فصل: تفسير الآيات (61- 70):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (37- 44):

{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}
خلق الإنسان من عَجَل: خلق الله الإنسان عجولا، يطلب الشيء قبل أوانه، والعجلة مذمومة. لا يكفّون عن وجوههم: لا يدفعون، لا يمنعون. بغتة: فجأة. فتبهتهم: تحيرهم، تدهشهم. وهم لا ينظرون: لا يُمهلون، لا يؤخَّرون. ولا هم منا يصحبون: ولا هم منا يجارون، من الجور، ويقال في الدّعاء، صحبك الله: حفظك وأجارك، وأصحبَ الرجَلَ: حفظه، وأجاره.
{خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ}.
خلق الله الإنسانَ وفي طبيعته العجلة، فهو دائماً يستعجل الأمور لأنه طُبع على العجلة، فيريد ان يجد كل ما يجول في خاطره حاضراً. والعَجَلة مذمومة، وفي المثل: إن في العجلة الندامة، والعجلة من الشيطان. فتمهلوا أيها المشركون ولا تستعجِلوا طلب العذاب، سأُريكم آياتي الدالّةَ على صحة رسالة النبي محمدن وما ينذركم به من عذاب في الدنيا والآخرة.
وهم في كل اوقاتهم وحالاتهم مستعجلون.
{وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}.
فهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين: متى يجيئنا هذا الوعدُ بعذاب الدنيا والآخرة الذي تَعِدوننا به ان كنتم صادقين فيما تقولون؟
لذا بيّن الله شدةَ جهلهم بما يستعجلو، وعظيمَ حماقتهم لهذا الطلب فقال: {لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}.
لو يعلم هؤلاء الكفار ما سيكون حالُهم في النار، يوم لا يستطيعون دَفْعَ النار عن ان تلفح وجوههم وتشوي ظهورهم، ولا يجدون من ينصرهم وينقذهم- لو يعلمون كل هذا ما قالوا ذلك، ولا استعجلوا العذاب، وهذا هو الجواب وهو محذوف...
ثم بيّن أن هذا الذي يستعجلونه غيرُ معلوم ولا يأتي الا فجأة فقال: {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}.
ان الساعة لا تأتي إلا بغتةً، تفاجئهم فتحيّرهم وتدهشهم، ولا يستطيعون ردَّها، أو تأخيرعها، ولا هم يُمهَلون حتى يتوبوا ويعتذروا فقد فات الأوان.
ثم سلّى رسولَه الكريم على استهزائهم به فقال: {وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}.
إن ما حَدَثَ لك من استهزاء قد حدث قبلك: فحلّ بالّذين سخِروا من رسلهم العذابُ والبلاء، فلْعلموا أن مصير المستهزئين بالرسل معروف، وعاقبتَهم وخيمةٌ، وسيكون لك النصر المبين، وفي وسرة الانعام {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الآية: 35]. وقد نصره الله وصدق وعده.
{قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ}.
سَلأْهُم أيها الرسول: من يحفظكم في الليل والنهار من عذابِ الرحمن إن نزل بكم؟ ان الله هو الحارص وسفتُه الرحمةُ الكبرى، بل هم عن القرآن الذي يذكّرهم بما ينفعهم، ويدفع العذاب عنهم- منصرفون.
وانظر أيها القارئ كيف يصف الله نفسه بالرحمة دائما.
ثم يعيد السؤال في صورة اخرى وهو سؤال للأنكار والتوبيخ: {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} كلاَّ فهؤلاء الآلهة لا يستطيعون أن يُعِينوا أنفسهم حتى يعينوا غيرهم.
{وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ}.
ولا هم يُجارون ويُحفظون منا.
ثم بين الله تفضُّله عليهم مع سوء ما أتوا به من الاعمال فقال: {بَلْ مَتَّعْنَا هؤلاء وَآبَآءَهُمْ حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون}.
إننا لم نعجَّل لهم العذابَ بل استدرجناهم ومتعناهم حتى طالت أعمالهم وهم في الغفلة فنسوا عهدَنا، وجهِلوا مواقع نعمتنا، فاغترّوا بذلك. أفلا يرى هؤلاء المشركون أنّا نقصد الأرض فتنقصها من اطرافها بالفَتْح ونصرِ المؤمنين، ونقتَطعُها من أدي المشركين. افهم الغالبون، ام المؤمنون الذين وعدهم الله بالنصر والتأييد؟

.تفسير الآيات (45- 50):

{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
الصُم: واحدُه أصم، الذي لا يسمع. نفحة: الشيء الضئيل. الخردل: نباتُ عشبي ينبت في الحقول، تُستعمل بذوره في الطب، والطعام، ويُضرب به المثل في الصغر. القسط: العدل. حاسبين: محصين عادين. الفرقان: ما يفرق بين الحق والباطل وتطلق على التوراة، وكذلك على القرآن، والضياء كالفرقان لأنه ينير الطريق للناس. مشفقون: خائفون.
بعد أن بين الله هول ما يستعجلون، وحالَهم السيئة حين نزوله بهم، ثم نعى عليهم جهلهم وإعراضهم عن ذِكر ربهم الذي يكلؤهم من طوارق الليل وحوادث النهار- أمَرَ رسولَه الكريم ان يقول لهم: إنما أخبركم به قد جاءَ من عند الله فقال: {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي}.
قل أيها النبي لهؤلاء الجاحدين السادرين في غَيِّهم: إنما أحذّركم بالوحي الصادق الصادر عن الله، فإن كنتم تسخرون من أمرِ الساعة وأهوالها، فانها من وحي الله وامره، لا من وحي الخيال.
ثم أردَفَ بأن الانذار مع مثل هؤلاء لا يجدي فتيلا، فهم كالصمّ الذي لا يسمعون داعي الله فقال: {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ}.
وكيف يُجدي الإنذارُ من كان أصم لا يسمع! وكيف يسمع الطرش النداءَ حين يوجّه اليهم! وكل من لا يستجيب لداعي الله فهو أصم ولو كان يسمع ويرى.
{وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}.
وحين يسمهم أقل العذاب يوم القيامة يدعون على أنفسِهم بالويلِ والثبور ويقولون: إنا كنا ظالمين لأنفسنا بكفرنا، ويندمون على ما فَرَطَ منهم، لكنه لن ينفعهم الندم ولا الاعتراف بعد فوات الأوان.
ثم يبين في خاتمةهذا الحوار ما سيقع من أحداث يوم القيامة وحين يأتي ما أُنذروا به فيقول: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ}.
في ذلك اليوم العظيم نضع الموازينَ العادلة الدقيقة التي تُحصي كل شيء، ويأخذُ كل إنسان حقه كاملاً، ولا تُظلم نفسٌ شيئا، ولو كان العمل بوزن حبةِ الخردل، وحبة الخردل جزء من الف جزء من الغرام، فان الكيلو غرام يحتوي على 913 الف حبة، وهذا صغُر وزنٍ لحبة نبات عُرف حتى الآن. فإن كان الإنسان اخترع الكمبيوتر، الذي يحصي أدقّ المعلوما فإن الله عنده ما هو أدق منه وأعدل. ولا يخفى ما في هذه الآية من التحذير الشديد والوعيد.

.قراءات:

قرأ ابن عامر: {ولا تُسمع الصم الدعاء} بضم التاء وكسر الميم. والباقون: {ولا يَسْمعُ} الصمُّ بفتح الياء والميم، وضم الصم.. وقرأ نافع: {وان كان مثقالُ حبة} برفع {مثقال}، والباقون: {مثقالَ} بالنصب.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ}.
يبين الله تعالى هنا أن الرسل كلّهم من البشر وهي السُنّة المطّردة، وأن نزول الكتاب على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليس بدعةً مستغربة، فقد أنزلْنا على موسى وهارونَ الفرقانَ، وهو التوراة.
والفرقانُ من صفات القرآن ايضا، فالكتب المنزلة من عند الله كلّها فرقان بين الحق والباطل، وضياء تكشف ظلماتِ القلب، وتذكير ينتفع به المتقون.
ثم يذكر صفاتِ المتقيم: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ}.
والمتقون هم الذي يخافون ربَّهم في السرّ والغيب والعلانية، وهم مع ذلك خائفون وَجِلون من عذاب يوم القيامة، فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالضياء ويسيرون على هداه.
{وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}.
وهذا القرآن الذي انزلنا على محمد الأمين كما انزلنا الذكر على موسى وهارون، ذكر لكم فيه البركة والخير، وموعظة لمن يتعظ بها، أفبعد أن علمتم شيأنه وعظمته تنكروه، وانتم أولى الناس بالايمان به!

.تفسير الآيات (51- 60):

{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60)}
رشده: هدايته. التماثيل: الاصنام. لها عاكفون: مواظبون على عبادتها. فطرهن: أوجدهن: لأكيدنَّ أصنامكم: لأدبرنّ لها تدبيرا يسوؤكم. جُذاذا: قطعا.
{وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}.
لقد أعطينا إبراهيمَ النبوة والهداية إلى التوحيد الخالص، من قبلِ موسى وهارون، وكنّا عالمين بفضائله التي تؤهله لحمل الرسالة.
كان ابراهيم من أهل (فدان آرام) بالعراق، وكان قومه أهلَ أوثان، وكان أبوه نجارا ينحت التماثيل ويبيعها لمن يعبدها من قومه، وقد أنا رالله قلب إبراهيم وهداه إلى الرشد فعلم ان الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع.
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ؟}
اذكر أيها النبي حين استنكر إبراهيمُ عبادة الأصنام وقال لأبيه وقومه: ما هذه الاصنام التي تعبدونها وتظلون ملازمين لها؟
{قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}
لم يجدوا جواباً مقنعاً فلجأوا إلى التشبّت بالتقليد، لذلك قالوا: إننا نعبدها كما عَبَدها آباؤنا من قبل، فنحن مقلّدون لهم.
فكان ابراهيم معهم صريحا، واجابهم ببيان سوء ما يصنعون: {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}.
لم يقنع ابراهيم بجوابهم هذا، وقال لهم إنكم أنتم وآباؤكم في ضلال واضح بعبادتكم لهذه التماثيل التي لا تنفع ولا تضر.
فأجابوه إجابة مستفهِمٍ متعجّب مما يمسع ويرى: {قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين؟}.
لمّا سمعوا ما في كلام ابراهيم مما يدل على تحقير آلهتهم، استبعدوا ان يكون جادّاً فيما يقول، فقالوا: هل ما تقوله هو الحق، أم أنت هازل من اللاعبين!؟.
عند ذاك ردّ عليهم ببيان الحق وذكر الإله الذي يستحق العبادة.
{قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين}.
قال: جئتكم بالحق لا باللعب. ثم بيّن لهم ان الإله المستحق للعبادة هو ربُّ السموات والأرض الذي خلق كل شيء، فمن حق هذا الإله وحده أن يُعبد، وانا على ما اقول لكم من الشاهدين.
وبعد أن أقام البرهان على إثبات الحق نوى الشر في نفسه لهذه الآلهة التي جمدوا على عبادتها، ولم تُفدْهم موعظةٌ ولا برهان عن الغواية بها، فأقسَمَ في نفسه ان يُلحق الأذى بها فقال: {وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}.
أقسَم ابراهيم بالله انه سيكيد الأصنامَ بأن يكسرها بعد ذهابهم من معبدهم. وأقبل عليها فكسرها جميعا الا الكبير فتركه. وقد اراد بهذه الطريقة ان يُفْهم القومَ مركز آلهتهم، ويقيم الحجة عليهم في أن تلك الاصنام لا تنفع ولا تضر. فها هي لم تستطع ان تردّ الأذى عن نفسها.
أما تركُ ابراهيم كبيرها قائماً فذلك لكي يسألوه إذا كان يجيب أو يتكلم.

.قراءات:

قرأ الكسائي: {جذاذاً} بكسر الجيم. والباقون: {جذاذا} بضم الجيم.
{قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}.
وعاد القوم إلى معبدهم فرأوا أصنامهم مكسَّرة قطعا، إلا كبيرهمن فقالوا: من الذي اعتدى على آلهتنا ففعل بها هذا العمل المنكر!؟ إنها لَجُرأة عظيمة وانه لمن الظالمين. قال بعضهم: سمعنا شاباً يذكرهم بالشتم والتحقير يدعى إبراهيم.

.تفسير الآيات (61- 70):

{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
على أعينِ الناس: علناً أمام جميع الناس، كما يقال: على رؤوس الأشهاد. فرجعوا إلى أنفسهم: ففكروا وتدّبروا. ثم نكسوا على رؤوسهم: بعد أن أقرّوا انهم ظالمون، انقلبوا تلك الحال إلى المكابرة والجدل بالباطل.
{قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ}.
واتفقوا أن يحاكموه علناً على رؤوس الأشهاد فقالوا: أحضِروه أمام جميع الناس ليشهدوا عليه وتكون شهادتهم عليه حجةً لنا. فلما أتوا به قالوا له: أأنت كسرتَ هذه الآلهة وجلْتَهم قظعا؟ وطلبوا منه ان يعترف بذنبه.
فأجابهم جواباً ذكياً لطيفا، أدهشهم وحيّرهم إذ قال: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} فاسألوه واسألوا أصنامكم ليُخبروكم إن كانوا يتكلمون. فكانت مقالةُ إبراهيم عليه السلام حجةً شديدة الوقع في نفوسهم وحيرّتهم ولم يعرفوا ما يقولون.
{فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ فقالوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون}
فكأنهم أفاقوا نم غفلتهم لحظات، فراحوا يلومون أنفسَهم ويقولون: حقيقةً إنكم أنتم الظالمون، كيف نعبدُ آلهة لا تدفع الأذى عن نفسها!
{ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ}.
ثم عادوا إلى جهالتهم كأنهم وقفوا على رؤوسهم، وانقلبوا من الرشاد إلى الضلال، وقالوا لإبراهيم: أنت تعلم ان هؤلاء لا يتكلمون فكيف تطلبُ منا ان نسألهم؟
وهنا ظهرت حجةُ ابراهيم واضحة، ورأى الفرصة سانحة لإلزامهم الحجة فقال: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}.
فقال إبراهيم متهكماً عليهم: لقد أقررتُم أن هذه الأصنام لا تنطق ولا تردّ أذى ولا تنفع، ومع ذلك تعبدونها من دون الله، متى ترتدّ اليكم عقولكم! أفٍّ لكم وقبحاً لآلهتكم.
ولما بان عجزُهم وظهر الحقّ أخذتهم العزّةُ بالإثم كما تأخذ الطغاة حين يفقدون الحجة، فلجأوا إلى استعمال القسوة. وذلك ما يشير إليه قوله تعالى: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ}.
هنا لجأوا إلى منطق العُتاة وفعل الطغاة، فقالوا: احرِقوا إبراهيم هذا بالنار، وانصروا آلهتكم عليه بهذا العقاب، إن كنتم تريدون نصرها.
ولكن الله تعالى أبطَلَ كيدهم، ودفع عنه الهلاك بمعونته وتأييده فقال: {قُلْنَا يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين}.
أوقَدوا ناراً عظيمة ليحرقوه ثم ألقوه فيها، فقلنا للنار: كوني برداً وسلاماً على إبراهيم، فلم تضرّه بإذن الله، ونجا منها، وكانت معجزةً كبرى لابراهيم. لقد أرادوا ان يبطشوا به ويهلكوا بالنار، فنجّيناه ورددنا كيدهم في نحورهم وجعلناهم الخاسرين.
ونقل كثير من المفسرين كلاماً كثيراً في سيرة ابراهيم من الاساطير القديمة نضرب عنه صفحا لعدم الفائدة منه.