فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (57- 74):

{نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}
تُمنون: تقذِفون المني في الارحام. قدَّرنا: وقَّتنا موت كل احد بوقت. نبدّل أمثالكم: نميتكم، ونأتي بقوم آخرين أشباهكم. النشْأة الأولى: الخلقة الأولى. فلولا تذكّرون: فهلا تتذكرون. حطاما: هشيماً متكسرا. تفكّهون: تتعجبون. مغرمون: معذبون مهلكون. المُزن: السحاب واحدته مزنة. أُجاجاً: مالحاً لا يصلح للشرب. فلولا تشكرون: فهلاّ تشكرون. تورون: توقِدون. تذكرة: تذكيرا موعظة. متاعا: منفعة. للمقْوين: للفقراء الذين ينزلون بالقفر، أقوى الرجلُ: افتقر، ونزل بالقفر، ونفد طعامه. ويقال للمسافرين والمستمتعين: المقوون أيضا.
بعد أن بين الله تعالى لنا الأزواج الثلاثة، ومآل كل منهم ذكَرَ هنا الأدلّةَ على الألوهية من خلْقٍ وزرق للخلق، وأقام الدليلَ على البعث والجزاء، وأثبتَ النبوةَ، فقال:
نحنُ خَلقناكم من عَدَمٍ، فهلاّ تصدّقون وتقرّون بقدرتنا على إعادتكم ثانية يوم القيامة!؟.
أفرأيتم هذا المَنِيَّ الذي تقذِفونه في الأرحام، أأنتم تخلُقونه وتجعلونه بَشَراً بهذه الصورة {أَم نَحْنُ الخالقون}!؟.
نحن قضَيْنا بينكم بالموت، وجعلْنا لِموتكم وقتاً معيّناً، وما نحنُ بمسبوقين ولا عاجزين عن ان نُذْهِبكم ونأتيَ بأشباهكم من الخلق، {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ} في الأطوار والأحوال.
ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ}
لقد علمتم أن الله أنشأكم النشأةَ الأولى من العَدَم، فهلاّ تتذكّرون انّ مَن قَدَرَ على خلْقكم من البداية لهو أقدَر على أن يأتيَ النشأةَ الأخرى لكم!
أفرأيتم ما تبذُرونه من الحَبّ في الأرض، أأنتم تُنبتونه أم نحنُ نفعل ذلك! ان في قُدرَتنا لو نشاء لصيَّرنا هذا النباتَ هشيماً يابساً متكسرا.
{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ}
لظللتم تتعجّبون من سوءِ ما أصابه وما نزل بكم، وتقولون إنا لمعذَّبون، لا بل نحنُ محرومون من الخيرِ والرِزق لِنحسِ طالعنا وسوءِ حظنا.
أفرأيتم الماءَ العذبَ الذي تشربونه والذي هو أصلُ الحياة، أأنتم أنزلتموه من السحاب ام نحن المنزلون له رحمةً بكم؟
وهذا من اكبر الادلة على قدرة الاله وعظمته، فقد حاول الإنسان استمطار السّحُب صناعياً إلا ان هذه المحاولاتِ لا تزال مجردَ تجاربَ، وعلى نطاق ضيق جدا، مع وجوب توافر بعض الظروف الملائكة طبيعيا.
إننا لو نشاءُ لجعلْنا هذا الماءَ العذبَ مالحاً لا يمكن شربه، فهلاّ تشكرون الله على هذه النعمة وعلى أن جعله عذباً سائغا!؟.
أفرأيتم النارَ التي توقدونها، أأنتم أنبتُّم شجرتها وأودَعتم فيها النار، أم نحن المنشئون لها؟ والنارُ نعمة كالماء، وعندما عرف الإنسان كيف يستعمل النارَ كان ذلك في حياته خطوةً كبيرة إلى التقدم، وبدْء الحضارة الانسانية.
نحن جعلنا هذه النار تذكرةً وتبصِرة لكم تذكّركم بالبعث لتعلموا أن من أخرجَ من الشجر الأخضر ناراً قادرٌ على إعادة الحياة مرة أخرى. ولقد جعلنا في النار منفعةً لمن ينزلون في المفاوز والصحارى من المسافرين، ولمن يحتاج إليها في كل مكان.. فاذكروا ذلك واعتبروا منه.
فسبّح باسم ربك العظيم أيها الرسول على هذه النعم الجليلة التي لا تُعد ولا تحصى.

.قراءات:

قرأ ابن كثير: {نحن قدَرنا} بينكم الموت، بفتح الدال من غير تشديد. والباقون: {قدرنا} بالتشديد. وقرأ أبو بكر: {أإنا لمغرمون} على الاستفهام. والباقون: {إنا لمغرمون} على الخبر.

.تفسير الآيات (75- 96):

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)}
فلا أقسم: هذا قسَم تستعمله العرب في كلامها، ولا للتأكيد. مواقع النجوم: مَداراتها ومراكزها. مكنون: مصون. المطهَّرون: المنزّهون عن الأدناس. مدهنون: متهاونون، مخادعون. الحُلقوم: مجرى الطعام. غير مدينين: غير محاسَبين. فروح: راحة الجسم. ريحان: راحة الروح. تصلية جحيم: ادخال النار. حق اليقين: هو بمعنى اليقين الحق، وهو اليقين المطابق للواقع.
بعد ذِكر الأدلة على الألوهية والخلْق والبعث والجزاء جاء بذِكر الأدلة على النبوة وصدق القرآن الكريم. وقد أقسم الله تعالى على هذا بما يشاهدونه من مواقع النجوم، وإن هذا القسَم لعظيم حقا، لأن هذا الكون وما فيه شيء كبير لا نعلم عنه الا القليل القليل. ويقول الفلكيون: إن من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة بلايين، ما يمكن رؤيته بالعين المجردة، ومنها ما لا يرى الا بالمكبّرات، وقد يكون اكبر من شمسنا بآلاف المرات ولكننا لبعده الشاسع لا نراه. وهي تسبح في هذا الفلك الواسع الذي لا نعلم عنه شيئا. والبحث في هذا واسع جدا، ولذلك فان هذا القسَم عظيم حقا.
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}
هو قرآن جامع لكل المحامد، وفيه الخير والسعادة لبني الإنسان اجمعين.
{فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ}
وهو مصون في اللوح المحفوظ، لا يمسّ هذا اللوح ولا يطلع عليه غير المقربين من الملائكة.
لقد فسر بعضُهم هذه الآية بأنه لا يَمَسُّ القرآن من كان مُحْدِثا، واختلف العلماء في ذلك، فقال جمهور العلماء لا يجوز ان يمسّ احدٌ القرآن الا إذا كان متطهّرا، وقال عدد من العلماء بالجواز.
{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين}
ان هذا القرآن نزله الله على سيدنا محمد خات مالأنبياء والمرسلين.
وبعد أن ذكر مزاياه، وانه من لدن عليم خبير ذكر انه لا ينبغي التهاون في أوامره ونواهيه، ويجب التمسك به فقال: {أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ}.
اتتهاونون بالقرآن وتُعرضون عنه، وتمالئون من بتكلّم فيه بما لا يليق به، وتكذّبون ما يقصه عليكم من شأن الآخرة، وما يقرره لكم من امور العقيدة! أتجعلون بدل الشكر على رِزقكم انكم تكذّبونه، فتضعون الكذب مكان الشكر!
{فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ}.
فماذا انتم فاعلون إذا بلغت روحُ أحدكم الحلقوم في حال النزاع عند الموت، وانتم حوله تنظرون اليه، ونحن بالواقع أقربُ اليه وأعلمُ بحاله منكم، ولكن لا تدركون ذلك ولا تبصرون.
{فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}
فلو كان الأمر كما تقولون: إنه لا بعثٌ ولا حسابٌ ولا جزاء، وأنكم غيرُ مدينين لا تحاسَبون ولا تجزون- هلاّ تُرجعون النفسَ التي بلغتِ الحلقومَ إلى مكانها، وتردون الموت عمن يُحتضر امامكم!.
ثم بين الله تعالى ان حال بعد الوفاة ثلاثة اصناف فقال:
1- {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّاتُ نَعِيمٍ}.
فأما ان كان المتوفَّى من الذين عملوا صالحاً وكان من المقربين السابقين فمآلُه راحةٌ واطمئنان لنفسه، ورحمةٌ من الله ورزقٌ طيب في جنات النعيم.
1- وأما إن كان من أصحاب اليمين الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، فيقال له تحيةً وتكريما: سلامٌ لك من إخوانك اصحابِ اليمين.
3- واما ان كان من المكذِّبين الذين كذّبوا الرسول والقرآن الكريم، الضالِّين سواءَ السبيل- فله مكانٌ في جهنم يُسقَى من ماءٍ شديد الحرارة، ومآله دخول الجحيم.
{إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم}.
ان هذا الذي ذُكر في هذه السورة الكريمة لهو الحقُّ الصادق الثابت الذي لا شكَّ فيه فسبِّح ايها الرسول بذِكر اسم ربّك العظيم تنزيهاً له وشكرا على آلائه.

.سورة الحديد:

.تفسير الآيات (1- 6):

{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)}
سبّح لله: نزّهه عن كل ما لا يليق به. العزيز: الذي لا ينازعه في ملكه شيء. الحكيم: الذي يفعل افعاله وَفْقَ الحكمة والصواب. الظاهر والباطن: هو الذي ظهرت دلائل وجوده وتكاثرت، وخفيتْ عنا ذاته فلم ترها العيون، فهو ظاهر بآثاره وافعاله، باطن بذاته. في ستة أيام: في ستة اطوار. استوى على العرش: استولى عليه. العرش: الملك والسلطان. ذات الصدور: مكنونات النفوس وخفيات السرائر.
بُدئت هذه السورة الكريمة بالتسبيح، وكذلك بدئت بعدها أربع سور مدنية، هي: الحشر والصف والجمعة والتغابن. وأيُّ تسبيح! إن كل ما في الوجود يسبّح لله. وما هو هذا التسبيح؟. يقول علماء المادة اليوم: إن التسبيح ها هنا لا يقتصر على كون الذرّات والأجسام الفضائية تخضع للنواميس التي وضعَها اللهُ فيها، فهي بهذا تسبّحُ بحمد الله سبحانه، فهناك ما هو أبعدُ من هذا وأقرب إلى مفهوم التسبيح الحيّ والتقديس الواعي. ان هذه الموجودات المادية تملك أرواحاً، وهي تمارس تسبيحَها وتقديسها بالروح، وربما بالوعي الذي لا نستطيع استيعاب ماهيّته، كما يقول تعالى في سورة الاسراء 44: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} حقا إن ادراك الطرائق التي تعمل بها الذراتُ والأجسام لَمِمّا يصعُب تحقيقه، ومهما تقدّم العلم وخطا خطواتهِ العملاقة، فسيظلُّ جانبٌ من أكثر جوانب التركيب الماديّ أهميةً بعيداً عن الكشف النهائي، مستعصياً على البَوْح بالسِّر المكنون.
إن عصر الانكار الكلّي لحقائقَ علميةٍ معينة قد انتهى، وحلَّ محلّه اعتقادٌ سائد أخَذَ يتسع شيئاً فشيئا، في أن ميدانَ العِلم لا يشهَدُ تغيراتٍ فحسب، بل طَفَراتٍ وثورات.
ان نتائج فلسفيةً هامة ستتمخّض حقاً عن هذا التغير، والفرق بين ما هو طبيعي وما هو خارقٌ للطبيعة سوف يتناقص.. الفرقُ بين الطبيعة وما وراء الطبيعة، والحضور والغيْب، والمادة والروح، والقدَر والحرّية، وستلتقي معطياتُ العلم مع حقائق الدين في عناق حار، لقاءً كثيراً ما حدّثنا عنه القرآنُ الكريم، كتابُ الله المعجزة.
لِله ملكُ السموات والأرض، يحيي ويميت كما يشاء {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. هو الاول بلا ابتداء قبلَ كل شيء، والآخر بلا انتهاء بعد كل شيء: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]. وهو الظاهر بالآثار والأفعال، والباطنُ فلا تدركه الأبصار {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فلا يخفى عليه شيءٌ في السموات والأرض.
وهو الذي خلق هذا الكونَ في ستة أطوار، فدبَّره جميعه ثم استولى على العرش. وقد تقدَّم مثلُ هذه الآية في عدة سور: الأعراف ويونس وهود والفرقان والسجدة.
ثعلم كل ما يغيب في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يصعَد اليها، {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} عليمٌ بكم، محيطٌ بشئونكم في أيّ مكان كنتم. {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} لله وحدَه مُلك السمواتِ والأرض، وإليه تُرجَع الأمور.
إنه يقلّب الليلَ والنهار ويقدّرها بحكمته كما يشاء، فتارةً يطولُ الليل ويقصُر النهار، وتارة يقصر الليلُ ويطول النهار، وتارة يجعلهما معتدلَين. {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} وخفيِّ مكنوناتها، وما تضمره القلوب.

.تفسير الآيات (7- 11):

{آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}
مستخلفين فيه: خلفاء عنه ووكلاء بالتصرف. ميثاقكم: عهدكم. الفتح: فتح مكة. مَن ذا الذي يُقرض اللهَ: من ذا الذي ينفق في سبيل الله.
هذه السورةُ من السوَر المدنية كما قدّمنا، وهي تعالج بناء دولة وأمة. وهنا تعالج حالةً واقعة في ذلك المجتمع الاسلامي الجديد، فيظهر من سياق الحثِّ على البذْل والإيمان أنه كان في المدينة، إلى جانبِ السابقين من المهاجِرين والانصار، فئةٌ من المؤمنين حديثةُ عهدٍ بالاسلام، لم يتمكن الايمان في قلوبهم، ولهم صِلاتُ قرابةٍ ونَسَبٍ مع طائفة المنافقين التي نبتت بعد الهجرة وكانت تكيدُ للاسلام والمسلمين. وكانت هذه المكائد تؤثّر في بعض المسلمين الذين لم يُدركوا حقيقةَ الايمان فأنزل الله تعالى هذه الآياتِ يثبّت بها قلوبَ المؤمنين ويحثّهم على البذل والعطاء. فهي تقول:
آمِنوا باللهِ حقَّ الايمان الصادق، وأنفِقوا في سبيل الله من المال الذي جعلكم خلفاءَ في التصرّف فيه.
ثم تبين السورة ما أعدّ الله للذين آمنوا وأنفقوا من أجرٍ كبير: {فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}.
ومالكم لا تؤمنون بالله والرسولُ يدعوكم إلى ذلك ويحثّكم عليه! انه يبين لكم الحججَ والبراهين على صحة ما جاءكم به، وقد أخذ الله عليكم الميثاقَ بالايمان من قبلُ {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}. ثم بين الله تعالى انه ينزّل على رسوله الكريم آياتٍ من القرآن ليُخرجَكم بها من الضلال إلى الهدى، {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} يلطف بكم من حيثُ لا تعلمون، ويمهّد لكم سبيلَ الخير من حيث لا تحتسبون.
ثم زاد في التأكيد على الانفاق أن الجميع صائر اليه، وان الإنسان لا يأخذُ معه شيئا مما يجمعُه الا العملَ الصالحَ والانفاقَ في سبيل الله فقال: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض}.
مالكم أيها الناس لا تنفقون مما رزقكم الله في سبيله؟ أنفِقوا أموالكم في سبيل الله قبل ان تموتوا، ليكونَ ذلك ذُخراً لكم عند ربكم. فأنتم بعد الموت لا تقدِرون على ذلك، اذ تصير الأموال ميراثاً لمن له السمواتُ والأرضُ فهو الذي يرث كل ما فيهما.
ثم بيّن تفاوت درجات المنفقين فقال: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى}.
لا يستوي في الدرجة والأجرِ ذلك المؤمن الذي أنفق قبلَ فتح مكة وقاتَلَ (لأن المسلمين كانوا في ضيق وجُهد وحاجة إلى من يسانِدهم، ويقويهم) فهؤلاء المنفِقون والمقاتلون قبل فتحِ مكةَ أعظمُ درجةً عند الله من الذين أنفقوا بعد الفتح وقاتلوا. وقد وعدَ الله الجميعَ المثوبةَ الحسنى، {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازي كلاًّ بما يستحق.
ثم نَدَبَ إلى الانفاق بأسلوبٍ رقيق جميلٍ حيثُ جعل المنفِقَ في سبيل الله كالذي يُقْرِض الله، والله غنيٌّ عن العالمين. فقال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
هل هناك أجملُ من هذا التعبير! مَن هذا الذي ينفِق امواله في سبيل الله محتسباً أجره عند ربه، فيضاعِف الله له ذلك القَرض، اذ يجعل له بالحسنة الواحدة سبعمائة، وفوق ذلك له جزاءٌ كريم عند ربّه، وضيافةٌ كريمة في جنة المأوى.

.قراءات:

قرأ أبو عمرو: {وقد أُخذ ميثاقكم} بضم همزة {اخذ} ورفع {ميثاقكم}. والباقون: {وقد أخذ ميثاقكم} بفتح الهمزة ونصب {ميثاقكم}. وقرأ ابن عامر: {وكلٌّ وعدَ الله الحسنى} برفع {كل}. والباقون: {وكُلاً} بالنصب. وقرأ ابن كثير: {فيضعّفُه} بتشديد العين وضم الفاء. وقرأ ابن عامر مثله: {فيضعّفَه} بالتشديد ولكن بنصب الفاء. والباقون: {فيضاعفَه} بالألف ونصب الفاء.