فصل: تفسير الآيات (1- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.سورة القلم:

.تفسير الآيات (1- 16):

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}
وما يسطرون: وما يكتبون. غير ممنون: غير مقطوع. فستبصر: فستعلم. ويبصرون: ويعلمون. بأيكم المفتون: بأيكم المجنون الذي ابتلي بآراء فاسدة. ودُّوا لو تدهن: احبوا ان تداري وتلين لهم بالمصانعة والمقاربة بالكلام. فيدهنون: فيقاربون ويدارون. والمداهنة: إن يُظهر الرجل في امره خلاف ما يضمر. ولا تطع كل حلاف مهين: حلاف كثير الحلف، مهين: محتقر، حقير. همّاز: عياب طعان. مشّاء بنميم: كثير الوشاية والنميمة بين الناس. مناع للخير: بخيل، ويمنع الناس من عمل الخير. معتد: ظالم. أثيم: كثير الذنوب. عُتلّ: فظ، غليظ القلب. زنيم: دعيّ، يُعرف بالشر واللؤم. سنسِمه على الخرطوم: نجعل له علامة على أنفه.
ن: حرف من حروف المعجم التي بُدئت بها بعض السور، وقد تقدّم الكلام عليها.
أقسَم اللهُ تعالى بالقلم وما يُسطَر من الكتب، وفي هذا تعظيمٌ للقلم والكتابة والعِلم الذي جاء به الإسلام وحثّ عليه من أول آية نزلت {اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ....} [العلق: 1].
يقسم الله تعالى بنون والقلم وما يسطرون، منوّهاً بقيمة الكتابة معظّماً لشأنها، لينفيَ عن رسول الله ما كان يقوله المشركون عنه بأنه مجنون، فيردّ الله عليهم بقوله: {مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}.
لستَ يا محمد مجنوناً كما يزعمون، فقد أنعم اللهُ عليك بالنبوّة والرسالة، والعقل الراجح.
{وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ}
إن لك على ما تَلْقاه في تبليغ الرسالة الأجرَ العظيم الدائم الّذي لا ينقطع أبدا.
{وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}
وهذه اكبرُ شهادة من عند ربّ العالمين. وهل هناك أعظمُ من هذه الشهادة للرسول الأمين الذي طُبع على الحياء والكرم والشجاعة والصفْح والحِلم وكل خلُق كريم!.
روى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «خدمتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أفٍّ قطّ، ولا قال لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَهُ؟ ولا لشيء لم أفعلُه ألا فعلتَه؟».
وروى الإمام أحمد عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسولُ الله بيدِه خادماً قطّ ولا ضرب امرأةً، ولا ضرب بيدِه شيئا قط الا ان يُجاهِد في سبيل الله، ولا خُيِّر بين شيئين قطّ الا كان أحبُّهما اليه أيسَرَهما. وكان أبعدَ الناس عن الإثم، ولا انتقمَ لنفسه من شيء يؤتى إليه الا أن تنتَهك حرماتُ الله».
ثم بعد أن نفَى عنه ما يقوله المشركون، ومدَحه بشهادةٍ عظمى، جاء يطمئنُهُ بأنه هو الفائز وأنهم هم الخاسرون فيقول: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون}
ستعلمُ أيها الرسولُ، وسَيعلمُ الكافرون الجاحدون من هو الضالّ المفتون.
ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين}
وهذا وعدٌ من الله يشير إلى أن المستقبلَ سيكشف عن الحقيقة ويُثبِت أن هذا الرسول جاءَ برسالةٍ من عند الله، وهو على هدىً وحق، والمشركون على ضلالٍ مبين.
وقد صدق وعدُ الله وظهرت الحقيقة، ونصره اللهُ وأظهر هذا الدينَ القيّم.
{فَلاَ تُطِعِ المكذبين وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}.
إيّاك أن تلينَ لهؤلاء الجاحدين المكذّبين، فدُمْ على ما أنت عليه، فقد تمنَّوا لو تتركُ بعضَ ما أنتَ عليه وتلينُ لهم وتصانِعُهم فَيَلينون لك طمعاً في تَجاوُبك معهم.
وقد حاول زعماءُ قريشٍ ان يساوموه، وأن يجمعوا له الأموال، وان يُمَلِّكوه عليهم، وهم لا يَعلمون أن هذا الرسول الكريم فوقَ هذا كلّه، لا يريدُ منهم جزاءً ولا شُكورا، ولا يريد إلا هدايتَهم إلى هذا الدينِ القويم.
ثم بيّن بعضَ صفات أولئك المكذّبين الذي هانت عليهم نفوسُهم فقال: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّآءِ بِنَمِيمٍ مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}.
وفي هذه الآيات عدّد تسع صفات من صفات السوء أثبتنا تفسيرَها في أول الكلام على السورة. ويقول المفسّرون ان هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، وكان من زعماء قريش الأثرياء. وهناك أقوال كثيرةٌ لا حاجة إلى إيرادها، فالآياتُ عامة في كلّ من يكذِب ويحلِف كذبا، وينمُّ ويمشي بالسوءِ بين الناس، ويثير الفتنَ والشرَّ بينهم. وهذه الأصنافُ من البشَر موجودةٌ في كل زمانٍ فَلْنحذَرْها ونتقي شرّها.
وقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ينهى أصحابه ان ينقلَ إليه أحدٌ منهم ما يُغيِّر قلبه على صاحبٍ من أصحابه. وكان يقول: «لا يبلّغني أحدٌ عن أحدٍ من أصحابي شيئا، فإني أُحبّ أن أخرجَ إليكم وأنا سليمُ الصدر»، رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وروى الإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخلُ الجنةَ فتّان» والفتان هو النمّام.
وهناك أحاديثُ كثيرة تحذّر من هذه الأخلاق الفاسدة، فالإسلامُ جاء لينقِّيَ الأخلاقَ، ويعلّم الناسَ الخير، ورفيعَ الاخلاق، والمعاملةَ الطيبة، وحُسنَ المعاشرة، وهو يشدِّد في النهي عن الخلُق الذميم الوضيع.
وكان صاحبُ هذا الخلق الذميم في ايامه ذا مالٍ كثيرٍ وعدد من البنين، وهذا سبٌ كبير في كذبه وسوء خلقه، فلا تطعْه أيها الرسول، فإنه جاحد.
{إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين}
إنه يكذّب بالقرآن الكريم ويقول عن آياته إنها خرافات من قصص الأولين لا آياتٍ من عند الله.
وبعد أن ذكَر قبائح أفعاله توعّده بشرٍ عظيم فقال: {سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم}
سنجعلُ له وسْماً وعلامةً على أنفه يوم القيامة، أي أنّنا سنفضح أمره حتى لا يخفى على أحدٍ في الدنيا، ثم يأتي يوَ القيامة وعلى انفه وسمٌ ظاهر.

.قراءات:

قرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر: {أأن كان ذا مال}، على الاستفهام. وقرأ ابن عامر {آن كان} بمد الهمزة. والباقون: {أن كان ذا مال} كما هو في المصحف.

.تفسير الآيات (17- 33):

{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}
بلوناهم: اختبرناهم، امتحناهم. الجنة: البستان. ليصرمنّها: ليقطفنّ ثمارها. مصبحين: وقت الصباح. ولا يستثنون: ولا يقولون: إن شاء الله. طائفٌ من ربك: عذاب من الله، فقد أرسل عليها صاعقة من السماء فأحرقها. كالصّريم: كالليل المظلم. فتنادَوا: فنادى بعضهم بعضا. ان اغدوا: اخرجوا غدوة مبكّرين. حَرْثكم: زرعكم. صارمين: قاطعين الثمار. يتخافتون: يتحدثون بصوت ضعيف، همساً حتى يسمعهم أحد. على حَرْد: على المنع، أي يمنعون كل احد. محرومون: حرمنا خير جنتنا بجنايتنا على انفسنا. قال اوسطهم: أفضلهم رأيا. لولا تسبّحون: ليتكُم تذكرون الله وتشكرونه على ما انعم عليكم. يتلاومون: يلوم بعضهم بعضا على اصرارهم على منع المساكين. يا ويلنا: دعاء على انفسهم بالهلاك. طاغين: متجاوزين حدود الله.
إنا امتحنّا كفارَ قريشٍ بأن أغدقنا عليهم النِعَم والأمن لنعلمَ: أيشكرون هذه النعم ام يكفرونها، كما اختبرنا اصحابَ الجنّة التي يعرفون قصتها.
فقد كان لرجلٍ بستانٌ كبير فيه من شتى أنواع الفاكهة، وكان هذا الرجل يتصدَّق منه ويعطي الفقراءَ والمساكين والمحتاجين. فلما تُوفي قال أولادُه: لو أعطينا الفقراءَ والمساكين من بستاننا هذا لما بقيَ لنا شيء. فاتفقوا ان يذهبوا إلى جنّتهم صباحاً مبكّرين، وأقسموا بان لا يدخلنّها عليهم مسكين.
فأرسل الله عليها آفة أحرقتْها وهم نائمون لا يدرون ماذا جرى لها. فأصبحت جنتهم سوداء خاوية. فلما أصبحوا نادى بعضُهم بعضا ليذهبوا إليها ويقطفوا ثمارها. وانطلقوا خِلسة وهم يتهامسون حتى لا يسمع بهم أحدٌ من المحتاجين فيلحقَهم. وغدَوا إليها في حماسة وهم يظنّون أنهم قادرون على تنفيذ ما خطّطوا له {وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ قَادِرِينَ}.
ولكنّهم فوجئوا عندما رأوها سوداء محترقة خاوية من الثمار فقالوا: {إِنَّا لَضَآلُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}... لقد سَلَبَنا اللهُ ما رزقَنا. فقال لهم {أَوْسَطُهُمْ} أي أعدلُهم وأرجحهم عقلا: أَلم أقل لكم هلاَّ تسبِّحون اللهَ وتشكرونه على ما أَولاكم من النعم، فتؤدوا حقَّ المساكين والمحتاجين!
وبعد أن سمعوا ما قال أخوهم وثابوا إلى رُشدِهم اعترفوا بذنوبهم و{قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، وندموا على ما عمِلوا. ثم بعد ذلك ألقى كل واحدٍ منهم تَبِعَة ما وقع على الآخر كما قال تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ} ثم نادَوا على أنفسِهم بالويل والثبور، واعترفوا بذنبهم، ورجعوا إلى الله، وتابوا، وسألوه ان يعوّضهم خيراً من جنتهم {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} لعلّه يعطينا خيراً من جنّتنا بتوبتنا، ويكفّر عنا سيئاتنا.
{كَذَلِكَ العذاب وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ}
هكذا كان عذابُ من خالف أمرَ الله وبَخِل بما آتاه وأنعم عليه، وذلك في الدنيا، أما عذابُ الآخرة فهو أشدّ وأعظم، لو كان قومكَ أيها الرسول يعلمون ذلك.

.تفسير الآيات (34- 43):

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)}
تدرسون: تقرؤون. تخيّرون: أصلها تتخيرون بتاءين ومعناها تختارون. بالغة: مؤكدة مغلّظة. إن لكم لَما تحكمون: انه سيحصل لكم كل ما تريدون يوم القيامة. أيهم بذلك زعيم: من منهم الذي يكفل لهم هذا. يومَ يُكشف عن ساق: يوم الشدة. والعرب تكنّي بكشف الساق عن الشدة:
قد شمّرتْ عن ساقِها فشدّوا ** وجدّت الحربُ بكم فجِدّوا

ترهقهم ذلة: تلحقهم ذلة.
بعد أن ذَكر سبحانه حالَ الذين دُمرت جنتهم في الدنيا، وما أصابهم من النقمة حين عَصَوه- بين هنا حال المتقين وما ينتظرهم من جنّات النعيم الخالدة في الآخرة.
{إِنَّ لِّلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النعيم} الخالصِ الدائم.
وعندما سمع كفارُ قريش هذه الآية قالوا: إن الله فضّلنا عليكم في الدنيا، فلابد ان يفضّلنا عليكم في الآخرة، فردّ الله تعالى عليهم ما قالوا وأكد فوزَ المتقين فقال: {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ!}
لا يجوز ان نظلمَ في حُكمنا فنجعلَ المسلمين كالكافرين ونسوّيَ بينهم. ماذا أصابكم؟ كيف تحكمون مثلَ هذا الحكم الجائر؟
وهل عندكم كتابٌ نزل من السماءِ تقرؤون فيه أنّ لكم فيه ما تختارون؟ أم أقسَمْنا لكم أيماناً مؤكدة باقيةً إلى يوم القيامة؟ {إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} وسيحصل لكم كل ما تشتهون.
{سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ}
اسأل المشركين أيها الرسول: من الذي يكونُ كفيلاً بتنفيذ هذا؟
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ؟} في دعواهم الكاذبة.
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ....}.
يوم يشتد الأمر ويصعُب، ويُدعى الكفارُ إلى السجود فلا يستطيعون، كما أنه لن يُجديَهم التلاومُ ولا السجودُ في ذلك اليوم نفعا، فتزداد حسرتُهم وندامتهم على ما فرّطوا فيه.
ويأتون في ذلك اليوم خاشعةً ابصارُهم منكسرةً تغشاهم ذلةٌ مرهِقة، وقد كانوا يُدعون إلى السجود في الدنيا وهم قادرون.... فلا يسجدون!.

.تفسير الآيات (44- 52):

{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}
ذرني ومن يكذّب....: كِلْه اليّ واتركه لي، فإني أكفيك أمره. بهذا الحديث: بهذا القرآن. سنستدرجهم: سننتقل بهم من حال إلى حال. وأملي لهم: أُمهلهم، وأطيل لهم المدة. كيدي متين: تدبيري قوي. مغرم: غرامة. مثقلون: ثقيلة عليهم. صاحب الحوت: النبي يونس. مكظوم: مملوء غيظا. العراء: الفضاء، الأرض الخالية. فاجتباه: فاصطفاه. يُزلقونك: ينظرون اليك بغيظ وحنق حتى تزلّ وتنزلق. لمّا سمعوا الذِكر: القرآن الكريم. ذِكر للعالمين: تذكير للعالمين.
اترك يا محمد من يكذّب بالقرآن لي، فإني عالم بما ينبغي ان أفعلَ بهم.... سنُدْنِيهم من العذابِ درجةً بعد درجة فتزدادُ معاصيهم من حيث لا يشعرون، وأُمهلهم بتأخير العذاب، إن تدبيري حين آخذُهم قويٌّ لا يفلت منه أحد.
وفي الحديث الصحيح: إن الله تعالى لَيُمْلِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلتْه.
وإن أمْرَهم لَعجيب، فأنت تدعوهم إلى الله بلا أجرٍ تأخذُه منهم، {فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} فهل كُلّفوا ان يدفعوا أجراً لك فهم من هذه الغرامة مثقلون؟ وهل عندَهم علمٌ بالغيب فهم يكتبون ما يريدون وما يحكمون؟.
ثم بعد ذلك أمر رسولَه الكريم ان يصبر على أذاهم فقال: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت....}
اصبر أيها الرسولُ على قضاء ربك.. لا تكن كيونسَ صاحبِ الحوت حينَ ذهبَ مغاضِبا لقومه فكان من أمرِه ما كان، فنادى ربَّه في الظلمات وهو مملوء غيظا {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 87، 88].
ولولا أن تداركته نعمةُ ربه بقَبول توبته لَطُرِحَ في الأرض الفضاء وهو مذموم.
{فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين} وردّه إلى قومه نبيّاً فانتفعوا به.
ثم بين الله تعالى كيف ظهرتْ عداوتُهم للنبي الكريم، وكيفَ كانوا ينظُرون إليه بحقدٍ وضِيق فقال: {وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ الذكر وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}
إنهم لِشدةِ عداوتهم لك ينظُرون إليك بهذه الكراهية حتى لَيكادون يُزِلّون قدمك حسداً وبغضا حين سمعوا القرآن، ثم يزيدون في كُرههم ويقولون إنك لَمجنون.
وما هذا القرآن الا عِظةٌ وحِكمة وتذكيرٌ للعالمين، والذِكر لا يقوله مجنون، فصدَقُ الله وكذَب المفترون.

.قراءات:

قرأ نافع وحده: {ليزلقونك} بفتح الياء والباقون: بضمها، وهما لغتان زَلِق وأزلق.