ذلك لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه والرب تعالى أسمعه كلامه العزيز، وخلق له علما ضروريا، حتى علم أن ما سمعه كلام الله، وأن الذي كلمه وناداه هو الله رب العالمين، وقد ورد في الأقاصيص أن موسى عليه السلام قال‏:‏ سمعت كلام ربي بجميع جوارحي، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي وقد مضى هذا المعنى في البقرة مستوفى‏.‏ ‏{‏أن يا موسى‏}‏‏{‏أن‏}‏في موضع نصب بحذف حرف الجر أي بـ‏{‏أن يا موسى‏}‏‏{‏إني أنا الله رب العالمين‏}‏نفي لربوبية غيره سبحانه وصار بهذا الكلام من أصفياء الله عز وجل لا من رسله؛ لأنه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة، والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 31 ‏)‏

‏{‏ وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين ‏}‏

قوله ‏{‏وأن ألق عصاك‏}‏عطف على ‏{‏أن يا موسى‏}‏تقدمت‏.‏ و‏{‏مدبرا‏}‏نصب على الحال ‏{‏ولم يعقب‏}‏أي لم يرجع؛ قاله مجاهد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لم يلتفت‏.‏ ‏{‏ولم يعقب‏}‏نصب على الحال‏.‏ ‏{‏ياموسى أقبل ولا تخف‏}‏أي من الحية وضررها‏.‏ قال وهب‏:‏ قيل له أرجع إلى حيث كنت فرجع فلف دراعته على يده، فقال له الملك‏:‏ أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفك يدك ‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكني ضعيف خلقت من ضعف وكشف يده فأدخلها في فم الحية فعادت عصا ‏{‏إنك من الآمنين‏}‏أي مما تحاذر

 الآية رقم ‏(‏ 32 ‏:‏ 35 ‏)‏

‏{‏ اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين، قال رب إني قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردء يصدقني إني أخاف أن يكذبون، قال سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون

قوله ‏{‏اسلك يدك في جيبك‏}‏الآية‏.‏ تقدمت‏.‏ ‏{‏واضمم إليك جناحك من الرهب‏}‏‏{‏من‏}‏متعلقة بـ ‏{‏ولى‏}‏أي ولى مدبرا من الرهب وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق‏}‏من الرهب‏}‏بفتح الراء وإسكان الهاء وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفص بضم الراء وجزم الهاء الباقون بفتح الراء والهاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لقوله تعالي‏{‏ويدعوننا رغبا ورهبا‏}‏ وكلها لغات وهو بمعنى الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت وقيل‏:‏ أمره الله أن يضم يده إلي صدره فيذهب عنه خوف الحية عن مجاهد وغيره ورواه الضحاك عن ابن عباس؛ قال فقال ابن عباس‏:‏ ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام، ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب ويحكي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله‏:‏ أن كاتبا كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر، فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر‏:‏ خذ قلمك وأضمم إليك جناحك، وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي، وقيل‏:‏ المعنى أضمم يدك إلي صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان وضم الجناح هو السكون؛ كقوله ‏{‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏}‏ يريد الرفق وكذلك قوله ‏{‏واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏}‏ أي أرفق بهم وقال الفراء‏:‏ أراد بالجناح عصاه وقال بعض أهل المعاني‏:‏ الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة قال مقاتل‏:‏ سألتني أعرابية شيئا وأنا آكل فملأت الكف وأومأت إليها فقالت‏:‏ ها هنا في رهبي تريد في كمي وقال الأصمعي‏:‏ سمعت أعرابيا يقول لأخر أعطني رهبك فسألته عن الرهب فقال‏:‏ الكم؛ فعلى هذا يكون معناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم؛ لأنه تناول العصا ويده في كمه وقوله ‏{‏أسلك يدك في جيبك‏}‏يدل على أنها اليد اليمني، لأن الجيب على اليسار‏.‏ ذكره القشيري‏.‏

قلت‏:‏ وما فسروه من ضم اليد إلى الصدر يدل على أن الجيب موضعه الصدر وقد مضى في سورة ‏[‏النور‏}‏بيانه الزمخشري‏:‏ ومن بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني مما في رهبك، وليت شعري كيف صحته في اللغة ‏!‏ وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم، ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية، وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل، على أن موسى صلوات عليه ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها قال القشيري‏:‏ وقوله ‏{‏واضمم إليك جناحك‏}‏يريد اليدين إن قلنا أراد الأمن من فزع الثعبان وقيل ‏{‏واضمم إليك جناحك‏}‏أي شمر واستعد لتحمل أعباء الرسالة‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا قيل‏}‏إنك من الآمنين‏}‏أي من المرسلين؛ لقوله تعالى ‏{‏إني لا يخاف لدي المرسلون‏}‏ قال ابن بحر‏:‏ فصار على هذا التأويل رسولا بهذا القول وقيل‏:‏ إنما صار رسولا بقول‏}‏فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه‏}‏

قوله ‏{‏فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين‏}‏والبرهانان اليد والعصا وقرأ ابن كثير‏:‏ بتشديد النون وخففها الباقون و روى أبو عمارة عن أبي الفضل عن أبي بكر عن ابن كثير، ‏{‏فذانيك‏}‏بالتشديد والياء وعن أبي عمرو أيضا قال لغة هذيل‏}‏فذانيك‏}‏بالتخفيف والياء ولغة قريش ‏{‏فذانك‏}‏كما قرأ أبو عمرو وابن كثير وفي تعليله خمسة أقوال‏:‏ قيل شدد النون عوضا من الألف الساقطة في ذانك الذي هو تثنية ذا المرفوع، وهو رفع بالابتداء، وألف ذا محذوفة لدخول ألف التثنية عليها، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين؛ لأن أصله فذانك فحذف الألف الأولى عوضا من النون الشديدة وقيل‏:‏ التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك مكي‏:‏ وقيل إن من شدد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذلك؛ فلما بنى أثبت اللام بعد نون التثنية، ثم أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في الأول، والأصل أن يدغم الأول أبدا في الثاني، إلا أن يمنع من ذلك علة فيدغم الثاني في الأول، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة فيتغير لفظ التثنية فأدغم الثاني في الأول لذلك؛ فصار نونا مشددة وقد قيل‏:‏ إنه لما تنافي ذلك أثبت اللام قبل النون ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام فصار نونا مشددة وقيل‏:‏ شددت فرقا بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه، لأن ذان لا يضاف وقيل‏:‏ للفرق بين الاسم المتمكن وبينها وكذلك العلة في تشديد النون في ‏{‏اللذان‏}‏و‏{‏هذان‏}‏قال أبو عمرو‏:‏ إنما اختص أبو عمرو هذا الحرف بالتشديد دون كل تثنية من جنسه لقلة حروفه فقرأ بالتثقيل ومن قرأ‏{‏فذانيك‏}‏بياء مع تخفيف النون فالأصل عنده ‏{‏فذانك‏}‏بالتشديد فأبدل من النون الثانية ياء كراهية التضعيف، كما قالوا‏:‏ لا أملاه في لا أمله فأبدلوا اللام الثانية ألفا‏.‏ ومن قرأ بياء بعد النون الشديدة فوجهه أنه أشبع كسرة النون فتولدت عنها الياء‏.‏

قوله ‏{‏فأرسله معي ردءا‏}‏يعني معينا مشتق من أردأته أي أعنته والردء العون قال الشاعر‏:‏

ألم تر أن أصرم كان ردئي وخير الناس في ق ل ومال

النحاس‏:‏ وقد أردأه ورداه أي أعانه؛ وترك همزه تخفيفا وبه قرأ نافع‏:‏ وهو بمعنى المهموز قال المهدوي‏:‏ ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم أردى على المائة أي زاد عليها، وكأن المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي قاله مسلم بن جندب وأنشد قول الشاعر‏:‏

وأسمر خطيا كأن كعوبه نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر

كذا أنشد الماوردي هذا البيت‏:‏ قد أردى وأنشده الغزنوي والجوهري في الصحاح قد أرمى؛ قال‏:‏ والقسب الصلب، والقسب تمر يابس يتفتت في الفم صلب النواة قال يصف رمحا‏:‏ وأسمر البيت قال الجوهري‏:‏ ردؤ الشيء يردؤ وداءة فهو رديء أي فاسد، وأردأته أفسدته، وأردأته أيضا يعني أعنته؛ تقول‏:‏ أردأته بنفسي أي كنت له ردءا وهو العون قال الله ‏{‏فأرسله معي رداء يصدقني‏}‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ وقد حكى ردأته‏:‏ ردءا وجمع ردء أرداة وقرأ عاصم وحمزة‏}‏يصدقني‏}‏بالرفع وجزم الباقون؛ وهو اختيار أبي حاتم على جواب الدعاء واختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في ‏{‏أرسله‏}‏أي أرسله ردءا مصدقا حالة التصديق؛ كقوله ‏{‏أنزل علينا مائدة من السماء تكون‏}‏ أي كائنة؛ حال صرف إلى الاستقبال ويجوز أن يكون صفة لقوله ‏{‏ردءا‏}‏‏{‏إني أخاف أن يكذبون‏}‏إذا لم يكن لي وزير ولا معين؛ لأنهم لا يكادون يفقهون عني، فـ ‏{‏قال‏}‏الله جل وعز له ‏{‏سنشد عضدك بأخيك‏}‏أي نقويك به؛ وهذا تمثيل؛ لأن قوة اليد بالعضد قال طرفة‏:‏

بني لبيني لستم بيد إلا يدا ليست لها عضد

ويقال في دعاء الخير‏:‏ شد الله عضدك وفي ضده‏:‏ فت الله في عضدك ‏{‏ونجعل لكما سلطانا‏}‏أي حجه وبرهانا ‏{‏فلا يصلون إليكما‏}‏بالأذى ‏{‏بآياتنا‏}‏أي تمتنعان منهم ‏{‏بآياتنا‏}‏فيجوز أن يوقف على ‏{‏إليكما‏}‏ويكون في الكلام تقديم وتأخير وقيل‏:‏ التقدير ‏{‏أنتما ومن اتبعكما الغالبون‏}‏بآياتنا قال الأخفش والطبري قال المهدوي‏:‏ وفي هذا تقديم الصلة على الموصول، إلا أن يقدر أنتما غالبان بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون وعنى بالآيات سائر معجزاته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 36 ‏:‏ 42 ‏)‏

‏{‏ فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات قالوا ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، وقال موسى ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون، وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين، واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين ‏}‏

قوله ‏{‏فلما جاءهم موسى بآياتنا بينات‏}‏أي ظاهرات واضحات ‏{‏قالوا ما هذا إلا سحر مفترى‏}‏مكذوب مختلق ‏{‏وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين‏}‏أي في الأمم الماضية؛ قال ابن عباس‏.‏ والباء في ‏{‏بهذا‏}‏زائدة؛ أي ما سمعنا هذا كائنا في أبائنا الأولين، وقيل‏:‏ إن هذه الآيات وما احتج به موسى في إثبات التوحيد من الحجج العقلية وقيل‏:‏ هي معجزاته‏.‏

قوله ‏{‏وقال موسى‏}‏قراءة العامة بالواو وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن‏}‏قال‏}‏بلا واو؛ وكذلك هو في مصحف أهل مكة ‏{‏ربي أعلم بمن جاء بالهدى‏}‏أي بالرشاد‏.‏ ‏{‏من عنده‏}‏‏{‏ومن تكون له‏}‏قرأ الكوفيون إلا عاصما‏}‏يكون‏}‏بالياء والباقون بالتاء وقد تقدم هذا ‏{‏عاقبة الدار‏}‏أي دار الجزاء ‏{‏إنه‏}‏الهاء ضمير الأمر والشأن ‏{‏لا يفلح الظالمون‏}‏

قوله ‏{‏وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري‏}‏قال ابن عباس‏:‏ كان بينها وبين قوله ‏{‏أنا ربكم الأعلى‏}‏ أربعون سنة، وكذب عدو الله بل علم أن له ثم ربا هو خالقه وخالق قومه ‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ‏}‏ ‏.‏ ‏{‏فأوقد لي ياهامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى‏}‏أي أطبخ لي الآجر؛ عن ابن عباس رضي الله عنه وقال قتادة‏:‏ هو أول من صنع الآجر وبنى به ولما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال - قيل خمسين ألف بناء سوى الأتباع والأجراء - وأمر بطبخ الآجر والجص، ونشر الخشب وضرب المسامير، فبنوا ورفعوا البناء وشيدوه بحيث لم يبلغه بنيان منذ خلق الله السموات والأرض، فكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه، حتى أراد الله أن يفتنهم فيه فحكى السدي‏:‏ أن فرعون صعد السطح ورمى بنشابة نحو السماء، فرجعت متلطخة بدماء، فقال قد قتلت إله موسى فروي أن جبريل عليه السلام بعثه الله تعالى عند مقالته، فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع؛ قطعة على عسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف، وقطعة في البحر، وقطعة في الغرب، وهلك كل من عمل فيه شيئا والله أعلم بصحة ذلك‏.‏ ‏{‏وإني لأظنه من الكاذبين‏}‏الظن هنا شك، فكفر على الشك؛ لأنه قد رأى من البراهين ما لا يخيل على ذي فطرة‏.‏

قوله ‏{‏واستكبر‏}‏أي تعظم ‏{‏هو وجنوده‏}‏أي تعظموا عن الإيمان بموسى ‏{‏بغير الحق‏}‏أي بالعدوان، أي لم تكن له حجة تدفع ما جاء به موسى ‏{‏وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون‏}‏أي توهموا أنه لا معاد ولا بعث‏.‏ وقرأ نافع وابن محيصن وشيبة وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي‏}‏لا يرجعون‏}‏بفتح الياء وكسر الجيم على أنه مسمى الفاعل الباقون‏}‏يرجعون‏}‏على الفعل المجهول وهو اختيار أبي عبيد، والأول اختيار أبي حاتم‏.‏ ‏{‏فأخذناه وجنوده‏}‏وكانوا ألفي ألف وستمائة ألف ‏{‏فنبذناهم في اليم‏}‏أي طرحناهم في البحر المالح‏.‏ قال قتادة‏:‏ بحر من وراء مصر يقال له إساف أغرقهم الله فيه وقال وهب والسدي‏:‏ المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له بطن مريرة، وهو إلى اليوم غضبان وقال مقاتل، يعني نهر النيل وهذا ضعف والمشهور الأول‏.‏ ‏{‏فانظر‏}‏يا محمد ‏{‏كيف كان عاقبة الظالمين‏}‏أي آخر أمرهم‏.‏

قوله ‏{‏وجعلناهم أئمة‏}‏أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أكثر وقيل‏:‏ جعل الله الملأ من قومه رؤساء السفلة منهم، فهم يدعون إلى جهنم وقيل‏:‏ أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر ‏{‏يدعون إلى النار‏}‏أي إلى عمل أهل النار ‏{‏ويوم القيامة لا ينصرون‏}‏‏.‏ ‏{‏وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة‏}‏أي أمرنا العباد بلعنهم فمن ذكرهم لعنهم وقيل‏:‏ أي ألزمناهم اللعن أي البعد عن الخير ‏{‏ويوم القيامة هم من المقبوحين‏}‏أي من المهلكين الممقوتين قاله ابن كيسان وأبو عبيدة وقال ابن عباس‏:‏ المشوهين الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل‏:‏ من المبعدين يقال‏:‏ قبحه الله أي نحاه من كل خير، وقبَحَه وقبّحه إذا جعله قبيحا وقال أبو عمرو‏:‏ قبحت وجهه بالتخفيف معناه قبحت قال الشاعر‏:‏

ألا قبح الله البراجم كلها وقبح يربوعا وقبح دارما

وانتصب يوما على الحمل على موضع ‏{‏في هذه الدنيا‏}‏واستغنى عن حرف العطف في قوله ‏{‏من المقبوحين‏}‏كما استغنى عنه في قوله ‏{‏سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم‏}‏ ويجوز أن يكون العامل في ‏{‏يوم‏}‏مضمرا يدل عليه قوله ‏{‏هم من المقبوحين‏}‏فيكون كقوله ‏{‏يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين‏}‏ ويجوز أن يكون العامل في ‏{‏يوم‏}‏قوله ‏{‏هم من المقبوحين‏}‏وإن كان الظرف متقدما ويجوز أن يكون مفعولا على السعة، كأنه قال‏:‏ وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 43 ‏)‏

‏{‏ ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون ‏}‏

قوله ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب‏}‏يعني التوراة؛ قاله قتادة قال يحيى بن سلام‏:‏ هو أول كتاب - يعني التوراة - نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام وقيل‏:‏ الكتاب هنا ست من المثاني السبع التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ قال ابن عباس، ورواه مرفوعا‏.‏ ‏{‏من بعد ما أهلكنا القرون الأولى‏}‏قال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة ألم تر إلى قوله ‏{‏ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى‏}‏أي من بعد قوم نوح وعاد وثمود وقيل‏:‏ أي من بعد ما أغرقنا فرعون وقومه وخسفنا بقارون‏.‏ ‏{‏بصائر للناس‏}‏أي آتيناه الكتاب بصائر أي ليتبصروا ‏{‏وهدى‏}‏أي من الضلالة لمن عمل بها ‏{‏ورحمة‏}‏لمن آمن بها‏.‏ ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏أي ليذكروا هذه النعمة فيقموا على إيمانهم في الدنيا، ويثقوا بثوابهم في الآخرة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 44 ‏:‏ 45 ‏)‏

‏{‏ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين، ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين ‏}‏

قوله ‏{‏وما كنت‏}‏أي ما كنت يا محمد ‏{‏بجانب الغربي‏}‏أي بجانب الجبل الغربي قال الشاعر‏:‏

أعطاك من أعطى الهدى النبيا نورا يزين المنبر الغربيا

‏{‏ إذ قضينا إلى موسى الأمر‏}‏إذ كلفناه أمرنا ونهينا، وألزمناه عهدنا وقيل‏:‏ أي إذ قضينا إلى موسى أمرك وذكرناك بخير ذكر وقال ابن عباس‏}‏إذ قضينا‏}‏أي أخبرنا أن أمة محمد خير الأمم ‏{‏وما كنت من الشاهدين‏}‏أي من الحاضرين‏.‏

قوله ‏{‏ولكنا أنشأنا قرونا‏}‏أي من بعد موسى ‏{‏فتطاول عليهم العمر‏}‏حتى نسوا ذكر الله أي عهده وأمره نظيره ‏}‏فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم‏}‏ وظاهر هذا يوجب أن يكون جرى لنبينا عليه السلام ذكر في ذلك الوقت، وأن الله سيبعثه، ولكن طالت المدة، وغلبت القسوة، فنسي القوم ذلك وقيل‏:‏ آتينا موسى الكتاب وأخذنا على قومه العهود، ثم تطاول العهد فكفروا، فأرسلنا محمدا مجددا للدين وداعيا الخلق إليه‏.‏ وقوله ‏{‏وما كنت ثاويا في أهل مدين‏}‏أي مقيما كمقام موسى وشعيب بينهم قال العجاج‏:‏

فبات حيث يدخل الثوي

أي الضيف المقيم‏.‏ وقوله ‏{‏تتلو عليهم آياتنا‏}‏أي تذكرهم بالوعد والوعيد‏.‏ ‏{‏ولكنا كنا مرسلين‏}‏أي أرسلناك في أهل مكة، وأتيناك كتابا فيه هذه الأخبار‏:‏ ولولا ذلك لما علمتها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 46 ‏)‏

‏{‏ وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ‏}‏

قوله ‏{‏وما كنت بجانب الطور إذ نادينا‏}‏أي كما لم تحضر جانب المكان الغربي إذ أرسل الله موسى إلى فرعون، فكذلك لم تحضر جانب الطور إذ نادينا موسى لما أتى الميقات مع السبعين و روى عمرو بن دينار يرفعه قال‏:‏ ‏(‏نودي يا أمة محمد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني‏)‏ فذلك قوله ‏{‏وما كنت بجانب الطور إذ نادينا‏}‏وقال أبو هريرة - وفي رواية عن ابن عباس - إن الله قال‏:‏ ‏(‏يا أمة محمد قد أجبتكم قبل أن تدعوني وأعطيتكم قبل أن تسألوني وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ورحمتكم قبل أن تسترحموني‏)‏ قال وهب‏:‏ وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال‏:‏ يا رب أرنيهم فقال الله‏:‏ ‏(‏إنك لن تدركهم لإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم‏)‏ قال‏:‏ بلى يا رب فقال الله تعالى‏:‏ ‏(‏يا أمة محمد‏)‏ فأجابوا من أصلاب أبائهم فقال‏:‏ ‏(‏قد أجبتكم قبل أن تدعوني‏)‏ ومعنى الآية على هذا ما كنت بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك وأخبرناه بما كتبناه لك ولأمتك من الرحمة إلى آخر الدنيا‏.‏ ‏{‏ولكن‏}‏فعلنا ذلك ‏{‏رحمة‏}‏منا بكم قال الأخفش‏}‏رحمه‏}‏نصب على المصدر أي ولكن رحمناك رحمة وقال الزجاج‏:‏ هو مفعول من أجله أي فعل ذلك بك لأجل الرحمة النحاس‏:‏ أي لم تشهد قصص الأنبياء، ولا تليت عليك، ولكنا بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة وقال الكسائي‏:‏ على خبر كان؛ التقدير‏:‏ ولكن كان رحمة‏.‏ قال‏:‏ ويجوز الرفع بمعنى هي رحمة الزجاج‏:‏ الرفع بمعنى ولكن فعل ذلك رحمة ‏{‏لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك‏}‏يعني العرب أي لم تشاهد تلك الأخبار، ولكن أوحيناها إليك رحمة بمن أرسلت إليهم لتنذرهم بها ‏{‏لعلهم يتذكرون‏}‏

 الآية رقم ‏(‏ 47 ‏:‏ 48 ‏)‏

‏{‏ ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين، فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون ‏}‏

قوله ‏{‏ولولا أن تصيبهم‏}‏يريد قريشا‏.‏ وقيل‏:‏ اليهود ‏{‏مصيبة‏}‏أي عقوبة ونقمة ‏{‏بما قدمت أيديهم‏}‏من الكفر والمعاصي وخص الأيدي بالذكر؛ لأن الغالب من الكسب إنما يقع بها وجواب ‏{‏لولا‏}‏محذوف أي لولا أن يصيبهم عذاب بسبب معاصيهم المتقدمة ‏{‏فيقولوا ربنا لولا‏}‏أي هلا ‏{‏أرسلت إلينا رسولا‏}‏لما بعثنا الرسل وقيل‏:‏ لعاجلناهم بالعقوبة وبعث الرسل إزاحة لعذر الكفار كما تقدم في الإسراء وآخر طه ‏{‏فنتبع آياتك‏}‏نصب على جواب التخصيص‏{‏ونكون‏}‏عطف عليه ‏{‏من المؤمنين‏}‏من المصدقين وقد احتج بهذه الآية من قال‏:‏ إن العقل يوجب الإيمان والشكر؛ لأنهقال ‏{‏بما قدمت أيديهم‏}‏وذلك موجب للعقاب إذا تقرر الوجوب قبل بعثه الرسل، وإنما يكون ذلك بالعقل قال القشيري‏:‏ والصحيح أن المحذوف لو لا كذا لما احتيج إلى تجديد الرسل أي هؤلاء الكفار غير معذورين إذ بلغتهم الشرائع السابقة والدعاء إلى التوحيد، ولكن تطاول العهد، فلو عذبناهم فقد يقول قائل منهم طال العهد بالرسل، ويظن أن ذلك عذر ولا عذر لهم بعد أن بلغهم خبر الرسل، ولكن أكملنا إزاحة العذر، وأكملنا البيان فبعثناك يا محمد إليهم وقد حكم الله بأنه لا يعاقب عبدا إلا بعد إكمال البيان والحجة وبعثة الرسل

قوله ‏{‏فلما جاءهم الحق من عندنا‏}‏يعني محمدا صلي الله عليه وسلم ‏{‏قالوا‏}‏يعني كفار مكة ‏{‏لولا‏}‏أي هلا ‏{‏أوتي مثل ما أوتي موسى‏}‏من العصا واليد البيضاء، وأنزل عليه القرآن جملة واحد كالتوراة، وكان بلغهم ذلك من أمر موسى قبل محمد؛ ‏{‏أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا ساحران تظاهرا‏}‏أي موسى ومحمد تعاونا على السحر وقال الكلبي‏:‏ بعثت قريش إلى اليهود وسألوهم عن بعث محمد وشأنه فقالوا‏:‏ إنا نجده في التوراة بنعته وصفته فلما رجع الجواب إليهم ‏{‏قالوا ساحران تظاهرا‏}‏وقال قوم‏:‏ إن اليهود علموا المشركين، وقالوا قولوا لمحمد لولا أوتيت مثل ما أوتي موسى، فإنه أوتي التوراة دفعة واحدة فهذا الاحتجاج وارد على اليهود، أي أو لم يكفر هؤلاء اليهود بما أوتي موسى حين قالوا في موسى وهارون هما ساحران‏.‏ وقرأ الكوفيون‏}‏سحران‏}‏بغير ألف، أي الإنجيل والقرآن وقيل‏:‏ التوراة والفرقان؛ قاله الفراء وقيل‏:‏ التوراة والإنجيل، قاله أبو رزين الباقون ‏{‏ساحران‏}‏بألف وفيه ثلاثة أقاويل‏:‏ أحدها‏:‏ موسى ومحمد عليهما السلام، وهذا قول مشركي العرب وبه قال ابن عباس والحسن‏.‏ الثاني‏:‏ موسى وهارون وهذا قول اليهود لهما في ابتداء الرسالة‏.‏ وبه قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن زيد فيكون الكلام احتجاجا عليهم وهذا يدل على أن المحذوف في قوله ‏{‏لولا أن تصيبهم مصيبة‏}‏لما جددنا بعثة الرسل، لأن اليهود اعترفوا بالنبوات ولكنهم حرفوا وغيروا واستحقوا العقاب، فقال‏:‏ قد أكملنا إزاحة عذرهم ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم الثالث‏:‏ عيسى ومحمد صلى الله عليهما وسلم وهذا قول اليهود اليوم وبه قال قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ أو لم يكفر جميع اليهود بما أوتي موسى في التوراة من ذكر المسيح، وذكر الإنجيل والقرآن، فرأوا موسى ومحمدا ساحرين والكتابين سحرين‏.‏