فصل: تفسير الآيات (16- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (12- 15):

{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}
يسعى نورهم بين أيديهم: وهو ما قدموه من عمل صالح في الدنيا. بشراكم: أبشروا. انظرونا: انتظرونا. نقتبس من نوركم: نستضيء بنوركم. بسور: بحاجز. باطنه فيه الرحمة: الجنة. وظاهره من قِبله العذاب: من جهته جهنم. فتنتم انفسكم: اهلكتموها. تربصتم: انتظرتم بالمؤمنين الشرّ والمصائب. ارتبتم: شككتم في امر البعث. الأماني: الاباطيل. الغَرور (بفتح الغين): الشيطان. فدية: مال أو غيره لحفظ النفس من الهلاك. مأواكم: منزلكم. مولاكم: اولى بكم، من ينصركم.
الكلام في هذه الآيات الكريمة عن مشهدٍ من مشاهد يوم القيامة، فاللهُ سبحانه وتعالى يبين هنا حالَ المؤمنين المنفقين في سبيل الله يومَ القيامة، فذَكَر أن نورَهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم ليرشدَهم إلى الجنة، وتقول لهم الملائكة: أبشِروا اليومَ بالجنّات التي تجري من تحتها الأنهارُ وأنتم فيها خالدون ابدا.
{ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} وأيّ فوزٍ أعظم من دخول الجنة!!
ثم بيّن حالَ المنافقين في ذلك اليوم العظيم، وكيف يطلبون من المؤمنين ان يساعِدوهم بشيءٍ من ذلك النورِ الذي منحَهم الله إيّاه ليستضيئوا به ويلحقوا بهم. فيسخَرُ المؤمنون منهم ويتهكّمون عليهم ويقولون: ارجِعوا إلى الدنيا واعملوا حتى تحصُلوا على هذا النور. وهذا مستحيل. فيُضرَب بينهم بحاجزٍ عظيم يكونُ المؤمنون داخلَه في رحابِ الجنة، والمنافقون والكافرون خارجَه يذهبون إلى النار.
ثم ينادِي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم: ألَمْ نكُنْ مَعَكم في الدنيا!؟ فيقول لهم المؤمنون: {بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بالله الغرور}.
لقد كنتم معنا ولكنكم لم تؤمنوا، وأهلكتم أنفسكم بالنفاق، وتربصتم بالمؤمنين الشرَّ والحوادثَ المهلكة، وشككتم في أمور الدينِ. لقد خدعتكم الآمالُ الكاذبة حتى جاءكم الموتُ، وخدعكم الشيطان. فلا أملَ لكم بالنجاة، ولا تُقبَل منكم فِدية، ولا مِن الذين كفروا، إن مَرجِعَكم جميعاً هو النار، هي منزلكم {وَبِئْسَ المصير}.

.قراءات:

قرأ حمزة: {أنظِرونا نقتبس من نوركم} بفتح الهمزة وكسر الظاء من الفعل انظِر. والباقون: {انظُرونا} بضم الظاء. وقرأ ابن عامر ويعقوب: {فاليوم لا تؤخذ} بالتاء. والباقون: {لا يؤخذ} بالياء.

.تفسير الآيات (16- 19):

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)}
الم يأنِ: الم يَحِنْ، والفعلُ الماضي أنى يأْني أنياً وأناةً وأنىً: حانَ وقَرُب. وما نزل من الحق: من القرآن. فطالَ عليهم الأمد: طال عليهم الزمان وبعُد العهد بينهم وبين انبيائهم. قَسَت قلوبهم: اشتدّت فكفروا. المصّدِّقين والمصدقات: بالتشديد هم المنفقون في سبيل الله. الصدّيق: المداوم على الصدق. الشهداء: من قُتلوا في سبيل الله.
في هذه الآيات عتابٌ لقومٍ من المؤمنين فترت همَّتُهم قليلاً عن القيام بما نُدِبوا اليه. روي عن ابن مسعود رضي الله عنه انه قال: «لما قَدِم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ فأصابوا من لِين العَيش ما أصابوا بعْدَ أن كانوا في جَهدٍ، فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوقبوا بهذا الآية....».
الم يَحِن الوقتُ للذين آمنوا أن ترقَّ قلوبُهم لذِكر الله والقرآن الكريم، ولا يكونوا كاليهود والنصارى الذين أُوتوا الكتابَ من قبلهم، فعملوا به مدةً ثم طال عليهم الزمنُ فجمدت قلوبهم وغيّروا وبدّلوا {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن حدودِ دينهم.
اعلموا أيها المؤمنون ان الله يحيي الأرضَ ويهيئها للإنباتِ بنزول المطر بعد يُبْسِها وجفافها {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} وضربْنا لكم الأمثالَ لعلكم تعقلون ما فيها، فتخشعَ قلوبكم لذِكر الله.
والله سبحانه يجازي كلَّ إنسان بعمله، فالمتصدّقون والمتصدقات الذي ينفقون في سبيل الله بنفوس سخيّة طيبة، يضاعفُ الله لهم ثوابَ ذلك، وفوق المضاعَفة لهم أجرٌ كريم عنده يوم القيامة.
والعاملون أقسامٌ عند الله، فمنهم النبيّون والصدّيقون والشهداءُ والصالحون. فالذين آمنوا بالله ورسُلِه ولم يفرقوا بين احدٍ منهم- أولئك هم الصدّيقون والشهداءُ، لهم أجرُهم العظيم، ونورٌ يهديهم يومَ القيامة، لا خوفٌ عليهم ولا هم يَحزنون.
وبالمقابلِ يقفُ الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله، أولئك هم أصحابُ النار خالدين فيها.

.قراءات:

قرأ نافع وحفص: {وما نَزَل من الحق} بفتح النون والزاي من غير تشديد. والباقون: {وما نزّل} بتشديد الزاي. وقرأ ابن كثير وأبو بكر: {ان المصَدقين والمصدقات} بفتح الصاد من غير تشديد. والباقون: بالتشديد.

.تفسير الآيات (20- 24):

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}
الكفار: هنا الزرّاع، يقال: كفر الزارعُ البذرَ بالتراب، غطاه. يهيج: ييبس ويصفرّ، وفعلُ هاجَ له معنى آخر، يقال: هاج القومُ هَيْجا وهيَجانا: ثاروا لمشقة أو ضرر. وللفعل هاجَ معانٍ اخرى. حطاما: هشيما متكسرا. متاع الغرور: الخديعة. في كتاب: في اللوح المحفوظ. نبرأها: نخلقها. لا تأسوا: لا تحزنوا. كل مختال: متكبر. فخور: المتباهي بنفسه.
يبين الله تعالى هنا حقارة الدنيا وسرعة زوالها. اعلموا أيها الناس أنما الحياة الدنيا لعبٌ لا ثمرة له، ولهوٌ يشغَل الإنسان عما ينفعه، وزينةٌ لا بقاء لها، وتفاخرٌ بينكم بأنساب زائلة وعظامٍ باليةٍ، وتكاثرٌ بالعَدد في الأموال والأولاد. مِثْلُها في ذلك مثل مطرٍ نزل في أرضِ قومٍ وأنبت زرعاً طيباً اعجبَ الزّراع، ثم يكمُل ويهيج ويبلغ تمامه، فتراه بعدَ ذلك مصفرّا ثم يصير حطاماً منكسرا لا يبقى منه ما ينفع. فمن آمن وعملَ في الدنيا عملاً صالحاً واتخذ الدنيا مزرعةً للآخرة نجا، ودخل الجنة. وفي الآخرة عذابٌ شديد لمن آثر الدنيا وأخذها بغير حقها، وفيها مغفرة لمن عمل صالحاً وآثر آخرته على دنياه. {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} متاع زائل وخديعة باطلة لا تدوم.
ثم بعد أن بين الله أن الآخرة قريبة، فيها العذابُ والنعيم- حثَّ إلى المبادرة إلى فعل الخيرات فقال: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ....}
تسابَقوا أيها المؤمنون في عملِ الخير، حتى تنالوا مغفرة من ربكم، وتدخلوا جنةً سعتُها كسعة السماء والارض، هُيئت للذين آمنوا واتقَوا ربهم، {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم} فهو واسعُ العطاء عظيم الفضل، يُعطي من يشاء بغير حساب.
ما أصابكم أيها الناس من مصائبَ في الأرض من قحطٍ أو جَدْبٍ وفسادِ زرعٍ أو كوارث عامة كالزلازل وغيرها، أو في أنفسِكم من مرضٍ أو موتٍ أو فقر أو غير ذلك- إنما هو مكتوبٌ عندنا في اللوحِ المحفوظ، مثْبَتٌ في علم الله من قبل ان يبرأ هذه الخليقة. وما اثبات هذه الأمور والعلم بها الا أمر يسير على الله.
{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
وحيث علمتم ان كل ما يجري هو بعلم اله وقضائه وقدَره- عليكم ألا تحزنوا على ما لم تحصَلوا عليه حزناً مفرطاً يجرّكم إلى السخط، ولا تفرحوا فرحاً مبطِرا بما أعطاكم، فاللهُ لا يحب كلّ متكبرٍ فخور على الناس بما عنده.
قال عكرمة: ليس أحدٌ الا وهو يحزَن أو يفرح، ولكنِ اجعلوا الفرحَ شُكرا والحزنَ صبراً. وما من إنسان الا يحزن ويفرح، ولكنّ الحزنَ المذمومَ هو ما يخرجُ بصاحبه إلى ما يُذهِبُ عنه الصبرَ والتسليم لأمرِ الله ورجاءِ الثواب، والفرحَ المنهيَّ عنه هو الذي يطغى على صاحبه ويُلهيه عن الشكر.
ثم بين الله اوصافَ المختالين الذين يَفْخرون على الناس فقال: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} هؤلاء لا يحبّهم الله، ولا ينظر إليهم يومَ القيامة.
{وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد}
ومن يُعرِض عن طاعة الله، فإن الله غنيٌّ عنه، وهو المحمودُ من خلقه لما أنعم عليهم من نعمه، لا تضرّه معصية من عصى، ولا تنفعه طاعة من اطاع.

.قراءات:

قرأ أبو عمرو: {بما أتاكم} بغير مد. والباقون: {بما آتاكم} بمد الهمزة. وقرأ الجمهور: {بالبُخْل} بضم الباء وإسكان الخاء. وقرأ مجاهد وابن مُحَيصن وحمزة والكسائي: {بالبَخَل} بفتحتين وهما لغتان. والبخل بفتحتين لغة الانصار. وقرأ نافع وابن عامر: {ان الله الغني الحميد}، بحذف هو، والباقون: {ان الله هو الغني الحميد}.

.تفسير الآيات (25- 29):

{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
البينات: المعجزات والحجج. الكتاب: جميع الكتب المنزلة. الميزان: العدل. القِسط: الحق. أنزلنا الحديد: خلقناه. فيه بأسٌ شديد: فيه قوة عظيمة. ثم قفّينا على آثارهم: ثم أرسلنا بعدهم الواحدَ تلو الآخر. الرهبانية: الطريقة التي يتبعها قُسُس النصارى ورهبانهم. ابتدعوها: استحدثوها من عند أنفسِهم. فما رَعَوْها: فما حافظوا عليها. الكِفل: النصيب.
لقد ارسلنا رسُلنا الذين اصطفيناهم بالمعجزات القاطعة، وانزلنا معهم الكتب فيها الشرائع والاحكام، والميزان الذي يحقق الإنصاف في التعامل، ليتعامل الناس فيما بينهم بالعدل. كما خلقنا الحديد فيه قوة ومنافع للناس في شتى مجالات الحياة، في الحرب والسلم، والمواصلات برا وبحرا وجوا، ومنافعه لا تحصى- لينتفعوا به في مصالحهم ومعايشهم، وليعلم الله من ينصر دينه، وينصر رسله بالغيب، {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} لا يفتقر إلى عون احد.
ولقد ارسلنا نوحاً وابراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتب الهادية. والقرآن يعبر دائما بالكتاب حتى يعلم الناس ان جميع الاديان اصلها واحد.
ثم ان هذه الذرية افترقت فرقتين: منهم من هو مهتدٍ إلى الحق مستبصر، وكثير منهم ضالون خارجون عن طاعة الله.
{ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا}
بعثنا بعدَهم رسولاً بعد رسول على توالي العصور والأيام، حتى انتهى الأمر إلى عيسى عليه السلام وأعطيناه الانجيلَ الّذي أوحيناه اليه، وأودعنا في قلوب المتّبعين له رأفةً ورحمة. وبعد ذلك كله ابتدعوا رهبانيةً وغُلواً في العبادة ما فرضناها عليهم، ولكن التزموهما ابتغاء رضوان الله تعالى، فما حافظوا عليهما حقَّ المحافظة. فآتينا الذين آمنوا منهم إيماناً صحيحاً أجورَهم التي استحقّوها. اما كثير منهم فقد خرجوا عن امر الله، واجترموا الشرور والآثام، فلهم عذابٌ عظيم.
{يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} واثبُتوا على إيمانكم برسوله بعطِكم نصيبَين من رحمته ويجعل لكم نوراً تهتدون به، ويغفر لكم ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم}.
لقد فعلنا ذلك ليعلم أهل الكتاب انهم لا ينالون شيئا من فضل الله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، والله صاحب الفضل العظيم.
وقوله تعالى: {أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ} معناه أنّهم لا يقدِرون على شيء، فأنْ هنا مخففة من أنّ المشددة.
وهكذا ختمت السورة بختام يتناسق مع سياقها كله، وهي نموذج من النماذج القرآنية الواضحة في خطاب القلوب البشرية، وبها يتم الجزء السابع والعشرون.