فصل: الآية رقم ‏(‏ 133 ‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏ 133 ‏)‏

‏{‏وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين‏}‏

قوله تعالى‏{‏وربك الغني‏}‏ أي عن خلقه وعن أعمالهم‏.‏ ‏}‏ذو الرحمة‏}‏ أي بأوليائه وأهل طاعته‏.‏ ‏}‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ بالإماتة والاستئصال بالعذاب‏.‏ ‏}‏ويستخلف من بعدكم ما يشاء‏}‏ أي خلقا آخر أمثل منكم وأطوع‏.‏ ‏}‏كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين‏}‏ والكاف في موضع نصب، أي يستخلف من بعدكم ما يشاء استخلافا مثل ما أنشأكم، ونظيره ‏}‏إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين‏}‏النساء‏:‏ 133‏]‏‏.‏ ‏}‏وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم‏}‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏ فالمعنى يبدل غيركم مكانكم، كما تقول‏:‏ أعطيتك من دينارك ثوبا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 134 ‏)‏

‏{‏إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن ما توعدون لآت‏}‏ يحتمل أن يكون من ‏}‏أوعدت‏}‏ في الشر، والمصدر الإيعاد‏.‏ والمراد عذاب الآخرة‏.‏ ويحتمل أن يكون من ‏}‏وعدت‏}‏ على أن يكون المراد الساعة التي في مجيئها الخير والشر فغلب الخير‏.‏ روي معناه عن الحسن‏.‏ ‏}‏وما أنتم بمعجزين‏}‏ أي فائتين؛ يقال‏:‏ أعجزني فلان، أي فاتني وغلبني‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 135 ‏)‏

‏{‏قل يا قوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل يا قوم اعملوا على مكانتكم‏}‏ وقرأ أبو بكر بالجمع ‏}‏مكاناتكم‏}‏‏.‏ والمكانة الطريقة‏.‏ والمعنى اثبتوا على ما أنتم عليه فأنا أثبت على ما أنا عليه‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف يجوز أن يؤمروا بالثبات على ما هم عليه وهم كفار‏.‏ فالجواب أن هذا تهديد؛ كما قال عز وجل‏{‏فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا‏}‏التوبة‏:‏ 82‏]‏‏.‏ ودل عليه ‏}‏فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار‏}‏ أي العاقبة المحمودة التي يحمد صاحبها عليها، أي من له النصر في دار الإسلام، ومن له وراثة الأرض، ومن له الدار الآخرة، أي الجنة‏.‏ قال الزجاج‏{‏مكانتكم‏}‏ تمكنكم في الدنيا‏.‏ ابن عباس والحسن والنخعي‏:‏ على ناحيتكم‏.‏ القتبي‏:‏ على موضعكم‏.‏ ‏}‏إني عامل‏}‏ على مكانتي، فحذف لدلالة الحال عليه‏.‏ ‏}‏من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ ‏}‏ومن‏}‏ من قوله ‏}‏من تكون في موضع نصب بمعنى الذي؛ لوقوع العلم عليه‏.‏ ويجوز أن تكون في موضع رفع؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله فيكون الفعل معلفا‏.‏ أي تعلمون أينا تكون له عاقبة الدار؛ كقول‏{‏لنعلم أي الحزبين أحصى‏}‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏}‏من يكون‏}‏ بالياء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 136 ‏)‏

‏{‏وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون‏}‏

ويقال‏:‏ ذرأ يذرأ ذرءا، أي خلق‏.‏ وفي الكلام حذف واختصار، وهو وجعلوا لأصنامهم نصيبا؛ دل عليه ما بعده‏.‏ وكان هذا مما زينه الشيطان وسوله لهم، حتى صرفوا من ماله طائفة إلى الله بزعمهم وطائفة إلى أصنامهم؛ قاله ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة‏.‏ والمعنى متقارب‏.‏ جعلوا لله جزءا ولشركائهم جزءا، فإذا ذهب ما لشركائهم بالإنفاق عليها وعلى سدنتها عوضوا منه ما لله، وإذا ذهب ما لله بالإنقاق على الضيفان والمساكين لم يعوضوا منه شيئا، وقالوا‏:‏ الله مستغن عنه وشركاؤنا فقراء‏.‏ وكان هذا من جهالاتهم وبزعمهم‏.‏ والزعم الكذب‏.‏ قال شريح القاضي‏:‏ إن لكل شيء كنية وكنية الكذب زعموا‏.‏ وكانوا يكذبون في هذه الأشياء لأنه لم ينزل بذلك شرع‏.‏ وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال‏:‏ من أراد أن يعلم جهل العرب فليقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام إلى قوله‏{‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم‏}‏الأنعام‏:‏ 140‏]‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا الذي قاله كلام صحيح، فإنها تصرفت بعقولها العاجزة في تنويع الحلال والحرام سفاهة بغير معرفة ولا عدل، والذي تصرفت بالجهل فيه من اتخاذ الآلهة أعظم جهلا وأكبر جرما؛ فإن الاعتداء على الله تعالى أعظم من الاعتداء على المخلوقات‏.‏ والدليل في أن الله واحد في ذاته واحد في صفاته واحد في مخلوقاته أبين وأوضح من الدليل على أن هذا حلال وهذا حرام‏.‏ وقد روي أن رجلا قال لعمرو بن العاص‏:‏ إنكم على كمال عقولكم ووفور أحلامكم عبدتم الحجر‏!‏ فقال عمرو‏:‏ تلك عقول كادها باريها‏.‏ فهذا الذي أخبر الله سبحانه من سخافة العرب وجهلها أمر أذهبه الإسلام، وأبطله الله ببعثة الرسول عليه السلام‏.‏ فكان من الظاهر لنا أن نميته حتى لا يظهر، وننساه حتى لا يذكر؛ إلا أن ربنا تبارك وتعالى ذكره بنصه وأورده بشرحه، كما ذكر كفر الكافرين به‏.‏ وكانت الحكمة في ذلك - والله أعلم - أن قضاءه قد سبق، وحكمه قد نفذ بأن الكفر والتخليط لا ينقطعان إلى يوم القيامة‏.‏ وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي والأعمش والكسائي ‏}‏بزعمهم‏}‏ بضمه الزاي‏.‏ والباقون بفتحها، وهما لغتان‏.‏ ‏}‏فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله‏}‏ أي إلى المساكين‏.‏ ‏}‏ساء ما يحكمون‏}‏ أي ساء الحكم حكمهم‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ كانوا إذا ذبحوا ما لله ذكروا عليه اسم الأوثان، وإذا ذبحوا ما لأوثانهم لم يذكروا عليه اسم الله، فهذا معنى ‏}‏فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله‏}‏‏.‏ فكان تركهم لذكر الله مذموما منهم وكان داخلا في ترك أكل ما لم يذكر اسم الله عليه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 137 ‏)‏

‏{‏وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون‏}‏

قوله تعالى‏{‏وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم‏}‏ المعنى‏:‏ فكما زين لهؤلاء أن جعلوا لله نصيبا ولأصنامهم نصيبا كذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم‏.‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ زينت لهم قتل البنات مخافة العيلة‏.‏ قال الفراء والزجاج‏:‏ شركاؤهم ههنا هم الذين كانوا يخدمون الأوثان‏.‏ وقيل‏:‏ هم الغواة من الناس‏.‏ وقيل‏:‏ هم الشياطين‏.‏ وأشار بهذا إلى الوأد الخفي وهو دفن البنت حية مخافة السباء والحاجة، وعدم ما حرمن من النصرة‏.‏ وسمى الشياطين شركاء لأنهم أطاعوهم في معصية الله فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم‏.‏ وقيل‏:‏ كان الرجل في الجاهلية يحلف بالله لئن ولد له كذا وكذا غلاما لينحرن أحدهم؛ كما فعله عب المطلب حين نذر ذبح ولده عبدالله‏.‏ ثم قيل‏:‏ في الآية أربع قراءات، أصحها قراءة الجمهور‏{‏وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم‏}‏ وهذه قراءة أهل الحرمين وأهل الكوفة وأهل البصرة‏.‏ ‏}‏شركاؤهم‏}‏ رفع بـ ‏}‏زين‏}‏؛ لأنهم زينوا ولم يقتلوا‏.‏ ‏}‏قتل‏}‏ نصب بـ ‏}‏زين‏}‏ و‏}‏أولادهم‏}‏ مضاف إلى المفعول، والأصل في المصدر أن يضاف إلى الفاعل؛ لأنه أحدثه ولأنه لا يستغني عنه ويستغني عن المفعول؛ فهو هنا مضاف إلى المفعول لفظا مضاف إلى الفاعل معنى؛ لأن التقدير زين لكثير من المشركين قتلهم أولادهم شركاؤهم، ثم حذف المضاف وهو الفاعل كما حذف من قوله تعالى‏{‏لا يسأم الإنسان من دعاء الخير‏}‏فصلت‏:‏ 49‏]‏ أي من دعائه الخير‏.‏ فالهاء فاعلة الدعاء، أي لا يسأم الإنسان من أن يدعو بالخير‏.‏ وكذا قوله‏:‏ زين لكثير من المشركين في أن يقتلوا أولادهم شركاؤهم‏.‏ قال مكي‏:‏ وهذه القراءة هي الاختيار؛ لصحة الإعراب فيها ولأن عليها الجماعة‏.‏ القراءة الثانية ‏}‏زين‏}‏ ‏(‏بضم الزاي‏)‏‏.‏ ‏}‏لكثير من المشركين قتل‏}‏ ‏(‏بالرفع‏)‏‏.‏ ‏}‏أولادهم‏}‏ بالخفض ‏}‏شركاؤهم‏}‏ ‏(‏بالرفع‏)‏ قراءة الحسن‏.‏ ابن عامر وأهل الشام ‏}‏زين‏}‏ بضم الزاي ‏}‏لكثير من المشركين قتل أولادهم برفع ‏}‏قتل‏}‏ ونصب ‏}‏أولادهم‏}‏‏.‏ ‏}‏شركائهم‏}‏ بالخفض فيما حكى أبو عبيد؛ وحكى غيره عن أهل الشام أنهم قرؤوا ‏}‏وكذلك‏}‏ بضم الزاي ‏}‏لكثير من المشركين قتل بالرفع ‏}‏أولادهم‏}‏ بالخفض ‏}‏شركائهم‏}‏ بالخفض أيضا‏.‏ فالقراءة الثانية قراءة الحسن جائزة، يكون ‏}‏قتل‏}‏ اسم ما لم يسم فاعله، ‏}‏شركاؤهم‏}‏؛ رفع بإضمار فعل يدل عليه ‏}‏زين‏}‏، أي زينه شركاؤهم‏.‏ ويجوز على هذا ضرب زيد عمرو، بمعنى ضربه عمرو، وأنشد سيبويه‏:‏

لبيك يزيد ضارع لخصومة

أي يبكيه ضارع‏.‏ وقرأ ابن عامر وعاصم من رواية أبي بكر ‏}‏يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال‏}‏النور‏:‏ 36 - 37‏]‏ التقدير يسبحه رجال‏.‏ وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة ‏}‏قتل أصحاب الأخدود النار ذات الوقود‏}‏البروج‏:‏ 4 - 5‏]‏ بمعنى قتلهم النار‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأما ما حكاه أبو عبيد عن ابن عامر وأهل الشام فلا يجوز في كلام ولا في شعر، وإنما أجاز النحويون التفريق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف لأنه لا يفصل، فأما بالأسماء غير الظروف فلحن‏.‏ قال مكي‏:‏ وهذه القراءة فيها ضعف للتفريق بين المضاف والمضاف إليه؛ لأنه إنما يجوز مثل هذا التفريق في الشعر مع الظروف لاتساعهم فيها وهو في المفعول به في الشعر بعيد، فإجازته في القراءة أبعد‏.‏ وقال المهدوي‏:‏ قراءة ابن عامر هذه على التفرقة بين المضاف والمضاف إليه، ومثله قول الشاعر‏:‏

فزججتها بمزجة زج القلوص أبي مزادة

يريد‏:‏ زج أبي مزادة القلوص‏.‏ وأنشد‏:‏

تمر على ما تستمر وقد شفت غلائل عبدالقيس منها صدورها

يريد شقت عبدالقيس غلائل صدورها‏.‏ وقال أبو غانم أحمد بن حمدان النحوي‏:‏ قراءة ابن عامر لا تجوز في العربية؛ وهي زلة عالم، وإذا زل العالم لم يجز اتباعه، ورد قوله إلى الإجماع، وكذلك يجب أن يرد من زل منهم أو سها إلى الإجماع؛ فهو أولى من الإصرار على غير الصواب‏.‏ وإنما أجازوا في الضرورة للشاعر أن يفرق بين المضاف والمضاف إليه بالظرف؛ لأنه لا يفصل‏.‏ كما قال‏:‏

كما خط الكتاب بكف يوما يهودي يقارب أو يزيل

وقال آخر‏:‏

كأن أصوات من إيغالهن بنا أواخر الميس أصوات الفراريج

وقال آخر‏:‏

لما رأت ساتيدما استعبرت لله در اليوم من لامها

وقال القشيري‏:‏ وقال قوم هذا قبيح، وهذا محال، لأنه إذا ثبتت القراءة بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو الفصيح لا القبيح‏.‏ وقد ورد ذلك في كلام العرب وفي مصحف عثمان ‏}‏شركائهم‏}‏ بالياء وهذا يدل على قراءة ابن عامر‏.‏ وأضيف القتل في هذه القراءة إلى الشركاء؛ لأن الشركاء هم الذي زينوا ذلك ودعوا إليه؛ فالفعل مضاف إلى فاعله على ما يجب في الأصل، لكنه فرق بين المضاف والمضاف إليه؛ وقدم المفعول وتركه منصوبا على حاله؛ إذ كان متأخرا في المعنى، وأخر المضاف وتركه مخفوضا على حاله؛ إذ كان متقدما بعد القتل‏.‏ والتقدير‏:‏ وكذلك زين لكثير من المشركين قتل شركائهم أولادهم‏.‏ أي أن قتل شركاؤهم أولادهم‏.‏ قال النحاس‏:‏ فأما ما حكاه غير أبي عبيد ‏(‏وهي القراءة الرابعة‏)‏ فهو جائز‏.‏ على أن تبدل شركاءهم من أولادهم؛ لأنهم شركاؤهم في النسب والميراث‏.‏ ‏}‏ليردوهم‏}‏ اللام لام كي‏.‏ والإرداء الإهلاك‏.‏ ‏}‏وليلبسوا عليهم دينهم‏}‏ الذي ارتضى لهم‏.‏ أي يأمرونهم - بالباطل ويشككونهم في دينهم‏.‏ وكانوا على دين إسماعيل، وما كان فيه قتل الولد؛ فيصير الحق مغطى عليه؛ فبهذا يلبسون‏.‏ ‏}‏ولو شاء الله ما فعلوه‏}‏ بين تعالى أن كفرهم بمشيئة الله‏.‏ وهو رد على القدرية‏.‏ ‏}‏فذرهم وما يفترون‏}‏ يريد قولهم إن لله شركاء‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 138 ‏)‏

‏{‏وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون‏}‏

ذكر تعالى نوعا آخر من جهالتهم‏.‏ وقرأ أبان بن عثمان ‏}‏حجر‏}‏ بضم الحاء والجيم‏.‏ وقرأ الحسن وقتادة ‏}‏حجر‏}‏ بفتح الحاء وإسكان الجيم، لغتان بمعنى‏.‏ وعن الحسن أيضا ‏}‏حجر‏}‏ بضم الحاء‏.‏ قال أبو عبيد عن هارون قال‏:‏ كان الحسن يضم الحاء في ‏}‏حجر‏}‏ في جميع القرآن إلا في قوله‏{‏برزخا وحجرا محجورا‏}‏الفرقان‏:‏ 53‏]‏ فإنه كان يكسرها ههنا‏.‏ وروي عن ابن عباس وابن الزبير ‏}‏وحرث حرج‏}‏ الراء قبل الجيم؛ وكذا في مصحف أبي؛ وفيه قولان‏:‏ أحدهما أنه مثل جبذ وجذب‏.‏ والقول الآخر - وهو أصح - أنه من الحرج؛ فإن الحرج ‏(‏بكسر الحاء‏)‏ لغة في الحرج ‏(‏بفتح الحاء‏)‏ وهو الضيق والإثم؛ فيكون معناه الحرام‏.‏ ومنه فلان يتحرج أي يضيق على نفسه الدخول فيما يشتبه عليه من الحرام‏.‏ والحجر‏:‏ لفظ مشترك‏.‏ وهو هنا بمعنى الحرام، وأصله المنع‏.‏ وسمي العقل حجرا لمنعه عن القبائح‏.‏ وفلان في حجر القاضي أي منعه‏.‏ حجرت على الصبي حجرا‏.‏ والحجر العقل؛ قال الله تعالى‏{‏هل في ذلك قسم لذي حجر‏}‏الفجر‏:‏ 5‏]‏ والحجر الفرس الأنثى‏.‏ والحجر القرابة‏.‏ قال‏:‏

يريدون أن يقصوه عني وإنه لذو حسب دان إلي وذو حجر

وحجر الإنسان وحجره لغتان، والفتح أكثر‏.‏ أي حرموا أنعاما وحرثا وجعلوها لأصنامهم وقالوا‏{‏لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم‏}‏ وهم خدام الأصنام‏.‏ ثم بين أن هذا تحكم لم يرد به شرع؛ ولهذا قال‏{‏بزعمهم‏}‏‏.‏ ‏}‏وأنعام حرمت ظهورها‏}‏ يريد ما يسيبونه لآلهتهم على ما تقدم من النصيب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ المراد الجيرة والوصيلة والحام‏.‏ ‏}‏وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها‏}‏ يعني ما ذبحوه لآلهتهم‏.‏ قال أبو وائل‏:‏ لا يحجون عليها‏.‏ ‏}‏افتراء‏}‏ أي للافتراء ‏}‏على الله‏}‏؛ لأنهم كانوا يقولون‏:‏ الله أمرنا بهذا‏.‏ فهو نصب على المفعول له‏.‏ وقيل‏:‏ أي يفترون افتراء، وانتصابه لكونه مصدرا‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 139 ‏)‏

‏{‏وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا‏}‏ هذا نوع آخر من جهلهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو اللبن، جعلوه حلالا للذكور وحراما على الإناث‏.‏ وقيل‏:‏ الأجنة؛ قالوا‏:‏ إنها لذكورنا‏.‏ ثم إن مات منها شيء أكله الرجال والنساء‏.‏ والهاء في ‏}‏خالصة‏}‏ للمبالغة في الخلوص؛ ومثله رجل علامة ونسابة؛ عن الكسائي والأخفش‏.‏ و‏}‏خالصة‏}‏ بالرفع خبر المبتدأ الذي هو ‏}‏ما‏}‏‏.‏ وقال الفراء‏:‏ تأنيثها لتأنيث الأنعام‏.‏ وهذا القول عند قوم خطأ؛ لأن ما في بطونها ليس منها؛ فلا يشبه قوله ‏}‏يلتقطه بعض السيارة‏}‏يوسف‏:‏ 10‏]‏ لأن بعض السيارة سيارة، وهذا لا يلزم قال الفراء‏:‏ فان ما في بطون الأنعام أنعام مثلها؛ فأنث لتأنيثها، أي الأنعام التي في بطون الأنعام خالصة لذكورنا‏.‏ وقيل‏:‏ أي جماعة ما في البطون‏.‏ وقيل‏:‏ إن ‏}‏ما‏}‏ ترجع إلى الألبان أو الأجنة؛ فجاء التأنيث على المعنى والتذكير على اللفظ‏.‏ ولهذا قال ‏}‏ومحرم على أزواجنا‏}‏ على اللفظ‏.‏ ولو راعى المعنى لقال ومحرمة‏.‏ ويعضد هذا قراءة الأعمش ‏}‏خالص‏}‏ بغير هاء‏.‏ قال الكسائي‏:‏ معنى خالص وخالصة واحد، إلا أن الهاء للمبالغة؛ كما يقال‏.‏‏:‏ رجل داهية وعلامة؛ كما تقدم‏.‏ وقرأ قتادة ‏}‏خالصة‏}‏ بالنصب على الحال من الضمير في الظرف الذي هو صلة لـ ‏}‏ما‏}‏‏.‏ وخبر المبتدأ محذوف؛ كقولك‏:‏ الذي في الدار قائما زيد‏.‏ هذا مذهب البصريين‏.‏ وأنتصب عند الفراء على القطع‏.‏ وكذا القول في قراءة سعيد بن جبير ‏}‏خالصا‏}‏‏.‏ وقرأ ابن عباس ‏}‏خالصه‏}‏ على الإضافة فيكون ابتداء ثانيا؛ والخبر ‏}‏لذكورنا‏}‏ والجملة خبر ‏}‏ما‏}‏‏.‏ ويجوز أن يكون ‏}‏خالصه‏}‏ بدلا من ‏}‏ما‏}‏‏.‏ فهذه خمس قراءات‏.‏ ‏}‏ومحرم على أزواجنا‏}‏ أي بناتنا؛ عن ابن زيد‏.‏ وغيره‏:‏ نساؤهم‏.‏ ‏}‏وإن يكن ميتة‏}‏ قرئ بالياء والتاء؛ أي إن يكن ما في بطون الأنعام ميتة ‏}‏فهم فيه شركاء‏}‏ أي الرجال والنساء‏.‏ وقال ‏}‏فيه‏}‏ لأن المراد بالميتة الحيوان، وهي تقوي قراءة الياء، ولم يقل فيها‏.‏ ‏}‏ميتة‏}‏ بالرفع بمعنى تقع أو تحدث‏.‏ ‏}‏ميتة‏}‏ بالنصب؛ أي وإن تكن النسمة ميتة‏.‏ ‏}‏سيجزيهم وصفهم‏}‏ أي كذبهم وافتراءهم؛ أي يعذبهم على ذلك‏.‏ وانتصب ‏}‏وصفهم‏}‏ بنزع الخافض؛ أي بوصفهم‏.‏ وفي الآية دليل على أن العالم ينبغي له أن يتعلم قول من خالفه وإن لم يأخذ به، حتى يعرف فساد قول، ويعلم كيف يرد عليه؛ لأن الله تعالى أعلم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قول من خالفهم من أهل زمانهم، ليعرفوا فساد قولهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 140 ‏)‏

‏{‏قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين‏}‏

أخبر بخسرانهم لوأدهم البنات وتحريمهم البحيرة وغيرها بعقولهم؛ فقتلوا أولادهم سفها خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم ولم يخشوا الإملاق؛ فأبان ذلك عن تناقض رأيهم‏.‏

قلت‏:‏ إنه كان من العرب من يقتل ولده خشية الإملاق؛ كما ذكر الله عز وجل في غير هذا الموضع‏.‏ وكان منهم من يقتله سفها بغير حجة منهم في قتلهم؛ وهم ربيعة ومضر، وكانوا يقتلون بناتهم لأجل الحمية‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ الملائكة بنات الله؛ فألحقوا البنات بالبنات‏.‏ وروي أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يزال مغتما بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مالك تكون محزونا‏)‏‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، إن أذنبت ذنبا في الجاهلية فأخاف ألا يغفره الله لي وإن أسلمت‏!‏ فقال له‏:‏ ‏(‏أخبرني عن ذنبك‏)‏‏.‏ فقال‏:‏ يا رسول الله، إن كنت، من الذين يقتلون بناتهم، فولدت لي بنت فتشفعت إلي امرأتي أن أتركها فتركتها حتى كبرت وأدركت، وصارت من أجمل النساء فخطبوها؛ فدخلتني الحمية ولم يحتمل قلبي أن أزوجها أو أتركها في البيت بغير زوج، فقلت للمرأة‏:‏ إني أريد أن أذهب إلى قبيلة كذا وكذا في زيارة أقربائي فابعثيها معي، فسرت بذلك وزينتها بالثياب والحلي، وأخذت علي المواثيق بألا أخونها، فذهبت بها إلى رأس بئر فنظرت في البئر ففطنت الجارية أني أريد أن ألقيها في البئر؛ فالتزمتني وجعلت تبكي وتقول‏:‏ يا أبت‏!‏ إيش تريد أن تفعل بي‏!‏ فرحمتها، ثم نظرت في البئر فدخلت علي الحمية، ثم التزمتني وجعلت تقول‏:‏ يا أبت لا تضيع أمانة أمي؛ فجعلت مرة أنظر في البئر ومرة أنظر إليها فأرحمها، حتى غلبني الشيطان فأخذتها وألقيتها في البئر منكوسة، وهي تنادي في البئر‏:‏ يا أبت، قتلتني‏.‏ فمكثت هناك حتى انقطع صوتها فرجعت‏.‏ فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقال‏:‏ ‏(‏لو أمرت أن أعاقب أحدا بما فعل في الجاهلية لعاقبتك‏)‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 141 ‏)‏

‏{‏وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏}‏

قوله تعالى‏{‏أنشأ‏}‏ أي خلق‏.‏ ‏}‏جنات معروشات‏}‏ أي بساتين ممسوكات مرفوعات‏.‏ ‏}‏وغير معروشات‏}‏ غير مرفوعات‏.‏ قال ابن عباس‏{‏معروشات‏}‏ ما انبسط على الأرض مما يفرش مثل الكروم والزروع والبطيخ‏.‏ ‏}‏وغير معروشات‏}‏ ما قام على ساق مثل النخل وسائر الأشجار‏.‏ وقيل‏:‏ المعروشات ما ارتفعت أشجارها‏.‏ وأصل التعريش الرفع‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ المعروشات ما أثبته ورفعه الناس‏.‏ وغير المعروشات ما خرج في البراري والجبال من الثمار‏.‏ يدل عليه قراءة علي رضي الله عنه ‏}‏مغروسات وغير مغروسات‏}‏ بالغين المعجمة والسين المهملة‏.‏

قوله تعالى‏{‏والنخل والزرع‏}‏ أفردهما بالذكر وهما داخلان في الجنات لما فيهما من الفضيلة؛ على ما تقدم بيانه في ‏}‏البقرة‏}‏ عند قوله‏{‏من كان عدوا لله وملائكته‏}‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ الآية‏.‏

‏{‏مختلفا أكله‏}‏ يعني طعمه منه الجيد والدون‏.‏ وسماه أكلا لأنه يؤكل‏.‏ و‏}‏أكله‏}‏ مرفوع بالابتداء‏.‏ و‏}‏مختلفا‏}‏ نعته؛ ولكنه لما تقدم عليه وولي منصوبا نصب‏.‏ كما تقول‏:‏ عندي طباخا غلام‏.‏ قال‏:‏

الشر منتشر يلقاك عن عرض والصالحات عليها مغلقا باب

وقيل‏{‏مختلفا‏}‏ نصب على الحال‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ وهذه مسألة مشكلة من النحو؛ لأنه يقال‏:‏ قد أنشأها ولم يختلف أكلها وهو ثمرها؛ فالجواب أن الله سبحانه أنشأها بقول‏{‏خالق كل شيء‏}‏الأنعام‏:‏ 102‏]‏ فأعلم أنه أنشأها مختلفا أكلها؛ أي أنه أنشأها مقدرا فيه الاختلاف؛ وقد بين هذا سيبويه بقوله‏:‏ مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، على الحال؛ كما تقول؛ لتدخلن الدار آكلين شاربين؛ أي مقدرين ذلك‏.‏ جواب ثالث‏:‏ أي لما أنشأه كان مختلفا أكله، على معنى أنه لو كان له لكان مختلفا أكله‏.‏ ولم يقل أكلهما؛ لأنه اكتفى بإعادة الذكر على أحدهما؛ كقول‏{‏وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها‏}‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏ أي إليهما‏.‏ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏

قوله تعالى‏{‏والزيتون والرمان‏}‏ عطف عليه ‏}‏متشابها وغير متشابه‏}‏ نصب على الحال، وقد تقدم القول فيه‏.‏ وفي هذه أدلة ثلاثة؛ أحدها ما تقدم من قيام الدليل على أن المتغيرات لا بدلها من مغير‏.‏ الثاني على المنة منه سبحانه علينا؛ فلو شاء إذ خلقنا ألا يخلق لنا غذاء، إذ خلقه ألا يكون جميل المنظر طيب الطعم، وإذ خلقه كذلك ألا يكون سهل الجني؛ فلم يكن عليه أن يفعل ذلك ابتداء؛ لأنه لا يجب عليه شيء‏.‏ الثالث على القدرة في أن يكون الماء الذي من شأنه الرسوب يصعد بقدرة الله الواحد علام الغيوب من أسافل الشجرة إلى أعاليها، حتى إذا انتهى إلى آخرها نشأ فيها أوراق ليست من جنسها، وثمر خارج من صفته الجرم الوافر، واللون الزاهر، والجنى الجديد، والطعم اللذيذ؛ فأين الطبائع وأجناسها، وأين الفلاسفة وأناسها، هل في قدرة الطبيعة أن تتقن هذا الإتقان، أو ترتب هذا الترتيب العجيب‏!‏ كلا‏!‏ لا يتم ذلك في العقول إلا لحي عالم قدير مريد‏.‏ فسبحان من له في كل شيء آية ونهاية‏!‏

ووجه اتصال هذا بما قبله أن الكفار لما افتروا على الله الكذب وأشركوا معه وحللوا وحرموا دلهم على وحدانيته بأنه خالق الأشياء، وأنه جعل هذه الأشياء أرزاقا لهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ فهذان بناءان جاءا بصيغة أفعل، أحدهما مباح كقول‏{‏فانتشروا في الأرض‏}‏الجمعة‏:‏ 10‏]‏ والثاني واجب‏.‏ وليس يمتنع في الشريعة اقتران المباح والواجب، وبدأ بذكر نعمة الأكل قبل الأمر بإيتاء الحق ليبين أن الابتداء بالنعمة كان من فضله قبل التكليف‏.‏

قوله تعالى‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ اختلف الناس في تفسير هذا الحق، ما هو؛ فقال أنس بن مالك وابن عباس وطاوس والحسن وابن زيد وابن الحنفية والضحاك وسعيد بن المسيب‏:‏ هي الزكاة المفروضة، العشر ونصف العشر‏.‏ ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي‏.‏ وحكى الزجاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت بالمدينة‏.‏ وقال علي بن الحسين وعطاء والحكم وحماد وسعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ هو حق في المال سوى الزكاة، أم الله به ندبا‏.‏ وروي عن ابن عمر ومحمد بن الحنفية أيضا، ورواه أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ إذا حصدت فحضرك المساكين فاطرح لهم من السنبل، وإذا جذذت فألق لهم من الشماريخ، وإذا درسته ودسته وذريته فاطرح لهم منه، وإذا عرفت كيله فأخرج منه زكاته‏.‏ وقول ثالث هو منسوخ بالزكاة؛ لأن هذه السورة مكية وآية الزكاة لم تنزل إلا بالمدينة‏{‏خذ من أموالهم صدقة‏}‏التوبة‏:‏ 103‏]‏، ‏}‏وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة‏}‏البقرة‏:‏ 43‏]‏‏.‏ روي عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن وعطية العوفي والنخعي وسعيد بن جبير‏.‏ وقال سفيان‏:‏ سألت السدي عن هذه الآية فقال‏.‏ نسخها العشر ونصف العشر‏.‏ فقلت عمن‏؟‏ فقال عن العلماء‏.‏

وقد تعلق أبو حنيفة بهذه الآية وبعموم ما في قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بنضح أو دالية نصف العشر‏}‏ في إيجاب الزكاة في كل ما تنبت الأرض طعاما كان أو غيره‏.‏ وقال أبو يوسف عنه‏:‏ إلا الحطب والحشيش والقضب والتين والسعف وقصب الذريرة وقصب السكر‏.‏ وأباه الجمهور، معولين على أن المقصود من الحديث بيان ما يؤخذ منه العشر وما يؤخذ منه نصف العشر‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ لا اختلاف بين العلماء فيما علمت أن الزكاة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب‏.‏ وقالت طائفة‏:‏ لا زكاة في غيرها‏.‏ روي ذلك عن الحسن وابن سيرين والشعبي‏.‏ وقال به من الكوفيين ابن أبي ليلى والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك يحيى بن آدم، وإليه ذهب أبو عبيد‏.‏ وروي ذلك عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مذهب أبي موسى، فإنه كان لا يأخذ الزكاة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب؛ ذكره وكيع عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبيه‏.‏ وقال مالك وأصحابه‏:‏ الزكاة واجبة في كل مقتات مدخر؛ وبه قال الشافعي‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إنما تجب الزكاة فيما ييبس يدخر في كل مقتات مأكولا‏.‏ ولا شيء في الزيتون لأنه إدام‏.‏ وقال أبو ثور مثله‏.‏ وقال أحمد أقوالا أظهرها أن الزكاة إنما تجب في كل ما قال أبو حنيفة إذا كان يوسق؛ فأوجبها في اللوز لأنه مكيل دون الجوز لأنه معدود‏.‏ واحتج بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة‏)‏ قال‏:‏ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن محل الواجب هو الوسق، وبين المقدار الذي يجب إخراج الحق منه‏.‏ وذهب النخعي إلى أن الزكاة واجبة في كل ما أخرجته الأرض، حتى في عشر دساتج من بقل دستجة بقل‏.‏ وقد اختلف عنه في ذلك، وهو قول عمر بن عبدالعزيز فإنه كتب أن يؤخذ مما تنبت الأرض من قليل أو كثير العشر؛ ذكره عبدالرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل، قال‏:‏ كتب عمر‏.‏‏.‏‏.‏؛ فذكره‏.‏ وهو قول حماد بن أبي سليمان وتلميذه أبي حنيفة‏.‏ وإلى هذا مال ابن العربي في أحكامه فقال‏:‏ وأما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، وأخذ يعضد مذهب الحنفي ويقويه‏.‏ وقال في كتاب (1)‏ فقال‏:‏ قال الله تعالى‏{‏والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه‏}‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏ واختلف الناس في وجوب الزكاة في جميع ما تضمنته أو بعضه، وقد بينا ذلك، في ‏(‏الأحكام‏)‏ لبابه، أن الزكاة إنما تتعلق بالمقتات كما بينا دون الخضراوات؛ وقد كان بالطائف الرمان والفرسك والأترج فما اعترضه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ذكره ولا أحد من خلفائه‏.‏

قلت‏:‏ هذا وإن لم يذكره في الأحكام هو الصحيح في المسألة، وأن الخضراوات ليس فيها شيء‏.‏ وأما الآية فقد اختلف فيها، هل هي محكمة أو منسوخة أو محمولة على الندب‏.‏ ولا قاطع يبين أحد محاملها، بل القاطع المعلوم ما ذكره ابن بكير في أحكامه‏:‏ أن الكوفة افتتحت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وبعد استقرار الأحكام في المدينة، أفيجوز أن يتوهم متوهم أو من له أدنى بصيرة أن تكون شريعة مثل هذه عطلت فلم يعمل بها في دار الهجرة ومستقر الوحي ولا في خلافة أبي بكر، حتى عمل بذلك الكوفيون‏؟‏‏.‏ إن هذه لمصيبة فيمن ظن هذا وقال به‏!‏

قلت‏:‏ ومما يدل على هذا من معنى التنزيل قوله تعالى‏{‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته‏}‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ أتراه يكتم شيئا أمر بتبليغه أو ببيانه‏؟‏ حاشاه عن ذلك وقال تعالى‏{‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ ومن كمال الدين كونه لم يأخذ من الخضراوات شيئا‏.‏ وقال جابر بن عبدالله فيما رواه الدارقطني‏:‏ إن المقاثئ كانت تكون عندنا تخرج عشرة آلاف فلا يكون فيها شيء‏.‏ وقال الزهري والحسن‏:‏ تزكى أثمان الخضر إذا بيعت وبلغ الثمن مائتي درهم؛ وقاله الأوزاعي في ثمن الفواكه‏.‏ ولا حجة في قولهما لما ذكرنا‏.‏ وقد روى الترمذي عن معاذ أنه كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الخضراوات وهي البقول فقال‏:‏ ‏(‏ليس فيها شيء‏)‏‏.‏ وقد روي هذا المعنى عن جابر وأنس وعلي ومحمد بن عبدالله بن جحش وأبي موسى وعائشة‏.‏ ذكر أحاديثهم الدار قطني رحمه الله‏.‏ قال الترمذي‏:‏ ليس يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء‏.‏ واحتج بعض أصحاب أبي حنيفة بحديث صالح بن موسى عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فيما أنبتت الأرض من الخضر زكاة‏)‏‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وهذا حديث لم يروه من ثقات أصحاب منصور أحد هكذا، وإنما هو من قول إبراهيم‏.‏

قلت‏:‏ وإذا سقط الاستدلال من جهة السنة لضعف أسانيدها فلم يبق إلا ما ذكرناه من تخصيص عموم الآية، وعموم قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏فيما سقت السماء العشر‏)‏ ما ذكرنا‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمد‏:‏ ليس في شيء من الخضر زكاة إلا ما كانت له ثمرة باقية، سوى الزعفران ونحوه مما يوزن ففيه الزكاة‏.‏ وكان محمد يعتبر في العصفر والكتان البزر، فإذا بلغ بزرهما من القرطم والكتان خمسة أوسق كان العصفر والكتان تبعا للبزر، وأخذ منه العشر أو نصف العشر‏.‏ وأما القطن فليس فيه عنده دون خمسة أحمال شيء؛ والحمل ثلاثمائة من بالعراقي‏.‏ والورس والزعفران ليس فيما دون خمسة أمنان منها شيء‏.‏ فإذا بلغ أحدهما خمسة أمنان كانت فيه الصدقة، عشرا أو نصف، العشر‏.‏ وقال أبو يوسف‏:‏ وكذلك قصب السكر الذي يكون منه السكر، ويكون في أرض العشر دون أرض الخراج، فيه ما في الزعفران‏.‏ وأوجب عبدالملك بن الماجشون الزكاة في أصول الثمار دون البقول‏.‏ وهذا خلاف ما عليه مالك وأصحابه، لا زكاة عندهم لا في اللوز ولا في الجوز ولا في الجلوز وما كان مثلها، وإن كان ذلك يدخر‏.‏ كما أنه لا زكاة عندهم في الإجاص ولا في التفاح ولا في الكمثرى، ولا ما كان مثل ذلك كله مما لا ييبس ولا يدخر‏.‏ واختلفوا في التين؛ والأشهر عند أهل المغرب ممن يذهب مذهب مالك أنه لا زكاة عندهم في التين‏.‏ إلا عبدالملك بن حبيب فإنه كان يرى فيه الزكاة على مذهب مالك، قياسا على التمر والزبيب‏.‏ وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم البغداد بين المالكيين، إسماعيل بن إسحاق ومن اتبعه‏.‏ قال مالك في الموطأ‏:‏ السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم، أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة‏:‏ الرمان والفرسك والتين وما أشبه ذلك‏.‏ وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ فأدخل التين في هذا الباب، وأظنه ‏(‏والله أعلم‏)‏ لم يعلم بأنه ييبس ويدخر ويقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب؛ لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان‏.‏ وقد بلغني عن الأبهري وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، ويرونه مذهب مالك على أصوله عندهم‏.‏ والتين مكيل يراعى فيه الخمسة الأوسق وما كان مثلها وزنا، ويحكم في التين عندهم بحكم التمر والزبيب المجتمع عليهما‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما وكانا قوتا بالحجاز يدخر‏.‏ قال‏:‏ وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما؛ لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة‏.‏ ولا زكاة في الزيتون، لقوله تعالى‏{‏والزيتون والرمان‏}‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏‏.‏ فقرنه مع الرمان، ولا زكاة فيه‏.‏ وأيضا فإن التين أنفع منه في القوت ولا زكاة فيه‏.‏ وللشافعي قول بزكاة الزيتون قاله بالعراق، والأول قال بمصر؛ فاضطرب قول الشافعي في الزيتون، ولم يختلف فيه قول مالك‏.‏ فدل على أن الآية محكمة عندهما غير منسوخة‏.‏ واتفقا جميعا على أن لا زكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ فإن كان الرمان خرج باتفاق فقد بان بذلك المراد بأن الآية ليست على عمومها، وكان الضمير عائدا على بعض المذكور دون بعض‏.‏ والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ بهذا استدل من أوجب العشر في الخضراوات فإنه تعالى قال‏{‏وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏ والمذكور قبله الزيتون والرمان، والمذكور عقيب‏.‏ جملة ينصرف إلى الأخير بلا خلاف؛ قال الكيا الطبري‏.‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ ما لقحت رمانة قط إلا بقطرة من ماء الجنة‏.‏ وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال‏:‏ إذا أكلتم الرمانة فكلوها بشحمها فإنه دباغ المعدة‏.‏ وذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق عن ابن عباس قال‏:‏ لا تكسروا الرمانة من رأسها فإن فيها دودة يعتري منها الجذام‏.‏ وسيأتي منافع زيت الزيتون في سورة ‏}‏المؤمنون‏}‏ إن شاء الله تعالى‏.‏ وممن قال بوجوب زكاة الزيتون الزهري والأوزاعي والليث والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور‏.‏ قال الزهري والأوزاعي والليث‏:‏ يخرص زيتونا ويؤخذ زيتا صافيا‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا يخرص، ولكن يؤخذ العشر بعد أن يعصر ويبلغ كيله خمسة أوسق‏.‏ وقال أبو حنيفة والثوري‏:‏ يؤخذ من حبه‏.‏

قوله تعالى‏{‏يوم حصاده‏}‏ قرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم ‏}‏حصاده‏}‏ بفتح الحاء، والباقون بكسرها، وهما لغتان مشهورتان؛ ومثله الصرام والصرام والجذاذ والجذاذ والقطاف والقطاف واختلف العلماء في وقت الوجوب على ثلاثة أقوال‏:‏

الأولى‏:‏ أنه وقت الجذاذ؛ قال محمد بن مسلمة؛ لقوله تعالى‏{‏يوم حصاده‏}‏‏.‏

الثاني‏:‏ يوم الطيب؛ لأن ما قبل الطيب يكون علفا لا قوتا ولا طعاما؛ فإذا طاب وحان الأكل الذي أنعم الله به وجب الحق الذي أمر الله به، إذ بتمام النعمة يجب شكر النعمة، ويكون الإيتاء الحصاد لما قد وجب يوم الطيب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه يكون بعد تمام الخرص؛ لأنه حينئذ يتحقق الواجب فيه من الزكاة فيكون شرطا لوجوبها‏.‏ أصله مجيء الساعي في الغنم؛ وبه قال المغيرة‏.‏ والصحيح الأول لنص التنزيل‏.‏ والمشهور من المذهب الثاني، وبه قال الشافعي‏.‏ وفائدة الخلاف إذا مات بعد الطيب زكيت على ملكه، أو قبل الخرص على ورثته‏.‏ وقال محمد بن مسلمة‏:‏ إنما قدم الخرص توسعة على أرباب الثمار، ولو قدم رجل زكاته بعد الخرص وقبل الجذاذ لم يجزه؛ لأنه أخرجها قبل وجوبها‏.‏ وقد اختلف العلماء في القول بالخرص فكرهه الثوري ولم يجزه بحال، وقال‏:‏ الخرص غير مستعمل‏.‏ قال‏:‏ وإنما على رب الحائط أن يؤدي عشر ما يصير في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق‏.‏ وروى الشيباني عن الشعبي أنه قال‏:‏ الخرص اليوم بدعة‏.‏ والجمهور على خلاف هذا، ثم اختلفوا فالمعظم على جوازه في النخل والعنب؛ لحديث عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه وأمره أن يخرص العنب كما يخرص النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ زكاة النخل تمرا‏.‏ رواه أبو داود‏.‏ وقال داود بن علي‏:‏ الخرص للزكاة جائز في النخل، وغير جائز في العنب؛ ودفع حديث عتاب بن أسيد لأنه منقطع ولا يتصل من طريق صحيح، قال أبو محمد عبدالحق‏.‏

وصفة الخرص أن يقدر ما على نخله رطبا ويقدر ما ينقص لو يتمر، ثم يعتد بما بقي بعد النقص ويضيف بعض ذلك إلى بعض حتى يكمل الحائط، وكذلك في العنب في كل دالية‏.‏

ويكفي في الخرص الواحد كالحاكم‏.‏ فإذا كان في التمر زيادة على ما خرص لم يلزم رب الحائط الإخراج عنه، لأنه حكم قد نفذ؛ قال عبدالوهاب‏.‏ وكذلك إذا نقصى لم تنقص الزكاة‏.‏ قال الحسن‏:‏ كان المسلمون يخرص عليهم ثم يؤخذ منهم على ذلك الخرص‏.‏

فإن استكثر رب الحائط الخرص خيره الخارص في أن يعطيه ما خرص وأخذ خرصه؛ ذكره عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول‏:‏ خرص ابن رواحة أربعين ألف وسق، وزعم أن اليهود لما خيرهم أخذوا التمر وأعطوه عشرين ألف وسق‏.‏ قال ابن جريج فقلت لعطاء‏:‏ فحق على الخارص إذا استكثر سيد المال الخرص أن يخيره كما خير ابن رواحة اليهود‏؟‏ قال‏:‏ أي لعمري‏!‏ وأي سنة خير من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولا يكون الخرص إلا بعد الطيب؛ لحديث عائشة قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث ابن رواحة إلى اليهود فيخرص عليهم النخل حين تطيب أول التمرة قبل أن يؤكل منها، ثم يخير يهودا يأخذونها بذلك الخرص أو يدفعونها إليه‏.‏ وإنما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفرق‏.‏ أخرجه الدار قطني من حديث ابن جريج عن الزهري عن عروة عن عائشة‏.‏ قال‏:‏ ورواه صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة، وأرسله مالك ومعمر وعقيل عن الزهري عن سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

فإذا خرص الخارص فحكمه أن يسقط من خرصه مقدارا ما؛ لما رواه أبو داود والترمذي والبستي في صحيحه عن سهل بن أبي حثمة أن النبي كان يقول‏:‏ ‏(‏إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع‏)‏‏.‏ لفظ الترمذي‏.‏ قال أبو داود‏:‏ الخارص يدع الثلث للخرفة‏:‏ وكذا قال يحيى القطان‏.‏ وقال أبو حاتم البستي‏:‏ لهذا الخبر صفتان‏:‏ أحدهما أن يترك الثلث أو الربع من العشر، والثاني أن يترك ذلك من نفس التمر قبل أن يعشر، إذا كان ذلك حائطا كبيرا يحتمله‏.‏ الخرفة بضم الخاء‏:‏ ما يخترف من النخل حين يدرك ثمره، أي يجتنى‏.‏ يقال‏:‏ التمر خرفة الصائم؛ عن الجوهري والهروي‏.‏ والمشهور من مذهب مالك أنه لا يترك الخارص شيئا في حين خرصه من تمر النخل والعنب إلا خرصه‏.‏ وقد روى بعض المدنيين أنه يخفف في الخرص ويترك للعرايا والصلة ونحوها‏.‏

فإن لحقت الثمرة جائحة بعد الخرص وقبل الجذاذ سقطت الزكاة عنه بإجماع من أهل العلم، إلا أن يكون فيما بقي منه خمسة أوسق فصاعدا‏.‏

ولا زكاة في أقل من خمسة أوسق، كذا جاء مبينا عن النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهو في الكتاب مجمل، قال الله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض‏}‏البقرة‏:‏ 267‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏وآتوا حقه‏}‏‏.‏ ثم وقع البيان بالعشر ونصف العشر‏.‏ ثم لما كان المقدار الذي إذا بلغه المال أخذ منه الحق مجملا بينه أيضا فقال‏:‏ ‏(‏ليس فيما دون خمسة أوسق من تمر أو حب صدقة‏)‏ وهو ينفي الصدقة في الخضراوات، إذ ليست مما يوسق؛ فمن حصل له خمسة أوسق في نصيبه من تمر أو حب وجبت عليه الزكاة، وكذلك من زبيب؛ وهو المسمى بالنصاب عند العلماء‏.‏ يقال‏:‏ وسق ووسق ‏(‏بكسر الواو وفتحها‏)‏ وهو ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي ومبلغ الخمسة الأوسق من الأمداد ألف مد ومائتا مد، وهي بالوزن ألف رطل وستمائة رطل‏.‏

ومن حصل له من تمر وزبيب معا خمسة أوسق لم تلزمه الزكاة إجماعا؛ لأنهما صنفان مختلفان‏.‏ وكذلك أجمعوا على أنه لا يضاف التمر إلى البر ولا البر إلى الزبيب؛ ولا الإبل إلى البقر، ولا البقر إلى الغنم‏.‏ ويضاف الضأن إلى المعز بإجماع‏.‏ واختلفوا في ضم البر إلى الشعير والسلت فأجازه مالك في هذه الثلاثة خاصة فقط؛ لأنها في معنى الصنف الواحد لتقاربها في المنفعة واجتماعها في المنبت والمحصد، وافتراقها في الاسم لا يوجب افتراقها في الحكم كالجواميس والبقر، والمعز والغنم‏.‏ وقال الشافعي وغيره‏:‏ لا يجمع بينها؛ لأنها أصناف مختلفة، وصفاتها متباينة، وأسماؤها متغايرة، وطعمها مختلف؛ وذلك يوجب افتراقها‏.‏ والله أعلم‏.‏ قال مالك‏:‏ والقطاني كلها صنف واحد، يضم إلى بعض‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ لا يضم حبة عرفت باسم منفرد دون صاحبتها، وهي خلافها مباينه في الخلقة والطعم إلى غيرها‏.‏ يضم كل صنف بعضه إلى بعض، رديئه إلى جيده؛ كالتمر وأنواعه، والزبيب أسوده وأحمره، والحنطة وأنواعها من السمراء وغيرها‏.‏ وهو قول الثوري وأبي حنيفة وصاحبيه أبي يوسف ومحمد وأبي ثور‏.‏ وقال الليث‏:‏ تضم الحبوب كلها‏:‏ القطنية وغيرها بعضها إلى بعض في الزكاة‏.‏ وكان أحمد بن حنبل يجبن عن ضم الذهب إلى الورق، وضم الحبوب بعضها إلى بعض، ثم كان في آخر أمره يقول فيها بقول الشافعي‏.‏

قال مالك‏:‏ وما استهلكه منه ربه بعد بدو صلاحه أو بعدما أفرك حسب عليه، وما أعطاه ربه منه في حصاده وجذاذه، ومن الزيتون في التقاطه، تحرى ذلك وحسب عليه‏.‏ وأكثر الفقهاء يخالقونه في ذلك، ولا يوجبون الزكاة إلا فيما حصل في يده بعد الدرس‏.‏ قال الليث في زكاة الحبوب‏:‏ يبدأ بها قبل النفقة، وما أكل من فريك هو وأهله فلا يحسب عليه، بمنزلة الذي يترك لأهل الحائط يأكلونه فلا يخرص عليهم‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله رطبا، لا يخرصه عليهم‏.‏ وما أكله وهو رطب لم يحسب عليه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ احتج الشافعي ومن وافقه بقول الله تعالى‏{‏كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده‏}‏‏.‏ واستدلوا على أنه لا يحتسب بالمأكول قبل الحصاد بهذه الآية‏.‏ واحتجوا بقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إذا خرصتم فدعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع‏)‏‏.‏ وما أكلت الدواب والبقر منه عند الدرس لم يحسب منه شيء على صاحبه عند مالك وغيره‏.‏

وما بيع من الفول والحمص والجلبان أخضر؛ تحري مقدار ذلك يابسا وأخرجت زكاته حبا‏.‏ وكذا ما بيع من الثمر أخضر أعتبر وتوخي وخرص يابسا وأخرجت زكاته على ذلك الخرص زبيبا وتمرا‏.‏ وقيل‏:‏ يخرج من ثمنه‏.‏

وأما ما لا يتتمر من ثمر النخل ولا يتزبب من العنب كعنب مصر وبلحها، وكذلك زيتونها الذي لا يعصر، فقال مالك‏:‏ تخرج زكاته من ثمنه، لا يكلف غير ذلك صاحبه، ولا يراعى فيه بلوغ ثمنه عشرين مثقالا أو مائتي درهم، وإنما ينظر إلى ما يرى أنه يبلغه خمسة أوسق فأكثر‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يخرج عشره أو نصف عشره من وسطه تمرا إذا أكله أهله رطبا أو أطعموه‏.‏

روى أبو داود عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فيما سقت السماء والأنهار والعيون أو كان بعلا العشر، وفيما سقي بالسواني أو النضح نصف العشر وكذلك إن كان يشرب سيحا فيه العشر‏)‏‏.‏ وهو الماء الجاري على وجه الأرض؛ قال ابن السكيت‏.‏ ولفظ السيح مذكور في الحديث، خرجه النسائي‏.‏ فإن كان يشرب بالسيح لكن رب الأرض لا يملك ماء وإنما يكتريه له فهو كالسماء؛ على المشهور من المذهب‏.‏ ورأى أبو الحسن اللخمي أنه كالنضح؛ فلو سقي مرة بماء السماء ومرة بدالية؛ فقال مالك‏:‏ ينظر إلى ما تم به الزرع وحيي وكان أكثر؛ فيتعلق الحكم عليه‏.‏ هذه رواية ابن القاسم عنه‏.‏ وروى عنه ابن وهب‏:‏ إذا سقي نصف سنة بالعيون ثم انقطع فسقي بقية السنة بالناضح فإن عليه نصف زكاته عشرا، والنصف الآخر نصف العشر‏.‏ وقال مرة‏:‏ زكاته بالذي تمت به حياته‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ يزكى واحد منهما بحسابه‏.‏ مثاله أن يشرب شهرين بالنضح وأربعة بالسماء؛ فيكون فيه ثلثا العشر لماء السماء وسدس العشر للنضح‏!‏ وهكذا ما زاد ونقصى بحساب‏.‏ وبهذا كان يفتي بكار بن قتيبة‏.‏ وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ ينظر إلى الأغلب فيزكى، ولا يلتفت إلى ما سوى ذلك‏.‏ وروي عن الشافعي‏.‏ قال الطحاوي‏:‏ قد اتفق الجميع على أنه لو سقاه بماء المطر يوما أو يومين أنه لا اعتبار به، ولا يجعل لذلك حصة؛ فدل على أن الاعتبار بالأغلب، والله أعلم‏.‏

قلت‏:‏ فهذه جملة من أحكام هذه الآية، ولعل غيرنا يأتي بأكثر منها على ما يفتح الله له‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة‏}‏ جملة من معنى هذه الآية، والحمد لله‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ليس في حب ولا تمر صدقة‏)‏ فخرجه النسائي‏.‏ قال حمزة الكناني‏:‏ لم يذكر في هذا الحديث ‏(‏في حب‏)‏ غير إسماعيل بن أمية، وهو ثقة قرشي من ولد سعيد بن العاص‏.‏ قال‏:‏ وهذه السنة لم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه غير أبي سعيد الخدري‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ هو كما قال حمزة، وهذه سنة جليلة تلقاها الجميع بالقبول، ولم يروها أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه ثابت محفوظ غير أبي سعيد‏.‏ وقد روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، ولكنه غريب، وقد وجدناه من حديث أبي هريرة بإسناد حسن‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ الإسراف في اللغة الخطأ‏.‏ وقال أعرابي أراد قوما‏:‏ طلبتكم فسرفتكم؛ أي أخطأت موضعكم‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

وقال قائلهم والخيل تخبطهم أسرفتم فأجبنا أننا سرف

والإسراف في النفقة‏:‏ التبذير‏.‏ ومسرف لقب مسلم بن عقبة المري صاحب وقعة الحرة؛ لأنه قد أسرف فيها‏.‏ قال علي بن عبدالله بن العباس‏:‏

هم منعوا ذماري يوم جاءت كتائب مسرف وبني اللكيعه

والمعنى المقصود من الآية‏:‏ لا تأخذوا الشيء بغير حقه ثم تضعوه في غير حقه؛ قاله أصبغ بن الفرج‏.‏ ونحوه قول إياس بن معاوية‏:‏ ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ هو خطاب للولاة، يقول‏:‏ لا تأخذوا فوق حقكم وما لا يجب على الناس‏.‏ والمعنيان يحتملهما قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏المعتدي في الصدقة كمانعها‏)‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا‏.‏ وفي هذا المعنى قيل لحاتم‏:‏ لا خير في السرف؛ فقال‏:‏ لا سرف في الخير‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ضعيف؛ يرده ما روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فجذها ثم قسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا؛ فنزلت ‏}‏ولا تسرفوا‏}‏ أي لا تعطوا كله‏.‏ وروى عبدالرزاق عن ابن جريج قال‏:‏ جذ معاذ بن جبل نخله فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منه شي‏:‏ فنزل ‏}‏ولا تسرفوا‏}‏‏.‏ قال السدي‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء‏.‏ وروي عن معاوية بن أبي سفيان أنه سئل عن قوله تعالى‏{‏ولا تسرفوا‏}‏ قال‏:‏ الإسراف ما قصرت عن حق الله تعالى‏.‏

قلت‏:‏ فعلى هذا تكون الصدقة بجميع المال ومنه إخراج حق المساكين داخلين، في حكم السرف، والعدل خلاف هذا؛ فيتصدق ويبقي كما قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى‏)‏ إلا أن يكون قوي النفس غنيا بالله متوكلا عليه منفردا لا عيال له، فله أن يتصدق بجميع ماله، وكذلك يخرج الحق الواجب عليه من زكاة وما يعن في بعض الأحوال من الحقوق المتعينة في المال‏.‏ وقال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم‏:‏ الإسراف ما لم يقدر على رده إلى الصلاح‏.‏ والسرف ما يقدر على رده إلى الصلاح‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ الإسراف التبذير والإفراط، والسرف الغفلة والجهل‏.‏ قال جرير‏:‏

أعطوا هنيدة يحدوها ثمانية ما في عطائهم من ولا سرف

أي إغفال، ويقال‏:‏ خطأ‏.‏ ورجل سرف الفؤاد، أي مخطئ الفؤاد غافله‏.‏ قال طرفة‏:‏

إن امرأ سوف الفؤاد يرى عسلا بماء سحابة شتمي

 الآية رقم ‏(‏ 142 ‏)‏

‏{‏ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ومن الأنعام حمولة وفرشا‏}‏ عطف على ما تقدم‏.‏ أي وأنشأ حمولة وفرشا من الأنعام‏.‏ وللعلماء في الأنعام ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أن الأنعام الإبل خاصة؛ وسيأتي في ‏}‏النحل‏}‏ بيانه‏.‏ الثاني‏:‏ أن الأنعام الإبل وحدها، وإذا كان معها بقر وغنم فهي أنعام أيضا‏.‏ الثالث‏:‏ وهو أصحها قال أحمد بن يحيى‏:‏ الأنعام كل ما أحله الله عز وجل من الحيوان‏.‏ ويدل على صحة هذا قوله تعالى‏{‏أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم‏}‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ وقد تقدم‏.‏ والحمولة ما أطاق الحمل والعمل؛ عن ابن مسعود وغيره‏.‏ ثم قيل‏:‏ يختص اللفظ بالإبل‏.‏ وقيل‏:‏ كل ما احتمل عليه الحي من حمار أو بغل أو بعير؛ عن أبي زيد، سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن‏.‏ قال عنترة‏:‏

ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الحمحم

وفعولة بفتح الفاء إذا كانت بمعنى الفاعل استوى فيها المؤنث والمذكر؛ نحو قولك‏:‏ رجل فروقة وامرأة فروقة للجبان والخائف‏.‏ ورجل صرورة وامرأة صرورة إذا لم يحجا؛ ولا جمع له‏.‏ فإذا كانت بمعنى المفعول فرق بين المذكر والمؤنث بالهاء كالحلوبة والركوبة‏.‏ والحمولة ‏(‏بضم الحاء‏)‏‏:‏ الأحمال‏.‏ وأما الحمول ‏(‏بالضم بلا هاء‏)‏ فهي الإبل التي عليها الهوادج، كان فيها نساء أو لم يكن؛ عن أبي زيد‏.‏ ‏}‏وفرشا‏}‏ قال الضحاك‏:‏ الحمولة من الإبل والبقر‏.‏ والفرش‏:‏ الغنم‏.‏ النحاس‏:‏ واستشهد لصاحب هذا القول بقول‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ قال‏{‏فثمانية‏}‏ بدل من قوله‏{‏حمولة وفرشا‏}‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ الحمولة الإبل‏.‏ والفرش‏:‏ الغنم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الحمولة كل ما حمل من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير‏.‏ والفرش‏:‏ الغنم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ الحمولة ما يركب، والفرش ما يؤكل لحمه ومحلب؛ مثل الغنم والفصلان والعجاجيل؛ سميت فرشا للطافة أجسامها وقربها من الفرش، وهي الأرض المستوية التي يتوطؤها الناس‏.‏ قال الراجز‏:‏

أورثني حمولة وفرشا أمشها في كل يوم مشا

وقال آخر‏:‏

وحوينا الفرش من أنعامكم والحمولات وربات الحجل

قال الأصمعي‏:‏ لم أسمع له بجمع‏.‏ قال‏:‏ ويحتمل أن يكون مصدرا سمي به؛ من قولهم‏:‏ فرشها الله فرشا، أي بثها بثا‏.‏ والفرش‏:‏ المفروش من متاع البيت‏.‏ والفرش‏:‏ الزرع إذا فرش‏.‏ والفرش‏:‏ الفضاء الواسع‏.‏ والفرش في رجل البعير‏:‏ اتساع قليل، وهو محمود‏.‏ وافترش الشيء أنبسط؛ فهو لفظ مشترك‏.‏ وقد يرجع قوله تعالى‏{‏وفرشا‏}‏ إلى هذا‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومن أحسن ما قيل فيهما أن الحمولة المسخرة المذللة للحمل‏.‏ والفرش ما خلقه الله عز وجل من الجلود والصوف مما يجلس ويتمهد‏.‏ وباقي الآية قد تقدم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 143 ‏:‏ 144 ‏)‏

‏{‏ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏

قوله تعالى‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ ‏}‏ثمانية‏}‏ منصوب بفعل مضمر، أي وأنشأ ‏}‏ثمانية أزواج‏}‏؛ عن الكسائي‏.‏

وقال الأخفش سعيد‏:‏ هو منصوب على البدل من ‏}‏حمولة وفرشا‏}‏‏.‏ وقال الأخفش علي بن سليمان‏:‏ يكون منصوبا ‏}‏بكلوا‏}‏؛ أي كلوا لحم ثمانية أزواج‏.‏ ويجوز أن يكون منصوبا على البدل من ‏}‏ما‏}‏ على الموضع‏.‏ ويجوز أن يكون منصوبا بمعنى كلوا المباح ‏}‏ثمانية أزواج من الضأن اثنين‏}‏‏.‏ ونزلت الآية في مالك بن عوف وأصحابه حيث قالوا‏{‏ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا‏}‏ فنبه الله عز وجل نبيه والمؤمنين بهذه الآية على ما أحله لهم؛ لئلا يكونوا بمنزلة من حرم ما أحله الله تعالى‏.‏ والزوج خلاف الفرد؛ يقال‏:‏ زوج أو فرد‏.‏ كما يقال‏:‏ خسا أو زكا، شفع أو وتر‏.‏ فقول‏{‏ثمانية أزواج‏}‏ يعني ثمانية أفراد‏.‏ وكل فرد عند العرب يحتاج إلى آخر يسمى زوجا، فيقال للذكر زوج وللأنثى زوج‏.‏ ويقع لفظ الزوج للواحد وللاثنين؛ يقال هما زوجان، وهما زوج؛ كما يقال‏:‏ هما سيان وهما سواء‏.‏ وتقول‏:‏ اشتريت زوجي حمام‏.‏ وأنت تعني ذكرا وأنثى‏.‏

قوله تعالى‏{‏من الضأن اثنين‏}‏ أي الذكر والأنثى‏.‏ والضأن‏:‏ ذوات الصوف من الغنم، وهي جمع ضائن‏.‏ والأنثى ضائنة، والجمع ضوائن‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع لا واحد له‏.‏ وقيل في جمعه‏:‏ ضئين؛ كعبد وعبيد‏.‏ ويقال فيه ضئين‏.‏ كما يقال في شعير‏:‏ شعير، كسرت الضاد اتباعا‏.‏ وقرأ طلحة بن مصرف ‏}‏من الضأن اثنين‏}‏ بفتح الهمزة، وهي لغة مسموعة عند البصريين‏.‏ وهو مطرد عند الكوفيين في كل ما ثانيه حرف حلق‏.‏ وكذلك الفتح والإسكان في المعز‏.‏ وقرأ أبان بن عثمان ‏}‏من الضأن اثنان ومن المعز اثنان‏}‏ رفعا بالابتداء‏.‏ وفي حرف أبي‏.‏ ‏}‏ومن المعز اثنين‏}‏ وهي قراءة الأكثر‏.‏ وقرأ ابن عامر وأبو عمرو بالفتح‏.‏ قال النحاس‏:‏ الأكثر في كلام العرب المعز والضأن بالإسكان‏.‏ ويدل على هذا قولهم في الجمع‏:‏ معيز؛ فهذا جمع معز‏.‏ كما يقال‏:‏ عبد وعبيد‏.‏ قال امرؤ القيس‏:‏

ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان

ومثله ضأن وضئين‏.‏ والمعز من الغنم خلاف الضأن، وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار، وهو اسم جنس، وكذلك المعز والمعيز والأمعوز والمعزى‏.‏ وواحد المعز ماعز؛ مثل صاحب وصحب وتاجر وتجر‏.‏ والأنثى ماعزة وهي العنز، والجمع مواعز‏.‏ وأمعز القوم كثرت معزاهم‏.‏ والمعاز صاحب المعزى‏.‏ قال أبو محمد الفقعسي يصف إبلا بكثرة اللبن ويفضلها على الغنم في شدة الزمان‏:‏

يكلن كليلا ليس بالممحوق إذ رضي المعاز باللعوق

والمعز الصلابة من الأرض‏.‏ والأمعز‏:‏ المكان الصلب الكثير الحصى؛ والمعزاء أيضا‏.‏ واستمعز الرجل في أمره‏:‏ جد‏.‏ ‏}‏قل آلذكرين حرم‏}‏ منصوب ‏}‏بحرم‏}‏‏.‏ ‏}‏أم الأنثيين‏}‏ عطف عليه‏.‏ وكذا ‏}‏أما اشتملت‏}‏‏.‏ وزيدت مع ألف الوصل مدة للفرق بين الاستفهام والخبر‏.‏ ويجوز حذف الهمزة لأن ‏}‏أم‏}‏ تدل على الاستفهام‏.‏ كما قال‏:‏

تروح من الحي أم تبتكر

قال العلماء‏:‏ الآية احتجاج على المشركين في أمر البحيرة وما ذكر معها‏.‏ وقولهم‏{‏ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا‏}‏‏.‏ فدلت على إثبات المناظرة في العلم؛ لأن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام بأن يناظرهم، ويبين لهم فساد قولهم‏.‏ وفيها إثبات القول بالنظر والقياس‏.‏ وفيها دليل بأن القياس إذا ورد عليه النص بطل القول به‏.‏ ويروى‏{‏إذا ورد عليه النقض‏}‏؛ لأن الله تعالى أمرهم بالمقايسة الصحيحة، وأمرهم بطرد علتهم‏.‏ والمعنى‏:‏ قل لهم إن كان حرم الذكور فكل ذكر حرام‏.‏ لان كان حرم الإناث فكل أنثى حرام‏.‏ لان كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، يعني من الضأن والمعز، فكل مولود حرام، ذكرا كان أو أنثى‏.‏ وكلها مولود فكلها إذا حرام لوجود العلة فيها، فبين انتقاض علتهم وفساد قولهم؛ فأعلم الله سبحانه أن ما فعلوه من ذلك افتراء عليه ‏}‏نبئوني بعلم‏}‏ أي بعلم إن كان عندكم، من أين هذا التحريم الذي افتعلتموه‏؟‏ ولا علم عندهم؛ لأنهم لا يقرؤون الكتب‏.‏ والقول في‏{‏ومن الإبل اثنين‏}‏ وما بعده كما سبق ‏}‏أم كنتم شهداء‏}‏ أي هل شاهدتم الله قد حرم هذا‏.‏ ولما لزمتهم الحجة أخذوا في الافتراء فقالوا‏:‏ كذا أمر الله‏.‏ فقال الله تعالى‏{‏فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم‏}‏ بين أنهم كذبوا؛ إذ قالوا ما لم يقم عليه دليل‏.‏

 الآية رقم ‏(‏ 145 ‏)‏

‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم‏}‏

قوله تعالى‏{‏قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما‏}‏ أعلم الله عز وجل في هذه الآية بما حرم‏.‏ والمعنى‏:‏ يا محمد لا أجد فيما أوحي إلي محرما إلا هذه الأشياء، لا ما تحرمونه بشهوتكم‏.‏ والآية مكية‏.‏ ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقت محرم غير هذه الأشياء، ثم نزلت سورة ‏}‏المائدة‏}‏ بالمدينة‏.‏ وزيد في المحرمات كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة والخمر وغير ذلك‏.‏ وحرم رسول الله صلى الله عليه بالمدينة أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير‏.‏

وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية وتأويلها على أقوال‏:‏ الأول‏:‏ ما أشرنا إليه من أن هذه لآية مكية، وكل محرم حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو جاء في الكتاب مضموم إليها؛ فهو زيادة حكم من الله عز وجل على لسان نبيه عليه السلام‏.‏ على هذا أكثر أهل العلم من أهل النظر، والفقه والأثر‏.‏ ونظيره نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها مع قوله‏{‏وأحل لكم ما وراء ذلكم‏}‏النساء‏:‏ 24‏]‏ وكحكمه باليمين مع الشاهد مع قوله‏{‏فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان‏}‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وقد تقدم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إنها منسوخة بقوله عليه السلام ‏(‏أكل كل ذي ناب من السباع حرام‏)‏ أخرجه مالك، وهو حديث صحيح‏.‏ وقيل‏:‏ الآية محكمة ولا حرام إلا ما فيها وهو قول يروى عن ابن عباس وابن عمر وعائشة، وروي عنهم خلافه‏.‏ قال مالك‏:‏ لا حرام بين إلا ما ذكر في هذه الآية‏.‏ وقال ابن خويز منداد‏:‏ تضمنت هذه الآية تحليل كل شيء من الحيوان وغيره إلا ما استثني في الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير‏.‏ ولهذا قلنا‏:‏ إن لحوم السباع وسائر الحيوان ما سوى الإنسان والخنزير مباح‏.‏ وقال الكيا الطبري‏:‏ وعليها بنى الشافعي تحليل كل مسكوت عنه؛ أخذا من هذه الآية، إلا ما دل عليه الدليل‏.‏ وقيل‏:‏ إن الآية جواب لمن سأل عن شيء بعينه فوقع الجواب مخصوصا‏.‏ وهذا مذهب الشافعي‏.‏ وقد روى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ في هذه الآية أشياء سألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء‏.‏ وقيل‏:‏ أي لا أجد فيما أوحي إلى أي في، هذه الحال حال الوحي ووقت نزوله، ثم لا يمتنع حدوث وحي بعد ذلك بتحريم أشياء أخر‏.‏ وزعم ابن العربي أن هذه الآية مدنية وهي مكية في قول الأكثرين، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم نزل عليه ‏}‏اليوم أكملت لكم دينكم‏}‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ ولم ينزل بعدها ناسخ فهي محكمة، فلا محرم إلا ما فيها، وإليه أميل‏.‏

قلت‏:‏ وهذا ما رأيته قال غيره‏.‏ وقد ذكر أبو عمر بن عبدالبر الإجماع في أن سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ مكية إلا قوله تعالى‏{‏قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم‏}‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ الثلاث الآيات، وقد نزل بعدها قرآن كثير وسنن جمة‏.‏ فنزل تحريم الخمر بالمدينة في ‏}‏المائدة‏}‏‏.‏ وأجمعوا على أن نهيه عليه السلام عن أكل كل ذي ناب من السباع إنما كان منه بالمدينة‏.‏ قال إسماعيل بن إسحاق‏:‏ وهذا كله يدل على أنه أمر كان بالمدينة بعد نزول قوله‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما‏}‏ لأن ذلك مكي‏.‏

قلت‏:‏ وهذا هو مثار الخلاف بين العلماء‏.‏ فعدل جماعة عن ظاهر الأحاديث الواردة بالنهي عن أكل كل ذي ناب من السباع؛ لأنها متأخرة عنها والحصر فيها ظاهر فالأخذ بها أولى؛ لأنها إما ناسخة لما تقدمها أو راجحة على تلك الأحاديث‏.‏ وأما القائلون بالتحريم فظهر لهم وثبت عندهم أن سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ مكية؛ نزلت قبل الهجرة، وأن هذه الآية قصد بها الرد على الجاهلية في تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ثم بعد ذلك حرم أمورا كثيرة كالحمر الإنسية ولحوم البغال وغيرها، وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ ويلزم على قول من قال‏{‏لا محرم إلا ما فيها‏}‏ ألا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا، وتستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين‏.‏ وفي إجماع المسلمين على تحريم خمر العنب دليل واضح على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وجد فيما أوحي إليه محرما غير ما في سورة ‏}‏الأنعام‏}‏ مما قد نزل بعدها من القرآن‏.‏ وقد اختلفت الرواية عن مالك في لحوم السباع والحمير والبغال فقال مرة‏:‏ هي محرمة؛ لما ورد من نهيه عليه السلام عن ذلك، وهو الصحيح من قول على ما في الموطأ‏.‏ وقال مرة‏:‏ هي مكروهة، وهو ظاهر المدونة؛ لظاهر الآية؛ ولما روي عن ابن عباس وابن عمر وعائشة من إباحة أكلها، وهو قول الأوزاعي‏.‏ روى البخاري من رواية عمرو بن دينار قال‏:‏ قلت لجابر بن زيد إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية‏؟‏ فقال‏:‏ قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة؛ ولكن أبى ذلك البحر ابن عباس، وقرأ ‏}‏قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما‏}‏‏.‏ وروي عن ابن عمر أنه سئل عن لحوم السباع فقال‏:‏ لا بأس بها‏.‏ فقيل له‏:‏ حديث أبي ثعلبة الخشني فقال‏:‏ لا ندع كتاب الله ربنا لحديث أعرابي يبول على ساقيه‏.‏ وسئل الشعبي عن لحم الفيل والأسد فتلا هذه الآية؛ وقال القاسم‏:‏ كانت عائشة تقول لما سمعت الناس يقولون حرم كل ذي ناب من السباع‏:‏ ذلك حلال، وتتلو هذه الآية ‏}‏قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما‏}‏ ثم قالت‏:‏ إن كانت البرمة ليكون ماؤها أصفر من الدم ثم يراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحرمها‏.‏ والصحيح في هذا الباب ما بدأنا بذكره، وإن ما ورد من المحرمات بعد الآية مضموم إليها معطوف عليها‏.‏ وقد أشار القاضي أبو بكر بن العربي إلى هذا في قبسه خلاف ما ذكر في أحكامه قال‏:‏ روي عن ابن عباس أن هذه الآية من آخر ما نزل؛ فقال البغداديون من أصحابنا‏:‏ إن كل ما عداها حلال، لكنه يكره أكل السباع‏.‏ وعند فقهاء الأمصار منهم مالك والشافعي وأبو حنيفة وعبدالملك أن أكل كل ذي ناب من السباع حرام، وليس يمتنع أن تقع الزيادة بعد قوله‏{‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما‏}‏ بما يرد من الدليل فيها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث‏)‏ فذكر الكفر والزنى والقتل‏.‏ ثم قال علماؤنا‏:‏ إن أسباب القتل عشرة بما ورد من الأدلة، إذ النبي صلى الله عليه وسلم إنما يخبر بما وصل إليه من العلم عن الباري تعالى؛ وهو يمحو ما يشاء ويثبت وينسخ ويقدم‏.‏ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أكل كل ذي ناب من السباع حرام‏)‏ وقد روي أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير‏.‏ وروى مسلم عن معن عن مالك‏{‏نهي عن أكل كل ذي مخلب من الطير‏}‏ والأول أصح وتحريم كل ذي ناب من السباع هو صريح المذهب وبه ترجم مالك في الموطأ حين قال‏:‏ تحريم أكل كل ذي ناب من السباع‏.‏ ثم ذكر الحديث وعقبه بعد ذلك بأن قال‏:‏ وهو الأمر عندنا‏.‏ فأخبر أن العمل أطرد مع الأثر‏.‏ قال القشيري‏:‏ فقول مالك ‏}‏هذه الآية من أواخر ما نزل‏}‏ لا يمنعنا من أن نقول‏:‏ ثبت تحريم بعض هذه الأشياء بعد هذه الآية، وقد أحل الله الطيبات وحرم الخبائث، ونهى رسول الله صلى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وعن أكل كل ذي مخلب من الطير، ونهى عن لحوم الحمر الأهلية عام خيبر‏.‏ والذي يدل على صحة هذا التأويل الإجماع على تحريم العذرة والبول والحشرات المستقذرة والحمر مما ليس مذكورا في هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏محرما‏}‏ قال ابن عطية‏:‏ لفظة التحريم إذا وردت على لسان رسول الله صلى الله عليه مسلم فإنها صالحة أن تنتهي بالشيء المذكور غاية الحظر والمنع، وصالحة أيضا بحسب اللغة أن تقف دون الغاية في حيز الكراهة ونحوها؛ فما اقترنت به قرينة التسليم من الصحابة المتأولين وأجمع الكل منهم ولم تضطرب فيه ألفاظ الأحاديث وجب بالشرع أن يكون تحريمه قد وصل الغاية من الحظر والمنع، ولحق بالخنزير والميتة والدم، وهذه صفة تحريم الخمر‏.‏ وما اقترنت به قرينة اضطراب ألفاظ الأحاديث واختلفت الأئمة فيه مع علمهم بالأحاديث كقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أكل كل ذي ناب من السباع حرام‏)‏‏.‏ وقد ورد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع، ثم اختلفت الصحابة ومن بعدهم في تحريم ذلك، فجاز لهذه الوجوه لمن ينظر أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها‏.‏ وما اقترنت به قرينة التأويل كتحريمه عليه السلام لحوم الحمر الإنسية فتأول بعض الصحابة الحاضرين ذلك لأنه نجس، وتأول بعضهم ذلك لئلا تفنى حمولة الناس، وتأول بعضهم التحريم المحض‏.‏ وثبت في الأمة الاختلاف في تحريم لحمها؛ فجائز لمن ينظر من العلماء أن يحمل لفظ التحريم على المنع الذي هو الكراهة ونحوها نحوها بحسب اجتهاده وقياسه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا عقد حسن في هذا الباب وفي سبب الخلاف على ما تقدم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن الحمار لا يؤكل، لأنه أبدى جوهره الخبيث حيث نزا على ذكر وتلوط؛ فسمي رجسا‏.‏ قال محمد بن سيري‏:‏ ليس شيء من الدواب يعمل عمل قوم لوط إلا الخنزير والحمار؛ ذكره الترمذي في نوادر الأصول‏.‏

روى عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء عن ابن عباس قال‏:‏ كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء، فبعث الله نبيه عليه السلام وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه؛ فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو، وتلا هذه الآية ‏}‏قل لا أجد‏}‏ الآية‏.‏ يعني ما لم يبين تحريمه فهو مباح بظاهر هذه الآية‏.‏ وروى الزهري عن عبيدالله بن عبدالله بن عباس أنه قرأ ‏}‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما‏}‏ قال‏:‏ إنما حرم من الميتة أكلها، ما يؤكل منها وهو اللحم؛ فأما الجلد والعظم والصوف والشعر فحلال‏.‏ وروى أبو داود عن ملقام بن تلب عن أبيه قال‏:‏ صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرة الأرض تحريما‏.‏ الحشرة‏:‏ صغار دواب الأرض كاليرابيع والضباب والقنافذ‏.‏ ونحوها؛ قال الشاعر‏:‏

أكلنا الرُبى يا أم عمرو ومن يكن غريبا لديكم يأكل الحشرات

أي ما دب ودرج‏.‏ والربى جمع ربية وهي الفأرة‏.‏ قال الخطابي‏:‏ وليس في قوله ‏}‏لم أسمع ل لها تحريما‏}‏ دليل على أنها مباحة؛ لجواز أن يكون غيره قد سمعه‏.‏ وقد اختلف الناس في اليربوع والوبر والجمع وبار ونحوهما من الحشرات؛ فرخص في اليربوع عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور‏.‏ قال الشافعي‏:‏ لا بأس بالوبر وكرهه ابن سيرين والحكم وحماد وأصحاب الرأي‏.‏ وكره أصحاب الرأي القنفذ‏.‏ وسئل عنه مالك بن أنس فقال‏:‏ لا أدري‏.‏ وحكى أبو عمرو‏:‏ وقال مالك لا بأس بأكل القنفذ‏.‏ وكان أبو ثور لا يرى به بأسا؛ وحكاه عن الشافعي‏.‏ وسئل عنه ابن عمر فتلا ‏}‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما‏}‏ الآية؛ فقال شيخ عنده سمعت أبا هريرة يقول‏:‏ ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏خبيثة من الخبائث‏)‏‏.‏ فقال ابن عمر‏:‏ إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال‏.‏ ذكره أبو داود‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا بأس بأكل الضب واليربوع والورل‏.‏ وجائز عنده أكل الحيات إذا ذكيت؛ وهو قول ابن أبي ليلى والأوزاعي‏.‏ وكذلك الأفاعي والعقارب والفأر والعظاية والقنفذ والضفدع‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ ولا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها في قول مالك؛ لأنه قال‏:‏ موته في الماء لا يفسده‏.‏ وقال مالك‏:‏ لا بأس بأكل فراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه‏.‏ والحجة له حديث ملقام بن تلب، وقول ابن عباس وأبي الدرداء‏:‏ ما أحل الله فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو‏.‏ وقالت عائشة في الفأرة‏:‏ ما هي بحرام، وقرأت ‏}‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما‏}‏‏.‏ ومن علماء أهل المدينة جماعة لا يجيزون أكل كل شيء من خشاش الأرض وهوامها؛ مثل الحيات والأوزاغ والفأر وما أشبهه‏.‏ وكل ما يجوز قتله فلا يجوز عند هؤلاء أكله، ولا تعمل الذكاة عندهم فيه‏.‏ وهو قول ابن شهاب وعروة والشافعي وأبي حنيفة وأصحابه وغيرهم‏.‏ ولا يؤكل عند مالك وأصحابه شيء من سباع الوحش كلها، ولا الهر الأهلي ولا الوحشي لأنه سبع‏.‏ وقال‏:‏ ولا يؤكل الضبع ولا الثعلب، ولا بأس بأكل سباع الطير كلها‏:‏ الرخم والنسور والعقبان وغيرها، ما أكل الجيف منها وما لم يأكل‏.‏ وقال الأوزاعي الطير كله حلال، إلا أنهم يكرهون الرخم‏.‏ وحجة مالك أنه لم يجد أحدا من أهل العلم يكره أكل سباع الطير، وأنكر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏أنه نهى عن أكل كل ذي مخلب من الطير‏)‏‏.‏ وروي عن أشهب أنه قال‏:‏ لا بأس بأكل الفيل إذا ذكي؛ وهو قول الشعبي، ومنع منه الشافعي‏.‏ وكره النعمان وأصحابه أكل الضبع والثعلب‏.‏

ورخص في ذلك الشافعي، وروي عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأكل الضباع‏.‏ وحجة مالك، عموم النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع، ولم يخصى سبعا من سبع‏.‏ وليس حديث الضبع الذي خرجه النسائي في إباحة أكلها مما يعارض به حديث النهي؛ لأنه حديث أنفرد به عبدالرحمن بن أبي عمار، وليس مشهورا بنقل العلم، ولا ممن يحتج به إذا خالفه من هو أثبت منه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد روي النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع من طرق متواترة‏.‏ وروى ذلك جماعة من الأئمة الثقات الأثبات، ومحال أن يعارضوا بمثل حديث ابن أبي عمار‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ أجمع المسلمون على أنه لا يجوز أكل القرد لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله، ولا يجوز بيعه لأنه لا منفعة فيه‏.‏ قال‏:‏ وما علمت أحدا رخص في أكله إلا ما ذكره عبدالرزاق عن معمر عن أيوب‏.‏ سئل مجاهد عن أكل القرد فقال‏:‏ ليس من بهيمة الأنعام‏.‏

قلت‏:‏ ذكر ابن المنذر أنه قال‏:‏ روينا عن عطاء أنه سئل عن القرد يقتل في الحرم فقال‏:‏ يحكم به ذوا عدل‏.‏ قال‏:‏ فعلى مذهب عطاء يجوز أكل لحمه؛ لأن الجزاء لا يجب على من قتل غير الصيد‏.‏ وفي ‏(‏بحر المذهب‏)‏ للروياني على مذهب الإمام الشافعي‏:‏ وقال الشافعي يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع‏.‏ وحكى الكشفلي عن ابن شريح يجوز بيعه لأنه ينتفع به‏.‏ فقيل له‏:‏ وما وجه الانتفاع به‏؟‏ قال تفرح به الصبيان‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ والكلب والفيل وذو الناب كله عندي مثل القرد‏.‏ والحجة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا في قول غيره‏.‏ وقد زعم ناس أنه لم يكن في العرب من يأكل لحم الكلب إلا قوم من فقعس‏.‏ وروى أبو داود عن ابن عمر قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها‏.‏ في رواية‏:‏ عن الجلالة في الإبل أن يركب عليها أو يشرب من ألبانها‏.‏ قال الحليمي أبو عبدالله‏:‏ فأما الجلالة فهي التي تأكل العذرة من الدواب والدجاج المخلاة‏.‏ ونهى النبي عن لحومها‏.‏ وقال العلماء‏:‏ كل ما ظهر منها ريح العذرة في لحمه أو طعمه فهو حرام، وما لم يظهر فهو حلال‏.‏ وقال الخطابي‏:‏ هذا نهي تنزه وتنظف، وذلك أنها إذا اغتذت الجلة وهي العذرة وجد نتن رائحتها في لحومها، وهذا إذا كان غالب علفها منها؛ فأما إذا رعت الكلأ واعتلفت الحب وكانت تنال مع ذلك شيئا من الجلة فليست بجلالة؛ وإنما هي كالدجاج المخلاة، ونحوها من الحيوان الذي ربما نال الشيء منها وغالب غذائه وعلفه من غيره فلا يكره أكلها‏.‏ وقال أصحاب الرأي والشافعي وأحمد‏:‏ لا تؤكل حتى تحبس أياما وتعلف علفا غيرها؛ فإذا طاب لحمها أكلت‏.‏ وقد روي في الحديث ‏(‏أن البقر تعلف أربعين يوما ثم يؤكل لحمها‏)‏‏.‏ وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثا ثم يذبح‏.‏ وقال إسحاق‏:‏ لا بأس بأكلها بعد أن يغسل لحمها غسلا جيدا‏.‏ وكان الحسن لا يرى بأسا بأكل لحم الجلالة؛ وكذلك مالك بن أنس‏.‏ ومن هذا الباب نهي أن تلقى في الأرض العذرة‏.‏ روي عن بعضهم قال‏:‏ كنا نكري أرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشترط على من يكريها ألا يلقي فيها العذرة‏.‏ وعن ابن عمر أنه كان يكري أرضه ويشترط ألا تدمن بالعذرة‏.‏ وروي أن رجل كان يزرع أرضه بالعذرة فقال له عمر‏:‏ أنت الذي تطعم الناس ما يخرج ما منهم‏.‏ واختلفوا في أكل الخيل؛ فأباحها الشافعي، وهو الصحيح، وكرهها مالك‏.‏ وأما البغل فهو متولد من بين الحمار والفرس، وأحدهما مأكول أو مكروه وهو الفرس، والآخر محرم وهو الحمار؛ فغلب حكم التحريم؛ لأن التحليل والتحريم إذا اجتمعا في عين واحدة غلب حكم التحريم‏.‏ وسيأتي بيان هذه المسألة في ‏}‏النحل‏}‏ إن شاء الله بأوعب من هذا‏.‏ وسيأتي حكم الجراد في ‏}‏الأعراف‏}‏‏.‏ والجمهور من الخلف والسلف على جواز أكل الأرنب‏.‏ وقد حكي عن عبدالله بن عمرو بن العاص تحريمه‏.‏ وعن ابن أبي ليلى كراهته‏.‏ قال عبدالله بن عمرو‏:‏ جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جالس فلم يأكلها ولم ينه عن أكلها‏.‏ وزعم أنها تحيض‏.‏ ذكره أبو داود‏.‏ وروى النسائي مرسلا عن موسى بن طلحة قال‏:‏ أتي النبي بأرنب قد شواها رجل وقال‏:‏ يا رسول الله، إني رأيت بها دما؛ فتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يأكلها، وقال لمن عنده‏:‏ ‏(‏كلوا فإني لو اشتهيتها أكلتها‏)‏‏.‏

قلت‏:‏ وليس في هذا ما يدل على تحريمه، وإنما هو نحو من قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه‏)‏‏.‏ وقد روى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك قال‏:‏ مررنا بمر الظهران فاستنفجنا أرنبا فسعوا عليه فلغبوا‏.‏ قال‏:‏ فسعيت حتى أدركتها، فأتيت بها أبا طلحة فذبحها، فبعث بوركها وفخذها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله‏.‏

قوله تعالى‏{‏على طاعم يطعمه‏}‏ أي أكل يأكله‏.‏ وروي عن ابن عامر أنه قرأ ‏}‏أوحى‏}‏ بفتح الهمزة‏.‏ وقرأ علي بن أبي طالب ‏}‏يطعمه‏}‏ مثقل الطاء، أراد يتطعمه فأدغم‏.‏ وقرأت عائشة ومحمد بن الحنفية ‏}‏على طاعم طعمه‏}‏ بفعل ماض ‏}‏إلا أن يكون ميتة‏}‏ قرئ بالياء والتاء؛ أي إلا أن تكون العين أو الجثة أو النفس ميتة‏.‏ وقرئ ‏}‏يكون‏}‏ بالياء ‏}‏ميتة‏}‏ بالرفع بمعنى تقع وتحدث ميتة‏.‏ والمسفوح‏:‏ الجاري الذي يسيل وهو المحرم‏.‏ وغيره معفو عنه‏.‏ وحكى الماوردي أن الدم غير المسفوح أنه إن كان ذا عروق يجمد عليها كالكبد والطحال فهو حلال؛ لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏أحلت لنا ميتتان ودمان‏)‏ الحديث‏.‏ وإن كان غير ذي عروق يجمد عليها، وإنما هو مع اللحم ففي تحريمه قولان‏:‏ أحدهما أنه حرام؛ لأنه من جملة المسفوح أو بعضه‏.‏ وإنما ذكر المسفوح لاستثناء الكبد والطحال منه‏.‏ والثاني أنه لا يحرم؛ لتخصيص التحريم بالمسفوح‏.‏

قلت‏:‏ وهو الصحيح‏.‏ قال عمران بن حدير‏:‏ سألت أبا مجلز عما يتلطخ من اللحم بالدم، وعن القدر تعلوها الحمرة من الدم فقال‏:‏ لا بأس به، إنما حرم الله المسفوح‏.‏ وقالت نحوه عائشة وغيرها، وعليه إجماع العلماء‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ لو لا هذه الآية لا تبع المسلمون من العروق ما تتبع اليهود‏.‏ وقال إبراهيم النخعي‏:‏ لا بأس بالدم في عرق أو مخ‏.‏ وقد تقدم هذا وحكم المضطر في ‏}‏البقرة‏}‏ والله أعلم‏.‏