فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (26):

{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)}
اللهم: يا الله. تنزع الملك: تخلع الملك.
قل يا أيها النبي ضارعاً إلى الله: يارب، أنت وحدك مالك كل شيء، تمنح من تشاء الحكْم وتخلع ذلك عمن تشاء، وتهب العزة لمن تشاء من عبادك، وتضرب الذل والهوان على من تشاء. ان بقدرتك الخيرَ كله تتصرف فيه وحدك كما تشاء، وأنت على كل شيء قدير.

.تفسير الآية رقم (27):

{تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)}
تولج: تدخل.
انكل تُدخل بعض الليل في النهار فيقصُر الليل من حيث يطول النهار، وتدخل بعض النهار في الليل فيطول الليل من حيث يقصر النهار. كل هذا بحكتمك في خلق الكون، فهل من ينكر بعد هذا ان تؤتي ا النبوةَ والملك من تشاء! إن تصرّفك بشئون الناس كمثل تصرفك في الليل والنهار.
وتُخرج الحيَّ من الميت: كالعالِم من الجاهل والمؤمن من الكافر، والنخلة من النواة، والإنسان من النطفة، والطائر من البيضة.
وتُخرج الميت من الحيّ: كالجاهل من العالم، والكافر من المؤمن، والنواة من النخلة، والبيضة من الطائر.
وترزُق من تشاء بغير حساب: فتهب عطاءك الواسع من تشاء، فلا رقيب يحاسبك.
ومن كان هذا شأنه لا يعجزه ان يمنح رسوله وأصفياءه السيادة والسلطان كما وعدهم، إذا هم استقاموا على الطريقة المثلى، وساروا على الصراط المستقيم.

.قراءات:

قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وأبو بكر {الميت} بسكون الياء.

.تفسير الآية رقم (28):

{لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)}
الأولياء: جمع ولي: النصير والصديق. تقاة: اتقاء وخوفا.
في هذه الآية تحذير كبير من اتخاذ الكافرين أولياء، فالله سبحانه وتعالى نبّهنا في الآية السابقة أن نلتجئ اليه، وأفهمنا ان كل شيء بيده، وهنا يحذّرنا من أن نتخذ الكفارين اصدقاء وناصرين: فما دام الله وحده هو مالك الملك، يعزّ ويذل ويعطي ويمنع، فهل يجوز للمؤمنين ان يجعلوا لغير المؤمنين ولاية عليهم؟ ان في يهذا خذلاناً للدِّين واضعافاً للولاية الاسلامية، ومن يسلك هذا المسلك فإن الله يتخلى عنه. ولا يجوز للمؤمن ان يرضى بولاية الكافرين الا مضطرا، فيتقي أذاهم باظهار الولاء لهم.
وعلى المؤمنين ان يكونوا في الولاية الاسلايمة، وهي ولاية الله، ولْيحذَروا ان يخرجوا منها إلى غير ولايته، فيتولى عقابهم بنفسه، كما هو حاصل اليوم، حيث ألقى طائفة من المسلمين بأنفسهم في احضان أعدائهم وأعداء الله في الشرق والغرب، فأذاقهم الله الذل ونصَر عليهم اليهود. وهو سينصرهم لو رجعوا اليه، لا إلى مطامعهم، ووحدوا صفوفهم، وباعوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله لا في سبيل الكراسي والمناصب.

.تفسير الآية رقم (29):

{قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)}
قل يا محمد للذين أمرتُهم ان لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين: إن تخفوا ما في صدوركم من موالاة الكفار فتُسرّوه، أو تبدوه بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه يعلمه الله، فهو الذي يعلم جميع اما في السماوات وما في الأرض. إياكم ان تُظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به.
وفي هذه الآية بيان وايضاح لقوله تعالى: {ويحذِّركم الله نفسَه} أي لأنها متصفة بعلم ذاتي محيط، وقدرة ذاتية تعم المقدورات بأسرها.. فلا تجسروا على عصيانه.

.تفسير الآية رقم (30):

{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)}
الأمد: المدة الطويلة. رؤوف: رحيم أشد الرحمة.
واحذروا يوم تجدُ كل نفس عملها من الخير أو الشر حاضراً أمامها، فُتسَرُّ بالأول وتتمنى للثاني ان يكون بعيداً عنها حتى لا تراه، خوفاً من العقاب. ويحذّركم الله عقابه إذا خرجتم من ولايته باقتراف الذنوب. كل هذا مع انه رؤوف بعباده واسع المغفرة لهم. ومن رأفته بالناس انه جعل الفطرة الانسانية ميالة بطبعها إلى الخير، مبغضة لما يَعْرِض لها من الشر، كما جعل أثر الشر في النفس قابلاً للمحو بالتوبة والعمل الصالح.

.تفسير الآيات (31- 32):

{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}
ق يا محمد: إن كنتم صادقين في دعواكم أنكم تحبون الله وتريدون ان يحبّكم الله، فاتبعوني فما آمركم به وأنهاكم عنه، لأن كل ذلك من عند الله. إنْ فعلتم ذلك أحبكم الله وأثابكم بالتجاوز عن خطاياكم، وهو كثير الغفران والرحمة لعباده.
لكن حب الله ليس دعوى باللسان ولا هياماً بالوجدان، بل هو اتباعٌ لرسول الله وعملٌ بشريعة اله التي أتى بها نبيه الكريم. ان العمل هو الشاهد والأساس، أما القول وحده فلفظ يصّرفه اللسان كيف شاء، وقد يخدع به الناسَ، لكنه لن يخدع به الله فقد وسع علمُه كل شيء.
قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية. فإنه كاذب في نفس الأمر حتى يتّبع الشرع المحمدي في جميع أقواله وأعماله.
وروى انه لما نزل قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله...} قال عبدالله بن أُبيّ، رأس المنافين: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله تعالى، ويأمرنا ان نحبّه كما أحبَ النصارى عيسى، فنزل قوله تعالى: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} أطيعوا الله باتّباع أوامره واجتناب نواهيه، وأطيعوا الرسول باتباع سنته والاهتداء بهديه.
فان أعرضوا عنك يا محمد ولم يجيبوا دعوتكم فهم كافرون بالله ورسوله، والله تعالى لا يحب الكافرين أمثالهم.

.تفسير الآيات (33- 37):

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)}
اصفطى: اختار. الذرية: الأولاد. نذرتُ: أوجبت على نفسي. محرراً: مخصَّصا لعبادة الله. أعيذها بك: أجيرها بك. الرجيم: المطرود من الخير. أنبتها نباتا حسنا: رباها تربية صالحة. كفلها زكريا: جعل زكريا كافلا لها. المحراب: الغرفة، والمسجد، واشرف جهة في المسجد. أني لكِ هذا؟: من اين لك هذا.
بعد أن بين الله تعالى ان الدين الحق هو الإسلام، وان اختلاف أهل الكتاب فيه كان بغياً منهم، وان الفلاح منوط باتّباع الرسول الكريم وطاعته ذكر هنا بعضَ من اختارهم وجعل منهم الرسل الذين يبيّنون للناس طريق الله ومحبته. لقد اختار الله هؤلاء وجعلهم صفوة العالمين بجعل النبوة والرسالة فيهم كما اصطفى محمداً لتبليغ رسالته.
فأول هؤلاء الصفوة المختارة آدم أبو البشر، اصطفاه ربه واجتباه. ثم جاء بعده نوح، أبو البشر الثاني. واصطفى ابراهيم وولديه. واختبار آل عمران ومنهم عيسى وأمه. ولقد اختارهم ذريةً طيبة طاهرة، فهم يتوارثون الطُّهر والفضيلة والخير.
اذكر أيها النبي حال امرأة عمران حين ناجت ربها وهي حامل بنذْرِ ما في بطنها لخدمة الله تعالى قائلة: يارب، إني نذرت ما في بطني خالصاً لخدمة بيتك، فاقبل من ذلك إنك أنت السميع لكل قول، العليم بكل حال. فلما وضعت بنتا قالت معتذرة تناجي ربها: إني قد ولدت انثى، (وأنت اعلم بما ولدتُ)، وليس الذكر الذي تمنيت ان أنذره ساناً لبيتك كالأنثى التي وضعتها. ومع هذا فإني غير راجعة عما نويته من النذر. واذا كانت الأنثى غير جديرة بسدانة المعبد فتلكن من العابدات القانتات، إني أجيرها يا ربّ بحفظك ورعايتك من الشيطان الرجيم.
فتقبّل الله مريم نذراً لأمها، وأجاب دعاءها. وجعل زكريا كافلاً لها. فكان كلما دخل زكريا عليها محرابها فوجد عندها ألوانا من الطعام لم تكن توجد تلك الأيام قال لها: يا مريم من أين لك هذا والأيام جدب وقحط؟ قالت: هو من عند الله الذي يرزق الناس جميعا، ويرزق من يشاء من الناس بغير عدد ولا إحصاء. وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

.قراءات:

قرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب: {والله اعلم بما وضعتُ} على انه كلامها.

.تفسير الآيات (38- 41):

{هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آَيَةً قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)}
بكلمة من الله: عيسى بن مريم. سيدا: شريفا في العلم العبادة.
حصروا: لا يأتي النساء، وهو يحبس نفسه عن كل ما ينافي الفضائل.
عاقر: عقيم لا تلد. الآية: العلامة.
الا تكلم الناس: لا تستطيع الكلام. الرمز: الاشارة.
ولما رأى زكريا ما رآه من نعمة الله على مريم اتجه إلى الله داعياً ان يهبه من فضله ولدا طيبا، ايمانا منه بأن الله تعالى يسمع دعاء الضارعين.
فاستجاب الله دعاءه ونادته الملائكة وهو قائم يتعبد في محرابه بأن الله يبشّرك بولد اسمه يحيى، ويؤمن بعيسيى عليَه السلام الذي سيوجَد بكلمة من الله فيكون وجوده معجزة.
ان يحيى سيكون سيداً شريفاً عابدا قانتا، وحصوراً بعيدا عن كل الأدناس والشهوات، ونبياً من الصالحين. وكان يحيى ابن خالة عيسى.
وعندما سمع زكريا هذه البشرى استبعد أن يكون له ولد وهو عجوز طاعن في السن وامرأته عقيم لا تلد، فردّ عليه الله بأنه متى شاء أمراً أوجَدَ له سببه. فدعا زكريا ربه ان يجعل له علامة لتحقُّق هذه البشرة، فقال: علامة ذلك ان لا تقدر على كلام الناس ثلاثة أيام إلا بالإشارة ومع ذلك تظل تستطيع ان تذكر الله وتسبّحه أثناء تلك الايام الثلاثة.

.قراءات:

قرأ حمزة والكسائي وخلف {فناداه الملائكة} بالإمالمة والتكذير. وقرأ حمزة وابن عامر {ان الله} بكسر همزة إن. وقرأ حمزة والكسائي {إن الله يبشّرُك} بفتح الياء وضم الشين بدون تشديد.

.تفسير الآيات (42- 44):

{وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)}
اصطفاك وطهرك واصطفاك: اصفاك الأولى من قِبل أمك حين نذرتْ ما في بطنها. واطصفاك الثانية هداك وخصّك بكرامات عظمى منه ولادة ببي من غيرِ أن يمسكِ رجل. اقنتي: الزمي الطاعة مع الخضوع.
واذكر أيها النبي، اذ قالت الملائكة: يا مريم ان الله اختارك واختصك لتكوني أماً لنبي كريم، وطهّرك من كل دنس، وخصك بأمومة عيسى وفضّلك على نساء العالمين. لذلك أطيعي ربك واخضعي له وصلّي دائما مع الذين يعبدونه ويصلّون له.
ان هذا الذي قصّه القرآن عليك يا محمد لهو من أنباء الغيب أوحي الله به اليك، مع انك لم تقرأ الأخبار السابقة، ولم تكن حاضراً في بني اسرائيل حين اجتمع كبراؤهم وكل واحد منهم يريد ان يكفُل مريم، حتى اقترعوا على ذلك، ولم تنازعهم وهم يختصمون في نيل هذا الشرف العظيم.

.تفسير الآيات (45- 48):

{إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)}
المسيح: لقبٌ لعيسى والكلمة معرَّبة وعيسى أيضا كلمة عبرانية. وجيها: شريفا عاليا. المهد: فراش الصبي الصغير. الكهل: الرجل من الثلاثين إلى الخمسين. الكتاب: الكتب المنزلة من عند الله، ويجوز ان يكون المراد به الكتابة.
الحكمة: اصابة الحق بالعلم والعمل.
التوراة: الكتاب الذي أنزل على موسى.
الإنجيل: معناه البشرى أو البشارة وهو الكتاب الذي أنزل على عيسى.
واذكر يا محمد حينما بشّرت الملائكة مريم بولد صالح، اسمه المسيح عيسى بن مريم، خلقه الله بكلمة منه، على غير السنَّة الجارية بين البشر في التوالد، بقوله {كن فيكون}. وقد جعله الله ذا مكانة عالية فيه هذه الدنيا حيث أعطاه النبوة، وفي الآخرة حيث اعطاه علو المنزلة مع الصفوة المقربين إلى الله من النبيّين أُولي العزم. وقد ميزه الله بخصائص منها أن كلّم الناس وهو طفل في مهده، كما يكلّمهم وهو رجل كامل الرجولة.
فلما سمعت مريم هذا الكلام قالت متعجبة: من أين يكون لي ولد ولم يمسّني رجل! فأَوحى الله اليها انه يخلق بقدرته مثل هذا الخلق العجيب، وانه إذا اراد شيئاً أوجده بقوله كن فيكون. وان الله سوف يعلّم طفلها العلم الصحيح النافع، والتوراةَ التي انزل على موسى والانجيل الذي سيوجه اليه.

.قراءات:

قرأ أهل المدينة وعاصم ويعقوب {يعلّمه} بالياء والباقون {ونعلمه} بالنون.
الانجيل: كلمة يونانية وردت في القرآن الكريم، معناه البشرى وتطلق اليوم على كل من الأناجيل التي تترجِم للمسيح في مجموعة العهد الجديد وهي اربعة: متّى ومرقص ولوقا ويوحنا.
والاناجيل المتوازية هي الأناجيل الثلاثة (متى ومرقص ولوقا)، سُميت كذلك لتقاربها من بعضها أكثر من تقاربها مع الانجيل الرابع، انجيل يوحنا، الذي يختلف عنها في غايته. وتسمى مشكلة صلات هذه الأناجيل الثلاثة بعضها ببعض (المشكلة المتوازية)، ومؤداها أن انجليلي متّى ولوقا يوحيان عناصر غير موجودة في انجيل مرقص. وتتفق هذه الأناجيل الثلاثة في أنها تترجم للمسيح رغم وقوف كل منها في ترجمته عند حد معين، وتوضيح مزية خاصة من مزاياه، مع بعض الاختلاف في بعض الحوادث والتواريخ. أما انجيل يوحنا فهو تأملا لاهوتي في تعاليم المسيح مع الاحتفاظ بالإطار التاريخي الأساسي.
وانجيل متّى هو أول كتب العهد الجديد، يعزى إلى متّى تلميذ المسيح، وقد وصلنا في الثلث الثاني من القرن الأول للمسيح قبل سنة سبعين.
وانجيل مرقص هو ثاني كتب العهد الجديد، وأصغر وأبسط الأناجيل الأربعة.
وانجيل لوقا الكتاب الثالث من العهد الجديد، وقد دُوّن في أواخر القرن الاول. وهو الانجيل الوحيد الذي يتكلم عن ولادة المسيح كما يعرض لصَلبه وبعثه، وفيه نصوص لم ترد في الأناجيل الأخرى.
وانجيل يوحنا هو الكتاب الرابع في العهد الجديد، وضعه الرسول يوحنتا، وهو يختلف عن الأناجيل الثلاثة المذكورة في مادته وتعالميه.
وقد أورد الدكتور محمد وصفي في كتابه: (المسيح والتثليث) أسماءً لسبعة وثلاثين انجيلا، منها انجيل برنابا، وهو مطبوع في مصر، وحديثاً في طبعة أنيقة في بيروت. وقد اقتنيته، وفيه نصوص كثيرة تخالف الأناجيل الأربعة مخالفة جوهرية. وفيه بشارة صريحة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولكن المسيحين لا يعترفون به ويقولون إنه مزيف.
وفي كتاب الدكتور محمد وصفي (المسيح والتثليث) نصوص صريحة في مخالفة الأناجيل الأربعة لبعضها البعض واضحة جدا، وكذلك هنا اختلاف بين طبعات الكاثوليك وطبعات البروتستانت.
وقد قال (فاستس) في القرن الرابع وهو من علماء (ماني كيز): إن الانجيل المنسوب إلى متّى ليس من تصنيفه.
وقال (اشلاير ماخر) في كتابه (الأبحاث عن انجيل لوقا): ليس انجيل لوقا الا كتاباً مختلفة كتبت في أزمنة غير معينة على أيدي قوم مجهولين.
وبعض الفرق المسيحية كالفرقة الموسونية والفرقة الابيونية وفرقة يوني تيرن اسقطت البابين الأول والثاني من انجيل لوقا، مع وجود الاختلاف الكبير بين كتابيهما وكتاب لوقا الحالي كذلك.
وقال العلامة الألماني رويس: إن انجيل يوحنا مجرد رأي لأحد المسيحين نَزَعَ فيه إلى بيان رأيه الخاص فيما أتعى به المسيح عليه السلام. ولقد أكد (استارولن) ان انجيل يوحنا ليس إلا كتاباً كتبه بعض الطلبة من مدرسة الاسكندرية.
وقد استبعد مسيو (موريس فرن) في دائرة المعارف البريطانية، كون الأناجيل الثلاثة المعزوة إلى متى ومرقص ولوقا من تصنيفهم، وحين وصل إلى الكلام عن انجيل يوحنا قال: لا شك انه كتابٌ دخيل مزوَّر أراد ان يوجد تناقضاً بين أقوال القديسَين متى ويوحنا... ومن أراد الاستزادة فعلية ان يرجع إلى كتاب الدكتور محمد وصفي (المسيح والتثليث) وكتاب (إظهار الحق) للشيح رحمة الله الهندي. وكل هذه الأقوال والانتقادات من علماء المسيحية أنفسهم. ونحن نعتقد أن هذه الأناجيل كلها محرَّفة، مؤلفوها مجهولون، وان الانجيل الصحيح الكامل منفقود كما جاء في القرآن الكريم.