فصل: الآية رقم ‏(‏ 98 ‏:‏ 99 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 98 ‏:‏ 99 ‏)‏

‏{‏قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون، قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله‏}‏ أي تصرفون عن دين الله ‏{‏من آمن‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏تُصِدون‏}‏ بضم التاء وكسر الصاد وهما لغتان‏:‏ صَدّ وأصَدّ؛ مثل صل اللحم وأصَلَّ إذا أنتن، وخم وأخم أيضا إذا تغير‏.‏ ‏{‏تبغونها عوجا‏}‏ تطلبون لها، فحذف اللام؛ مثل ‏{‏وإذا كالوهم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 3‏]‏‏.‏ يقال‏:‏ بغيت له كذا أي طلبته‏.‏ وأبغيته كذا أي أعنته‏.‏ والعوج‏:‏ الميل والزيغ ‏(‏بكسر العين‏)‏ في الدِّين والقول والعمل وما خرج عن طريق الاستواء‏.‏ و‏(‏بالفتح‏)‏ في الحائط والجدار وكل شخص قائم؛ عن أبي عبيدة وغيره‏.‏ ومعنى قوله تعالى‏{‏يتبعون الداعي لا عوج له‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏ أي لا يقدرون أن يعوجوا عن دعائه‏.‏ وعاج بالمكان وعوج أقام ووقف‏.‏ والعائج الواقف؛ قال الشاعر‏:‏

هل أنتم عائجون بنا لَعَنّا ** نرى العَرَصاتِ أو أثر الخيام

والرجل الأعوج‏:‏ السيء الخلق، وهو بيِّن العَوَج‏.‏ والعُوج من الخيل التي في أرجلها تحنيب‏.‏ والأعوجية من الخيل تنسب إلى فرس كان في الجاهلية سابقا‏.‏ ويقال‏:‏ فرس محنب إذا كان بعيد ما بين الرجلين بغير فَحَج، وهو مدح‏.‏ ويقال‏:‏ الحَنَب اعوجاج في الساقين‏.‏ قال الخليل التحنيب يوصف في الشدة، وليس ذلك باعوجاج‏.‏

قوله تعالى‏{‏وأنتم شهداء‏}‏ أي عقلاء‏.‏ وقيل‏:‏ شهداء أن في التوراة مكتوبا أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام، إذ فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 100 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين‏}‏

نزلت في يهودي أراد تجديد الفتنة بين الأوس والخزرج بعد انقطاعها بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجلس بينهم وأنشدهم شعرا قاله أحد الحَيَّين في حربهم‏.‏ فقال الحي الآخر‏:‏ قد قال شاعرنا في يوم كذا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شيء، فقالوا‏:‏ تعالوا نرد الحرب جذعاء كما كانت‏.‏ فنادى هؤلاء‏:‏ يا آل أوس‏.‏ ونادى هؤلاء‏.‏ يا آل خزرج؛ فاجتمعوا وأخذوا السلاح واصطفوا للقتال فنزلت هذه الآية؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى وقف بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته أنصتوا له وجعلوا يستمعون، فلما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجعلوا يبكون؛ عن عكرمة وابن زيد وابن عباس‏.‏ والذي فعل ذلك شاس بن قيس اليهودي، دس على الأوس والخزرج من يذكرهم ما كان بينهم من الحروب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم؛ فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين؛ فأنزل الله عز وجل‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ يعني الأوس والخزرج‏.‏‏{‏ إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ يعني شاسا وأصحابه ‏{‏يردوكم بعد إيمانكم كافرين‏}‏ قال جابر بن عبدالله‏:‏ ما كان طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأومأ إلينا بيده فكففنا وأصلح الله تعالى ما بيننا؛ فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيت يوما أقبح ولا أوحش أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 101 ‏)‏

‏{‏وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم‏}‏

قاله تعالى على جهة التعجب، أي ‏{‏وكيف تكفرون وأنت تتلى عليكم آيات الله‏}‏ يعني القرآن‏.‏ ‏{‏وفيكم رسوله‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية، فذكروا ما كان بينهم فثار بعضهم على بعض بالسيوف؛ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فذهب إليهم؛ فنزلت هذه الآية ‏{‏وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله‏}‏ - إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأنقذكم منها‏}‏ ويدخل في هذه الآية من لم ير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن ما فيهم من سنته يقوم مقام رؤيته‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد خاصة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه‏.‏ ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة؛ لأن آثاره وعلاماته والقرآن الذي أوتى فينا مكان النبي صلى الله عليه وسلم فينا وإن لم نشاهده‏.‏ وقال قتادة‏:‏ في هذه الآية علمان بينان‏:‏ كتاب الله ونبي الله؛ فأما نبي الله فقد مضى، وأما كتاب الله فقد أبقاه بين أظهرهم رحمة منه ونعمة؛ فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته‏.‏ ‏{‏وكيف‏}‏ في موضع نصب، وفتحت الفاء عند الخليل وسيبويه لالتقاء الساكنين، واختير لها الفتح لأن ما قبل الفاء ياء فثقل أن يجمعوا بين ياء وكسرة‏.‏ قوله تعالى‏{‏ومن يعتصم بالله‏}‏ أي يمتنع ويتمسك بدينه وطاعته‏.‏ ‏{‏فقد هدي‏}‏ وفق وأرشد ‏{‏إلى صراط مستقيم‏}‏ ابن جريج ‏{‏يعتصم بالله‏}‏ يؤمن به‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ومن يعتصم بالله أي يتمسك بحبل الله، وهو القرآن‏.‏ يقال‏:‏ أعصم به واعتصم، وتمسك واستمسك إذا امتنع به من غيره‏.‏ واعتصمت فلانا هيأت له ما يعتصم به‏.‏ وكل متمسك بشيء معصم ومعتصم‏.‏ وكل مانع شيئا فهو عاصم؛ قال الفرزدق‏:‏

أنا ابن العاصمين بني تميم ** إذا ما أعظم الحدثان نابا

قال النابغة‏:‏

يظل من خوفه الملاح معتصما ** بالخيزرانة بعد الأيْن والنَّجَد

وقال آخر‏:‏

فأشرط فيها نفسه وهو معصم ** وألقى بأسباب له وتوكلا

وعصمه الطعام‏:‏ منع الجوع منه؛ تقول العرب‏:‏ عصم فلانا الطعام أي منعه من الجوع؛ فكنوا السويق بأبي عاصم لذلك‏.‏ قال أحمد بن يحيى‏:‏ العرب تسمي الخبز عاصما وجابرا؛ وأنشد‏:‏

فلا تلوميني ولومي جابرا ** فجابر كلفني الهواجرا

ويسمونه عامرا‏.‏ وأنشد‏:‏

أبو مالك يعتادني بالظهائر ** يجيء فيلقى رحله عند عامر

أبو مالك كنية الجوع‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 102 ‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏

روى البخاري عن مرة عن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حق تقاته أن يطاع فلا يعصى وأن يذكر فلا ينسى وأن يشكر فلا يكفر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو ألا يُعصى طرفة عين‏.‏ وذكر المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية قالوا‏:‏ يا رسول الله، من يقوى على هذا‏؟‏ وشق عليهم فأنزل الله عز وجل‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 16‏]‏ فنسخت هذه الآية؛ عن قتادة والربيع وابن زيد‏.‏ قال مقاتل‏:‏ وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذه الآية‏.‏ وقيل‏:‏ إن قوله ‏{‏فاتقوا الله ما استطعتم‏}‏ بيان لهذه الآية‏.‏ والمعنى‏:‏ فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، وهذا أصوب؛ لأن النسخ إنما يكون عند الجمع والجمع ممكن فهو أولى‏.‏ وقد‏"‏روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال‏:‏ قول الله عز وجل ‏{‏يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته‏}‏ لم تنسخ، ولكن ‏{‏حق تقاته‏}‏ أن يجاهد في سبيل الله حق جهاده، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، وتقوموا بالقسط ولو على أنفسكم وأبنائكم‏.‏ قال النحاس‏:‏ وكلما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه ولا يقع فيه نسخ‏.‏ وقد مضى في البقرة معنى قوله تعالى‏{‏ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون‏}‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 103 ‏)‏

‏{‏ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏واعتصموا‏}‏ العصمة المَنْعَة؛ ومنه يقال للبذرقة‏:‏ عصمة‏.‏ والبذرقة‏:‏ الخفارة للقافلة، وذلك بأن يرسل معها من يحميها ممن يؤذيها‏.‏ قال ابن خالويه‏:‏ البذرقة ليست بعربية وإنما هي كلمة فارسية عربتها العرب؛ يقال‏:‏ بعث السلطان بذرقة مع القافلة‏.‏ والحبل لفظ مشترك، وأصله في اللغة السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة‏.‏ والحبل‏:‏ حبل العاتق‏.‏ والحبل‏:‏ مستطيل من الرمل؛ ومنه الحديث‏:‏ والله ما تركت من حبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؛ والحبل الرسن‏.‏ والحبل العهد؛ قال الأعشى‏:‏

وإذا تُجوزها حبال قبيلة ** أخذت من الأخرى إليك حبالها يريد الأمان‏.‏ والحبل الداهية؛ قال كثير‏:‏

فلا تعجلي يا عز أن تتفهمي ** بنصح أتى الواشون أم بحبول

والحبالة‏:‏ حبالة الصائد‏.‏ وكلها ليس مرادا في الآية إلا الذي بمعنى العهد؛ عن ابن عباس‏.‏ وقال ابن مسعود‏:‏ حبل الله القرآن‏.‏ ورواه علي وأبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن مجاهد وقتادة مثل ذلك‏.‏ وأبو معاوية عن الهجري عن أبي الأحوص عن عبدالله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن هذا القرآن هو حبل الله‏)‏‏.‏ وروى تقي بن مخلد حدثنا يحيى بن الحميد حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب عن الشعبي عن عبدالله بن مسعود ‏{‏واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا‏}‏ قال‏:‏ الجماعة؛ روي عنه وعن غيره من وجوه، والمعنى كله متقارب متداخل؛ فإن الله تعالى يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة فإن الفرقة هلكة والجماعة نجاة‏.‏ ورحم الله ابن المبارك حيث قال‏:‏

إن الجماعة حبل الله فاعتصموا ** منه بعروته الوثقى لمن دانا

قوله تعالى‏{‏ولا تفرقوا‏}‏ يعني في دينكم كما افترقت اليهود والنصارى في أديانهم؛ عن ابن مسعود وغيره‏.‏ ويجوز أن يكون معناه ولا تفرقوا متابعين للهوى والأغراض المختلفة، وكونوا في دين الله إخوانا؛ فيكون ذلك منعا لهم عن التقاطع والتدابر؛ ودل عليه ما بعده وهو قوله تعالى‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا‏}‏‏.‏ وليس فيه دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافا إذ الاختلاف ما يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد فإن الاختلاف فيها بسبب استخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع؛ وما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث، وهم مع ذلك متآلفون‏.‏ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اختلاف أمتي رحمة‏)‏ وإنما منع الله اختلافا هو سبب الفساد‏.‏‏"‏روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة‏)‏‏.‏ قال الترمذي‏:‏ هذا حديث صحيح‏.‏ وأخرجه أيضا عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه سلم‏:‏ ‏(‏ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حَذْوَ النعل بالنعل حتى لو كان منهم من يأتي أمه علانية لكان من أمتي من يصنع ذلك وإن بني إسرائيل تفرقت اثنتين وسبعين ملة وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة كلهم في النار إلا ملة واحدة‏)‏ قالوا‏:‏ من هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما أنا عليه وأصحابي‏)‏‏.‏ أخرجه من حديث عبدالله بن زياد الإفريقي، عن عبدالله بن يزيد عن ابن عمر، وقال‏:‏ هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وعبدالله الإفريقي ثقة وثقه قومه وأثنوا عليه، وضعفه آخرون‏.‏ وأخرجه أبو داود في سننه من حديث معاوية بن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏قال ألا إن مَن قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة وإنه سيخرج من أمتي أفواج تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله‏)‏‏.‏ وفي سنن ابن ماجة عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مات والله عنه راض‏)‏‏.‏ قال أنس‏:‏ وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هَرَج الأحاديث واختلاف الأهواء، وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل، يقول الله‏{‏فإن تابوا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ قال‏:‏ خلعوا الأوثان وعبادتها ‏{‏وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏، وقال في آية أخرى‏{‏فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين‏}‏‏.‏ أخرجه عن نصر بن علي الجهضمي عن أبي أحمد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس‏.‏

قال أبو الفرج الجوزي‏:‏ فإن قيل هذه الفرق معروفة؛ فالجواب أنا نعرف الافتراق وأصول الفِرق وأن كل طائفة من الفرق انقسمت إلى فرق، وإن لم نحط بأسماء تلك الفرق ومذاهبها، فقد ظهر لنا من  أصول الفرق الحرورية والقَدَرِية والجهمية والمرجئة والرافضة والجبرية‏.‏ وقال بعض أهل العلم‏:‏ أصل الفرق الضالة هذه الفرق الست، وقد انقسمت كل فرقة منها اثنتي عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة‏.‏

انقسمت  الحرورية اثنتي عشرة فرقة‏:‏

فأولهم الأزرقية - قالوا‏:‏ لا نعلم أحدا مؤمنا؛ وكفّروا أهل القبلة إلا من دان بقولهم‏.‏ والأباضية - قالوا‏:‏ من أخذ بقولنا فهو مؤمن، ومن أعرض عنه فهو منافق‏.‏ والثعلبية - قالوا‏:‏ إن الله عز وجل لم يقض ولم يُقَدِّر‏.‏

والخازمية - قالوا‏:‏ لا ندري ما الإيمان، والخلق كلهم معذورون‏.‏

والخَلَفية - زعموا أن من ترك الجهاد من ذكر أو أنثى كفر‏.‏

والكوزية - قالوا‏:‏ ليس لأحد أن يمس أحدا لأنه لا يعرف الطاهر من النجس ولا أن يؤاكله حتى يتوب ويغتسل‏.‏

والكنزية - قالوا‏:‏ لا يسع أحدا أن يعطي ماله أحدا؛ لأنه ربما لم يكن مستحقا بل يكنزه في الأرض حتى يظهر أهل الحق‏.‏ والشمراخية - قالوا‏:‏ لا بأس بمس النساء الأجانب لأنهن رياحين‏.‏ والأخنسية - قالوا‏:‏ لا يلحق الميت بعد موته خير ولا شر‏.‏

والحكمية - قالوا‏:‏ مَن حاكم إلى مخلوق فهو كافر‏.‏

والمعتزلة - قالوا‏:‏ اشتبه علينا أمر علي ومعاوية فنحن نتبرأ من الفريقين‏.‏

الميمونية - قالوا‏:‏ لا إمام إلا برضا أهل محبتنا‏.‏

وانقسمت  القَدَرية اثنتي عشرة فرقة‏:‏

الأحمرية - وهي التي زعمت أن في شرط العدل من الله أن يملك عباده أمورهم، ويحول بينهم وبين معاصيهم‏.‏

والثنوية - وهي التي زعمت أن الخير من الله والشر من الشيطان‏.‏

والمعتزلة - وهم الذين قالوا بخلق القرآن وجحدوا صفات الربوبية‏.‏

والكَيْسانية - وهم الذين قالوا‏:‏ لا ندري هذه الأفعال من الله أو من العباد، ولا نعلم أيثاب الناس بُعد أو يعاقبون‏.‏

والشيطانية - قالوا‏:‏ إن الله تعالى لم يخلق الشيطان‏.‏

والشريكية - قالوا‏:‏ إن السيئات كلها مقدرة إلا الكفر‏.‏

والوهمية - قالوا‏:‏ ليس لأفعال الخلق وكلامهم ذات، ولا للحسنة والسيئة ذات‏.‏

والزِّبْرية - قالوا‏:‏ كل كتاب نزل من عند الله فالعمل به حق، ناسخا كان أو منسوخا‏.‏ والمسعدية - زعموا أن من عصى ثم تاب لم تقبل توبته‏.‏

والناكثية - زعموا أن من نكث بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا إثم عليه‏.‏ والقاسطية - تبعوا إبراهيم بن النظام في قوله‏:‏ من زعم أن الله شيء فهو كافر‏.‏

وانقسمت  الجهمية اثنتي عشرة فرقة‏:‏ المعطلة - زعموا أن كل ما يقع عليه وهم الإنسان فهو مخلوق‏.‏ وإن من ادعى أن الله يُرى فهو كافر‏.‏ والمريسية قالوا‏:‏ أكثر صفات الله تعالى مخلوقة‏.‏ والمَلْتزقة - جعلوا الباري سبحانه في كل مكان‏.‏ والواردية - قالوا لا يدخل النار من عرف ربه، ومن دخلها لم يخرج منها أبدا‏.‏ والزنادقة - قالوا‏:‏ ليس لأحد أن يثبت لنفسه ربا؛ لأن الإثبات لا يكون إلا بعد إدراك الحواس‏.‏ وما لا يدرك لا يثبت‏.‏ والحرقية - زعموا أن الكافر تحرقه النار مرة واحدة ثم يبقى محترقا أبدا لا يجد حر النار‏.‏ والمخلوقية - زعموا أن القرآن مخلوق‏.‏ والفانية - زعموا أن الجنة والنار يفنيان، ومنهم من قال لم يخلقا‏.‏ والعبدية - جحدوا الرسل وقالوا إنما هم حكماء‏.‏ والواقفية - قالوا‏:‏ لا نقول إن القرآن مخلوق ولا غير مخلوق‏.‏ والقبرية - ينكرون عذاب القبر والشفاعة‏.‏ واللفْظِية - قالوا لفظنا بالقرآن مخلوق‏.‏

وانقسمت  المرجئة اثنتي عشرة فرقة‏:‏

التاركية - قالوا ليس لله عز وجل على خلقه فريضة سوى الإيمان به، فمن آمن به فليفعل ما شاء‏.‏

والسائبية - قالوا‏:‏ إن الله تعالى سيب خلقه ليفعلوا ما شاؤوا‏.‏

والراجية - قالوا‏:‏ لا يسمى الطائع طائعا ولا العاصي عاصيا، لأنا لا ندري ما له عند الله تعالى‏.‏

والسالبية - قالوا‏:‏ الطاعة ليست من الإيمان‏.‏

والبهيشية - قالوا‏:‏ الإيمان علم ومن لا يعلم الحق من الباطل والحلال من الحرام فهو كافر‏.‏

والعملية - قالوا‏:‏ الإيمان عمل‏.‏ والمنقوصية - قالوا‏:‏ الإيمان لا يزيد ولا ينقص‏.‏ والمستثنية - قالوا‏:‏ الاستثناء من الإيمان‏.‏

والمشبهة - قالوا‏:‏ بصر كبصر ويد كيد‏.‏

والحشوية - قالوا‏:‏ حكم الأحاديث كلها واحد؛ فعندهم أن تارك النفل كتارك الفرض‏.‏ والظاهرية - الذين نفوا القياس‏.‏

والبِدعية - أول من ابتدع هذه الأحداث في هذه الأمة‏.‏

وانقسمت  الرافضة اثنتي عشرة فرقة‏:‏

العلوية - قالوا‏:‏ إن الرسالة كانت إلى علي وأن جبريل أخطأ‏.‏

والأمرِية - قالوا‏:‏ إن عليا شريك محمد في أمره‏.‏

والشيعة - قالوا‏:‏ إن عليا رضي الله عنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووليه من بعده، وإن الأمة كفرت بمبايعة غيره‏.‏

والإسحاقية - قالوا‏:‏ إن النبوة متصلة إلى يوم القيامة، وكل من يعلم علم أهل البيت فهو نبي‏.‏

والناووسية - قالوا‏:‏ علي أفضل الأمة، فمن فضل غيره عليه فقد كفر‏.‏

والإمامية - قالوا‏:‏ لا يمكن أن تكون الدنيا بغير إمام من ولد الحسين، وإن الإمام يعلِّمه جبريل عليه السلام، فإذا مات بدل غيره مكانه‏.‏

والزيدية - قالوا‏:‏ ولد الحسين كلهم أئمة في الصلوات، فمتى وجد منهم أحد لم تجز الصلاة خلف غيرهم، برهم وفاجرهم‏.‏

والعباسية - زعموا أن العباس كان أولى بالخلافة من غيره‏.‏ والتناسخية - قالوا‏:‏ الأرواح تتناسخ؛ فمن كان محسنا خرجت روحه فدخلت في خلق يسعد بعيشه‏.‏ والرجعية - زعموا أن عليا وأصحابه يرجعون إلى الدنيا، وينتقمون من أعدائهم‏.‏ واللاعنة - يلعنون عثمان وطلحة والزبير ومعاوية وأبا موسى وعائشة وغيرهم‏.‏ والمتربصة - تشبهوا بزي النُّساك ونصبوا في كل عصر رجلا ينسبون إليه الأمر، يزعمون أنه مهدي هذه الأمة، فإذا مات نصبوا آخر‏.‏

ثم انقسمت  الجبرية اثنتي عشرة فرقة‏:‏

فمنهم المضطرية - قالوا‏:‏ لا فعل للآدمي، بل الله يفعل الكل‏.‏

والأفعالية - قالوا‏:‏ لنا أفعال ولكن لا استطاعة لنا فيها، وإنما نحن كالبهائم نقاد بالحبل‏.‏

والمفروغية - قالوا‏:‏ كل الأشياء قد خلقت، والآن لا يخلق شيء‏.‏

والنجارية - زعمت أن الله تعالى يعذب الناس على فعله لا على فعلهم‏.‏

والمنانية - قالوا‏:‏ عليك بما يخطر بقلبك، فافعل ما توسمت منه الخير‏.‏

والكسبية - قالوا‏:‏ لا يكتسب العبد ثوابا ولا عقابا‏.‏

والسابقية - قالوا‏:‏ من شاء فليعمل ومن شاء فلا يعمل، فإن السعيد لا تضره ذنوبه والشقي لا ينفعه بره‏.‏

والحِبية - قالوا‏:‏ من شرب كأس محبة الله تعالى سقطت عنه عبادة الأركان‏.‏ والخوفية - قالوا‏:‏ من أحب الله تعالى لم يسعه أن يخافه، لأن الحبيب لا يخاف حبيبه‏.‏

والفكرية - قالوا‏:‏ من ازداد علما أسقط عنه بقدر ذلك من العبادة‏.‏

والخشبية - قالوا‏:‏ الدنيا بين العباد سواء، لا تفاضل بينهم فيما ورثهم أبوهم آدم‏.‏ والمنية - قالوا‏:‏ منا الفعل ولنا الاستطاعة‏.‏

وسيأتي بيان الفرقة التي زادت في هذه الأمة في آخر سورة الأنعام إن شاء الله تعالى‏.‏

وقال ابن عباس لسماك الحنفي‏:‏ يا حنفي، الجماعة الجماعة‏!‏‏!‏ فإنما هلكت الأمم الخالية لتفرقها؛ أما سمعت الله عز وجل يقول ‏{‏ واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا‏}‏‏.‏ وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ويكره لكم ثلاثا قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال‏)‏‏.‏ فأوجب تعالى علينا التمسك بكتابه وسنة نبيه والرجوع إليهما عند الاختلاف، وأمرنا بالاجتماع على الاعتصام بالكتاب والسنة اعتقادا وعملا؛ وذلك سبب اتفاق الكلمة وانتظام الشتات الذي يتم به مصالح الدنيا والدين، والسلامة من الاختلاف، وأمر بالاجتماع ونهى عن الافتراق الذي حصل لأهل الكتابين‏.‏ هذا معنى الآية على التمام، وفيها دليل على صحة الإجماع حسبما هو مذكور في موضعه من أصول الفقه والله أعلم‏.‏

قوله تعالى ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها‏}‏ أمر تعالى بتذكر نعمه وأعظمها الإسلام واتباع نبيه محمد عليه السلام؛ فإن به زالت العداوة والفرقة وكانت المحبة والألفة‏.‏ والمراد الأوس والخزرج؛ والآية تعم‏.‏ ومعنى ‏{‏فأصبحتم بنعمته إخوانا‏}‏ أي صرتم بنعمة الإسلام إخوانا في الدين‏.‏ وكل ما في القرآن ‏{‏أصبحتم‏}‏ معناه صرتم؛ كقوله تعالى‏{‏إن أصبح ماؤكم غورا‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 30‏]‏ أي صار غائرا‏.‏ والإخوان جمع أخ، وسمي أخا لأنه يتوخى مذهب أخيه، أي يقصده‏.‏ وشفا كل شيء حرفه، وكذلك شفيره ومنه قوله تعالى‏{‏على شفا جرف هار‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 109‏]‏‏.‏ قال الراجز‏:‏

نحن حفرنا للحجيج سَجْلَه ** نابتة فوق شفاها بَقْلَه

وأشفى على الشيء أشرف عليه؛ ومنه أشفى المريض على الموت‏.‏ وما بقي منه إلا شفا أي قليل‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ يقال للرجل عند موته وللقمر عند امّحاقه وللشمس عند غروبها‏:‏ ما بقي منه إلا شفا أي قليل‏.‏ قال العجاج‏:‏

ومربأ عال لمن تشرفا ** أشرفته بلا شفًى أو بشَفَى

قوله ‏"‏بلا شفى‏"‏ أي غابت الشمس‏.‏ ‏"‏أو بشفى‏"‏ وقد بقيت منها بقية‏.‏ وهو من ذوات الياء، وفيه لغة أنه من الواو‏.‏ وقال النحاس‏:‏ الأصل في شفا شَفَو، ولهذا يكتب بالألف ولا يمال‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ لما لم تجز فيه الإمالة عرف أنه من الواو؛ ولأن الإمالة بين الياء، وتثنيته شفوان‏.‏ قال المهدوي‏:‏ وهذا تمثيل يراد به خروجهم من الكفر إلى الإيمان‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 104 ‏)‏

‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون‏}‏

قد مضى القول في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه السورة‏.‏ و‏{‏من‏}‏ في قوله ‏{‏منكم‏}‏ للتبعيض، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء وليس كل الناس علماء‏.‏ وقيل‏:‏ لبيان الجنس، والمعنى لتكونوا كلكم كذلك‏.‏

قلت‏:‏ القول الأول أصح؛ فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض على الكفاية، وقد عينهم الله تعالى بقوله‏{‏الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 41‏]‏ الآية‏.‏ وليس كل الناس مكنوا‏.‏ وقرأ ابن الزبير‏{‏ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم‏}‏ قال أبو بكر الأنباري‏:‏ وهذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه غلط فيه بعض الناقلين فألحقه بألفاظ القرآن؛ يدل على صحة ما أصف الحديث الذي حدثنيه أبي حدثنا حسن بن عرفة حدثنا وكيع عن أبي عاصم عن أبي عون عن صبيح قال‏:‏ سمعت عثمان بن عفان يقرأ ‏{‏ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم‏}‏ فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتقد هذه الزيادة من القرآن؛ إذ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين، وإنما ذكرها واعظا بها ومؤكدا ما تقدمها من كلام رب العالمين جل وعلا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 105 ‏)‏

‏{‏ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم‏}‏

يعني اليهود والنصارى في قول جمهور المفسرين‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هم المبتدعة من هذه الأمة‏.‏ وقال أبو أمامة‏:‏ هم الحرورية؛ وتلا الآية‏.‏ وقال جابر بن عبدالله‏{‏الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات‏}‏ اليهود والنصارى‏.‏ ‏{‏جاءهم‏}‏ مذكر على الجمع، وجاءتهم على الجماعة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 106 ‏:‏ 107 ‏)‏

‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏}‏ يعني يوم القيامة حين يبعثون من قبورهم تكون وجوه المؤمنين مبيضة ووجوه الكافرين مسودة‏.‏ ويقال‏:‏ إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه فرأى في كتابه حسناته استبشر وابيض وجهه، وإذا قرأ الكافر والمنافق كتابه فرأى فيه سيئاته اسود وجهه‏.‏ ويقال‏:‏ إن ذلك عند الميزان إذا رجحت حسناته ابيض وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسود وجهه‏.‏ ويقال‏:‏ ذلك عند قوله تعالى‏{‏وامتازوا اليوم أيها المجرمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 59‏]‏‏.‏ ويقال‏:‏ إذا كان يوم القيامة يؤمر كل فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهوا إليه حزنوا واسودت وجوههم، فيبقى المؤمنون وأهل الكتاب والمنافقون؛ فيقول الله تعالى للمؤمنين‏"‏من ربكم‏"‏ فيقولون‏:‏ ربنا الله عز وجل فيقول لهم ‏"‏أتعرفونه إذا رأيتموه‏"‏‏.‏ فيقولون‏:‏ سبحانه‏!‏ إذا اعترف عرفناه‏.‏ فيرونه كما شاء الله‏.‏ فيخر المؤمنون سجدا لله تعالى، فتصير وجوههم مثل الثلج بياضا، ويبقى المنافقون وأهل الكتاب لا يقدرون على السجود فيحزنوا وتسود وجوههم؛ وذلك قوله تعالى‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏}‏‏.‏ ويجوز ‏{‏تِبْيَضّ وتِسْوَدّ‏}‏ بكسر التائين؛ لأنك تقول‏:‏ ابيضت، فتكسر التاء كما تكسر الألف، وهي لغة تميم وبها قرأ يحيى بن وثاب‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏يوم تبياض وتسواد‏}‏ ويجوز كسر التاء أيضا، ويجوز ‏{‏يوم يبيض وجوه‏{‏ بالياء على تذكير الجمع، ويجوز ‏"‏أجوه‏"‏ مثل ‏{‏أقتت‏}‏‏.‏ وابيضاض الوجوه إشراقها بالنعيم‏.‏ واسودادها هو ما يرهقها من العذاب الأليم‏.‏

واختلفوا في التعيين؛ فقال ابن عباس‏:‏ تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة‏.‏

قلت‏:‏ وقول ابن عباس هذا رواه مالك بن سليمان الهروي أخو غسان عن مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى ‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏يعني تبيض وجوه أهل السنة وتسود وجوه أهل البدعة‏)‏ ذكره أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب‏.‏ وقال فيه‏:‏ منكر من حديث مالك‏.‏ قال عطاء‏:‏ تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه بني قريظة والنضير‏.‏ وقال أبي بن كعب‏:‏ الذين اسودت وجوههم هم الكفار، وقيل لهم‏:‏ أكفرتم بعد إيمانكم لإقراركم حين أخرجتم من ظهر آدم كالذر‏.‏ هذا اختيار الطبري‏.‏ الحسن‏:‏ الآية في المنافقين‏.‏ قتادة هي في المرتدين‏.‏ عكرمة‏:‏ هم قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم مصدقين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث عليه السلام كفروا به؛ فذلك قوله‏{‏أكفرتم بعد إيمانكم‏}‏ وهو اختيار الزجاج‏.‏ مالك بن أنس‏:‏ هي في أهل الأهواء‏.‏ أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هي في الحرورية‏.‏ وفي خبر آخر أنه عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏هي في القدرية‏)‏‏.‏‏"‏روى الترمذي عن أبي غالب قال‏:‏ رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على باب دمشق، فقال أبو أمامة‏:‏ كلاب النار شر قتلى تحت أديم السماء، خير قتلى من قتلوه - ثم قرأ - ‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه‏{‏ إلى آخر الآية‏.‏ قلت لأبي أمامة‏:‏ أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قال‏:‏ لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا - حتى عد سبعا - ما حدثتكموه‏.‏ قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ وفي صحيح البخاري عن سهل بن سعد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إني فرطكم على الحوض من مر علي شرب ومن شرب لم يظمأ أبدا ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم‏)‏‏.‏ قال أبو حازم‏:‏ فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال‏:‏ أهكذا سمعت من سهل بن سعد‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ فقال‏:‏ أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها‏:‏ ‏(‏فأقول إنهم مني فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول سحقا سحقا لمن غير بعدي‏)‏‏.‏ وعن أبي هريرة أنه كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يرد على الحوض يوم القيامة رهط من أصحابي فيُجْلَون عن الحوض فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى‏)‏‏.‏ والأحاديث في هذا المعنى كثيرة‏.‏ فمن بدل أو غير أو ابتدع في دين الله مالا يرضاه الله ولم يأذن به الله فهو من المطرودين عن الحوض المبتدعين منه المسودي الوجوه، وأشدهم طردا وإبعادا من خالف جماعة المسلمين وفارق سبيلهم؛ كالخوارج على اختلاف فرقها، والروافض على تباين ضلالها، والمعتزلة على أصناف أهوائها؛ فهؤلاء كلهم مبدلون ومبتدعون، وكذلك الظلمة المسرفون في الجور والظلم وطمس الحق وقتل أهله وإذلالهم، والمعلنون بالكبائر المستخفون بالمعاصي، وجماعة أهل الزيغ والأهواء والبدع؛ كل يخاف عليهم أن يكونوا عنوا بالآية، والحبر كما بينا، ولا يخلد في النار إلا كافر جاحد ليس في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان‏.‏ وقد قال ابن القاسم‏:‏ وقد يكون من غير أهل الأهواء من هو شر من أهل الأهواء‏.‏ وكان يقول‏:‏ تمام الإخلاص تجنب المعاصي‏.‏

قوله تعالى‏{‏فأما الذين اسودت وجوههم‏}‏ في الكلام حذف، أي فيقال لهم ‏{‏أكفرتم بعد إيمانكم‏}‏ يعني يوم الميثاق حين قالوا بلى‏.‏ ويقال‏:‏ هذا لليهود وكانوا مؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ هذا للمنافقين، يقال‏:‏ أكفرتم في السر بعد إقراركم في العلانية‏.‏ وأجمع أهل العربية على أنه لا بد من الفاء في جواب ‏(‏أما‏)‏ لأن المعنى في قولك‏:‏‏(‏أما زيد فمنطلق، مهما يكن من شيء فزيد منطلق‏)‏‏.‏ وقوله تعالى‏{‏وأما الذين ابيضت وجوههم‏}‏ هؤلاء أهل طاعة الله عز وجل والوفاء بعهده‏.‏ ‏{‏ففي رحمة الله هم فيها خالدون‏}‏ أي في جنته ودار كرامته خالدون باقون‏.‏ جعلنا الله منهم وجنبنا طرق البدع والضلالات، ووفقنا لطريق الذين آمنوا وعملوا الصالحات‏.‏ آمين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 108 ‏:‏ 109 ‏)‏

‏{‏تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلما للعالمين، ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور‏}‏

قوله تعالى‏{‏تلك آيات الله‏}‏ ابتداء وخبر، يعني القرآن‏.‏ ‏{‏نتلوها عليك‏}‏ يعني ننزل عليك جبريل فيقرؤها عليك‏.‏ ‏{‏بالحق‏}‏ أي بالصدق‏.‏ وقال الزجاج‏{‏تلك آيات الله‏}‏ المذكورة حجج الله ودلائله‏.‏ وقيل‏{‏تلك‏}‏ بمعنى هذه ولكنها لما انقضت صارت كأنها بعدت فقيل ‏{‏تلك‏}‏ ويجوز أن تكون ‏{‏آيات الله‏}‏ بدلا من ‏{‏تلك‏}‏ ولا تكون نعتا؛ لأن المبهم لا ينعت بالمضاف‏.‏ ‏{‏وما الله يريد ظلما للعالمين‏}‏ يعني أنه لا يعذبهم بغير ذنب‏.‏ ‏{‏ولله ما في السماوات وما في الأرض‏}‏ قال المهدوي‏:‏ وجه اتصال هذا بما قبله أنه لما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين وأنه لا يريد ظلما للعالمين، وصله بذكر اتساع قدرته وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وما في الأرض في قبضته، وقيل‏:‏ هو ابتداء كلام، بين لعباده أن جميع ما في السموات وما في الأرض له حتى يسألوه ويعبدوه ولا يعبدوا غيره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 110 ‏)‏

كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون‏}‏

‏"‏روى الترمذي عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏أنتم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها عند الله‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ وقال أبو هريرة‏:‏ نحن خير الناس للناس نسوقهم بالسلاسل إلى الإسلام‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وشهدوا بدرا والحديبية‏.‏ وقال عمر بن الخطاب‏:‏ من فعل فعلهم كان مثلهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني الصالحين منهم وأهل الفضل‏.‏ وهم الشهداء على الناس يوم القيامة؛ كما تقدم في البقرة‏.‏ وقال مجاهد‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ على الشرائط المذكورة في الآية‏.‏ وقيل‏:‏ معناه كنتم في اللوح المحفوظ‏.‏ وقيل‏:‏ كنتم مذ آمنتم خير أمة‏.‏ وقيل‏:‏ جاء ذلك لتقدم البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏ فالمعنى كنتم عند من تقدمكم من أهل الكتب خير أمة‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ يريد أهل أمة، أي خير أهل دين؛ وأنشد‏:‏

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع

وقيل‏:‏ هي كان التامة، والمعنى خلقتم ووجدتم خير أمة‏.‏ ‏{‏فخير أمة‏}‏ حال‏.‏ وقيل‏:‏ كان زائدة، والمعنى أنتم خير أمة‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

وجيران لنا كانوا كرام

ومثله قوله تعالى‏{‏كيف نكلم من كان في المهد صبيا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 29‏]‏‏.‏ وقوله ‏{‏واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 86‏]‏‏.‏ وقال في موضع آخر‏{‏واذكروا إذ أنتم قليل‏}‏‏.‏ وروى سفيان عن ميسرة الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة ‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ قال‏:‏ تجرون الناس بالسلاسل إلى الإسلام‏.‏ قال النحاس‏:‏ والتقدير على هذا كنتم للناس خير أمة‏.‏ وعلى قول مجاهد‏:‏ كنتم خير أمة إذ كنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر‏.‏ وقيل‏:‏ إنما صارت أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير أمة لأن المسلمين منهم أكثر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيهم أفشى‏.‏ فقيل‏:‏ هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الناس قرني‏)‏ أي الذين بعثت فيهم‏.‏

بعثت فيهم‏.‏

وإذا ثبت بنص التنزيل أن هذه الأمة خير الأمم؛ فقد‏"‏روى الأئمة من حديث عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم‏)‏‏.‏ الحديث وهذا يدل على أن أول هذه الأمة أفضل ممن بعدهم، وإلى هذا ذهب معظم العلماء، وإن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه ولو مرة في عمره أفضل ممن يأتي بعده، وإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل‏.‏

وذهب أبو عمر بن عبدالبر إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة أفضل ممن كان في جملة الصحابة، وإن قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏خير الناس قرني‏)‏ ليس على عمومه بدليل ما يجمع القرن من الفاضل والمفضول‏.‏ وقد جمع قرنه جماعة من المنافقين المظهرين للإيمان وأهل الكبائر الذين أقام عليهم أو على بعضهم الحدود، وقال لهم‏:‏ ما تقولون في السارق والشارب والزاني‏.‏ وقال مواجهة لمن هو في قرنه‏:‏ ‏(‏لا تسبوا أصحابي‏)‏‏.‏ وقال لخالد بن الوليد في عمار‏:‏ ‏(‏لا تسب من هو خير منك‏)‏ وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏طوبى لمن رآني وآمن بي وطوبى سبع مرات لمن لم يرني وآمن بي‏)‏‏.‏ وفي مسند أبي داود الطيالسي عن محمد بن أبي حميد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر‏.‏ قال‏:‏ كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏أتدرون أي الخلق أفضل إيمانا‏)‏ قلنا الملائكة‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وحق لهم بل غيرهم‏)‏ قلنا الأنبياء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏وحق لهم بل غيرهم‏)‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أفضل الخلق إيمانا قوم في أصلاب الرجال يؤمنون بي ولم يروني يجدون ورقا فيعملون بما فيها فهم أفضل الخلق إيمانا‏)‏‏.‏ وروى صالح بن جبير عن أبي جمعة قال‏:‏ قلنا يا رسول الله، هل أحد خير منا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏نعم قوم يجيؤون من بعدكم فيجدون كتابا بين لوحين فيؤمنون بما فيه ويؤمنون بي ولم يروني‏)‏‏.‏ وقال أبو عمر‏:‏ وأبو جمعة له صحبة واسمه حبيب بن سباع، وصالح بن جبير من ثقات التابعين‏.‏ وروى أبو ثعلبة الخشني عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن أمامكم أياما الصابر فيها على دينه كالقابض على الجمر للعامل فيها أجر خمسين رجلا يعمل مثله عمله‏)‏ قيل‏:‏ يا رسول الله، منهم‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏بل منكم‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذه اللفظة ‏{‏بل منكم‏}‏ قد سكت عنها بعض المحدثين فلم يذكرها‏.‏ وقال عمر بن الخطاب في تأويل قوله‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ قال‏:‏ من فعل مثل فعلكم كان مثلكم‏.‏ ولا تعارض بين الأحاديث؛ لأن الأول على الخصوص، والله الموفق‏.‏

وقد قيل في توجيه أحاديث هذا الباب‏:‏ إن قرنه إنما فضل لأنهم كانوا غرباء في إيمانهم لكثرة الكفار وصبرهم على أذاهم وتمسكهم بدينهم، وإن أواخر هذه الأمة إذا أقاموا الدين وتمسكوا به وصبروا على طاعة ربهم في حين ظهور الشر والفسق والهرج والمعاصي والكبائر كانوا عند ذلك أيضا غرباء، وزكت أعمالهم في ذلك الوقت كما زكت أعمال أوائلهم، ومما يشهد لهذا قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ فطوبى للغرباء‏)‏‏.‏ ويشهد له أيضا حديث أبي ثعلبة، ويشهد له أيضا قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أمتي كالمطر لا يُدْرَى أوله خير أم آخره‏)‏‏.‏ ذكره أبو داود الطيالسي وأبو عيسى الترمذي، ورواه هشام بن عبيدالله الرازي عن مالك عن الزهري عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره‏)‏‏.‏ ذكره الدارقطني في مسند حديث مالك‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ هشام بن عبيدالله ثقة لا يختلفون في ذلك‏.‏ وروي أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة كتب إلى سالم بن عبدالله أن اكتب إلي بسيرة عمر بن الخطاب لأعمل بها؛ فكتب إليه سالم‏:‏ إن عملت بسيرة عمر؛ فأنت أفضل من عمر لأن زمانك ليس كزمان عمر، ولا رجالك كرجال عمر‏.‏ قال‏:‏ وكتب إلى فقهاء زمانه، فكلهم كتب إليه بمثل قول سالم‏.‏ وقد عارض بعض الجلة من العلماء قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الناس قرني‏)‏ بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خير الناس من طال عمره وحسن عمله وشر الناس من طال عمره وساء عمله‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ فهذه الأحاديث تقتضي مع تواتر طرقها وحسنها التسوية بين أول هذه الأمة وآخرها‏.‏ والمعنى في ذلك ما تقدم ذكره من الإيمان والعمل الصالح في الزمان الفاسد الذي يرفع فيه من أهل العلم والدين، ويكثر فيه الفسق والهرج، ويذل المؤمن ويعز الفاجر ويعود الدين غريبا كما بدا غريبا ويكون القائم فيه كالقابض على الجمر، فيستوي حينئذ أول هذه الأمة بآخرها في فضل العمل إلا أهل بدر والحديبية، ومن تدبر آثار هذا الباب بان له الصواب، والله يؤتي فضله من يشاء‏.‏

قوله تعالى‏{‏تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله‏}‏ مدح لهذه الأمة ما أقاموا ذلك واتصفوا به‏.‏ فإذا تركوا التغيير وتواطؤوا على المنكر زال عنهم اسم المدح ولحقهم اسم الذم، وكان ذلك سببا لهلاكهم‏.‏ وقد تقدم الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول السورة‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم‏}‏ أخبر أن إيمان أهل الكتاب بالنبي صلى الله عليه وسلم خير لهم، وأخبر أن منهم مؤمنا وفاسقا، وأن الفاسق أكثر‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 111 ‏)‏

‏{‏لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون‏}‏

قوله تعالى‏}‏لن يضروكم إلا أذى‏}‏ يعني كذبهم وتحريفهم وبهتهم؛ لا أنه تكون لهم الغلبة؛ عن الحسن وقتادة‏.‏ فالاستثناء متصل، والمعنى لن يضروكم إلا ضرا يسيرا؛ فوقع الأذى موقع المصدر‏.‏ فالآية وعد من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، إن أهل الكتاب لا يغلبونهم وأنهم منصورون عليهم لا ينالهم منهم اصطلام إلا إيذاء بالبهت والتحريف، وأما العاقبة فتكون للمؤمنين‏.‏ وقيل‏:‏ هو منقطع، والمعنى لن يضروكم البتة، لكن يؤذونكم بما يُسمِّعونكم‏.‏ قال مقاتل‏:‏ إن رؤوس اليهود‏:‏ كعب وعدي والنعمان وأبو رافع وأبو ياسر وكنانة وابن صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم‏:‏ عبدالله بن سلام وأصحابه فآذوهم لإسلامهم؛ فأنزل الله تعالى‏{‏لن يضروكم إلا أذى‏}‏ يعني باللسان، وتم الكلام‏.‏ ثم قال‏{‏وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار‏}‏ يعني منهزمين، وتم الكلام‏.‏ ‏{‏ثم لا ينصرون‏}‏ مستأنف؛ فلذلك ثبتت فيه النون‏.‏ وفي هذه الآية معجزة للنبي عليه السلام؛ لأن من قاتله من اليهود ولاه دبره‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 112 ‏:‏ 115 ‏)‏

ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ضربت عليهم الذلة‏}‏ يعني اليهود‏.‏ ‏{‏أينما ثقفوا‏}‏ أي وجدوا ولقوا، وتم الكلام‏.‏ وقد مضى في البقرة معنى ضرب الذلة عليهم‏.‏ ‏{‏إلا بحبل من الله‏}‏ استثناء منقطع ليس من الأول‏.‏ أي لكنهم يعتصمون بحبل من الله ‏{‏وحبل من الناس‏}‏ يعني الذمة التي لهم‏.‏ والناس‏:‏ محمد والمؤمنون يؤدون إليهم الخراج فيؤمنونهم‏.‏ وفي الكلام اختصار، والمعنى‏:‏ إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف؛ قاله الفراء‏.‏ ‏{‏وباؤوا بغضب من الله‏}‏ أي رجعوا‏.‏ وقيل احتملوا‏.‏ وأصله في اللغة أنه لزمهم، وقد مضى في البقرة‏.‏ ثم أخبر لم فعل ذلك بهم‏.‏ فقال‏{‏ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏}‏ وقد مضى في البقرة مستوفى‏.‏ ثم أخبر فقال‏{‏ليسوا سواء‏}‏ وتم الكلام‏.‏ والمعنى‏:‏ ليس أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سواء؛ عن ابن مسعود‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ليس المؤمنون والكافرون من أهل الكتاب سواء‏.‏ وذكر أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا شيبان عن عاصم عن زر عن ابن مسعود قال‏:‏ أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال‏:‏ ‏(‏إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله تعالى في هذه الساعة غيركم‏)‏ قال‏:‏ أنزلت هذه الآية ‏{‏ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة - إلى قوله‏:‏ والله عليم بالمتقين‏}‏ وروى ابن وهب مثله‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ قول الله عز وجل ‏{‏من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون‏}‏ من آمن مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن إسحاق عن ابن عباس لما أسلم عبدالله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسيد بن سعيه، وأسيد بن عبيد، ومن أسلم من يهود؛ فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ورسخوا فيه، قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم‏:‏ ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره؛ فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم‏{‏ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون‏.‏ إلى قوله‏:‏ وأولئك من الصالحين‏}‏‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ التقدير من أهل الكتاب ذو أمة، أي ذو طريقة حسنة‏.‏ وأنشد‏:‏

وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع

وقيل‏:‏ في الكلام حذف؛ والتقدير من أهل الكتاب أمة قائمة وأخرى غير قائمة، فترك الأخرى اكتفاء بالأولى؛ كقول أبي ذؤيب‏:‏

عصاني إليها القلب إني لأمره مطيع فما أدري أرُشْد طِلابها

أراد‏:‏ أرشد أم غي، فحذف‏.‏ قال الفراء‏{‏أمة‏}‏ رفع بـ ‏{‏سواء‏}‏، والتقدير‏:‏ ليس يستوي أمة من أهل الكتاب قائمة يتلون آيات الله وأمة كافرة‏.‏ قال النحاس‏:‏ هذا قول خطأ من جهات‏:‏ إحداها أنه يرفع ‏{‏أمة‏}‏ بـ ‏{‏سواء‏}‏ فلا يعود على اسم ليس بشيء، ويرفع بما ليس جاريا على الفعل ويضمر ما لا يحتاج إليه؛ لأنه قد تقدم ذكر الكافر فليس لإضمار هذا وجه‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هذا مثل قولهم‏:‏ أكلوني البراغيث، وذهبوا أصحابك‏.‏ قال النحاس‏:‏ وهذا غلط؛ لأنه قد تقدم ذكرهم، وأكلوني البراغيث لم يتقدم لهم ذكر‏.‏ و‏{‏آناء الليل‏}‏ ساعاته‏.‏ وأحدها إنًى وأنًى وإنْيٌ، وهو منصوب على الظرف‏.‏ و‏{‏يسجدون‏}‏ يصلون؛ عن الفراء والزجاج؛ لأن التلاوة لا تكون في الركوع والسجود‏.‏ نظيره قوله‏{‏وله يسجدون‏}‏ أي يصلون‏.‏ وفي الفرقان ‏{‏وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 60‏]‏ وفي النجم ‏{‏فاسجدوا لله واعبدوا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 62‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ يراد به السجود المعروف خاصة‏.‏ وسبب النزول يرده، وأن المراد صلاة العتمة كما ذكرنا عن ابن مسعود؛ فعبدة الأوثان ناموا حيث جن عليهم الليل، والموحدون قيام بين يدي الله تعالى في صلاة العشاء يتلون آيات الله؛ ألا ترى لما ذكر قيامهم قال ‏}‏وهم يسجدون‏}‏ أي مع القيام أيضا‏.‏ الثوري‏:‏ هي الصلاة بين العشاءين‏.‏ وقيل‏:‏ هي في قيام الليل‏.‏ وعن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب قال‏:‏ إنا نجد كلاما من كلام الرب عز وجل‏:‏ أيحسب راعي إبل أو راعي غنم إذا جنه الليل انخذل كمن هو قائم وساجد آناء الليل‏.‏ ‏{‏يؤمنون بالله‏}‏ يعني يقرون بالله ويصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏ويأمرون بالمعروف‏}‏ قيل‏:‏ هو عموم‏.‏ وقيل‏:‏ يراد به الأمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وينهون عن المنكر‏}‏ والنهي عن المنكر النهي عن مخالفته‏.‏ ‏{‏ويسارعون في الخيرات‏}‏ التي يعملونها مبادرين غير متثاقلين لمعرفتهم بقدر ثوابهم‏.‏ وقيل‏:‏ يبادرون بالعمل قبل الفوت‏.‏ ‏{‏وأولئك من الصالحين‏}‏ أي مع الصالحين، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في الجنة‏.‏ ‏{‏وما يفعلوا من خير فلن يكفروه‏}‏ قرأ الأعمش وابن وثاب وحمزة والكسائي وحفص وخلف بالياء فيهما؛ إخبارا عن الأمة القائمة، وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيد‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء فيهما على الخطاب؛ لقوله تعالى‏{‏كنتم خير أمة أخرجت للناس‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏‏.‏ وهي اختيار أبي حاتم، وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا الياء والتاء‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ وما تفعلوا من خير فإن تجحدوا ثوابه بل يشكر لكم وتجازون عليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 116 ‏)‏

‏{‏إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ اسم إن، والخبر ‏{‏لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا‏}‏‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لما ذكر تعالى مؤمني أهل الكتاب ذكر كفارهم وهو قوله‏{‏إن الذين كفروا‏}‏‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ جعل هذا ابتداء فقال‏:‏ إن الذين كفروا لن تغني عنهم كثرة أموالهم ولا كثرة أولادهم من عذاب الله شيئا‏.‏ وخص الأولاد لأنهم أقرب أنسابهم إليهم‏.‏ ‏{‏وأولئك أصحاب النار‏}‏ ابتداء وخبر، وكذا و‏{‏هم فيها خالدو ن‏}‏‏.‏ وقد تقدم جميع هذا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 117 ‏)‏

‏{‏مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر‏}‏ ‏"‏ما‏"‏ تصلح أن تكون مصدرية، وتصلح أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف، أي مثل ما ينفقونه‏.‏ ومعنى ‏{‏كمثل ريح‏}‏ كمثل مهب ريح‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ والصر‏:‏ البرد الشديد‏.‏ قيل‏:‏ أصله من الصرير الذي هو الصوت، فهو صوت الريح الشديدة‏.‏ الزجاج‏:‏ هو صوت لهب النار التي كانت في تلك الريح‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى في البقرة‏.‏ وفي الحديث‏:‏ إنه نهى عن الجراد الذي قتله الصر‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ مثل نفقة الكافرين في بطلانها وذهابها وعدم منفعتها كمثل زرع أصابه ريح باردة أو نار فأحرقته وأهلكته، فلم ينتفع أصحابه بشيء بعد ما كانوا يرجون فائدته ونفعه‏.‏ قال الله تعالى‏{‏وما ظلمهم الله‏}‏ بذلك ‏{‏ولكن أنفسهم يظلمون‏}‏ بالكفر والمعصية ومنع حق الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير وقت الزراعة أو في غير موضعها فأدبهم الله تعالى؛ لوضعهم الشيء في غير موضعه؛ حكاه المهدوي‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 118 ‏)‏

يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون‏}‏

أكد الله تعالى الزجر عن الركون إلى الكفار‏.‏ وهو متصل بما سبق من قوله‏{‏إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 100‏]‏‏.‏ والبطانة مصدر، يسمى به الواحد والجمع‏.‏ وبطانة الرجل خاصته الذين يستبطنون أمره، وأصله من البطن الذي هو خلاف الظهر‏.‏ وبطن فلان بفلان يبْطُن بُطونا وبِطانة إذا كان خاصا به‏.‏ قال الشاعر‏:‏

أولئك خلصائي نعم وبطانتي وهم عيبتي من دون كل قريب

نهى الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية أن يتخذوا من الكفار واليهود وأهل الأهواء دخلاء وولجاء، يفاوضونهم في الآراء، ويسندون إليهم أمورهم‏.‏ ويقال‏:‏ كل من كان على خلاف مذهبك ودينك فلا ينبغي لك أن تحادثه؛ قال الشاعر‏:‏

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي

وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل‏)‏‏.‏ وروي عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ اعتبروا الناس بإخوانهم‏.‏ ثم بين تعالى المعنى الذي لأجله نهى عن المواصلة فقال‏{‏لا يألونكم خبالا‏}‏ يقول فسادا‏.‏ يعني لا يتركون الجهد في فسادكم، يعني أنهم وإن لم يقاتلوكم في الظاهر فإنهم لا يتركون الجهد في المكر والخديعة، على ما يأتي بيانه‏.‏ وروي عن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا‏}‏ قال‏:‏ ‏(‏هم الخوارج‏)‏‏.‏ وروى أن أبا موسى الأشعري استكتب ذميا فكتب إليه عمر يعنفه وتلا عليه هذه الآية‏.‏ وقدم أبو موسى الأشعري على عمر رضي الله عنهما بحساب فرفعه إلى عمر فأعجبه، وجاء عمر كتاب فقال لأبي موسى‏:‏ أين كاتبك يقرأ هذا الكتاب على الناس ‏؟‏ فقال‏:‏ إنه لا يدخل المسجد‏.‏ فقال لم‏!‏ أجنب هو‏؟‏ قال‏:‏ إنه نصراني؛ فانتهره وقال‏:‏ لا تدنهم وقد أقصاهم الله، ولا تكرمهم وقد أهانهم الله، ولا تأمنهم وقد خونهم الله‏.‏ وعن عمر رضي الله عنه قال‏:‏ لا تستعملوا أهل الكتاب فإنهم يستحلون الرِّشا، واستعينوا على أموركم وعلى رعيتكم بالذين يخشون الله تعالى‏.‏ وقيل لعمر رضي الله عنه‏:‏ إن ههنا رجلا من نصارى الحيرة لا أحد أكتب منه ولا أخط بقلم أفلا يكتب عنك‏؟‏ فقال‏:‏ لا آخذ بطانة من دون المؤمنين‏.‏ فلا يجوز استكتاب أهل الذمة، ولا غير ذلك من تصرفاتهم في البيع والشراء والاستنابة إليهم‏.‏

قلت‏:‏ وقد انقلبت الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كتبة وأمناء وتسودوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء‏.‏‏"‏روى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه فالمعصوم من عصم الله تعالى‏)‏‏.‏ وروى أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تستضيؤوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم غريبا‏)‏‏.‏ فسره الحسن بن أبي الحسن فقال‏:‏ أراد عليه السلام لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمدا‏.‏ قال الحسن‏:‏ وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم‏}‏ الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏من دونكم‏}‏ أي من سواكم‏.‏ قال الفراء‏{‏ويعملون عملا دون ذلك‏}‏ أي سوى ذلك‏.‏ وقيل‏{‏من دونكم‏}‏ يعني في السير وحسن المذهب‏.‏ ومعنى ‏{‏لا يألونكم خبالا‏}‏ لا يقصرون فيما فيه الفساد عليكم‏.‏ وهو في موضع الصفة لـ ‏{‏بطانة من دونكم‏}‏‏.‏ يقال‏:‏ لا آلو جهدا أي لا أقصر‏.‏ وأَلَوْت أُلُوًّا قصرت؛ قال امرؤ القيس‏:‏

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه بمدرك أطراف الخطوب ولا آل

والخَبال‏:‏ الخَبْل‏.‏ والخبل‏:‏ الفساد؛ وقد يكون ذلك في الأفعال والأبدان والعقول‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏من أصيب بدم أو خبل‏)‏ أي جرح يفسد العضو‏.‏ والخبل‏:‏ فساد الأعضاء، ورجل خبل ومختبل، وخبله الحب أي أفسده‏.‏ قال أوس‏:‏

أبني لُبينى لستم بيد ** إلا يدا مخبولة العضد

أي فاسدة العضد‏.‏ وأنشد الفراء‏:‏

نظر ابن سعد نظرة وبت بها ** كانت لصحبك والمطي خبالا

أي فساد‏.‏ وانتصب ‏(‏خبالا‏)‏ بالمفعول الثاني؛ لأن الألو يتعدى إلى مفعولين، وإن شئت على المصدر، أي يخبلونكم خبالا‏:‏ وإن شئت بنزع الخافض، أي بالخبال؛ كما قالوا‏:‏ أوجعته ضربا‏{‏وما‏}‏ في قوله‏{‏ودوا ما عنتم‏}‏ مصدرية، أي ودوا عنتكم‏.‏ أي ما يشق عليكم‏.‏ والعنت المشقة، وقد مضى في ‏{‏البقرة‏}‏ معناه‏.‏

قوله تعالى‏{‏قد بدت البغضاء من أفواههم‏}‏ يعني ظهرت العداوة والتكذيب لكم من أفواههم‏.‏ والبغضاء‏:‏ البغض، وهو ضد الحب‏.‏ والبغضاء مصدر مؤنث‏.‏ وخص تعالى الأفواه بالذكر دون الألسنة إشارة إلى تشدقهم وثرثرتهم في أقوالهم هذه، فهم فوق المتستر الذي تبدو البغضاء في عينيه‏.‏ ومن هذا المعنى نهيه عليه السلام أن يشتحي الرجل فاه في عرض أخيه‏.‏ معناه أن يفتح؛ يقال‏:‏ شحى الحمار فاه بالنهيق، وشحى الفم نفسه‏.‏ وشحى اللجام فم الفرس شحيا، وجاءت الخيل شواحي‏:‏ فاتحات أفواهها‏.‏ ولا يفهم من هذا الحديث دليل خطاب على الجواز فيأخذ أحد في عرض أخيه همسا؛ فإن ذلك يحرم باتفاق من العلماء‏.‏ وفي التنزيل ‏{‏ولا يغتب بعضكم بعضا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ الآية‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام‏)‏‏.‏ فذكر الشَّحْو إنما هو إشارة إلى التشدق والانبساط، فاعلم‏.‏

وفي هذه الآية دليل على أن شهادة العدو على عدوه لا يجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز؛ وروى عن أبي حنيفة جواز ذلك‏.‏ وحكى ابن بطال عن ابن شعبان أنه قال‏:‏ أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء وإن كان عدلا، والعداوة تزيل العدالة فكيف بعداوة كافر‏.‏

قوله تعالى‏{‏وما تخفي صدورهم أكبر‏}‏ إخبار وإعلام بأنهم يبطنون من البغضاء أكثر مما يظهرون بأفواههم‏.‏ وقرأ عبدالله بن مسعود‏{‏قد بدأ البغضاء‏}‏ بتذكير الفعل؛ لما كانت البغضاء بمعنى البغض‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 119 ‏)‏

ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور‏}‏

قوله تعالى‏{‏ها أنتم أولاء تحبونهم‏}‏ يعني المنافقين؛ دليله قوله تعالى‏{‏وإذا لقوكم قالوا آمنا‏}‏ ؛ قاله أبو العالية ومقاتل‏.‏ والمحبة هنا بمعنى المصافاة، أي أنتم أيها المسلمون تصافونهم ولا يصافونكم لنفاقهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى تريدون لهم الإسلام وهم يريدون لكم الكفر‏.‏ وقيل‏:‏ المراد اليهود؛ قاله الأكثر‏.‏ والكتاب اسم جنس؛ قال ابن عباس‏:‏ يعني بالكتب‏.‏ واليهود يؤمنون بالبعض؛ كما قال تعالى‏{‏وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 91‏]‏‏.‏ ‏{‏وإذا لقوكم قالوا آمنا‏}‏ أي بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏وإذا خلوا‏}‏ فيما بينهم ‏{‏عضوا عليكم الأنامل‏}‏ يعني أطراف الأصابع ‏{‏من الغيظ‏}‏ والحنق عليكم فيقول بعضهم لبعض‏:‏ ألا ترون إلى هؤلاء ظهروا وكثروا‏.‏ والعض عبارة عن شدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذه؛ ومنه قول أبي طالب‏:‏

يعضون غيظا خَلْفَنا بالأنامل

وقال آخر‏:‏

إذا رأوني - أطال الله غيظهم ** عضوا من الغيظ أطراف الأباهيم

يقال‏:‏ عض يُعض عضا وعضيضا‏.‏ والعُضُّ ‏(‏بضم العين‏)‏‏:‏ علف دواب أهل الأمصار مثل الكُسْب والنوى المرضوخ؛ يقال منه‏:‏ أعض القوم، إذا أكلت إبلهم العض‏.‏ وبعير عضاضي، أي سمين كأنه منسوب إليه‏.‏ والعض ‏(‏بالكسر‏)‏‏:‏ الداهي من الرجال والبليغ المكر‏.‏ وعض الأنامل من فعل المغضب الذي فاته ما لا يقدر عليه، أو نزل به ما لا يقدر على تغييره‏.‏ وهذا العض هو بالأسنان كعض اليد على فائت قريب الفوات‏.‏ وكقرع السن النادمة، إلى غير ذلك من عد الحصى والخط في الأرض للمهموم‏.‏ ويكتب هذا العض بالضاد الساقطة، وعظ الزمان بالظاء المشالة؛ كما قال‏:‏

وعظ زمان يا ابن مروان لم يدع ** من المال إلا مُسْحتا أو مجلف

وواحد الأنامل أنملة ‏(‏بضم الميم‏)‏ ويقال بفتحها، والضم أشهر‏.‏ وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال‏:‏ هم الأباضية‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذه الصفة قد تترتب في كثير من أهل البدع إلى يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏{‏قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور‏}‏ إن قيل‏:‏ كيف لم يموتوا والله تعالى إذا قال لشيء‏:‏ كن فيكون‏.‏ قيل عنه جوابان‏:‏ أحدهما‏:‏ قال فيه الطبري وكثير من المفسرين‏:‏ هو دعاء عليهم‏.‏ أي قل يا محمد أدام الله غيظكم إلى أن تموتوا‏.‏ فعلى هذا يتجه أن يدعو عليهم بهذا مواجهة وغير مواجهة بخلاف اللعنة‏.‏

الثاني‏:‏ إن المعنى أخبرهم أنهم لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك‏.‏ فعلى هذا المعنى زال معنى الدعاء وبقي معنى التقريع والإغاظة‏.‏ ويجري هذا المعنى مع قول مسافر بن أبي عمرو‏:‏

ويتمنى في أرومتنا ** ونفقأ عين من حسدا

وينظر إلى هذا المعنى قوله تعالى‏{‏من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 15‏]‏

ا لآية رقم ‏(‏ 120 ‏)

‏{‏إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن تمسسكم حسنة تسؤهم‏{‏ قرأ السلمي بالياء والباقون بالتاء‏.‏ واللفظ عام في كل ما يحسن ويسوء‏.‏ وما ذكره المفسرون من الخصب والجدب واجتماع المؤمنين ودخول الفرقة بينهم إلى غير ذلك من الأقوال أمثلة وليس باختلاف‏.‏ والمعنى في الآية‏:‏ أن من كانت هذه صفته من شدة العداوة والحقد والفرح بنزول الشدائد على المؤمنين، لم يكن أهلا لأن يتخذ بطانة، لا سيما في هذا الأمر الجسيم من الجهاد الذي هو مِلاك الدنيا والآخرة؛ ولقد أحسن القائل في قوله‏:‏

كل العداوة قد ترجى إفاقتها ** إلا عداوة من عاداك من حسد

‏{‏وإن تصبروا‏}‏ أي على أذاهم وعلى الطاعة وموالاة المؤمنين‏.‏ ‏{‏وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا‏}‏ يقال‏:‏ ضاره يضوره ويضيره ضيرا وضورا؛ فشرط تعالى نفي ضررهم بالصبر والتقوى، فكان ذلك تسلية للمؤمنين وتقوية لنفوسهم‏.‏

قلت‏:‏ قرأ الحرميان وأبو عمرو ‏{‏لا يضركم‏}‏ من ضار يضير كما ذكرنا؛ ومنه قوله ‏{‏لا ضير‏}‏، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين؛ لأنك لما حذفت الضمة من الراء بقيت الراء ساكنة والياء ساكنة فحذفت الياء، وكانت أولى بالحذف؛ لأن قبلها ما يدل عليها‏.‏ وحكى الكسائي أنه سمع ‏{‏ضارَه يضورُه‏}‏ وأجاز ‏{‏لا يَضُرْكم‏}‏ وزعم أن في قراءة أبي بن كعب ‏{‏لا يضْرُرْكم‏}‏‏.‏ قرأ الكوفيون‏{‏لا يضركم‏}‏ بضم الراء وتشديدها من ضر يضُر‏.‏ ويجوز أن يكون مرفوعا على تقدير إضمار الفاء؛ والمعنى‏:‏ فلا يضركم، ومنه قول الشاعر‏:‏

من يفعل الحسنات الله يشكرها

هذا قول الكسائي والفراء، أو يكون مرفوعا على نية التقديم؛ وأنشد سيبويه‏:‏

إنك إن يصرع أخوك تصرع

أي لا يضركم أن تصبروا وتتقوا‏.‏ ويجوز أن يكون مجزوما، وضمت الراء لالتقاء الساكنين على إتباع الضم‏.‏ وكذلك قراءة من فتح الراء على أن الفعل مجزوم، وفتح ‏{‏يضركم‏{‏ لالتقاء الساكنين لخفة الفتح؛ رواه أبو زيد عن المفضل عن عاصم، حكاه المهدوي‏.‏ وحكى النحاس‏:‏ وزعم المفضل الضبي عن عاصم ‏{‏لا يضرِّكم‏}‏ بكسر الراء لالتقاء الساكنين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 121 ‏)‏

‏{‏وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإذ غدوت من أهلك‏}‏ العامل في ‏"‏إذ‏"‏ فعل مضمر تقديره‏:‏ واذكر إذ غدوت، يعني خرجت بالصباح‏.‏ ‏{‏من أهلك‏}‏ من منزلك من عند عائشة‏.‏ ‏{‏تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم‏}‏ هذه غزوة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها‏.‏ وقال مجاهد والحسن ومقاتل والكلبي‏:‏ هي غزوة الخندق‏.‏ وعن الحسن أيضا يوم بدر‏.‏ والجمهور على أنها غزوة أحد؛ يدل عليه قوله تعالى‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 122‏]‏ وهذا إنما كان يوم أحد، وكان المشركون قصدوا المدينة في ثلاثة آلاف رجل ليأخذوا بثأرهم في يوم بدر؛ فنزلوا عند أحد على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة، يوم الأربعاء الثاني عشر من شوال سنة ثلاث من الهجرة، على رأس أحد وثلاثين شهرا من الهجرة، فأقاموا هنالك يوم الخميس والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أن في سيفه ثلمة، وأن بقرا له تذبح، وأنه أدخل يده في درع حصينة؛ فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون، وأن رجلا من أهل بيته يصاب، وأن الدرع الحصينة المدينة‏.‏ أخرجه مسلم‏.‏ فكان كل ذلك على ما هو معروف مشهور من تلك الغزاة‏.‏ وأصل التبوء اتخاذ المنزل، بوأته منزلا إذا أسكنته إياه؛ ومنه قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار‏)‏ أي ليتخذ فيها منزلا‏.‏ فمعنى ‏{‏تبوئ المؤمنين‏}‏ تتخذ لهم مصاف‏.‏ وذكر البيهقي من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏رأيت فيما يرى النائم كأني مردف كبشا وكأن ضبة سيفي انكسرت فأولت أني أقتل كبش القوم وأولت كسر ضبة سيفي قتل رجل من عترتي‏)‏ فقُتل حمزة وقَتل رسول الله صلى الله عليه وسلم طلحة، وكان صاحب اللواء‏.‏ وذكر موسى بن عقبة عن ابن شهاب‏:‏ وكان حامل لواء المهاجرين رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أنا عاصم إن شاء الله لما معي؛ فقال له طلحة بن عثمان أخو سعيد بن عثمان اللخمي‏:‏ هل لك يا عاصم في المبارزة ‏؟‏ قال نعم؛ فبدره ذلك الرجل فضرب بالسيف على رأس طلحة حتى وقع السيف في لحيته فقتله؛ فكان قتل صاحب اللواء تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏كأني مردف كبشا‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 122 ‏)‏

‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏

العامل في ‏{‏إذ - تبوئ‏}‏ أو ‏{‏سميع عليم‏}‏‏.‏ والطائفتان‏:‏ بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر يوم أحد‏.‏ ومعنى ‏{‏أن تفشلا‏}‏ أن تَجبُنا‏.‏ وفي البخاري عن جابر قال‏:‏ فينا نزلت ‏{‏إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما‏}‏ قال‏:‏ نحن الطائفتان‏:‏ بنو حارثة وبنو سلمة، وما نحب أنها لم تنزل؛ لقول الله عز وجل‏{‏والله وليهما‏}‏ ‏.‏ وقيل‏:‏ هم بنو الحارث وبنو الخزرج وبنو النبيت، والنبيت هو عمرو بن مالك من بني الأوس‏.‏ والفشل عبارة عن الجبن؛ وكذلك هو في اللغة‏.‏ والهم من الطائفتين كان بعد الخروج لما رجع عبدالله بن أبي بمن معه من المنافقين فحفظ الله قلوبهم فلم يرجعوا؛ فذلك قوله تعالى‏{‏والله وليهما‏}‏ يعني قلوبهما عن تحقيق هذا الهم‏.‏ وقيل‏:‏ أرادوا التقاعد عن الخروج، وكان ذلك صغيرة منهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان ذلك حديث نفس منهم خطر ببالهم فأطلع الله نبيه عليه السلام عليه فازدادوا بصيرة؛ ولم يكن ذلك الخَوَرُ مكتسبا لهم فعصمهم الله، وذم بعضهم بعضا، ونهضوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أطل على المشركين، وكان خروجه من المدينة في ألف، فرجع عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلاثمائة رجل مغاضبا؛ إذ خولف رأيه حين أشار بالقعود والقتال في المدينة إن نهض إليهم العدو، وكان رأيه وافق رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى ذلك أكثر الأنصار، وسيأتي‏.‏ ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين فاستشهد منهم من أكرمه الله بالشهادة‏.‏ قال مالك رحمه الله‏:‏ قتل من المهاجرين يوم أحد أربعة، ومن الأنصار سبعون رضي الله عنهم‏.‏ والمقاعد‏:‏ جمع مقعد وهو مكان القعود، وهذا بمنزلة مواقف، ولكن لفظ القعود دال على الثبوت؛ ولا سيما أن الرماة كانوا قعودا‏.‏ هذا معنى حديث غزاة أحد على الاختصار، وسيأتي من تفصيلها ما فيه شفاء‏.‏ وكان مع المشركين يومئذ مائة فرس عليها خالد بن الوليد، ولم يكن مع المسلمين يومئذ فرس‏.‏ وفيها جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة من على رأسه صلى الله عليه وسلم، وجزاه عن أمته ودينه بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه على صبره‏.‏ وكان الذي تولى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن قميئة الليثي، وعتبة بن أبي وقاص‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن عبدالله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهته‏.‏ قال الواقدي‏:‏ والثابت عندنا أن الذي رمى في وجه النبي صلى الله عليه وسلم ابن قميئة، والذي أدمى شفته وأصاب رباعيته عتبة بن أبي وقاص‏.‏ قال الواقدي بإسناده عن نافع بن جبير قال‏:‏ سمعت رجلا من المهاجرين يقول‏:‏ شهدت أُحُدا فنظرت إلى النبل تأتي من كل ناحية ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطها كل ذلك يصرف عنه‏.‏ ولقد رأيت عبدالله بن شهاب الزهري يقول يومئذ‏:‏ دلوني على محمد دلوني على محمد، فلا نجوت إن نجا‏.‏ وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبه ما معه أحد ثم جاوزه، فعاتبه في ذلك صفوان فقال‏:‏ والله ما رأيته، أحلف بالله إنه منا ممنوع‏!‏ خرجنا أربعة فتعاهدنا وتعاقدنا على قتله فلم نخلص إلى ذلك‏.‏ وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في حفرة، كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه واحتضنه طلحة حتى قام، ومص مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم، وتشبثت حلقتان من درع المِغْفَر في وجهه صلى الله عليه وسلم فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعض عليهما بثنيتيه فسقطتا؛ فكان اهْتم يزينه هَتَمُه رضي الله عنه‏.‏ وفي هذه الغزاة قتل حمزة رضي الله عنه، قتله وحشي، وكان وحشي مملوكا لجبير بن مطعم‏.‏ وقد كان جبير قال له‏:‏ إن قتلت محمدا جعلنا لك أعنة الخيل، وإن أنت قتلت علي بن أبي طالب جعلنا لك مائة ناقة كلها سود الحدق، وإن أنت قتلت حمزة فأنت حر‏.‏ فقال وحشي‏:‏ أما محمد فعليه حافظ من الله لا يخلص إليه أحد‏.‏ وأما علي ما برز إليه أحد إلا قتله‏.‏ وأما حمزة فرجل شجاع، وعسى أن أصادفه فأقتله‏.‏ وكانت هند كلما تهيأ وحشي أو مرت به قالت‏:‏ إيها أبا دسمة اشف واستشف‏.‏ فكَمِن له خلف صخرة، وكان حمزة حمل على القوم من المشركين؛ فلما رجع من حملته ومر بوحشي زَرَقه بالمِزراق فأصابه فسقط ميتا رحمه الله ورضي عنه‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فبقرت هند عن كبد حمزة فلاكتها ولم تستطع أن تسيغها فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت‏:‏

نحن جزيناكم بيوم بدر ** والحرب بعد الحرب ذات سعر

ما كان عن عتبة لي من صبر ** ولا أخي وعمه بكري

شفيت نفسي وقضيت نذري ** شفيت وحشي غليل صدري

فشكر وحشي عليَّ عمري ** حتى تَرِمّ أعظمي في قبري

فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن عبدالمطلب فقالت‏:‏

خزيت في بدر وبعد بدر ** يا بنت وقَّاع عظيم الكفر

صبحك الله غداة الفجر ** مِلْهاشميين الطوال الزهر

بكل قَطّاع حُسام يفري ** حمزة ليثي وعَليٌّ صقري

إذ رام شيب وأبوك غدري ** فَخَضَبا منه ضواحي النحر

ونذرك السوء فشر نذر

وقال عبدالله بن رواحة يبكي ‏[‏يرثي‏]‏ حمزة رضي الله عنه‏:‏

بكت عيني وحق لها بكاها ** وما يغني البكاء ولا العويل

على أسد الإله غداة قالوا ** أحمزة ذاكم الرجل القتيل

أصيب المسلمون به جميعا ** هناك، وقد أصيب به الرسول

أبا يَعْلى لك الأركان هُدَّت ** وأنت الماجد البر الوَصول

عليك سلام ربك في جنان ** مخالطها نعيم لا يزول

ألا يا هاشم الأخيار صبرا ** فكل فعالكم حسن جميل

رسول الله مصطبر كريم ** بأمر الله ينطق إذ يقول

ألا من مبلغ عني لؤيا ** فبعد اليوم دائلة تدول

وقبل اليوم ما عرفوا وذاقوا ** وقائعنا بها يشفى الغليل

نسيتم ضربنا بقليب بدر ** غداة أتاكم الموت العجيل

غداة ثوى أبو جهل صريعا ** عليه الطير حائمة تجول

وعتبة وابنه خرا جميعا ** وشيبة عضه السيف الصقيل

ومتركنا أمية مجلعبا ** وفي حيزومه لدن نبيل

وهام بني ربيعة سائلوها ** ففي أسيافنا منها فلول

ألا يا هند لا تبدي شماتا ** بحمزة إن عزكم ذليل

ألا يا هند فابكي لا تملي ** فأنت الواله العَبْرى الهبول

ورثته أيضا أخته صفية، وذلك مذكور في السيرة، رضي الله عنهم أجمعين‏.‏

قوله تعالى‏{‏وعلى الله فليتوكل المؤمنون‏}‏ فيه مسألة واحدة، وهي بيان التوكل‏.‏ والتوكل في اللغة إظهار العجز والاعتماد على الغير‏.‏ وواكل فلان إذا ضَيّع أمره متكلا على غيره‏.‏

واختلف العلماء في  حقيقة التوكل؛ فسئل عنه سهل بن عبدالله فقال‏:‏ قالت فرقة الرضا بالضمان، وقطع الطمع من المخلوقين‏.‏ وقال قوم‏:‏ التوكل ترك الأسباب والركون إلى مسبب الأسباب؛ فإذا شغله السبب عن المسبب زاد عنه اسم التوكل‏.‏ قال سهل‏:‏ من قال إن التوكل يكون بترك السبب فقد طعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله عز وجل يقول‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 69‏]‏ فالغنيمة اكتساب‏.‏ وقال تعالى‏{‏فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 12‏]‏ فهذا عمل‏.‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏إن الله يحب العبد المحترف‏)‏‏.‏ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرضون على السِرية‏.‏ وقال غيره‏:‏ وهذا قول عامة الفقهاء، وأن التوكل على الله هو الثقة بالله والإيقان بأن قضاءه ماض، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من الأسباب من مطعم ومشرب وتحرز من عدو وإعداد الأسلحة واستعمال ما تقتضيه سنة الله تعالى المعتادة‏.‏ وإلى هذا ذهب محققو الصوفية، لكنه لا يستحق اسم التوكل عندهم مع الطمأنينة إلى تلك الأسباب والالتفات إليها بالقلوب؛ فإنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا، بل السبب والمسبب فعل الله تعالى، والكل منه وبمشيئته؛ ومتى وقع من المتوكل ركون إلى تلك الأسباب فقد انسلخ عن ذلك الاسم‏.‏ ثم المتوكلون على حالين‏:‏ الأول‏:‏ حال المتمكن في التوكل فلا يلتفت إلى شيء من تلك الأسباب بقلبه، ولا يتعاطاه إلا بحكم الأمر‏.‏ الثاني‏:‏ حال غير المتمكن وهو الذي يقع له الالتفات إلى تلك الأسباب أحيانا غير أنه يدفعها عن نفسه بالطرق العلمية، والبراهين القطعية، والأذواق الحالية؛ فلا يزال كذلك إلى أن يرقيه الله بجوده إلى مقام المتوكلين المتمكنين، ويلحقه بدرجات العارفين‏.‏