فصل: تفسير الآيات (10- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (10- 12):

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}
ضربُ المثل: ذِكر حالٍ غريبة للعِظة والاعتبار. تحت عبدَين: يعني زوجتين لنبيَّين. كريمين: هما نوح ولوط. فخانتاهما: بالكفر والنفاق. أحصنتْ فرجَها: عفّت عن الفجور فكانت عفيفة. فنفخنا فيه: فخلقنا فيه الحياة. بكلمات ربّها: بشرائعه وكتبه.
يبينُ الله تعالى في هذه الآيات الكريمة أمثلةً واضحة من أحوال النساء تظهر فيها حقائقُ مهمّة، فمن النساء صنفٌ لا يردعُهنّ عن كفرِهنّ حتى وج ودُهن في بيوت الأنبياء، كامرأة نوحٍ التي كانت تقول عن زوجها إنه مجنون، وخانتْه بالتآمر عليه وعدم تصديقه برسالته. وكذلك امرأة لوط، كانت كافرةً وخانت زوجها بالتآمر عليه مع قومه حين دلّت قومه على ضيوفه لمآرب خبيثة. فوجودهما في بيت النبوّة مع كفرهما- لم يغيّر منهما شيئاً وذهبنا إلى النار. وهناك حالة اخرى عكسَ ما تقدم، وهي امرأةُ فرعون آسيةُ بنت مزاحم، كانت زوجةً لرجل من شرار الناس، وهي مؤمنة مخلصة في ايمانها: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين}. وهذا كله يتفق مع قاعدة الإسلام {أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [النجم: 38] وقوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286].
وكذلك ضربَ الله مثلا حالَ مريم ابنةِ عمرانَ التي عفّتْ وآمنت بكلماتِ ربّها، فرزقَها الله عيسى بن مريم صلواتُ الله عليه وسلامه.
وفي هذه الأمثال عظةٌ للمؤمنين، ولزوجاتِ الرسول الكريم، وتخويفٌ لكل من تحدّثه نفسُه بأنه سينجو لأنه ابنُ فلان، أو انه قريبٌ لفلان من الصالحين. ولا ينجّي الإنسان الا عملُه وتقاه وايمانه الخالص، واللهُ وليّ الصالحين.

.سورة الملك:

.تفسير الآيات (1- 11):

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)}
تبارك: تعالى ربنا عما لا يليق به. بيده الملك: له التصرف المطلق في هذا الكون. ليبلوكم: ليختبركم. طباقا: يشبه بعضها بعضا في الاتقان. ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت: لا ترى فيما خلق الله من اختلاف وعدم تناسب واتقان صنعة. فارجع البصرَ: أعد النظر. هل ترى من فُطور: هل ترى من نقصٍ أو شقوق. ثم ارجع البصرَ كرّتين: ثم أعد النظر مرة بعد مرة، وليس المراد مرتين فقط. ينقلب اليك: يرجع اليك. خاسئا: صاغراً ذليلا. وهو حسير: وهو كليل، ضعيف. بمصابيح: بنجوم كأنها مصابيح تضيء. رجوما: مفردها رَجْم وهو كل ما يرمى به. إذا أُلقوا فيها: إذا طُرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار. شهيقا: تنفسا قويا. تفور: تغلي بشدة. تكاد تميَّزُ من الغيظ: تكاد تتقطع من شدة الغضب. فوج: جماعة. خَزَنَتُها: واحدها خازن، وهم الملائكة. نذير: رسول ينذركم ويحذركم. فسُحقا: فبعداً وهلاكا لأصحاب السعير.
افتتح الله تعالى هذه السورةَ الكريمة بتمجيد نفسه، وأخبر انّ بيدِه الملكَ والتصرفَ في جميع المخلوقات {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
ثم أخبر بأنه خلَقَ الموتَ والحياة لغايةٍ أرادها، هي أن يختبركم أيُّكم أصحُّ عملاً، وأخلصُ نيةً، وهو ذو العزةِ الغالبُ الذي لا يُعجزه شيء، الغفورُ لمن أذنبَ ثم تاب، فبابُ التوبة عنده مفتوح دائماً.
ثم بيّن الله تعالى انه أبدعَ سبع سمواتٍ طباقاً، يطابق بعضُها بعضا في دِقّة الصَّنعةِ والإتقان. والعددُ سبعة لا يفيد الحَصر، بل يجوز ان يكون هنا أكثر بكثير، ولكنّ القرآن يجري على مفهوم لغةِ العرب.. فإن هذا الكونَ العجيبَ فيه مَجَرّات لا حصر لها وكل مجرّةٍ فيها ملايين النجوم.
والسماءُ كل ما علانا فأظلَّنا والصورةُ التي يراها سكانُ الأرض في الليالي الصاية هي القبّة الزرقاءُ تزيّنها النجومُ والكواكب كأنها مصابيحُ، كما تُرى الشهبُ تهوي محترقةً في أعالي جوّ الأرض.
ما تَرى أيها الإنسان في صُنع اللهِ أيَّ تفاوت.
{فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ}.
أعِد النظرَ في هذا الكون العجيب الصنع، وفي هذه السماء.. هل تجد أي خلل؟
{ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ}
ثم أعِد البصرَ مرّاتٍ ومرات، وفكر في هذا الصنع البديع، يرجعْ إليك البصرُ وهو صاغرٌ وكليل.... ولا يمكن أن ترى فيها أيَّ خللٍ أو عيب.
ثم بعد أن بيّن ان هذه السمواتِ وهذا الكونَ كلّه وُجد على نظامٍ دقيق متقَن، وهو مع ذلك الغايةُ في الحسن والجمال والبهاء قال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير}.
إن هذه السماء القريبة منّا والتي نراها- مزينةٌ بهذه النجوم المضيئة، والكواكبُ بهجةً للناظرين، وهدىً للسارِين والمسافرين في البر والبحر، والشهُبُ التي نراها متناثرةً في الليل رُجومٌ للشياطين، وقد أعدَدْنا لهم في الآخرةِ عذابَ النار.
وكذلك أعدَدْنا لِلّذين كفروا بربّهم عذابَ جهنّم وبئس مآلُهم ومنقَلَبُهم. ثم وصفَ هذه النار، بأنّه يُسمع لها شهيق حين يُلقَى فيها الكافرون، وأنّها تفورُ بهم كما يفور ما في المِرجَلِ حين يغلي، وأنها تكون شديدةَ الغيظ على من فيها، وان خَزَنَتَها من الملائكة يَسالون من يدخل فيها: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟} من ربّكم؟ فيعترفون بأن الله ما عذَّبهم ظلماً، بل جاءهم الرسُل فكذّبوهم. ثم يعترفون أيضا بقولهم {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} فاعترفوا بتكذيبهم وكفرهم. ولن ينفعهم اعترافُهم، فبُعداً لأصحاب السعير عن رحمة الله.

.قراءات:

قرأ حمزة والكسائي: {ما ترى في خلق الرحمن من تفوّت} بتشديد الواو بلا الف. والباقون: {من تفاوت}. وقرأ الكسائي: {فسحقاً} بضم السين والحاء. والباقون: {فسحقا} بضم السين وإسكان الحاء، وهما لغتان.

.تفسير الآيات (12- 19):

{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}
الغيب: كل ما غاب عنا. بذات الصدور: بما في النفوس والضمائر. اللطيف الرفيق بعباده. الخبير: العالم بظواهر الاشياء وبواطنها. ذلولا: سهلة منقادة يسهل عليكم السير فيها والانتفاع بها وبما فيها. مناكبها: طرقها ونواحيها. النشور: البعث بعد الموت. الأمن: الاطمئنان وعدم الخوف، وهو اعظم شيء في الوجود. مَن في السماء: يعني ربنا الاعلى. تمور: تهتز وتضطرب. حاصبا: ريحا شديدة فيها حصباء تهلكهم. نذير: هكذا من غير ياء والاصل نذيري، والمعنى إنذاري وتخويفي. نكير: كذلك هي نكيري بياء، عذابي. صافّات: باسطاتٍ أجنحتهنّ في الجوّ أثناء الطيران. ويقبضن: يضممنها تارة اخرى.
بعد أن أوعدَ الكفارَ بالعذاب في نارِ جهنم، ووصفَها ذلك الوصفَ المذهل- وعدَ هنا المؤمن الذين يخشَون ربّهم بالمغفرة والأجرِ الكريم. وهذه طريقةُ القرآن الكريم: الترغيبُ والترهيب، حتى لا يقنَطَ الإنسان من رحمة ربه.
ثم عادَ إلى تهديدِ الكافرين، وانه تعالى يعلم السرَّ والجَهْرَ لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ويعلَم ما توسوسُ نفسُ الانسان. ثم بعدَ ذلك كله قال: {وَهُوَ اللطيف الخبير} كي يذكّرنا دائماً بأنه رؤوفٌ بعباده رحيم.
ثم عدّد بعضَ ما أنعم علينا، فذكر أنه عبَّدَ لنا هذه الأرضَ وذلّلها، وهيّأها لنا، فيها منافعُ عديدةٌ من زروع وثمارٍ ومعادن، وما اعظمَها من نِعم. ثم قال: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور}
تمتعوا بهذهِ النعمِ، ثم إلى ربّكم مرجُكم يومَ القيامة.
ففي الآية الكريمة حثٌّ على العمل والكسب في التجارة والزراعة والصناعة، وجميع انواع العمل، وفي الحديث: إن عمر بن الخطاب مرّ على قوم فقال لهم: من أنتم؟ فقالوا: المتوكّلون، قال: بل أنتم المتواكلون، انما المتوكلُ رجلٌ ألقى حَبَّه في بطن الأرضِ وتوكّل على الله عز وجل.
وجاء في الأثر: «إن الله يحبُّ العبدَ المؤمنَ المحترف».
ثم بيّن الله أن الإنسانَ يجب ان يكون دائماً في خوفٍ ورجاءٍ، فذكر انه: هل يأمنون ان يحلَّ بهم في الدنيا مثلُ ما حلّ بالمكذّبين من قبلهم؟ من خسْفٍ عاجلٍ تمورُ به الأرض، أو ريحٍ حاصبٍ تُهلك الحرثَ والنسل!؟
ثم ضرب لهم المثلَ بما حلّ بالأمم قبلَهم من ضروب المِحَن والبلاء.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ}
فأهلكهم وخسَفَ بهم الأرض، وبعضُهم أغرقَهم، وبعضُهم أرسلَ عليهم الريحَ الصرصر....
ثم بعد ذلك وجّه انظارهم إلى باهر قدرته، وعظيم منّته على عباده، فطلبَ اليهم ان ينظروا إلى بعض مخلوقاته كالطّير كيف تطير باسطةً أجنحتها في الجو تارةً وتضمّها اخرى، وذلك كلّه بقدرة الله وتعليمه لها ما هي بحاجة اليه.
فبعد هذا كله اعتبِروا يا أيها الجاحدون مما قصَصْنا عليكم، فهل أنتم آمنون ان ندبر بحكمتنا عذاباً نصبّه ونقضي عليكم فلا يبقى منكم احد!؟

.تفسير الآيات (20- 30):

{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}
جند: عون، معين. في غرور: في خداع يخدعون انفسهم. ان أمسك رزْقه: حبس عنكم المطر وغيره من الأسباب التي ينشأ منها الرزق. لجّوا: تعدَّوا الحد. في عُتوّ: في تمرد وعناد. نفور: اعراض وتباعد. مكباً على وجهه: اصل المعنى ان يمشي المرء مطرقا بوجهه إلى الأرض. والمقصود: الذي يسير على غير هدى. سويًّا: معتدلا، مستقيما. الافئدة: العقول. انشأكم: خلقكم. ذرأكم: خلقكم. زلفة: قريبا. سيئت وجوه الذين كفروا: قبحت وعَلتها الكآبة. تدعون: تطلبون، وتستعجلون. أرأيتم: اخبروني. غورا: غائرا في الأرض. معين: جارٍ غزير.
بعد أن بين الله للناس عجائب قدرته فيما يشاهدونه من احوال الطير وخلقه، وخوّفهم من خسف الأرض بهم، وارسال الحاصب عليهم بالعذاب- سأل الجاحدين المعاندين بقصد التوبيخ والتقريع: من الذي يعينكم وينصركم ويدفع عنكم العذاب إذا نزل بكم؟ هل هناك غير الرحمن؟ والتعبيرُ بالرحمن يدل على أن الله رؤوف بعباده رحيم.
{إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ} وظنٍّ كاذبٍ يخدعون به انفسهم.
ثم سؤال ثان منه تعالى: إذا منعَ اللهُ عنكم أسبابَ الرزق، من يرزقكم غيرُ الله: بل تمادى الكافرون في استكبارِهم وبُعدِهم عن الحق.
ثم ضرب الله مثلاً يبين به الفرق بين المشركين والموحدين فقال: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}.
هل الذي يعيش في الضلال ويتخبط في الجهالة والكفر اهدى سبيلاً، أم الذي آمنَ ويمشي على الطريق المستقيم سالماً من التخبط والجهل؟ {مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ؟} [هود: 24].
فهذا المكبّ على وجهه هو المشرك، والذي يمشي سويا هو الموحّد، فهل يستويان؟ قل لهم ايها الرسول ان ربكم هو الذي خلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة، لتسمعوا وتبصروا وتهتدوا، ولكن {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} ولكنكم مع كل هذه النعم فالشاكرون منكم قليل. قل لهم منبهاً إلى خطأهم وجحودهم: إن ربكم هو الذي خلقكم وبثكم في الأرض، ومن ثم اليه ترجعون يوم القيامة. ومع هذا كله، يسألون الرسول استهزاء وتهكماً فيقولون: متى يأتينا العذابُ الذي تعدنا به؟
{قُلْ إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ}
قل يا محمد: هذا علمٌ اختص الله به، وانما انا رسول منه جئت لأنذركم وأبين لكم شرائع الله.
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ}.
الحديث في هذه الآية يكون يوم القيامة، يعني: فلما قامت القيامة وحشر الناس ورأى الكفار العذابَ قريبا منهم ساءهم ذلك وعلت وجوههم الكآبة والحزن. ويقال لهم {هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14] وهذا التعبير جاء ليدلنا على أن يوم القيامة قريب جدا.
وكما جاء في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 47، 48].
قل لهم: أخبِروني ماذا تستفيدون إن أماتنيَ اللهُ ومن معي من المؤمنين، أو رحمَنا فأخّر آجالنا وعافانا من عذابه؟ فهل هذا كله يمنع الكافرين من عذابٍ أليمٍ استحقّوه بكفرهم وغرورهم!.
{قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
قل لهم ايها الرسول: آمنا بالرحمن رب العالمين، وتوكلنا عليه في جميع أمورنا، وستعملون إذا نزل العذاب من هو الضال من المهتدي. وقد تكرر لفظ الرحمن اربع مرات في هذه السورة ليدل على انه رحيم بعباده، بابه مفتوح لهم دائماً.
ثم يختم الله تعالى هذه السورة العظيمة بتهديد كبير، ويلمّح لهم بعذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة وذلك بحرمانهم من الماء الذي هو سبب الحياة الأول فيقول: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ}
قل لهم: أخبروني ان ذهب ماؤكم غائرا في الأرض ولم تستطيعوا الوصول اليه، فمن يأتيكم بماء عذب جار تشربونه؟ ولا جواب لكم الا ان تقولوا: الله.

.قراءات:

قرأ يعقوب: {تدعون} بفتح الدال من غير تشديد. والباقون: {تدعون} بتشديد الدال. وقرأ الكسائي: {فسيعلمون} بالياء. والباقون: {فستعلمون} بالتاء.
فلله الحمد والمنة، وصلى الله عليه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.