فصل: الآية رقم ‏(‏65‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏65‏)‏

‏{‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم‏{‏ الأصل ‏{‏لِما‏{‏ فحذفت الألف فرقا بين الاستفهام والخبر‏.‏ وهذه الآية نزلت بسبب دعوى كل فريق من اليهود والنصارى أن إبراهيم كان على دينه، فأكذبهم الله تعالى بأن اليهودية والنصرانية إنما كانتا من بعده‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده‏{‏ قال الزجاج‏:‏ هذه الآية أبين حجة على اليهود والنصارى؛ إذ التوراة والإنجيل أنزلا من بعده وليس فيهما اسم لواحد من الأديان، واسم الإسلام في كل كتاب‏.‏ ويقال‏:‏ كان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى أيضا ألف سنة‏.‏ ‏{‏أفلا تعقلون‏{‏ دحوض حجتكم وبطلان قولكم‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏66‏)‏

‏{‏ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ها أنتم هؤلاء حاججتم‏{‏ يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يعلمونه فيما يجدون من نعته في كتابهم فحاجوا فيه بالباطل‏.‏ ‏{‏فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏{‏ يعني دعواهم في إبراهيم أنه كان يهوديا أو نصرانيا‏.‏ والأصل في ‏{‏ها أنتم‏{‏ أأنتم فأبدِل من الهمزة الأولى هاء لأنها أختها؛ عن أبي عمرو بن العلاء والأخفش‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن‏.‏ وقرأ قنبل عن ابن كثير ‏{‏هأنتم‏{‏ مثل هعنتم‏.‏ والأحسن منه أن يكون الهاء بدلا من همزة فيكون أصله أأنتم‏.‏ ويجوز أن تكون ها للتنبيه دخلت على ‏{‏أنتم‏{‏ وحذفت الألف لكثرة الاستعمال‏.‏ وفي ‏{‏هؤلاء‏{‏ لغتان المد والقصر ومن العرب من يقصرها‏.‏ وأنشد أبو حاتم‏:‏

لعمرك إنا والأحاليف هاؤلا لفي محنة أظفارها لم تقلم

وهؤلاء ها هنا في موضع النداء يعني يا هؤلاء‏.‏ ويجوز هؤلاء خبر أنتم، على أن يكون أولاء بمعنى الذين وما بعده صلة له‏.‏ ويجوز أن يكون خبر ‏{‏أنتم‏{‏ حاججتم‏.‏ وقد تقدم هذا في ‏{‏البقرة‏{‏ والحمد لله‏.‏

في الآية دليل على المنع من الجدال لمن لا علم له، والحظر على من لا تحقيق عنده فقال عز وجل‏{‏ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم‏{‏‏.‏ وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأيقن فقال تعالى‏{‏وجادلهم بالتي هي أحسن‏}‏النحل‏:‏ 125‏]‏‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل أنكر ولده فقال‏:‏ يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلاما أسود‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل لك من إبل‏)‏‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏ما ألوانها‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ حمر‏:‏ قال‏:‏ ‏(‏هل فيها من أورق‏)‏‏؟‏ قال نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فمن أين ذلك‏)‏‏؟‏ قال‏:‏ لعل عرقا نزعه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وهذا الغلام لعل عرقا نزعه‏)‏‏.‏ وهذا حقيقة الجدال ونهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏67‏)‏

‏{‏ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين‏}‏

نزهه تعالى من دعاويهم الكاذبة، وبين أنه كان على الحنيفية الإسلامية ولم يكن مشركا‏.‏ والحنيف‏:‏ الذي يوحد ويحج ويضحي ويختتن ويستقبل القبلة‏.‏ وقد مضى في ‏{‏البقرة‏{‏ اشتقاقه‏.‏ والمسلم في اللغة‏:‏ المتذلل لأمر الله تعالى المنطاع له‏.‏ وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏ معنى الإسلام مستوفى والحمد لله‏.‏

 الآية رقم ‏(‏68‏)‏

‏{‏إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين‏}‏

وقال ابن عباس‏:‏ قال رؤساء اليهود‏:‏ والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك، فإنه كان يهوديا وما بك إلا الحسد؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ ‏{‏أولى‏{‏ معناه أحق، قيل‏:‏ بالمعونة والنصرة‏.‏ وقيل بالحجة‏.‏ ‏{‏للذين اتبعوه‏{‏ على ملته وسنته‏.‏ ‏{‏وهذا النبي‏{‏ أفرد ذكره تعظيما له؛ كما قال ‏{‏فيهما فاكهة ونخل ورمان‏}‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏ وقد تقدم في ‏{‏البقرة‏{‏ هذا المعنى مستوفى‏.‏ و‏{‏هذا‏{‏ في موضع رفع عطف على الذين، و‏{‏النبي‏{‏ نعت لهذا أو عطف بيان، ولو نصب لكان جائزا في الكلام عطفا على الهاء في ‏{‏اتبعوه‏{‏‏.‏ ‏{‏والله ولي المؤمنين‏{‏ أي ناصرهم‏.‏ وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن لكل نبي ولاة من النبيين وإن وليي منهم أبي وخليل ربي - ثم قرأ - إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏69‏)‏

‏{‏ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون‏}‏

نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمن وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود من بني النضير وقريظة وبني قينقاع إلى دينهم‏.‏ وهذه الآية نظير قوله تعالى‏{‏ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا‏}‏البقرة‏:‏ 109‏]‏‏.‏ و‏{‏من‏{‏ على هذا القول للتبعيض‏.‏ وقيل‏:‏ جميع أهل الكتاب، فتكون ‏{‏من‏{‏ لبيان الجنس‏.‏ ‏{‏لو يضلونكم‏{‏ أي يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له‏.‏ وقال ابن جريج‏{‏يضلونكم‏{‏ أي يهلكونكم؛ ومنه قول الأخطل‏:‏

كنت القدى في موج أكدر مزبد قذف الأَتي به فضلّ ضلالا

أي هلك هلاكا‏.‏ ‏{‏وما يضلون إلا أنفسهم‏{‏ نفي وإيجاب‏.‏ ‏{‏وما يشعرون‏{‏ أي يفطنون أنهم لا يصلون إلى إضلال المؤمنين‏.‏ وقيل‏{‏وما يشعرون‏{‏ أي لا يعلمون بصحة الإسلام وواجب عليهم أن يعلموا؛ لأن البراهين ظاهرة والحجج باهرة، والله أعلم‏.‏

 الآيةرقم ‏(‏70‏)‏

‏{‏يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون‏}‏

أي بصحة الآيات التي عندكم في كتبكم؛ عن قتادة والسدي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وأنتم تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء التي أنتم مقرون بها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏71‏)‏

‏{‏يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون‏}‏

اللبس الخلط، وقد تقدم في البقرة‏.‏ ومعنى هذه الآية والتي قبلها معنى ذلك‏.‏ ‏{‏وتكتمون الحق‏{‏ ويجوز ‏{‏تكتموا‏{‏ على جواب الاستفهام‏.‏ ‏{‏وأنتم تعلمون‏{‏ جملة في موضع الحال‏.‏

 الآية رقم ‏(‏72‏)‏

‏{‏وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون‏}‏

نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وغيرهما، قالوا للسفلة من قومهم‏:‏ آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار، يعني أوله‏.‏ وسمي وجها لأنه أحسنه، وأول ما يواجه منه أوله‏.‏ قال الشاعر‏:‏

وتضيء في وجه النهار منيرة كجمانة البحري سل نظامها

وقال آخر‏:‏

من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نهار

وهو منصوب على الظرف، وكذلك ‏{‏آخره‏{‏‏.‏ ومذهب قتادة أنهم فعلوا ذلك ليشككوا المسلمين‏.‏ والطائفة‏:‏ الجماعة، من طاف يطوف، وقد يستعمل للواحد على معنى نفس طائفة‏.‏ ومعنى الآية أن اليهود قال بعضهم لبعض‏:‏ أظهروا الإيمان بمحمد في أول النهار ثم اكفروا به آخره؛ فإنكم إذا فعلتم ذلك ظهر لمن يتبعه ارتياب في دينه فيرجعون عن دينه إلى دينكم، ويقولون إن أهل الكتاب أعلم به منا‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى آمنوا بصلاته في أول النهار إلى بيت المقدس فإنه الحق، واكفروا بصلاته آخر النهار إلى الكعبة لعلهم يرجعون إلى قبلتكم؛ عن ابن عباس وغيره‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ معناه أنهم جاؤوا محمدا أول النهار ورجعوا من عنده فقالوا للسفلة‏:‏ هو حق فاتبعوه، ثم قالوا‏:‏ حتى ننظر في التوراة ثم رجعوا في آخر النهار فقالوا‏:‏ قد نظرنا في التوراة فليس هو به‏.‏ يقولون إنه ليس بحق، وإنما أرادوا أن يلبسوا على السفلة وأن يشككوا فيه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏73‏)‏

‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم قل إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم‏{‏ هذا نهي، وهو من كلام اليهود بعضهم لبعض، أي قال ذلك الرؤساء للسفلة‏.‏ وقال السدي‏:‏ من قول يهود خيبر ليهود المدينة‏.‏ وهذه الآية أشكل ما في السورة‏.‏ فروي عن الحسن ومجاهد أن معنى الآية ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنهم لا حجة لهم فإنكم أصح منهم دينا‏.‏ و‏{‏أن‏{‏ و‏{‏يحاجوكم‏{‏ في موضع خفض، أي بأن يحاجوكم أي باحتجاجهم، أي لا تصدقوهم في ذلك فإنهم لا حجة لهم‏.‏ ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏{‏ من التوراة والمن والسلوى وفرق البحر وغيرها من الآيات والفضائل‏.‏ فيكون ‏{‏أن يؤتى‏{‏ مؤخرا بعد ‏{‏أو يحاجوكم‏{‏، وقوله ‏{‏إن الهدى هدى الله‏{‏ اعتراض بين كلامين‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولا تصدقوا أن يحاجوكم؛ يذهب إلى أنه معطوف‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ فالمد على الاستفهام أيضا تأكيد للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أتوه؛ لأن علماء اليهود قالت لهم‏:‏ لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ أي لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؛ فالكلام على نسقه‏.‏ و‏{‏أن‏{‏ في موضع رفع على قول من رفع في قولك أزيد ضربته، والخبر محذوف تقديره أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تصدقون أو تقرون، أي إيتاء موجود مصدق أو مقر به، أي لا تصدقون بذلك‏.‏ ويجوز أن تكون ‏{‏أن‏{‏ في موضع نصب على إضمار فعل؛ كما جاز في قولك أزيدا ضربته، وهذا أقوى في العربية لأن الاستفهام بالفعل أولى، والتقدير أتقرون أن يؤتى، أو أتشيعون ذلك، أو أتذكرون ذلك ونحوه‏.‏ وبالمد قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد‏.‏ وقال أبو حاتم‏{‏آن‏{‏ معناه ‏{‏ألأن‏{‏، فحذفت لام الجر استخفافا وأبدلت مدة؛ كقراءة من قرأ ‏{‏أن كان ذا مال‏}‏القلم‏:‏ 14‏]‏ أي ألأن‏.‏ وقوله ‏{‏أو يحاجوكم‏{‏ على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين؛ أو تكون ‏{‏أو‏{‏ بمعنى ‏{‏أن‏{‏ لأنهما حرفا شك وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر‏.‏ وتقدير الآية‏:‏ وأن يحاجوكم عند ربكم يا معشر المؤمنين، فقل‏:‏ يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه‏.‏ ومن قرأ بترك المد قال‏:‏ إن النفي الأول دل على إنكارهم في قولهم ولا تؤمنوا‏.‏ فالمعنى أن علماء اليهود قالت لهم‏:‏ لا تصدقوا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، أي لا إيمان لهم ولا حجة؛ فعطف على المعنى من العلم والحكمة والكتاب والحجة والمن والسلوى وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات، أي أنها لا تكون إلا فيكم فلا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم‏.‏ فالكلام فيه تقديم وتأخير على هذه القراءة واللام زائدة‏.‏ ومن استثنى ليس من الأول، وإلا لم يجز الكلام‏.‏ ودخلت ‏{‏أحد‏{‏ لأن أول الكلام نفي، فدخلت في صلة ‏{‏أن‏{‏ لأنه مفعول الفعل المنفي؛ فإن في موضع نصب لعدم الخافض‏.‏ وقال الخليل‏:‏ ‏(‏أن‏)‏ في موضع خفض بالخافض المحذوف‏.‏ وقيل‏:‏ إن اللام ليست بزائدة، و‏{‏تؤمنوا‏{‏ محمول على تُقِرّوا‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ المعنى ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم إلا لمن تبع دينكم لئلا يكون طريقا إلى عبدة الأوثان إلى تصديقه‏.‏ وقال الفراء‏:‏ يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله عز وجل ‏{‏إلا لمن تبع دينكم‏{‏ ثم قال لمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏{‏‏.‏ أي إن البيان الحق هو بيان الله عز وجل ‏{‏أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم‏{‏ بين ألا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، و‏{‏لا‏{‏ مقدرة بعد ‏{‏أن‏{‏ أي لئلا يؤتى؛ كقوله ‏{‏يبين الله لكم أن تضلوا‏}‏النساء‏:‏ 176‏]‏ أي لئلا تضلوا، فلذلك صلح دخول ‏{‏أحد‏{‏ في الكلام‏.‏ و‏{‏أو‏{‏ بمعنى ‏{‏حتى‏{‏ و‏{‏إلا أن‏{‏؛ كما قال امرؤ القيس‏:‏

فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنعذرا

وقال آخر‏:‏

وكنت إذا غمزت قناة قوم كسرت كعوبها أو تستقيما

ومثله قولهم‏:‏ لا نلتقي أو تقوم الساعة، بمعنى ‏{‏حتى‏{‏ أو ‏{‏إلى أن‏{‏؛ وكذلك مذهب الكسائي‏.‏ وهي عند الأخفش عاطفة على ‏{‏ولا تؤمنوا‏{‏ وقد تقدم‏.‏ أي لا إيمان لهم ولا حجة؛ فعطف على المعنى‏.‏ ويحتمل أن تكون الآية كلها خطابا للمؤمنين من الله تعالى على جهة التثبيت لقلوبهم والتشحيذ لبصائرهم؛ لئلا يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم‏.‏ والمعنى لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الفضل والدين، ولا تصدقوا أن يحاجكم في دينكم عند ربكم من خالفكم أو يقدر على ذلك، فإن الهدى هدى الله وإن الفضل بيد الله‏.‏ قال الضحاك‏:‏ إن اليهود قالوا إنا نحاج عند ربنا من خالفنا في ديننا؛ فبين الله تعالى أنهم هم المدحضون المعذبون وأن المؤمنين هم الغالبون‏.‏ ومحاجتهم خصومتهم يوم القيامة‏.‏ ففي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اليهود والنصارى يحاجونا عند ربنا فيقولون أعطيتنا أجرا واحدا وأعطيتهم أجرين فيقول هل ظلمتكم من حقوقكم شيئا قالوا لا قال فإن ذلك فضلي أوتيه من أشاء‏)‏‏.‏ قال علماؤنا‏:‏ فلو علموا أن ذلك من فضل الله لم يحاجونا عند ربنا؛ فأعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أنهم يحاجونكم يوم القيامة عند ربكم، ثم قال‏:‏ قل لهم الآن ‏{‏إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏{‏‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏آن يؤتى‏{‏ بالمد على الاستفهام؛ كما قال الأعشى‏:‏

أأن رأت رجلا أعشى أضر به ريب المنون ودهر متبل خبل

وقرأ الباقون بغير مد على الخبر‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ‏{‏إن يؤتى‏{‏ بكسر الهمزة، على معنى النفي؛ ويكون من كلام الله تعالى كما قال الفراء‏.‏ والمعنى‏:‏ قل يا محمد ‏{‏إن الهدى هدى الله إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم‏{‏ يعني اليهود - بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم‏.‏ ونصب ‏{‏أو يحاجوكم‏{‏ يعني بإضمار ‏{‏أن‏{‏ و‏{‏أو‏{‏ تضمر بعدها ‏{‏أن‏{‏ إذا كانت بمعنى ‏{‏حتى‏{‏ و‏{‏إلا أن‏{‏‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏أن يؤتي‏{‏ بكسر التاء وياء مفتوحة، على معنى أن يؤتي أحد أحدا مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول‏.‏

 قوله تعالى‏{‏قل إن الهدى هدى الله‏{‏ فيه قولان‏:‏

 أحدهما‏:‏ إن الهدى إلى الخير والدلالة إلى الله عز وجل بيد الله جل ثناؤه يؤتيه أنبياءه، فلا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم مثل ما أوتيتم، فإن أنكروا ذلك فقل لهم‏{‏إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء‏{‏‏.‏  والقول الآخر‏:‏ قل إن الهدى هدى الله الذي آتاه المؤمنين من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم لا غيره‏.‏ وقال بعض أهل الإشارات في هذه الآية‏:‏ لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإن من لا يوافقكم لا يرافقكم‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏74‏)‏

‏{‏يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم‏}‏

أي بنبوته وهدايته؛ عن الحسن ومجاهد وغيرهما‏.‏ ابن جريج‏:‏ بالإسلام والقرآن ‏{‏من يشاء‏{‏‏.‏ قال أبو عثمان‏:‏ أجمل القول ليبقى معه رجاء الراجي وخوف الخائف، ‏{‏والله ذو الفضل العظيم‏{‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏75‏)‏

‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك‏{‏ مثل عبدالله بن سلام‏.‏ ‏{‏ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك‏{‏ وهو فنحاص بن عازوراء اليهودي، أودعه رجل دينارا فخانه‏.‏ وقيل‏:‏ كعب بن الأشرف وأصحابه‏.‏ وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي ‏{‏من إن تيمنه‏{‏ على لغة من قرأ ‏{‏نستعين‏{‏ وهي لغة بكر وتميم‏.‏ وفي حرف عبدالله ‏{‏مالك لا تِيْمَنّا على يوسف‏{‏ والباقون بالألف‏.‏ وقرأ نافع والكسائي ‏{‏يؤدهي‏{‏ بياء في الإدراج‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ واتفق أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة في رواية أبي بكر على وقف الهاء، فقرؤوا ‏{‏يؤدّهْ إليك‏{‏‏.‏ قال النحاس‏:‏ بإسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه البتة ويرى أنه غلط ممن قرأ به، وإنه توهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه مثل هذا‏.‏ والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء؛ وهي قراءة يزيد بن القعقاع‏.‏ وقال الفراء‏:‏ مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون‏:‏ ضربته ضربا شديدا؛ كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع؛ كما قال الشاعر‏:‏

لما رأى ألاّ دَعَهْ ولا شِبَعْ مال إلى أرْطاة حِقْف فاضطجع

وقيل‏:‏ إنما جاز إسكان الهاء في هذا الموضع لأنها وقعت في موضع الجزم وهي الياء الذاهبة‏.‏ وقرأ أبو المنذر سلام والزهري ‏{‏يؤدّهُ‏{‏ بضم الهاء بغير واو‏.‏ وقرأ قتادة وحميد ومجاهد ‏{‏يؤدِّهُو‏{‏ بواو في الإدراج، اختير لها الواو لأن الواو من الشفة والهاء بعيدة المخرج‏.‏ قال سيبويه‏:‏ الواو في المذكر بمنزلة الألف في المؤنث ويبدل منها ياء لأن الياء أخف إذا كان قبلها كسرة أو ياء، وتحذف الياء وتبقى الكسرة لأن الياء قد كانت تحذف والفعل مرفوع فأثبتت بحالها‏.‏

أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يميزون ذلك، فينبغي اجتناب جميعهم‏.‏ وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك؛ لأن الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقد مضى تفسير القنطار‏.‏ وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه‏.‏ ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر‏.‏ وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب‏.‏ وفيه بين العلماء خلاف كثير مذكور في أصول الفقه‏.‏ وذكر تعالى قسمين‏:‏ من يؤدّي ومن لا يؤدّي إلا بالملازمة عليه؛ وقد يكون من الناس من لا يؤدِّي وإن دمت عليه قائما‏.‏ فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب والمعتاد والثالث نادر؛ فخرج الكلام على الغالب‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف وأبو عبدالرحمن السلمي وغيرهما ‏{‏دمت‏{‏ بكسر الدال وهما لغتان، والكسر لغة أزْد السَّراة؛ من ‏{‏دِمْت تدام‏{‏ مثل خفت تخاف‏.‏ وحكى الأخفش دِمت تدوم، شاذا‏.‏

استدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى‏{‏إلا ما دمت عليه قائما‏{‏ وأباه سائر العلماء، وقد تقدم في البقرة‏.‏ وقد استدل بعض البغداديين من علمائنا على حبس المِديان بقوله تعالى‏{‏ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما‏{‏ فإذا كان له ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه‏.‏ وقيل‏:‏ إن معنى ‏{‏إلا ما دمت عليه قائما‏{‏ أي بوجهك فيهابك ويستحي منك، فان الحياء في العينين؛ ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين‏.‏ وإذا طلبت من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك حتى يستحي فيقضيها‏.‏ ويقال‏{‏قائما‏{‏ أي ملازما له؛ فإن أنظرته أنكرك‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بالقيام إدامة المطالبة لا عين القيام‏.‏ والدينار أصله دِنّار فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للتخفيف لكثرة استعماله‏.‏ يدل عليه أنه يجمع دنانير ويصغر دُنَيْنير‏.‏

الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جَنَبَتَي الصراط؛ كما في صحيح مسلم‏.‏ فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما‏.‏ وروى مسلم عن حذيفة قال‏:‏ حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة، قال‏:‏ ‏(‏ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه‏)‏ الحديث‏.‏ وقد تقدم بكماله أول البقرة‏.‏ وروى ابن ماجة حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير بن مرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه رِبْقة الإسلام‏)‏‏.‏ وقد مضى في البقرة معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك‏)‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك؛ لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا‏.‏ فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة؛ ألا ترى قولهم‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏}‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه؛ ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين‏.‏

قوله تعالى‏{‏ذلك بأنهم قالوا‏{‏ يعني اليهود ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏{‏ قيل‏:‏ إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون‏:‏ ليس علينا في الأميين سبيل - أي حرج في ظلمهم - لمخالفتهم إيانا‏.‏ وادعوا أن ذلك في كتابهم؛ فأكذبهم الله عز وجل ورد عليهم فقال‏{‏بلى‏{‏ أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم أموال العرب‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ وتم الكلام‏.‏ ثم قال‏{‏من أوفى بعهده واتقى‏}‏آل عمران‏:‏ 76‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ إن اليهود كانوا قد استدانوا من الأعراب أموالا فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود‏:‏ ليس لكم علينا شيء، لأنكم تركتم دينكم فسقط عنا دَينكم‏.‏ وادّعوا أنه حكم التوراة فقال الله تعالى‏{‏بلى‏{‏ ردا لقولهم ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏{‏‏.‏ أي ليس كما تقولون، ثم استأنف فقال‏{‏من أوفى بعهده واتقى‏{‏ الشرك فليس من الكاذبين بل يحبه الله ورسوله‏.‏

قال رجل لابن عباس‏:‏ إنا نصيب في العمد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول‏:‏ ليس علينا في ذلك بأس‏.‏ فقال له‏:‏ هذا كما قال أهل الكتاب ‏{‏ليس علينا في الأميين سبيل‏{‏ إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم؛ ذكره عبدالرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة أن رجلا قال لابن عباس؛ فذكره‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏{‏ يدل على أن الكافر لا يُجعل أهلا لقبول شهادته؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه كذاب‏.‏ وفيه رد عل الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله‏.‏ وفي الخبر‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏76‏)‏

‏{‏بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين‏}‏

‏{‏من‏{‏ رفع بالابتداء وهو شرط‏.‏ و‏{‏أوفى‏{‏ في موضع جزم‏.‏ و‏{‏اتقى‏{‏ معطوف عليه، أي واتقى الله ولم يكذب ولم يستحل ما حُرِّم عليه‏.‏ ‏{‏فإن الله يحب المتقين‏{‏ أي يحب أولئك‏.‏ وقد تقدم معنى حب الله لأوليائه‏.‏ والهاء في قوله ‏{‏بعهده‏{‏ راجعة إلى الله عز وجل‏.‏ وقد جرى ذكره في قوله ‏{‏ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏{‏ ويجوز أن تعود على الموفى ومتقي الكفر والخيانة ونقض العهد‏.‏ والعهد مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول‏.‏

 الآية رقم ‏(‏77‏)‏

‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏}‏

روى الأئمة عن الأشعث بن قيس قال‏:‏ كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏هل لك بينة‏)‏‏؟‏ قلت لا، قال لليهودي‏:‏ ‏(‏احلف‏)‏ قلت‏:‏ إذا يحلف فيذهب بمالي؛ فأنزل الله تعالى‏{‏إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا‏{‏ إلى آخر الآية‏.‏ وروى الأئمة أيضا عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة‏)‏‏.‏ فقال له رجل‏:‏ وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏وإن كان قضيبا من أراك‏)‏‏.‏ وقد مضى في البقرة معنى ‏{‏لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم‏{‏‏.‏

ودلت هذه الآية والأحاديث أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه؛ وقد‏"‏روى الأئمة عن أم سلمة قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة‏)‏‏.‏ وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة، وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال‏:‏ إن حكم الحاكم المبني على الشهادة الباطلة يحل الفرج لمن كان محرما عليه؛ كما تقدم في البقرة‏.‏ وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم أن القضية باطل‏.‏ وقد شُنّع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة، ولم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان‏.‏ وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏78‏)‏

‏{‏وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏}‏

يعني طائفة من اليهود‏.‏ ‏{‏يلوون ألسنتهم بالكتاب‏{‏ وقرأ أبو جعفر وشيبة ‏{‏يلَوُّون‏{‏ على التكثير‏.‏ إذا أماله؛ ومنه والمعنى يحرفون الكلم ويعدلون به عن القصد‏.‏ وأصل اللّيّ الميل‏.‏ لوى بيده، ولوى برأسه قوله تعالى‏{‏ليا بألسنتهم‏}‏النساء‏:‏ 46‏]‏ أي عنادا عن الحق وميلا عنه إلى غيره‏.‏ ومعنى ‏{‏ولا تلوون على أحد‏}‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏ أي لا تعرجون عليه؛ يقال لوى عليه إذا عرج وأقام‏.‏ واللّي المَطْل‏.‏ لواه بدَينه يَلْوِيه ليًّا ولِيانا مَطَله‏.‏ قال‏:‏

قد كنت داينت بها حسانا مخافة الإفلاس والليانا

يحسن بيع الأصل والعيانا

وقال ذو الرمة‏:‏

تريدين لياني وأنت ملية وأحسن يا ذات الوشاح التقاضيا

وفي الحديث ‏(‏لَيُّ الواجد يحل عرضه وعقوبته‏)‏‏.‏ وألسنة جمع لسان في لغة من ذكّر، ومن أنّث قال ألسن‏.‏

 الآية رقم ‏(‏79‏)‏

‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون‏}‏

قوله‏{‏ما كان‏{‏ معناه ما ينبغي؛ كما قال‏{‏وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ‏}‏النساء‏:‏ 92‏]‏ و‏{‏ما كان لله أن يتخذ من ولد‏}‏مريم‏:‏ 35‏]‏‏.‏ و‏{‏ما يكون لنا أن نتكلم بهذا‏}‏النور‏:‏ 16‏]‏ يعني ما ينبغي‏.‏ والبشر يقع للواحد والجمع لأنه بمنزلة المصدر؛ والمراد به هنا عيسى في قول الضحاك والسدي‏.‏ والكتاب‏:‏ القرآن‏.‏ والحكم‏:‏ العلم والفهم‏.‏ وقيل أيضا‏:‏ الأحكام‏.‏ أي إن الله لا يصطفي لنبوته الكَذَبة، ولو فعل ذلك بشر لسلبه الله آيات النبوة وعلاماتها‏.‏ ونصب ‏{‏ثم يقول‏{‏ على الاشتراك بين ‏{‏أن يؤتيه‏{‏ وبين ‏{‏يقول‏{‏ أي لا يجتمع لنبي إتيان النبوة وقوله‏{‏كونوا عبادا لي من دون الله‏{‏‏.‏ ‏{‏ولكن كونوا ربانيين‏{‏ أي ولكن جائز أن يكون النبي يقول لهم كونوا ربانيين‏.‏ وهذه الآية قيل إنها نزلت في نصارى نجران‏.‏ وكذلك روي أن السورة كلها إلى قوله ‏{‏وإذ غدوت من أهلك‏}‏آل عمران‏:‏121‏]‏ كان سبب نزولها نصارى نجران ولكن مزج معهم اليهود؛ لأنهم فعلوا من الجحد والعناد فعلهم‏.‏

والربانين واحدهم رباني منسوب إلى الرب‏.‏ والرباني الذي يُرَبّي الناس بصغار العلم قبل كباره؛ وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور؛ روي معناه عن ابن عباس‏.‏ قال بعضهم‏:‏ كان في الأصل ربي فأدخلت الألف والنون للمبالغة؛ كما يقال للعظيم اللحية‏:‏ لِحْيانِيّ ولعظيم الجمة جماني ولغليظ الرقبة رَقَبانيّ‏.‏ وقال المبرد‏:‏ الربانيون أرباب العلم، واحدهم ربان، من قولهم‏:‏ رَبَّه يَرُبّه فهو رَبان إذا دبره وأصلحه؛ فمعناه على هذا يدبرون أمور الناس ويصلحونها‏.‏ والألف والنون للمبالغة كما قالوا ريّان وعطشان، ثم ضمت إليها ياء النسبة كما قيل‏:‏ لحياني ورقباني وجماني‏.‏ قال الشاعر‏:‏

لو كنت مرتهنا في الجو أنزلني منه الحديث ورباني أحباري

فمعنى الرباني العالم بدين الرب الذي يعمل بعلمه؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه فليس بعالم‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في البقرة‏:‏ وقال أبو رزين‏:‏ الرباني هو العالم الحكيم‏.‏ وروى شعبة عن عاصم عن زر عن عبدالله بن مسعود ‏{‏ولكن كونوا ربانيين‏{‏ قال‏:‏ حكماء علماء‏.‏ ابن جبير‏:‏ حكماء أتقياء‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ لا ينبغي لأحد أن يدع حفظ القرآن جهده فإن الله تعالى يقول‏{‏ولكن كونوا ربانيين‏{‏‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الربانيون الولاة، والأحبار العلماء‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الربانيون فوق الأحبار‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو قول حسن؛ لأن الأحبار هم العلماء‏.‏ والرباني الذي يجمع إلى العلم البصر بالسياسة؛ مأخوذ من قول العرب‏:‏ رَبّ أمرَ الناس يَرُبّه إذا أصلحه وقام به، فهو راب ورباني على التكثير‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ سمعت عالما يقول‏:‏ الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، العارف بأنباء الأمة وما كان وما يكون‏.‏ وقال محمد بن الحنفية يوم مات ابن عباس‏:‏ اليوم مات رباني هذه الأمة‏.‏ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏ما من مؤمن ذكر ولا أنثى حر ولا مملوك إلا ولله عز وجل عليه حق أن يتعلم من القرآن ويتفقه في دينه - ثم تلا هذه الآية - ‏{‏ولكن كونوا ربانيين‏{‏ الآية‏.‏ رواه ابن عباس‏.‏

قوله تعالى‏{‏بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون‏{‏ قرأه أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف من العلم‏.‏ واختار هذه القراءة أبو حاتم‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ وتصديقها ‏{‏تَدْرُسون‏{‏ ولم يقل ‏{‏تُدَرّسون‏{‏ بالتشديد من التدريس‏.‏ وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة ‏{‏تُعلّمون‏{‏ بالتشديد من التعليم؛ واختارها أبو عبيد‏.‏ قال‏:‏ لأنها تجمع المعنيين ‏{‏تعلمون، وتدرسون‏{‏‏.‏ قال مكي‏:‏ التشديد أبلغ، لأن كل معلم عالم بمعنى يعلم وليس كل من عَلِمَ شيئا مُعَلِّما، فالتشديد يدل على العلم والتعليم، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط، فالتعليم أبلغ وأمدح وغيره أبلغ في الذم‏.‏ احتج من رجح قراءة التخفيف بقول ابن مسعود ‏{‏كونوا ربانيين‏{‏ قال‏:‏ حكماء علماء؛ فيبعد أن يقال كونوا فقهاء حكماء علماء بتعليمكم‏.‏ قال الحسن، كونوا حكماء علماء بعلمكم‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏تُدرِسون‏{‏ من أدرس يُدرس‏.‏ وقرأ مجاهد ‏{‏تعلمون‏{‏ بفتح التاء وتشديد اللام، أي تتعلمون‏.‏

 الآية رقم ‏(‏80‏)‏

‏{‏ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏}‏

قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بالنصب عطفا على ‏{‏أن يؤتيه‏{‏‏.‏ ويقويه أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتريد أن نتخذك يا محمد ربا‏؟‏ فقال الله تعالى‏{‏ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة - إلى قوله‏:‏ ولا يأمركم‏{‏‏.‏ وفيه ضمير البشر، أي ولا يأمركم البشر يعني عيسى وعزيرا‏.‏ وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام الأول، وفيه ضمير اسم الله عز وجل، أي ولا يأمركم الله أن تتخذوا‏.‏ ويقوي هذه القراءة أن في مصحف عبدالله ‏{‏ولن يأمركم‏{‏ فهذا يدل على الاستئناف، والضمير أيضا لله عز وجل؛ ذكره مكي، وقاله سيبويه والزجاج‏.‏ وقال ابن جريج وجماعة‏:‏ ولا يأمركم محمد عليه السلام‏.‏ وهذه قراءة أبي عمرو والكسائي وأهل الحرمين‏.‏ ‏{‏أن تتخذوا‏{‏ أي بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا‏.‏ وهذا موجود في النصارى يعظمون الأنبياء والملائكة حتى يجعلوهم لهم أربابا‏.‏ ‏{‏أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون‏{‏ على طريق الإنكار والتعجب؛ فحرم الله تعالى على الأنبياء أن يتخذوا الناس عبادا يتألهون لهم ولكن ألزم الخلق حرمتهم‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي ولا يقل أحدكم ربي وليقل سيدي‏)‏‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏يوسف‏:‏ 42‏]‏‏.‏ وهناك يأتي بيان هذا المعنى إن شاء الله تعالى‏.‏

 الآية رقم ‏(‏81‏)‏

‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين‏}‏

قيل‏:‏ أخذ الله تعالى ميثاق الأنبياء أن يصدق بعضهم بعضا ويأمر بعضهم بالإيمان بعضا؛ فذلك معنى النصرة بالتصديق‏.‏ وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة وطاوس والسدي والحسن، وهو ظاهر الآية‏.‏ قال طاوس‏:‏ أخذ الله ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب‏}‏آل عمران‏:‏ 187‏]‏‏.‏ قال الكسائي‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين‏{‏ بمعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين‏.‏ وقال البصريون‏:‏ إذا أخذ الله ميثاق النبيين فقد أخذ ميثاق الذين معهم؛ لأنهم قد اتبعوهم وصدقوهم‏.‏ و‏{‏ما‏{‏ في قوله ‏{‏لما‏{‏ بمعنى الذي‏.‏ قال سيبويه‏:‏ سألت الخليل بن أحمد عن قوله عز وجل‏{‏وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة‏{‏ فقال‏:‏ لما بمعنى الذي‏.‏ قال النحاس‏:‏ التقدير على قول الخليل للذي آتيتكموه، ثم حذف الهاء لطول الاسم‏.‏ و‏{‏الذي‏{‏ رفع بالابتداء وخبره ‏{‏من كتاب وحكمة‏{‏‏.‏ و‏{‏من‏{‏ لبيان الجنس‏.‏ وهذا كقول القائل‏:‏ لزيد أفضل منك؛ وهو قول الأخفش أنها لام الابتداء‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وقوله ‏{‏ثم جاءكم‏{‏ وما بعده جملة معطوفة على الصلة، والعائد منها على الموصول محذوف؛ والتقدير ثم جاءكم رسول مصدق به‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه‏{‏ الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم في قول علي وابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ واللفظ وإن كان نكرة فالإشارة إلى معين؛ كقوله تعالى‏{‏وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة‏{‏ إلى قوله‏{‏ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه‏}‏النحل‏:‏ 112 - 113‏]‏ فأخذ الله ميثاق النبيين أجمعين أن يؤمنوا بمحمد عليه السلام وينصروه إن أدركوه، وأمرهم أن يأخذوا بذلك الميثاق على أممهم‏.‏ واللام من قوله ‏{‏لتؤمنن به‏{‏ جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق، إذ هو بمنزلة الاستحلاف‏.‏ وهو كما تقول في الكلام‏:‏ أخذت ميثاقك لتفعلن كذا، كأنك قلت استحلفك، وفصل بين القسم وجوابه بحرف الجر الذي هو ‏{‏لما‏{‏ في قراءة ابن كثير على ما يأتي‏.‏ ومن فتحها جعلها متلقية للقسم الذي هو أخذ الميثاق‏.‏ واللام في ‏{‏لتؤمنن به‏{‏ جواب قسم محذوف، أي والله لتؤمنن به‏.‏ وقال المبرد والكسائي والزجاج‏{‏ما‏{‏ شرط دخلت عليها لام التحقيق كما تدخل على إن، ومعناه لمهما آتيتكم؛ فموضع ‏{‏ما‏{‏ نصب، وموضع ‏{‏آتيتكم‏{‏ جزم، و‏{‏ثم جاءكم‏{‏ معطوف عليه، ‏{‏لتؤمنن به‏{‏ اللام في قوله ‏{‏لتؤمنن به‏{‏ جواب الجزاء؛ كقوله تعالى‏{‏ولئن شئنا لنذهبن‏}‏الإسراء‏:‏ 86‏]‏ ونحوه‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ لتؤمنن به معتمد القسم فهو متصل بالكلام الأول، وجواب الجزاء قوله ‏{‏فمن تولى بعد ذلك‏}‏آل عمران‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ولا يحتاج على هذا الوجه إلى تقدير عائد‏.‏ وقرأ أهل الكوفة ‏{‏لما آتيتكم‏{‏ بكسر اللام، وهي أيضا بمعنى الذي وهي متعلقة بأخذ، أي أخذ الله ميثاقهم لأجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به من بعد الميثاق؛ لأن أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف كما تقدم‏.‏ قال النحاس‏:‏ ولأبي عبيدة في هذا قول حسن‏.‏ قال‏:‏ المعنى وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به لما آتيتكم من ذكر التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ في الكلام حذف، والمعنى إذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا‏.‏ ودل على هذا الحذف ‏{‏وأخذتم على ذلكم إصري‏{‏‏.‏ وقيل‏:‏ إن اللام في قوله ‏{‏لما‏{‏ في قراءة من كسرها بمعنى بعد، يعني بعد ما آتيتكم من كتاب وحكمة؛ كما قال النابغة‏:‏

توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع

أي بعد ستة أعوام‏.‏ وقرأ سعيد بن جبير ‏{‏لما‏{‏ بالتشديد، ومعناه حين آتيتكم‏.‏ واحتمل أن يكون أصلها التخفيف فزيدت ‏{‏من‏{‏ على مذهب من يرى زيادتها في الواجب فصارت لمن ما، وقلبت النون ميما للإدغام فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت الأولى منهن استخفافا‏.‏ وقرأ أهل المدينة ‏{‏آتيناكم‏{‏ على التعظيم‏.‏ والباقون ‏{‏آتيتكم‏{‏ على لفظ الواحد‏.‏ ثم كل الأنبياء لم يؤتوا الكتاب وإنما أوتي البعض، ولكن الغلبة للذين أوتوا الكتاب‏.‏ والمراد أخذ ميثاق جميع الأنبياء فمن لم يؤت الكتاب فهو في حكم من أوتي الكتاب لأنه أوتي الحكم والنبوة‏.‏ وأيضا من لم يؤت الكتاب أمر بأن يأخذ بكتاب من قبله فدخل تحت صفة من أوتي الكتاب‏.‏

قوله تعالى‏{‏قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا‏{‏ ‏{‏أقررتم‏{‏ من الإقرار، والإصر والأصر لغتان، وهو العهد‏.‏ والإصر في اللغة الثقل؛ فسمي العهد إصرا لأنه منع وتشديد‏.‏ ‏{‏قال فاشهدوا‏{‏ أي اعلموا؛ عن ابن عباس‏.‏ الزجاج‏:‏ بينوا لأن الشاهد هو الذي يصحح دعوى المدعي‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى اشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم‏.‏ ‏{‏وأنا معكم من الشاهدين‏{‏ عليكم وعليهم‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ قال الله عز وجل للملائكة فاشهدوا عليهم، فتكون كناية عن غير مذكور‏.‏

 الآية رقم ‏(‏82‏)‏

‏{‏فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون‏}‏

قوله‏{‏من‏{‏ شرط‏.‏ فمن تولى من أمم الأنبياء عن الإيمان بعد أخذ الميثاق ‏{‏فأولئك هم الفاسقون‏{‏ أي الخارجون عن الإيمان‏.‏ والفاسق الخارج‏.‏ وقد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏83 ‏:‏84‏)‏

‏{‏أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون، قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏أفغير دين الله يبغون‏{‏ قال الكلبي‏:‏ إن كعب بن الأشرف وأصحابه اختصموا مع النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ أينا أحق بدين إبراهيم‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كلا الفريقين بريء من دينه‏)‏‏.‏ فقالوا‏:‏ ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك؛ فنزل ‏{‏أفغير دين الله يبغون‏{‏ يعني يطلبون‏.‏ ونصبت ‏{‏غير‏{‏ بيبغون، أي يبغون غير دين الله‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحده ‏{‏يبغون‏{‏ بالياء على الخبر ‏{‏وإليه ترجعون‏{‏ بالتاء على المخاطبة‏.‏ قال‏:‏ لأن الأول خاص والثاني عام ففرق بينهما لافتراقهما في المعنى‏.‏ وقرأ حفص وغيره ‏{‏يبغون، ويرجعون‏{‏ بالياء فيهما؛ لقوله‏{‏فأولئك هم الفاسقون‏{‏‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب؛ لقوله ‏{‏لما آتيتكم من كتاب وحكمة‏{‏‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وله أسلم‏{‏ أي استسلم وانقاد وخضع وذل، وكل مخلوق فهو منقاد مستسلم؛ لأنه مجبول عل ما لا يقدر أن يخرج عنه‏.‏ قال قتادة‏:‏ أسلم المؤمن طوعا والكافر عند موته كرها ولا ينفعه ذلك؛ لقوله‏{‏فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا‏}‏المؤمن‏:‏ 85‏]‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ إسلام الكافر كرها بسجوده لغير الله وسجود ظله لله، ‏{‏أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا لله وهم داخرون‏}‏النحل‏:‏ 48‏]‏ ‏{‏ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال‏}‏الرعد‏:‏ 15‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى أن الله خلق الخلق على ما أراد منهم؛ فمنهم الحسن والقبيح والطويل والقصير والصحيح والمريض وكلهم منقادون اضطرارا، فالصحيح منقاد طائع محب لذلك؛ والمريض منقاد خاضع وإن كان كارها‏.‏ والطوع الانقياد والارتباع (1) بسهولة‏.‏ والكره ما كان بمشقة وإباء من النفس‏.‏ و‏{‏طوعا وكرها‏{‏ مصدران في موضع الحال، أي طائعين ومكرهين‏.‏ وروى أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل‏{‏وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها‏{‏ قال‏:‏ ‏(‏الملائكة أطاعوه في السماء والأنصار وعبدالقيس في الأرض‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام‏:‏ ‏(‏لا تسبوا أصحابي فإن أصحابي أسلموا من خوف الله وأسلم الناس من خوف السيف‏)‏‏.‏ وقال عكرمة‏{‏طوعا‏{‏ من أسلم من غير محاجة ‏{‏وكرها‏{‏ من اضطرته الحجة إلى التوحيد‏.‏ يدل عليه قوله عز وجل‏{‏ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله‏}‏الزخرف‏:‏ 87‏]‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله‏}‏العنكبوت‏:‏ 63‏]‏‏.‏ قال الحسن‏:‏ هو عموم معناه الخصوص‏.‏ وعنه‏{‏أسلم من في السماوات‏{‏ وتم الكلام‏.‏ ثم قال‏{‏والأرض طوعا وكرها‏{‏‏.‏ قال‏:‏ والكاره المنافق لا ينفعه عمله‏.‏ و‏{‏طوعا وكرها‏{‏ مصدران في موضع الحال‏.‏ عن مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شموسا فليقرأ في أذنها هذه الآية‏{‏أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها‏{‏ إلى آخر الآية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏85‏)‏

‏{‏ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين‏}‏

قوله‏{‏غير‏{‏ مفعول بيبتغ، ‏{‏دينا‏{‏ منصوب على التفسير، ويجوز أن ينتصب دينا بيبتغ، وينتصب ‏{‏غير‏{‏ على أنه حال من الدين‏.‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ نزلت هذه الآية في الحارث بن سويد أخو الحلاس بن سويد، وكان من الأنصار، ارتد عن الإسلام هو واثنا عشر معه ولحقوا بمكة كفارا، فنزلت هذه الآية، ثم أرسل إلى أخيه يطلب التوبة‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس وغيره‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وأسلم بعد نزول الآيات‏.‏ ‏{‏وهو في الآخرة من الخاسرين‏{‏ قال هشام‏:‏ أي وهو خاسر في الآخرة من الخاسرين؛ ولولا هذا لفرقت بين الصلة والموصول‏.‏ وقال المازني‏:‏ الألف واللام مثلها في الرجل‏.‏ وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏البقرة‏:‏ 130‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏86‏)‏

‏{‏كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم؛ فأرسل إلى قومه‏:‏ سلوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة‏؟‏ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هل له من توبة‏؟‏ فنزلت ‏{‏كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم‏{‏ إلى قوله‏{‏غفور رحيم‏}‏آل عمران‏:‏ 89‏]‏0 فأرسل إليه فأسلم‏.‏ أخرجه النسائي‏.‏ وفي رواية‏:‏ أن رجلا من الأنصار ارتد فلحق بالمشركين، فأنزل الله ‏{‏كيف يهدي الله قوما كفروا‏{‏ إلى قوله‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏آل عمران‏:‏ 89‏]‏ فبعث بها قومه إليه، فلما قرئت عليه قال‏:‏ والله ما كذبني قومي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أكذبت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، والله عز وجل أصدق الثلاثة؛ فرجع تائبا، فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه‏.‏ وقال الحسن‏:‏ نزلت في اليهود لأنهم كانوا يبشرون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويستفتحون على الذين كفروا؛ فلما بعث عاندوا وكفروا، فأنزل الله عز وجل‏{‏أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين‏}‏آل عمران‏:‏ 87‏]‏‏.‏ ثم قيل‏{‏كيف‏{‏ لفظة استفهام ومعناه الجحد، أي لا يهدي الله‏.‏ ونظيره قوله‏{‏كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله‏}‏التوبة‏:‏ 7‏]‏ أي لا يكون لهم عهد؛ وقال الشاعر‏:‏

كيف نومي على الفراش ولما يشمل القوم غارة شعواء

أي لا نوم لي‏.‏ ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏{‏ يقال‏:‏ ظاهر الآية أن من كفر بعد إسلامه لا يهديه الله ومن كان ظالما، لا يهديه الله؛ وقد رأينا كثيرا من المرتدين قد أسلموا وهداهم الله، وكثيرا من الظالمين تابوا عن الظلم‏.‏ قيل له‏:‏ معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على كفرهم وظلمهم ولا يُقبِلون على الإسلام؛ فأما إذا أسلموا وتابوا فقد وفقهم الله لذلك‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏87‏:‏ 88‏: 89)‏

‏{‏ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون، إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم‏}‏

أي إن داموا على كفرهم‏.‏ وقد تقدم معنى لعنة الله والناس في ‏(‏البقرة‏)‏ فلا معنى لإعادته‏.‏ ‏{‏ولا هم ينظرون‏{‏ أي لا يؤخرون ولا يؤجلون، ثم استثنى التائبين فقال‏{‏إلا الذين تابوا‏{‏ هو الحارث بن سويد كما تقدم‏.‏ ويدخل في الآية بالمعنى كل من راجع الإسلام وأخلص‏.‏

 الآية رقم ‏(‏90‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون‏}‏

قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن‏:‏ نزلت في اليهود كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته ‏{‏ثم ازدادوا كفرا‏{‏ بإقامتهم على كفرهم‏.‏ وقيل‏{‏ازدادوا كفرا‏{‏ بالذنوب التي اكتسبوها‏.‏ وهذا اختيار الطبري، وهي عنده في اليهود‏.‏ ‏{‏لن تقبل توبتهم‏{‏ مشكل لقوله‏{‏وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات‏}‏الشورى‏:‏ 25‏]‏ فقيل‏:‏ المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا قول حسن؛ كما قال عز وجل‏{‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن‏}‏النساء‏:‏ 18‏]‏‏.‏ وروي عن الحسن وقتادة وعطاء‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر‏)‏‏.‏ وسيأتي في ‏{‏النساء‏{‏ بيان هذا المعنى‏.‏ وقيل‏{‏لن تقبل توبتهم‏{‏ التي كانوا عليها قبل أن يكفروا؛ لأن الكفر قد أحبطها‏.‏ وقيل‏{‏لن تقبل توبتهم‏{‏ إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر؛ وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام‏.‏ وقال قطرب‏:‏ هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا‏:‏ نتربص بمحمد ريب المنون، فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا‏.‏ فأنزل الله تعالى‏{‏إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم‏{‏ أي لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر؛ فسماها توبة غير مقبولة؛ لأنه لم يصح من القوم عزم، والله عز وجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏91‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين‏}‏

الملء ‏(‏بالكسر‏)‏ مقدار ما يملأ الشيء، والملء ‏(‏بالفتح‏)‏ مصدر ملأت الشيء؛ ويقال‏:‏ أعطني مِلأَه ومِلأيه وثلاثة أملائه‏.‏ والواو في ‏{‏لو افتدى به‏{‏ قيل‏:‏ هي مقحمة زائدة؛ المعنى‏:‏ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو افتدى به‏.‏ وقال أهل النظر من النحويين‏:‏ لا يجوز أن تكون الواو مقحمة لأنها تدل على معنى‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا تبرعا ولو افتدى به‏.‏ و‏{‏ذهبا‏{‏ نصب على التفسير في قول الفراء‏.‏ قال المفضل‏:‏ شرط التفسير أن يكون الكلام تاما وهو مبهم؛ كقولك عندي عشرون؛ فالعدد معلوم والمعدود مبهم؛ فإذا قلت درهما فسرت‏.‏ وإنما نصب التمييز لأنه ليس له ما يخفضه ولا ما يرفعه، وكان النصب أخف الحركات فجعل لكل ما لا عامل فيه‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ نصب على إضمار من، أي من ذهب؛ كقوله‏{‏أو عدل ذلك صياما‏}‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ أي من صيام‏.‏ وفي البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به فيقول نعم فيقال له قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك‏)‏‏.‏ لفظ البخاري‏.‏ وقال مسلم بدل ‏(‏قد كنت؛ كذبت، قد سئلت‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏92‏)‏

‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم‏}‏

‏"‏روى الأئمة واللفظ للنسائي عن أنس قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏{‏ قال أبو طلحة‏:‏ إن ربنا ليسألنا من أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اجعلها في قرابتك في حسان بن ثابت وأبي بن كعب‏)‏‏.‏ وفي الموطأ ‏{‏وكانت أحب أمواله إليه بئر حاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب‏{‏‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه؛ فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك‏.‏ ألا ترى أبا طلحة حين سمع ‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا‏{‏ الآية، لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك فإنهم يحبون أشياء كثيرة‏.‏ وكذلك فعل زيد بن حارثة، عمد مما يحب إلى فرس يقال له ‏(‏سَبَل‏)‏ وقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أنه ليس لي مال أحب إلي من فرسي هذه؛ فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هذا في سبيل الله‏.‏ فقال لأسامة بن زيد ‏(‏اقبضه‏)‏‏.‏ فكأن زيدا وجد من ذلك في نفسه‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله قد قبلها منك‏)‏‏.‏ ذكره أسد بن موسى‏.‏ وأعتق ابن عمر نافعا مولاه، وكان أعطاه فيه عبدالله بن جعفر ألف دينار‏.‏ قالت صفية بنت أبي عبيدة‏:‏ أظنه تأول قول الله عز وجل‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏{‏‏.‏ وروى شبل عن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتح مدائن كسرى؛ فقال سعد بن أبي وقاص‏:‏ فدعا بها عمر فأعجبته، فقال إن الله عز وجل يقول‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا بما تحبون‏{‏ فأعتقها عمر رضي الله عنه‏.‏ وروي عن الثوري أنه بلغه أن أم ولد الربيع بن خيثم قالت‏:‏ كان إذا جاءه السائل يقول لي‏:‏ يا فلانة أعطي السائل سكرا، فإن الربيع يحب السكر‏.‏ قال سفيان‏:‏ يتأول قوله جل وعز‏{‏لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون‏{‏‏.‏ وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يشتري أعدالا من سكر ويتصدق بها‏.‏ فقيل له‏:‏ هلا تصدقت بقيمتها‏؟‏ فقال‏:‏ لأن السكر أحب إلي فأردت أن أنفق مما أحب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إنكم لن تنالوا ما تحبون إلا بترك ما تشتهون، ولا تدركوا ما تأملون إلا بالصبر على ما تكرهون‏.‏

واختلفوا في تأويل ‏{‏البر‏{‏ فقيل الجنة؛ عن ابن مسعود وابن عباس وعطاء ومجاهد وعمرو بن ميمون والسدي‏.‏ والتقدير لن تنالوا ثواب البر حتى تنفقوا مما تحبون‏.‏ والنوال العطاء، من قولك نولته تنويلا أعطيته‏.‏ ونالني من فلان معروف ينالني، أو وصل إلي‏.‏ فالمعنى لن تصلوا إلى الجنة وتعطوها حتى تنفقوا مما تحبون‏.‏ وقيل‏:‏ البر العمل الصالح‏.‏ وفي الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏عليكم بالصدق فإنه يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة‏)‏‏.‏ وقد مضى في البقرة‏.‏ قال عطية العوفي‏:‏ يعني الطاعة‏.‏ عطاء‏:‏ لن تنالوا شرف الدين والتقوى حتى تتصدقوا وأنتم أصحاء أشحاء تأملون العيش وتخشون الفقر‏.‏ وعن الحسن، ‏{‏حتى تنفقوا‏{‏ هي الزكاة المفروضة‏.‏ مجاهد والكلبي‏:‏ هي منسوخة، نسختها آية الزكاة‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى حتى تنفقوا مما تحبون في سبيل الخير من صدقة أو غيرها من الطاعات، وهذا جامع‏.‏ وروى النسائي عن صعصعة بن معاوية قال‏:‏ لقيت أبا ذر قال‏:‏ قلت‏:‏ حدثني قال‏:‏ نعم‏.‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من عبد مسلم ينفق من كل ماله زوجين في سبيل الله إلا استقبلته حجبة الجنة كلهم يدعوه إلى ما عنده‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ إن كانت إبلا فبعيرين، وإن كانت بقرا فبقرتين‏.‏ وقال أبو بكر الوراق‏:‏ دلهم بهذه الآية على الفتوة‏.‏ أي لن تنالوا بري بكم إلا ببركم بإخوانكم والإنفاق عليهم من أموالكم وجاهكم؛ فإذا فعلتم ذلك نالكم بري وعطفي‏.‏ قال مجاهد‏:‏ وهو مثل قوله‏{‏ويطعمون الطعام على حبه مسكينا‏}‏الإنسان‏:‏8‏]‏‏.‏ ‏{‏وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم‏{‏ أي وإذا علم جازى عليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏93 ‏:‏94‏)‏

‏{‏كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏حلا‏{‏ أي حلالا، ثم استثنى فقال‏{‏إلا ما حرم إسرائيل على نفسه‏{‏ وهو يعقوب عليه السلام‏.‏ في الترمذي عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أخبرنا، ما حرم إسرائيل عل نفسه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏كان يسكن البدو فاشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها‏)‏‏.‏ قالوا‏:‏ صدقت‏.‏ وذكر الحديث‏.‏ ويقال‏:‏ إنه نذر إن برأ منه ليتركن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحوم الإبل وألبانها‏.‏ وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي‏:‏ أقبل يعقوب عليه السلام من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلا بطشا قويا، فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب عليه السلام، ثم صعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه فهاج عليه عرق النسا، ولقي من ذلك بلاء شديدا، فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء أي صياح، فحلف يعقوب عليه السلام إن شفاه الله جل وعز ألا يأكل عرقا، ولا يأكل طعاما فيه عرق فحرمها على نفسه؛ فجعل بنوه يتبعون بعد ذلك العروق فيخرجونها من اللحم‏.‏ وكان سبب غمز الملك ليعقوب أنه كان نذر إن وهب الله له اثني عشر ولدا وأتى بيت المقدس صحيحا أن يذبح آخرهم‏.‏ فكان ذلك للمخرج من نذره؛ عن الضحاك‏.‏

واختلف هل كان التحريم من يعقوب باجتهاد منه أو بإذن من الله تعالى‏؟‏ والصحيح الأول؛ لأن الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله تعالى‏{‏إلا ما حرم‏{‏ وأن النبي إذا أداه اجتهاده إلى شيء كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله سبحانه إياه على ذلك‏.‏ وكما يوحى إليه ويلزم اتباعه، كذلك يؤذن له ويجتهد، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه، ولولا تقدم الإذن له في تحريم ذلك ما تسور على التحليل والتحريم‏.‏ وقد حرم نبينا صلى الله عليه وسلم العسل على الرواية الصحيحة، أو خادمه ‏؟‏‏؟‏ مارية فلم يقر الله تحريمه ونزل‏{‏لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏التحريم‏:‏ 1‏]‏ على ما يأتي بيانه في ‏{‏التحريم‏{‏‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ فيمكن أن يقال‏:‏ مطلق قوله تعالى‏{‏لم تحرم ما أحل الله‏{‏ يقتضي ألا يختص بمارية؛ وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى، فجعلها مخصوصا بموضع النص، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل مباح وأجراه مجرى اليمين‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين‏{‏ قال ابن عباس‏:‏ لما أصاب يعقوب عليه السلام عرق النسا وصف الأطباء له أن يجتنب لحوم الإبل فحرمها على نفسه‏.‏ فقالت اليهود‏:‏ إنما نحرم على أنفسنا لحوم الإبل؛ لأن يعقوب حرمها وأنزل الله تحريمها في التوراة؛ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ قال الضحاك‏:‏ فكذبهم الله ورد عليهم فقال‏:‏ يا محمد ‏{‏قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين‏{‏ فلم يأتوا‏.‏ فقال عز وجل‏{‏فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون‏{‏ قال الزجاج‏:‏ في هذه الآية أعظم دلالة لنبوة محمد نبينا صلى الله عليه وسلم، أخبرهم أنه ليس في كتابهم، وأمرهم أن يأتوا بالتوراة فأبوا؛ يعني عرفوا أنه قال ذلك بالوحي‏.‏ وقال عطية العوفي‏:‏ إنما كان ذلك حراما عليهم بتحريم يعقوب ذلك عليهم‏.‏ وذلك أن إسرائيل قال حين أصابه عرق النسا‏:‏ والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد؛ ولم يكن ذلك محرما عليهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ لم يحرمه الله عز وجل في التوراة عليهم وإنما حرمه بعد التوراة بظلمهم وكفرهم، وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبا عظيما حرم الله تعالى عليهم طعاما طيبا، أو صب عليهم رجزا وهو الموت؛ فذلك قوله تعالى‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم‏}‏النساء‏:‏ 160‏]‏ الآية‏.‏ وقوله‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏{‏ الآية - إلى قوله‏{‏ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون‏}‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏‏.‏

ترجم ابن ماجة في سننه ‏{‏دواء عرق النسا‏{‏ حدثنا هشام بن عمار وراشد بن سعيد الرملي قالا حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا هشام بن حسان حدثنا أنس بن سيرين أنه سمع أنس بن مالك يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏شفاء عرق النسا ألية شاة أعرابية تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء ثم يشرب على الريق في كل يوم جزء‏)‏‏.‏ وأخرجه الثعلبي في تفسيره أيضا من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عرق النسا‏:‏ ‏(‏تؤخذ ألية كبش عربي لا صغير ولا كبير فتقطع صغارا فتخرج إهالته فتقسم ثلاثة أقسام في كل يوم على ريق النفس ثلثا‏)‏ قال أنس‏:‏ فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى‏.‏ شعبة‏:‏ حدثني شيخ في زمن الحجاج بن يوسف في عرق النسا‏:‏ أقسم لك بالله الأعلى لئن لم تنته لأكوينك بنار أو لأحلقنك بموسى‏.‏ قال شعبة‏:‏ قد جربته، تقوله، وتمسح على ذلك الموضع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏95‏)‏

‏{‏قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين‏}‏

أي قل يا محمد صدق الله‏.‏ إنه لم يكن ذلك في التوراة محرما‏.‏ ‏{‏فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا‏{‏ أمر باتباع دينه‏.‏ ‏{‏وما كان من المشركين‏{‏ رد عليهم في دعواهم الباطل كما تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏96‏:‏ 97‏)‏

‏{‏إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين، فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏}‏

ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال‏:‏ ‏(‏المسجد الحرام‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏المسجد الأقصى‏)‏‏.‏ قلت‏:‏ كم بينهما‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أربعون عاما ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل‏)‏‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ لم يوضع قبله بيت‏.‏ قال علي رضي الله عنه‏:‏ كان قبل البيت بيوت كثيرة، والمعنى أنه أول بيت وضع للعبادة‏.‏ وعن مجاهد قال‏:‏ تفاخر المسلمون واليهود فقالت اليهود‏:‏ بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة؛ لأنه مهاجر الأنبياء وفي الأرض المقدسة‏.‏ وقال المسلمون‏:‏ بل الكعبة أفضل؛ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقد مضى في البقرة بنيان البيت وأول من بناه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وأن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى‏.‏ وأما المسجد الأقصى فبناه سليمان عليه السلام؛ كما خرجه النسائي بإسناد صحيح من حديث عبدالله بن عمرو‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن سليمان بن داود عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله خلالا ثلاثة سأل الله عز وجل حكما يصادف حكمه فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه فأوتيه‏)‏‏.‏ فجاء إشكال بين الحديثين؛ لأن بين إبراهيم وسليمان آمادا طويلة‏.‏ قال أهل التواريخ‏:‏ أكثر من ألف سنة‏.‏ فقيل‏:‏ إن إبراهيم وسليمان عليهما السلام إنما جددا ما كان أسسه غيرهما‏.‏ وقد روي أن أول من بنى البيت آدم عليه السلام كما تقدم‏.‏ فيجوز أن يكون غيره من ولده وضع بيت المقدس من بعده بأربعين عاما، ويجوز أن تكون الملائكة أيضا بنته بعد بنائها البيت بإذن الله؛ وكل محتمل‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ أمر الله تعالى الملائكة ببناء بيت في الأرض وأن يطوفوا به؛ وكان هذا قبل خلق آدم، ثم إن آدم بنى منه ما بنى وطاف به، ثم الأنبياء بعده، ثم استتم بناءه إبراهيم عليه السلام‏.‏

قوله تعالى‏{‏للذي ببكة‏{‏ خبر ‏{‏إن‏{‏ واللام توكيد‏.‏ و‏{‏بكة‏{‏ موضع البيت، ومكة سائر البلد؛ عن مالك بن أنس‏.‏ وقال محمد بن شهاب‏:‏ بكة المسجد، ومكة الحرم كله، تدخل فيه البيوت‏.‏ قال مجاهد‏:‏ بكة هي مكة‏.‏ فالميم على هذا مبدلة من الباء؛ كما قالوا‏:‏ طين لازب ولازم‏.‏ وقاله الضحاك والمؤرج‏.‏ ثم قيل‏:‏ بكة مشتقة من البك وهو الازدحام‏.‏ تباك القوم ازدحموا‏.‏ وسميت بكة لازدحام الناس في موضع طوافهم‏.‏ والبك‏:‏ دق العنق‏.‏ وقيل‏:‏ سميت بذلك لأنها كانت تدق رقاب الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم‏.‏ قال عبدالله بن الزبير‏:‏ لم يقصدها جبار قط بسوء إلا وَقَصَه الله عز وجل‏.‏ وأما مكة فقيل‏:‏ إنها سميت بذلك لقلة مائها وقيل‏:‏ سميت بذلك لأنها تمك المخ من العظم مما ينال قاصدها من المشقة؛ من قولهم‏:‏ مككت العظم إذا أخرجت ما فيه‏.‏ ومك الفصيل ضرع أمه وامتكَّه إذا امتص كل ما فيه من اللبن وشربه؛ قال الشاعر‏:‏

مكت فلم تُبْقِ في أجوافها دِرَرا

وقيل‏:‏ سميت بذلك لأنها تمك من ظَلَم فيها، أي تهلكه وتنقصه‏.‏ وقيل‏:‏ سميت بذلك لأن الناس كانوا يمكون ويضحكون فيها؛ من قوله‏{‏وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية‏}‏الأنفال‏:‏35‏]‏ أي تصفيقا وتصفيرا‏.‏ وهذا لا يوجبه التصريف؛ لأن ‏{‏مكة‏{‏ ثنائي مضاعف و‏{‏مُكاء‏{‏ ثلاثي معتل‏.‏

قوله تعالى‏{‏مباركا‏{‏ جعله مباركا لتضاعف العمل فيه؛ فالبركة كثرة الخير، ونصب على الحال من المضمر في ‏{‏وضع‏{‏ أو بالظرف من ‏{‏بكة‏{‏، المعنى الذي استقر ‏{‏ببكة مباركا‏{‏ ويجوز في غير القرآن ‏{‏مبارك‏{‏؛ على أن يكون خبرا ثانيا، أو على البدل من الذي، أو على إضمار مبتدأ‏.‏ ‏{‏وهدى للعالمين‏{‏ عطف عليه، ويكون بمعنى وهو هدى للعالمين‏.‏ ويجوز في غير القرآن ‏{‏مبارك‏{‏ بالخفض يكون نعتا للبيت‏.‏

قوله تعالى‏{‏فيه آيات بينات‏{‏ رفع بالابتداء أو بالصفة‏.‏ وقرأ أهل مكة وابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ‏{‏آية بينة‏{‏ على التوحيد، يعني مقام إبراهيم وحده‏.‏ قالوا‏:‏ أثر قدميه في المقام آية بينة‏.‏ وفسر مجاهد مقام إبراهيم بالحرم كله؛ فذهب إلى أن من آياته الصفا والمروة والركن والمقام‏.‏ والباقون بالجمع‏.‏ أرادوا مقام إبراهيم والحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها‏.‏ قال‏:‏ أبو جعفر النحاس‏:‏ من قرأ ‏{‏آيات بينات‏{‏ فقراءته أبين؛ لأن الصفا والمروة من الآيات، ومنها أن الطائر لا يعلو البيت صحيحا، ومنها أن الجارح يطلب الصيد فإذا دخل الحرم تركه، ومنها أن الغيث إذا كان ناحية الركن اليماني كان الخِصب باليمن، وإذا كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام، وإذ عم البيت كان الخصب في جميع البلدان، ومنها أن الجمار على ما يزاد عليها ترى على قدر واحد‏.‏ والمقام من قولهم‏:‏ قمت مقاما، وهو الموضع الذي يقام فيه‏.‏ والمقام من قولك‏:‏ أقمت مُقاما‏.‏ وقد مضى هذا في البقرة، ومضى الخلاف أيضا في المقام والصحيح منه‏.‏ وارتفع المقام على الابتداء والخبر محذوف؛ والتقدير منها مقام إبراهيم؛ قاله الأخفش‏.‏ وحكى عن محمد بن يزيد أنه قال‏{‏مقام‏{‏ بدل من ‏{‏آيات‏{‏‏.‏ وفيه قول ثالث بمعنى هي مقام إبراهيم‏.‏ وقول الأخفش معروف في كلام العرب‏.‏ كما قال زهير‏:‏

لها متاع وأعوان غدون به قتب وغرب إذا ما أفرغ انسحقا

أي مضى وبَعُد سيلانه‏.‏ وقول أبي العباس‏:‏ إن مقاما بمعنى مقامات؛ لأنه مصدر‏.‏ قال الله تعالى‏{‏ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم‏}‏البقرة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

إن العيون التي في طرفها مرض

أي في أطرافها‏.‏ ويقوّي هذا الحديث المرويّ ‏(‏الحج كله مقام إبراهيم‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن دخله كان آمنا‏{‏ قال قتادة‏:‏ ذلك أيضا من آيات الحرم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهو قول حسن؛ لأن الناس كانوا يتخطفون من حواليه، ولا يصل إليه جبار، وقد وصل إلى بيت المقدس وخرب، ولم يوصل إلى الحرم‏.‏ قال الله تعالى‏{‏ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل‏}‏الفيل‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وقال بعض أهل المعاني‏:‏ صورة الآية خبر ومعناها أمر، تقديرها ومن دخله فأمنوه؛ كقوله‏{‏فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج‏}‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا‏.‏ ولهذا المعنى قال الإمام السابق النعمان بن ثابت‏:‏ من اقترف ذنبا واستوجب به حدا ثم لجأ إلى الحرم عصمه، لقوله تعالى‏{‏ومن دخله كان آمنا‏{‏؛ فأوجب الله سبحانه الأمن لمن دخله‏.‏ وروي ذلك عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وغيره من الناس قال ابن العربي‏{‏وكل من قال هذا فقد وهم من جهتين‏:‏ إحداهما أنه لم يفهم من الآية أنها خبر عما مضى، ولم يقصد بها إثبات حكم مستقبل، الثاني أنه لم يعلم أن ذلك الأمن قد ذهب وأن القتل والقتال قد وقع بعد ذلك فيها، وخبر الله لا يقع بخلاف مخبره؛ فدل ذلك على أنه كان في الماضي هذا‏.‏ وقد ناقض أبو حنيفة فقال، إذا لجأ إلى الحرم لا يُطعم ولا يُسقى ولا يعامل ولا يُكلَّم حتى يخرج، فاضطراره إلى الخروج ليس يصح معه أمن‏.‏ وروي عنه أنه قال‏:‏ يقع القصاص في الأطراف في الحرم ولا أمن أيضا مع هذا‏{‏‏.‏ والجمهور من العلماء على أن الحدود تقام في الحرم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة‏.‏

قلت‏:‏ وروى الثوري عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس‏:‏ من أصاب حدا في الحرم أقيم عليه فيه، وإن أصابه في الحِلّ ولجأ إلى الحرم لم يكلم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد؛ وهو قول الشعبي‏.‏ فهذه حجة الكوفيين، وقد فهم ابن عباس ذلك من معنى الآية، وهو حبر الأمة وعالمها‏.‏ والصحيح أنه قصد بذلك تعديد النعم على كل من كان بها جاهلا ولها منكرا من العرب؛ كما قال تعالى‏{‏أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم‏}‏العنكبوت‏:‏67‏]‏ فكانوا في الجاهلية من دخله ولجأ إليه أمن من الغارة والقتل؛ على ما يأتي بيانه في ‏{‏المائدة‏{‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ قال قتادة ومن دخله في الجاهلية كان آمنا‏.‏ وهذا حسن‏.‏ وروي أن بعض الملحدة قال لبعض العلماء‏:‏ أليس في القرآن ‏{‏ومن دخله كان آمنا‏{‏ فقد دخلناه وفعلنا كذا وكذا فلم يأمن من كان فيه قال له‏:‏ ألست من العرب ما الذي يريد القائل من دخل داري كان آمنا‏؟‏ أليس أن يقول لمن أطاعه‏:‏ كف عنه فقد أمنته وكففت عنه‏؟‏ قال‏:‏ بلى‏.‏ قال‏:‏ فكذلك قوله ‏{‏ومن دخله كان آمنا‏{‏‏.‏ وقال يحيى بن جعدة‏:‏ معنى ‏{‏ومن دخله كان آمنا‏{‏ يعني من النار‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ليس على عمومه؛ لأن في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري حديث الشفاعة الطويل ‏{‏فوالذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويحجون فيقال لهم أخرجوا من عرفتم‏)‏ الحديث‏.‏ وإنما يكون آمنا من النار من دخله لقضاء النسك معظما له عارفا بحقه متقربا إلى الله تعالى‏.‏ قال جعفر الصادق‏:‏ من دخله على الصفاء كما دخله الأنبياء والأولياء كان آمنا من عذابه‏.‏ وهذا معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة‏)‏‏.‏ قال الحسن‏:‏ الحج المبرور هو أن يرجع زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة‏.‏ وأنشد‏:‏

يا كعبة الله دعوة اللاجي دعوة مستشعر ومحتاج

ودع أحبابه ومسكنه فجاء ما بين خائف راجي

إن يقبل الله سعيه كرما نجا، وإلا فليس بالناجي

وأنت ممن تُرجى شفاعته فاعطف على وافد بن حجاج

وقيل‏:‏ المعنى ومن دخله عام عمرة القضاء مع محمد صلى الله عليه وسلم كان آمنا‏.‏ دليله قوله تعالى‏{‏لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين‏}‏الفتح‏:‏ 27‏]‏‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن ‏{‏من‏{‏ ها هنا لمن لا يعقل؛ والآية في أمان الصيد؛ وهو شاذ؛ وفي التنزيل‏{‏فمنهم من يمشي على بطنه‏}‏النور‏:‏ 45‏]‏ الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولله‏{‏ اللام في قوله ‏{‏ولله‏{‏ لام الإيجاب والإلزام، ثم أكده بقوله تعالى‏{‏على‏{‏ التي هي من أوكد ألفاظ الوجوب عند العرب؛ فإذا قال العربي‏:‏ لفلان على كذا؛ فقد وكده وأوجبه‏.‏ فذكر الله تعالى الحج بأبلغ ألفاظ الوجوب تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته‏.‏ ولا خلاف في فريضته، وهو أحد قواعد الإسلام، وليس يجب إلا مرة في العمر‏.‏ وقال بعض الناس‏:‏ يجب في كل خمسة أعوام مرة؛ ورووا في ذلك حديثا أسندوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث باطل لا يصح، والإجماع صادّ في وجوههم‏.‏

قلت‏:‏ وذكر عبدالرزاق قال‏:‏ حدثنا سفيان الثوري عن العلاء بن المسيب عن أبيه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏{‏يقول الرب جل وعز إن عبدا أوسعت عليه في الرزق فلم يعد إلي في كل أربعة أعوام لمحروم‏)‏ مشهور من حديث العلاء بن المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي من أولاد المحدثين،‏"‏روى عنه غير واحد، منهم من قال‏:‏ في كل خمسة أعوام، ومنهم من قال‏:‏ عن العلاء عن يونس بن خباب عن أبي سعيد، في غير ذلك من الاختلاف‏.‏ وأنكرت الملحدة الحج، فقالت‏:‏ إن فيه تجريد الثياب وذلك يخالف الحياء، والسعي وهو يناقض الوقار، ورمي الجمار لغير مرمى وذلك يضاد العقل؛ فصاروا إلى أن هذه الأفعال كلها باطلة؛ إذ لم يعرفوا لها حكمة ولا علة، وجهلوا أنه ليس من شرط المولى مع العبد، أن يفهم المقصود بجميع ما يأمره به، ولا أن يطلع على فائدة تكليفه، وإنما يتعين عليه الامتثال، ويلزمه الانقياد من غير طلب فائدة ولا سؤال عن مقصود‏.‏ ولهذا المعنى كان عليه السلام يقول في تلبيته‏:‏ ‏(‏لبيك حقا حقا تعبدا ورقا لبيك إله الحق‏)‏‏.‏ وروى الأئمة عن أبي هريرة قال‏:‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا‏)‏‏.‏ فقال رجل‏:‏ كل عام يا رسول الله‏؟‏ فسكت، حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم‏)‏ ثم قال‏:‏ ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه‏)‏ لفظ مسلم‏.‏ فبين هذا الحديث أن الخطاب إذا توجه على المكلفين بفرض أنه يكفي منه فعل مرة ولا يقتضي التكرار؛ خلافا للأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني وغيره‏.‏ وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أصحابه‏:‏ يا رسول الله، أحجنا لعامنا هذا أم للأبد‏؟‏ فقال‏:‏ ‏(‏لا بل للأبد‏)‏‏.‏ وهذا نص في الرد على من قال‏:‏ يجب في كل خمس سنين مرة‏.‏ وقد كان الحج معلوما عند العرب مشهورا لديهم، وكان مما يرغب فيه لأسواقها وتبررها وتحنفها؛ فلما جاء الإسلام خوطبوا بما علموا وألزموا بما عرفوا‏.‏ وقد حج النبي صلى الله عليه وسلم قبل حج الفرض، وقد وقف بعرفة ولم يغير من شرع إبراهيم ما غيروا؛ حين كانت قريش تقف بالمشعر الحرام ويقولون‏:‏ نحن أهل الحرم فلا نخرج منه؛ ونحن الحمْسُ‏.‏ حسب ما تقدم بيانه في ‏{‏البقرة‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ من أغرب ما رأيته أن النبي صلى الله عليه وسلم حج قبل الهجرة مرتين وأن الفرض سقط عنه بذلك؛ لأنه قد أجاب نداء إبراهيم حين قيل له‏{‏وأذن في الناس بالحج‏}‏الحج‏:‏ 27‏]‏‏.‏ قال الكيا الطبري‏:‏ وهذا بعيد؛ فإنه إذا ورد في شرعه‏{‏ولله على الناس حج البيت‏{‏ فلا بد من وجوبه عليه بحكم الخطاب في شرعه‏.‏ ولئن قيل‏:‏ إنما خاطب من لم يحج، كان تحكما وتخصيصا لا دليل عليه، ويلزم عليه ألا يجب بهذا الخطاب على من حج على دين إبراهيم، وهذا في غاية البعد‏.‏

ودل الكتاب والسنة على أن الحج على التراخي لا على الفور؛ وهو تحصيل مذهب مالك فيما ذكر ابن خويز منداد، وهو قول الشافعي ومحمد بن الحسن وأبي يوسف في رواية عنه‏.‏ وذهب بعض البغداديين من المتأخرين من المالكيين إلى أنه على الفور، ولا يجوز تأخيره مع القدرة عليه؛ وهو قول داود‏.‏ والصحيح الأول؛ لأن الله تعالى قال في سورة الحج‏{‏وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا‏}‏الحج‏:‏ 27‏]‏ وسورة الحج مكية‏.‏ وقال تعالى‏{‏ولله على الناس حج البيت‏{‏ الآية‏.‏ وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة سنة ثلاث من الهجرة ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سنة عشر‏.‏ أما السنة فحديث ضمام بن ثعلبة السعدي من بني سعد بن بكر قدم على النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الإسلام فذكر الشهادة والصلاة والزكاة والصيام والحج‏.‏ رواه ابن عباس وأبو هريرة وأنس، وفيها كلها ذكر الحج، وأنه كان مفروضا، وحديث أنس أحسنها سياقا وأتمها‏.‏ واختلف في وقت قدومه؛ فقيل‏:‏ سنة خمس‏.‏ وقيل‏:‏ سنة سبع‏.‏ وقيل‏:‏ سنة تسع؛ ذكره ابن هشام عن أبي عبيدة الواقدي عام الخندق بعد انصراف الأحزاب‏.‏ قال ابن عبدالبر‏:‏ ومن الدليل على أن الحج على التراخي إجماع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج إذا أخره العام والعامين ونحوهما، وأنه إذا حج من بعد أعوام من حين استطاعته فقد أدى الحج الواجب عليه في وقته، وليس هو عند الجميع كمن فاتته الصلاة حتى خرج وقتها فقضاها بعد خروج وقتها، ولا كمن فاته صيام رمضان لمرض أو سفر فقضاه‏.‏ ولا كمن أفسد حجه فقضاه، فلما أجمعوا على أنه لا يقال لمن حج بعد أعوام من وقت استطاعته‏:‏ أنت قاض لما وجب عليك؛ علمنا أن وقت الحج موسع فيه وأنه على التراخي لا على الفور‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ كل من قال بالتراخي لا يحد في ذلك حدا؛ إلا ما روي عن سحنون وقد سئل عن الرجل يجد ما يحج به فيؤخر ذلك إلى سنين كثيرة مع قدرته على ذلك هل يفسق بتأخيره الحج وترد شهادته‏؟‏ قال‏:‏ لا وإن مضى من عمره ستون سنة، فإذا زاد على الستين فُسّق وردّت شهادته‏.‏ وهذا توقيف وحد، والحدود في الشرع لا تؤخذ إلا عمن له أن يشرع‏.‏

قلت‏:‏ وحكاه ابن خويز منداد عن ابن القاسم‏.‏ قال ابن القاسم وغيره‏:‏ إن أخره ستين سنة لم يُحَرَّج، وإن أخره بعد الستين حُرِّج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وقل من يتجاوزها‏)‏ فكأنه في هذا العشر قد يتضايق عليه الخطاب‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد احتج بعض الناس كسحنون بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏معترك أمتي بين الستين إلى السبعين وقل من يجاوز ذلك‏)‏‏.‏ ولا حجة فيه؛ لأنه كلام خرج على الأغلب من أعمار أمته لو صح الحديث‏.‏ وفيه دليل على التوسعة إلى السبعين لأنه من الأغلب أيضا، ولا ينبغي أن يقطع بتفسيق من صحت عدالته وأمانته بمثل هذا من التأويل الضعيف‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

أجمع العلماء على أن الخطاب بقوله تعالى‏{‏ولله على الناس حج البيت‏{‏ عام في جميعهم مسترسل على جملتهم‏.‏ قال ابن العربي‏{‏وإن كان الناس قد اختلفوا في مطلق العمومات بيد أنهم اتفقوا على حمل هذه الآية على جميع الناس ذكرهم وأنثاهم، خلا الصغير فإنه خارج بالإجماع عن أصول التكليف، وكذلك العبد لم يدخل فيه؛ لأنه أخرجه عن مطلق العموم قوله تعالى في التمام‏{‏من استطاع إليه سبيلا‏{‏ والعبد غير مستطيع؛ لأن السيد يمنعه لحقوقه عن هذه العبادة‏.‏ وقد قدم الله سبحانه حق السيد على حقه رفقا بالعباد ومصلحة لهم‏.‏ ولا خلاف فيه بين الأمة ولا بين الأئمة، فلا نَهْرِف بما لا نعرف، ولا دليل عليه إلا الإجماع‏.‏ قال ابن المنذر‏:‏ أجمع عامة أهل العلم إلا من شذ منهم ممن لا يعد خلافا، على أن الصبي إذا حج في حال صغره، والعبد إذا حج في حال رقه، ثم بلغ الصبي وعتق العبد إن عليهما حجة الإسلام إذا وجدا إليها سبيلا‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ خالف داود جماعة فقهاء الأمصار وأئمة الأثر في المملوك وأنه عنده مخاطب بالحج، وهو عند جمهور العلماء خارج من الخطاب العام في قوله تعالى‏{‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏{‏ بدليل عدم التصرف، وأنه ليس له أن يحج بغير إذن سيده؛ كما خرج من خطاب الجمعة وهو قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة‏}‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ الآية - عند عامة العلماء إلا من شذ‏.‏ وكما خرج من خطاب إيجاب الشهادة، قال الله تعالى‏{‏ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا‏}‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ فلم يدخل في ذلك العبد‏.‏ وكما جاز خروج الصبي من قوله‏{‏ولله على الناس حج البيت‏{‏ وهو من الناس بدليل رفع القلم عنه‏.‏ وخرجت المرأة من قوله‏{‏يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة‏{‏ وهي ممن شمله اسم الإيمان، وكذلك خروج العبد من الخطاب المذكور‏.‏ وهو قول فقهاء الحجاز والعراق والشام والمغرب، ومثلهم لا يجوز عليهم تحريف تأويل الكتاب‏.‏ فإن قيل‏:‏ إذا كان حاضر المسجد الحرام وأذن له سيده فلم لا يلزمه الحج‏؟‏ قيل له‏:‏ هذا سؤال على الإجماع وربما لا يعلل ذلك، ولكن إذا ثبت هذا الحكم على الإجماع استدللنا به على أنه لا يعتد بحجه في حال الرق عن حجة الإسلام؛ وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أيما صبي حج ثم أدرك فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما أعرابي حج ثم هاجر فعليه أن يحج حجة أخرى وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه أن يحج حجة أخرى‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏.‏ ‏{‏وقد تساهل بعض علمائنا فقال‏:‏ إنما لم يثبت الحج على العبد وإن أذن له السيد لأنه كان كافرا في الأصل ولم يكن حج الكافر معتدا به، فلما ضرب عليه الرق ضربا مؤبدا لم يخاطب بالحج؛ وهذا فاسد من ثلاثة أوجه فاعلموه‏:‏ أحدها‏:‏ أن الكفار عندنا مخاطبون بفروع الشريعة، ولا خلاف فيه في قول مالك‏.‏ الثاني‏:‏ أن سائر العبادات تلزمه من صلاة وصوم مع كونه رقيقا، ولو فعلها في حال كفره لم يعتد بها، فوجب أن يكون الحج مثلها‏.‏ الثالث‏:‏ أن الكفر قد ارتفع بالإسلام فوجب ارتفاع حكمه‏.‏ فتبين أن المعتمد ما ذكرناه من تقدم حقوق السيد‏)‏‏.‏ والله الموفق‏.‏

قوله تعالى‏{‏من استطاع إليه سبيلا‏{‏ ‏{‏من‏{‏ في موضع خفض على بدل البعض من الكل؛ هذا قول أكثر النحويين‏.‏ وأجاز الكسائي أن يكون ‏{‏من‏{‏ في موضع رفع بحج، التقدير أن يحج البيت من‏.‏ وقيل هي شرط‏.‏ و‏{‏استطاع‏{‏ في موضع جزم، والجواب محذوف، أي من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج‏.‏‏"‏روى الدارقطني عن ابن عباس قال‏:‏ قيل يا رسول الله الحج كل عام‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا بل حجة‏)‏‏؟‏ قيل‏:‏ فما السبيل، قال‏:‏ ‏(‏الزاد والراحلة‏)‏‏.‏ ورواه عن أنس وابن مسعود وابن عمر وجابر وعائشة وعمرو بن شعيب عن أبيه عن جده‏.‏ وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏)‏ قال فسئل عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أن تجد ظهر بعير‏)‏‏.‏ وأخرج حديث ابن عمر أيضا ابن ماجة في سننه، وأبو عيسى الترمذي في جامعه وقال‏{‏حديث حسن، والعمل عليه عند أهل العلم أن الرجل إذا ملك زادا وراحلة وجب عليه الحج‏.‏ وإبراهيم بن يزيد هو الخوزي المكي، وقد تكلم فيه بعض أهل الحديث من قل حفظه‏{‏‏.‏ وأخرجاه عن وكيع والدارقطني عن سفيان بن سعيد قالوا‏:‏ حدثنا إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد عن ابن عمر قال‏:‏ قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله، ما يوجب الحج‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الزاد والراحلة‏)‏ قال‏:‏ يا رسول الله، فما الحاج‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏الشعث التفل‏)‏‏.‏ وقام آخر فقال يا رسول الله وما الحج‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏العج والثج‏)‏‏.‏ قال وكيع‏:‏ يعني بالعج العجيج بالتلبية والثج نحر البُدن؛ لفظ ابن ماجة‏.‏ وممن قال إن الزاد والراحلة شرط في وجوب الحج‏:‏ عمر ابن الخطاب وابنه عبدالله وعبدالله بن عباس والحسن البصري وسعيد بن جبير وعطاء ومجاهد‏.‏ وإليه ذهب الشافعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق وعبدالعزيز بن أبي سلمة وابن حبيب، وذكر عبدوس مثله عن سحنون‏.‏ قال الشافعي‏:‏ الاستطاعة وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكون مستطيعا ببدنه واجدا من ماله ما يبلغه الحج‏.‏ والثاني‏:‏ أن يكون معضوبا في بدنه لا يثبت على مركبه وهو قادر على من يطيعه إذا أمره أن يحج عنه بأجرة وبغير أجرة، على ما يأتي بيانه‏.‏ أما المستطيع ببدنه فإنه يلزمه فرض الحج بالكتاب بقوله عز وجل‏{‏من استطاع إليه سبيلا‏{‏‏.‏ وأما المستطيع بالمال فقد لزمه فرض الحج بالسنة بحديث الخثعمية على ما يأتي‏.‏ وأما المستطيع بنفسه وهو القوي الذي لا تلحقه مشقة غير محتملة في الركوب على الراحلة؛ فإن هذا إذا ملك الزاد والراحلة لزمه فرض الحج بنفسه، وإن عدم الزاد والراحلة أو أحدهما سقط عنه فرض الحج؛ فإن كان قادرا على المشي مطيقا له ووجد الزاد أو قدر على كسب الزاد في طريقه بصنعة مثل الخرز والحجامة أو نحوهما فالمستحب له أن يحج ماشيا رجلا كان أو امرأة‏.‏ قال الشافعي‏:‏ والرجل أقل عذرا من المرأة لأنه أقوى‏.‏ وهذا عندهم على طريق الاستحباب لا على طريق الإيجاب، فأما إن قدر على الزاد بمسألة الناس في الطريق كرهت له أن يحج لأنه يصير كلا على الناس‏.‏ وقال مالك بن أنس رحمه الله‏:‏ إذا قدر على المشي ووجد الزاد فعليه فرض الحج، وإن لم يجد الراحلة وقدر على المشي نُظر؛ فإن كان مالكا للزاد وجب عليه فرض الحج، وإن لم يكن مالكا للزاد ولكنه يقدر على كسب حاجته منه في الطريق نظر أيضا؛ فإن كان من أهل المروءات ممن لا يكتسب بنفسه لا يجب عليه، وإن كان ممن يكتسب كفايته بتجارة أو صناعة لزمه فرض الحج، وهكذا إن كانت عادته مسألة الناس لزمه فرض الحج‏.‏ وكذلك أوجب مالك على المطيق المشي الحج، وإن لم يكن معه زاد وراحلة‏.‏ وهو قول عبدالله بن الزبير والشعبي وعكرمة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إن كان شابا قويا صحيحا ليس له مال فعليه أن يؤجر نفسه بأكله أو عقبه حتى يقضي حجه‏.‏ فقال له مقاتل‏:‏ كلف الله الناس أن يمشوا إلى البيت‏؟‏ فقال‏:‏ لو أن لأحدهم ميراثا بمكة أكان تاركه‏؟‏ بل ينطلق إليه ولو حبوا، كذلك يجب عليه الحج‏.‏ واحتج هؤلاء بقوله عز وجل‏{‏وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا‏{‏ أي مشاة‏.‏ قالوا‏:‏ ولأن الحج من عبادات الأبدان من فرائض الأعيان، فوجب ألا يكون الزاد من شروط وجوبها ولا الراحلة كالصلاة والصيام‏.‏ قالوا‏:‏ ولو صح حديث الخوزي الزاد والراحلة لحملناه على عموم الناس والغالب منهم في الأقطار البعيدة‏.‏ وخروج مطلق الكلام على غالب الأحوال كثير في الشريعة وفي كلام العرب وأشعارها‏.‏ وقد‏"‏روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب عن مالك أنه سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ الناس في ذلك على قدر طاقتهم ويسرهم وجلدهم‏.‏ قال أشهب لمالك‏:‏ أهو الزاد والراحلة‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ لا والله، ما ذاك إلا على قدر طاقة الناس، وقد يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه‏.‏

إذا وُجدت الاستطاعة وتوجه فرض الحج يعرض ما يمنع منه كالغريم يمنعه عن الخروج حتى يؤدي الدين؛ ولا خلاف في ذلك‏.‏ أو يكون له عيال يجب عليه نفقتهم فلا يلزمه الحج حتى يكون لهم نفقتهم مدة غيبته لذهابه ورجوعه، لأن هذا الإنفاق فرض على الفور، والحج فرض على التراخي، فكان تقديم العيال أولى‏.‏ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت‏)‏‏.‏ وكذلك الأبوان يخاف الضيعة عليهما وعدم العوض في التلطف بهما، فلا سبيل له إلى الحج؛ فإن منعاه لأجل الشوق والوحشة فلا يلتفت إليه‏.‏ والمرأة يمنعها زوجها، وقيل لا يمنعها‏.‏ والصحيح المنع؛ لا سيما إذا قلنا إن الحج لا يلزمه على الفور‏.‏ والبحر لا يمنع الوجوب إذا كان غالبه السلامة - كما تقدم بيانه في البقرة - ويعلم من نفسه أنه لا يميد‏.‏ فإن كان الغالب عليه العطب أو الميد حتى يعطل الصلاة فلا‏.‏ وإن كان لا يجد موضعا لسجوده لكثرة الراكب وضيق المكان فقد قال مالك‏:‏ إذا لم يستطع الركوع والسجود إلا على ظهر أخيه فلا يركبه‏.‏ ثم قال‏:‏ أيركب حيث لا يصلي ويل لمن ترك الصلاة ويسقط الحج إذا كان في الطريق عدو يطلب الأنفس أو يطلب من الأموال ما لم يتحدد بحد مخصوص أو يتحدد بقدر مجحف‏.‏ وفي سقوطه بغير المجحف خلاف‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يعطى حبة ويسقط فرض الحج‏.‏ ويجب على المتسول إذا كانت تلك عادته وغلب على ظنه أنه يجد من يعطيه‏.‏ وقيل لا يجب، على ما تقدم من مراعاة الاستطاعة‏.‏

إذا زالت الموانع ولم يكن عنده من النّاضّ ما يحج به وعنده عروض فيلزمه أن يبيع من عروضه للحج ما يباع عليه في الدَّيْن‏.‏ وسئل ابن القاسم عن الرجل تكون له القِرْبة ليس له غيرها، أيبيعها في حجة الإسلام ويترك ولده ولا شيء لهم يعيشون به‏؟‏‏.‏ قال‏:‏ نعم، ذلك عليه ويترك ولده في الصدقة‏.‏ والصحيح القول الأول؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت‏)‏ وهو قول الشافعي‏.‏ والظاهر من مذهبه أنه لا يلزم الحج إلا من له ما يكفيه من النفقة ذاهبا وراجعا - قاله في الإملاء - وإن لم يكن له أهل وعيال‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يعتبر الرجوع لأنه ليس عليه كبير مشقة في تركه القيام ببلده؛ لأنه لا أهل له فيه ولا عيال وكل البلاد له وطن‏.‏ والأول أصوب؛ لأن الإنسان يستوحش لفراق وطنه كما يستوحش لفراق سكنه‏.‏ ألا ترى أن البكر إذا زنا جلد وغرب عن بلده سواء كان له أهل أو لم يكن‏.‏ قال الشافعي في الأم‏:‏ إذا كان له مسكن وخادم وله نفقة أهله بقدر غيبته يلزمه الحج‏.‏ وظاهر هذا أنه اعتبر أن يكون مال الحج فاضلا عن الخادم والمسكن؛ لأنه قدمه على نفقة أهله، فكأنه قال بعد هذا كله‏.‏ وقال أصحابه‏:‏ يلزمه أن يبيع المسكن والخادم ويكتري مسكنا وخادما لأهله، فإن كان له بضاعة يتجر بها وربحها قدر كفايته وكفاية عياله على الدوام، ومتى أنفق من أصل البضاعة اختل عليه ربحها ولم يكن فيه قدر كفايته، فهل يلزمه الحج من أصل البضاعة أم لا‏؟‏ قولان‏:‏ الأول للجمهور وهو الصحيح المشهور؛ لأنه لا خلاف في أنه لو كان له عقار تكفيه غلته لزمه أن يبيع أصل العقار في الحج، فكذلك البضاعة‏.‏ وقال ابن شريح‏:‏ لا يلزمه ذلك ويبقي البضاعة ولا يحج من أصلها؛ لأن الحج إنما يجب عليه في الفاضل من كفايته‏.‏ فهذا الكلام في الاستطاعة بالبدن والمال‏.‏

المريض والمعضوب، والعضب القطع، ومنه سمي السيف عضبا، وكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه؛ إذ لا يقدر على شيء‏.‏ وقد اختلف العلماء في حكمهما بعد إجماعهم أنه لا يلزمهما المسير إلى الحج؛ لأن الحج إنما فرضه على المستطيع إجماعا، والمريض والمعضوب لا استطاعة لهما‏.‏ فقال مالك‏:‏ إذا كان معضوبا سقط عنه فرض الحج أصلا، سواء كان قادرا على من يحج عنه بالمال أو بغير المال لا يلزمه فرض الحج‏.‏ ولو وجب عليه الحج ثم عضب وزَمِن سقط عنه فرض الحج؛ ولا يجوز أن يحج عنه في حال حياته بحال، بل إن أوصى أن يحج عنه بعد موته حج عنه من الثلث، وكان تطوعا؛ واحتج بقوله تعالى‏{‏وأن ليس للإنسان إلا ما سعى‏}‏النجم‏:‏ 39‏]‏ فأخبر أنه ليس له إلا ما سعى‏.‏ فمن قال‏:‏ إنه له سعي غيره فقد خالف ظاهر الآية‏.‏ وبقوله تعالى‏{‏ولله على الناس حج البيت‏{‏ وهذا غير مستطيع؛ لأن الحج هو قصد المكلف البيت بنفسه ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة مع العجز عنها كالصلاة‏.‏ وروى محمد بن المنكدر عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله عز وجل ليدخل بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة الميت والحاج عنه والمنفذ ذلك‏)‏‏.‏ خرجه الطبراني أبو القاسم سليمان بن أحمد قال حدثنا عمرو بن حصين السدوسي قال حدثنا أبو معشر عن محمد بن المنكدر؛ فذكره‏.‏

قلت‏:‏ أبو معشر اسمه نجيح وهو ضعيف عندهم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ في المريض الزَّمِن والمعضوب والشيخ الكبير يكون قادرا على من يطيعه إذا أمره بالحج عنه فهو مستطيع استطاعة ما‏.‏ وهو على وجهين‏:‏ أحدهما أن يكون قادرا على مال يستأجر به من يحج عنه فإنه يلزمه فرض الحج؛ وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه، روي عنه أنه قال لشيخ كبير لم يحج‏:‏ جهز رجلا يحج عنك‏.‏ وإلى هذا ذهب الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وابن المبارك وأحمد وإسحاق‏.‏ والثاني أن يكون قادرا على من يبذل له الطاعة والنيابة فيحج عنه؛ فهذا أيضا يلزمه الحج عنه عند الشافعي وأحمد وابن راهويه، وقال أبو حنيفة‏:‏ لا يلزم الحج ببذل الطاعة بحال‏.‏ استدل الشافعي بما رواه ابن عباس أن امرأة من خثعم سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم‏)‏‏.‏ وذلك في حجة الوداع‏.‏ في رواية‏:‏ لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره‏.‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ فحجي عنه أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏فدين الله أحق أن يقضى‏)‏‏.‏ فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم الحج بطاعة ابنته إياه وبذلها من نفسها له بأن تحج عنه؛ فإذا وجب ذلك بطاعة البنت له كان بأن يجب عليه بقدرته عل المال الذي يستأجر به أولى‏.‏ فأما أن بذل له المال دون الطاعة فالصحيح أنه لا يلزمه قبوله والحج به عن نفسه ولا يصير ببذل المال له مستطيعا‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ حديث الخثعمية ليس مقصوده الإيجاب وإنما مقصوده الحث على بر الوالدين والنظر في مصالحهما دنيا ودينا وجلب المنفعة إليهما جبلة وشرعا؛ فلما رأى من المرأة انفعالا وطواعية ظاهرة ورغبة صادقة في برها بأبيها وحرصا على إيصال الخير والثواب إليه، وتأسفت أن تفوته بركة الحج أجابها إلى ذلك‏.‏ كما قال للأخرى التي قالت‏:‏ إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ ففي هذا ما يدل على أنه من باب التطوعات وإيصال البر والخيرات للأموات؛ ألا ترى أنه قد شبه فعل الحج بالدين‏.‏ وبالإجماع لو مات ميت وعليه دين لم يجب على وليه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدى الدين عنه‏.‏ ومن الدليل على أن الحج في هذا الحديث ليس بفرض على أبيها ما صرحت به هذه المرأة بقولها ‏{‏لا يستطيع‏{‏ ومن لا يستطيع لا يجب عليه‏.‏ وهذا تصريح بنفي الوجوب ومنع الفريضة، فلا يجوز ما انتفى في أول الحديث قطعا أن يثبت في آخره ظنا؛ يحققه قوله‏:‏ ‏(‏فدين الله أحق أن يقضى‏)‏ فإنه ليس على ظاهره إجماعا؛ فإن دين العبد أولى بالقضاء، وبه يبدأ إجماعا لفقر الآدمي واستغناء الله تعالى؛ قاله ابن العربي‏.‏ وذكر أبو عمر بن عبدالبر أن حديث الخثعمية عند مالك وأصحابه مخصوص بها‏.‏ وقال آخرون‏:‏ فيه اضطراب‏.‏ وقال ابن وهب وأبو مصعب‏:‏ هو في حق الولد خاصة‏.‏ وقال ابن حبيب‏:‏ جاءت الرخصة في الحج عن الكبير الذي لا منهض له ولم يحج وعمن مات ولم يحج، أن يحج عنه ولده وإن لم يوص به ويجزئه إن شاء الله تعالى‏.‏ فهذا الكلام على المعضوب وشبهه‏.‏ وحديث الخثعمية أخرجه الأئمة، وهو يرد على الحسن قوله‏:‏ إنه لا يجوز حج المرأة عن الرجل‏.‏

وأجمع العلماء على أنه إذا لم يكن للمكلف قوت يتزوده في الطريق لم يلزمه الحج‏.‏ وإن وهب له أجنبي مالا يحج به لم يلزمه قبوله إجماعا؛ لما يلحقه من المنة في ذلك‏.‏ فلو كان رجل وهب لأبيه مالا فقد قال الشافعي‏:‏ يلزمه قبوله؛ لأن ابن الرجل من كسبه ولا منة عليه في ذلك‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ لا يلزمه قبوله؛ لأن فيه سقوط حرمة الأبوة؛ إذ يقال‏:‏ قد جزاه وقد وفاه‏.‏ والله أعلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏{‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ المعنى ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا‏.‏ وقال الحسن البصري وغيره‏:‏ إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر‏.‏ وروى الترمذي عن الحارث عن علي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا وذلك أن الله يقول في كتابه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا‏)‏‏.‏ قال أبو عيسى‏:‏ ‏(‏هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبدالله مجهول، والحارث يضعف‏)‏‏.‏ وروي نحوه عن أبي أمامة وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما‏.‏ وعن عبد خير بن يزيد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته‏:‏ ‏(‏يا أيها الناس إن الله فرض عليكم الحج على من استطاع إليه سبيلا ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء إن شاء يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا إلا أن يكون به عذر من مرض أو سلطان جائر ألا نصيب له في شفاعتي ولا ورود حوضي‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من كان عنده مال يبلغه الحج فلم يحج أو عنده مال تحل فيه الزكاة فلم يزكه سأل عند الموت الرجعة‏)‏‏.‏ فقيل يا ابن عباس إنا كنا نرى هذا للكافرين‏.‏ فقال‏:‏ أنا أقرأ عليكم به قرآنا‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون‏.‏ وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين‏}‏المنافقون‏:‏ 9 - 10‏]‏‏.‏ قال الحسن بن صالح في تفسيره‏:‏ فأزكى وأحج‏.‏ وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن الآية فقال‏:‏ ‏(‏من حج لا يرجو ثوابا أو جلس لا يخاف عقابا فقد كفر به‏)‏‏.‏ وروى قتادة عن الحسن قال‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ لقد هممت أن أبعث رجالا إلى الأمصار فينظرون إلى من كان له مال ولم يحج فيضربون عليه الجزية؛ فذلك قوله تعالى‏{‏ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏{‏‏.‏

قلت‏:‏ هذا خرج مخرج التغليظ؛ ولهذا قال علماؤنا‏:‏ تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه، ولا يجزئ أن يحج عنه غيره؛ لأن حج الغير لو أسقط عنه الفرض لسقط عنه الوعيد‏.‏ والله أعلم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لو مات جار لي وله ميسرة ولم يحج لم أصلّ عليه‏.‏